إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ) (١) (الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٢) فافهم.

فلليد الواحدة المضاف إليها عموم السعداء الرحمة والحنان (٣) كما ورد ، وللأخرى القهر والغضب ولوازمهما ، ولكلّ منهما دولة وسلطنة يظهر حكمها في السعداء القائمين بشروط العبوديّة وحقوق الربوبيّة حسب الإمكان ، وفي الأشقياء المعتدين الجائرين المنحرفين عن سنن الاعتدال الذي نبّهناك عليه ، المفرطين في حقوق الألوهة (٤) والمضيفين إلى أنفسهم ما لا يستحقّونه على الوجه الذي يتوهّمونه.

وغاية حظّهم من تلك الأحكام ما اتّصل بهم بشفاعة ظاهر الصورة الإنسانيّة المحاكية بصورة الإنسان الحقيقي الكامل ، وشفاعة نسبة الجمعيّة ، والقدر المشترك الظاهر بعموم الرحمة الظاهرة الحكم في هذه الدار ، وقد عرّفتك بأسرارها ، فتذكّر.

فلمّا جهلوا كنه الأمر ، اغترّوا وادّعوا واجترءوا وأشركوا وأخطئوا في إضافة الألوهة حقيقة إلى صورة متشخّصة لم يظهر عليها من أحكام الألوهة إلّا البعض ، فلا جرم استعدّوا بذلك لاتّصال أحكام الغضب بهم ، ولأن يكونوا هدفا لسهامها (٥) ، فالحقّ سبحانه من حيث اسميه : «الحكم» «العدل» يطالبهم بحقّ ألوهته (٦) ، ويحكم بينها (٧) وبينهم ، ويغضب لها على من بخسها حقّها ، وجار وجهل سرّها ، ولم يقدّرها قدرها.

ولو لا سبق الرحمة الغضب وغلبتها بالرحمة الذاتيّة الامتنانيّة التي هي للوجه الجامع بين اليدين ، ما تأخّرت عقوبة من شأنه ما ذكر.

هذا ، مع أنّه ما ثمّ من سلم من الجور بالكلّيّة ولو لم يكن إلّا جورنا في ضمن أبينا آدم عليه‌السلام حين مخالفته ؛ فإنّا إذا لم نكن غيره فبنا أذنب وسلب ، كما أنّه (٨) ما سلب ، كما أنّه بتلقّيه الكلمات من ربّه ، وكمال جوهريّته وجمعيّته ، رجع إلى مقامه الكريم ، فلكلّ من ذلك نصيب يجني ثمرته عاجلا بالمحن والأنكاد إن اعتني به ، وآجلا بحكم (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (٩)

__________________

(١) ق : «يوم القيامة» لا توجد.

(٢) الزمر (٣٩) الآية ٦٧.

(٣) ه : الجنان.

(٤) ق ، ه : الألوهيّة.

(٥) في بعض النسخ : لسامها.

(٦) ق : الرهبة.

(٧) ق : بينهما.

(٨) كذا في الأصل. والظاهر زيادة «كما أنّه» وفي ق : عنه.

(٩) مريم (١٩) الآية ٧١.

٣٠١

وأمّا من لم يعتن (١) به ، فشأنه كما أخبرنا ، فافهم.

وإلى عموم الجور والظلم أشار الحقّ سبحانه بقوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (٢) ولكن استواء الرحمة العامّة من حيث الاسم «الرحمن» على العرش المحيط بصور العالم ، وشفاعة الصورة وأحديّة الفعل ، من حيث الأصل والفاعل منع من ذلك ، فتأخّرت سلطنة «الحكم العدل» إلى يوم القيامة الذي هو يوم الكشف ويوم الفصل والقضاء الظاهر الشامل.

فهناك يظهر الأمر تماما للجمهور ، ولهذا قال سبحانه : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو يوم المجازاة ، والسرّ في ذلك العالم (٣) هو أنّه لو ظهرت سلطنة «الحكم العدل» هنا ، ما جار أحد على أحد ، ولا تجاسر على ظلمه ، ولا افترى على الله وعلى عباده ، ولكان الناس أمّة واحدة ، ولم تكمل إذا مرتبة القبضتين ، ولا ظهر سرّ المجازاة الواقعة بين الغضب والرحمة ، والأسماء والصفات اللازمة لهما ، ولا كان حلم ولا عفو ولا صبر ولا تبديل سيّئة بحسنة ولا غير ذلك ، فأين إذا (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٤) أي ممنوعا؟ فالرحمة العامة تستلزم العطاء الشامل كلّ شيء ، لا جرم وقع الأمر هكذا ، فحقّت الكلمة ، وحلّت (٥) النقمة ، وظهر حكم الغضب ، ثم غلبت الرحمة ، فافهم.

ثم لتعلم أنّ حكم الغضب الظاهر على الكمّل هو من هذا القبيل ، إنّما يظهر بسبب التقصير في أداء حقوق الألوهة وحصرها في صورة معيّنة بإضافة تنافي حيطتها وسعتها ، فهم ينتصرون لها ببعض مظاهرها العادلة المعتدلة ، من مظاهرها المنحرفة المخدجة بسوء قبولها حسن اعتدال الألوهة ولطائف كمالاتها ، لا أنّهم يغضبون لأنفسهم من حيث هم عبيد ، كما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان لا يغضب لنفسه ، وإذا غضب لله لم يقم لغضبه شيء.

ومطلق غضبهم في الحقيقة هو ما قلنا من قبل عبارة عن تعيّن غضب الحقّ فيهم من كونهم مجاليه ومجالي أسمائه وصفاته ، لا أنّهم يغضبون كغضب الجمهور وقد شهدت

__________________

(١) ه : يعتني.

(٢) فاطر (٣٥) الآية ٤٥.

(٣) ق ، ه : العام.

(٤) الإسراء (١٧) الآية ٢٠.

(٥) ق : حكمت ، ه : حكمة.

٣٠٢

الشريعة أيضا بذلك في قصّة (١) أبي بكر لما نهى صهيبا وبلالا وسلمان وبقية الستّة عن الوقوع في أبي سفيان لمّا مرّ بهم وقالوا له : بعد ما أخذت سيوف الله من عنق عدوّ الله ، فقال لهم أبو بكر : تقولون هذا لشيخ قريش وكبيرها؟ أو نحو ذلك ، فلمّا بلغ ذلك الخبر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) قال : «لعلّك أغضبتهم يا أبا بكر ، إن أغضبتهم أغضبت ربّك» فرجع إليهم وقال : استغفروا لي يا إخوتي ، فقالوا : غفر الله لك [يا أخي. فقال : أغضبتكم؟ فقالوا : لا ، يا أخي] (٣) و (٤).

