إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

والكتب المنزلة عبارة عمّا يتضمّن الترجمة عن صور الأحكام العلميّة الإلهيّة والأحوال الإمكانيّة المختصّة بمرتبة مّا من المراتب الكلّيّة وطائفة مخصوصة وأهل قرن معيّن أو قرون معيّنة.

والقرآن صورة العلم المحيط بالأحوال (١) الإمكانيّة ، المختصّة بالموجودات (٢) على (٣) اختلاف طبقاتها من حيث الأخبار المختصّة (٤) من حيث الحكم بأهل باقي العصر إلى الوقت المعيّن المقتضي انتهاء حكم الشرائع قاطبة ، وهو زمان طلوع الشمس من مغربها ، فافهم.

والحضرات الكلّيّة التي إليها الاستناد والمرجع هي الخمسة المذكورة ، وسنعيد ذكرها ؛ عملا بالأحوط ، وخوفا من نسيان المتأمّل كما فعلت ذلك في عدّة أمور ربما ظنّ من لم يعرف المقصود أنّ ذلك تكرار عار عن الفائدة.

فنقول : أوّلها الغيب الإلهي الذي هو معدن الحقائق والمعاني المجرّدة.

ثم الإضافي وله عالم الأرواح وما ذكر من قبل.

وفي المقابلة مرتبة الشهادة ، ولها الصور المركّبة الطبيعيّة والبسيطة بالنسبة.

ثم التي نسبتها إلى الشهادة أقرب كما ذكر.

وخامسها الأمر الجامع وقد مرّ ذكر الجميع.

ونظيرها في عالم النفس الإنساني مراتب المخارج فأوّلها باطن القلب الذي هو ينبوع النفس ، وتقابله الشفتان مقابلة الشهادة للغيب ، والثلاثة الباقية : الصدر ، والحلق ، والحنك.

فكما أنّ كلّ موجود لا بدّ وأن يستند إلى إحدى هذه المراتب الخمس ، أو يكون مظهرا لحكم جميعها كالإنسان الكامل ، كذلك كلّ حرف لا بدّ وأن يستند إلى إحدى هذه المخارج ، أو يستوعب حكم جميعها كحرف الواو ، وما سوى ما ذكر فمراتب تفصيليّة تتعيّن فيما بين هذه الأمّهات الأصليّة ونظائرها من المخارج المشار إليها. ولكلّ فرد من أفراد الموجودات العينيّة التي هي حروف النفس الرحماني من حروف النفس الإنساني خمسة أحكام ثبوتيّة في قوّة أحدها جمعيّة ما في الأربعة ، وحكم سادس سلبي سار في الخمسة من حيث

__________________

(١) ق : والأحوال.

(٢) ق : لا توجد.

(٣) ق : من حيث حتى.

(٤) ق : والمختصة.

٨١

إنّ كلّ (١) ثبوت يوصف به أمر مّا يستلزم نفي ما ينافيه فإمّا من وجه واحد أو من وجوه بحسب المنافاة وحكمها.

ولهذه الأحكام الستّة خمس علامات : ثبوتيّة ، مرتّبة (٢) تجمع إحداها ما تضمّنته الأربع ، وعلامة سادسة سلبيّة تنتج حكما ثابتا (٣) ؛ فإنّ ترك العلامة علامة ، فهذه اثنا عشر أمرا استحضارها يعين في فهم ما يذكر من بعد.

فأمّا الأحكام الخمسة الثبوتية : فحكم الموجود (٤) من حيث ماهيّته الثابتة في العلم. وحكمه من حيث روحانيّته. وحكمه من حيث صورته وطبيعته ؛ إذ لا بدّ لكلّ موجود من روحانيّة في قاعدة التحقيق ، ولا بدّ لكلّ روحانيّة من صورة تكون مظهرا لحكم الروحانيّة وإن لم تشترط في حقّ بعض الموجودات الروحانيّة صورة بعينها.

والحكم الرابع من حيث التجلّي الإلهي الظاهر بها (٥) والساري فيها بأحديّة الجمع اللازم للهيئة المعنويّة الحاصلة من اجتماع جميعها.

والحكم الخامس من حيث المرتبة التي هي غاية.

والسادس : السلبيّ قد سبق التنبيه على حكمه.

وأمّا العلامات : فالنقط ، والإعراب أو ما يقوم مقامهما ، ولكلّ منها خمس مراتب أيضا وسادسة سلبيّة ، فالتي تختصّ بالنقطة كونها تكون واحدة واثنتين وثلاثا ، من فوق الحرف ومن تحته ، والسلبيّة عدم (٦) النقط.

والإعراب : الرفع ، والنصب والجرّ ، والتنوين ، والسكون الحيّ ، والسادسة السلبيّة : السكون الميّت ، وحذف الحرف القائم مقام الإعراب.

فالرفع للمرتبة الروحانيّة.

والنصب والجرّ للصورة الظاهرة والطبيعيّة.

والسكون الحيّ للحكم الأحديّ الإلهي الأوّل المختصّ بحضرة الجمع العامّ الحكم على

__________________

(١) ب : لكلّ.

(٢) ق : مرتبيّة.

(٣) ه : ثانيا.

(٤) ب : الموجودات.

(٥) ضمائر التأنيث راجعة إلى الموجودات.

(٦) ق : عدميّة.

٨٢

الأشياء ، فهو أمر معقول ثابت يرى أثره ولا يشهد عينه ، كما نبّه عليه شيخنا وإمامنا رضي الله عنه في بيت له غير مقصود ، بقوله ، (شعر) :

والجمع حال لا وجود لعينه

وله التحكّم ليس للآحاد

ولهذا السكون أيضا الرجوع إلى الحكم الثبوتي بالاستهلاك في الحق ، مع بقاء حكم وجود المستهلك ، وارتفاع أحكام النسب الكونيّة ، فالحركة التي هي عنوان الوجود خفيّة ، فالحكم موجود ، وليس لمن ينسب إليه الحكم عين ظاهرة وهذا هو حكم قرب الفرائض ، المشار إليه بأنّ العبد ليستتر (١) بالحقّ ، فيظهر حكمه في الوجود لا عينه كالبرازخ كلّها.

وممّا يختصّ بمرتبة السكون الحيّ التنوين ، وله الثبات والاستقرار في الغايات بانتهاء حكم الاستعدادات من الوجه الكلّي ؛ إذ الأمر من حيث التفصيل لا غاية له ولا انتهاء إلّا بالنسبة والفرض.

والسكون الميّت كالموت والجمود والتحليل والفناء ونحو ذلك.

ولمّا كان الحكم في الأشياء للمراتب لا للأعيان الوجوديّة من حيث وجودها ، كان ما يضاف من الحكم إلى الموجودات إنّما يضاف إليها باعتبار ظهور حكم مرتبتها بها ، والأثر الحاصل من المراتب إنّما هو باعتبارين :

أحدهما اعتبار سريان الحكم الجمعي (٢) الأحدي الإلهي الساري في الأشياء.

