إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

وأنّه أتمّ الطرق الموصلة إليه ليس عن جهل به وبمرتبته بل لقلّة جدواه وكثرة آفاته وشغبه ، وإيثارا وموافقة لما اختاره الحقّ للكمّل من عباده وأهل عنايته.

٢١

وصل

تهافت الأدلّة النظريّة

اعلموا أيّها الإخوان ـ تولّاكم الله بما تولّى به عباده المقرّبين ـ أنّ إقامة الأدلّة النظريّة على المطالب ، وإثباتها بالحجج العقليّة على وجه سالم من الشكوك الفكريّة والاعتراضات الجدليّة متعذّر ؛ فإنّ الأحكام النظريّة تختلف بحسب تفاوت مدارك أربابها ، والمدارك تابعة لتوجّهات المدركين ، والتوجّهات تابعة للمقاصد التابعة لاختلاف العقائد والعوائد والأمزجة والمناسبات ، وسائرها تابع في نفس الأمر لاختلاف آثار التجلّيات الأسمائيّة المتعيّنة والمتعدّدة في مراتب القوابل ، وبحسب استعداداتها ، وهي المثيرة (١) للمقاصد ، والمحكمة للعوائد والعقائد التي يتلبّس بها ، ويتعشّق نفوس أهل الفكر والاعتقادات عليها ؛ فإنّ التجلّيات في حضرة القدس وينبوع الوحدة وحدانيّة النعت ، هيولانيّة الوصف لكنّها تنصبغ عند الورود بحكم استعدادات القوابل ومراتبها الروحانيّة والطبعيّة ، (٢) والمواطن والأوقات وتوابعها ، كالأحوال والأمزجة والصفات الجزئيّة ، وما اقتضاه حكم الأوامر الربانيّة ، المودعة بالوحي الأوّل الإلهي في الصور العلويّة وأرواح أهلها والموكّلين بها ، فيظنّ لاختلاف الآثار أنّ التجلّيات متعدّدة بالأصالة في نفس الأمر ، وليس كذلك.

ثمّ نرجع ونقول : فاختلف للموجبات المذكورة أهل العقل النظري في موجبات عقولهم ، ومقتضيات أفكارهم وفي نتائجها ، واضطربت آراؤهم ، فما هو صواب عند شخص هو عند غيره خطأ ، وما هو دليل عند البعض هو عند آخرين شبهة ، فلم يتّفقوا في الحكم على شيء

__________________

(١) ب : المشيرة.

(٢) ق : والطبيعة.

٢٢

بأمر واحد ، فالحقّ بالنسبة إلى كلّ ناظر هو ما استصوبه ورجّحه واطمأنّ به ، وليس تطرّق الإشكال ظاهرا في دليل يوجب الجزم بفساده وعدم صحة ما قصد إثباته بذلك الدليل في نفس الأمر ؛ لأنّا نجد أمورا كثيرة لا يتأتّى لنا إقامة برهان على صحّتها ، مع أنّه لا شكّ في حقّيّتها عندنا ، وعند كثير من المتمسّكين بالأدلّة النظريّة ، وغيرهم. ورأينا (١) أيضا أمورا كثيرة قرّرت بالبراهين قد جزم بصحّتها قوم بعد عجزهم ، وعجز من حضرهم من أهل زمانهم عن العثور على ما في مقدّمات تلك البراهين من الخلل والفساد ، ولم يجدوا شكّا يقدح فيها ، فظنّوها براهين جليّة وعلوما يقينيّة. ثم بعد مدّة من (٢) الزمان تفطّنوا ـ هم أو من أتى بعدهم ـ لإدراك خلل في بعض تلك المقدّمات أو كلّها ، وأظهروا وجه الغلط فيها والفساد ، وانقدح لهم من الإشكالات ما يوهن تلك البراهين ويزيّفها.

ثمّ إنّ الكلام في الإشكالات القادحة ؛ هل هي شبهة أو أمور صحيحة كالكلام في تلك البراهين ، والحال في القادحين كالحال في المثبتين السابقين ؛ فإنّ قوى الناظرين في تلك البراهين والواقفين عليها متفاوتة ، كما بيّنّا ولما ذكرنا ، والحكم (٣) يحدث أو يتوقّع من بعض الناظرين في تلك الأدلّة بما يزيّفها بعد الزمان الطويل مع خفاء العيب (٤) على المتأمّلين لها ، (٥) المتمسّكين بها قبل تلك (٦) المدّة المديدة وإذا جاز الغلط على بعض الناس من هذا الوجه ، جاز على الكلّ مثله ، ولو لا الغلط والعثور عليه واطمئنان البعض بما لا يخلو عن الغلط ، وبما لا يؤمن الغلط فيه ـ وإن تأخّر إدراكه ـ لم يقع بين أهل العلم خلاف في الأديان والمذاهب وغيرهما. فهذا من جملة الأسباب المشار إليها.

ثمّ نقول : وليس الأخذ بما اطمأنّ به بعض الناظرين واستصوبه وصحّحه في زعمه بأولى من الأخذ بقول مخالفه وترجيح رأيه. والجمع بين القولين أو الأقوال المتناقضة غير ممكن ، لكون أحد القولين مثلا يقتضي إثبات ما يقتضي الآخر نفيه ، (٧) فاستحال التوفيق بينهما والقول بهما معا.

__________________

(١) ه : رائينا.

(٢) ق : بعد.

(٣) في بعض النسخ : ولحكم.

(٤) ق : الغيب.

(٥) ق ، ه : لها و.

(٦) ق : ذلك.

(٧) ق ، ه : بنفيه.

٢٣

وترجيح أحدهما على الآخر إن كان ببرهان ثابت عند المرجّح ، فالحال فيه [كالحال فيه] والكلام كالكلام والحال فيها مرّ. وإن لم يكن ببرهان كان ترجيحا من غير مرجّح يعتبر ترجيحه. فتعذّر إذن وجدان اليقين ، وحصول الجزم التامّ بنتائج الأفكار والأدلّة النظريّة.

ومع أنّ الأمر كما بيّنّا ؛ فإنّ كثيرا من الناس الذين يزعمون أنّهم أهل نظر ودليل ـ بعد تسليمهم لما ذكرنا ـ يجدون في أنفسهم جزما بأمور كثيرة لا يستطيعون أن يشكّكوا أنفسهم فيها قد سكنوا إليها واطمأنّوا بها ، وحالهم فيها كحال أهل الأذواق [من وجه] ومن وجه كحال أهل الوهم مع العقل في تسليم المقدّمات والتوقّف في النتيجة ، ولهذا الأمر سرّ خفيّ ربّما ألوح به فيما بعد إن شاء الله تعالى.