فافهم أنّ ثمّة من يغضب الحقّ لغضبه ، ويرضى لرضاه ، بل ثمّة من نفس غضبه هو غضب الحقّ ، وعين رضاه رضا الحق.

وغضب الخلق حالة ناتجة عن أثر طبيعي وفعل غير موافق لمزاج الغاضب ومراده ، وهكذا حكم أهل الله مع باقي الصفات ليس حالهم معها حال الجمهور ، ولا نسبتها إليهم نسبتها إلى سواهم ، وبين صفات الرحمة وصفات الغضب بالنسبة إلى الحقّ وإلى الكمّل ومن دونهم فروق دقيقة لا يعرفها إلّا من عرف سرّ أحديّة الفعل والفاعل ، وسرّ سبق الرحمة وسببها وما الغضب المسبوق المغلوب. وسألمع لك بنبذة من أسراره تحت أستار الأمثلة والعبارات ، فارصد فهمك ، واجمع همّك ، تعثر على المقصودات (٥) ـ إن شاء الله ـ

اعلم ، أنّ باطن الغضب رحمة متعلّقها الغضب والمغضوب عليه ، فأمّا الغضب فإنّه ينفث بغضبه وإمضاء حكمه في المغضوب عليه ما يجده من الضيق بسبب عدم ظهور سلطنة (٦) نفسه تماما ، التي بها نعيمه ، (٧) وفيها لذّاته وذلك التعذّر إمّا لوجدان المنازع ، أو اعتياص (٨) الأمر المتوقّع منه أن يكون محلّا لنفوذ الاقتدار تماما ، أو آلة مؤاتية (٩) لما يراد من التصرّف بها وفيها (١٠) عن حسّ المؤاتاة ، وعن تنفيذ الأوامر بها أيضا وفيها.

ولنفس الغضب مثلا موازين وسنن مع القدرة على حزمها لا يمكن أن تحزم ؛ إذ لو حزمت لنيل مراد جزئي أو تكميل أمر خاصّ غير الأمر المراد لعينه دون غيره ، استلزم ذلك

__________________

(١) ق : قضية.

(٢) ق : رسول الله.

(٣) ما بين المعقوفين غير موجود في ق.

(٤) جامع المسانيد ، ج ٧ ، ص ٥٩.

(٥) ق : المقصد.

(٦) ق : سلطنته.

(٧) ه : نعيمة.

(٨) ق : الاعتياض.

(٩) ق : متواتيه.

(١٠) ق : منها.

٣٠٣

الحزم فساد أصل كلّي ، أو فساد الأمر الأصلي المراد لعينه ، والمراد ما سواه لأجله ، فوجب رعاية الأصلح ، وترجيح الأهمّ ، وبهذا قام الوجود ، وانتظم أمر كلّ موجود ، وتفصيل هذا السرّ يطول ، وفي هذا الإلماع كفاية للألبّاء وغنية.

وأمّا سرّ الأمر من جهة المغضوب عليه فهو على أنواع ثلاثة : تطهير ووقاية ، وتكميل.

أمّا الوقاية فكصاحب الآكلة ـ نسأل الله العفو والعافية منها ومن كلّ داء ـ إذا ظهرت في عضو أحد وقدّر أن يكون الطبيب والده أو صديقه أو شقيقة ، فإنّه مع فرط محبّته فيه يبادر لقطع العضو المعتلّ ؛ لما لم يكن فيه قابليّة الصلاح أو المعالجة ، فتراه يباشر الإيذاء الظاهر وهو شريك المتأذّي بذلك الأذى ، ولا مندوحة ؛ لتعذّر الجمع بين جلب العافية وترك القطع ؛ لما لم يساعد استعداد العضو على ذلك ، فافهم.

وتذكّر : «ما تردّدت في شيء تردّدي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا (١) أكره مساءته (٢) ولا بدّ له من ذلك» والوالد يظهر الغضب لولده رعاية لمصلحته (٣) وهو في ذاته غير غاضب ، وإنّما يظهر بصفة الغضب بحيث يظنّ الولد أنّه متّصف بالغضب حقيقة وليس كذلك ، وإنّما موجب (٤) ظنّه في أبيه ما يشاهده من الأثر الدالّ على الغضب عادة ، والأمر بخلافه في نفس الأمر ، وإنّما ذلك لقصور نظر الولد ، ولعدم استقلاله بالمصالح دون تعليم وزجر وتأديب وتقويم ، فلو وفي استعداده بالتحقّق بالكمال المطلوب للوالد (٥) ، ما ظهر ما ظهر ، ولا ظنّ ما ظنّ ، بل علم مراد أبيه ممّا ظهر به من حكم الغضب ، مع عروه عنه.

وأمّا الأمر من حيث التطهير فمثاله : لو أنّ ذهبا مزج برصاص ونحاس وغيرهما لمصلحة لا يمكن حصولها إلّا بالمجموع كما هو مجرّب في بعض الطلسمات الروحانيّة المشترط (٦) فيها مجموع المعادن ، بحيث لو نقص شيء منها لم يحصل المقصود ، ثم إنّه إذا فرضنا انقضاء الوقت المراد لأجله ذلك الجمع وحصل المطلوب أو انتهت مدة حكمه وقصد تمييز الذهب ممّا مازجه من غير جنسه ، لا بدّ وأن يجعل في النار الشديدة ، لينفرد

__________________

(١) ق : لا توجد.

(٢) ق : مساته.

(٣) ه : لمصلحة.

(٤) ق : يوجب.

(٥) ق : للولد.

(٦) ق : المشروط.

٣٠٤

الذهب ويظهر كماله الذاتي ، ويذهب ما جاوره ممّا لم يطلب لنفسه ، وإنّما أريد لمعنى فيه يتّصل بالذهب وقد اتّصل. كماء الورد كان أصله ماء ، وعاد إلى أصله ، لكن بمزيد عطريّة وكيفيّات مؤثرة مطلوبة استفادها لمجاورة غير الجنس ، لم تكن موجودة في مجرّد الماء أوّلا وهكذا الأمر في الغذاء يوصله الإنسان ويضمّه إليه ، فإذا استخلصت الطبيعة منه المراد رمت بالثفل ؛ إذ لا غرض فيه. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١).

وقال في هذا المعنى ببيان (٢) آخر أوضح وأتمّ تفصيلا : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) (٣) الآيات. فتدبّرها ؛ ففيها تنبيهات شريفة على أحوال أهل قبضة الغضب ، وأهل قبضة الرحمة والرضا.