والثاني اعتبار الأغلبيّة التابعة للنسبة الأوّلية ؛ فإنّ ثبوت الحكم والغلبة لبعض المراتب على بعض ، إنّما يصحّ بسبب الإحاطة ، ويظهر بحسب أوّليّتها.

ولمّا كانت الخاتمة عين السابقة ، والغاية المعبّر عنها بالآخريّة هي نفس صورة كمال الأوّليّة ، لم تتميّز (٣) ولم تتغاير إلّا بخفاء حكم الأوّلية بين معقول طرفي البداية والنهاية ، كما اومأت إلى ذلك آنفا.

لذلك كان شكل التنوين ضعف شكل مجرّد الإعراب الدالّ على الحكم ، فتثنية التنوين للاعتبارين المذكورين ، وسنذكر ما تبقى من أسرار الحركات والنقط ـ إن شاء الله تعالى ـ.

__________________

(١) ق : يستتر.

(٢) ق : جمع.

(٣) ق : لم يمتاز.

٨٣

فنقول : اعلم أنّه قدّمنا أنّ كلّ صورة وجوديّة يتعلّق بها الإدراك ـ على اختلاف مراتبه ـ أنّها (١) عبارة عن اجتماع حقائق معقولة مجرّدة ظهرت بنسبة الاجتماع التابع لحكم أحديّة الجمع الإلهي المذكور ، وذلك الظهور قد يكون في بعض المراتب الوجوديّة ، وقد يكون في كلّها ، فللموجودات الغيبيّة التي هي حروف النفس الرحماني وحروف النفس الإنساني بحسب المراتب الخمس الكلّيّة المذكورة ، وبحسب نظائرها في (٢) المخارج من حيث الحكم التركيبي والتأليف الاجتماعي ، والسرّ الجمعي ـ الذي يصبغ (٣) به المتكلّم عين (٤) الكلام ، ويسري أثره فيما يتكلّم به ـ تداخل ومزج.

والغلبة والظهور في أحوال التركيب إنّما يكون لأحد الأشياء التي وقع بينها ذلك الامتزاج والتأليف ، فأمّا من حيث المرتبة فالحكم الجمعي المذكور ، وأمّا من حيث الظهور الوجودي فالأوّليّة.

فالنقط والإعراب معرّفات لهذه الأمور تعريف تمييز وتعيين ، ومنبّهات على أصولها ، فالنقط للمراتب ، والحركات الإعرابيّة للأحكام والصفات.

وللمراتب الخمس مراتب تالية لها وهي : مرتبة الفعل ، ومرتبة الانفعال ، ومرتبة جامعة تقتضي التكافؤ والاعتدال والمقاومة ، ومظاهرها في النسخة الإنسانيّة : الصوت ، واللسان ، والأسنان ، فافهم.

وكما أنّ المراتب الخمس يكون ظهور حكمها ـ كما قلنا ـ باعتبار الأوّليّة والحكم الجمعي الأحدي ، فكذلك ظهور الأمر في هذه المراتب الثلاث يكون باعتبارين : أحدهما ظهور الغلبة المشار إليها من حيث القوى الروحانيّة ، والآخر من حيث القوى الطبيعيّة ؛ لأنّ اختلاف استعدادات الأعيان ، واختلاف تعلّقات الأسماء وتوجّهاتها لإيجادها يقتضي أنّ بعضها إذا وجد يتعيّن في مراتب الأرواح وينضاف إليها ، وبعضها في مراتب الطبيعة ، والظهور في إحدى المرتبتين المذكورتين أو فيهما معا ـ باعتبارين ومن وجهين ـ يستلزم الانصباغ بحكم إحدى النسبتين ـ وهما : الفعل والانفعال ـ أو الأمر الثالث الجامع باعتبار (٥) ؛

__________________

(١) ب : معقول له.

(٢) ق : من.

(٣) ق ، ه : ينصبغ.

(٤) ق : حين.

(٥) ب : باعتبارين.

٨٤

فإنّ تعيّن الحرف ـ مثلا ـ في المرتبة الفعليّة من حيث النسبة الروحانيّة لغلبة أحد الأحكام الخمسة من حيث الأوّليّة أو (١) الحكم الجمعي الأحدي المرتبي (٢) ، نبّه على الحكم بالإعراب وعلى المرتبة بالنقطة ، وتكون واحدة من فوق الحرف ، وإن كانت الغلبة بالاعتبارين : الروحاني والطبيعي ، كانت نقطتين ، وإن كان الأمر بالعكس ـ بمعنى أنّ تميّز الحرف يكون في المرتبة الانفعاليّة بأحد الاعتبارين المذكورين أو كليهما ـ كان النقط من أسفل ، فإن انضاف إلى ذلك حكم الأوّليّة بالنسبة إلى المرتبة الروحانيّة والطبيعيّة هناك أيضا وحصل التناسب ، كان الإعراب أيضا من تحت الحرف كالنقط وهذا يكون إذا كان أحد الحكمين من الخمسة لمرتبة السكون الميّت ، والآخر للصورة الطبيعيّة وإن كان الأمر بالعكس في الاعتبارين وما يناسبهما من الأحكام الخمسة ، كان الإعراب والنقط فوق الحرف.

وإن كانت الغلية لبعض الخمسة ما عدا السكونين ، ويكون التعيّن في المراتب من حيث النسبة الانفعاليّة ، كان الإعراب من فوق والنقط من أسفل وإن كان الأمر بالعكس كان النقط من فوق والإعراب من أسفل.

وإن حصلت الغلبة في مرتبة الجمع والتكافؤ التي هي المرتبة الأخيرة من الثلاثة وكان الحكم من أحد الخمسة للسكون الحيّ ، كان النقط ثلاثا من فوق.

ولمّا لم يظهر هذا الجمع التركيبي إلّا بحسب الاعتبارين المذكورين ـ وهما النسبة الروحانيّة والنسبة الطبيعيّة ـ لذلك (٣) لم ينقط من الحروف ثلاث نقط إلّا الثاء والشين ، فالثّاء لحكم جمع القوى الروحانيّة ، والشين لحكم جمع القوى الطبيعيّة.

والسرّ في أنّ النقط من أسفل لم تكن أكثر من اثنتين أنّ الامتزاج المذكور إنّما يقع بين الأرواح والطبائع ؛ لما بيّنّا ، ولأنّهما مظاهر المعاني والحقائق والمراتب ، فإن غلبت النسبة الروحانيّة بالتفصيل المقدّم ذكره ، كانت النقط من فوق ، وإن غلبت القوى الطبيعيّة ، كانت من تحت ؛ تعريفا لمرتبة الأرواح والطبائع. والنقطة الثالثة لمّا كانت منبّهة على التكافؤ الاعتدالي ، والسرّ الجمعي الأحدي الإلهي الذي تستند إليه سائر الأحكام والآثار ـ كما مرّ

__________________

(١) ق : و.

