إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (١) وقوله : (ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (٢) وغير ذلك ممّا يطول ذكره ، فافهم (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) (٣) (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤).

__________________

(١) الأنعام (٦) الآية ٣٥.

(٢) الأحقاف (٤٦) الآية ٩.

(٣) يونس (١٠) الآية ٢٥.

(٤) الأحزاب (٣٣) الآية ٤.

٣٢١

وصل آخر

في بيان أقوى أسباب الحيرة الأخيرة

التي للأكابر وأسرارها بلسان ما بعد المطلع

اعلم ، أنّه قد ذكر لك أنّ الإنسان فقير بالذات ، وأنّه دائما طالب ومتوجّه إلى ربّه من حيث يدري ومن حيث لا يدري ، وخصوصا أهل طريق الله ، فإنّهم طالبون بالذات والفعل والحال.

فمن تعيّنت له منهم وجهة ظاهرة مقيّدة بجهة (١) من الجهات ، أو باطنة في أمر مّا من المعقولات ، أو تقيّد طلبه (٢) للحقّ إن زعم أنّه من طالبيه بحسب علم عالم ، أو اعتقاد معتقد ، أو شهود مشاهد ، أو من حيث اعتبار مميّز ، أو أمر مّا معيّن كائنا ما كان ، فهو ممّن استشعرت نفسه بغايته ، وممّن يكون له الرأي (٣) عند الفتح ، وممّن يضعف حكم الحيرة المنبّه عليها فيه ، أو تكاد تزول ممّن يأخذ أو يترك ، ويقبل ويعرض ، ويختار ويرجّح.

ومن لم يبق له في العالم ـ من كونه عالما ـ رغبة ، بل ولا في حضرة الحقّ ؛ لأجل أنّها مصدر للخيرات ، وسبب لتحصيل المرادات ، وتعدّي مراتب الأسماء والصفات ، وممّا (٤) ينضاف إليها من الأحكام والآثار والتجلّيات واللوازم التابعة لها من النسب والإضافات ، فلم يتعيّن له الحقّ في جهة معنويّة أو محسوسة من حيث الظاهر أو الباطن بحسب العلوم

__________________

(١) ق : لجهة.

(٢) ق : طالبه.

(٣) الري.

(٤) كذا في الأصل. والظاهر «وما».

٣٢٢

والمدارك والعقائد والمشاهد والأخبار والأوصاف وغير ذلك ممّا ذكر ؛ ولشعوره أيضا بعزّة الحقّ وإطلاقه وعدم انحصاره في كلّ ذلك أو في شيء منه ، ولعدم امتلائه ، ووقوف همّته عند غاية من الغايات التي وقف فيها أهل المواقف المذكورة آنفا ، وإن كانوا على حقّ ، وقفوا بالحقّ له وفيه ، بل أدرك بالفطرة الأصليّة الآليّة دون تردّد أنّ له مستندا في وجوده ، وتحقّق أن ليس هو ، وأقبل بقلبه وقالبه عليه مواجهة منه ومقابلة لمستنده بأجلّ ما فيه ، بل بكلّيّته ، وجعل حضوره في توجّهه إلى ربّه هو على نحو ما يعلم سبحانه نفسه في نفسه بنفسه ، لا على نحو ما يعلم نفسه في غيره ، أو يعلمه غيره ، فإنّه يصير حاله حينئذ حالا جامعا بين السفر إلى الله ومنه وفيه ؛ لأنّه غير مسافر لنفسه ولا بنفسه ، ولا في نفسه ، ولا بحسب علومه الموهوبة أو المكتسبة بالوسائط المركّبة أو البسائط.

وهذه الحالة أوّل أحوال أهل الحيرة الأخيرة ، التي يتمنّاها الأكابر ولا يتعدّونها (١) ، بل يرقون (٢) فيها أبد الآباد دنيا وبرزخا وآخرة ، ليست لهم وجهة معيّنة في الظاهر أو الباطن ؛ لأنّه لم يتعيّن للحقّ عندهم رتبة يتقيّد بها في بواطنهم وظواهرهم ، فيتميّز عن مطلوب آخر ، بل قد أشهدهم إحاطته بهم سبحانه من جميع جهاته الخفيّة والجليّة ، وتجلّى لهم منه (٣) لا في شيء ولا جهة ، ولا اسم ولا مرتبة ، فحصلوا من شهوده في بيداء التيه ، فكانت حيرتهم منه وبه وفيه.

__________________

(١) في بعض النسخ : لا يتعدّوها.

(٢) في بعض النسخ : يرتقوا.

(٣) ق : بينهم.

٣٢٣

وصل أعلى منه وأجلى وأكشف للسرّ فرعا وأصلا

اعلم ، أنّ الوجود المحض من حيث هو لا يكون مرئيّا ولا متعيّنا ولا منضبطا ، وأعيان الممكنات ـ سواء قيل فيها : إنّها عين الأسماء ، أو حكم بأنّها غيرها ـ فإنّها ـ من حيث هي أعيان مجرّدة ـ لا يتعلّق بها إدراك أصلا ، ولا تنضبط إلّا من حيث التصوّر الذهني ، وتعيّنها في الذهن عارض ؛ إذ ليس هو نفس تعيّنها الأزلي في علم الحقّ ، فإنّ ذلك ثابت أزلا وأبدا ثبوت الحقّ ، وهذا التعيّن عارض للذهن المتصوّر. وغاية هذا التعين أن يشبه ذلك من حيث المحاكاة ، والمحاكاة (١) إنّما تكون بحسب تصوّر المحاكي ، وقوّته وذهنه ليس بحسب ما هي الحقائق المتصوّرة في نفسها بالنسبة إلى تعيّنها في نفس الحقّ ، فليس أحد من الخلق بمدرك لها من حيث هي كما هي ، ولا للوجود ولا لذات الحقّ من حيث إطلاقها عن أحكام النسب والإضافات.

