إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

ونحو ذلك. وبعد معرفة المقصود فلا مشاحّة في الألفاظ ، سيّما وأهل الاستبصار يعلمون ضيق عالم العبارة بالنسبة إلى سعة حضرة الحقائق والمعاني ، وكون العبارات لا تفي بتشخيص ما في الباطن على ما هو عليه.

ثم نرجع ونقول : ومظاهر الحقائق والأرواح ـ كما قلنا ـ الصور وهي : إمّا بسيطة بالنسبة ، وإمّا مركّبة ، فظهور الأحكام المذكورة في عالم الصور إن تقيّد بالأمزجة والأحوال العنصريّة وأحكامها والزمان المؤقّت ذي الطرفين فهو عالم الدنيا ، وما ليس كذلك فإن تعيّن ظهور محلّ (١) حكمه فهو من عالم الآخرة ، وحضراتها هي الخمسة المذكورة في صدر الكتاب.

فللأولى منها ـ الذي هو الغيب ـ علم الحقّ وهويّته والمعاني المجرّدة والحقائق ؛ وللثانية الشهادة والاسم «الظاهر» ونحو ذلك. وما نسبته إلى الحسّ أقوى ، له الخيال المتّصل ونحوه. وما نسبته إلى الغيب أقوى ، فهو عالم الأرواح. والمتوسّط باعتبار الدائرة الوجوديّة بين مطلق الغيب والشهادة من حيث الإحاطة والجمع والشمول هو عالم المثال المطلق المختصّ بأمّ الكتاب الذي هو صورة العماء ، وله ما مرّ ، وبما لا يمكن ذكره.

وكلّ ذلك إمّا أن يعتبر من حيث النسبة الفعليّة ، أو الانفعاليّة ، أو الجامعة بينهما في سائر المراتب المذكورة ، وتمّ الأمر.

ثم نبيّن الآن صورة الإدراك بالعلم ، وما يختصّ بذلك من أدوات التفهيم والتوصيل والكلام والألفاظ والعلامات ، ونحو ذلك.

صورة الإدراك بالعلم

ثم نقول : إذا علم أحد شيئا ممّا في الحضرة العلميّة المشار إليها بالاطّلاع والكشف المذكور ، فإنّما يعلمه بما تعيّن به ذلك المعلوم من الصفات والمظاهر في المراتب التصوريّة (٢) العامّة والخاصّة ، وبحسب أنواع التركيب (٣) في التشكّلات التي هي أسباب الظهور ،

__________________

(١) ق : محل ظهور.

(٢) س : التصورية. الخاصة ، ق : التصورية العامة و.

(٣) ق : و.

٦١

و (١) بحكم التخصيص المنسوب إلى الإرادة ، وبحسب القرب والبعد وما يتبع ذلك من القوّة والضعف ، والجلاء النوري والاحتجاب ، وما (٢) سواها ممّا سيذكر (٣) عن قريب ، إن شاء الله تعالى.

فأمّا التصوّرات : فأوّل مراتبها الشعور الإجمالي الوجداني (٤) باستشراف العالم بما في ظاهره وباطنه من سرّ الجمعيّة وحكم النور وأشعّته على الحضرة العلميّة من خلف أستار أحكام كثرته ، وهذا ليس تصوّرا علميّا ، وإنّما هو إدراك روحاني جملي من خلف حجاب الطبع والعلائق ، فليس هو من وجه من أقسام التصوّرات ، وإذا (٥) أدخل في مراتب العلم فذلك باعتبار القوّة القريبة من الفعل ؛ فإنّا نجد تفرقة بين هذا الشعور الذي سمّيناه علما بالقوّة القريبة من الفعل ، وبين حالنا المتقدّم على هذا الشعور ، وهذا فرقان بيّن غنيّ عن التقرير.

ثم يلي ما ذكرنا التصوّر البسيط النفساني الوجداني ، (٦) كتصوّرك إذا سئلت عن مسألة أو مسائل تعرفها ؛ فإنّك تجد جزما بمعرفتها ، وتمكّنا من ذكر تفاصيلها ، والتعبير عنها ، مع عدم استحضارك حينئذ أجزاء المسألة وأعيان التفاصيل ، وإنّما تتشخّص في ذهنك عند الشروع في الجواب قليلا قليلا. والتصوّرات البديهيّة كلّها داخلة في هذا القسم.

ثم يليه التصوّر الذهني الخيالي ، ثم التصوّر الحسّي ، وليس للتصوّر مرتبة أخرى إلّا النسبة المتركّبة من هذه الأقسام بأحديّة الجمع ، وهذا من حكم العلم وأشعّة أنواره في مراتب القوى.

فإذا شاء الحقّ توصيل أمر إلى إنسان بتوسّط إنسان آخر أو غير إنسان مثلا ولكن من هذه المراتب ، تنزّل الأمر المراد توصيله من الحضرة العلميّة الغيبيّة تنزّلا معنويّا ، دون انتقال ، فيمرّ على مراتب التصوّرات المذكورة ، فإذا انتهى إلى الحسّ تلقّاه السامع المصغي بحاسّة

__________________

(١) ق : لم يرد.

(٢) ق : لم يرد.

(٣) ق : نذكر.

(٤) ق ، ه : الوحداني.

(٥) ق : فإذا.

(٦) ق ، ه : الوحداني.

٦٢

سمعه أوّلا إن كانت الاستفادة من طريق التلفّظ أو بحاسّة البصر إن كانت بطريق الكتابة أو ما يقوم مقامها من حركات الأعضاء وغيرها. ثم انتقل إلى مرتبة التصوّر الذهني الخيالي. ثم انتقل إلى التصوّر النفساني ، فجرّدته النفس عن شوائب أحكام القوى ، وملابس الموادّ ، فلحق بمعدنه الذي هو الحضرة العلميّة بهذا الرجوع المذكور. بل عين ارتفاع أحكام القوى والموادّ عنه ، وتجرّده منها هو عين رجوعه إلى معدنه ، فإنّه فيه ما برح ، وإنّما الأحكام اللاحقة به قضت عليه بقبول النعوت المضافة إليه من المرور والتنزّل وغيرهما. فإذا لحق بالمعدن (١) بالتفسير المذكور أدركه المستفيد من الكتابة أو الخطاب ونحوهما من أدوات التوصيل الظاهرة في مستقرّ بحكم عينه الثابتة المجاورة لذلك الأمر في حضرة العلم ، كما سبق التنبيه عليه ، إلّا أنّ ذلك الأمر يكتسب بالتعيّن الإرادي حال التنزّل والمرور على المراتب هيئات معنويّة وصفات انصبغ بها ، فيصير لذلك الأمر تميّز وتعيّن لم يكن له من قبل ، وذلك بالآثار الحاصلة ممّا مرّ عليه ، وتنزّل إليه [و] بذلك الحكم التمييزي تأتّى للنفس ضبطه وإدراكه وتذكّره في ثاني حال ، وتعذّر ذلك من قبل ، لعدم تعيّنه ، مع ثبوت المجاورة المذكورة في الحضرة العلمية ، وذلك للقرب المفرط وحجاب الوحدة ؛ إذ الغيب الإلهي الذي هو المعدن قد عرّفناك أنّه لا يتعدّد فيه شيء ولا يتعيّن لنفسه ، والقرب المفرط والوحدة حجابان ؛ لعدم التعيّن والتميّز وكذلك البعد المفرط والكثرة غير المنضبطة.