(٢) ق : والمرتبي.

(٣) في بعض النسخ : هي لذلك.

٨٥

ذكره في غير (١) موضع من هذا الكتاب ـ نبّه عليه من فوق لشمول حكمه.

وأمّا من تحت فلا ؛ لأنّه الأمر الإلهي الذي يغلب ولا يغلب ، ولهذا تجعل فوق النقطتين اللتين : إحداهما للروحانيّة ، والأخرى للطبيعيّة ، وترسمان في صفّ واحد إشارة إلى تساويهما من حيث إنّ كلّ واحدة منهما من وجه تفعل في الأخرى ، وتؤثّر فيها ، وتجعل الثالثة فوقهما ؛ لما بيّنّا.

والسرّ في أنّ الحكم الجمعي لا ينبّه عليه إلّا في الحرفين ـ وهما الثاء والشين ـ أنّ حكم الجمع الأحدي والاعتدال الوجودي في غير هاتين المرتبتين معقول غير مشهود ، ولهذا الاعتدال التامّ لا ينتج ولا يظهر له صورة ، وكذا الجمع الكلّي الشامل الحكم ، والكمال الذي لا أكمل منه ، لا يتعيّنان في الوجود ، وإنّما يشهد كلّ منهما بحسب المرتبة والمظهر الذي يظهر الكلّ فيه وبه ، لا بحسبه.

وأمّا سرّ دلالة النقط على المراتب ، والخطوط الإعرابيّة على الأحكام ، فهو أنّ النقطة أمر معقول غير مشهود مع أنّه أصل سائر الخطوط والسطوح والدوائر ، فيظهر به جميعها ، وهو من حيث هو لا يظهر. كذلك المراتب حقائق معقولة غير مشهودة ، وهي أصل كلّ ما يشهد ، والحاكمة عليه ، ولمّا كان الخطّ عبارة عن نقط متجاورة ، لذلك كان دليلا على الحكم ؛ لأنّ الحكم نسبة معقولة بين حاكم ومحكوم عليه ، وبالحركة الإيجاديّة يحصل الاتّصال ، فيظهر عين الحكم والحاكم من كونه حاكما ، والمحكوم به وعليه ، فافهم والله المرشد.

وأمّا سرّ التشديد فهو تلاقي حكم النسبة الجامعة من المراتب الثلاث لحكم مرتبة السكون الحيّ المختصّ بأحديّة الجمع الإلهي ، والظاهر منهما هو صاحب الأوّليّة ، فالحكم عين (٢) الظهور.

وأمّا سرّه في الموجودات فيعلم من نتيجة قرب النوافل وقرب الفرائض ، فقرب النوافل يختصّ بالطالبين ، وقرب الفرائض يختصّ بالمرادين المطلوبين. فإذا تعدّى المحقّق مقام «أو أدنى» وارتفع الخطّ الذي قسّم الدائرة قوسين ، فإنّ المطلوب يكون له الأوّليّة والظهور ، من حيث الحكم ، والطالب له الآخريّة ولوازمها ، ومن فهم سرّ

__________________

(١) في الأصل : غير ما موضع.

(٢) ق : في الحكم حين ، ه : في الحكم عين.

٨٦

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) (١) وعرف سرّ «قف إنّ ربّك يصلّي» يعرف ما أومئ (٢) إليه.

ثم نرجع ونقول : ولمّا كانت الصور منقسمة إلى مركّبة وبسيطة بالنسبة ، وكان البسيط لتشابه أجزائه وعروه عن الكيفيّات المختلفة من حيث ذاته لا يظهر للتركيب (٣) فيه حكم محسوس ، بل يعقل ذلك فيه لا غير ، كانت الحروف المختصة به بحكم الأغلبيّة والمنضافة (٤) إليه خالية عن النقط ؛ لأنّ النقط وضعت للتعريف ، ونسبة هذه الحروف إلى الطبيعة والصور إنّما كانت من وجه واحد واكتفي (٥) في التنبيه على مرتبتها بمجرّد الصورة ، وعلى حكمها بالإعراب ، فحصل الاستغناء عن معرّف آخر.

ثم إنّ الحروف ـ التي هذا شأنها ـ في الاصطلاح أربعة عشر حرفا وفي قاعدة التحقيق اثنا عشر حرفا فحسب ؛ لأنّ أحدها الألف وليس هو عند المحقّقين بحرف تامّ ؛ فإنّه عبارة عن امتداد النفس دون تعيّنه بمقطع خاصّ في مخرج من المخارج ، فهو والهمزة عندهم حرف واحد ، كما سنشير إليه.

ولام ألف أيضا حرف مركّب من اللام والألف ، وله الدلالة على سرّ التركيب من حيث معقوليّته وعدم ظهور حكمه في المركّب ، وله التعريف بسرّ الارتباط الواقع بين الحضرتين : الإلهيّة والكونيّة ، والامتزاج الحاصل بين البسائط والمركّبات ، وله أيضا أسرار غير ما ذكرنا لا يقتضي الحال ذكرها.

ثم نقول : فالحروف الخالية عن النقط إذا اثنا عشر حرفا وتستند إلى البروج الاثني عشر المقدّرة المفروضة في العرش الذي هو أوّل الأجسام البسيطة وأعظمها صورة وحكما وإحاطة وعلامات البروج هي المنازل المشهودة في الفلك الثامن والمراتب المذكورة آنفا ، السارية الحكم في الحروف جميعها. (٦)

والموجودات أيضا اثنا عشر : الخمسة الأصليّة ، والاعتباران اللازمان لها ، والثلاثة التالية ، والاعتباران التابعان لها ، فصار المجموع اثني عشر.

__________________

(١) الأسرى (١٧) الآية ١.

(٢) ق : أومأنا.

(٣) ق : التركيب.

(٤) ب : المضافة.

(٥) ق : فاكتفى.

(٦) ق : جميعا.

٨٧

وصارت الحروف المنقوطة أربعة عشر ؛ إشارة وعلامة على مراتب السماوات السبع ، والعناصر الأربعة والمولّدات الثلاث ، والفلك الثامن هو البرزخ الجامع وهو الأعراف ، فافهم.

ولمّا كانت مرتبة الإمكان بما تحويه من الممكنات غيبا ولها الظلمة ، وكانت (١) الممكنات هي التي تتعيّن في النور الوجودي ويظهر أحكام بعضها للبعض بالحقّ وفيه ، وهو سبحانه لا قيد له ولا تميز (٢) ، كان المثال الواقع في الوجود مطابقا للأصل.