ولا نشكّ (٢) أنّ ثمّة إدراكا أو إدراكات لمدرك أو مدركين يتعلّق بمدرك أو مدركات ، فما الذي أدرك؟ ومن المدرك له؟ وليس ثمّة إلّا ما ذكرنا وبيّنّا أنّه يتعذّر إدراكه كما هو. إن كان متعلّق الإدراك النسب مع أنّها أمور عدميّة يلزم أن يكون المدرك لها وما أدرك به مثلها ؛ لأنّ الشيء لا يدرك بغيره من حيث ما يغايره ، ولا يؤثّر فيه ما يباينه من الوجه المباين هذا ما لا تردّد فيه عند الكمّل ولا دفاع له ، ولا ثمّة (٣) ـ كما مرّ ـ إلّا وجود واحد تفرّع منه ما أضيف إليه ممّا يسمّى صفات وأحوالا ولوازم.

__________________

(١) ه : والحاكاة.

(٢) ق : يشكّ.

(٣) ق : وما ثمّ.

٣٢٤

وكلّها معان بسيطة لا تقوم بنفسها ، ولا يظهر حكمها إلّا بالوجود ، والوجود شرط لا مؤثّر ومع كونه كذلك فلا يتعيّن بنفسه فيدرك ، ولو تعيّن من كان مدركه إذا كان ما سواه لا وجود له إلّا به وهو غير متعيّن بنفسه ، بل لا بدّ له من أمر يظهر به ويكون مرآته ، ووظيفته ـ أعني الوجود ـ الإظهار لا غير ، والإظهار له هو من كونه نورا ، والنور [يدرك به ولا] (١) يدرك هو ، فلا يستقلّ بالظهور ، فكيف بالإظهار ؛ لأنّ الإظهار موقوف على اجتماع واقع بين النور وما يقبله ، ويظهر بظهوره إمّا لمعنى يعبّر عنه بالاشتعال ، أو المحاذاة والانطباع ، فهو حينئذ موقوف على نسبة الجمع ، والجمع أيضا نسبة أو حال كيف قلت ، فكيف يتحصّل من مجموع ما لا يقوم بنفسه ولا يستقلّ ولا يثبت ما يقوم بنفسه ويحكم بثبوته (٢)؟!

وكيف ينقسم ما لا يقوم بنفسه [لذاته أوّلا في ثاني الحال إلى ما يقوم بنفسه ويكون مرئيّا ، وإلى ما يقوم بنفسه وبغيره ويسمّى رائيا ، وإلى ما لا يقوم بنفسه] (٣) ، كالأمر في الأوّل ، وهو بعينه عين كلّ قسم من الأقسام المذكورة ، فيرى لا يرى ، ويرى لا يرى ، وينقسم لا ينقسم ، ويستقلّ لا يستقل ، ويجتمع مع أنّه لا يتعدّد ولا يتغيّر ، ويظهر بالجمع الذي لا وجود لعينه مع استحالة ظهوره بنفسه ، ومع كون الجمع صفته الذاتيّة فالجمع حالة واحدة ، والاجتماعات بحكم الجمع أحوال لعين واحدة ، والوحدة لا تتصوّر إلّا بمقابلها وهو معنى الكثرة ولا كثرة ؛ إذ ليس ثمّة إلّا أمر واحد متنوع ، فأين الجمع ، والوحدة ليست ثمّة أيضا إلّا بالتقدير ؛ فإنّ المدرك هو الكثير ، والمميّز عن الكثرة حال طلب التميّز والحكم به غير متميّز ، بل مقدّر له التميّز بالفرض ، وبالنسبة إلى تشخّصه في بعض الأذهان ، وأمّا هل هو في نفسه مع قطع النظر عن هذا الفرض وهذا التشخّص على نحو ما قدّر له وحكم به عليه أولا؟ حديث آخر ، بل الأمر في نفسه جزما ليس كذلك ؛ لأنّ هذه الأحكام كلّها طارئة ، والذي يقتضيه المحكوم عليه لذاته ثابت له أزلا من نفسه لا لموجب (٤).

ثم إنّ هذه الأحكام كلّها والأحوال تابعة لإنّيّة كلّ مدرك من المدركين بالنسبة إلى مداركه ومشاعره ، فالشيء لم يدرك على ما هو عليه أصلا ولا اهتدى إليه.

__________________

(١) ما بين المعقوفين غير موجود في ق.

(٢) ه : ثبوته.

(٣) ما بين المعقوفين غير موجود في ق.

(٤) ق : بموجب.

٣٢٥

ثم نقول : والمسمّى عالما لم يكن مظروفا للحقّ ؛ لاستحالة ذلك ، ولا ظرفا له «لأنّ الله كان ولا شيء معه» ، ولا كان عدما محضا فصار وجودا ؛ لأنّه لو كان كذلك لزم انقلاب الحقائق ، وأنّه محال ، فمن المدرك منّا؟ ومن المدرك؟ ومن العالم من مجموع ما ذكرنا؟ ومن الحقّ؟ ومن العالم والعلم والمعلوم؟

والنسب كما بيّنّا أمور عدميّة لا وجود لها إلّا في الأذهان ، والأذهان وأصحابها لم يكونوا ثم كانوا ، وكينونة الجميع إن كانت من النسب كما مرّ فقد ظهر الموجود من المعدوم ، وإن كانت ظاهرة عن الوجود ، فالوجود لا يظهر عنه ما لا وجود له ولا أثر له كما مرّ من حيث هو وجود صرف ؛ لأنّه واحد ، والواحد البحت لا ينتج شيئا ولا يناسب ضدّه ، فيرتبط به ، وما لا وجود له مضادّ للوجود ، فكيف الأمر؟

ولا يظهر عن الوجود أيضا عينه ؛ لأنّه يكون تحصيلا للحاصل ، وإن ظهر عنه عينه لا على النحو الحاصل لا بدّ له من موجب غير نفس الوجود ؛ لأنّه لو كان موجبه نفس الوجود لزم مساوقته له أزلا وأبدا ، ولا جائز أن يكون موجبه وجودا آخر ؛ لما يلزم من المفاسد البيّنة الفساد لو كان كذلك ، ولا جائز أيضا أن يكون الموجب نسبة عدميّة ؛ لأنّه يلزم حينئذ تأثير المعدوم في الوجود.

واستناد كلّ ما ظهر إمّا إلى ما لا وجود له ، وإمّا لوجود ونسبة معا بشرط اجتماعهما ، واجتماعهما إن كان طارئا لزم منه مفاسد لا تكاد تنحصر ؛ لأنّ المقتضي للاجتماع إمّا كلّ منهما أو أحدهما أو ثالث ، فإن كان الوجود ، لزم أن يكون فيه جهة تقتضي الاقتران بالنسبة المعدومة ثانيا ، مع عدم اقتضائها ذلك أوّلا ، وفيه ما فيه من المحالات التي لا حاجة إلى تعديدها.