ولهذه الأمور طرفان : الإفراط ، والتفريط ، كما ذكر في النور المحض والظلمة المحضة وحال البصر والبصيرة في المدركات العاليّة جدّا الشديدة الظهور وفي الحقيرة. فافهم ما أدرجت لك في هذا الفصل تعرف سرّ الإيجاد والتقييد (٢) والإطلاق والإفادة والاستفادة ، وغير ذلك من الأسرار الباهرة التي يتعذّر التنبيه عليها تماما ، فضلا عن الإفصاح عنها.

ثم اعلم ، أنّ الفائدة ممّا ذكرنا إنّما تتحصّل (٣) بالقرب المتوسّط ، والسرّ الجامع بين الأطراف ، وحينئذ يصحّ الإدراك والوجود وغيرهما ، فالأطراف كالأحديّة (والكثرة) ، والبعد المفرط والقرب المفرط ، والنور المحض والظلمة المحضة ، وغير ذلك ممّا أومأت

__________________

(١) ق : بالمنزل.

(٢) ق : التقيد.

(٣) ق : تحصل.

٦٣

إليه من المراتب المتقابلة ؛ فإنّه لا يكون في جميعها (١) من حيث انفرادها قرب متوسّط ، ولا أمر يتعلّق به الإدراك أو يثبت له. والقرب لا يصحّ إلّا بين اثنين فصاعدا ويتفاوت من حيث الأمر الذي نحن بصدد بيانه بحسب قرب النفس من الحضرة النوريّة العلميّة وبعدها بما سنشير إليه ، وبحسب نسبة المدرك من المقام الأحدي الذي هو أوّل مراتب التعيين الآتي تفصيل حكمه وحديثه ، وبمقدار حظّه من الصورة الإلهيّة ؛ فإنّ كثرة الحجب وقلّتها ، وضعف الصفاء وقوّته تابعة لما ذكر.

وسرّ ذلك : أنّ للحضرة الإلهيّة حقيقة وحكما ولها مظاهر ، فالقرب الإلهي المذكور راجع إلى أمرين لا ثالث لهما ، غير نسبة جمعهما (٢) : أحدهما : الأحديّة الإلهيّة الأولى وسيأتي من حديثها ما ييسّر (٣) الله ذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ وأتمّ الموجودات حظّا من هذا المقام عالم الأمر ، وأتمّ عالم الأمر قربا وحظّا ممّا ذكرنا العقل الأوّل والملائكة المهيّمة ، ومن الموجودات المتقيّدة بالصور العرش والكمّل والأفراد من بني آدم بعد تحقّقهم بمقام الفرديّة والكمال.

وفي الجملة ، أيّ موجود كانت نسبته إلى مرتبة الأحديّة والتعيّن الأوّل أقرب وقلّت الوسائط بينه وبين موجده أو (٤) ارتفعت فهو إلى الحقّ من حيث الاسم «الباطن» والحضرة العلميّة الأحديّة أقرب.

والقرب الثاني هو من حيث اعتبار ظهور حكم الألوهيّة والتحقّق بصورتها ، فأيّ موجود كانت حصّته من الصورة أكثر ، وكان ظهور حقائق الألوهيّة فيه وبه أتمّ ، فهو إلى الحق من حيث الاسم «الظاهر» أقرب ، وحجبه أقلّ والمستوفي لما ذكر هو الإنسان الكامل ، فهو أقرب الخلق إلى الحقّ من هذه الحيثيّة وأعلمهم به ، ومرتبة البعد في مقابلة مرتبة القرب ، فاعتبر الأحكام فيها بعكس هذه ، تعرفها.

ولا تفاوت بين الموجودات ونسبتها إلى الحقّ بالقرب والبعد بغير ما ذكرنا ، وما سوى ذلك ممّا يسمّى قربا إلهيّا في زعم المسمّي فإمّا أن يكون قربا من السعادة ، أو بالنسبة إلى

__________________

(١) ق : جمعها.

(٢) ه : جمعها.

(٣) ق : تيسّر.

(٤) ق : و.

٦٤

ما في نفس المعتقد والمقلّد و (١) المتوهّم من الحقّ لا غير.

ثم أقول : فالمظاهر والصفات الظاهرة والمواد من الصور البسيطة والمركّبة آلات لتوصيل المعاني ـ وإن شئت قلت : سبب لإدراكها في حضرة الغيب ـ وذلك بالتفات الروح ووجه القلب من عالم الكون بالرجوع إلى الحضرة العلميّة النوريّة ، على صراط الوجه الخاصّ ، بالنحو المشار إليه.

فإن كانت المناسبة بين العالم وما يراد معرفته ثابتة والنسبة القريبة قويّة ، فإنّ الحاجة إلى أدوات التوصيل تكون أقلّ ، حتى أنّه لتغني الكلمة الواحدة أو الإشارة في تعريف ما في نفس المخاطب من المعاني الجمّة ، وتوصيلها إلى المخاطب ، وفي تذكيره الأسرار العزيزة (٢) والمعلومات الكثيرة ، وربما تكمل المناسبة ويقوى حكم القرب والتوحّد ، بحيث يقع الاستغناء عن الوسائط ما عدا نسبة المحاذاة المحقّقة المعنويّة والمواجهة التامّة ؛ لاستحالة الاتّحاد والمخاطبة في مقام الأحديّة. وحينئذ ينطق لسان (٣) هذه المناسبة بنحو ما قال بعض تراجمة الحقائق والمراتب ـ علم سرّ ما قال أو لم يعلم ـ (٤) :

تكلّم منّا في الوجوه عيوننا

فنحن سكوت والهوى يتكلّم

ولسان مرتبة الإشارة (٥) بقوله (٦) :

تشير فأدري ما تقول بطرفها

وأطرق طرفي عند ذاك فتعلم

لكن لا بدّ من حركة واحدة أو حرف واحد في الظاهر يكون مظهرا لتلك النسبة الغيبيّة ، حتى يظهر سرّ الجمع ، فيحصل الأثر والفائدة لتعذّر حصول الفائدة بأقلّ من ذلك ، كما سنومئ إليه ، فالكلمة الواحدة أو الحرف الواحد أو الحركة الواحدة إذا انضافت إلى حكم المحاذاة والمواجهة المذكورة المبقية للتعدّد والمثبتة (٧) سرّ المخاطبة كفت في ظهور سرّ الخطاب ، وحصول الأثر الذي هو وصف الكلام ، وصار (٨) الحرف الواحد هنا (٩) أو الحركة

__________________

(١) ق : المتوهم ، بدون «واو».