القانون الفكري عند أهل النظر

وأمّا القانون الفكري المرجوع إليه عند أهل الفكر فهم مختلفون فيه أيضا من وجوه :

أحدها : في بعض القرائن وكونها منتجة عند البعض ، وعقيمة عند غيرهم.

وثانيها : في حكمهم (١) على بعض ما لا يلزم عن القضايا بأنّه لازم.

وثالثها : اختلافهم في الحاجة إلى القانون والاستغناء عنه ، من حيث إنّ الجزء النظري منه ينتهي إلى البديهي ، ومن حيث إنّ الفطرة السليمة كافية في اكتساب العلوم ، ومغنية عن القانون ، ولهم فيما ذكرنا اختلاف كثير لسنا ممّن يشتغل بإيراده ؛ إذ غرضنا التنبيه والتلويح.

وآخر ما تمسّك به المثبتون منفعة الأولويّة والاحتمال فقالوا : إنّا نجد الغلط لكثير من الناس في كثير من الأمور وجدانا محقّقا ، مع احتمال وقوعه أيضا فيما بعد ، فاستغناء الأقلّ عنه لا ينافي احتياج الكثير إليه.

فأمّا الأولويّة : فاحتجّوا بها جوابا لمن قال لهم : قد اعترفتم بأنّ القانون ينقسم إلى ضروري ونظري ، وأنّ الجزء النظري مستفاد من الضّروري ، فالضروري إن كفى في اكتساب العلوم في هذا القانون كفى في سائر العلوم ، وإلّا افتقر (٢) الجزء الكسبي منه إلى قانون آخر ، فقالوا : الإحاطة بجميع الطرق أصون من الغلط ، فتقع الحاجة إليه من هذا الوجه عملا

__________________

(١) ب : ثانيها حكمهم.

(٢) ق : لافتقر.

٢٤

بالأحوط ، وإصابة بعض الناس في أفكاره ؛ لسلامة فطرته في كثير من الأمور ، وبعضهم مطلقا في جميعها بتأييد إلهي خصّ به دون كسب لا تنافي احتياج الغير إليه ؛ ونظير هذا ، الشاعر بالطبع وبالعروض ، والبدويّ المستغني عن النحو بالنسبة إلى الحضريّ (١) المتعرّب.

مذهب المحقّقين

ونحن نقول بلسان أهل التحقيق : إنّ القليل الذي قد اعترفتم (٢) باستغنائه عن ميزانكم لسلامة فطرته وذكائه نسبته إلى المؤهّلين للتلقّي من جناب الحقّ والاعتراف من بحر جوده ، والاطّلاع على أسرار وجوده في القلّة وقصور الاستعداد ، نسبة الكثير المحتاج إلى الميزان.

فأهل الله هم القليل من القليل ، ثم إنّ العمدة عندهم في (٣) الأقيسة البرهان وهو : إنّي ، ولمّي (٤) ـ وروح البرهان وقطبه هو الحدّ الأوسط. واعترفوا بأنّه غير مكتسب ببرهان ، وأنّه من باب التصوّر لا التصديق.

فيتحصّل (٥) ممّا ذكرنا : (٦) أنّ الميزان أحد جزءيه غير مكتسب ، وأنّ المكتسب منه إنّما يحصل بغير المكتسب ، وأنّ روح البرهان ـ الذي هو عمدة الأمر والأصل الذي يتوقّف تحصيل العلم المحقّق عليه في زعمهم ـ غير مكتسب ، وأنّ من الأشياء ما لا ينتظم على صحّتها وفسادها برهان سالم من المعارضة ، بل يتوجّه عليه إشكال يعترف به الخصم. ومع ذلك فلا يستطيع أن يشكّك نفسه في صحّة ذلك الأمر هو وجماعة كثيرة سواه ، وهذا حال أهل الأذواق ومذهبهم حيث يقولون : إنّ العلم الصحيح موهوب غير مكتسب.

وأمّا المتحصّل لنا بطريق التلقّي من جانب (٧) الحقّ وإن لم يقم عليه البرهان النظري ؛ فإنّه لا يشكّكنا فيه مشكّك ، ولا ريب عندنا فيه ولا تردّد ، ويوافقنا عليه مشاركون من أهل الأذواق ، و [أمّا] أنتم فلا يوافق بعضكم بعضا إلّا لقصور بعضكم عن إدراك الخلل الحاصل في

__________________

(١) ه : الحضرمي.

(٢) ق : عرفتم.

(٣) ه : أقيسة.

(٤) ق : لمّي وانّي.

(٥) ق : فينحلّ.

(٦) ق : ذكر.

(٧) ق : جناب.

٢٥

مقدّمات البراهين التي أقيمت لإثبات المطالب التي هي محلّ الموافقة على ما بيّنّا (١) سرّه في هذا التمهيد.

وفي الجملة قد (٢) بيّن أنّ غاية كلّ أحد في ما يطمئنّ إليه من العلوم هو ما حصل في ذوقه ـ دون دليل كسبي ـ أنّه الحقّ ، فسكن (٣) إليه ، وحكم بصحّته ، هو ومن ناسبه في نظره وشاركه في أصل مأخذه وما يستند إليه ذلك الأمر الذي هو متعلّق اطمئنانه.

وبقي : هل ذلك الأمر المسكون إليه ، والمحكوم بصحّته هو في نفسه صحيح ، على نحو ما اعتقد فيه من حاله ما ذكرناه (٤) أم لا؟ ذلك لا يعلم إلّا بكشف محقّق ، وإخبار إلهي.

فقد بان أنّ العلم اليقيني الذي لا ريب فيه يعسر اقتناصه بالقانون الفكري والبرهان النظري.

هذا ، مع أنّ الأمور المثبتة بالبراهين على تقدير صحّتها في نفس الأمر ، وسلامتها في زعم المتمسّك بها بالنسبة إلى الأمور المحتملة والمتوقّف (٥) فيها ؛ لعدم انتظام البرهان على صحّتها وفسادها يسيرة جدّا.

وإذا كان الأمر كذلك فالظفر بمعرفة الأشياء من طريق البرهان وحده إمّا متعذّر مطلقا ، أو في أكثر الأمور.