وإن كانت النسبة هي المقتضية للجمع ، لزم أن يكون ما لا وجود له يوجب حكما وأثرا في الوجود ، وأن يكون سببا لظهور كلّ موجود ، وغير ذلك من المحالات مع أنّ الجمع في نفسه لا وجود له ، بل هو نسبة كما مرّ.

وإن كان (١) أمرا ثالثا عاد السؤال ؛ لأنّ ذلك الثالث لا يخلو ، إما أن يكون وجودا أو نسبة

__________________

(١) ق : كانت.

٣٢٦

ويلزم ما مرّ ذكره ، والأمر غير خارج عن هذه الضروب المذكورة ، فكيف الأمر؟ فيثبت الحيرة.

وإن استندنا إلى الإخبارات الإلهيّة ، فالكلام فيها كالكلام فيما مر ؛ لأنّها لا بدّ وأن تكون (١) تابعة للمدارك ، والمدارك أوصاف تابعة للموصوف ، والموصوف لم يثبت بعد ما هو؟ فما الظنّ بما هو تبع له ومتفرّع عنه؟ ومع هذه كلّه فالإدراكات حاكمة ومتعلّقة بمدارك متعدّدة من حيث تنوّع ظهوراته ، أو بمدركات شتّى ، وثمّ لذّة هي عبارة عن إدراك الملائم ، وألم يعبّر عنه بأنّه إدراك غير الملائم ، وثمّة ظلمة ونور ، وحزن وسرور ، فالكلّ ثمّة وما ثمّة كلّ ولا جزء ولا ثمّة ، فما العمل؟ (٢) وما من وكيف؟

ولا تظنّنّ أنّ هذه الحيرة سببها قصور في الإدراك ، أو نقص مانع من كمال الجلاء هنا والاستجلاء لما هناك ، بل هذه حيرة إنّما يظهر حكمها بعد كمال التحقّق بالمعرفة والشهود ، ومعاينة سرّ كلّ موجود ، والاطّلاع التامّ على أحديّة الوجود ، لكن من تقيّد ، وقف ؛ لضيقه وما سار وانقهر لحكم (٣) ما عاين ، فانحرف ومار (٤) ، ومن اتّسع ، جمع وكشف ، فأحاط فدار وحار (٥) وما إن حار (٦) ، بل جرى وانطلق فمار وجار واستوطن غيب ذات ربّه متنوّعا بشئونه سبحانه وبحسبه بعد كمال الاستهلاك فيه به (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٧) هذا مقام السار.

__________________

(١) ه : يكون.

(٢) ق : لعمل.

(٣) ق : بحكم.

(٤) ق : ومارى.

(٥) ه : حاذ.

(٦) ه : حاذ.

(٧) الرعد (١٣) الآية ٢٤.

٣٢٧

تنزّل إلى الأفهام وتأنيس وإيضاح مبهم بتمثيل نفيس

ربما استنكرت أيّها المتأمّل ما أشرت إليه آنفا في سرّ الحيرة ؛ لأنّ فهمك ينبو عن درك سرّه ، وأنت المعذور لا أنا حيث أذكر لك مثل هذا وأتوقّع منك ومن الناس فهمه واستخلاص المقصود من مشتبهه ، وعلمه.

اللهمّ إلّا من حيث إنّي محلّ لتصرّف ربّي ومرآة له ، فهو يظهر بي ويظهر ما يشاء من شأنه ، ويوضح ما اختاره (١) من برهانه ، فإنّي أيضا مقهور (٢) ، لا مختار ولا مجبور ، وها أنا أتنزّل من ذلك المرقى الجليل إليك وإلى غيرك بالتمثيل ، للتفهيم وهدى السبيل ، فارعني سمعك ، وأرصد لي لبّك وفهمك ، والله المرشد.

اعلم ، أنّه سواء كان المتأمّل لهذا (٣) الكلام من المرجّحين لمذهب المتكلّمين ، أو النظّار المتفلسفين ، فإنّه لا يشكّ أنّ ما يدركه من عالم الأجسام الذي هو فيه مركّب من جوهر وعرض ، أو هيولى وصورة ، فالجوهر لا يظهر إلّا بالعرض ، والعرض لا يكون إلّا بالجوهر ، كما أنّ الهيولى لا يوجد إلّا بالصورة ، والصورة لا تظهر إلّا بالهيولى ، ومعقوليّة الجسم المتعيّن في البين عبارة عن معنى ما يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة : الطول ، والعرض ، والعمق.

ثم إنّ الهيولى المجرّد عند أهل النظر لا يقبل القسمة عقلا ، وكذلك الصورة ، مع أنّه بحلول الصورة في الهيولى صارتا جسما ، وقبلتا القسمة ، فانقسم ما كان لذاته غير قابل للقسمة ، مع أنّه لم يحدث إلّا الاجتماع ، وهو نسبة كسائر النسب ، فافهم.

__________________

(١) ق : ما اختار.

(٢) ق : معذور.

(٣) ه : بهذا.

٣٢٨

ثم إنّ الطبيعة ـ التي تولّد عنها ما تولّد ـ عبارة أيضا عن معنى مجرّد مشتمل على أربع حقائق تسمّى : حرارة ، وبرودة ، ورطوبة ، ويبوسة. (١) وذلك المعنى يناسب كلّا من هذه الأربعة بذاته ، بل هو عين كلّ (٢) واحدة منها مع تضادّها ، ومع كونها ـ أعني الطبيعة ـ من حيث هي معنى جامعا للأربعة المذكورة. وهذه وجميع ما تقدّم ذكره عبارة عن معان مجرّدة لا يمكن ظهور شيء منها وإدراكه بمفرده ، ولا بدون الوجود ؛ فإنّ وجود الجميع أيضا من كونه وجودا بحتا لا يتعيّن بنفسه ، ولا يظهر من حيث هو فيدرك ، فإذا اجتماع هذه المعاني هو المستلزم لظهورها ، وإدراكها ، والاجتماع نسبة أو حالة لا وجود لها في عينها ، وما ثمّة أمر آخر يتعلّق به الإدراك ، وقد تعلّق فما هو؟ وكيف هو؟ وهذه صورتك التي من حيث هي أمكنك إدراك ما تدرك ناتجة عن الأصول المذكور شأنها ، وأجلّها الطبيعة ، فالصور ظهرت عن الطبيعة.