فالمداد مع الدواة نظير مرتبة الإمكان وما حوته من الممكنات من حيث إحاطة الحقّ بها وجودا وعلما. وحقائق الممكنات كالحروف الكامنة في الدواة ، كما نبّهت عليه في سرّ «كان الله ولا شيء معه» ونحوه (٣) عند قولي : «وليس لشيء (٤) في الغيب الذاتي الإلهي تعدّد ولا تعيّن وجودي». والورق وما يكتب فيه كانبساط النور الوجودي العامّ الذي تتعيّن فيه صور الموجودات. والكتابة سرّ الإيجاد والإظهار. والواسطة والآلة : القلم الإلهي. والكاتب : الحقّ من كونه موجدا وخالقا وبارئا ومصوّرا ، كما نبّهت عليه في سرّ التراكيب الستّة والتميّز (٥) والقدرة. ونظير الأنامل الثلاث الفرديّة الأولى التي وقع فيها وبها الإنتاج ، وقد مرّ ذكرها. والقصد : الإرادة. واستحضار ما يراد كتابته التخصيص الإرادي ، التابع للعلم المحيط بالمعلومات التي تظهر.

وكما أنّ استمداد العالم الكاتب هنا ما يريد كتابته يرجع إلى أصلين : أحدهما : العلم الأوّلي ، والثاني : الحسّي المستفاد من المحسوسات ، كذلك الأمر هناك ، فنظير الأوّلي (٦) علم الحق بذاته وعلمه بكلّ شيء من عين علمه بذاته. ونظير المستفاد من المحسوسات رؤيته سبحانه حقائق الممكنات (٧) في حضرة الإمكان ، وتعلّق العلم بها أزلا تعلّقا ذاتيّا ، وإبرازها في الوجود على حدّ ما علمت وبحسب ما كانت عليه ، وهذا سرّ تبعيّة علم العالم للمعلوم.

__________________

(١) ق : فكانت.

(٢) ق : تمييز.

(٣) ب : نحو ذلك.

(٤) ق : بشيء.

(٥) ق : واليمين.

(٦) ق : الأوّل.

(٧) ق : للممكنات.

٨٨

ومن النسبة الجامعة بين هذين الأصلين العلمين تعلم أسرار كثيرة لا يقتضي الوقت والحال تفصيلها ، أحدها سرّ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) (١) ، فاعلم ما نبّهت عليه ، فلقد أدرجت لك في هذه القاعدة وتقاسيمها المتقدّمة أسرارا إن فكّ لك منها معمّاها ، انفتحت لك بها أبواب من المعارف عظيمة الجدوى ، عزيزة (٢) المنال ، والله وليّ الهداية والإحسان.

__________________

(١) محمّد (٤٧) الآية ٣١.

(٢) ق : وعزيزة.

٨٩

قاعدة كلّيّة

تحتوي (١) على ذكر مراتب التميّز الثابت بين الحقّ وما سواه ، وما يختصّ بتلك المراتب من أمّهات الأسرار بطريق التبعيّة والاستلزام.

اعلم ، أنّ الحضرات الخمس الأصليّة التي سبقت الإشارة إليها ـ مع كونها الأمّهات لسائر المراتب والحضرات ـ فإنّ بعضها أيضا داخل تحت حيطة بعضها ، كالحضرتين اللتين هما عن جنبتي المرتبة الوسطى ، فإنّ إحداهما تندرج في مرتبة الاسم «الظاهر» المنعوت بالشهادة ، والأخرى في مرتبة الغيب الأصلي الذي تقابله الشهادة ، كما يندرج الوسط أيضا في الطرفين إذا اعتبر كونه ليس بشيء زائد عليهما بل هو نسبة هي جمعيّتهما الناتجة من بينهما.

ثم إذا اعتبر الوسط أيضا أنّ حقيقته الاسم الظاهر والظهور وهما فرعان تفرّعا (٢) عن الغيب الباطن ، الذي هو الأصل ؛ فإنّ الظهور لا يكون إلّا عن بطون متقدّم ، مفروض أو معلوم ، اندرجت الأربعة في الغيب الأوّل ، لكن معقوليّة (٣) هذا الاندراج على هذا النحو ترفع (٤) الأحكام والكثرة والكلام والاعتبارات والتفاصيل الأسمائيّة الإلهية والكونيّة والمراتب التي تنتهي إليها من هذه الخمسة الكليّة ، ولا يصحّ الشهود والكلام والحكم والتفصيل إلّا بها ، وباعتبار تعلّقها هي الحضرة الإلهيّة التي لها الغيب ، والحضرة الكونيّة التي تختصّ بالشهادة ، والسرّ الجامع بينهما.

وإذا تقرّر هذا ، فاعلم أنّ الأمر الكلّي ينقسم بحسب هذه الأصول المذكورة ثلاثة أقسام :

__________________

(١) ق : تحوي.

(٢) ق : تفريعا.

(٣) ق : معقوليّته.

(٤) ق : برفع.

٩٠

قسم يختصّ به الحقّ ، وقسم ينفرد به الكون ، وقسم يقع فيه الاشتراك في المقام النفسي العمائي الذي هو السرّ الجامع المشار إليه.

فالمختصّ بالحقّ سبحانه أمور لا يشارك فيها ، وهي على نوعين : ثبوتيّة باعتبار ، وسلبيّة باعتبار ، فالثبوتيّة منها : إحاطته (١) الوجوديّة والعلميّة ، وتقدّم وجوده على كلّ متّصف بالوجود ، وأوّليّة الإرادة والطلب ، وقبوله في كلّ وقت وحال وموطن ومظهر ومرتبة كلّ حكم بحسب كلّ حاكم وما ذكر والجمع بين وجوب الوجود ووجوب الثبوت على الدوام.

والسلبيّة منها : كونه سبحانه لا يتقيّد ، ولا يتميّز ، ولا ينحصر ، ولا أوّليّة لوجوده ، ولا يحاط به ، فهذه الأمور يستحقّها بكلّ وجه وعلى كلّ حال ، فإنّها من مقتضيات ذاته ليس أنّ تلك الأمور لم تكن ذاته تقتضيها ، بل عرضت في مرتبة المظاهر الكونيّة وبالنسبة إليها ، وأضيفت إليه (٢) بسببها ؛ إذ لو كان كذلك ، لعاد إلى الحقّ من الأعيان والحقائق به أو بها جمعا وفرادى ما لم تكن ذاته تقتضيه أزلا ، فيكون سبحانه قد تجدّد له من غيره أو بغيره قبول حكم أو وصف ، وثبت (٣) ذلك له بثبوت الغير لكن لو فرض زوال ذلك الغير لزال ذلك الأمر ؛ (٤) لأنّ ذاته لم تكن تقتضيه بدون هذا الغير ، وهذا لا يصحّ ؛ لأنّه يلزم منه قيام الحوادث بذات الحقّ وقبوله للتغيّر (٥) ، وأن يعاد فيحكم على الثابت نفيه بأنّه واجب الثبوت أو ممكنه ، وهذا من باب قلب الحقائق ، وأنّه محال.