(٢) ق : الغريزة.

(٣) ق : لبيان.

(٤) ق : شعر.

(٥) ق : للاشارة.

(٦) ه : قوله : ق ، ه : شعر.

(٧) ق : مثبت.

(٨) ق : فصار.

(٩) ق : منّا.

٦٥

الواحدة مع نسبة المحاذاة كالكلمة المفيدة التي قيل فيها : إنّه لا تحصل الفائدة بأقلّ منها.

وقد عاينّا ذلك مرارا كثيرة من غير واحد من الأكابر (١) المشاركين من أهل المكاشفات الإلهيّة.

ومن أسرار هذا المقام أنّ الكلام من أثر المتكلّم في المخاطب وفعله ، ومنه اشتقّ اسمه ، ولا يصحّ الأثر إلّا بأحديّة الجمع ، مع تحقّق الارتباط والمناسبة كما مرّ بيانه في سرّ التجلّي وغيره.

فمتى غلب حكم الوحدة الجامعة على حكم الكثرة التفرقة كان الأمر أقوى وأسرع ، ويضعف إذا كان الأمر بالعكس.

والمختصّ بمرتبة الكلام من نسب القرب هو القرب من المقام الأوّل الأحدي الجمعي. وعدم تأثّر السامع من كلام من لا يعرف لغته واصطلاحه هو من كثرة الوسائط وحكم البعد وخفاء حكم الأحديّة والمناسبة ، وقد ظهر من أسرار هذا المقام حكمه في الأوامر الإلهيّة الواردة بالوسائط وبدونها ، فما لا يظهر للواسطة فيه عين أو سلطنة لا يقصى (٢) ولا يتأخّر نفوذه ، والواصل من جهة الوسائط المخالف في النعت لما ذكرنا قد ينفذ سريعا إذا ناسب حكم الجمعيّة حكم الأحديّة مناسبة المرآة الصافية الصحيحة الهيئة في المقدار للصورة المنطبعة فيها ، وقد يتأخّر. وقد سبقت الإشارة إلى شروط الأثر وما أمكن ذكره من أسراره ، وقد لوّحت فيه وفي سرّ التجلّي المنتج للعلم بما يعرف منه المستبصر اللبيب سرّ الكلام ، وأصله ، وحكمه ، والخطاب والكتابة ، وغير ذلك من أمّهات الأسرار والعلوم.

ثم نرجع إلى تتميم ما شرعنا في بيانه ، فنقول : وإن كان الأمر بخلاف ما ذكرنا في المناسبة ـ بمعنى أنّ المناسبة بين المتعلّم وما يطلب معرفته تكون شديدة ، وحكم النسبة القريبة ضعيفا ـ فإنّ المعرّف والمفيد يحتاج إلى تكثير أدوات التفهيم والتوصيل ، وتنويع التراكيب والتشكيلات الماديّة (٣) من الحروف والأمثلة وغيرهما من الأشياء التي هي

__________________

(١) ق : أكابر.

(٢) ه : يعصي.

(٣) ب : تشكلات المادّة.

٦٦

منصّات ومظاهر للمعاني الغيبيّة ، ومع ذلك فقد لا يحصل المقصود من التعريف والإفهام ، إمّا لأنّ الأمر المراد توصيله وبيانه تكون مرتبته (١) مستعلية على مراتب العبارات والأدوات الظاهرة ، فلا تسعه عبارة ، ولا تفي بتعريفه أدوات التفهيم والتوصيل ، أو لقصور قوّة المتعلّم والمخاطب عن إدراك ما يقصد توصيله إليه ، وتفهيمه إيّاه ؛ لبعد المناسبة في الأصل.

أدوات توصيل المعلومات

وإذ قد ذكرنا من أسرار الكلام وأحكامه وصفاته ولوازمه ما قدّر لنا ذكره ، فلنذكر ما تبقى من ذلك ، ولنبدأ بتعريف أدوات توصيل ما في النفس إلى المخاطب ، فنقول : أدوات توصيل ما في النفس من معنى الكلام المقصود تعريف المخاطب به ثلاثة أقسام :

أوّلها : الحركة المعنويّة النفسانية المنبعثة لإبراز ما في النفس من المعاني المجرّدة المدركة بالتصوّر البسيط.

ويلي ذلك استحضار صور المعاني والكلمات في الذهن ، وهذه الحركة المشار إليها هي حكم الإرادة المتعلّقة بالمراد طلبا لإبرازه.

والثالث : الحروف والكلمات الظاهرة باللفظ والكتابة ، أو ما يقوم مقامها من النقرات (٢) والإشارة بالأعضاء بواسطة آلات وبدونها.

والمراتب التي تمرّ عليها هذه الأحكام الثلاثة هي مراتب التصوّرات المذكورة ، وهذا من حكم التربيع التابع للتثليث ، وسيأتيك خبره.

وإذ قد وضح هذا ، فاعلم أنّ الحقّ قد جعل الكلام في بعض المراتب والأحيان في حقّ من شاء من عباده طريقا موصلا إلى العلم ، كغيره من الأسباب المعقولة والمشهودة ، نحو التراكيب والتشكيلات والصفات والمظاهر المعيّنة للحقائق الغيبيّة في الشهادة والمعرفة لها ، كما جعل الحروف والكلمات عند انضمام بعضها إلى بعض بحدوث النسبة التركيبيّة والحكم الجمعي طريقا إلى معرفة معنى الكلام المجرّد الوحداني ، وكلّ ما تدلّ عليه تلك الكلمات ، كما جعل الحواسّ والمحسوسات وغيرها طريقا إلى نيل العلم ؛ إذ لحصول العلم

__________________

(١) ه : مرتبة.

(٢) ب : الفقرات.

٦٧

طرق كثيرة عند المستفيدين من الوسائط والأسباب.

ومن الأمور ما سبق العلم الإلهي أنّها لا تنال إلّا من طريق الحواسّ مثلا أو غيرها من الطرق ، لكن إذا شاء الحقّ أن يعلمها أحد من عباده ـ المكرّمين ، المحقّقين ، المتحقّقين بمعرفته ـ دون واسطة ؛ لعلمه سبحانه أنّ هممهم قد خرقت حجب الكون وأنفت الأخذ عن سواه ، تجلّى لهم في مرتبة ذلك الطريق الحسّي أو ما كان ، ثم أفادهم ما أحبّ تعليمه إيّاهم ، فاستفادوا ذلك العلم منه سبحانه دون واسطة ، مع بقاء الخاصّيّة التي حكم بها العلم السابق على حالها ؛ إذ ما سبق به العلم لا يقبل التبديل.

ومن عباد الله من يحصل لنفسه في بعض الأحيان عند هبوب النفحات الجوديّة الإلهيّة أحوال توجب لها الإعراض عمّا سوى الحقّ ، والإقبال بوجوه قلوبها ـ بعد التفريغ التامّ ـ على حضرة الغيب الإلهي المطلق ، في أسرع من لمح البصر ، فتدرك من الأسرار الإلهيّة والكونيّة ما شاء الحقّ.

