إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

عليّا عليه‌السلام لمّا علّمه الدعاء ، وفيه : «اللهمّ اهدني وسدّدني» فقال له : «واذكر بهدايتك هداية الطريق ، وبالسداد سداد السهم» ، (١) فأمره باستحضار هذين الأمرين حال الدعاء ، فافهم هذا ، تلمح كثيرا من أسرار إجابة الحقّ دعاء الرسل والكمّل والأمثل فالأمثل من صفوته ، وأنّ صحّة التصوّر ، واستقامة التوجّه حال الطلب والنداء عند الدعاء شرط قوي في الإجابة.

وممّا ورد ما يؤيّد ما ذكرنا قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حديث طويل : «ولو عرفتم الله حقّ معرفته ، لزالت بدعائكم الجبال». (٢) فنبّه على ما ذكرنا. الأنّ الأتّم معرفة بالشيء أصحّ تصوّرا له ، كما نبّهت عليه قبل هذا.

وبيانه : أنّ من تصوّر المنادى المسؤول منه تصوّرا صحيحا عن علم ورويّة سابقين أو حاضرين حال الدعاء ، ثم كلّمه ودعاه ، وسيّما بعد أمره له بالدعاء والتزامه بالإجابة ، فإنّه يجيبه لا محالة. ومن زعم أنّه يقصد مناداة زيد والطلب منه وهو يستحضر غيره ويتوجّه إلى سواه ، ثم لم يجد الإجابة لا يلومنّ إلّا نفسه ؛ فإنّه ما نادى الآمر بالدعاء القادر على الإجابة والإسعاف ، وإنّما توجّه إلى ما استحضره في ذهنه وأنشأه من صفات تصوّراته بالحالة الغالبة عليه ، إذ ذاك لا جرم أنّ سؤاله لا يثمر ، وإن أثمر فبشفاعة حسن ظنّه بربّه وشفاعة المعيّة الإلهيّة وحيطته سبحانه ؛ لأنّه ـ تعالى شأنه ـ مع كلّ تصوّر ومتصوّر ومتصوّر.

فالمتوجّه المحكوم عليه بالخطاء مصيب من وجه ، فهو كالمجتهد المخطئ مأجور غير محروم بالكلّيّة ، فاعلم ذلك وتذكّر ما أسلفناه في هذا الباب ، تصب ـ إن شاء الله ـ

__________________

(١) جامع المسانيد ، ج ٢٠ ، ص ٢٦٦.

(٢) ر. ك : معجم مستدرك الوسائل ، ج ١٧ ، ص ٣٠١.

٢٨١

تتمّة الكلام على هذه الآية بمقتضى الوعد السابق

لا شكّ أنّ لك مستندا في وجودك ، ولا شكّ أنّه أشرف منك ، وسيّما من حيث استنادك إليه ؛ فإنّ الرتبة الأولى لها الفعل والغنى ، وللثانية الفقر والانفعال ، فأشرف توجّهاتك نحو مستندك وأشرف أحوالك ـ من حيث سيرك إليه وقصدك له للقرب منه ، والاحتظاء به ، معرفة وشهودا ومكانة وتمكينا ـ أن تقصده بقلبك الذي هو أشرف ما فيك ، فإنّه المتبوع لجملتك بتوجّه مطلق جملي ، لا من حيث نسبة أو اعتبار معيّن علمي أو شهودي أو اعتقادي يستلزم حكما بنفي أو إثبات بصورة جمع أو (١) فرق وسواهما من الاعتبارات المتفرّعة على النفي والإثبات ، كالتنزيه والتشبيه وغيرهما ممّا هو تابع لهما ، ما عدا النسبة الواحدة التي لا يصحّ سير ولا توجّه ولا رجاء ولا طلب بدونها ، وهي نسبة تعلّقك به وتعلّقه بك. أو قل : تعقّله لك وتعقّلك له من حيث تعيّنه في علمك أو اعتقاد لك (٢) ولو ارتفعت هذه النسبة كباقي الاعتبارات ، لم يصحّ السلوك ، ولا الاستناد ولا غيرهما ، ولا تظنّنّ أنّ هذا الحال إنّما هو بالنسبة إلى المحجوب فقط ، بل ذلك ثابت في حقّ العارف المشاهد أيضا ؛ فإنّه ـ ولو بلغ أقصى درجات المعرفة والشهود ـ لا بدّ وأن يبقى معه اعتبار مبق للتعدّد علما لا عينا ، ولو لا ذلك الاعتبار ، لم تثبت مرتبة شاهد ولا مشهود ولا شهود ، ولا كان سير ولا طلب ، ولا بداية ولا غاية ولا طريق ، ولا فقر ولا تحصيل ، ولا توقّع ولا وصول ولا لسان ولا بيان ، ولا رشد ولا رشاد ، ولا ضالّ ولا هاد ، (٣) ولا غير ذلك ولا «من هنا» ولا «إلى هنالك» ، فافهم.