غير أنّ هنا سرّا دقيقا فيه ـ لعمر الله ـ تحقيق (٦) ، وهو أنّ هذه الصفات بأسرها وسواها لا تعلم (٧) ولا يظهر ثبوتها وتعيّنها إلّا في العماء الذي هو البرزخ المذكور ، الفاصل بين الغيب المطلق الذاتي والشهادة ، كما ستعرفه ـ إن شاء الله تعالى ـ فالثابت الآن للحقّ في كلّ شأن ـ كائنا ما كان ـ هو ما اقتضته ذاته أزلا ، وكذلك الثابت لغيره من حيث حقيقته ، والثابت نفيه أيضا عنه وعن سواه ، فالمتجدّد إنّما هو ظهور تعيّن تلك الأمور ومعرفتها للأعيان وبها ،

__________________

(١) ق : إحاطية.

(٢) في بعض النسخ : إليها.

(٣) يثبت.

(٤) ب : الأمور.

(٥) ب : للتغيير.

(٦) ق : تحقين.

(٧) ب : لم يعلم.

٩١

لا ثبوتها ونفيها لمن هي ثابتة له أو منفيّة عنه ، والظهور لا يكون إلّا في العماء المذكور وبه ، فافهم.

وما يمتاز الكون به عن الحقّ ويخصّه من الأقسام المذكورة هو عدم كلّ ما تعيّن ثبوته للحقّ فيما مرّ ، ككونه (١) لا يتّصف بإرادة أولى ولا بوجود قديم و (٢) غيرهما ممّا (٣) مرّ ، وبانفراده بوجوب الثبوت دون وجوب الوجود ، وبالحدوث ، وبتقلّب الأحوال عليه ، بخلاف الحقّ سبحانه ؛ فإنّه لا يتقلّب في الأحوال وما سوا ما ذكر ـ من الصفات المشار إلى ثبوتها ونفيها ـ وأمور (٤) تبدو في البرزخ الأوّل المذكور وهي مشتركة ذات وجهين وحكمين يصحّ نسبتها إلى الحقّ من وجه ، وإلى ما سواه من وجه. وثبوت هذه الأمور للحقّ في هذه المرتبة البرزخيّة بنسبة الاشتراك هو ممّا (٥) اقتضت ذاته قبولها بهذا الشرط في هذه المرتبة البرزخيّة نسبة الاشتراك على الوجه الواقع ، وهي من أحكام إحدى صفات امتيازه المذكورة ، وهي قبول كلّ حكم في كلّ حال ومرتبة وزمان وموطن ومظهر بحسب كلّ حاكم. وحكم الأعيان الكونيّة في هذه الأمور المشتركة الواقعة في هذا (٦) البرزخ على نحو ما ذكرنا في حقّ الحقّ من أنّ حقائقها اقتضت قبول كلّ ما ظهر قبولها له بالفعل بشرائطه ، وأنّ المتجدّد إنّما هو ظهور تلك الأمور ومعرفتها لا ثبوتها ونفيها لمن أثبتت له (٧) أو نفيت عنه.

ثم نقول : ولهذا البرزخ صفة الضياء. وما امتاز به الحقّ عن الخلق ، له مرتبة الغيب والنور المحض ، ومن شأنه أن يدرك به ولا يدرك هو ؛ ونظيره فيما نحن بصدد بيانه ـ من المراتب الإلهيّة المتعيّنة ـ (٨) الأصل المنبّه على سرّه بالقسم الأوّل من الفاتحة ؛ ومن ورثته والقائمين بحقّ مظهريّته «السابق» ومن العبادات الواجبة (٩) النهاريّة وكلّ عبادة لها درجة الأوّليّة. (١٠)

وللحضرة الكيانيّة الأخرى الظلمة المنبّهة على مرتبة الإمكان والعدم المعقول ؛ ومن شأنها أن تدرك ولا يدرك بها ؛ ولها مرتبة القسم الأخير من الفاتحة والسؤال الذي متعلقه

__________________

(١) ق : لكونه.

(٢) ق : لم يرد.

(٣) ق : فيما.

(٤) ق : فأمور.

(٥) ب : ما.

(٦) ه : هذه.

(٧) ق : لم يرد.

(٨) ق : المتعينة الإلهية.

(٩) ق : الواجبات.

(١٠) في بعض النسخ : درجة أوّلية.

٩٢

الهداية الحاصلة للذين ذكر وصفهم إلى آخر السورة بصفتي الإثبات والنفي التنزيهي ، وهو الانسلاخ من النسب الكونيّة والصفات العارضة ، والبقاء على الأصل الذي هو الثبوت الإمكاني المقابل للنور مقابلة العبوديّة الكاملة للربوبيّة ، وهو مقام الاستهلاك الثاني في الحقّ ، كما سألوّح ببعض أسراره من بعد عند الكلام على سرّ الهداية ـ إن شاء الله تعالى ـ مضافا إلى ما سلف ذكره في سرّ الفتح والعلم.

ويختصّ بهذه المرتبة العبادات الليليّة والتي لها الآخريّة ؛ ومن القائمين بحقّ (١) مظهريّة هذه المقامات الكلّيّة «الظالم».

وأمّا البرزخ المنعوت بالضياء ، والمسمّى بالعماء ، فيستند (٢) إليه مقام (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٣) ومن شأنه أن يدرك ويدرك به ، ويختصّ به العبادات البرزخيّة الجامعة ، كالمغرب والصبح وكلّ ما لا يتقيّد بأوّليّة و (٤) آخريّة.

ومن الورثة القائمين بحجج الله وحقّ مظهريّة هذه المقامات الكبرى الإلهيّة «المقتصد» القائم في الوسط والموفي كلّ ذي حقّ حقّه ، كربّه الذي أعطى كلّ شيء خلقه ، فهذا مقام الفرديّة الأولى (٥) ، الذي وقع فيه الإنتاج والتناسل بالنكاح الغيبي والروحاني والطبيعي والعنصري والجامع بين جميعها.

ومن هذه تعرف شرائع الإسلام الخمس ، والصلاة (٦) وغير ذلك ، وتعرف هذه من الحضرات الخمس الأصليّة ، وسيرد في الكلام على الاسم «الربّ» في قوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) من ذلك ما ييسّر الله ذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ

ثم نقول (٧) بلسان هذا المقام البرزخي الجامع : فالأحكام الإلهيّة تبدو من الحقّ من حضرة غيبه وترجع إليه كما أخبر ولكن بالممكنات ، وأحكام الممكنات يتّصل من بعضها بالبعض ولكن بالحقّ ، فللممكنات من الحقّ الإظهار الإيجادي ، والذي لحضرته منها القبول ، وكونها شرطا في رجوع أحكام الأسماء المتعيّنة بها وإظهار آثارها من الحقّ إلى الحقّ كما مرّ آنفا

__________________

(١) ق : الحق.