وقد تعرف تلك النفس هذه المراتب والتفاصيل أو بعضها ، وقد لا تعرف مع تحقّقها بما حصل لها من العلم.

ولمّا كان كلّ متعيّن من الأسماء والصفات وغيرهما حجابا على أصله الذي لا يتعيّن ولا يتميّز إلّا بمعيّن ، (١) وكان الكلام من جملة الصفات ، فهو حجاب على المتكلّم من حيث نسبة علمه الذاتي ، فالكلام المنسوب إلى الحقّ هو التجلّي الإلهي من غيبه وحضرة علمه في العماء الذي هو النفس الرحماني ، ومنزل تعيّن سائر المراتب والحقائق ، فيتعيّن حكم هذا التجلّي بالتوجّه الإرادي للإيجاد أو للخطاب من حيث مظهر المرتبة والاسم الذي يقتضي أن ينسب إليه النفس والقول (٢) الإيجادي ، فيظهر نسبة الاسم «المتكلّم» ثم يسري الحكم المذكور من المقام النفسي الرحماني المشار إليه الذي هو حضرة الأسماء إلى المخاطب بالتخصيص الإرادي والقبول الاستعدادي الكوني ، فيظهر سرّ ذلك التجلّي الكلامي في كلّ مدرك له وسامع حيث ما اقتضاه حكم الإرادة مع انصباغه بحكم حال من ورد عليه ، وما مرّ به من المراتب والأحكام الوقتيّة والموطنيّة وغيرهما ممّا تقرّر من قبل ،

__________________

(١) ب : متعيّن.

(٢) ب : القبول.

٦٨

هذا إن اقتضى الأمر الإلهي مروره على سلسلة الترتيب وما فيه من الحضرات ، وإذا (١) وصل من الوجه الخاصّ الذي لا واسطة فيه ، فلا ينصبغ إلّا بحكم حال من ورد عليه ووقته وموطنه ومقامه لا غير.

والكلام في كلّ مرتبة لا يكون إلّا بتوسّط حجاب بين المخاطب والمخاطب ، كما أخبر سبحانه في كتابه العزيز ، ولذلك الحجاب مرتبة الرسالة بالنسبة إلى من هو محلّ ذلك الحجاب ، (٢) والحجب والوسائط تقلّ وتكثر ، وأقلّها أن يبقى حجاب واحد وهو نسبة المخاطبة بين المخاطبين ، (٣) فالحروف والكلمات المنظومة الظاهرة رسل وحجب للكلمات والحروف الذهنيّة ، والذهنيّة رسل وحجب للحروف المعقولة ، والحروف المعقولة تتضمّن رسالة معنى الكلام الوحداني ، ثم الكلام الوحداني يتضمّن رسالة المتكلّم به من حيث نسبة ما تكلّم به ، ثم المفهوم من المتكلّم به يتضمن مراد المتكلّم من حيث الأمر الخاصّ المفهوم من كلامه ، ثم الاطّلاع على ذلك الأمر الخاصّ يفيد معرفة الباعث على صدور ذلك الكلام من المخاطب ، إلى المخاطب ، وهذا هو سرّ الإرادة الذي (٤) تنتشي منه صفة الكلام من كونه كلاما ، وفوقه مرتبة العلم الذاتي المحيط. وبالغايات وأحكامها يعرف سرّ أوّليات البواعث والمقاصد وعللها وأسرارها ؛ لأنّ الخواتم عين السوابق خفيت بين طرفي البداية والغاية للمزج وتداخل الأحكام وغير ذلك ممّا لا يقتضي الحال ذكره هنا ، وتظهر الغلبة في آخر الأمر للأوّل وسنومئ في آخر الكتاب في فصل «خواتم الفواتح» إلى بعض (٥) أسرار هذا المقام إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ق : إن.

(٢) ب : خطاب.

(٣) ه : هي.

(٤) في بعض النسخ : التي.

(٥) ق : أخصّ.

٦٩

وصل من هذا الأصل

اعلم ، أنّه لا يظهر من الغيب المطلق إلى الشهادة أمر مّا ، سواء كان من الحقائق الأسمائيّة أو الصفاتيّة أو الأعيان الكونيّة المجرّدة إلّا بنسبة الاجتماع التابع لحكم حضرة الجمع المختصّ بالحدّ الفاصل الآتي حديثه. وحكم حضرة الجمع سار بالأحديّة من الغيب في الأشياء كلّها ، معقولها ومحسوسها.

ويتعيّن ذلك الاجتماع من حيث العموم بين الإرادة الكلّيّة الإلهيّة أوّلا ، ثم الطلب والقبول الاستعدادي من الأعيان الممكنة ثانيا ، ومن حيث الخصوص بين نسب الإرادة المطلقة من حيث مرتبة كلّ فرد فرد من أفراد الأسماء والصفات وكلّ عين من الأعيان الممكنة الكامنة قبل ظهور حكم الجمع والتركيب بعضها مع (١) بعض. والظاهرة بواسطتهما (٢) بعضها لبعض ، فافهم.

والمتعيّن والمراد من حيث بعض الأسماء والصفات والمراتب بكلّ اجتماع واقع بين كلّ اجتماع حقيقتين فصاعدا هو ما حدث ظهوره في الوجود الخارجي من الأمور الجزئيّة والصور والتشكّلات والأحوال الشخصيّة ونحو ذلك.

وهكذا الأمر في الكلام الجزئي المركّب من الحروف الإنسانيّة ، لا يحصل الأثر والفائدة إلّا بالمركّب من (٣) حرفين فصاعدا ، أو الاسمين ، أو الاسم مع الفعل ، كما سنلوّح لك بسرّه.

وهكذا العمل بالحروف من جهة الروحانيّة والتصريف لا يحصل الأثر إلّا بحرفين

__________________

(١) ق : عن.

(٢) ق : بوساطتها.

(٣) هذا ينافي ما سيأتي.

٧٠

فصاعدا ، والحرف الواحد عند العلماء به لا يؤثّر ، ومن جوّز تأثير الحرف الواحد كشيخنا وإمامنا رضى عنه الله ، فإنّه اعتبر الحرف المشخّص في الذهن مضافا إلى الحرف الظاهر في اللفظ أو الكتابة ، هذا قوله لي مشافهة رضى عنه الله ، فهما إذا حرفان ، فلم يحصل الأثر بالحرف الواحد أصلا باتّفاق المحقّقين.

وأمّا ما ذكره أهل العربيّة في باب الأثر (١) المعهود في «ش» و «ق» و «ع» (٢) فأجيب عنه بأنّ الأصل حرفان وحصل الاكتفاء بالحرف الواحد عند سقوط أحدهما بسبب الأمر ، رعاية للأصل ، وثقة بفهم السامع مراد المتكلّم ، فالفهم المعتضد بالقرينة أو المعرّف بالأصل ناب مناب الحرف الساقط ، ولو لا ذلك لم يحصل الأثر كما (٣) مرّ بيانه.