وأمّا التكميل فمشار إليه في تبديل السيّئات حسنات في قوله : «أسلمت على ما أسلفت من خير». وفي الجمع بين حكم اليدين ، وفي استجلاء الرحمة المستبطنة في الغضب والقهر وفي استطعام حلاوة الحلم مع القدرة ، واستجلاء كمال الصبر مع أن لا مكره من خارج ، فافهم ، وارق ؛ فإنّك إن علوت عن هذا النمط وقت الرواح لا وقت العود استجليت سرّ القدر المتحكّم في العلم والعالم والمعلوم.

ومن رقى فوق ذلك رأى غلط الإضافات السابقة في الأفعال والأسماء والصفات والأحوال ، فإن رقى فوق ذلك رأى الجمال المطلق لا قبح عنده ، ولا تشريف ولا غلط ولا نقص ولا تحريف.

فإن رقى فوق ذلك رأى الجور والعدل والظلم والحلم والحقوق المؤدّاة والتقصير والبخس والإذهانة والجدّ والتعظيم والكتمان والإبانة كلّها محترقة بنور السبحات

__________________

(١) الأنفال (٨) الآية ٣٧.

(٢) ق : تبيان.

(٣) الرعد (١٣) الآية ١٧.

٣٠٥

الوجهيّة ، مستهلكة في عرصة الحضرة الذاتيّة الأحديّة.

فإن رقى فوق ذلك سكت فلم يفصح وخرس ، فلم يوضح وعمي ، فلم ينظر وذهب ، فلم يظهر.

فإن أعيد ظهر بكلّ وصف ، وكان المعنى المحيط بكلّ حرف لم يعتص عليه أمر ، ولم يستغرب في حقّه عرفان ولا نكر.

مراتب الرضا

ولنعد الآن إلى إتمام ما كنّا قد شرعنا فيه من تقسيم مراتب الرضا المثمر للتنعّم بالنعم ، (١) بعد تعدّينا بفضل الله مراتب الغضب والفراغ من ألسنة أحكامه ، فنختم الكلام على الرضا ؛ لأنّه آخر الأحوال الإلهيّة حكما في السعداء ، كما سننبّه عليه.

فنقول : مراتب الرضا المثمر للنعم كلّها والتنعّم بها ثلاث :

حكم أوّلها رضا الحقّ عن الموجودات من حيث استصلاحها لأن يتوجّه إليها بالإيجاد وبقسط مّا من الإحسان ؛

وحكم الثانية الرضا عن كافّة المؤمنين ؛

وحكم الثالثة الرضا عن خواصّهم ، وعن الأنبياء والأولياء ، كما ورد وثبت.

وهذا القسم ينقسم إلى قسمين : قسم خاص ، وقسم أخصّ ، فالخاصّ ما يتعلّق بالأنبياء والأولياء ، والأخصّ هو الذي عيّنه سبحانه بقوله : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٢) فعرفنا أنّ هذا رضا (٣) مخصوص ليس لكلّ الرسل والأنبياء ؛ لعدم عموم حكم العلامة (٤) المذكورة ، في الجميع مع رضاه عن سائرهم ، ولأنّه أخبرنا أنّه قد رضي عن المؤمنين ، فعن الأولياء أولى ، فعن الأنبياء آكد ، فما الظنّ بالرسل؟

فحيث خصّص هنا ب «من» وبالعلامة ، عرفنا أنّه رضا خاصّ ، وهو ثابت لا محالة لآخر الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّه بعينه آخر الصفات الإلهيّة حكما في الآخرة في السعداء ، فكان العطاء

__________________

(١) ق : للتنعيم.

(٢) الجنّ (٧٢) الآية ٢٧.

(٣) ه : رضى.

(٤) وهي السلوك من بين يديه وغيره وفي ، ق : العلاقة.

٣٠٦

الآخر بالآخر محبّة وكمالا أنسب.

وأمّ أنّ الرضا آخر المنح الكلّيّة الحاصلة من الحقّ للسعداء فالحجّة فيه ظاهر ما (١) ورد : إنّ الله سبحانه إذا تجلّى لعباده في الجنّة وخاطبهم ومنّاهم ولاطفهم وحيّاهم عدّد عليهم نعمه ، ثم سألهم ماذا تريدون؟ فلا يجدون للتمنّي مساغا ، فيقول : قد بقي لكم عندي ، فيتعجّبون ويسألون ، فيقولون : في آخر الأمر : «رضاي عنكم ، فلا أسخط عليكم أبدا» فيجدون لذلك من اللذّة والراحة ما لا يقدّر قدره أحد ، فصحّ أنّ الله سبحانه يختم أمر السعداء بالرضا الذي به كمال نعيمهم ، كما أنّ شهوده روح كلّ نعيم.

مراتب النعيم

واعلم ، أنّ مراتب النعيم أربع : مرتبة حسّية ، وأخرى خياليّة ، وثالثة روحانيّة ، والرابعة السرّ الجامع بينها ، الخصيص بالإنسان وهو الابتهاج الإلهي بالكمال الذاتي ، يسري حكمه في الظاهر والباطن وما ذكر.

ومراتب الآلام أيضا الثلاث (٢) المذكورة ، وهي في مقابلة الاعتدال الحسّي والروحاني والمثالي. والمقابل للابتهاج الرابع هو صفة الغضب. المحدث كلّ ألم وتعب وانحراف في المراتب الثلاث ، وفي الأجسام الطبيعيّة هو الانحراف على اختلاف مراتبه ، فافهم.

وأتمّ مراتب مطلق النعيم رؤية الحقّ على الوجه الذي أنبّهك عليه ، وهو أن يكون الرائي خلقا ، والمرئيّ حقّا ، والذي يرى به (٣) حقّ أيضا ، فهذه ، الرؤية اللذيذة التي لا لذّة فوقها أصلا وما سوى هذه من المشاهدات ، فإمّا دون هذه ، وإمّا التي تفنى ولا لذّة معها. وإلى هذه (٤) أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله في دعائه ربّه : «وارزقني لذّة النظر إلى وجهك الكريم أبدا دائما سرمدا» ولم يقل : ارزقني النظر إلى وجهك الكريم ، فافهم ، فالشرف والنعيم في العلم ، وإلّا فمجرد الرؤية دون العلم لا يجدي.

ربّ امرئ نحو الحقيقة ناظر

برزت له ، فيرى ويجهل ما يرى

__________________

(١) ق ، ه : أمّا.

(٢) أي : حسية وخيالية وروحانية وفي بعض النسخ : الثلاثة.

(٣) ربّه.

(٤) ق : هذا.

٣٠٧

وتذكّر قول العلماء : اللذّة والنعيم عبارة عن إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، فحيث لا إدراك لا نعيم ولا نعمة إذا ؛ فإنّ المال والجاه والمطعم الشهيّ ، (١) والمنظر البهيّ وغير ذلك إنّما يعدّ نعمة ويتنعّم به من حيث إدراك ما في كلّ واحد منها من أحكام الكمال بالنسبة إلى المدرك.