وإذا أمعنت النظر فيما ظهر عنها لم تلفه شيئا زائدا عليها ، ومع أنّ الذي ظهر ليس غيرها ، فليست من حيث معقوليّة كلّيّتها عين ما ظهر ، ولم تزدد بما ظهر عنها ولم تنتقص ولم تتميّز ؛ إذ ليس ثمّة غير فتميّز عنه ؛ لأنّ الذي ظهر عنها جزما ليس غيرها ، وهذا ما لا خفاء فيه ، فافهم.

وأمّا روحك الذي تزعم أنّه مدبّر لصورتك وكلّ ما يسمّى روحا فالحديث فيه أبسط وأطول ، وسرّه أخفى وأشكل ، وعن كنه ربّك فلا تسأل ، فقد منعت الخوض فيه وأويست فلا تطل فسر بعد وألق عصا التسيار «فما بعد العشيّة من عرار» ، ولعمر الله إن جمعت بالك ممّا نبّهتك عليه ، واستحضرت ما مرّ ذكره ، وأضفت هذا الفصل والذي يليه إليه ، رأيت العجب العجاب ، وعرفت السرّ الذي حيّر أولي الألباب.

__________________

(١) ق : يبوسة ورطوبة.

(٢) ه : كلواحدة.

٣٢٩

فصل في خواتم الفواتح الكلّيّة وجوامع الحكم

والأسرار الإلهيّة القرآنيّة والفرقانيّة

وهو آخر فصول الكتاب والله متمّ نوره ، فمن ذلك خاتمة تكون لمعظم أسرار الحقّ وأسمائه وأسرار الفاتحة موضحة وفاتحة ، فنقول ـ مبتدئين من بسم الله إلى آخر السورة إن شاء الله ـ :

اعلم ، أنّ الأسماء ـ على اختلاف ضروبها ومفهوماتها في الحقيقة ـ هي أسماء للأحوال ، ولذي الحال ـ من حيث هو ذو حال (١) ، ومن حيث هو مدرك نفسه وما فيها في كلّ حال بحسبه ـ مبدأ تعيّن الجمع (٢) وهو مقام أحديّة الجمع الذي نبّهتك عليه غير مرّة ، وأخبرتك أنّه ليس وراءه اسم ولا رسم ، ولا تعيّن ولا صفة ولا حكم ، لكن تعيّن الأسماء من هذا المقام على نحوين :

النحو الواحد هو بحسب أحكام الكثرة التي يشتمل (٣) عليها هذا المقام وهي الأسماء المنسوبة إلى الكون ، ولهذا نقول وقتا : الكثرة وصف العالم من كونه عالما وسوى ، وفي تجلّي الكثرة وأحكامها تتلاشى العقول النظريّة وتفشّ (٤) عن درك سرّ الوحدة والحسن المستجنّ فيها ، فتجبن عن إضافة شيء من أحكام إلى الحقّ المتعيّن عندها ، وترد بأحكام الكثرة عليها ولا تدري.

وسبب ذلك كونها لم تشهد الوحدة الحقيقيّة التي لا تضادّها الكثرة ولا تقابلها ، بل هي

__________________

(١) ق : أو ذو أحوال.

(٢) ق : الجميع.

(٣) ه : تشتمل.

(٤) يحتمل : تطيش وفي ق : تعشى.

٣٣٠

نسبة الوحدة المعلومة عندهم وعند غيرهم من المحجوبين وأكثر العارفين والكثرة أيضا إلى هذه الوحدة المشار إليها على السواء ، لأنّها منبع لهما ولأحكامهما ، مع عدم التقيّد بالمنبعيّة وغيره.

ثم نرجع ونقول : ومعقوليّة النسبة الجامعة لأحكام الكثرة من حيث وحدتها عبارة عن حقيقة العالم ، وتعيّن الحقّ من حيثها عبارة عن وجود العالم.

ثم إنّ هذا الوجود بعد ظهوره بشئونه انقسم بالقسمة الأولى من حيث التعيّن إلى ثلاثة أقسام : إلى ما غلب عليه طرف الوحدة والبطون كالأرواح على اختلاف مراتبها بحسب درجات هذا القسم ، وإلى ما ظهر وغلب عليه أحكام الكثرة كالأجسام المركّبة على اختلاف مراتبها أيضا بحسب الدرجات ، وإلى ما توسّط بينهما.

ثم إنّ المتوسّط انقسم إلى ما غلب عليه حكم الروحانيّة وحكم مجمل الظهور الأوّل كالعرش والكرسي ، وإلى ما غلب عليه نسبة الجمع بكمال الظهور التفصيلي آخرا كالمواليد (١) الثلاث على ما بينها من التفاوت في الدرجات ، مع دخولها تحت قسم واحد يسمّى «بعالم الشهادة» ، فإنّه هو المقابل لعالم الأرواح وعالم الغيب على ما ذكر في أوّل الكتاب عند الكلام على الحضرات الخمس. وبقي الوسط الذي تفرّع منه ما تفرّع مشتملا على درجات لكلّ منها أهل ، كالسماوات السبع ، والأسطقسات الأربع.

وظهر الإنسان آخرا بصورة الكلّ مقام الجمع الأحدي ، الذي لا يتعيّن قبله أوّليّة ولا غيرها ، وله العماء ، وقد مرّ حديثه في صدر الكتاب فاذكر.

والخلافة للإنسان بهذه الصورة هي من حيث صحّة المحاذاة والمحاكاة والمطابقة لما (٢) ظهر من صورته في الحكم والجمع والمحاكاة لما عداهما وغيرهما لما بطن منه ، والاستخلاف لما بطن هو من حيث السببيّة الأولى في تعيّن صورة نفسه الجامعة لما اشتملت عليه ذاته ، والاستعلاء بعد التحقّق بالكمال على الخلافة والخروج عنها بردّها إلى الأصل أو إلى المثل بمزيد من الحسن والبهاء ، كما مثّل لك في ماء الورد وغيره من قبل ،

__________________

(١) ق ، ه : كالمولدات.