ولمّا اتّضح لأهل البصائر والعقول السليمة أنّ لتحصيل المعرفة الصحيحة طريقين :

طريق البرهان بالنظر والاستدلال ، وطريق العيان الحاصل لذي الكشف بتصفية الباطن والالتجاء إلى الحقّ. والحال في المرتبة النظريّة فقد استبان ممّا أسلفنا ، فتعيّن الطريق الآخر ، وهو التوجّه إلى الحقّ بالتعرية والافتقار التامّ ، وتفريغ القلب بالكليّة من سائر التعلّقات الكونيّه ، والعلوم والقوانين.

ولمّا تعذّر استقلال الإنسان بذلك في أوّل الأمر ، وجب عليه اتّباع من سبقه بالاطّلاع ، والكمّل من سالكي طريقه سبحانه ، ممّن خاض لجّة الوصول ، وفاز بنيل البغية والمأمول ،

__________________

(١) ق : تبيّن.

(٢) ق : فقد تبيّن.

(٣) ق : سيكن.

(٤) ق : ذكرنا.

(٥) ب : المتوفّق.

٢٦

كالرسل ـ صلوات الله عليهم ـ الذين جعلهم الحقّ تعالى تراجمة أمره وإرادته ، ومظاهر علمه وعنايته (١) ، ومن كملت وراثته منهم علما وحالا ومقاما عساه سبحانه يجود بنور كاشف يظهر الأشياء كما هي ، كما فعل ذلك بهم وبأتباعهم من أهل عنايته ، والهادين المهتدين (٢) من بريّته. (٣) ولهذا المقام أصول جمّة ، ونكت مهمّة أشير إليها فيما بعد وعند الكلام على سرّ الهداية حين الوصول إلى قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٤) حسب ما يقدّر الحقّ ذكره إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ق : عبادته.

(٢) ق : المهديين.

(٣) ه : بريّة.

(٤) الفاتحة (١) الآية ٦.

٢٧

وصل من هذا الأصل

بين طلّاب المعرفة والحقائق العلويّة

اعلم أنّ لكلّ حقيقة من الحقائق المجرّدة البسيطة المظهرة التي (١) تعيّن الموارد المتعيّنة بها ـ سواء كانت من الحقائق الكونيّة أو ممّا ينسب إلى الحقّ بطريق الاسميّة والوصفيّة ونحوهما ـ لوازم ووجوها وخواصّ ، وتلك الصفات وما ذكر من أحكام الحقائق ونسبها فبعضها خواصّ ولوازم قريبة وبعضها [لوازم] بعيدة ، فكلّ طالب معرفة حقيقة ـ [كائنة] ما كانت ـ لا بدّ وأن يكون بينه وبينها مناسبة من وجه ، ومغايرة من وجه ، فحكم المغايرة يؤذن بالفقد المقتضي للطلب ، وحكم المناسبة يقتضي الشعور بما يراد معرفته. والإنسان من حيث جميعه مغاير لكلّ فرد من أفراد الأعيان الكونيّة ، ومن حيث كونه نسخة من مجموع الحقائق الكونيّة والأسمائيّة يناسب الجميع ، فمتى طلب معرفة شيء فإنّما يطلبه بالأمر المناسب لذلك الشيء منه لا بما يغايره ؛ إذ لو انتفت المناسبة من كلّ وجه لاستحال الطلب ؛ إذ المجهول مطلقا لا يكون مطلوبا كما أنّ ثبوت المناسبة أيضا من كلّ وجه يقتضي الحصول المنافي للطلب ؛ لاستحالة طلب الحاصل ، وإنّما حصول الشعور ببعض الصفات والعوارض من جهة المناسبة هو الباعث على طلب معرفة الحقيقة التي هي أصل تلك الصفة المشعور بها أوّلا.

فتطلب النفس أن تتدرّج من هذه الصفة المعلومة أو اللازم أو العارض ، وتتوسّل (٢) بها إلى معرفة الحقيقة التي هي أصلها ، وغيرها من الخواصّ والعوارض المضافة إلى تلك الحقيقة.

__________________

(١) ق : عن.

(٢) ه : نتوسّل.

٢٨

فتركيب الأقيسة والمقدّمات طريق تصل بها (١) نفس الطالب بنظره الفكري إلى معرفة ما يقصد إدراكه من الحقائق ، فقد تصل إليه بعد تعدّي مراتب صفاته وخواصّه ولوازمه تعدّيا علميّا ، وقد لا يقدّر له ذلك ، إمّا لضعف (٢) قوّة نظره وقصور إدراكه ـ المشار إلى سرّه فيما بعد ـ أو لموانع أخر يعلمها الحقّ ومن شاء من عباده ، أوضحها إقامة كلّ طائفة في مرتبة معيّنة لتعمر المراتب بأربابها لينتظم شمل مرتبة الألوهيّة ، كما قيل ، :

على حسب الأسماء تجري أمورهم

وحكمة وصف الذات للحكم أجرت.

وغاية مثل هذا أن يتعدّى من معرفة خاصّة الشيء أو صفته أو لازمه البعيد أو القريب إلى صفة أو لازم آخر له أيضا ، وقد تكون الصفة التي تنتهي إليها معرفته من تلك الحقيقة أقرب نسبة من المشعور بها أوّلا المثيرة للطلب ، وقد يكون البعد على قدر المناسبة الثابتة بينه وبين ما يريد معرفته ، وبحسب حكم تلك المناسبة في القوّة والضعف ، وما قدّره الحقّ له. فمتى انتهت قوّة نظره بحكم المناسبة إلى بعض الصفات أو الخواصّ ، ولم ينفذ منها متعدّيا إلى كنه حقيقة الأمر ، فإنّه يطمئنّ بما حصل له من معرفة تلك الحقيقة بحسب نسبة تلك الصفة منها ومن حيث (٣) هي ، وبحسب مناسبة هذا الطالب معرفتها منها ، ويظنّ أنّه قد بلغ الغاية ، وأنّه أحاط علما بتلك الحقيقة ، وهو في نفس الأمر لم يعرفها إلّا من وجه واحد من حيث تلك الصفة الواحدة أو العارض أو الخاصّة أو اللازم. وينبعث غيره لطلب معرفة تلك الحقيقة أيضا يجاذب مناسبة خفيّة بينه وبينها من حيث (٤) صفة أخرى ، أو خاصّة أو لازم ، فيبحث ويفحص ويركّب الأقيسة والمقدّمات ساعيا في التحصيل ، حتّى ينتهي مثلا إلى تلك الصفة الأخرى ، فيعرف تلك الحقيقة من وجه آخر بحسب الصفة التي كانت منتهى معرفته من تلك الحقيقة ، فيحكم على إنّيّة الحقيقة بما تقتضيه تلك الصفة وذلك الوجه ، زاعما أنّه قد عرف كنه الحقيقة التي قصد معرفتها معرفة تامّة إحاطيّة ، وهو غالط في نفس الأمر وهكذا الثالث والرابع فصاعدا ، فيختلف حكم الناظرين في الأمر الواحد ؛ لاختلاف الصفات والخواصّ والأعراض التي هي متعلّقات مداركهم ومنتهاها من ذلك الأمر الذي قصدوا

__________________

(١) ق : به.