والكلام ـ كما قلنا ـ هو تأثير من المتكلّم في المخاطب بقوّة تابعة لإرادته المتعلّقة بإيصال ما في نفسه وإبرازه إلى المخاطب.

وهكذا لأمر في إيجاد الحقّ الأعيان الممكنة التي هي كلماته وحروفه وإظهاره لها من نفسه بالحركة الغيبيّة الحبّيّة المعبّر عنها بالتوجّه الإرادي الظاهر حكمه بواسطة جمع الأعيان بالوجود الواحد الشامل لها ، وتركيبها ؛ ليعرف سبحانه وليظهر حكم صفاته وأسمائه وكماله ، كما ستعلم بيانه (٤) عن قريب إن شاء الله تعالى.

سرّ التركيب الستّة في العربيّة

ثم نبيّن الآن سرّ التراكيب الستّة المختصّة بالكلام ، فنقول :

هذه التراكيب مشهورة عند النحويّين ، وقد اتّفقوا في إفادة تركيبين منها ، واختلفوا في الواحد في بعض الصور ، واتّفقوا في عرو الفائدة من الثلاثة الباقية (٥) :

فالمتّفق عليه : تركيب الاسم مع الاسم ، ومع الفعل. والمختلف فيه في بعض الصور : الاسم مع الحرف في النداء. والعاري من الفائدة هو تركيب الفعل مع الفعل ، ومع الحرف ،

__________________

(١) كذا في الأصل. لعلّه الأمر المعهود.

(٢) هي صيغ الأمر من «وشى يشي» و «وقى يقي» و «وعى يعي».

(٣) ق : لما.

(٤) ق ، ه : نبأه.

(٥) حق العبارة هكذا : في عرو الثلاثة الباقية من الفائدة إلّا أن يكون «عري» بمعنى الخلع والنزع لا الخلوّ.

٧١

وتركيب الحرف مع الحرف. وأنا أظهر أصلها في العلم الإلهي المتكلّم فيه من حيث المرتبة التي وقع التصدّي لكشف بعض أسرارها إن شاء الله تعالى.

اعلم ، أنّ الاسم في التحقيق هو التجلّي المظهر لعين الممكن الثابتة في العلم ، ولكن من حيث تعيّن ذلك التجلّي المنبعث من الغيب المطلق في مرتبة هذه العين التي هي مظهره ومعيّنته ، فالعين الممكنة التي هي المظهر اسم للتجلّي المتعيّن به وفي مرتبته والتجلّي من حيث تعيّنه ، اسم دالّ على الغيب المطلق غير المتعيّن.

والتسمية عبارة عن نفس دلالة الاسم على الأصل الذي تعيّن منه ودلّ عليه ، كما سنزيد في بيان ذلك في قاعدة الأسماء.

والحرف (١) هو عين العين الثابتة من حيث انفرادها ، حتى عن أحكامها وتوابعها.

والفعل هو نسبة التأثير ، وارتباط الحكم الإيجادي الثابت بين الحقّ لا من حيث هو لنفسه بل هو من كونه موجدا ، وبين العين لا من (٢) كونها عينا فحسب ، بل من كونها موجودة للحقّ ، وقابلة حكم (٣) إيجاده وأثره (٤) باستعدادها المقتضي ترجيح إيجادها [دون غيرها من الممكنات التي لم يتعلّق العلم بإيجادها] (٥) في دائرة هذا الظهور المنتقش الحكم في ذات القلم الأعلى ، فافهم ؛ فهنا أمور غامضة جدّا لا يمكن كشفها.

وإذا تقرّر هذا ، فاعلم ، أنّ أوّل التراكيب الستّة المذكورة هو تركيب الاسم مع الاسم ، وهذا هو الاجتماع الأوّل الحاصل بين الأسماء الأوّل وأمّهات الصفات الأصليّة التي من حيث هي اقتضت الذات التوجّه إلى إيجاد الكون وإبرازه من الغيب ، وله النكاح الأوّل المشار إليه عقيب هذا الكلام. ومن جملة تنبيهاتي عليه قولي في غير (٦) موضع : إنّ ظاهر الحقّ مجلى لباطنه وكالمحلّ لنفوذ اقتداره ، فافهم.

والثاني : تركيب الاسم مع العين الثابتة من كونها مظهرا لعين الفعل الذي هو حكم الاسم «الموجد» و «الخالق» ونحوهما ، بصفة القبول والاستعداد المشار إليه.

__________________

(١) ق : الحروف.

(٢) ق : من حيث.

(٣) ق : بحكم ، للمتن.

(٤) ق : أثرها.

(٥) ما بين المعقوفين غير موجود في «ه».

(٦) في الأصل : غير ما موضع.

٧٢

فهذان التركيبان يفيدان ضرورة وهو الواقع في المراتب الوجوديّة ، وباقي التركيبات ـ وهو انضمام عين ممكنة إلى عين من كونها عينا ممكنة فحسب ، وبالنظر إليها لا إلى الاقتضاء العلمي ـ لا يفيد.

وكذلك نسبة معقوليّة التجلّي دون سراية حكم حضرة الجمع الموجب لارتباط الحقّ بالعالم أو معقوليّة معنى الإيجاد أيضا مضافا إلى الممكن دون سريان التجلّي الإلهي من حيث الألوهيّة (١) المثبتة للمناسبة والارتباط ، لا يفيد منه ، أي لا تحصل منه فائدة.

وهكذا أيضا معقوليّة نسبة ارتباط تجلّ بتجل (٢) آخر دون أمر (٣) ثالث يكون مظهرا للفعل وسببا لتعيّن (٤) التجلّي من مطلق غيب الذات ، مغايرا للتجلّي ، ومثبتا للتعدّد لا يفيد.

وهكذا العين الثابتة إذا اعتبرت منضمّة (٥) إليها صفة قبولها للأمر الإيجادي دون اقتران التجلّي الوجودي بها كما مرّ لا ينتج أيضا ولا يفيد ؛ فإنّ التجلّي مع التجلّي دون القابل ، هو كضرب الواحد في نفسه لا ينتج.

وهكذا (٦) أيضا سرّ عدم إنتاج اجتماع العين الممكنة بعين أخرى ، سواء كانت من توابعها كصفة قبولها للتجلّي الإيجادي المتقدّم ذكرها التابعة لها ، أو كانت عينا ممكنة منضمّة إلى عين أخرى متبوعة أيضا ، مستقلّة بنفسها.

