إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

صفة (١) التعيين ، وتطهّر (٢) عن سائر التعلّقات (٣) بالكلّيّة حتى عن التوجّه إلى الحقّ باعتقاد خاصّ ، أو الالتجاء إليه من حيث اسم مخصوص ، أو مرتبة وحضرة معيّنة ، فإنّ التجلّي حينئذ يظهر بحسب أحديّة الجمع الذاتي ، فتشرق شمس الذات على مرآة حقيقة القلب من حيث أحديّة جمع القلب أيضا وهي الصفة التي صحّ بها للقلب الإنساني مقام المضاهاة وأن يتّسع لانطباع التجلّي الذاتي الذي ضاق عنه العالم الأعلى والعالم الأسفل بما اشتملا عليه ، كما ورد به الإخبار (٤) الإلهي بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقيّ النقيّ» (٥) وأن يكون مستوى له وظاهرا بصورته ، ثم تتبحّر (٦) ساحة القلب بالاستواء الإلهي ، وتتفرّع جداوله بعد التبحّر (٧) والتوحّد (٨) بحسب نسب الأسماء علوا في مراتب صفاته الروحانيّة ، وسفلا في مراتب قواه الطبيعيّة (٩) ، وتحرق حينئذ أشعّة شمس الذات ، المسمّاة بالسبحات متعلّقات مدارك البصر ، وتقوم القيامة المختصّة به ، فيقول (١٠) لسان الاسم «الحقّ» : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (١١) فإذا لم يبق نسبة كونيّة يظهر لها حكم وعين ودعوى ، أجاب الحقّ نفسه بنفسه ، فقال : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) فإنّه قهر بالحكم الآخر من تجلّيه الأوّل المستجنّ فيمن حاله ما ذكرناه (١٢) آنفا أحكام الأكوان ودعاوي الأغيار المزاحمين لمقام الربوبيّة ، والمنازعين لأحديّته بإخفاء كثرتهم وحكمها.

فإذا استهلكوا تحت قهر الأحديّة وصاروا كأنّهم (١٣) أعجاز نخل خاوية ، ولم تر لهم من باقية ، ظهر سرّ الاستواء الإلهي الجمعى الكمالي ، على هذا القلب الإنساني ، فينطق لسان مرتبة المستوي بنحو ما نطق عقيب الاستواء الرحماني فيقول : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) وهي مرتبة العلوّ من صفات الإنسان المذكور الذي هو مستوى (١٤) الاسم «الله» وصاحب مرتبة

__________________

(١) ق ، ه : صفة على التعيين.

(٢) ق : تظهر.

(٣) ق : العلائق.

(٤) ب : وردت الأخبار.

(٥) إحياء علوم الدين ، ج ٣ ، ص ١٢.

(٦) ق : تتبخّر.

(٧) ق : التبخّر.

(٨) ب : التوحيد.

(٩) ق : الطبيعة.

(١٠) ق : فنقول.

(١١). غافر (٤٠) الآية ١٦.

(١٢). ق : ذكره.

(١٣). ه. ق : كأنّها.

(١٤). ق : مستولى.

٤١

المضاهاة كما بيّن (وَما فِي الْأَرْضِ) وهو مرتبة سفله وطبيعته من حيث الاعتبار أيضا وما بينهما وهو مرتبة جمعه (وَما تَحْتَ الثَّرى) وهو نتائج أحكام طبيعته التي سفل (١) عن مرتبة الطبيعة من كونها منفعلة عنها ؛ إذ رتبة المنفعل تحت مرتبة الفاعل من كونه فاعلا وتمّ الأمر وحينئذ يظهر قرب الفرائض المقابل لقرب النوافل المشار إليهما في الحديثين المشهورين ب «كنت سمعه وبصره» وبقوله : «إنّ الله قال على لسان عبده : سمع الله لمن حمده» ثم يقول لسان (٢) مرتبة الاسم «الله» : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٣) لانقلاب كلّ صفة وقوّة من صفات العبد وقواه اسما من أسماء الحقّ ويبقى العبد مستورا خلف حجاب غيب ربّه فينشد لسان حاله حقيقة لا مجازا ، شعر :

تستّرت عن دهري بظلّ جناحه (٤)

فعيني ترى دهري وليس يراني

فلو تسأل الأيّام ما اسمي؟ ما درت

وأين مكاني؟ ما درين مكاني

لأنّه تنزّه عن الكيف والأين ، وحصل في العين ، واحتجب (٥) من حيث مرتبته (٦) عن عقل كلّ كون وعين ، في مقام العزّة والصون.

ثم يتلى عليه من تلك الإشارات بلسان الحال (٧) قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) (٨) وهي الأحكام الكونيّة المظهرة حكم الكثرة من حيث ظهورها بهذا الإنسان ونسبة الفعل فيها إليه (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٩) بأحديّة الجمع الإلهي كما مرّ ذكره ، (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، وهم أهل الستر الإلهي الغيبي المشار إليه : ب (يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (١٠) وأيّ مقيل ومستقرّ خير وأحسن من الثبوت في غيب الذات وستره والتحرّز من عبوديّة (١١) الأكوان والأغيار ، وقيام الحقّ عنه بكلّ ما يريده سبحانه منه؟ ثم قال : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) (١٢) فالسماء بلسان المقام المشار إليه لمرتبة العلوّ لا محالة ، والعلوّ في

__________________

(١) ق : تسفل.

(٢) ق : بلسان.

(٣) طه (٢٠) الآية ٨.

(٤) ق : جنابه.

(٥) ق : فاحتجب.

(٦) ه : مرتبة.

(٧) ق : الجمال.

(٨) الفرقان (٢٥) الآيات ٢٣ ـ ٢٥.

(٩) الفرقان (٢٥) الآية ٢٣.

(١٠) الفرقان (٢٥) الآية ٢٤.

(١١). ق : التجرد من عبوديته.

(١٢). الفرقان (٢٥) الآيات ٢٣ ـ ٢٥.

٤٢

الحقيقة للمراتب المحكمة (١) بالتأثير في سائر الموجودات الأثر مخصوص بها ، وعلوّ درجة المؤثّر على درجة المؤثّر فيه معلوم.

فالغمام هو الحكم العمائيّ المنبّه عليه في التعريفات النبويّة والإلهيّة وقد أشرت إلى أنّه النفس الرحماني وحضرة الجمع ، وأنّه النور الكاشف للموجودات والمحيط بها والمظهر بفتحه ، وانشقاقه تميّزها العلمي (٢) الأزلي ، ولذلك أخبر سبحانه عن نفسه ، وحكم في آخر الأمر يوم القيامة بقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) (٣) الآية. فيفصّل بين الأمور ، ويميّز الخبيث من الطيّب ، فظهر في الخاتمة سرّ السابقة الأولى ، وتمّت المضاهاة المظهرة حكم الأمر الجامع بين الأوّل والآخر (٤) ، والظاهر والباطن ، فافهم.