(٢) ه : يستند.

(٣) الفاتحة (١) الآية ٥.

(٤) ب : أو.

(٥) ق : لا توجد.

(٦) ق : صلوات.

(٧) ب : فنقول.

٩٣

وكما أشرنا (١) إليه في سرّ التصوّرات من قبل. وأوّليّة المرتبة في العلم للكون من حيث إنّ العلم إنّما تعلّق بالعالم على حسب ما اقتضته حقيقته وحقيقة التعلّق والمتعلّق من كونه متعلّقا ؛ فإنّ التعلّق تابع لما تعلّق به ولحكمه غير أنّ الحقّ علم حقائق الأشياء من ذاته ؛ لارتسامها فيه ، فلم يكن له علم مستفاد من خارج ، فهو تقدّم وتأخّر بالمرتبة والنسبة لا غير ، فافهم. والأوّليّة للوجود في الحقّ (٢) كما ذكر في أوّل القاعدة.

فلسان التقدّم الوجودي قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) ، وقوله : (هُوَ الْأَوَّلُ ... وَالْباطِنُ) (٤) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كان الله ولا شيء معه» ولسان الاسم «الآخر» المشار إليه (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) (٥) و (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) (٦) ونحو ذلك وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا» (٧) ، «ومن عرف نفسه عرف ربّه» (٨) ، «ومن تقرّب إليّ شبرا ، تقرّبت منه ذراعا» (٩) ونحو ذلك ، فافهم ما دسست لك من الأسرار بلسان الإيماء في هذه القاعدة.

واعلم أنّ مجموع ما ذكر ـ من التقدّم والتأخّر والتعلّق والإظهار والقبول وغير ذلك ـ واقع في كلّ نفس ، ولا ينفكّ مجموع الحكم عن مجموع ما تعلّق به ، فكلّ موجود فحكمه مع الأسماء حكمها مع المسمّى. والانفكاك محال من كلّ (١٠) وجه وعلى كلّ حال وتقدير وفي كلّ مرتبة.

فالعالم بمجموعه مظهر الوجود البحت ، وكلّ موجود على التعيّن مظهر له أيضا ، ولكن من حيث نسبة اسم خاصّ في مرتبة مخصوصة من المراتب ، والوجود مظهر لأحكام الأعيان ، وشرط في وصولها من بعض الممكنات إلى البعض ، وفي العلم بنفس (١١) وببعضها بعضا في البرزخ المذكور الذي هو المرآة الكلّيّة.

ولهذا السرّ والمقام تفاصيل لا يسع الوقت ذكرها ، وإنّما أوردت هذا القدر وفاء لما

__________________

(١) ق : أشرت.

(٢) ق : في الوجود للحق.

(٣) الزمر (٣٩) الآية ٦٢.

(٤) الحديد (٥٧) الآية ٣.

(٥) محمّد (٤٧) الآية ٧.

(٦) الأنعام (٦) الآية ١٣٩.

(٧) ر. ك : المعجم المفهرس لألفاظ أحاديث مستدرك الوسائل ، ج ٧ ، ص ٥٣٩.

(٨) كشف المحجوب ، ص ٢٤٧.

(٩) جامع المسانيد ، ج ١٣ ، ص ٧١٥.

(١٠) ق : بكلّ.

(١١). ق : بنفسها.

٩٤

التزمته من تبيين الأشياء المتكلّم عليها من أصولها ، والتعريف بحقائقها ، وإلّا فالمتكلّمون على الفروع والأصول والتفاصيل نقلا وفهما وذوقا قد أكثروا من ذكر نتائج الحقائق والمقامات المتجلّية في مرتبة الخواطر والأفكار والقلوب ، ولكن قلّ من يعرّف بحقيقة المرتبة والمقام تعريف عليم خبير بحيث يتشخّص في نفس المخاطب كأنّه يراها رأي عين ، ثم يتكلّم على نسبها وتفاصيلها وأحكامها بكلام يظهر فيه اطّراد حكم الأصول التي أسّس عليها البيان التفصيلي ، بحيث لا تنقض الأصول عليه شيئا من الأمور التفصيليّة المسندة إليها ، بخلاف الأكثرين ؛ فإنّهم لم يستشرفوا على أمّهات الحقائق وأصول المقامات ، بل يتكلّمون على التفاصيل منتقلين من بعض الفروع إلى بعض آخر ، ولذلك يقع الخلاف بينهم ، ويرد النقض عليهم ، ويبدو حكم الحيرة فيهم عند المحاقّة ، وفي الجملة ، فالغرض من تقديم هذه الأصول هو ما ذكرنا.

وليتنبّه الواقف على هذا المسطور بما أوردنا ، فيعرف كيفيّة بروز العالم من الغيب إلى الشهادة بالنفس الرحماني ، ويعلم أوّليّة مقام الوحدة وما يتبعها ممّا ذكر ويذكر سرّ الأسماء وأسماء الأسماء ، وسرّ التسمية وسرّ التجلّي الساري ، وكون الموجودات كلمات الله التي لا تنفد ، وكون الإنسان نسخة الحضرتين المذكورتين.

فانتشاء الحروف والكلمات من نفسه في مراتب المخارج نظير انتشاء الموجودات من النفس الرحماني ، وتعيّنها في المراتب الوجوديّة التي آخرها الشهادة ، عند الخروج من الغيب بالإرادة الإلهيّة والقول الأمري.

والتغاير الواقع هناك بحسب المراتب الأسمائيّة ، وتنوّعات توجّهاتها ، واختلاف الحقائق الكونيّة ومراتبها واستعداداتها ، نظيره عندنا التغاير الواقع في الحروف الإنسانيّة بحسب المقاطع (١) والانتهاءات الحاصلة في المخارج ، فالنفس وإن لم يكن متناهيا فإنّه لا يمكن أن يتعيّن (٢) منه في الوجود في كلّ زمان إلّا أمر متناه ؛ لتقيّد قبول القوابل والمراتب وتناهيها.

ومن هنا يعلم سرّ «أكتب علمي في خلقي إلى يوم القيامة» فقيّد ولم يطلق رعاية للقابل ، مع عدم تناهي الممكنات والعلم الإلهي المتعلّق بها ، ولأنّ ما لا يتناهى لا يمكن دخوله في

__________________

(١) ق ، ه : التقاطع.

(٢) ق : يعيّن.

٩٥

الوجود دفعة واحدة ، كما مرّ.