__________________

(١) ق : و.

(٢) ق : اعتقادك.

(٣) في بعض النسخ : ولا هادي.

٢٨٢

ثم إنّ العارف قد يرى هذه النسبة الباقية ، بعين الحقّ ومن حيث هو سبحانه ، لا من حيث نفسه ، ولا بعينه وبحسب مرتبته ، فيحكم بأنّ مشاهدة تلك النسبة الباقية لا تقدح في تجريد التوحيد ، وربما ذهل عنها ـ لقوّة سلطنة الشهود ـ أو حجبته سطوة التجلّي عن إدراكها ، لكن عدم إدراكه لها لا ينافي بقاءها في نفس الأمر ؛ لأنّ عدم الوجدان لا يفيد عدم الوجود.

وإذا تقرّر هذا وعرفت أنّه لا مندوحة من (١) بقاء نسبة قاضية بامتيازك عنه واحتياجك إليه ـ ولو فرضت أنّها نسبة تعقّل امتيازك عنه بنفس التعيّن فقط ـ فاجمع همّك عليه ، وخلّص توجّهك إليه من أصباغ الظنون والاعتقادات والعلوم والمشاهدات وكلّ ما تعيّن منه لك أو لسواك ، (٢) أو كان ممّا منعه غيرك وخصّك به دون الخلق وحباك وقابل حضرته ـ بعد تخليص توجّهك على النحو المذكور ـ بالإعراض في باطنك عن تعقّل سائر الاعتبارات الوجوديّة والمرتبيّة الإلهيّة الأسمائيّة ، والكونيّة الإمكانيّة إعراض سائل (٣) [و] حر (٤) عن الانقهار بحكم شيء منها والتعشّق به ، ما عدا تلك النسبة المعيّنة (٥) بينك وبينه ، من حيث عينك لا عينه ، فتكون متوجّها إليه من حيث ثبوت شرفه عليك وإحاطته بك وبما لديك توجّها هيولانيّ الوصف ، معتليا على الصفات والأسماء على ما يعلم نفسه في أكمل مراتب علمه بنفسه وأعلاها وأوّلها نسبة إليها وأولاها دون حصر في قيد أو إطلاق أو تنزيه أو تشبيه ، كما قلنا أو نفيهما ، أو الحصر في الجمع بينهما ، بقلب طاهر أخلص من هذا التوجّه ، قابل لأعظم التجلّيات ولتفني وحدة توجّهك الخالص المحرّض على التجلّي به سائر متعلّقات علمك وإرادتك ، فلا يتعيّن لك معلوم ، ولا مراد ولا حال ولا صفة إلّا توجّهك الذاتي الكلّي المذكور المنزّه عن كلّ تعين. ومتى تعيّن لك أمرا ـ إلهيّا كان أو كونيّا ـ كنت ـ بحسبه وتبعا له من حيث هو ، لا من حيث أنت ـ بحيث إنّه متى أعرضت عنه عدت إلى حالك الأوّل من الفراغ التامّ بالصفة الهيولانيّة المطلقة المذكورة ، بل وزمان تبعيّتك (٦) لما تعيّن لك ، إنّما

__________________

(١) ق : عن.

(٢) ق : لسوالك.

(٣) ق ، ه : سال.

(٤) كذا في الأصل. ولعلّه : حد من حاد يحيد أي مال يميل. أو حر من حار يحور أي رجع. والله عالم. هذا إذا كانت الكلمة أمرا وسقط الواو. وأمّا إذا كانت ما يضاف إليه «سائل» فهي شيء آخر.

(٥) المتعيّنة.

(٦) ه : بتبعيّتك.