وأمّا مسألة النداء فنظيره قول الحقّ وأمره للعين بالتكوين من مراتب الأسماء الجزئيّة ومظاهرها ، فإنّه إن لم يكن سرّ التجلّي الذاتي من حضرة الجمع معقول السريان في ذلك القول لم ينفذ حكمه ، كتقدير قولهم : يا زيد ، إنّما يفيد ؛ لأنّه بمعنى أدعو زيدا ، أو أنادي زيدا ، ومثاله في التحقيق الأمر بالواسطة في عالمنا ، إن لم يقترن معه حكم الإرادة التي هي من الأسماء الذاتيّة ، لم ينفذ. ولذلك يقول الحقّ بلسان الاسم «الهادي» من حيث مقام النبي عليه‌السلام (٧) لبعض الناس : «صلّ» فلا يصلّي ، ولا توجد الصلاة ونحو هذا ، بخلاف ما إذا انضافت إلى العين (٨) المأمورة صفة الاستعداد والقبول للحكم الإيجادي بالتجلّي الذاتي المتعلّق بعين

__________________

(١) ق : الألوهة.

(٢) ه : بتجلّ.

(٣) ق : أمر ما ، ه : أمره.

(٤) ق : تعيين ، ب : تعيّن.

(٥) ه : متضمّنة.

(٦) ق : وهذا.

(٧) ق : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٨) ق : بعض.

٧٣

الصلاة وظهورها في مرتبة المظهر المسمّى بالمصلّي ؛ فإنّه يظهر عين الصلاة لا محالة.

ثم اعلم ، أنّ بين التركيب والجمع والاستحالة التي هي عبارة عن سريان أحكام أجزاء المركّب بعضها في بعض فرقانا في مراتب الصور لا في مراتب الأرواح والمعاني ، أذكره قبل إتمامي بيان سرّ الجمع والتركيب ليعرف ، فأقول :

حكم الاجتماع فحسب هو كاجتماع أشخاص الناس للصورة العسكريّة والصفّ ، والدور للبلد ونحو ذلك.

وحكم الاجتماع والتركيب معا كالخشب واللبن للبيت المبنيّ.

وحكم الاجتماع والتركيب والاستحالة كالأسطقسات للكائنات ؛ فإنّ نفس اجتماعها وتركيبها بالتماس والتلاقي غير كاف لأن تكوّن منها الكائنات ، بل بأن يفعل بعضها في بعض ، وينفعل بعضها عن بعض ويستقرّ للجملة كيفيّة متشابهة هي كمال تلك الحركات الفعليّة والانفعاليّة ، وغايتها تسمّى مزاجا وحينئذ تستعدّ للصورة النوعيّة المتوقّف حصولها على ذلك الاستقرار بتلك الكيفيّة المزاجيّة ، عقيب تلك الحركات الفعليّة والانفعاليّة.

والغرض من إضافة ذكر الاستحالة وحكمها هنا إلى الجمع والتركيب هو التنبيه على أنّها إحدى غايات حكم الجمع والتركيب ، وأنّ قولي (١) آنفا : «المراد من حيث بعض الأسماء والمراتب بكلّ اجتماع بين كلّ حقيقتين فصاعدا هو ما حدث ظهوره في الوجود الخارجي» ليس أنّ ذلك هو الغاية القصوى التي هي متعلّقة الإرادة ، ولذلك قيّدت الأمر (٢) ببعض الأسماء والمراتب ، كما قلت الآن في نتيجة الاستحالة وحكمها : إنّها إحدى الغايات ، بل إنّما أومأت بذلك إلى سرّ التسوية الإلهيّة السارية الحكم في كلّ صورة أو كلّ [ما] مرتبطة به الصورة ، وذلك لتحصيل (٣) الاستعداد الوجودي الجزئي بالتسوية المعبّر عنها في هذا المثال بالاستقرار الحاصل للجملة من حيث الكيفيّة المزاجيّة عقيب الحركات المذكورة في سائر مراتب النكاحات (٤) ومراتب الحركات الثلاثة. ونسبة المزاج إلى كلّ منها بحسبه

__________________

(١) في أوائل هذا الوصل.

(٢) أي المراد.

(٣) ق : ليحصل.

(٤) ق : النكاحات الثلاثة.

٧٤

وهي : معنويّة ، وروحانيّة ، وصوريّة بسيطة ، ومركّبة.

ثم إن كانت المادّة ـ مثلا ـ إنسانيّة ، استعدّت لقبول النفخ الإلهي ، ولسرّ قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (١) كما تحصل التسوية للسالك بالتوجّه الصحيح والتفريغ التامّ وما مرّ ذكره من الشروط ، فيستعدّ لقبول التجلّي الإلهي مثمر ممّا (٢) ذكره وغير ذلك ممّا لم يذكر ، وسنشير إلى غايات الإرادة الكلّيّة الإلهيّة بما ستعرف السرّ فيه ولو على وجه الإجمال ، ثم نرجع إلى إتمام ما قصدنا بيانه.

فنقول : والتركيب إمّا معنوي ، وهو الاجتماع الحاصل للأسماء حال التوجه لإيجاد الكون ، ولهذا نبّهت على أنّ الفرق بين التركيب والجمع يظهر في مراتب الصور لا فيما فوقها من المراتب ، فافهم.

وهذا الاجتماع المذكور هو مبدأ التصنيف والتأليف الربّاني للحروف العلميّة ؛ طلبا لإبراز الكلمات (٣) الأسمائيّة والحقائق الكونيّة ، المعربة عن سرّ ذاته وحكمها بأسمائه وصفاته في موجوداته.

ومادة هذا التأليف والإنشاء النفس الرحماني الذي هو الخزانة الجامعة ، وأمّ الكتاب على ما سيتلى عليك من أنبائه ما ييسّر (٤) الحقّ ذكره. هذا هو حكم التركيب المعنوي الذي هو الاجتماع الأوّل ، والظاهر عنه وبعده.

وإمّا صوري مادّي أو شبيه به ، فالشبيه بالمادّي كتوجّهات الأرواح النوريّة من حيث قواها ، وما سرى فيها من خواصّ الأسماء التي كان اجتماعها سببا لوجود الأرواح وظهور (٥) عالم المثال ومظاهرها المثاليّة.

ثم توجّهات الأرواح من حيث تقيّدها بمظاهرها المثاليّة بحسب صفاتها ، ومن حيث مراتب مظاهرها بقواها والخواصّ الحاصلة لها من المراتب الأسمائيّة لإنتاج الصور العلويّة والأجرام البسيطة بالنسبة.

__________________

(١) المؤمنون (٢٣) الآية ١٤.

(٢) ق ، ه : ما مر. وحق العبارة هكذا : المثمر ممّا ذكر وغير ذلك ...

(٣) ق : كمالات.

(٤) ق : تيسّر.

(٥) في بعض النسخ : لظهور.

٧٥

وهذا هو مرتبة النكاح الثاني ، وما سبق التنبيه عليه هو حكم النكاح الأوّل الغيبي الأسمائي.

والمادّي ما بعد هذين النكاحين المذكورين وهو اجتماع ما سلف ذكره لإنتاج الصور الطبيعيّة المركّبة ، ثم اجتماع الصور المركّبة الطبيعيّة بقواها وسائر ما مرّ حديثه لإظهار صورة الإنسان.