(٢) ق ، ه : بما.

٣٣١

واستحضار قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (١) ، هو بخصوصيّة حكم مقام أحدية الجمع المتنزّه عن التقيّدات (٢) بوصف وحال معيّن من خلافة ونيابة وغيرهما ، لاستيعابه كلّ حال ومقام ووصف ، واشتماله وقبوله كلّ حكم واسم وفعل (٣) وحرف. ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل.

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٤)

ثم نقول : المسمّيات موجودات هي ـ كما ذكر لك ـ تعيّنات شؤونه سبحانه وهو ذو الشؤون ، فحقائق الأسماء ، والأعيان عين شؤونه التي لم تتميّز (٥) عنه إلّا بمجرّد تعيّنها منه ، من حيث هو غير متعيّن. والوجود المنسوب إليها عبارة عن تلبّس شؤونه بوجوده ، وتعدّدها واختلافها عبارة عن خصوصياته المستجنّة في غيب هويّته ، ولا موجب لتلك الخصوصيّات ؛ لأنّها غير مجعولة ، ولا يظهر تعدّدها إلّا بتنوّعات ظهوره ، لأنّ (٦) تنوّعات ظهور ذاته في كلّ منها هو المظهر لأعيانها ؛ ليعرف البعض منها من حيث تميّزه البعض ومن أيّ وجه يتّحد (٧) فلا يغايره (٨) ، ومن أيّه يتميّز (٩) فيسمّى غيرا وسوى ، وإن شئت فقل : كان ذلك ليشهد هو خصوصيّات ذاته في كلّ شأن من شؤونه.

ومثال هذا التقلّب في الشؤون ـ ولله المثل الأعلى ـ : تقلّب الواحد في مراتب الأعداد ؛ لإظهار أعيانها ، ولإظهار عينه من حيثها ، فأوجد الواحد العدد ، وفصّل العدد الواحد ، بمعنى أنّ ظهوره في كلّ مرتبة ـ ممّا نسمّيه في حقّ الحقّ شأنا كما أخبر عن نفسه سبحانه ـ يخالف ظهوره في المرتبة الأخرى ، ويتبع كلّ ظهور من حيثيّة كلّ شأن من الأسماء والأوصاف والأحوال والأحكام بمقدار سعة دائرة ذلك الشأن وتقدّمه على غيره من الشؤون.

وكلّ ما يرى ويدرك ـ بأيّ نوع كان من أنواع الإدراك ـ فهو حقّ ظاهر بحسب شأن من

__________________

(١) النساء (٤) الآية ٥٨.

(٢) ق : التقيّد.

(٣) ق : وحرف وفعل.

(٤) القصص (٢٨) الآية ٨٨.

(٥) ق : تميّز.

(٦) في بعض النسخ : لا تنوّعات ظهور ذاته أو ظهوراته.

(٧) ه : تتّحد.

(٨) ه : تغايره.

(٩) ه : تتميّز.

٣٣٢

شؤونه القاضية بتنوّعه وتعدّده ظاهرا ، من حيث المدارك التي هي أحكام تلك الشؤون مع كمال أحديّته في نفسه ، أعني الأحديّة التي هي منبع لكلّ وحدة وكثرة ، بساطة وتركيب ، وظهور وبطون ، فافهم.

وانظر إلى أحديّة الصورة الجسميّة التي يدركها (١) بصرك ، وكون الفواصل المتعدّدة لمطلق الصورة الجسميّة أمورا غيبيّة غير مدركة ، كالمعنى الفاصل بين الظلّ والشمس ، والسواد والبياض ، واللطيف والكثيف (٢) ، والصلب والرخو ، وكلّ برزخ بين أمرين مميّز (٣) بينهما يرى حكمه ظاهرا ، وهو غيب لا يظهر.

ألا وإن الفواصل البرزخيّة هي الشؤون الإلهيّة ، وهي (٤) على قسمين : تابعة ، ومتبوعة. والمتبوعة على قسمين : متبوعة تامّة الحيطة ، وغير تامّة.

فالتابعة أعيان العالم. والمتبوعة ـ التي ليست تامّة الإحاطة ـ هي أجناس العالم وأصوله وأركانه ، وإن شئت فسمّها الأسماء التالية التفصيلية وأنت صادق. والمتبوعة التامّة الحيطة والحكم أسماء الحقّ وصفاته ، وفي التحقيق الأوضح فالجميع شؤونه وأسماء شؤونه وأسماؤه من حيث هو ذو شأن أو ذو شؤون كما مرّ ، فلا تغلط واذكر.

فتسميته واحدا هي باعتبار معقوليّة تعيّنه الأوّل بالحال الوجودي بالنسبة إليه إذ ذاك ، لا بالنسبة إليه من حيث تعيّن ظهوره في شأن من شؤونه وبحسبه.

وتسميته (٥) ذاتا هي باعتبار ظهوره في حالة (٦) من الأحوال (٧) التي تستلزم تبعيّة الأحوال الباقية لها ، وأحواله وإن كان ـ كما قلنا ـ بعضها تابعا وبعضها متبوعا ، وحاكما ومحكوما ، فإنّ كلّا منها من وجه له الكلّ (٨) ، بل هو عينه.

[وتسميته (٩) «الله» هي باعتبار تعيّنه في شأنه الحاكم فيه على شؤونه] (١٠) القابلة به منه أحكامه وآثاره.

__________________

(١) ق : مدركها.

(٢) ه : الكشف.

(٣) متميّز.

(٤) ه : هو.

(٥) ه : تسمية.

(٦) ق : حال.

(٧) ق : أحواله ، ه : أحوال.

(٨) ق : له الكلّ من وجه.

(٩) من «وتسميته» إلى «شؤونه» غير موجود في ق.

(١٠) ما بين المعقوفين لم يرد في ق.

٣٣٣

وتسميته «الرحمن» عبارة عن انبساط وجوده المطلق على شؤونه الظاهرة بظهوره ؛ فإنّ الرحمة نفس الوجود. والرحمن الحقّ من كونه وجودا منبسطا على كلّ ما ظهر به ومن حيث كونه أيضا باعتبار وجوده له كمال القبول لكلّ حكم في كلّ وقت بحسب كلّ مرتبة وحاكم على كلّ حال.