ثم نقول : فالنفس وإن كان حقيقة واحدة فإنّه يكتسب في المخارج أسماء مختلفة بحسب التميّز الحاصل بسبب المقاطع (١) ، فامتداد (٢) زمانه دون تعيّنه بمقطع من المقاطع يسمّى ألفا ، وأوّل تعيّنه بأقرب المقاطع نسبة إلى القلب ـ الذي هو ينبوع النفس ـ يسمّى همزة ، ثم يقال ـ مثلا ـ باء وسين وميم (٣) ونحو ذلك كما قيل في الأصل : قلم ولوح وعرش وغير ذلك.

فكلّ حرف فإنّه لا يغاير النفس ، ولا يمتاز عنه إلّا بتعيّنه ، كذلك كلّ فرد من أفراد الأعيان الوجوديّة والحقائق الأسمائيّة ، لا يمتاز عن الوجود البحت ، المنعوت بالغيب والشهادة وغيرهما ، إلّا بالتعدّد والتعيّن (٤) الواقع في مرتبة الغيب الإمكاني ، بالنسبة إلى الحقّ لا إلى الأشياء. والواقع في مرتبة الشهادة التي أوّلها التعيّن الأوّل الاسمي المتميّز من الغيب الإلهي في الغيب الإضافي الذي هو الحدّ المذكور.

ونظيره في النفس الإنساني ـ كما قلنا ـ الهمزة ، فالهمزة نفس التعيّن فحسب ، فالمتعيّن (٥) بذلك التعيّن المذكور التجلّي الذاتيّ الظاهر من الغيب المطلق المضاف إليه النفس ، ومن الموجودات الكونيّة القلم ، والمتعيّن الأوّل في نفسنا بالهمزة.

والمعرف بأحديّته هو الألف ، والمتعيّن به من الحروف التامّة في الشهادة الباء ؛ فإنّ الهمزة والألف ليسا بحرفين كما سنومئ إليه ـ إن شاء الله تعالى ـ وبالجمع والتركيب والمراتب (٦) المختلفة على الأنحاء المختلفة ، وسريان حكم الجمع الأحدي ـ كما بيّنّا من قبل ـ ظهرت الموجودات جميعها ، وظهرت صور الألفاظ والكلمات والحروف في المراتب الكلّيّة وفي المخارج ، حاملة للمعاني ودالّة عليها حمل الأعيان الكونيّة أحكام المراتب والأسماء ، وسرّ المسمّى من حيث دلالتها عليه وعدم مغايرتها له من وجه ، فاعلم ذلك والله المرشد.

__________________

(١) ق : التقاطع.

(٢) ق : امتداده.

(٣) ق : جيم ، ب : ميم.

(٤) ق : بالتعيّن والتعدد.

(٥) ب : والمتعيّن.

(٦) ق : في المراتب.

٩٦

قاعدة كلّيّة

تتضمّن سرّ الأسماء وأسماء الأسماء ومراتبها وكمالاتها والطلب المنسوب إليها المتعلّق بتحصيل ما فيه كمالها ، وفائدة التسمية ، والأسماء وما بينهما من التفاوت ، وغير ذلك من الأسرار التي ستعرفها حين التأمّل ، ـ إن شاء الله تعالى ـ

اعلم ، أنّ الأسماء والحقائق ـ كما بيّنّا ـ بعضها أصلي متبوع ، وبعضها تابع تفصيلي ، كالأجزاء والفروع والصفات واللوازم ، وإن لم تكن في حضرة الأسماء تجزئة ولا انقسام.

فالمتبوعة كأسماء الأعلام في العموم ، نحو قولك : شمس ، ونور ، وكأسماء الصفات للصفات ، مثل لفظ العلم لمعنى (١) العلم ، دون إضافته إلى الموصوف به المسمّى عالما.

والتابعة كالصفات والأفعال ، فالصفات كالأحمر للمصوف بالحمرة (٢) ، والحيّ للموصوف بالحياة ونحو ذلك. وأسماء الأفعال كالباعث والغافر ونحوهما.

ولمّا كان الفعل يدلّ على الفاعل ، والنسبة والإضافة على الأمرين اللذين بهما ظهر عين تلك النسبة والإضافة ، لذلك انقسمت الأسماء من وجه إلى هذه الثلاثة الأقسام ، وقد سبق لنا فيها تنبيهات يكتفي بها اللبيب ، أحدها عند الكلام على التراكيب الستّة ، وقبل ذلك أيضا ، وآخرها عند الكلام على النفس الرحماني والحروف في القاعدة المتقدّمة على هذه القاعدة ، وسنزيد في بيان أسرارها ما ييسّر الحقّ ذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ.

ثم نقول : فصار لكلّ قسم من هذه الأقسام الثلاثة دلالة على الحقّ من حيث إنّ الدالّ على الدالّ على الشيء دالّ عليه ، وصارت الدلالة على نوعين : دلالة بوسط ودلالة بغير

__________________

(١) ق : للمعنى.

(٢) ه : بالحمر.

٩٧

وسط ، فالتي بالوسط دلالة التزام وتبعيّة ، والتي بغير وسط دلالة مطابقة ، والاستدلال يحصل بالأسماء التابعة التي قدّمنا أنّها كالصفات والأجزاء على الحقائق الأصليّة المتبوعة ، بنحو ما نبّهت عليه في سرّ الشكل والتشكّل والمتشكّل.

وبتلك الأسماء الأصليّة ومنها تظهر أعيان التوابع التفصيليّة ، وللتابعة حكمان (١) : الدلالة ، والتعريف بنفسها وأصلها ومراتبها (٢) ، وتختصّ المتبوعة بكونها أصلا في وجود التوابع وفي إظهار سرّ كونها دلالة (٣) ومعرفة كما مرّ.

فكلّ تميّز وتعدّد يعقل ـ بحيث يعلم منه حقيقة الأمر المتميّز بذلك التميّز من حيث ذلك التميّز ، ولزوم التعدّد له ، وكونه شرطا في معرفة الأصل الذي هو منشأ التعدّد ومنبع التميّز (٤) ، وأنّ ذلك الأصل له التقدّم بالمرتبة على التعدّد والتميّز (٥) فهو اسم ؛ لأنّه علامة على الأصل الذي لا يمكن تعيّنه بدون المميّز والتميّز ، والتعدّد والتميّز حكمان لازمان للاسم ، واللفظ الدالّ على المعنى المميّز (٦) الدالّ على الأصل هو اسم الاسم.

وأمّا سبب تنوّعات الاسم فهو الكثرة الناشئة بسبب اختلاف الصفات والخواصّ والعوارض واللوازم والوجوه والاعتبارات الناتجة من تنوّعات الاجتماعات الواقعة في المراتب المختلفة للحقائق بحكم الكيفيّات والتراكيب الظاهرة بالاستعدادات المتفاوتة ، وسرّ الأمر الأحدي المختصّ بحضرة الجمع والوجود.