(٢) ه : بضعف.

(٣) ق : أبعد.

(٤) ق : حيثها.

٢٩

معرفة كنهه ، والمعرّفة (١) إيّاه والمميّزة (٢) له عندهم ، فمتعلّق إدراك طائفة يخالف متعلّق (٣) إدراك الطائفة الأخرى ، كما ذكر ، ولما مرّ بيانه ، فاختلف تعريفهم لذلك الأمر الواحد ، وتحديدهم له ، وتسميتهم إيّاه ، وتعبيرهم عنه ؛ وموجب ذلك ما سبق ذكره ، وكون المدرك به أيضا ـ وهو الفكر ـ قوّة جزئيّة من بعض قوى الروح الإنساني ، فلا يمكنه أن يدرك إلّا جزئيّا مثله ؛ لما ثبت عند المحقّقين من أهل الله وأهل العقول السليمة أنّ الشيء لا يدرك بما يغائره في الحقيقة ، ولا يؤثّر شيء فيما يضادّه وينافيه من الوجه المضادّ والمنافي ، كما ستقف على أصل ذلك وسرّه عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ فتدبّر هذه القواعد وتفهّمها ، تعرف كثيرا من سرّ اختلاف الخلق في الله [من] أهل الحجاب ، وأكثر أهل الاطّلاع والشهود ، وتعرف أيضا سبب اختلاف الناس في معلوماتهم كائنة ما كانت.

ثم نرجع ونقول : ولمّا كانت القوّة الفكريّة صفة من صفات الروح وخاصّة من خواصّه ، أدركت صفة مثلها ومن حيث إنّ القوى الروحانيّة عند المحقّقين لا تغاير الروح صحّ أن نسلّم للناظر أنّه قد عرف حقيقة مّا ، ولكن من الوجه الذي يرتبط بتلك الصفة ـ التي هي منتهى نظره ومعرفته ومتعلّقهما (٤) ، ـ وترتبط الصفة بها ، كما مرّ بيانه.

وقد ذهب الرئيس ابن سينا الذي هو أستاذ أهل النظر ومقتداهم عند عثوره على هذا السرّ إمّا من خلف حجاب القوّة النظريّة بصحّة الفطرة ، أو بطريق الذوق كما يومئ إليه في مواضع من كلامه إلى أنّه ليس في قدرة البشر الوقوف على حقائق الأشياء ، بل غاية الإنسان أن يدرك خواصّ الأشياء ولوازمها وعوارضها ، ومثّل في تقرير ذلك أمثلة جليّة محقّقة وبيّن المقصود بيان (٥) منصف خبير ، وسيّما فيما يرجع إلى معرفة الحقّ جلّ جلاله ، وذلك في أواخر أمره بخلاف المشهور عنه في أوائل كلامه. ولو لا التزامي بأنّي لا أنقل في هذا الكتاب كلام أحد ـ وسيّما أهل الفكر ونقلة التفاسير ـ لأوردت ذلك الفصل هنا استيفاء للحجّة على المجادلين المنكرين منهم عليهم بلسان مقامهم ؛ ولكن أضربت عنه للالتزام المذكور ، ولأنّ غاية ذلك بيان قصور القوّة الإنسانيّة من حيث فكرها عن إدراك حقائق الأشياء ، وقد سبق

__________________

(١) ب : المعرّفين.

(٢) المميّزين.

(٣) ق : مخالف بتعلق.

(٤) ب : متعلقها.

(٥) ق : بين.

٣٠

في أوّل هذا التمهيد ما يستدلّ به اللبيب على هذا الأمر المشار إليه وعلّته وسببه وغير ذلك من الأسرار المتعلّقة بهذا الباب ، وسنزيد في بيان ذلك ـ إن شاء الله تعالى ، ـ فنقول : كلّ ما تتعلّق به المدارك العقليّة والذهنيّة : الخياليّة والحسّيّة جمعا وفرادى فليس بأمر زائد على حقائق مجرّدة بسيطة تألّفت بوجود واحد غير منقسم ، وظهرت لنفسها ، لكن بعضها في الظهور والحكم والحيطة والتعلّق تابع للبعض ، فتسمّى المتبوعة ـ لما ذكرنا من التقدّم ـ حقائق وعللا ووسائط بين الحقّ وما يتبعها في الوجود وما ذكرنا ، وتسمّى التابعة خواصّ ولوازم وعوارض وصفات وأحوالا ونسبا ومعلولات (١) ومشروطات ونحو ذلك ؛ ومتى اعتبرت هذه الحقائق مجرّدة عن الوجود وعن ارتباط بعضها بالبعض ولم يكن شيء منها مضافا إلى شيء ، أصلا ، خلت عن كلّ اسم وصفة ونعت وصورة وحكم خلوّا بالفعل لا بالقوّة ، فثبوت النعت والاسم والوصف بالتركيب والبساطة ، والظهور والخفاء ، والإدراك والمدركيّة ، والكلّيّة والجزئيّة ، والتبعيّة والمتبوعيّة وغير ذلك ممّا نبّهنا عليه وما لم نذكره للحقائق المجرّدة إنّما يصحّ ويبدو بانسحاب الحكم الوجودي عليها أوّلا ، ولكن من حيث تعيّن الوجود بالظهور في مرتبة مّا وبحسبها أو في مراتب ، كما سنزيد في بيان ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ وبارتباط أحكام بعضها بالبعض وظهور أثر بعضها بالوجود في البعض ثانيا ؛ فاعلم ذلك.

فالتعقّل والشهود الأوّل الجملي للحقائق المتبوعة يفيد معرفة كونها معاني مجرّدة من شأنها ـ إذا تعقّلت (٢) متبوعة ومحيطة ـ أن تقبل صورا شتّى وتقترن بها ؛ لمناسبة ذاتيّة بينها وبين الصور القابلة لها ولآثارها ، والمقترنة بها ، وهذه المناسبة هي حكم الأصل الجامع بينها ، والمشتمل عليها ، وقد سبقت الإشارة إليها.