فكلّ أثر وحداني وأصل من حضرة الجمع والوجود بحركة غيبيّة سار بأحديّة الجمع ، فإنّه يوجب للحقائق الظاهر تخصّصها بالتوجّه الإرادي اجتماعا لم يكن من قبل.

فكلّ اجتماع على هذا الوجه تركيب ، ولكلّ تركيب صورة ـ و (١) هي نتيجة ذلك التركيب ـ ولكلّ صورة حكم تنفرد به وحكم تشترك فيه مع غيرها.

والتركيبات من الحروف الإلهيّة العامّة الشاملة الحكم ، ومن الحروف الإنسانيّة الخاصّة في كلّ مرتبة من مراتب المخارج ، ومراتب العالم الكبير التي (٢) هي مخارج صورة الحضرة الإلهيّة لا تتناهى ، فنتائجها المسمّاة صورا وكلمات لا تتناهى.

وهكذا الأحكام اللازمة لها ، كالأسماء والصفات ، والخواصّ والكيفيّات ونحوها ، ولذلك لا تنفد الكلمات الإلهيّة والكونيّة ؛ لعدم تناهي الممكنات المنبّه على حكمها ، وعدم تناهي أنواع الاجتماعات والتراكيب ، فافهم.

وإنّما يتناهى أصولها وكليّاتها ، فكلّ مدرك من الصور (٣) ـ بأيّ نوع كان من أنواع المدارك والتصوّرات الإنسانيّة وسواء كان ذلك في مراتب وجود الإنسان ، أو فيما خرج عنه باعتبار ـ فليس إلّا نسبة اجتماعيّة في مرتبة مّا أو مراتب على اختلاف أنواع الاجتماعات وصنوفها ومراتبها التفصيليّة والكلّيّة المذكورة.

فالتركيب الجمعي يحدث عين الصورة التي قصد المركّب والجامع إظهارها بالجمع و (٤) التركيب الذي هو شرط في ظهور عين ذلك المركّب ، فمتعلّق الحدوث و (٥) التركيب

__________________

(١) ق : لم يرد.

(٢) ق : الذي.

(٣) في بعض النسخ : الصوري.

(٤) ق ، ه : أو.

(٥) ق : هو التركيب ، ب : هو التراكيب.

٧٦

والجمع والظهور [تلك الصور] لا الأعيان المجرّدة والحقائق الكلّيّة التي هي أصول المركّبات والمجتمعات في سائر مراتب الجمع والتركيب ، وموادّ عين الجمع (١) والمركّب.

وليس للجمع (٢) والتركيب ـ إذا تدبّرت ما نبّهت عليه ـ غير نسبة انضمام الحقائق المجرّدة بعضها إلى بعض بحركة منبعثة عن قصد خاصّ من الجامع المركّب ، فيحرّك أو يتحرّك لإبراز عين الصورة الوجوديّة أو الكلمة المراد ظهورها في النفس ، فتصير الكلمة مشهودة بواسطة النسبة الانضماميّة (٣) بعد أن كانت غيبا.

وهكذا الشيء الظاهر (٤) بالإيجاد الإلهي في أيّ مرتبة ظهر من المراتب الوجوديّة حسب المشيئة والاستعداد ، فحدث ـ كما قلنا ـ التركيب الجمعي والإدراك والشهود والاجتماع بالحركة والقصد ، وظهر الحكم الساري اللازم لسائر ما ذكر في كلّ ما ظهر ، وكلّ ذلك نسب لا أعيان موجودة.

فمتعلّق الشهود هو المركّب من البسائط ، مع أنّه ليس بشيء زائد على بسائطه (٥) إلّا نسبة جمعها المظهرة الأمر الكامن فيها الذي لو لا الاجتماع على النحو المقصود لم يعلم ولم يظهر عينه.

فالبساطة حجابك ، وبالتركيب الذي هو ستر على الحقائق يرتفع ذلك الحجاب مع عدم تجدّد أمر وجودي ، هذا هو العجب العجاب.

وإنّما الأمر عبارة عن نسبة جمع وانضمام أحدث في المجتمع حكما لم يكن يعرف ذلك له قبل الاجتماع كالأسماء والصفات وغيرها ممّا ظهر وتعلّق به الإدراك بواسطة التركيب.

ولهذا كان الكتاب مشتقّا من الكتيبة (٦) وهو اجتماع (٧) الصورة (٨) العسكريّة اعتبارا لانضمام الحروف والكلمات بعضها إلى بعض ، وذلك الانضمام مستلزم انضمام المعاني الغيبيّة المجرّدة بطريق التبعيّة ، كتحيّز الأعراض بتبعيّة الجواهر ؛ لأنّها (٩) إذا فرضت مجرّدة

__________________

(١) كذا في الأصل. و «المجتمع» أنسب.

(٢) ق ، ه : الجمع.

(٣) ق : الاجتماعية.

(٤) ب : المظاهر.

(٥) ب : بساطته.

(٦) ب : الكتب.

(٧) ق : الجمع وكذلك الكتيبة.

(٨) ه : صورة.

(٩) ق : لا انّها.

٧٧

يكون التحيّز من صفاتها.

ثم هذا الانضمام يتبعه حكمان مختلفان : النظم والاتّصال المسمّى بالجمع والتركيب ، والآخر الفصل والتمييز. ويتبع ذلك أمران : التبديل ، والتشكيل.

فأمّا النظم فهو المعبّر عنه بالانضمام والجمع والتركيب ونحو ذلك وقد بيّنّا حكمه.

وأمّا الفصل فهو كون أحكام المعاني والحقائق متداخلة ، وبعضها مرتبطا بالبعض ، من حيث المناسبة والتبعيّة.

فلسان العلم بالأدوات المعرّفة والشارحة تعيّن الأحكام وتضيفها إلى أصولها ؛ فيرتفع الالتباس الحاصل بحكم الوجود الواحد الذي عمّها وجمعها بالتمييز ، فيعلم المتعلّم [أنّ] هذا الحكم ـ مثلا ـ إلى أيّة حقيقة يستند من الحقائق ، فينسبه إليها عن يقين (١) دون مزج ، فيصير كلّ معنى مضافا إلى أصله ، وكلّ أصل ممتازا بنفسه وما يتبعه ـ من الأحكام المختصة به ـ عمّا سواه ، وهذا من أكبر فوائد مقام الحضور بعد العلم الصحيح لمن يعلم ما أدرجت في هذا الفصل وما قبله من الأسرار.

ثم نقول : ومتعلّق التبديل الواقع في الوجود بالاجتماع والاقتران والتحليل والتركيب والتعيّنات الظاهرة وأنواع التشكّلات هو الصور والأشكال الجزئيّة التي هي أحكام الحقائق والأشكال المعقولة الكلّيّة المجرّدة.