لا حلول ولا اتّحاد

ثم نقول : ولا شكّ أنّ مرتبة هذا العبد المشار إليه وأمثاله من جملة المراتب الداخلة تحت الحيطة العمائيّة المذكورة ، فيظهر بما قلنا تميّز مرتبته من حيث نسبته العدميّة وظلمته الإمكانيّة ، من مرتبة موجده برجوع الحكم الوجودي المستعار إلى الحقّ الذي هو الوجود البحت والنور الخالص (٥) (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) التي هي مظاهر الأسماء حاملة للرسالات الذاتيّة في المنازل التي لها في مقام هذا العبد الجامع الحائز من حيث كونه نسخة ومرآة تامّة صورة حضرة ربّه حين تقديس ربّه إيّاه عن الظلمات البشريّة والأحكام الكونيّة.

فإذا استقرّت الأسماء في المنازل المذكورة ، ـ وذلك بانقلاب صفاته وقواه أسماء وصفات إلهيّة كما اومأت إليه ـ ترتّب حينئذ حكم الآية التي تلي هذه الآيات وهي قوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ) (٦) الساترين ـ كما قلنا ـ بكثرتهم أحكام الأحديّة (عَسِيراً) فإنّه يعسر على الشيء ذهاب عينه ، ويعسر على السالك صاحب هذا الحال قبل التحقّق بالمقام المذكور الانسلاخ والتخلّي ممّا (٧) قلناه أشدّ العسر و

__________________

(١) ق : المتحكّمة.

(٢) ق ، ه : العلمي الغيبي.

(٣) البقرة (٢) الآية ٢١٠.

(٤) ق ، ه : الآخر والباطن.

(٥) ق : الخاص.

(٦) الفرقان (٢٥) الآية ٢٦.

(٧) ق : ما.

٤٣

[يصعب] التحقّق والتحلّي (١) بما وصفنا أشدّ الصعوبة ولكن «عند الصباح يحمد القوم السّرى» جعلنا الله وسائر الإخوان من أهل هذا المقام العليّ وأرباب هذا الحال السنيّ.

علم الله حقيقة وعلم العبد مجاز

ثم نقول : فإذا انتهى السالك إلى هذا المقام المستور ، وتحقّق بما شرحناه من الأمور ، ورأى بعين ربّه ربّه ، وتحقّق بعكس ذلك أيضا ، أضيف العلم والمعرفة إليه من حيث ربّه لا من حيث هو ولا بحسبه ، وكذا سائر الصفات.

ثم يعلم (٢) على هذا الوجه نفسه أيضا التي هي أقرب الأشياء الكونيّة نسبة إليه ولكن بعد التحقّق بمعرفة الربّ على النحو المشار إليه.

ثم يعلم ما شاء الحقّ أن يعلمه به من الأسماء والحقائق المجرّدة الكلّيّة ، بصفة وحدانيّة جامعة كلّيّة نزيهة البتّة (٣) ، فيكون علمه بحقائق الأشياء وإدراكه لها في مرتبة كلّيّتها حاصلا بالصفة الوحدانيّة الجامعة الإلهيّة ، الحاصلة لدى التجلّي المذكور الصابغ له ، والمذهب بأحديته حكم كثرته الكونيّة الإمكانيّة ، وحكم أحديّاته المنبّه عليها من قبل ، عند الكلام على سرّ الأثر والمناسبة ، فتذكّر.

ثم يدرك أحكام تلك الحقائق وخواصّها وأعراضها ولوازمها بأحكام هذا التجلّي الأحدي الجمعي ، والصفة الكلّيّة المذكورة التي تهيّأ بها للتلبّس بحكم هذا التجلّي الذاتي ، والنور الغيبي العلمي المشار إليه.

سرّ الاستفاضة من العلم اللدنّيّ

وسرّ ذلك وصورته : أنّ الإنسان برزخ بين الحضرة الإلهيّة والكونيّة ، ونسخة جامعة لهما و (٤) لما اشتملتا عليه كما ذكر (٥) ، فليس شيء من الأشياء إلّا وهو مرتسم في مرتبته التي هي عبارة عن جمعيّته. والمتعيّن بما اشتملت عليه نسخة وجوده ، وحوتها مرتبته

__________________

(١) ق : التجلّي.

(٢) ب : يعرف.

(٣) ب : بهيّة إليه.

(٤) ق ، ه : لم يرد.

(٥) ق : ذكره ، ب : ذكرنا.

٤٤

في كلّ وقت وحال ونشأة وموطن إنّما هو ما يستدعيه حكم المناسبة التي بينه وبين ذلك الحال والوقت والنشأة والموطن وأهله ، كما هو سنّة الحقّ من حيث نسبة تعلّقه بالعالم وتعلّق العالم به وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ، فما لم يتخلّص الإنسان من ربقة قيود الصفات الجزئيّة والأحكام الكونيّة ، يكون إدراكه مقيّدا بحسب الصفة الجزئيّة الحاكمة عليه على الوجه المذكور ، فلا يدرك بها إلّا ما يقابلها من أمثالها ، وما تحت حيطتها لا غير.

فإذا تجرّد من أحكام القيود والميول (١) والمجاذبات الانحرافيّة الأطرافيّة الجزئيّة ، وانتهى إلى هذا المقام الجمعي الوسطي المشار إليه ، الذي هو نقطة المسامتة الكلّيّة ، ومركز الدائرة (٢) الجامعة لمراتب الاعتدالات كلّها ، المعنويّة والروحانيّة ، والمثاليّة والحسّيّة ، المشار إليه آنفا ، واتّصف بالحال الذي شرحته ، قام للحضرتين (٣) في مقام محاذاته المعنويّة البرزخيّة ، فواجههما (٤) بذاته كحال النقطة مع كلّ جزء من أجزاء المحيط ، وقابل كلّ حقيقة من الحقائق الإلهيّة والكونيّة بما فيه منه من كونه نسخة من جملتها ، فأدرك بكلّ فرد من أفراد نسخة وجوده ما يقابلها من الحقائق في الحضرتين ، فحصل له العلم المحقّق بحقائق الأشياء وأصولها ومبادئها ؛ لإدراكه لها (٥) في مقام تجريدها ، ثم يدركها من حيث جملتها وجمعيّتها بجملته وجمعيّته ، فلم يختلف عليه أمر ، ولم ينتقض عليه حال ولا حكم بخلاف من بيّن حاله من قبل ، ولو لا القيود الآتي ذكرها ، لاستمرّ حكم هذا الشهود ، وظهرت آثاره على المشاهد ، ولكنّ الجمعيّة التامّة الكماليّة تمنع من ذلك ، لأنّها تقتضي الاستيعاب المستلزم للظهور بكلّ وصف ، والتلبّس بكلّ حال وحكم. والثبات على هذه الحالة الخاصّة المذكورة ـ وإن جلّ ـ يقدح فيما ذكرنا من الحيطة الكماليّة والاستيعاب الذي ظهر به الحقّ من حيث هذه الصورة العامّة الوجوديّة التامّة ، التي هي الميزان الأتمّ ، والمظهر الأكمل الأشمل الأعمّ.