والتعقّل (٣) والشهود الأوّل الجملي للحقائق التابعة يفيد معرفة كونها حقائق مجرّدة لا حكم لها ولا اسم ولا نعت أيضا ؛ ولكن من شأنها أنّها متى ظهرت في الوجود العيني تكون أعراضا للجواهر والحقائق المتقدّمة المتبوعة ، وصورا وصفات ولوازم ونحو ذلك.

__________________

(١) ب : معلومات.

(٢) ق : عقلت.

(٣) ق : فالتعقل.

٣١

والصورة : عبارة عمّا لا تعقل تلك الحقائق الأول ولا تظهر إلّا بها ، وهي ـ أعني الصورة ـ أيضا اسم مشترك يطلق على حقيقة كلّ شيء ـ جوهرا كان أو عرضا ، أو ما كان ـ وعلى نفس النوع والشكل والتخطيط أيضا حتّى يقال لهيئة الاجتماع : صورة ، كصورة الصفّ والعسكر ، ويقال : صورة للنظام المستحفظ كالشريعة. ومعقوليّة الصورة في نفسها حقيقة مجرّدة كسائر الحقائق.

وإذا عرفت هذا في الصور المشهودة على الأنحاء المعهودة ، فاعرف مثله في المسمّى مظهرا إلهيّا ؛ فإنّ التعريف الذي أشرت إليه يعمّ كلّ ما لا تظهر الحقائق الغيبيّة من حيث هي غيب إلّا به.

وقد استبان لك من هذه القاعدة ـ إن تأمّلتها حقّ التأمّل ـ أنّ الظهور والاجتماع ، والإيجاد والإظهار والاقتران والتوقّف والمناسبة ، والتقدّم والتأخّر والهيئة ، والجوهريّة والعرضيّة والصوريّة ، وكون الشيء مظهرا أو ظاهرا ، أو متبوعا أو تابعا ، ونحو ذلك كلّها معان مجرّدة ، ونسب معقولة. وبارتباط بعضها بالبعض وتألّفها بالوجود الواحد الذي ظهرت به لها كما قلنا يظهر للبعض على البعض تفاوت في الحيطة والتعلّق والحكم ، والتقدّم والتأخّر ، بحسب النسب المسمّاة فعلا وانفعالا ، وتأثيرا وتأثّرا ، وتبعيّة ومتبوعيّة ، وصفة وموصوفيّة ، ولزوميّة وملزوميّة ، ونحو ذلك ممّا ذكر. (١) ولكن وجود الجمع (٢) وبقاؤه إنّما يحصل بسريان حكم الجمع الأحدي الوجودي الإلهي ، المظهر لها والظاهرة الحكم في (٣) حضرته ، بسرّ أمره وإرادته.

تعذّر معرفة الحقائق المجرّدة

وبعد أن تقرّر هذا ، فاعلم أنّ معرفة حقائق الأشياء من حيث بساطتها وتجرّدها في الحضرة العلميّة الآتي حديثها متعذّرة ، وذلك لتعذّر إدراكنا شيئا من حيث أحديّتنا ؛ إذ لا تخلو من أحكام الكثرة أصلا. وأنّا (٤) لا نعلم شيئا من حيث حقائقنا المجرّدة ، ولا من حيث

__________________

(١) ق : ذكرنا.

(٢) ه : الجميع.

(٣) ق : هي في.

(٤) ق : فإنّا.

٣٢

وجودنا فحسب ، بل من حيث اتّصاف أعياننا بالوجود ، وقيام الحياة بنا ، والعلم وارتفاع الموانع الحائلة بيننا وبين الشيء الذي نروم إدراكه ، بحيث يكون مستعدّا لأن يدرك ، فهذا أقلّ ما يتوقّف معرفتنا عليه ، وهذه جمعيّة كثرة وحقائق الأشياء في مقام تجرّدها وحدانيّة بسيطة ، والواحد والبسيط لا يدركه إلّا واحد وبسيط كما اومأت إليه من قبل ، وعلى ما سيوضّح سرّه عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ فلم نعلم من الأشياء إلّا صفاتها وأعراضها من حيث هي صفات ولوازم لشيء مّا ، لا من حيث حقائقها المجرّدة ؛ إذ لو أدركنا شيئا من حيث حقيقته لا باعتبار صفة له أو خاصّة أو عارض أو لازم ، لجاز إدراك مثله ؛ فإنّ الحقائق من حيث هي حقائق متماثلة ، وما جاز على أحد من المثلين جاز على الآخر.

والمعرفة الإجماليّة المتعلّقة بحقائق الأشياء لم تحصل إلّا بعد تعلّقها ـ من كونها متعيّنة ـ بما تعيّنت به من الصفات أو الخواصّ أو العوارض (١) كما عرّفنا الصفة ـ من حيث تعيّنها ـ بمفهوم كونها صفة لموصوف مّا ، فأمّا كنه الحقائق من حيث تجرّدها فالعلم بها متعذّر إلّا من الوجه الخاصّ بارتفاع حكم النسب والصفات الكونيّة التقييديّة من العارف حال تحقّقه بمقام «كنت سمعه وبصره» وبالمرتبة التي فوقها ، المجاورة لها ، المختصّة بقرب الفرائض ، كما سنومئ إلى سرّ ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ ولهذا السرّ ـ الذي نبّهت على بعض أحكامه ـ أسرار أخر غامضة جدّا يعسر تفهيمها وتوصيلها ، أحدها حكم تجلّي الحقّ الساري في حقائق الممكنات الذي أشار شيخنا الإمام الأكمل (رضي الله عنه) إلى خاصّة من خواصّه تتعلّق بما كنّا فيه وذلك في قصيدة الهائيّة (٢) يناجي فيها ربّه يقول في أثنائها :

ولست أدرك في شيء حقيقته

وكيف أدركه وأنتمو (٣) فيه

فلمّا وقف المؤهّلون للتلقّي من الجناب الإلهي المعتلي على مرتبة الأكوان والوسائط ، على هذه المقدّمات (٤) والمنازل ، وتعدّوا بجذبات العناية الإلهيّة ما فيها من الحجب والمعاقد (٥) ، شهدوا في أوّل أمرهم ببصائرهم أنّ صورة العالم مثال لعالم المعاني والحقائق ،

__________________

(١) ق : اللوازم.