فإنّ الأشكال الجزئية والتشخّصات المتعيّنة في الشهادة مظاهر أحكام الأشكال الكلّيّة الغيبيّة ، والحقائق البسيطة والكيفيّات المدركة التي هي أحوال للأمر المتشكّل من حيث هو متشكّل في مرتبة مرتبة ، وعين وعين ، والحقائق مشتركة في التجرّد والجوهريّة والصفة العينيّة ، متماثلة ومتّحدة (٢) من حيث الوجود العام المشترك بينها ، ومن حيث السرّ الغيبي الإلهي الذي لا تعدّد لشيء فيه ، والاختلاف ظهر بالصور والأشكال الظاهرة فالمسمّاة حدودا ذاتيّة (٣) للصور والأشكال لا للمتصوّر والمتشكّل ، ولكن لا يشهد هذا المتشكّل عيانا إلّا بالشكل (٤) فيظنّ من لا يعرف أنّ المحدود هو المتشكّل من حيث ذاته ، إنّما هو الشكل إلّا

__________________

(١) ب : تعيّن.

(٢) ق : متّحدة ومتماثلة.

(٣) ه : ذاتية إنّما هي ذاتية.

(٤) ق : بالتشكل.

٧٨

أنّه يتعذّر معاينته إلّا بالمتشكّل كما أنّ المتشكّل يتعذّر إدراكه إلّا بواسطة الشكل.

وكذا يغلط من يعرف من حقائق الأشياء أعراضها وصفاتها ، ويظنّ أنّه قد عرف الصفة من حيث حقيقتها ، وهو لم يعرفها إلّا من حيث كونها صفة لموصوف مّا ، كما سبق التنبيه عليه ، وكما قلنا آنفا في الكيفيّات المدركة : إنّها أحوال للأمر المتشكّل من حيث هو متشكّل لا مطلقا ، فافهم.

وهذه المعرفة متعلّقها النسب لا الحقائق ، وصاحبها إنّما عرف نسب الحقائق بقيود سلبيّة أو إضافيّة ، و (١) لم يعرف كنهها ؛ إذ معرفة كنه الحقائق لا تحصل إلّا بالطريق المذكور من قبل ، المختصّ بذوق الأكابر ـ رضي الله عنهم ـ

ثم نقول : فأجزاء حدّ كلّ شيء بسيط ليست أجزاء لحقيقته ، بل لحدّه فحسب ، وهو شيء يفرضه العقل في المرتبة الذهنيّة ، فأمّا هو في ذاته فغير معلوم من حيث هو هو ، حتى تنتفي (٢) عنه الأجزاء نفيا حقيقيّا ، أو تثبت (٣) له ، ولهذا السرّ وما سبق بيانه في أوّل الكتاب تعذّرت معرفة حقائق الأشياء من حيث إطلاقها وبساطتها في حضرة الغيب الإلهي الذي هو معدنها الأعلى ، الوجه المنبّه عليه في سرّ العلم من قبل.

فالمتشكّل في ضرب المثل إذا اعتبر مجرّدا عن الشكل (٤) يكون في حضرة العلم الإلهي الغيبي ، فلا يتعيّن لنا ؛ لما بيّنّا ولا يمتاز ، فلا (٥) ينضبط في تصوّر ، ولا يتأتّى تعريفه وتحديده وتسميته والتعبير عنه ؛ لعدم تحقيق (٦) معرفته إلّا على وجه مجمل ، وهو أنّ ثمّة شيئا وراء هذا الشكل من شأنه أنّه متى اعتبر مجرّدا عن الصور والصفات والاعتبارات المعيّنة له والأشكال ، لا ينضبط في تصوّر ، ولا يمكن تعقّله على التعيين وشهوده ، فلا بدّ من أمر يظهر به الشكل الذي تقيّد به الأمر الموصوف بالتشكّل ، حتى تأتّى إدراك كلّ منهما ـ أعني الشكل (٧) والمتشكّل ـ من حيث ذلك الأمر وهو نسبة الجمع.

وأمّا اعتبار الشيء مجرّدا عن الشكل (٨) وحكم التشكّل كما قلنا ـ فيتعذّر معرفة حقيقته

__________________

(١) ق : لم يرد.

(٢) ق : ينقى.

(٣) ب : ثبت.

(٤) ق : التشكّل.

(٥) ق : ولا.

(٦) ق : تحقّق.

(٧) ق : التشكّل.

(٨) ق : التشكّل.

٧٩

إن كانت له حقيقة يمتاز بها لذاته لا بتوسّط اعتبار وتميّز وتعيّن متعقّل ومظهر معرّف ، فافهم وتدبّر ما نبّهت عليه ، وتنزّه فيما ينفتح (١) لك من التفاصيل ، والله وليّ الإرشاد والهداية.

قاعدة كلّيّة

تتضمّن سرّ الحروف والكلمات والنقط والإعراب والوجود والإمكان والممكنات وما يختصّ بها من المراتب ، وما تدلّ عليه وتستند إليه ، وسرّ كون العالم كتابا مسطورا في رقّ منشور ، وغير ذلك.

اعلم ، أنّ الوجود المنبسط هو النور ، وقد نبّهت على حكمه حين الكلام على سرّ العلم ، وهو الرقّ المنشور ، والانبساط المعبّر عنه بالنشر وقع على حقائق الممكنات.

فكلّ حقيقة على انفرادها من حيث ثبوتها وتميّزها في علم الحقّ تكون حرفا غيبيّا ـ كما أشرت إليه في سرّ التراكيب الستّة ـ ومن حيث إنّ الحقائق : منها تابعة ، ومنها متبوعة ، والتابعة أحوال للمتبوعة وصفات ولوازم ، كانت المتبوعة باعتبار انضياف أحوالها إليها وتبعيّتها لها حال تعقّلها (٢) خالية عن الوجود كلمة غيبيّة ، وباعتبار تعقّل الماهيّة المتبوعة منصبغة بالوجود ، مفردة عن لوازمها المتأخّر وجودها عن وجود الماهيّة المتبوعة تكون حرفا وجوديّا ، وباعتبار تعقّلها (٣) ـ أعني الماهيّة المتبوعة ـ منضمّة إليها لوازمها التابعة حال اتّصافها بالوجود كلمة وجوديّة.

والآيات من هذه الكلمات الوجوديّة ما يتضمّن معنى الدلالة على حقيقة صفة خاصّة أو حالة معيّنة أو نوع مّا مخصوص من أنواع اللوازم المضافة إلى أصل كلّي أو جنس معيّن بصورة هيئة من الهيئات الاجتماعيّة الواقعة بين الكلمتين فصاعدا ، معربة عن جملة من المعاني المفهومة ، المدركة بواسطة تلك الهيئة.

والسور منها ما يتضمّن بيان أحكام مرتبة مّا من المراتب أو صفة كلّيّة أو حالة كلّيّة تستلزم صفات شتّى أو أحوالا متعدّدة مختلفة.

__________________

(١) ه : يتفتّح.

(٢) ق : تعلّقها.

(٣) ق : تعلّقها.

٨٠