فحصول اللذّة والتنعّم وتفاوته هو بحسب ذلك القرب الكمالي وصحّة الإدراك ، فبمقدار قوّة إدراك الكمال من حيث أحكامه المناسبة للمدرك تقع اللذّة ويصدق اسم النعمة على ذلك الأمر عند المدرك.

ومن تحقّق بالكمال حتى صار منبعا لأحكامه ، صار هو ينبوع النعم ، وسببا لنعيم المتنعّمين من كونه عين النعم (٢) ونفس اللذّة ؛ لأنّه أصل كلّ شيء ، فيظهر بحكمه متى شاء فيما أراد من الصفات والأحوال التي هو جامعها بالذات.

وأمّا هو فيلتذّ بكلّ ما يلتذّ به الملتذّون ، مع اختصاصه بأمر لا يشارك فيه وهو تنعّمه باستجلائه حسن كماله وما تشتمل (٣) عليه مرتبته من الجهة التي تلائم حاله حين الاستجلاء ، فافهم ، فهذا عزيز جدّا.

ودون صاحب هذا الحال في النعيم في الدنيا من وافقت مراداته الطبيعيّة والنفسانيّة مراد الحقّ منه وعلمه فيه ، مع ملاحظة ذلك في كثير من الأوقات ، وإنّما قلت : في كثير من الأوقات ؛ لاستحالة دوام ذلك في كلّ حال.

ومثله أو دونه بيسير من تمكّن (٤) من الإبراز إلى الحسّ بكل (٥) ما تنشئه (٦) إرادته في ذهنه ، وهذا التمكّن شرط في الكمال لا الظهور به ، وإنّما جعلت هذه الرتبة بعد الرتبة الأولى ؛ لأنّ صاحب هذا التمكّن لا بدّ وأن يكون متعوبا (٧) من جهات أخرى ، هي من لوازم هذا التمكّن دون انفكاك ، فاعلم ذلك.

وأكثر الناس تألّما في الدنيا من كثرت فيه الأمانيّ الشهيّة التي لم يقدّر الحقّ ظهورها في

__________________

(١) الشهيء.

(٢) ه : النعيم.

(٣) ه : يشتمل.

(٤) ق : مكن.

(٥) ق ، ه : كل.

(٦) ه : تشنئه.

(٧) ق : منعوتا.

٣٠٨

الخارج ، مع نقص (١) عزائمه في أكثر ما يتوخّاه ، وشظف (٢) العيش ، أعاذنا الله من ذلك.

مراتب الرضا الإنساني

ثم نرجع ونقول : واعلم ، أنّ للرضا (٣) المثمر للنعم والتنعّم بها في عرصة أحوال الإنسان أيضا ثلاث مراتب ، كما هو الأمر في جانب الحقّ.

فأوّل درجاته فيه رضاه من حيث الباطن عن عقله ، وما زيّن له من الأحوال والأعمال التي يباشرها ، هذا عموما وأخصّ منه ما ورد من ذكر المؤمن له : رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّا ، ومن حيث الظاهر رضاه عن ربّه بما تعيّن له منه من صور الأعمال والأحوال الظاهرة ، التي يتقلّب فيها في حياته الدنيا ومعاشه ، دون قلق مزعج (٤) يتمرّر به العيش ، لا أنّه يطمئنّ ويسكن دون تمنّ وتشهّ (٥) ؛ فإنّ ذلك من أحكام المرتبة الثانية ، وإنّما أعني ما عليه أكثر الناس من أهل الحرف والصنائع وأمثالهما.

وأمّا الرتبة الثانية من الرضا المقرون (٦) بقوّة الإيمان وارتفاع التهمة من جانب الحقّ فيما وعد وأخبر عاجلا في أمر الرزق ، وباقي المقدورات التي الإنسان (٧) بصدد التلبّس بها ، المتكرّر بيانها (٨) في الكتاب والسنّة ، والمجمل في قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٩) فإنّه من عرف أنّ الله أرأف به من نفسه ، وأعرف بمصالحه ، وأشدّ رعاية لها منه ، ويرى دقائق ألطافه ، وحسن معاملته معه ، وما له عليه من النعم التي لا تحصى ممّا حرمها غيره ، فإنّه يرضى عنه وعمّا يفعله معه وإن تألّم طبعه ، فذلك لا يقدح ، وإنّما المعتبر في هذا نفسه القدسيّة ؛ فإنّ الرضا ليس من صفات الطبع.

وأتمّ حال يكون عليه أحد من أهل هذه المرتبة الثانية أن يقرّر في نفسه ـ إذ لا يخلو في

__________________

(١) ه : نقض.

(٢) أي : ضيقه.

(٣) ق : الرضا.

(٤) ه : مرعج.

(٥) ه : تشة.

(٦) ه : مقرون.

(٧) ق : للإنسان.

(٨) ه : بيانه.

(٩) الحديد (٥٧) الآية ٢٢.

٣٠٩

كلّ حال يكون فيه من إرادة تقوم به ، سواء كان مختارا في تلبّسه بذلك الحال أو مكرها عليه ـ أن يجعل إرادته تبعا لحكم الشرع في ذلك الحال ، أو ذلك الأمر كائنا ما كان ، فما أراده الشرع ورضي به ، رضيه لنفسه في نفسه وفي غيره ومن غيره ؛ لاتّصافه بالإرادة لما أراده الشرع خاصّة (١) دون غرض باق له على التعيين في أمر مّا غير ما عيّنه الشرع وسوّغه ، هذا يعرفه أهل مقام الرضا ؛ فإنّ له أهلا من أكابر الصوفيّة (٢) ذائقين لحكمه ، عارفين بأسراره ، منصبغين (٣) بأحواله. والأدلّة والشواهد في هذا الباب (٤) بحسب الموازين المشروعة العامّة ، والموازين الخاصّة والمتعارفة بين أهل هذا الشأن كثيرة لسنا نحتاج إلى ذكرها ؛ إذ القصد الإيجاز والإلماع لا البسط.

واعلم ، أنّ كلّ مرتبة هاتين المرتبتين تشتمل على درجات لكلّ درجة أهل ، وبين المرتبتين أيضا درجات كثيرة لها أرباب ، وهكذا الأمر في كلّ ما ذكرناه من هذا القبيل في هذا الكتاب وغيره ، إنّما نكتفي بذكر الأصول الحاصرة التي لا يخرج شيء عنها من جنسها. وأمّا التفاصيل المتشعّبة فقد أضربنا عنها صفحا ، لرغبتنا في الإيجاز ، ولو لا (٥) قصور المدارك ما احتجت إلى هذه التنبيهات في أثناء الكلام ؛ لأنّها كالعلاوة الخارجة عن المقصود.