(٢) ه : الإلهية.

(٣) ق ، ه : أنتم.

(٤) ق : المقامات.

(٥) ق : المعاقل.

٣٣

فعلموا أنّ كلّ فرد فرد من أفراد صوره مظهر ومثال لحقيقة معنويّة غيبيّة ، وأنّ نسبة أعضاء الإنسان ـ الذي هو النسخة الجامعة ـ إلى قواه الباطنة نسبة صورة العالم إلى حقائقه الباطنة ، والحكم كالحكم فحال بصر الإنسان بالنسبة إلى المبصرات كحال البصيرة بالنسبة إلى المعقولات المعنويّة ، والمعلومات الغيبيّة ، ولمّا عجز البصر عن إدراك المبصرات الحقيرة مثل الذرّات والهباءات (١) ونحوهما ، وعن المبصرات العاليّة كوسط قرص الشمس عند كمال نوره ، فإنّه يتخيّل فيه سوادا لعجزه عن إدراكه ، مع أنّا نعلم أنّ الوسط منبع الأنوار والأشعّة ، ظهر أنّ تعلّق الإدراك البصري بما في طرفي الإفراط والتفريط من الخفاء التامّ والظهور التامّ متعذّر كما هو الأمر في النور المحض والظلمة المحضة في كونهما حجابين ، وأنّ بالمتوسّط بينهما الناتج منهما ـ وهو الضياء ـ تحصل الفائدة كما ستعرفه ـ إن شاء الله تعالى ـ.

فكذلك العقول والبصائر إنّما تدرك المعقولات والمعلومات المتوسّطة في الحقارة والعلوّ ، وتعجز عن المعقولات الحقيرة ، مثل مراتب الأمزجة والتغيّرات الجزئيّة على التعيين والتفصيل ، كالنماء والذبول في كلّ آن ، وعن إدراك الحقائق العاليّة القاهرة أيضا ، مثل ذات الحقّ جلّ وتعالى ، وحقائق أسمائه وصفاته إلّا بالله ، كما ذكرنا.

ورأوا أيضا أنّ من الأشياء ما تعذّر عليهم إدراكه للبعد المفرط ، كحركة الحيوان (٢) الصغير من المسافة البعيدة ، وكحركة جرم الشمس والكواكب في كلّ آن ، وهكذا الأمر في القرب المفرط ، فإنّ الهواء لاتّصاله بالحدقة يتعذّر إدراكه وكنفس الحدقة ، هذا في باب المبصرات ، وفي باب المعقولات والبصائر كالنفس التي هي المدركة من الإنسان ، وأقرب الأشياء نسبة إليه ، فيدرك الإنسان غيره ، ولا يدرك نفسه وحقيقته ، فتحقّق بهذا الطريق أيضا عجز البصائر والأبصار عن إدراك الحقائق الوجوديّة الإلهيّة والكونيّة ، وما تشتمل عليه من المعاني والأسرار. وظهر أنّ العلم الصحيح لا يحصل بالكسب والتعمّل ، ولا تستقلّ القوى البشريّة بتحصيله (٣) ما لم تجد الحقّ بالفيض الأقدس الغيبي ، والإمداد بالتجلّي النوري العلمي الذاتي الآتي حديثه لكن قبول التجلّي يتوقّف على استعداد مثبت

__________________

(١) ه : ألهيآت.

(٢) الحيواني.

(٣) ق : بتحصيل.

٣٤

للمناسبة بين الملتجلّي والمتجلّى له ، حتى يصحّ الارتباط الذي يتوقّف عليه الأثر ، فإنّ لكلّ تجلّ في كلّ متجلّى له حكما وأثرا وصورة لا محالة أوّلها الحال الشهودي الذي يتضمّنه العلم الذوقي المحقّق ، هذا مع أنّ نفس التجلّي من حيث تعيّنه وظهوره من الغيب المطلق الذاتي هو تأثير (١) إلهي متعيّن من حضرة الذات في مرتبة المتجلّى له إذ هو المعيّن والمخصّص ، فافهم.

والأثر من كلّ مؤثّر في كلّ مؤثّر فيه ، لا يصحّ بدون الارتباط ، والارتباط لا يكون إلّا بمناسبة ، والمناسبة نسبة معنويّة لا تعقل إلّا بين المتناسبين. (٢) ولا خلاف بين سائر المحقّقين من أهل الشرائع والأذواق والعقول السليمة [في] (٣) أنّ حقيقة الحقّ سبحانه مجهولة ، لا يحيط بها علم أحد سواه ؛ لعدم المناسبة بين الحقّ من حيث ذاته وبين خلقه ؛ إذ لو ثبت المناسبة من وجه ، لكان الحقّ من ذلك الوجه مشابها للخلق ، مع امتيازه عنهم بما عدا ذلك الوجه وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيلزم التركيب المؤذن بالفقر والإمكان المنافي للغنى والأحديّة ، ولكان الخلق أيضا ـ مع كونه ممكنا بالذات ومخلوقا ـ مماثلا للحقّ من وجه ؛ لأنّ من ماثل شيئا فقد ماثله ذلك الشيء ، والحقّ الواحد الغنيّ الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٤) يتعالى عن كلّ هذا وسواه ممّا لا يليق به.

ومع صحّة ما ذكرنا من الأمر المتّفق عليه ، فإنّ تأثير الحقّ في الخلق غير مشكوك فيه فأشكل الجمع بين الأمرين ، وعزّ الاطّلاع المحقّق على الأمر الكاشف لهذا السرّ ، مع أنّ جمهور الناس يظنّون أنّه في غاية الجلاء والوضوح وليس كذلك وأنا ألمع لك ببعض أسراره ـ إن شاء الله تعالى ـ فأقول :

سرّ الجهل بحقيقة الله تعالى

فأقول : إذا شاء الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ أن يطّلع على هذا الأمر بعض عباده عرّفهم أوّلا بسرّ نعت ذاته الغنيّة عن العالمين بالألوهيّة وما يتبعها من الأسماء والصفات والنعوت ثم

__________________

(١) ق : تأثر.

(٢) ق : المناسبين.

(٣) ق : السليمة شرائع.

(٤) الشورى (٤٢) الآية ١١٠.