٢٨٣

تعيّن له من نفسك الأمر المقابل والمماثل له من نسخة وجودك ، فنسبة ذلك الأمر إلى ما تعيّنت نسبة منك نسبة التعيّن إلى المتعيّن ، فإذا قابلت التعيّن بتعيّن مثله ـ كما بيّن لك ـ ظهر الجزاء الوفاق ، والعدل التامّ ، وما سوى ما تعيّن منك من ذاتك فباق على إطلاقه ، لا صفة له ولا اسم ولا كيفيّة ولا وسم ولا تعيّن ولا رسم ، كما هو الحقّ سبحانه ؛ فإنّه ما تعيّن من ذاته بالنسبة إلى عرصة الألوهة ـ التي هي مرتبته ـ إلّا ما استدعته استعدادات الأعيان المتّصفة بالوجود المنبسط منه وهو ـ من حيث ما عدا ما استدعته وتعيّن بها وبحسبها ـ باق على الطلسة الغيبيّة الذاتيّة ، منزّه عن التقييد بصفة أو اسم أو حكم أو حال أو مرتبة أو رسم ، فافهم ، وسل ربّك أن تتحقّق بذلك لتكون على صورته ، وظاهرا بسورته.

وكلّ حال ـ ينتقل فيها السائرون إلى الله ، الماشون على الصراط المستقيم بنفس تنقّلهم في تلك الأحوال من حال إلى حال ، ومن حكم إلى حكم ، تأثيرا وتأثّرا ـ هو حكم حالك المطلق المذكور ، كما أنّ مرجع الألوان المختلفة التفصيليّة إلى مطلق اللون الكلّي الذي هو أصلها ، فسير (١) هذا اللون المطلق الذي هو المثال نحو الكمال الخصيص (٢) بحقيقته هو بالألوان تنويعا وتفصيلا ، وإتيانا وتوصيلا ، وكمال جميعها في عودها إليه توحّدا وتضوّلا (٣) فالمح ما أشرت إليه ، وأضفه إلى ما سلف من أمثاله تعرف غاية الغايات ، وكيفيّة المشي على الصراط المستقيم الخصوصي ، المتصل بأعلى رتب النهايات ، (٤) حيث منبع السعادات ومشرع الأسماء الإلهيّة والصفات (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) (٥) و (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٦).

قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)

في هذه الآية ممّا يتعيّن بيانه : معنى النعمة العامّة والخاصّة ، ومعنى الغضب والضلال ، ومراتب أرباب هذه الصفات ، فلنبدأ أوّلا بذكر ما يستدعيه ظاهر هذه الآية ، ثم نتعدّى من

__________________

(١) ق : فيسير.

(٢) ق : الحضيض.

(٣) كذا في الأصل.

(٤) ق : الانتهايات.

(٥) الأحزاب (٣٣) الآية ٤.

(٦) يونس (١٠) الآية ٢٥.

٢٨٤

الظاهر إلى الباطن وما وراءه ، كجاري العادة ـ إن شاء الله تعالى ـ

اعلم ، أنّ قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) تعريف للصراط (١) المستقيم المذكور من باب ردّ الأعجاز على الصدور. ولفظة «الصراط» قد سبق الكلام عليها بمقتضى اللسان ، فلا حاجة إلى التكرار. وأمّا (الَّذِينَ) فنذكر فيه ما تيسّر ، فنقول :

الجملة من قسم النكرات ، ولا توصف بها المعارف إلّا بواسطة «الّذي» ونحوه من الموصولات المتفرّعة منها ، و «الّذي» أصله الّذي ولكثرة التداول والاستعمال أفضي فيه الأمر إلى أن حذفت ياؤه المشدّدة (٢) ، ثم تدرّجوا فحذفوا الياء الأخرى ، فقالوا : «الّذ» ثم حذفوا الكسرة ، فقالوا : «الّذ» وحذف بعضهم الذال أيضا ، فلم يبق إلّا اللام المشدّدة ، التي هي عين (٣) الفعل ؛ فإنّ اللام الأخرى لام التعريف ، فإذا قلت : زيد الذي قام ، أو قلت : القائم ، كان المعنى واحدا ، فلام «القائم» ناب مناب قولك «الذي» ، والياء والنون في «الذين» ليس للجمع ، بل لزيادة الدلالة ؛ لما تقرّر أنّ الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهنّ سواء ؛ ولأنّه لو كان الياء والنون في «الّذين» للجمع ، لأعيد إليه حين الجمع الياء الأصليّة المحذوفة على جاري العادة في مثل ذلك ، ولم يكن أيضا مبنيّا بل معربا و «الّذين» مبنيّ بلا شكّ ، فدلّ ذلك على صحّة ما ذكر ، فاعلم.