ثم نقول : ومن نتائج هذا الذوق الشامل ، والكشف الكامل الاستشراف على غايات

__________________

(١) ق : الميال.

(٢) ق : الدائرة الكبرى.

(٣) ب : الحضرتين.

(٤) ب : فواجهها.

(٥) ب : لإدراكها.

٤٥

المدارك الفكريّة (١) ، والاطّلاعات النظريّة وغير النظريّة ، التي لا تتعدّى العوارض والصفات والخواصّ واللوازم ، كما سبق التنبيه عليه.

فيعرف صاحبه غاية ما أدرك كلّ مفكّر بفكره ، واطّلع عليه بحسّه ونظره ؛ ويعرف سبب تخطئة الناظرين بعضهم بعضا ، وما الذي أدركوه وما فاتهم ، ومن أيّ وجه أصابوا؟ ومن أيّة [جهة] أخطئوا؟ وهكذا حاله مع أهل الأذواق ـ الذين (٢) لم يتحقّقوا بالذوق الجامع ـ وغير هم من أهل الاعتقادات الظنّيّة والتقليديّة ؛ فإنّه يعرف مراتب الذائقين والمقلّد وما [هو] الحاكم عليهم من الأسماء والأحوال والمقامات ، الذي أوجب لهم تعشّقهم وتقيّدهم بما هم فيه ، ومن له أهليّة الترقّي من ذلك ، ومن ليس له ، فيقيم أعذار الخلائق أجمعين ، وهم له منكرون ، وبمكانته جاهلون.

فهذا يا إخواني حال المتمكّنين من أهل الله في علمهم الموهوب ، وكشفهم التامّ المطلوب ، ولا تظنّوها الغاية التامّة فما (٣) من طامّة إلّا فوقها طامّة ، ولهذا التحقّق والاستشراف لم يقع بين الرسل والأنبياء والكمّل من الأولياء خلاف في أصول مأخذهم ونتائجها وما بيّنوه من أحكام الحضرات الأصليّة الإلهيّة ، وإن تفاضلوا في الاطّلاع والبيان.

وما نقل من الخلاف عنهم فإنّما ذلك في جزئيّات الأمور والأحكام الإلهيّة المشروعة ؛ لكونها تابعة لأحوال المكلّفين وأزمانهم ، وما تواطؤوا عليه وما اقتضته (٤) مصالحهم.

فتتعيّن (٥) الأحكام الإلهيّة في كلّ زمان بواسطة رسول ذلك الزمان بما هو الأنفع لأهله حسب ما يستدعيه استعدادهم وحالهم وأهليّتهم وموطنهم.

وأمّا هم فيما بينهم بعضهم مع بعض عليهم‌السلام فيما (٦) يخبرون به عن الحقّ ممّا عدا الأحكام الجزئيّة المشار إليه فمتّفقون ، وكلّ تال يقرّر قول من تقدّمه ، ويصدّقه ؛ لاتّحاد أصل مأخذهم وصفاء محلّهم حال التلقّي من الحقّ عن أحكام العلوم المكتسبة والعقائد

__________________

(١) ق : الذكرية.

(٢) ح. س : الذين لم يتحقّق ، ق : لم يتحقّقوا.

(٣) ب : وأمن.

(٤) ق : اقبضته.

(٥) ب : فتعيّن.

(٦) ه : ما.

٤٦

والتعلّقات وغير (١) ذلك ممّا سبق التنبيه عليه.

وهكذا أكابر الأولياء ـ رضي الله عنهم ـ لا يتصوّر بينهم خلاف في أصل إلهي أصلا ، وإنّما يقع ذلك ـ كما قلنا (٢) ـ في أمور جزئيّة ، أو بين المتوسّطين وأهل البداية من أهل الأحوال وأصحاب المكاشفات الظاهرة ، الذين يبرز لهم الحقائق والحضرات وغيرهما ممّا لا يدرك إلّا كشفا في ملابس مثاليّة.

فإنّ هذا النوع من الكشف لا يتحقّق بمعرفته ومعرفة مراد الحقّ منه إلّا بعلم حاصل من الكشف المعنوي الغيبي المعتلي عن مراتب المثل والموادّ ، وإخبار (٣) إلهي برفع الوسائط ، معتل (٤) عن (٥) الحضرات القيديّة (٦) والأحكام الكونيّة.

ومن هذا الذوق يعلم أيضا سرّ الكلام والكتابة (٧) الإلهيّين ، وحكمهما في القلوب بصفة العلم والإيمان ، وحقيقة قرب الفرائض والنوافل وثمراتهما ، وسرّ خروج العبد من حكم القيود الكونيّة والتقيّدات الأسمائيّة والصفاتيّة إلى فسيح حضرات (٨) القدس ، وتحقّقه بمعرفة الأشياء كما سبقت الإشارة إليه.

ولهذا الذوق والمقام المثمر له ، فوائد عزيزة وثمرات جليلة ، ولا نحتاج (٩) في هذا الموضع إلى التنبيه على غير ما أشرنا إليه ، ممّا استدعاه السرّ العلمي الذي جاء هذا الكلام شارحا بعض أحكامه في بعض مراتبه ، وأذكر (١٠) من نفائس أسرار هذا المقام وتتمّاته عند الكلام على قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١١) ما تستدعيه الآية ، وحسب ما يقدّر الحقّ ذكره إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ق : نحو.

(٢) ق : قلت.

(٣) ق : أو الأخبار.

(٤) ه : معتلى.

(٥) ق : على.

(٦) ق : التقيدية.

(٧) ق : حضرة.

(٨) ق : حضرة.

(٩) لا يحتاج ، ه : لا نحتاج.

(١٠) ق : سأذكر ، ه : ذكر.

(١١). الفاتحة (١) الآية ٦.