ثم نرجع ونقول : وأعلى مراتب الرضا في مرتبة العبوديّة أن يصحب العبد الحقّ لا بغرض ولا تشوّف ولا توقّع مطلب معيّن ولا أن يكون علّة صحبته له ما يعلمه من كماله ، أو بلغه عنه ، أو عاينه منه ، بل صحبة ذاتيّة لا يتعيّن لها سبب أصلا ، وكلّ أمر وقع في العالم أو في نفسه يراه ويجعله كالمراد له ، فيلتذّ به ويتلقّاه بالقبول والبشر والرضا ، فلا يزال من هذا حاله في نعمة دائمة ونعيم مقيم ، لا يتّصف بالذلّة ولا بأنّه مقهور أو مغضوب عليه ، فتدركه الآلام لذلك ، وعزيز صاحب هذا المقام ، قلّ أن يوجد ذائقة (٦) وسبب قلّة ذائقة أمران :

__________________

(١) ه : خاصته.

(٢) ق ، ه : الصفوة.

(٣) ق : المتّصفين.

(٤) ه : لباب.

(٥) ق : فلو.

(٦) ه : ذائقة.

٣١٠

أحدهما : عزّة المقام في نفسه ؛ لأنّه من النادر وجدان من يناسب الحقّ في شؤونه ، بحيث يسرّه كلّ ما يفعله الحقّ وكأنّه هو فاعله والمختار له بقصد معيّن. وغير ذلك ممّا لا يمكن التصريح به.

والأمر الآخر : كون (١) الطريق إلى تحصيل هذا المقام مجهولا (٢) ، ولمّا كان الإنسان لا يخلو نفسا واحدا عن طلب يقوم به لأمر مّا ، والطلب وصف لازم لحقيقته لا ينفكّ عنه ، فليجعل متعلّق طلبه مجهولا غير معيّن إلّا من جهة واحدة ، وهو أن يكون متعلّق طلبه ما شاء الحقّ إحداثه في العالم وفي نفسه أو (٣) غيره ، فما رآه أو سمعه أو وجده في نفسه أو عامله به أحد ، فليكن ذلك عين مطلوبه المجهول قد عيّنه له الوقوع ، فيكون قد وفى حقيقة كونه طالبا ، ويحصل له اللذّة بكلّ واقع منه أو فيه أو في غيره أو من غيره.

فإن اقتضى ذلك الواقع التغيّر تغيّر ؛ لطلب الحقّ منه التغيّر ، فهو طالب الواقع ، والتغيّر (٤) هو الواقع ، ليس (٥) بمقهور فيه ولا مغضوب عليه ، بل ملتذّ في تغيّره ، كما هو ملتذّ في الموجد (٦) للتغيير ، وما ثمّ طريق إلى تحصيل هذا المقام إلّا ما ذكر ، فافهم.

وما رأيت بعد الشيخ رضي الله عنه من قارب هذا إلّا شيخا (٧) واحدا اجتمعت به في المسجد الأقصى ، ثم في موضع آخر ، هو من أكبر من لقيت ، أعرف له من العجائب ما لا يقبله أكثر العقول. صحبته وشاهدت من بركاته في نفسي وفي ذوقي غرائب رضي الله عنه.

__________________

(١) ق : يكون.

(٢) ق ، ه : مجهول.

(٣) ق : أو في.

(٤) ه : التغيره.

(٥) ه : وليس.

(٦) ه : الموجب.

(٧) ق : شخصا.

٣١١

وصل في قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ)

قد سبق في تفسير هذه الكلمة نكت نفيسة بلسان الظاهر والباطن وغيرهما ، تنبّه على جملة من الأسرار ، وسنذكر الآن تمامها (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ ، فنقول :

أمّا بيان ما بقي من ظاهرها فهو أنّ هذه الكلمة معطوفة على قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ، فهو استثناء تابع لاستثناء لا غير.

وأمّا الواجب بيانه هنا فتعيين مراتب الضلالة ، وأهلها وأحكامها. ولنقدّم مقدّمة كلّية نافعة قريبة من الأفهام ، ثم نشرع في التفصيل.

اعلم ، أنّ إضلال الحقّ عبده (٢) هو [عدم عصمته إيّاه عمّا نهاه عنه] ، (٣) وعدم معونته وإمداده بما يتمكّن به من الإتيان بما أمره به ، أو الانتهاء عمّا نهاه عنه.

وسرّ الإضلال والاستهزاء والمكر والخداع ونحو ذلك ـ ممّا أضافه الحقّ إلى نفسه ، وتحيّر أكثر العقول عن نسبته إلى الحقّ تنزيها له ـ هو من باب تسمية الفرع باسم الأصل ؛ إذ مكر العبد ـ مثلا ـ واستهزاؤه هو الأصل المتقدّم الجالب ما ذكر ، والمسمّى مكرا واستهزاء وغير ذلك من هذه الأوصاف التي لا يعرف الأكثرون كمالها إنّما يظهر ويتعيّن بهذا الحكم من سرّ (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) فافهم ، والله المرشد.

مراتب الضلال

ثم اعلم ، أنّه قد كنّا نبّهناك على أنّ الضلال الحيرة ، وأنّ (٤) لها ثلاث مراتب ،

__________________

(١) ق : بتمامها ، ه : تتّماتها.

(٢) ق : عنده.

(٣) ما بين المعقوفين غير موجود في ق.

(٤) ق : «ان» لا توجد.

٣١٢

كما لباقي (١) الصفات المنبّه عليها :

فالمرتبة الأولى : تختصّ (٢) بحيرة أهل البدايات من جمهور الناس. وحكم الثانية يظهر في المتوسّطين من أهل الكشف والحجاب. وحكم الثالثة مختصّ بأكابر المحقّقين.

أمّا سبب الحيرة الأولى العامّة فهو كون الإنسان فقيرا طالبا بالذات ، فلا يمرّ عليه نفس يخلو فيه من الطلب ؛ لما (٣) ذكرنا من فقره الذاتي ، وذلك الطلب متعلّقة في نفس الأمر الكمال الذي هو غاية الطالب ، ولنفس ذلك الطلب فروع متعلّقة بمطالب (٤) ليست مرادة لأنفسها ، كالطلب المتعلّق بالمأكل والمشرب ونحوهما ممّا يعيّنه الوقت ؛ لجلب منفعة جزئيّة ، أو دفع مضرّة مثلها ، والغايات تتعيّن بالهمم والمقاصد والمناسبات الداعية الجاذبة وغير ذلك ممّا سبق ذكره مستوفى.