فكلّ ما ظهر في الوجود وامتاز من الغيب ـ على اختلاف أنواع الظهور والامتياز ـ فهو اسم ، وفائدته ـ من كونه تابعا لما تقدّمه بالمرتبة والوجود جمعا وفرادى ـ الدلالة والتعريف كما بيّنّا وكلّ ما بطن فله مرتبة الأصالة والشرطيّة بالنسبة إلى ما هو تابع له وفرع من فروعه ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.

ولمّا ظهر التعدّد والكثرة في الممتاز الأوّل من الغيب المطلق ، المنعوت بالوحدة ، السابق كلّ تعيّن وكثرة المميّزات (٧) لما قلنا ، ظهر بسرّ الجمع والتركيب والشروط والأسباب الجزئيّة والكيفيّات اللازمة لكلّ حقيقة معنى ينفرد به دون مشارك ، وأفاد كلّ أمر مميّز

__________________

(١) ق : حكما.

(٢) ق : مراتبهما.

(٣) ق : دالّة.

(٤ و ٥). ق : التمييز.

(٦) ب : المتميّز.

(٧) المتميّزات.

٩٨

ومعيّن من الأسماء في الغيب الإلهي حكما لم يشاركه فيه مميّز آخر ، مع اشتراك جميع الأشياء المميّزة في الدلالة والتعريف.

وحصل بكلّ اسم فائدتان :

إحداهما : ما اشترك فيه مع باقي الأسماء وهو الدلالة على أصله ، ومن هذا الوجه يكون الاسم عين المسمّى ، فتذكّر.

والثانية : تعريفه بحقيقته ، وحقيقته (١) ما امتاز به من الصفات عن غيره ، فثبت له السموّ المشار إليه بما قلنا ، وبكونه مطلوبا للمرتبة الجامعة للأسماء لأن يظهر به هذا التميّز (٢) المختصّ به ، الذي لولاه لم يعقل ، وذلك بطلب سابق على طلبه الاستعدادي ، كما ذكر ويذكر ـ إن شاء الله تعالى ـ

فإذا عرفت سرّ هذا ، فاعلم أنّ لكلّ اسم من الأسماء الإلهيّة المتعلّقة بالعالم كمالا يخصّه ويرجع إليه ، وإنّما يحصل ذلك ويبدو ويتمّ بظهور أحكامه وآثاره في الأعيان الوجوديّة ، التي هي مجاليه ومعيّناته ، ومحالّ ظهور سلطنته بحكمه وأثره وذلك بسؤال الاسم بلسان مرتبته (٣) من الاسم «الله» الذي هو حضرة الجمع والوجود إمداده لإظهار ما فيه كماله ؛ إذ لكلّ اسم لسان يخصّه من حيث مرتبته ، ولسان جمعيّة (٤) هذه الأسماء هو القابل للنسب التفصيليّة وأعيان صورها «فأحببت أن أعرف» (٥) ، (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٦) ونحو ذلك ، وكلّ اسم يقول بلسان هذه الجمعيّة للنسبة التفصيليّة التي تحت حيطة مرتبته (٧) هذه المقالة المذكورة.

والأسماء طالبة من الاسم «الله» ـ كما قلنا ـ إظهار ما به يتمّ كمالها ، ويظهر سلطانها ، وذلك إنّما يحصل بسريان حكم كلّ فرد فرد منها في مجموع الأمر كلّه ، وعوده إلى الأصل منصبغا بحكم المجموع مع بقائها من حيث الحقيقة في الغيب الإلهي على حالها ، كما سبق التنبيه عليه عند الكلام على مراتب التصوّرات.

__________________

(١) ه : بحقيقة وحقيقة.

(٢) ق : التمييز.

(٣) ه : مرتبة.

(٤) ه : جمعيته.

(٥) ر. ك : رسائل ابن عربي ، ص ٢١٣.

(٦) الذاريات (٥١) الآية ٥٦.

(٧) ه : مرتبة.

٩٩

ولكلّ عين من أعيان الموجودات أيضا كمال لا يحصل لتلك العين إلّا بالوجود المستفاد من الحقّ ، فإمّا في بعض المراتب الوجوديّة وبحسب بعض المواطن ، أو في جميع المراتب وبحسب جميع المواطن لكن مبدأ هذا السؤال ومنشأه من مرتبة الأسماء ؛ إذ الاسم عند المحقّقين من وجه هو المسمّى ، كما نبّهت عليه آنفا وفي سرّ الحروف مع النفس الذي نسبتها إليه نسبة الأسماء إلى المسمّى والحكم هي كالحكم ، والمسمّى عالم بذاته ولوازمها أزلا بخلاف أعيان الموجودات ؛ فإنّ وجودها حادث ، فلا يصحّ لها في العدم (١) علم ؛ لانتفاء الشروط التي يتوقّف حصول العلم عليها ، كالوجود والحياة ، فلا يكون لها الأوّليّة إذا في مقام الطلب ؛ إذ طلب المجهول لمن هو عنده مجهول حال جهله به ومن حيث ما يجهله لا يصحّ البتّة.

والمتعيّن بالسؤال الغيبي ـ المشار إليه من حضرة الجمع بالنسبة إلى كلّ اسم ـ هو ما يقتضيه أحكام ذلك الاسم من نسب مرتبة الإمكان المرتبطة ببعض الأعيان الممكنة التي هي محلّ ظهور حكم ذلك الاسم.

والمتعيّن لكلّ جنس وصنف من أجناس العلم وأصنافه وأنواعه ـ من الأسماء التي هي تحت حيطة حضرة الجمع وأحكامها ـ هو ما يستدعيه استعداد ذلك النوع والصنف والجنس وما كان من نسب الحضرة المتعيّنة بسرّ الربوبيّة في مرتبة ذلك النوع أو تلك الحقيقة الكونيّة المستدعية والمعيّنة له ، فيظهر بهذا التعيّن والاستدعاء سلطنة الاسم «الله» و «الرّحمن» على الحقيقة الكونيّة بنفوذ الحكم فيها ، فيصحّ الربوبيّة لهذين الاسمين جمعا وفرادى من حيث تلك النسبة على تلك الحقيقة ، فيظهر بحسب الأثر المشهود في الحقيقة القابلة له اسم يضاف إلى الحقّ من حيث مرتبة أحد الاسمين : الاسم «الله» و «الرّحمن» كما نبّه سبحانه على ذلك بقوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢) فافهم هذا السرّ ؛ فإنّه في غاية الشرف والغموض.

فالكلّ للكمال طالب ، وما ثمّ عائق من خارج ؛ فإنّه ما ثمّة إلّا حضرة (٣) الأسماء

__________________

(١) في بعض النسخ : القدم.

(٢) الإسراء (١٧) الآية ١١٠.

(٣) الحضرة.

١٠٠