وتسميته رحيما هي من كونه مخصّصا ومخصّصا ؛ لأنّه خصّص بالرحمة العامّة كلّ موجود ، فعمّ تخصيصه وظهوره سبحانه.

ومن حيث الحالة المستلزمة الاستشراف على الأحكام المتّصلة من بعضها بالبعض تبعيّة ومتبوعيّة ، وتأثيرا وتأثّرا كما قلنا ، واجتماعا وافتراقا ، بتناسب وتباين ، واتّحاد واشتراك سمّي علما. وهو من تلك الحيثيّة وباعتبار كونه مدركا نفسه وما انطوت عليه في كلّ حال وبحسبه سمّى نفسه عالما.

والسريان الذاتي الشرطي من حيث التنزّه عن الغيبة والحجبة ، ودوام الإدراك المتعدّي حكمه إلى سائر الشؤون يسمّى حياة ، وهو الحيّ بهذا الاعتبار.

والميل المتصل من بعض الشؤون بسرّ الارتباط بشئون أخر بموجب حكم المناسبة الثابتة في البين المرجّحة تغليب حكم بعض الشؤون على البعض ، وإظهار التخصيص الثابت في الحالة المسمّاة علما لتقدّم ظهور بعض الشؤون على البعض يسمّى إرادة ، وهو من حيثها يكون مريدا.

والحالة التي من حيثها يظهر أثره في أحواله بترتيب يقتضيه التخصيص المذكور والنسب المتفرّعة عن كلّ حال منها تسمّى قدرة ، وهو من حيثها قادر.

و (١) انتظم أمر الوجود وارتبط ، وزهق الباطل وسقط.

وها أنا قد فتحت لك بابا لا يلجه ولا يطرقه إلّا النّدر من أهل العناية الكبرى ، فإن كنت ممّن يستحقّ مثل هذا ، فلج وافتح بهذا المجمل مفصّله ، وكن بكلّيّتك لله «فمن كان لله كان الله له»

__________________

(١) ق : أو.

٣٣٤

وصل منه بلسان جمع الجمع

اعلم ، أنّ تقديم الشيء على سواه ، وتصدير الأمور به يؤذن بتهمّم المقدّم لذلك الأمر ، المصدّر له به ، فتقديم الحقّ ثناءه في صدر كلامه دليل على أمور منها : التهمّم به والتعريف بمزيّته ؛ فإنّه المفتاح المشير إلى المقصد الغائي ، الذي هو عبارة عن الحال الكلّي الأخير ، الذي يستقرّ عليه أمر الكلّ من حيث الجملة ، وإنّه ناتج من بين معرفتهم التامّة بالحقّ وبكلّ ما يسمّى «سوى» وبين شهودهم الذاتي الخصوصي ، المتفرّعين عن الهداية الخاصّة ، المحرّض على طلبها والمتكفّل بإنالتها طالبيها ، لكن بعد حسن التوسّل بجزيل الذكر وجميل الثناء وتجريد التوحيد حال التوجّه بالعبادة ، وكمال الاعتراف بالعجز والقصور والاستناد مع الإذعان. كلّ ذلك بمعرفة (١) الاستحقاق وتعيّن موجبات الرغبة المنبّه عليها في (رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وموجبات الرهبة المندرجة في (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) والتنبيه أيضا على أنّ من لم يتّسم بسمة الهداية المعنيّة بحيث يسري حكمها في أحوال المهتدي وأفعاله ، وعاجل أمره وآجله ومآله ، حتى ينتهي به الأمر إلى الاحتظاء بما حظي به الكمّل من ربّهم قبله ، أو السعداء مثله ، وإلّا فهو بصدد الانصباغ بحكم الغضب ، والوقوع في مهواة الحيرة وبيداء التيه.

والغاية القصوى ما سبق الإشارة إليه من حال الكمّل ؛ لأنّ (٢) السبب الأوّل في إيجاد العالم هو حبّ الحقّ أن يعرف و (٣) يعبد كما أخبر ، ويشهد كماله بظهوره ووجوده.

__________________

(١) ق : لمعرفة.

(٢) ق : أنّ.

(٣) ه : أو.

٣٣٥

والمراتب الوجوديّة والعلميّة إنّما تقوم وتدوم في كلّ زمان بالكامل المستناب والمستندب لتكميل ذلك وحفظ نظامه في ذلك الزمان ، فلا جرم وقع الأمر كما هو عند من يعرفه. وقد تكرّرت التنبيهات الإلهيّة على ذلك في الكتب المنزلة ، وبلسان الكمّل.

فمن ذلك قوله سبحانه في التوراة : «يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي» (١) ومثله قوله لموسى ـ على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام ـ : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٢) وقوله لمجموع الكمّل : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (٣) ، بعد التعديد والتفصيل غير مرّة ، ونحو هذا ممّا يطول ذكره ، ولم يختلف فيه أحد من أهل الاستبصار.

ولمّا كان الثناء من كلّ مثن على كلّ مثنى عليه تعريفا للمثنى عليه ، ومتضمّنا دعوى المثني أنّه عارف بمن يثني عليه من حيث هو مثنى عليه ، وكانت الحجّة البالغة لله ، أراد سبحانه أن يظهر كمال الحجّة ـ الّتي بها كمال المعرفة المطلوبة ـ كتعلّق إرادته بإظهار كمال باقي شؤونه ، فإنّ ثبوت معرفته بنفسه وبكلّ شيء عند نفسه يكون حجّة من حيث كمال العلم ، وزوال التهمة ، لكن لا تكون بالغة إلّا إذا تمّ ظهورها في كلّ مرتبة ، وعند جميع من كان من أهل تلك المرتبة ، أو ظهر بها وفيها ، كظهورها ووضوحها في نفس المبرهن (٤) الحقّ المحقّ. وتذكّر قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٥) ، وما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من «أنّ الله لا يؤاخذ أحدا يوم القيامة حتى يعذر من نفسه» يعني (٦) : حتى تتركّب حجّة الله عليه ويفلج (٧) ، ومن ذلك قوله أيضا صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ليس أحد أحبّ إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك أرسل الرسل ، وأنزل الكتب» (٨) و (٩) ، فافهم.