٤٧

وصل

لا بدّ قبل الخوض في تفصيل بقيّة قواعد هذا التمهيد الكلّي من التنبيه على ألفاظ يسيرة يتكرّر ذكرها في هذا الكتاب ، وسيّما فيما بعد ، ربما توجب شغبا واشتباها على من لا معرفة له باصطلاح أهل الذوق ، فإذا نبّه عليها لم تعتص عليه معرفة المقصود منها ، واستغنى أيضا عن تكرار جميعها بذكر أحدها حين الكلام على المرتبة التي هي أصلها. اللهمّ إلّا أن يكون في الأمر المتكلّم فيه مزيد غموض ، فإنّي أتحرّى الإيضاح بذكر النعوت ؛ خوفا من نسيان المتأمّل ما سبق التنبيه عليه.

١. الغيب المطلق

فاعلم أنّي متى ذكرت الغيب المطلق في هذا الكتاب فهو إشارة إلى ذات الحقّ سبحانه وتعالى وهويّته من حيث بطونه وإطلاقه وعدم الإحاطة بكنهه وتقدّمه على الأشياء وإحاطته بها ، وهو بعينه النور المحض والوجود البحت ، والمنعوت بمقام العزّة والغنى.

٢. البرزخ الأوّل

ومتى ذكرت البرزخ الأوّل ، وحضرة الأسماء والحدّ الفاصل ، ومقام الإنسان الكامل من حيث هو إنسان كامل ، وحضرة أحديّة الجمع والوجود ، وأوّل مراتب التعيّن ، وصاحبة الأحديّة ، وآخر مرتبة الغيب ، وأوّل مرتبة الشهادة بالنسبة إلى الغيب المطلق ومحلّ نفوذ الاقتدار ، فهو إشارة الى العماء الذي هو النفس الرحماني ، وهو بعينه الغيب الإضافي الأوّل بالنسبة إلى معقوليّة الهويّة التي لها الغيب المطلق ، فإن أطلقت ولم أنعت ، أو قلت : الغيب

٤٨

الإلهي ، فإنّي أريد الغيب المطلق.

٣. ومتى أضفت شيئا إلى الطبيعة ، فقلت : الطبيعي ، فالمراد : كلّ ما للطبيعة فيه حكم ، والطبيعة عندنا عبارة عن الحقيقة الجامعة للحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والحاكمة على هذه الكيفيّات الأربع. والعنصري : ما كان متولّدا من الأركان الأربعة : النار ، والهواء ، والماء ، والتراب ، والسماوات السبع وما فيها عند أهل الذوق من العناصر ، فاستحضر ما نبّهت عليه ، وما سوى هذا الغيب والنفس من المراتب فإنّي أعرّفها عند ذكري لها بما يعلم منه المقصود.

وها أنا أوضّح الآن ما تبقى من أسرار العلم المحقّق ومراتبه والكلام ، ثم أذكر القواعد الكلّيّة التي تضمّنها هذا التمهيد ، وبدء الأمر الإيجادي وسرّه ، ثم يقع الشروع في الكلام على أسرار : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١) ثم أذكر المفاتيح المتضمّنة (٢) سرّ ما حوته الفاتحة ، والوجود الذي هو الكتاب الكبير على سبيل التنبيه الإجمالي ، وحينئذ أشرع في الكلام على الفاتحة آية بعد آية إن شاء الله تعالى.

أسرار علم التحقيق

وإذا تقرّر هذا ، فاعلم أنّ العلم حقيقة مجرّدة كلّيّة ، لها نسب وخواصّ وأحكام وعوارض ولوازم ومراتب وهو من الأسماء الذاتيّة الإلهيّة ، ولا يمتاز عن الغيب المطلق إلّا بتعيّن (٣) مرتبته من حيث تسميته علما ، وموصوفيّته بأنّه كاشف للأمور ومظهر لها ، والغيب المطلق لا يتعيّن له مرتبة ولا اسم ولا نعت ولا صفة ولا غير ذلك إلّا بحسب المظاهر والمراتب ، كما سنشير إليه.

لا يجوز تعريف العلم

والعلم هو عين النور لا يدرك شيء إلّا به ولا يوجد أمر بدونه ، ولشدّة ظهوره لا يمكن

__________________

(١) الفاتحة (١) الآية ١.

(٢) ق : المضمّنة.

(٣) ق : بتعيين.

٤٩

تعريفه ؛ إذ من شرط المعرّف أن يكون أجلى من المعرّف وسابقا عليه ، وما ثمّة ما هو أجلى من العلم ولا سابق عليه إلّا غيب الذات ، الذي لا يحيط به علم أحد غير الحقّ.

وتقدّم نسبة الحياة عليه تقدم شرطي باعتبار المغايرة لا مطلقا ، ومع ذلك فلا يثبت تقدّمه إلّا بالعلم.

لم جاء التعريف أحيانا؟

فالمعرّف للعلم إمّا جاهل بسرّه ، وإمّا عارف يقصد التنبيه على مرتبته من حيث بعض صفاته ، لا التعريف التامّ له ، ولهذا التعريف التنبيهي سرّ وهو كون المعرّف العارف إنّما يعرّف بحكم من أحكام العلم وصفة من صفاته حكما آخر أو صفة أخرى من أحكام العلم أيضا وصفاته ، فيكون القدر الحاصل من المعرفة بالعلم إنّما حصل به لا بغيره فيكون الشيء هو المعرّف نفسه ، ولكن لا من حيث أحديّته ، بل من حيث نسبه ، وهذا هو سرّ الأدلّة والتعريفات والتأثيرات كلّها على اختلاف مراتبها ومتعلّقاتها.

ومن هذا السرّ ينبه الفطن قبل تحقّقه بالمكاشفات الإلهيّة لسرّ قول المحقّقين : «لا يعرف الله إلّا الله» ولقولهم : «التجلّي في الأحديّة محال» مع اتّفاقهم على أحديّة الحقّ ودوام تجلّيه لمن شاء من عباده من غير تكرار التجلّي ، سواء كان المتجلّى له واحدا أو أكثر من واحد ، فافهم وتدبّر هذه الكلمات اليسيرة ؛ فإنّها مفاتيح لأمور كثيرة ، وأسرار كبيرة.

ما في الوجود من العلم

ثم نقول : فالظاهر من الموجودات ليس غير تعيّنات نسب العلم الذي هو النور المحض ، تخصص (١) وتخصّص بحسب حكم الأعيان الثابتة ، ثم انصبغت الأعيان بأحكام بعضها في البعض بحسب مراتبها التي هي الأسماء ، فظهرت به ـ أعني النور ـ وتعيّن بها وتعدّد.

فمتى حصل تجلّ ذاتي غيبي لأحد من الوجه الخاصّ يرفع أحكام الوسائط ؛ فإنّه يقهر ـ كما قلنا ـ بأحديّته أحكام الأصباغ العينيّة الكونية ، المسمّاة حجبا نوريّة إن كانت أحكام

__________________

(١) ق : في تخصّص.