وأمّا فصول هذه الآية فهي كالأجوبة لأسئلة ربانيّة معنويّة ، فكأنّ لسان الربوبيّة يقول عند قول العبد : «اهدنا الصّراط» : أيّ صراط تعني ، فالصراطات كثيرة وكلّها لي؟ فيقول لسان العبوديّة : أريد منها المستقيم ، فيقول (٤) لسان الربوبيّة : كلّها مستقيمة من حيث إنّي غايتها كلّها ، وإليّ مصير من يمشي عليها جميعها ، فأيّ استقامة تقصد في سؤالك؟ فيقول لسان العبوديّة : أريد من بين الجميع صراط الذين أنعمت عليهم ، فيقول لسان الربوبيّة : ومن الذي لم أنعم عليه؟ وهل في الوجود شيء لم تسعه رحمتي ، ولم تشمله نعمتي؟ فيقول لسان العبوديّة : قد علمت أنّ رحمتك واسعة كاملة ، ونعمتك سابغة شاملة ، لكنّني لست أبغي إلّا صراط الذين أنعمت عليهم النعم الظاهرة والباطنة ، الصافية من كدر الغضب ومزجته ،

__________________

(١) ق : الصراط.

(٢) المراد الياء الثانية.

(٣) كذا في الأصل. لعلّ الصحيح : فاء الفعل ، فان مادته ل ذ ى.

(٤) ه : فتقول.

٢٨٥

وشائبة الضلال ومحنته ؛ فإنّ السلامة من قوارع الغضب لا تقنّعني (١) إذا لم تكن النعم المسداة إليّ مطرّزة بعلم الهداية المخلصة من محنة الحيرة وبيداء التيه ، وورطات الشبه والشكّ والتمويه ، وإلّا فأيّة فائدة في تنعّم ظاهري بأنواع النعم مع تألّم باطني بهواجم (٢) التلبّسات (٣) المانعة من السكون ، ورواجم الريب والظنون. هذا في الوقت الحاضر ، فدع ما يتوقّعه الحائر من اليوم الآخر ، فحينئذ يترتّب ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ربّه أنّه يقول : «هؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل» فاعرف كيف تسأل ، تنل من فضل الله ما (٤) تؤمّل.

صورة النعمة وروحها وسرّها

ثم اعلم ، أنّ لأصل النعمة المشار إليه صورة وروحا وسرّا ، فصورتها : الإسلام والإذعان ، وروحها : الإيمان والإحسان ، وسرّها : التوحيد والإيقان ، فحكم الإسلام متعلّقه ظاهر الدنيا. والإيمان لباطن الدنيا وباطن النشأة الظاهرة. والإحسان للحكم البرزخي ونشأته ، وإليه الإشارة في جواب [سؤال] جبرئيل [عن] النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما الإحسان؟ قال : «أن تعبد الله كأنّك تراه» ، (٥) وهذا هو الشهود والاستحضار البرزخي ، فافهم.

وسرّ التوحيد (٦) واليقين يختصّ بالآخرة ، فالمح ما أدرجت لك من أسرار الشريعة ، في هذه الكلمات الوجيزة الشريفة ، تعلم أنّ كلّ شيء فيه كلّ شيء ، والله المرشد.

ثم إنّ الحقّ سبحانه قد نبّه على الذين أنعم عليهم النعمة المطلوبة منه في هذه الآية بقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) ثم قال : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٧) فهذه المراتب الأربع كالأجناس والأنواع لما تحتها من مراتب السعداء ، والصلاح هو النوع الأخير.

ثم فصّل ما أجمله هنا في موضع آخر ، فقال محرّضا نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على موافقة الكمّل من هؤلاء الطوائف لمّا عدّدهم مبتدئا بخليله ـ على نبيّنا وعليه‌السلام ـ فقال بعد ذكره :

__________________

(١) ق : لا تقنعي.

(٢) ه : بهواجهم.