فقد عرّفتك في هذه الخاتمة أشرف أسرار البسملة من حيث أصل الأسماء ، ثم عرّفتك سرّ «الحمد لله» وتصدير الكلام العزيز بها.

__________________

(١) ر. ك : أحاديث مثنوي ، ص ١٨١.

(٢) طه (٢٠) الآية ٤١.

(٣) الجاثية (٤٥) الآية ١٣.

(٤) ق : المرتهن.

(٥) النساء (٤) الآية ١٦٥.

(٦) ق : حتى يعني.

(٧) ه : تلفج.

(٨) ق : الكتاب.

(٩) جامع المسانيد ، ج ١١ ، ص ٧٩٠.

٣٣٦

وأمّا سرّ إضافة «الحمد» إلى «الله» فهو من حيث إنّه أوّل التعيّنات المرتبيّة الجامعة ، وقد نبّهت عليه منذ قريب.

وسرّ إضافة الربوبيّة إلى الاسم «الله» هو تأنيس المخاطبين لما تعطيه حضرة الألوهيّة (١) من الأحكام المتضادّة الظاهرة والمغيبة ، وما يلازمها (٢) من فرط جلال الهيبة (٣) والعظمة بخلاف الربوبيّة المستلزمة للشفقة ، وحسن الاشتمال على المربوبين بالتغذية ، والتربية و ، الإصلاح ونحو ذلك.

وسرّ الشمول بالإضافة هو لفتح باب مطامع الكلّ فيه إذا أطاعوا ، وليرهبوا أيضا بأجمعهم إذا أفرطوا (٤) أو قصّروا ، للمعنى المدرج في (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو المجازاة.

وسرّ إيّاك كما مر ، هو : أنّ المتعيّن من (٥) علمك فيك أوّلا هو في ثاني حال هدف أسهم إشاراتك ، ومقصد تتعيّن عنده مراداتك ، وتستجلي فيه شؤونك كلّها ، وتفاصيل أحكام إرادتك ، فظهر الفرع بصورة الأصل ، وهذا أمر إن عرفته عرفت الكلّ.

وسرّ (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هو عطف على الإشارة المتقدّمة بوجه يخالف الوجه الأوّل ، كما مرّ بيانه ، وتصريح بما أجمل في باء البسملة من حكم الفقر ، وعدم الاستقلال (٦) ، والإقرار بالانقياد ، والتوجّه إليه ، والتعويل في المهامّ عليه. و (اهْدِنَا) إلى آخر السورة هو طلب أدرج فيه سرّ المحاكاة من الفرع للأصل (٧) ، وسيّما في المقصود الأوّل من الإيجاد ، الذي حاصله التعريف والتمييز المشار إليه : «بأحببت أن أعرف» ، فافهم ؛ فإنّه لو لا الإيجاد ، لم يظهر تمييز مرتبة الحدوث من القدم ، ولا مرتبة الوحدة ـ من حيث اشتمالها على الأحكام المتعدّدة الكثيرة ـ من الوحدة الصرفة التي لا حكم يقيّدها ، ولا وصف يعيّنها ، ولا لسان يوضّحها ويبيّنها ، وقد مرّ بيان ذلك في صدر الكتاب.

وأمّا سرّ المغضوبيّة فهو نفس الانحرافات الظاهرة الصوريّة ، والباطنة الروحانيّة والمعنويّة ، المتعيّنة بين بداية أمر الوجود وغايته بسبب تداخل الأحكام والأحوال

__________________

(١) ق : الألوهة.

(٢) ق : لا يلازمها.

(٣) ق : «فرى» وردت قبل «العظمة».

(٤) ق : فرطوا.

(٥) ق : في.

(٦) ق : الاستهلاك.

(٧) ق : الأصلي.

٣٣٧

المضافة إلى الأسماء والأعيان ، وغلبة بعض تلك الأحكام للبعض غلبة تخرج جمعيّتها عن نقطة الاعتدال الخصيص بتلك الجمعيّة أيّ جمعيّة كانت ، فافهم.

وقد عرفت سرّ البدايات والغايات ، وأنّ الحقّ هو الأوّل والاخر ، وأنّ شؤونه هي المتعيّنة في البين فلا تنس.

ولمّا كانت الفاتحة أمّ الكتاب ـ أي أصله ـ وقد عرّفتك في أوّل الكتاب مرتبتها ، وأنّها الأنموذج الشريف الأخير ، وكان غيب الذات من حيث اللاتعيّن ـ حال لا حكم ولا صفة ولا اسم ـ متقدّما على جميع التعيّنات الظاهرة والباطنة ، العلميّة والوجوديّة ، وكان مصير الأمور كلّها ومنتهاها إلى ما تعيّنت منه أوّلا ، والحقّ هو الأوّل ، اقتضى الأمر السرّ العدلي الكمالي العيني (١) ختم الفاتحة بلفظ يدلّ على الحيرة التي كان آخر مراتبها من حيث حال المتّصفين بها متّصلا بغيب الذات ، ولهذا كان منتهى الأكابر (٢) ؛ فإنّ حيرتهم في الله هي في أعلى خصوصيّات ذاته من ذاته ، بعد تعدّي سائر مراتب أسمائه وصفاته.

وكما كان أوّل الحضرات الوجوديّة المتعيّنة من غيب الذات هي حضرة التهيّم (٣) ، وفيه تعيّن المهيّمون المستغرقون بما هم فيه عن الشعور بأنفسهم ، وبمن هيّمهم شهوده وفرط قربه ، وبالسوى كان الآخر نظير الأوّل ، كما بيّنّا ، فإنّ الخاتمة عين السابقة ، فختم سبحانه أحوال الصفوة من عباده بما بدأ به ، وإن كان بين أهل الحيرة الأخيرة هنا وبين من هناك فرقان عزيز لا يعرفه إلّا النّدر من الأكابر وقد نبّهتك عليه تعريضا وتمثيلا فتذكّر.

وكذلك ختم سبحانه شؤونه مع خلقه من الوجه الكلّي بالحال الذي بدأهم بحكمه وهو الرضا ؛ فإنّه لمّا كانت الرحمة نفس الوجود ـ كما بيّنّا ـ ، كان وصفه الذاتي هو الرضا ، ولهذا قابله الغضب ، ووقعت بينهما المجاراة (٤) الشريفة التي ذكرها سبحانه ، ثم سبقت الرحمة الغضب ، وغلبته بالرضا الذي هو وصفها الذاتي ؛ لأنّه سبحانه لو لم يرض لنفسه من نفسه الإيجاد ، و (٥) لأعيان الممكنات الاتّصاف (٦) بالوجود الذي سمح به ورضيه لهم ، ما وجد

__________________

(١) ق : الغيبي.