فما لم يتعيّن للإنسان وجهة يرجّحها ، أو غاية يتوخّاها ، أو مذهب أو اعتقاد يتقيّد به بقي حائرا قلقا ؛ لأنّه مقيّد من حيث النشأة والحال وأكثر ما هو فيه ، فلا غنى له عن الركون إلى أمر يستند إليه ويربط نفسه به ويعوّل عليه.

وهكذا أمره فيما يعانيه (٥) من الأشغال (٦) والحرف أو الصنائع ، فإذا جذبته المناسبة بواسطة بعض الأحكام المرتبيّة رؤية أو سماعا انجذب إلى ما يناسبه من المراتب.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى بواعث الإنسان المتعيّنة من نفسه ؛ فإنّ البواعث مخاطبات نفسانيّة داعية للمخاطب بها إلى الأصل الذي يستند إليه ذلك الباعث ، وهذا هو السبب الأوّل (٧) في انتشار الملل (٨) والنحل والمذاهب المتفرّعة على ما عيّنه الحقّ بواسطة ضروب وحيه وإرشاد الرسل والأنبياء وكلّ مقتدى محقّ ، فالحيرة سابقة شاملة الحكم لما ذكرناه من قبل في سرّ الهداية ولما نذكره عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وأوّل مزيل لها ـ أعني هذه الحيرة الأولى ـ تعيّن المطلب المرجّح ، ثم معرفة الطريق الموصل ، ثم السبب المحصّل ، ثم ما يمكن الاستعانة به في تحصيل الغرض ، ثم معرفة

__________________

(١) ق : كلباقي.

(٢) ق : مختص.

(٣) في بعض النسخ : ما.

(٤) ق : بمطلب.

(٥) ق ، ه : يعاينه.

(٦) ق : الاشتغال.

(٧) ق : الأولى.

(٨) ق : النحل والملل.

٣١٣

العوائق وكيفيّة (١) إزالتها ، فإذا تعيّنت هذه الأمور تزول (٢) هذه الحيرة.

ثم إنّ حال الإنسان ـ بعد أن يتعيّن له ما ذكرنا ويشرع في الطلب ويرجّح أمرا مّا يراه الغاية والصواب ـ على ضربين : إمّا أن يستحوشه ذلك الأمر بحيث أن لا يبقى فيه فضلة يطلب بها المزيد ـ كما هو حال أهل الاعتقادات والنحل غالبا ـ أو يبقى فيه فضلة من صحو ، فتراه ـ مع ركونه إلى حال معيّن وأمر مخصوص ـ كأكثر من يرى يفحص أحيانا ويتلمّح عساه يجد ما هو أتمّ ممّا أدرك وأكثر جدوى مما يتوخّى (٣) تحصيله ، أو حصّله ، فإن وجد ما أقلقه ونبّهه انتقل إلى دائرة المقام الثاني. وحاله في هذا المقام كالحال المذكور في المقام الأوّل من أنّه لا يخلو من أمرين : إمّا أن يكون في كلّ ما يحصل له ويركن إليه مطمئنّا ، مرتوبا (٤) ، فاترا عن طلب المزيد ، أو قد بقيت (٥) فيه أيضا فضلة تمنعه من الاستقرار ، وسيّما إذا رأى المتوسّطين من الناس أهل هذا المقام قد تفرّقوا شيعا ، وتحزّبوا أحزابا ، وكلّ منهم يرى أنّه المصيب ومن وافقه ، وأنّ الغير في ضلالة ، ويرى مأخذ كلّ طائفة ومتمسّكها فلا يجدها (٦) تقوم على ساق ، ويرى الاحتمال متطرّقا ، والنقوض واردة ، ويرى أنّ الحكم بالخطاء والإصابة ، والحقّ والباطل ، والضلال والهداية ، والحسن والقبح ، والضرر والنفع في هذه الأمور وغيرها من المتقابلات إنّما هو بالنسبة والإضافة ، فإنّه يحار ولا يدري أيّ المعتقدات أصوب في نفس الأمر؟ وأيّ النحل والأحوال والأعمال أوفق وأنفع؟ فلا يزال حائرا حتى يغلب عليه آخر الأمر حكم مقام مّا من المقامات ـ التي يستند إليها بعض أهل العقائد والمذاهب ـ فينجذب إليه ؛ لما (٧) فيه من سرّه ويطمئنّ ويسكن أو يفتق له بالعناية أو بها ويصدّقه في طلبه وجدّه في عزيمته وبذله المجهود حال طلبه الحجاب ، فيصير من أهل الكشف.

وحاله في أوّل هذا المقام كحاله فيما تقدم من أنّه إذا سمع المخاطبات العليّة ، وعاين المشاهدات السنيّة ، ورأى حسن معاملة الحقّ معه ، وما فاز (٨) به ممّا فات أكثر العالمين ، هل

__________________

(١) ه : كيفيته.

(٢) ق : حينئذ تزول ، ه : نزول.

(٣) ق : توخا.

(٤) أي ثابتا.

(٥) ق : وقد نفيت.

(٦) ق : نجد.

(٧) ق : بما.

(٨) ق : ما قاربه.

٣١٤

يستعبده بعض ذلك أو كلّه ، أو يبقى فيه بقيّة من غلّة الطالب (١) والصحو فيثبّت وينظر في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٢) وفي أمثاله من الإشارات الربانيّة والتنبيهات النبويّة والكماليّة ، فيتنبّه إلى أنّ كلّ ما اتّصل بالحجاب ، أو تعيّن بالواسطة ، فللحجاب والواسطة فيه حكم لا محالة ، فلم يبق على طهارته الأصليّة ولا صرافته العليّة ، فيتطرّق إليه الاحتمال ، وسيّما إذا عرف سرّ الوقت والموطن والمقام الذي هو فيه ، والحال والوصف الغالب عليه ، أنّ لكلّ ممّا ذكر أثرا فيما يبدو (٣) له ويصل إليه ، فلا يطمئنّ ، وخصوصا إن تذكّر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله حال رؤية الريح كلّ وقت ، وتغيّر لونه ، ودخوله وخروجه وقلقه ، وقوله لمن سأله عن ذلك : «ولعلّه كما قال قوم عاد : (فَلَمَّا رَأَوْهُ) (٤) (عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) (٥)» وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزاته ليلة بدر : «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض» (٦) وكقوله لمّا جاءه جبريل في المنام بصورة عائشة رضي الله عنها في سرقة حرير ، وقال له : هذه زوجتك ـ ثلاث مرّات ـ بعد الثالثة : «إن يكن من عند الله يمضه» (٧) ولم يجزم ونحو ذلك مما يطول ذكره ، مع قوله عليه‌السلام : «زويت لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها» (٨). وقوله عن العشر الفوارس من طلائع المهدي عليه‌السلام الآتي في آخر الزمان ، ويمينه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والله إنّي لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم وألوان خيولهم» ، فيطّلع على لون فرس وصورة شخص واسمه ونسبه قبل أن يخلق بستّمائة سنة وكسر ، ولا يجزم ، بل يخاف أن يقطع بأمنه (٩) دون ذلك ، لعلمه بأنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت ، وأنّ حكم حضرة الذات ـ التي لا يعلم (١٠) ما تقتضيه ولا ما الذي يتعيّن من كنه غيبها فتبديه ، ويقتضي على إخباراته تعالى ، وسيّما الواصلة بواسطة مظاهر رسالاته ، والحاملة أصباغ أحكام حضرات أسمائه وصفاته

__________________

(١) ق : الطلب.