٣٥

أراهم ارتباطها بالمألوه ، وأوقفهم على سرّ التضايف المنبّه على توقّف كلّ واحد من المتضايفين على الآخر وجودا وتقديرا ، فظهر لهم وجه مّا من وجوه المناسبة ، ثم نعت الألوهيّة بالوحدانيّة الثابتة عقلا وشرعا ووجدوها نسبة معقولة لا عين لها في الوجود ، فشهدوا وجها آخر من وجوه المناسبة ، وعرّفهم أيضا أنّ لكلّ موجود ـ سواء كان مركّبا من أجزاء كثيرة أو بسيطا بالنسبة أحديّة تخصّه وإن كانت أحديّة كثرة. وأنّ الغالب والحاكم عليه في كلّ زمان في ظاهره وباطنه حكم صفة من صفاته أو حقيقة من الحقائق التي تركّبت منها كثرته.

فأمّا من حيث ظاهره فلغلبة إحدى الكيفيّات الأربع (١) التي حدث عن اجتماعها مزاج بدنه ـ على باقيها. وأمّا من جهة الباطن فهو أيضا كذلك ؛ لأنّ الإرادة من كلّ مريد في كلّ حال وزمان لا يكون لها إلّا متعلّق واحد ، والقلب في الآن الواحد لا يسع إلّا أمرا واحدا ، وإن كان في قوّته أن يسع كلّ شيء.

وأراهم أيضا أحديّة كلّ شيء من حيث حقيقته المسمّاة ماهيّة وعينا ثابتة وهي عبارة عن نسبة كون الشيء متعيّنا في علم الحقّ أزلا ، وعلم الحقّ نسبة من نسب ذاته ، أو صفة ذاتيّة لا تفارق الموصوف ، كيف قلت على اختلاف المذهبين ، فنسبة معلوميّة كلّ موجود من حيث ثبوتها في العلم الإلهي لا تفارق الموصوف.

فظهر من هذه الوجوه المذكورة مناسبات أخر ، ولا سيّما باعتبار عدم المغايرة لعلم (٢) الذات عند من يقول به ، فالألوهيّة نسبة ، والمعلوميّة نسبة ، والتعيّن نسبة ، وكذا الوحدة المنعوت بها الألوهيّة نسبة ، والعين الممكنة من حيث تعرّيها عن الوجود نسبة ، والتوجّه الإلهي للإيجاد بقول : «كن» ونحوه (٣) نسبة ، والتجلّي المتعيّن من الغيب الذاتي المطلق والمخصّص بنسبة الإرادة ومتعلّقها من حيث تعيّنه نسبة ، والاشتراك الوجودي نسبة ، وكذا العلمي.

فصحّت المناسبة بما ذكرنا الآن وبما أسلفنا وغير ذلك ممّا سكتنا عنه احترازا عن

__________________

(١) ب : الأربعة.

(٢) ق : العلم.

(٣) ه : نحوها.

٣٦

الأفهام القاصرة ، والعقول الضعيفة والآفات اللازمة لها ، فظهر سرّ الارتباط ، فحصل الأثر برابطة المناسبة بين الإله والمألوه.

وسائل تحصيل العلم الذوقي

ثم نقول : فلمّا أدرك السالكون من أهل العناية ما ذكرنا ووقفوا على ما إليه أشرنا ، علموا أنّ حصول العلم الذوقي الصحيح من جهة الكشف الكامل الصريح يتوقّف بعد العناية الإلهيّة على تعطيل القوى الجزئيّة الظاهرة والباطنة من التصريفات التفصيليّة المختلفة المقصودة لمن تنسب إليه ، وتفريغ المحلّ عن كلّ علم واعتقاد ، بل عن كلّ شيء ما عدا المطلوب الحقّ ، ثم الإقبال عليه على ما يعلم نفسه بتوجّه كلّي جملي مقدّس عن سائر التعيّنات العاديّة والاعتقاديّة ، والاستحسانات التقليديّة والتعشّقات (١) النسبيّة ، على اختلاف متعلّقاتها الكونيّة وغيرها ، مع توحّد العزيمة والجمعيّة والإخلاص التامّ والمواظبة على هذا الحال على الدوام أو (٢) في أكثر الأوقات ، دون فترة ولا تقسّم خاطر ، ولا تشتّت عزيمة ، فحينئذ تتمّ المناسبة بين النفس وبين الغيب الإلهي وحضرة القدس الذي هو ينبوع الوجود ، ومعدن التجلّيات الأسمائيّة الواصلة إلى كلّ موجود والمتعيّنة المتعدّدة في مرتبة كلّ متجلّى له وبحسبه لا بحسب المتجلّي الواحد المطلق سبحانه وتعالى شأنه.

ولكن (٣) لهذه التجلّيات وأحكامها وكيفيّة قبولها وتلقّي آثارها وما يظهر منها وبها في القوابل أسرار جليلة لا يسع الوقت لذكر تفاصيلها ، وإنّما أذكر (٤) على سبيل الإجمال والتنبيه ما يستدعي هذا الموضع والمقام العلميّ الذي نحن بصدد بيان مراتبه وأسرار ذكره إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ق : التعسّفات.

(٢) ق : و.

(٣) ق : لكن بدون واو.

(٤) ق : اذكر منها.

٣٧

وصل من هذا الأصل

اعلم أنّ إمداد الحقّ وتجلّياته واصل إلى العالم في كلّ نفس ، وبالتحقيق الأتمّ ليس إلّا تجلّيا واحدا يظهر له بحسب القوابل ومراتبها واستعداداتها تعيّنات ، فيلحقه لذلك ، التعدّد والنعوت المختلفة والأسماء والصفات ، لا أنّ الأمر في نفسه متعدّد أو وروده طار ومتجدّد ، وإنّما التّقدّم والتأخّر وغيرهما ـ من أحول الممكنات التي توهم التجدّد والطريان والتقيّد والتغيّر ونحو ذلك ـ كالحالّ في التعدّد ، وإلّا فالأمر أجلّ من أن ينحصر في إطلاق أو تقييد ، (١) أو اسم أو صفة أو نقصان أو مزيد.

وهذا التجلّي الأحديّ المشار إليه والآتي حديثه من بعد ليس غير النور الوجودي ، ولا يصل من الحقّ إلى الممكنات بعد الاتّصاف بالوجود وقبله غير ذلك ، وما سواه فإنّما هو أحكام الممكنات وآثارها تتّصل من بعضها بالبعض حال الظهور بالتجلّي الوجودي الوحداني المذكور.