٥٠

الروحانيّات ، وحجبا ظلمانيّة إن كانت أحكام الموجودات الطبيعيّة والجسمانيّات ، فإذا قهرها هذا التجلّي المذكور ، وأظهر حكم الأحديّة المستجنّة في الكثرة اللازمة لذلك الموجود المتجلّى له على نحو ما مرّ ، اتّحدت أحكام الأحديّات المذكورة من قبل في الأصل الجامع لها ، وارتفعت موجبات التغاير بظهور حكم اتّحاد الأحكام المتفرّعة من الواحد الأحد ، كما سبقت الإشارة إليه فسقطت أحكام النسب التفصيليّة والاعتبارات الكونيّة بشروق شمس الأحديّة ؛ فإنّ العالم محصور في مرتبتي الخلق والأمر ، وعالم الخلق فرع وتابع لعالم الأمر ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) (١) ، فإذا ظهرت الغلبة الإلهيّة بحكم أحديّتها المذكورة ، فني من لم يكن له وجود حقيقي ـ وهي النسب الحادثة الإمكانيّة ـ وبقي من لم يزل وهو الحقّ ، فظهر حكم العلم الإلهي وخاصّيّته بالحال للأزلي (٢) لم يتجدّد له أمر غير (٣) ظهور إضافته إلى العين المتعيّنة فيه أزلا ، الموصوفة الآن بواسطة التجلّي النوري بالعلم ؛ لما تجدّد لها من إدراكها عينها وما شاء الحقّ أن يطلعها عليه في حضرة العلم اللدنّي بصفة وحدتها ونور موجودها (٤) ، وما قبلت من تجلّيه الوجودي الذي ظهر به تعيّنها في العلم (٥) الأزلي.

ثم ليعلم أنّ لهذا العلم الذي هو نور الهويّة الإلهيّة حكمين أو قل : نسبتين ـ كيف شئت ـ : نسبة ظاهرة ، ونسبة باطنة ، فالصور الوجوديّة المشهودة هي تفاصيل النسبة الظاهرة ، والنور المنبسط على الكون ـ المدرك في الحسّ ، المفيد تميّز (٦) الصور بعضها من بعض ـ هو حكم النسبة الظاهرة من حيث كلّيّتها وأحديّتها.

وإنّما قلت : «حكم النسبة الظاهرة» من أجل أنّ النور من حيث تجرّده لا يدرك ظاهرا ، وهكذا حكم كلّ حقيقة بسيطة وإنّما يدرك النور بواسطة الألوان والسطوح القائمة بالصور ، وكذا سائر الحقائق المجرّدة لا تدرك ظاهرا إلّا في مادّة ، والنسبة الباطنة هي معنى النور ومعنى الوجود الظاهر وروحه الموضح للمعلومات المعنويّة والحقائق الغيبيّة (٧) الكلّيّة ، التي

__________________

(١) يوسف (١٢) الآية ٢١.

(٢) ق : الأزلي.

(٣) ق : عن.

(٤) ق : موجدها.

(٥) ق : العلمي.

(٦) ق : تمييز.

(٧) ق : العينية.

٥١

لا تظهر في الحسّ ظهورا يرتفع عنها به حكم كونها معقولة ، وتفيد (١) أيضا ـ أعني هذه النسبة الباطنة العلميّة النوريّة ـ معرفة عينها ووحدتها وأصلها الذي هو الحقّ ونسب هويّته التي هي أسماؤه الأصليّة ، أو قل : شؤونه ـ وهو الأصحّ ـ ومعرفة تمييز بعضها من بعض وما هو منها فرع تابع ، وأصل متبوع ؛ وكذلك تفيد معرفة الحقائق المتعلّقة بالموادّ والنسب التركيبيّة وما لا تعلّق له بمادّة ولا شيء من المركّبات ، وما يختصّ بالحقّ من الأحكام ويصحّ نسبتها إليه ، وما يخصّ العالم (٢) وينسب إليه ، وما يقع فيه الاشتراك بنسبتين مختلفتين. هذا إلى غير ذلك من التفاصيل التابعة لما ذكر.

فصور الموجودات نسب ظاهر النور ، والمعلومات المعقولة هي تعيّنات نسبه (٣) الباطنة التي هي أعيان الممكنات الثابتة ، والحقائق الأسمائيّة الكلّيّة وتوابعها من الأسماء.

فالعالم بمجموع صوره المحسوسة وحقائقه الغيبيّة المعقولة ، أشعّة نور الحقّ ، أو قل : نسب علمه ، أو صور أحواله ، أو تعدّدات تعلّقاته ، أو تعيّنات تجليّاته في أحواله المسمّاة من وجه أعيانا ، فظاهر (٤) العلم صورة النور ، وباطنه المذكور معنى النور ، غير أنّ ظهور صورة النور توقّف على امتياز الاسم «الظاهر» بسائر توابعه المنضافة إليه عن معنى النور ، فصار الباطن بما فيه متجلّيا ومنطبعا في مرآة مّا ظهر منه.

وهكذا كلّ نسبة من نسب ما ظهر مرآة لنسبة مّا من النسب الباطنة النوريّة العلميّة ، مع أحديّة الذات الجامعة لسائر النسب الباطنة والظاهرة وقد أخبر الحقّ سبحانه أنّه : (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٥) ، ثم ذكر الأمثلة والتفاصيل المتعيّنة بالمظاهر على نحو ما تقتضيه مراتبها كما سبق التنبيه عليه ؛ ثم قال في آخر الآية : (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) (٦) فأضاف النور إلى نفسه مع أنّه عين النور ، وجعل نوره المضاف إلى العالم الأعلى والأسفل هاديا إلى معرفة نوره المطلق ، ودالّا عليه ، كما جعل المصباح والمشكاة والشجرة وغيرها من الأمثال هاديا إلى نوره المقيّد وتجلّياته المتعيّنة في مراتب مظاهره ، وعرّف

__________________

(١) ق : تقيد.

(٢) ب : يختص بالعالم.

(٣) ق : لنسبه.

(٤) س : فالظاهر.

(٥) النور (٢٤) الآية ٣٥.

(٦) النور (٢٤) الآية ٣٥.

٥٢

أيضا على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه النور وأنّ (١) حجابه نور وأخبر : أنّه (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (٢) و (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٣) وأنّه (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) (٤).

والرحمة الشاملة عند من تحقّق بالذوق الإلهي والكشف العلمي (٥) هو الوجود العامّ (٦) ، فإنّ ما عدا الوجود لا شمول فيه ، بل تخصيص تمييز ، فدلّ جميع ذلك عند المنصف (٧) ـ إذا لم يكن من أهل الكشف ـ على صحّة ما قصدنا التنبيه عليه بهذه التلويحات ، فتدبّر ذلك وافهم ما أدرجت لك في هذه المقدّمات تلمح أسرار عزيزة إن شاء الله تعالى.