(٢) الشورى (٤٢) الآية ٥١.

(٣) ق : يبدوا.

(٤) ه : راه.

(٥) ق : به ريح.

(٦) جامع المسانيد ، ج ٩ ، ص ٤٩٤.

(٧) ه : يمضيه.

(٨) جامع المسانيد ، ج ٦ ، ص ٢٠٧.

(٩) ق : بأسه ، ه : بأمته.

(١٠) ه : لا تعلم.

٣١٥

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (١) ـ تنبيه وتأديب إلهي مانع من حصر الحقّ فيما أظهر وأخبر : «أدّبني ربي فحسّن أدبي» (٢) لا جرم كان صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ذكر عنه.

نعم ، ولنعد الآن إلى إتمام حال السائر المتوسّط ، وبيان سرّ حيرته ، فنقول : فالإنسان المشار إليه ـ بعد تعدّيه ما ذكرنا من المراتب والأحوال وأحكام الحيرة ـ إذا تأمّل ما بيّنّاه الآن فإنّه مع كشفه وجلالة وصفه يحار ؛ لأنّه يرى من فوقه كما ذكرنا ، ويعرف أنّ الحاصل له هو من فضلات تلك العطايا الأقدسيّة الحاصلة للكمّل ، فيقول : لو كان ما حصل لي ولمثلي يقتضي الطمأنية لذاته ، لكان الأعلى منّا بهذا الحال أجدر وأولى.

فحيث لم تقنعه (٣) ما رأى ما حصل ، دلّ [على] أنّ الذي هو فيه أوجب وأرجح وأفضل ، فتراه إذا ـ مع معرفة جلالة ما حصل له ـ لا يقف عنده ولا يركن إليه. وسيّما إذا رأى مشاركيه ، ومن وافقه في مطلق الذوق والكشف يزيّف بعضهم ذوق البعض ، ويرد بعضهم على بعض ، كموسى مع الخضر وغيرهما.

وكلّ يحتجّ بالله وبما علّمه الله ، والعدالة ثابتة والحقّ صدوق ، ولكلّ منه سبحانه قسط ، ولكن (فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٤) : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (٥) فما من طامّة إلّا وفوقها طامّة ، ولا تقف وسر ؛ فالطريق وراء الحاصل ، والأمر كما ترى و «عند الصباح يحمد القوم السّرى» (٦) والسلام.

واعلم ، أنّ السرّ فيما ذكرنا هو أنّ الخلق كلّهم مظاهر الأسماء والصفات ، ولكلّ اسم وصفة تجلّيات ، وعلوم أحكام وآثار تظهر في كلّ من هو في دائرته وتحت حكمه وتصريفه كما بيّنّا أنّ كلّ صنف من الموجودات إنّما يستند إلى الحقّ ، ويأخذ منه من حيثيّة اسم خاصّ هو سلطانه.

ولمّا كانت الأسماء متقابلة ومختلفة ، وكانت أحكامها وأذواقها وآثارها وأحوالها أيضا كذلك ظهر للّبيب (٧) ـ وإن لم يكمل كشفه بعد ـ أنّ سبب الاختلاف هنا هو سبب

__________________

(١) الأحقاف (٤٦) الآية ٩.

(٢) كشف المحجوب ، ص ٤٣٢.

(٣) ه : نقنعه.

(٤) يوسف (١٢) الآية ٧٦.

(٥) الأنبياء (٢١) الآية ٧٩.

(٦) معجم مستدرك الوسائل ، ج ٣ ، ص ٢٧٢.

(٧) ق : للبيت.

٣١٦

الاختلاف في الأصل ، فهي (١) في التعيّن تابعة للخلق ، والخلق في الحكم والحال تابعون لها.

ولمّا كان كلّ اسم من وجه عيّن المسمّى ، ومن وجه غيره ـ كما بيّن من قبل ـ كان حكمها أيضا ذا وجهين : فالمحجوبون من أهل العقائد غلب عليهم حكم الوجه الذي به يغاير الاسم المسمّى ، وأهل الأذواق المقيّدة غلب عليهم حكم الوجه الذي يتّحد به الاسم والمسمّى ، مع بقاء التمييز والتخصيص الذي تقتضيه (٢) مرتبة ذلك الاسم ، والأكابر لهم الجمع والإحاطة بالتجلّي الذاتي ، وحكم حضرة أحديّة الجمع ، فلا يتقيّدون بذوق ولا معتقد ، ويقرّرون ذوق كلّ ذائق ، واعتقاد كلّ معتقد ، ويعرفون وجه الصواب في الجميع والخطاء النسبي ، وذلك من حيث التجلّي الذاتي ، الذي هو من وجه عين كلّ معتقد ، والظاهر بحكم كلّ موافق ومخالف منتقد ، فحكم علمهم وشهودهم يسري في كلّ حال ومقام ، ولهم أصل الأمر المشترك بين الأنام ، والسلام.

__________________

(١) ه : فهو.

(٢) ه : يقتضيه.

٣١٧

وصل في بيان سرّ الحيرة الأخيرة ودرجاتها وأسبابها

اعلم ، أنّ الإنسان إذا تعدّى كلّ ما ذكرناه ، واستخلصه الحقّ لنفسه ، واستصلحه لحضرة أحديّة جمعه وقدسه من جملة ما يطلعه عليه كلّيّات أحكام الأسماء والصفات المضافة إلى الكون والمضافة إليه سبحانه ، والقابلة للحكمين ، فمن جملة ما يشاهده في هذا الإطلاع المشار إليه الكمال الإلهي المستوعب كلّ اسم وصفة وحال ، كما أشرت إليه الآن ، وعلى ما ستعرفه أو تفهم (١) عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ ، فيرى أنّ الصفات ـ الظاهرة الحسن والخفيّ حسنها ـ كلّها له وإليه مرجعها ، وأنّها ـ من حيث هي له ـ حسنة كلّها عامّة الحكم ، لا يخرج عن حيطتها أحد ، فإنّه سبحانه كما أنّه محيط بذاته ، كذلك هو محيط بصفاته.