(٢) ق : للأكابر.

(٣) ق : الهيم.

(٤) ه : المحاذاة.

(٥) لم يرد في ق.

(٦) ه : الاتضاف.

٣٣٨

ما وجد. وكون الرضا له مراتب كثيرة لا ينافي ما ذكرنا ، فصورة (١) الرضا العامّة نفس الإيجاد وبذل الوجود لكلّ موجود ، ثم تعيّنت خصوصيّاته بحسب أحكامه ، وعددها مائة عدد ، عدد الرحمات ، فافهم.

فلا جرم كان آخر أحكامه الكلّيّة في السعداء من خلقه ـ كما أخبر ـ رضاه عنهم ، فلا يسخط عليهم أبدا ، فختم تعريفه لهم من الوجه الكلّي بما تعيّن (٢) لهم منه آخرا ، وهو المتعيّن أوّلا ، والسلام.

وختم آخر أحوالهم ـ من حيث هم ـ بالدعاء الذي هو السؤال ، وهو كان أوّل أحوالهم ؛ لأنّ أوّل أمر انصبغوا به حكم سؤال الحقّ نفسه بنفسه ، وتعلّق طلبه بكمالي (٣) الظهور والإظهار ، فسرى حكم ذلك السؤال في حقائقهم ؛ لكونهم إذ ذاك في عين القرب الذي هو عبارة من (٤) ارتسامهم في نفسه سبحانه ، فسألوا الإيجاد بألسنة الاستعدادات من حيث حقائقهم ، فكانت إجابة الحقّ لهم إيجادهم ، كما نبّهتك عليه في صدر الكتاب عند الكلام على سرّ البدء ، فختمت أحوالهم آخرا بالسؤال ، وكان ذلك بصيغة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، كما أخبر سبحانه بقوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ؛ لأنّ المقصود من السؤال الأوّل المذكور إنّما ظهر كماله حينئذ ، لا جرم تعيّن الحمد ، كالآكل والشارب ونحوهما إنّما شرع له التحميد إذا قضى وطره ممّا يباشره ، فافهم.

وختم سبحانه القرآن ـ العزيز (٥) المنزل ـ بآية الميراث ؛ لأنّ آخر الأسماء حكما ـ وخصوصا في الدنيا ـ الاسم الوارث (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٦).

وسأمثّل لك في سرّ الميراث مثالا إن أمعنت النظر فيه أشرفت على علم كبير عزيز جدّا ، وذلك أنّ أشعّة الشمس وكلّ صورة نيّرة لا تنبسط إلّا إذا قابلها جسم كثيف ، وفي التحقيق الأوضح لو لم يكن ثمّة (٧) جسم كثيف لم يظهر للشمس نور منبسط ، فالشعاع تعيّن بين

__________________

(١) ه : قصورة.

(٢) ق : يتعيّن ، ه : تتعيّن.

(٣) ق : بكمال.

(٤) ق : لم يرد.

(٥) ق : لم يرد.

(٦) مريم (١٩) الآية ٤٠.

(٧) ق : ثم.

٣٣٩

الشمس وبين الصورة (١) الكثيفة ، فكلّما كثرت ظهر انتشار الشعاع وانبسط (٢) ، وكلّما قلّت تقلّص ذلك الشعاع في الأمر الذي انتشر منه ، فتقلّصه بالوصف المتحصّل له من كلّ ما انبسط عليه هو عودة الورث ، نوره المنبسط عنه أوّلا متزايد الحسن مما استفاده من كلّ ما اقترن به ، فانطبع فيه ، كما مرّ في ماء الورد ، وذهب ما لم يكن ثابتا لذاته ، ولا مرادا لعينه ، بل كان ثباته بالنور المنبسط عليه ، والأمر الساري فيه الثابت آخرا (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣).

وقد عرّفتك في صدر الكتاب : أنّ الكمال الذاتي وإن لم يزل فأكمليّته إنّما ظهرت بالكمال الأسمائي ، والأسماء إنّما تعيّنت بالأعيان علما ووجودا ، فلو لا الأعيان لم يكن الكمال الأسمائي المرتبي ، كما أنّه لو لا الحقّ ، لم يحصل للأعيان الكمال الوجودي ، فكلّ وارث ، وهذان (٤) الحالان هما الموروثان آخرا ، والمتماثلان أوّلا (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٥).

والأمر في أحد الجانبين قد استبان بما ذكرنا ، وفي الجانب الآخر عبارة عن الشأن الذي أعقبه الاستخلاف بعد كمال الحضور والمباشرة للتصرّف والإيجاد والاستخلاف ، فمع البطون لا محالة ، ومدار الورث وما ذكرنا على البطون والظهور ، والغيبة الأخيرة التي هي من لوازم الأكمليّة بالاستهلاك الأتمّ في الحقّ تقضي باستخلاف الخليفة ربّه المستخلف له ، وتوكيله التوكيل الأتمّ ، وقد مرّ حديثهما من قبل ، فتذكّر.

وأمّا حكم ما عدا الكمّل من الخلفاء في الورث فبمقدار حظّهم في الخلافة ، وبحسب نسبتهم إليها وكلّ ذو حظّ منها ونصيب وإن قلّ ، فاستحضر ما أسلفت في ذلك ، وافهم ، ومن الغرائب أن تفهم ما نريد ، والسلام.

واعلم ، أنّ البحر يرث الأنهار ، والأرض ترث ما انفصل منها بوجه ، وكذا الهواء والنار مع الأوليين (٦) يرثون ما تولّد عنهم ، والعلويات ترث القوى المنبثّة منها في القوابل ، وورث

__________________

(١) ق : الصور.

(٢) ق : انبساطه.

(٣) القصص (٢٨) الآية ٨٨.

(٤) ق : وهذا المثالان هما الموروثان آخرا والمثالان بدل الحالان هما أوّلا.

(٥) لقمان (٣١) الآية ٢٢.

(٦) ق : الأوّلين.

٣٤٠