نعوت العلم

ثم اعلم أنّ النعوت اللازمة للعلم ـ من قدم وحدوث ، وفعل وانفعال ، وبداهة (٨) واكتساب ، وتصوّر وتصديق ، وضرر ومنفعة ، وغير ذلك ـ ليست (٩) عين العلم من حيث هو هو ، بل هي أحكام العلم وخواصّه ، بحسب متعلّقاته وبحسب المراتب التي هي مظاهر آثاره ، فما لا يعقل حكم الأوّليّة فيه من المراتب ، ولا يدرك بدؤه ، ويشهد منه صدور أثر العلم وحكمه ، يوصف ويضاف العلم إليه بنسبة القدم.

وحكم العالم فيما نزل عن الدرجة المذكورة ينعت بالحدوث ، وما لا يتوقّف حصوله على شيء خارج عن ذات العالم يكون علما فعليّا ، وما خالف في هذا الوصف وقابله كان علما انفعاليّا. والعلم الذي لا واسطة فيه بين العبد وربّه ، وما لا تعمّل له في تحصيله ـ وإن كان وصوله من طريق الوسائط ـ (١٠) فهو العلم الموهوب ، والحاصل بالتعمّل ومن (١١) جهة الوسائط المعلومة فهو المكتسب.

وتعلّق العلم بالممكنات من حيث إمكانها يسمّى بالعلم الكوني ، وما ليس كذلك فهو

__________________

(١) ق ، ه : لم يرد.

(٢) الطلاق (٦٥) الآية ١٢.

(٣) فصّلت (٤١) الآية ٥٤.

(٤) غافر (٤٠) الآية ٧.

(٥) ب ، ه : العلى.

(٦) ب : العالم.

(٧) ق : المصنّف.

(٨) ق : هبة.

(٩) ق : ليس.

(١٠) ق : المعنوية.

(١١). ق : هي.

٥٣

العلم المتعلّق بالحق أو بأسمائه وصفاته ، التي هي وسائط بين ذاته الغيبيّة (١) وبين خلقه.

فإذا تحقّقت ما أشرت إليه ونبّهت عليه في هذا التمهيد عرفت أنّ العلم الصحيح ـ الذي هو النور الكاشف للأشياء عند المحقّقين من أهل الله وخاصّته ـ عبارة عن تجلّ إلهي في حضرة نور ذاته ، وقبول المتجلّى له ذلك العلم هو بصفة وحدته بعد (٢) سقوط أحكام نسب الكثرة والاعتبارات الكونيّة عنه كما مرّ ، وعلى نحو ما يرد (٣) ذلك بحكم عينه الثابتة في علم ربّه أزلا من الوجه الذي لا واسطة بينه وبين موجده ؛ لأنّه في حضرة علمه ما برح ، كما سنشير إليه في مراتب التصوّرات إن شاء الله تعالى.

وسرّ العلم هو معرفة وحدته في مرتبة الغيب ، فيطّلع المشاهد ـ الموصوف بالعلم بعد المشاهدة بنور ربّه ـ على العلم و (٤) مرتبة (٥) وحدته بصفة وحدة أيضا كما مرّ ، فيدرك بهذا التجلّي النوري العلمي من الحقائق المجرّدة ما شاء الحقّ سبحانه أن يريه منها ممّا هي في مرتبته أو تحت حيطته.

ولا ينقسم العلم في هذا المشهد إلى تصوّر وتصديق كما هو عند الجمهور ، بل (٦) تصوّر فقط ؛ فإنّه يدرك به حقيقة التصوّر والمتصوّر (٧) والإسناد ، والسبق والمسبوقية وسائر الحقائق مجرّدة في آن واحد بشهود واحد غير مكيّف وصفة وحدانيّة. ولا تفاوت حينئذ بين التصوّر والتصديق ، فإذا عاد إلى عالم التركيب والتخطيط وحضر مع أحكام هذا الموطن يستحضر تقدّم التصوّر على التصديق عند الناس بالنسبة إلى التعقّل الذهني ، بخلاف الأمر في حضرة العلم البسيط المجرّد (٨) ، فإنّه إنّما يدرك هناك حقائق الأشياء ، فيرى أحكامها وصفاتها أيضا (٩) ـ كهي ـ مجاورة لها ومماثلة.

ولمّا كان الإنسان وكلّ موصوف بالعلم من الحقائق (١٠) ، لا يمكنه أن يقبل لتقيّده (١١) بما بيّنّاه في هذا التمهيد إلّا أمرا مقيّدا متميّزا عنده ، صار التجلّي الإلهي ـ وإن لم يكن من عالم

__________________

(١) ق : الغنية.

(٢) ق : قبل للمتن.

(٣) ق : مرّ و.

(٤) ق : في.

(٥) ب : العارف في مرتبة.

(٦) ق : بل هو.

(٧) ب : المتصورات.

(٨) ق : المجردة.

(٩) ق : أيضا حقائق.

(١٠) ق : الحق.

(١١). ه : لتقييده.

٥٤

التقيّد (١) ـ ينصبغ عند وروده ـ كما مرّ ـ بحكم نشأة المتجلّى له وحاله ووقته وموطنه ومرتبته والصفة الغالب حكمها عليه ، فيكون إدراكه لما تضمّنه (٢) التجلّيات بحسب القيود المذكورة وحكمها فيه.

وفي الانسلاخ عن هذه الأحكام ونحوها يتفاوت المشاهدون مع استحالة رفع أحكامها بالكلّيّة ، لكن يقوى ويضعف ، كما ذكرته في مسألة قهر أحديّة التجلّي أحكام الكثرة النسبيّة.

وبمقدار إطلاق صاحب هذا العلم في توجّهه وسعة دائرة مرتبته وانسلاخه عن قيود الأحكام بغلبة صفة أحديّة الجمع ، يعظم إدراكه ومعرفته وإحاطته بما انسحب عليه حكم هذا التجلّي من المراتب التي هي تحت حيطته ، ويصير حكم علمه بالأشياء ـ التي علمها من هذا الوجه بهذا الطريق ـ حكم الحقّ سبحانه في علمه الأحدي الأصل والمرتبة ، كما سبق التنبيه عليه في المتن والحاشية ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) (٣) فافهم.

لكن تبقى ثمّة فروق أخر أيضا ، كالقدم والإحاطة وغيرهما تعرفها ـ إن شاء الله تعالى ـ إذا وقفت على سرّ مراتب التمييز الثابت بين الحقّ والخلق عن قريب.