وهذا الوصف المتكلّم فيه ـ أعني الحيرة ـ من جملة الصفات ، وقد نبّهت الحقيقة بلسان النبوّة على أصلها في الجناب الإلهي بقوله «ما تردّدت في شيء أنا فاعله تردّدي في قبض نسمة عبدي المؤمن» الحديث ، وقد ذكرته من قبل ، فعرّفنا أنّ ثمّة تردّدات كثيرة هذا أقواها ، فافهم.

ولهذا نسب الإضلال سبحانه إليه بقوله : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢) ، وتسمّى به.

والفاتح لسرّ عموم حكمه ، وأمثاله ما ذكرناه من أنّ الهداية والضلال (٣) و (٤) أمثالهما من الصفات المتقابلة إنّما تثبت بالنسبة والإضافة ، فكلّ فرقة ضالّة بالنسبة إلى الفرقة المخالفة

__________________

(١) ق : تفهمه.

(٢) المدّثّر (٧٤) الآية ٣١.

(٣) ق : الضلالة.

(٤) ه : لم يرد.

٣١٨

لها ، فحكم الضلال إذا منسحب على الجميع من (١) هذا الوجه ، ومن حيث إنّ ترتّب حكم الناس على أكثر الأشياء هو بحسب ظنونهم وتصوّراتهم ، مع اليقين الحاصل بالإخبار الإلهي وغيره (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢) وسيّما في الله ، فإنّ الإحاطة لمّا كانت متعذّرة ، كانت منتهى حكم كلّ حاكم فيه إنّما هو بمقتضى ما تعيّن له منه بحسبه ، لا بحسب الحقّ من حيث هو لنفسه ، وما لم يتعيّن منه أعظم وأجلّ ممّا تعيّن ؛ لأنّ نسبة المطلق إلى المقيّد نسبة ما لا يتناهى إلى المتناهي ، بل لا نسبة بين ما تعيّن لمداركنا منه سبحانه وبين ما هو عليه في نفسه من السعة والعزّة والعظمة والإطلاق.

ثم إنّ المتعيّن أيضا منه لمّا لم يتعيّن إلّا بحسب حال القابل المعيّن وحكم استعداده ومرتبته (٣) علم أنّ القدر الذي عرف من سرّه لم يعلم على ما هو عليه في نفسه ، وبالنسبة إلى علمه نفسه بنفسه ، بل بالنسبة إلى استعداد العالم به وبحسبه.

وحيث ليس ثمّ (٤) استعداد يفي (٥) بالغرض ، ويقضي بظهور (٦) الأمر عند المستعدّ بهذا الاستعداد (٧) ـ كما هو الأمر في نفسه ـ فلا علم إذا ، وإذ لا علم فلا هداية ، وإن قيل بها ، فليس إلّا بالنسبة والإضافة.

وقد قال أكمل الخلق ـ لمّا سئل عن رؤيته ربّه ـ : «نور أنّى أراه؟». فأشار إلى العجز والقصور ، وقال أيضا في دعائه : «لا أحصي ثناء عليك» (٨) [أي] لا أبلغ كلّ ما فيك وأعترف بالعجز عن الاطّلاع على كلّ أمره ، وقال سبحانه منبّها على ذلك (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٩) ، (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١٠) والقليل هذا شأنه ، فما ظنّك بما ليس بعلم عند العقلاء كلّهم ، ولهذا نهى الناس عن الخوض في ذات الله ، وحرّضوا (١١) على حسن الظنّ به وسيّما في أواخر الأنفاس.

__________________

(١) ق : على الوجه.

(٢) يونس (١٠) الآية ٣.

(٣) ه : مرتبه.

(٤) ق : ثمّة.

(٥) ق : نفى.

(٦) ق : بظهر.

(٧) ق : المستعدّ.

(٨) جامع المسانيد ، ج ٣٧ ، ص ١٨.

(٩) آل عمران (٣) الآية ٣٠.

(١٠) الإسراء (١٧) الآية ٨٥.

(١١). ق : خوضوا.

٣١٩

ولمّا صحّ أنّ أقرب الأشياء نسبة إلى حقيقة الشيء روحه ، وكان عيسى ـ على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والتسليم (١) ـ روح الله ومن المقرّبين أيضا بإخبار الله وإخبار كلّ رسله عنه ، ومع ذلك قال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٢) علمنا بهذا وسواه من الدلائل ـ التي لا تحصى كثرة (٣) ممّا أومأنا إليه وسكتنا عنه ؛ لوضوح الأمر وكونه بيّنا بنفسه ـ أنّ الاطّلاع على ما في نفس الحقّ متعذّر.

فالحاصل عندنا من المعرفة به المستفادة من إخباره سبحانه لنا عن نفسه هو بتقليد منّا له ، وكذا ما نشهده وندركه بقوّة من قوانا الظاهرة أو الباطنة ، أو بالمجموع ، إنّما نحن مقلّدون في ذلك لقوانا ومشاعرنا.

وقصارى الأمر أن يكون الحقّ سمعنا وبصرنا وعقلنا ، فإنّ ذلك أيضا لا يقضي بحصول المقصود ؛ لأنّ كينونته (٤) معنا وقيامه بنا بدلا من (٥) أوصافنا إنّما ذلك بحسبنا لا بحسبه كما بيّنّا ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لزم أن يكون كينونة الحقّ سمع عبده وبصره وعقله حاصلا وظاهرا على نحو ما هو الحقّ عليه في نفسه ، فيرى العبد إذا (٦) كلّ مبصر ويسمع كلّ مسموع سمعه الحقّ وبصره. ولزم أيضا أن يعقل كلّ ما عقله الحقّ ، وعلى نحو ما عقله.

ومن جملة ذلك ـ بل الأجلّ من كلّ ذلك ـ عقله سبحانه ذاته على ما هي عليه ، ورؤيته لها كذلك ، وسماعه كلامها وكلام سواها أيضا كذلك ، وهذا غير واقع لمن صحّ له ما ذكرنا ، ولمن تحقّق بأعلى المراتب وأشرف الدرجات ، فما الظنّ بمن دونه؟

فإذا (٧) لكلّ من الحيرة في الله وفيما شاء نصيب ، وتذكّر قوله : «في خمس من الغيب لا يعلمهنّ إلّا الله» (٨) وقوله : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (٩) وقوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) (١٠) وقوله :

__________________

(١) ق : والسلام.

(٢) المائدة (٥) الآية ١١٦.

(٣) ه : كثير.

(٤) ق : كينونية.

(٥) ق : من.

(٦) ه : إذن.

(٧) ه : فإذن.

(٨) جامع المسانيد ، ج ٢٨ ، ص ٧٧.

(٩) النمل (٢٧) الآية ٦٥.

(١٠) الأعراف (٧) الآية ١٨٨.

٣٢٠