(٣) ق : التلبيسات.

(٤) كذا في الأصل. والأنسب : تأمّل.

(٥) جامع المسانيد ، ج ٢٨ ، ص ٤٢٨.

(٦) ه : التوحيد.

(٧) النساء (٤) الآية ٦٩ ـ ٧٠.

٢٨٦

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، ثم قال : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، ثم قال : (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) ، ثم ذكر قسما جامعا مستوعبا فقال : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، ثم قال : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، [ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) الآية] (١) ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٢).

فما قسّم سبحانه هؤلاء الأنبياء المذكورين هنا في ثلاث آيات ، ونعت الطائفة الأولى بالإحسان ، والثانية بالصلاح ، والثالثة (٣) بالوصف العامّ الذي اشترك فيه الجميع ، إلّا للتنبيه على (٤) أنّهم ـ مع اشتراكهم في النبوّة ـ على طبقات ، ثم جعل حالة الطبقة الرابعة ممتزجة من أحكام هذه الطبقات الثلاث ومن غيرها ، فاجمع بالك ، وتذكّر ما نبّهتك عليه من قبل ، واستحضر (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٥) مع اشتراكهم في نفس الرسالة التي لا تفريق فيها (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٦) ، وتنبّه للمراتب الأربع المذكورة وهي : النبوّة ، والصدّيقيّة ، والشهادة ، والصلاح ، تعرف كثيرا من لطائف إشارات القرآن العزيز ـ إن شاء الله ـ فهذه الآيات شارحة من وجه المراد من قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) إلى آخر السورة.

وأمّا (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فورد في الشريعة أنّهم اليهود ، [أن] و (الضَّالِّينَ) هم النصارى. وإذا عيّن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعض محتملات ألفاظ الكتاب العزيز ، فلا عدول عنه إلى محتمل آخر أصلا ، فاعلم ذلك.

وإذ قد يسّر الله ذكر ما شاء ذكره في ظاهر هذه الآية من المباحث النحويّة واللطائف الشرعيّة القرآنيّة مع نبذ عزيزة من غامضات الأسرار جاءت فجأة ، فلم يمكن منعها وكتمها ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين غير موجود في ق.

(٢) الأنعام (٦) الآية ٨٤ ـ ٩٠.

(٣) ق : والثالث.

(٤) ه : لا توجد.

(٥) البقرة (٢) الآية ٢٥٣.

(٦) البقرة (٢) الآية ٢٨٥.

٢٨٧

فلنشرع بعد في الكلام عليها ـ أعني الآية ـ بلسان الباطن ، فنقول ـ بعد الاكتفاء في الكلام على الصراط بما مرّ ـ : اعلم أنّ النعم الواصلة من الحقّ إلى عباده على قسمين : نعم ذاتيّة ، ونعم أسمائيّة ، فالنعم الذاتيّة هي : كلّ ما تطلبه الأشياء من الحقّ من حيث حقائقها بألسنة استعداداتها الكلّيّة الغيبيّة ، وهذه ألسنة الذوات ولا تتأخّر عنها الإجابة ، ولا تعويق (١) في حقّها ولا تكفير ، بل هي إجابة ذاتيّة كالسؤال في عين المسؤول ، وهذه النعم من حيث الأصل نعمة واحدة ، وتعدّدها إنّما هو من حيث تكيّفها وتنوّعها في مرتبة كلّ حقيقة وبحسبها.

والنعم الأسمائيّة على أقسام : فمنها نعم تثمر نعما ، كالأعضاء والقوى والآلات البدنيّة ، وكالصفات والأحوال الوجوديّة والمعنويّة ، وهي بأجمعها صور الاستعدادات الوجوديّة الجزئيّة ، فكلّ فرد فرد من هذا المجموع بالنظر إلى فقر الإنسان واحتياجه إلى الاستكمال والأسباب المعيّنة على تحصيله نعمة تثمر نعمة أو نعما ، والمجموع بالعناية الذاتيّة والاستعداد الكلّي الغيبي يثمر بالنسبة إلى الكمّل التحقّق (٢) بالكمال ، وبالنسبة إلى سواهم الكمال اللائق به ، المؤهّل له ، ومن آكدها بالنسبة إلى الأمر والمقام اللذين أتكلّم فيهما نعمة التوفيق الواصلة من الحقّ من حيث اسمه «الهادي» وهي على قسمين :

قسم يختصّ بالعلم وله باطن الإنسان وروحه والأعمال الروحانيّة ،

وقسم يختصّ بالعمل وله ظاهر الإنسان ولوازم ظاهريّته.