ثم نقول : فهذا العلم الحاصل على هذا النحو هو الكشف الأوضح الأكمل الذي لا ريب فيه ولا شكّ يداخله ، ولا يطرق إليه احتمال ولا تأويل ، ولا يكتسب بعلم ولا عمل ولا سعي ولا تعمّل ، ولا يتوسّل إلى نيله ولا يستعان (٤) في تحصيله بتوسّط قوىّ روحانيّة نفسانيّة أو بدنيّة مزاجيّة ، أو إمداد أرواح علويّة ، أو قوى وأشخاص سماويّة أو أرضيّة ، أو شيء غير الحقّ.

والمحصّل له والفائز به أعلى العلماء مرتبة في العلم ، وهو العلم الحقيقي ، والمتجلّي به هو مظهر التجلّي النوري وصاحب الذوق الجمعي الأحدي وما سواه ـ ممّا يسمّى علما عند أكثر العالم وكثير من أهل الأذواق ـ فإنّما هو أحكام العلم في مراتبه التفصيليّة وآثاره من

__________________

(١) ق : التقييد.

(٢) ق : تضمّنته.

(٣) البقرة (٢) الآية ٢٥٥.

(٤) ق : تسعان.

٥٥

حيث رقائقه وأشعّة أنواره ، وليس هو حقيقة العلم.

مراتب العلم

ومراتب العلم متعدّدة ، فمنها معنويّة وروحانيّة وصوريّة مثاليّة بسيطة بالنسبة ، ومركّبة مادّية.

فالصوريّة كالحروف والكلمات المكتوبة والمتلفّظ بها ونحوها من أدوات التوصيل الظاهرة.

والمعنويّة هي المفهومات المختلفة ، التي تضمّنها (١) العبارات والحروف المختلفة ، بحسب التراكيب والاصطلاحات الوضعيّة ، والمراتب التي هي محالّ ظهور صفات العلم ومجاليه ، كالقوّة الفكريّة وغيرها من القوى والمخارج والتصوّرات.

وروح العلم هو حكمه الساري من رتبته (٢) ، وسرّ وحدته ، بواسطة الموادّ اللفظيّة والرقميّة ونحوهما ممّا مرّ ذكره.

وبهذا الحكم يظهر نفوذه فيمن أحيا الله به قلبه وأنار نفسه ولبّه بزوال ظلمة الجهل من الوجه الذي تعلّق به حكم هذا العلم وتبديل تلك الصفة بحالة أو صفة نيّرة وجوديّة علميّة.

العلم يصحب التجلّي الذاتي

فمتى حصل تجلّ ذاتي غيبي على نحو ما سلف شرحه فإنّ العلم يصحبه ولا بدّ ؛ لأنّ صفات الحقّ سبحانه وتعالى ليس لها في مرتبة غيبه ووحدته تعدّد ، والصفة الذاتيّة كالعلم في حق الحقّ لا تفارق الموصوف ولا تمتاز عنه.

فمن أشهده الحقّ تعالى ذاته شهودا محقّقا ؛ فإنّ ذلك الشهود يتضمّن العلم ، ويستلزمه ضرورة ، ولتقيّد حكم التجلّي بحسب المشاهد وقيوده المذكورة كانت النتيجة العلميّة في كلّ مشهد وتجلّ نتيجة جزئيّة ؛ إذ لو لا تلك القيود والأحكام اللازمة لها كان من أشهده الحقّ تعالى ذاته برفع الوسائط علم علم الحقّ سبحانه وتعالى في خلقه إلى يوم القيامة ، كما علمه

__________________

(١) ق : تضمّنتها.

(٢) ق : مرتبته.

٥٦

القلم الأعلى ، ولكن بحسب المرتبة الإنسانيّة الكماليّة من حيث جمعيّتها الكبرى وحيازتها سرّ الصورة. ولو لا الأحكام التمييزيّة الثابتة بين الحقّ سبحانه وما سواه ـ الآتي ذكرها ـ كان الأمر أجلّ وأعظم.

هذا ، مع أنّ للكمّل من هذا الأمر المشار إليه حظّا وافرا ، ولكن عدم الانفكاك التامّ عن القيود من كلّ وجه ، ومقام الجمعيّة الذي أقيموا فيه ، المنافي للانحصار تحت حكم حالة مخصوصة وصفة معيّنة ومقام مقيّد متميّز (١) ـ كما مرّ ذكره ـ يقضيان بعدم دوام هذه الصفة واستمرار حكمها وإن جلّت ، وهكذا أمرهم وشأنهم مع سائر الصفات والمراتب. والمانع لغير الكمّل ـ ممّا أشرنا إليه ـ الحجب الكونيّة والقيود المذكورة ، وكونهم أصحاب مراتب جزئية ، لا استعداد لهم للخروج من رقّها ، والترقّي إلى ما فوقها.

أحكام العلم ونسبه

ثم نقول : والعلم وإن كان حقيقة واحدة كلّيّة فإنّ له أحكاما ونسبا تتعيّن بحسب كلّ مدرك له في مرتبته (٢) ، وبتلك (٣) النسبة المتعيّنة بحسب (٤) المدرك وفي مرتبته لم يتجدّد عليها ـ كما بيّنّا ـ ما ينافي الوحدة العلميّة الأصليّة غير نفس هذا التعيّن الحاصل بسبب المشاهد وبحسبه كما أنّ حقيقة العلم لا تتميّز (٥) عن الغيب المطلق إلّا بما أشرت إليه في أوّل الفصل.

فإذا شاء الحقّ تكميل تلك النسبة العلميّة في مظهر خاصّ وبحسبه ، فإنّ ذلك التكميل إنّما يحصل بظهور أحكام العلم وسراية آثاره إلى الغاية المناسبة لاستعداد المظهر ، والمختصّة به.

وهكذا الأمر في سائر الحقائق ؛ فإنّ كمالها وحياتها ليس إلّا بظهور أحكامها وآثارها في الأمور المرتبطة بها التي هي تحت حكم تلك الحقيقة ، وبحسب حيطتها ولكن بواسطة مظاهرها.

__________________

(١) ب : مميّز.

(٢) ه : مرتبة.

(٣) ق : تلك.

(٤) ق : فحسب.

(٥) ق : لم تتميز ، ه : لا تميّز.

٥٧

فكمال العلم هو بظهور تفاصيله ونسبه ، والتفاصيل بحسب التعلّقات ، والتعلّقات على قدر المعلومات ، والمعلومات تتعيّن بحسب حيطة المراتب التي تعلّق بها العلم ، وبحسب ما حوت تلك المراتب من الحقائق ؛ فإنّ سائرها تابع للعلم من حيث أوّليّته وأحديّته وإحاطته وتعيّنها بالنسبة إلى كلّ عالم حسب قيوده المذكورة.