ولمّا لم يكن الوجود ذاتيّا لسوى الحقّ بل مستفادا من تجلّيه ، افتقر العالم في بقائه إلى الإمداد الوجودي الأحدي مع الآنات ، دون فترة ولا انقطاع ؛ إذ لو انقطع الإمداد المذكور طرفة عين لفنى العالم دفعة واحدة ، فإنّ الحكم العدميّ أمر لازم للممكن ، والوجود عارض له من موجده.

ثم نقول : ولا يخلو السالك في كلّ حين من أن يكون الغالب عليه حكم التفرقة أو الجمع الوحدانيّ النعت ، كما أنّه لا يخلو أيضا فيما يقام فيه من الأحوال من غلبة حكم إحدى

__________________

(١) ب : تقيد.

٣٨

صفاته على أحكام باقيها ، كما بيّنّاه ، فإن كان في حال تفرقة ـ وأعني بالتفرقة هاهنا (١) عدم خلوّ الباطن من الأحكام الكونيّة وشوائب التعلّقات ـ فإنّ التجلّي عند وروده عليه يتلبّس بحكم الصفة الحاكمة على القلب ، وينصبغ بحكم الكثرة المستولية عليه ، ثم يسري الأمر بسرّ الارتباط في سائر الصفات النفسانيّة والقوى البدنيّة سريان أحكام الصفات المذكورة فيما يصدر عن الإنسان من الأفعال والآثار ، حتى في أولاده وأعماله وعباداته التابعة لنيّته وحضوره العلمي.

والنتائج الحاصلة من ذلك كلّه عاجلا وآجلا ، وتذكّر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد سرّ أبيه» و «الرضاع يغيّر الطباع» ونحو ذلك ممّا اتّضح عند اولي البصائر (٢) والألباب فلم يختلفوا فيه ، وكانصباغ النور العديم (٣) اللون بألوان ما يشرق عليه من الزجاج ، فتتكثّر صفات التجلّي بحسب ما يشرق ويمرّ عليه ويتّصل به من صفات المتجلّى له وقواه حتى ينفذ فيه أمر الحقّ اللازم لذلك التجلّي.

فإذا انتهى السالك إلى الغاية التي حدّها الحق وشاءها ، انسلخ عن التجلّي حكم تلك الصفات الكونيّة ، فيعود عودا معنويا إلى حضرة الغيب بتفصيل يطول وصفه ، بل يحرم كشفه.

وهكذا حكم التجلّيات الإلهيّة مع أكثر العالم فيما هم فيه ؛ فإنّ أوامر الحقّ الإرادية الذاتيّة تنفذ فيهم وهم لا يشعرون بسرّ موردها ومصدرها.

فإن كان المتجلّى له في حال جمع متوحّد مع التعرّي عن أحكام التعلّقات الكونيّة على نحو ما مرّ ذكره ، فإنّ أول ما يشرق نور التجلّي على قلبه الوحدانىّ النعت ، التامّ التجلّي ، المعقول (٤) عن صداء الأكوان والعلائق توحّدت أحكام الأحديّات الكلّيّة المتشعّبة من الأحديّة الأصليّة في المراتب التي اشتملت عليها ذاته كحكم أحديّة عينه الثابتة وأحديّة التجلّي الأوّل الذي ظهر به عينه له ، وبهذه الأحديّة من حيث التجلّي المذكور قبل العبد الإمداد الالهي الذي كان به بقاؤه إلى ساعته تلك ، ولكن بحسب الأمر الغالب عليه وأحدية

__________________

(١) ق : هنا.

(٢) ق : الأبصار.

(٣) ق : القديم.

(٤) كذا في الأصل والمصقول أنسب.

٣٩

الصفة الحاكمة عليه حين التجلّي الثاني ، الحاصل لدى الفتح ، بل المنتج له ، فالذي للعين الثابتة في التجلّي الأوّل تقييده بصفة التعيّن فقط ، والذي للصفة الغالبة الوجوديّة صبغ التجلّي بعد تعيّنه بوصف خاصّ يفيد حكما معيّنا أو أحكاما شتّى ، كما سبق التنبيه عليه.

فإذا حصل التوحيد (١) المذكور ، اندرجت تلك الأحكام المتعدّدة المنسوبة إلى الأحديّات والمتفرّعة منها في الأصل الجامع لها ، فانصبغ المحلّ والصفة الحاكمة بحكم التجلّي الأحدي الجمعي ، ثم ينصبغ التجلّي بحكم المحلّ.

ثم أشرق ذلك النور على الصفات والقوى ، وسرى حكمه فيها ، فتكتسى حالتئذ سائر حقائق ذات المتجلّى له وصفاته حكم ذلك التجلّي الوحداني ، وتنصبغ به انصباغا (٢) يوجب اضمحلال أحكام تلك الكثرة وإخفاءها دون زوالها بالكلّيّة ؛ (٣) لاستحالة ذلك.

ثم لا يخلو إمّا أن يتعيّن التجلي بحسب مرتبة الاسم «الظاهر» ، أو بحسب مرتبة الاسم «الباطن» أو بحسب مرتبة الاسم «الجامع» ؛ لانحصار كلّيّات مراتب التجلّي فيما ذكرنا.

فإن اختصّ بالاسم «الظاهر» وكان التجلّي في عالم الشهادة ، أفاد المتجلّى له رؤية الحقّ في كلّ شيء رؤية حال فظهر سرّ حكم التوحيد في مرتبة طبيعته وقواها الحسّيّة والخياليّة ، ولم يزهد في شيء من الموجودات.

وإن اختصّ بالاسم «الباطن» وكان إدراك المتجلّى له ما أدركه بعالم غيبه وفيه ، أفاده معرفة أحديّة الوجود ونفيه عن سوى الحقّ دون حال ، وظهر سرّ التوحيد والمعرفة اللازمة له في مرتبة عقله ، وزهد في الموجودات الظاهرة ، وضاق عنه كلّ كثرة وحكمها.

وإن اختصّ التجلّي بالاسم «الجامع» وأدركه المدرك من حيث مرتبته الوسطى الجامعة بين الغيب والشهادة وفيها ، استشرف على الطرفين ، وفاز بالجمع بين الحسنيين ، ولهذا المقام أحكام متداخلة وأسرار غامضة يفضي شرحها إلى بسط وتطويل ، فأضربت عن ذكرها طلبا للإيجاز. والله وليّ الهداية.

ثم نقول : وهذه التجلّيات هي تجلّيات الأسماء ، فإن لم يغلب على قلب المتجلّى له حكم

__________________

(١) ق : التوحد.

(٢) ب : انصباغات.

(٣) ق : الكليّة.

٤٠