فإذا حصل التعلّق من تلك النسبة الوحدانيّة العلميّة بالمعلومات على نحو ما مرّ ، تبعه التفصيل إلى الغاية التي ينتهي إليها حكم تلك النسبة ، فإذا فصّل المدرك ذلك بحسب شهوده الوحداني ، وكسا العلم صورة التفصيل والظهور من الغيب إلى الشهادة ، حتى ينتهي إلى الغاية المحدودة له ، كان ذلك تكميلا منه لتلك النسبة العلمية بظهور حكمها وسراية أثرها بمتعلّقاتها وفيها ، وتكميلا لمرتبته أيضا ، من حيث مقام علمه وحكمه فيه ، وما يخصّه من الأمور التابعة لتعيّنه (١).

فمتى تكلّم عارف بعلم ذوقي وأظهره ، وكان محقّقا صحيح المعرفة ، فلما ذكرنا من الموجبات وهكذا كلّ مظهر بالقصد والذات حكم حقيقة من الحقائق ، أو حاضر مع الحقّ تعالى من كونه محلّا ومجلى لظهور تلك الحقيقة ، دون سعي منه أو تعمّل ، ولكن كلّ ذلك بالإذن المعيّن ، أو إذن كلّي عامّ. وما ليس كذلك من العلوم والعلماء فليس بعلم حقيقي إلّا بنسبة بعيدة ضعيفة ، ولا يعدّ صاحبه عند أكابر المحقّقين عالما بالتفسير المذكور ؛ فإنّ صاحب العلم الحقيقي هو الذي يدرك حقائق الأشياء كما هي وعلى نحو ما يعلمها الحقّ بالتفصيل المشار إليه ، مع رعاية الفروق المنبّه عليها.

ومن سواه يسمّى عالما بمعنى أنّه عارف باصطلاح بعض الناس ، أو اعتقاداتهم ، أو صور المفهومات من أذواقهم ، أو ظنونهم ، ومشخّصات صور أذهانهم ، ونتائج تخيّلاتهم ونحو ذلك من أعراض العلم ولوازمه وأحكامه في القوابل. وما هو فيه هذا الشخص من الحال إنّما هو استعمال من المراتب الإلهيّة له ولأمثاله من المتكلّمين بالعلوم ، والمظهرين أحكام الحقائق والظاهرة بهم وفيهم.

فإن رقّاه الحقّ إلى مقام العلم الحقيقي فإنّه يعلم أنّ الذي كان يعتقد فيه أنّه علم محقّق

__________________

(١) ق : لنفسه.

٥٨

كان وهما منه وظنّا ، سواء صادف الحقّ من بعض الوجوه وأصاب ، أو لم يصادف ، بل وجد ما كان عنده علما من قبل ظنّا فاسدا ، ويدرك حينئذ ما أدركه أمثاله من أهل هذا الذوق العزيز المنال حسب ما شاء الحقّ سبحانه أن يطلعه عليه.

و (١) إن لم تتداركه العناية الإلهيّة ، فإنّه لا يزال كذلك حتى ينتهي فيه الحكم المراد ، ويبلغ فيه (٢) الغاية المقصودة للحقّ تعالى من حيث المرتبة المتحكّمة فيه ، وهو لا يعرف في الحقيقة حال نفسه ، ولا فيما ذا ولما ذا يستعمل ، وما غاية ما هو فيه ، وما حاصله ، أو حاصل بعضه على مقتضى مراد الحقّ تعالى ، لا ما هو في زعمه حسب ظنّه.

وهكذا حكم أكثر العالم وحالهم في أكثر ما هم فيه مع الحقّ سبحانه بالنسبة إلى باقي الحقائق أيضا غير العلم ، كما لوّحت بذلك في سرّ التجلّي ؛ فليس التفاوت إلّا بالعلم ولا يعلم سرّ العلم ما لم يشهد الأمر من حيث أحديّته في نور غيب الذات على النحو المشار إليه.

وإذا عرفت الحال في العلم ، فاعتبر مثله في جميع الحقائق ، فقد فتحت لك بابا لا يطرقه إلّا أهل العناية الكبرى والمكانة الزلفى.

فاعلم ، أنّ الفرق بين المحقّق المشار إليه وغيره هو خروج ما في قوّته إلى الفعل ، وعلمه بالأشياء علما محقّقا ، واطّلاعه على إثباتها ، بخلاف من عداه ، وإلّا فأسرار الحقّ مبثوثة ، وحكمها سار وظاهر في الموجودات ، ولكن بالمعرفة والاطّلاع والإحاطة والحضور يقع التفاوت بين الناس ، والله وليّ الإرشاد.

__________________

(١) كذا في الأصل. الظاهر زيادة الواو.

(٢) ق : به.

٥٩

وصل من هذا الأصل

وإذ أومأنا إلى سرّ العلم وما قدّر التلويح به من مراتبه وأسراره ، فلنذكر ما تبقى (١) من ذلك ممّا سبق الوعد بذكره ، ولنبدأ بذكر متعلّقاته الكلّيّة الحاصرة التي لا تعلّق للعلم بسواها إلّا بتوابعها ولوازمها التفصيليّة. فنقول :

متعلّقات العلم

العلم إمّا أن يتعلّق بالحقّ ، أو بسواه ، والمتعلّق بالحقّ إمّا أن يتعلّق به من حيث اعتبار غناه وتجرّده عن التعلّق بغيره من حيث هو غير ، أو من حيث تعلّقه بالغير وارتباط الغير به ، أو من حيث معقوليّة نسبة جامعة بين الأمرين ، أو من حيث نسبة الإطلاق عن النسب الثلاث ، أو من حيث الإطلاق عن التقيّد (٢) بالإطلاق وعن كلّ قيد ، وانحصر الأمر في هذه المراتب الخمس فاستحضرها.

ثم نقول : والمتعلّق بالأغيار إمّا أن يتعلّق بها من حيث حقائقها التي هي أعيانها ، أو يتعلّق بها من حيث أرواحها التي هي مظاهر حقائقها ، أو من حيث صورها التي هي مظاهر الأرواح والحقائق. وللحقائق والأرواح والصور من حيث أعيانها المفردة المجرّدة أحكام ، ولها من حيث التجلّي الوجودي الساري فيها والمظهر أعيانها باعتبار الهيئة المعنويّة الحاصلة من اجتماعها أحكام ، ولكلّ حكم منها أيضا حقيقة هي عينه. لكن لمّا كانت التابعة أحوالا للمتبوع وصفات ولوازم ونحو ذلك (٣) ، سمّيت التوابع نسبا وصفات وخواصّ وأعراضا

__________________

(١) ق : يبتني.

(٢) ه : التقييد.

(٣) ه : ذلك سميت الأصول المتبوعة حقايق.

٦٠