فالمختصّ بالعلم والعبادة الباطنة يثمر المشاهدات القدسيّة والأحوال الشهيّة الندسيّة واللذّات الروحانيّة والملاحظات الإحسانيّة والأنوار الإيمانيّة والرئاسات الربانيّة ولذّة الخلاص والسلامة من الشكوك المعضلة والشبه المضلّة ؛ فإنّ الطالب سبيل الرشاد إذا اعتورته الشكوك ، واجتذبته الآراء المختلفة والأهواء والاعتقادات المتشعّبة (٣) المشتّتة (٤) عزائم (٥) المتوجّهين المجدّين والمقرّحة (٦) أفئدة المفكّرين المتردّدين يكون في أشدّ العذاب

__________________

(١) ق : تفويض.

(٢) ق : المتحقّق.

(٣) ق : المنشعبة.

(٤) ه : المشتّتة.

(٥) ه : غرائم.

(٦) ه : المقرحة.

٢٨٨

الروحاني ، ومنقهرا تحت سلطنة النزعات والتسويلات الخياليّة الشيطانيّة ، فلا نعمة في حقّه وبالنسبة إليه أعظم وأتمّ من نعمة النور العلمي اليقيني الكاشف له عن جليّة الأمر ، والمخلص له من ورطة ذلك الشرّ ، فتلك عافية روحانيّة لا تضاهيها عافية ؛ لأنّ العافية الجسمانيّة ـ وسيّما عقيب المرض ـ يجد الإنسان لها حلاوة لا يقدّر قدرها ، فما الظنّ بالعافية الروحانيّة ، التي هي أشرف وأدوم وأثبت وأقرب إلى الاعتدال الحقيقي الأصلي وأقوم ، وبها نيطت السعادة في عالم الغيب والشهادة؟ فافهم.

وأمّا القسم الآخر من النعم المختصّ بالعمل وظاهر الإنسان فإنّه يثمر المنازل الجنانيّة واللذّات الجسمانيّة والراحات والفوائد الطبيعيّة النفسانيّة عاجلا غير مصفّى ، وآجلا خالصا مصفّى ، كما نبّه الحقّ سبحانه على ذلك بقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١) يعني هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ممزوجة بالغصص والعلل والأنكاد ، وهي لهم في الآخرة طاهرة طيّبة مخلصة من الشوائب ، ولهذا أرشد الحقّ سبحانه عباده وعلّمهم أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم ، الذي هو صراط من أنعم عليه الإنعام الخالص من شوب الغضب ومحنة الضلالة (٢) ، فلسان مقامهم يقول : يا ربّنا رحمانيّتك الأولى العامّة الشاملة قضت بإيجادنا ، ورحيميّتك الأولى ـ يعنون اللتين في البسملة ـ خصّصتنا بهذه الحصص الوجوديّة ، المختصّة بكلّ واحد منّا ، كلّ ذلك من حيث نعمتك الذاتيّة ورحمتك الامتنانيّة ، ورحمانيّتك الثانية ـ التي أوجبتها على نفسك بكرمك من حيث عموم حكم اسمك «الهادي» عمّتنا معشر المؤمنين ، كما أشرت إلى ذلك بقولك : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، فلمّا شملتنا بنعمة الإيمان والانقياد لأمرك والاستسلام لحكمك والإقرار بتوحيدك انبرى كلّ منّا يذكرك ويثني عليك ، ويمجّدك ويفوّض إليك ، ويفرّدك بالعبادة بعد إقراره لك بالسيادة ، ويطلب منك العون بصورة الإبانة عن صفة العجز ونقص الكون ، ثم إنّه لمّا خصّصتنا برحيميّتك الثانية بالحكم الخاصّ من أحكام اسمك «الهادي» المقتضي طلب

__________________

(١) الأعراف (٧) الآية ٣٢.

(٢) ق : الضلال.

٢٨٩

أشرف صور الهداية والسلوك على أقوم السبل وأقصدها وأسلمها ، طلبنا ذلك منك ؛ لاستلزامه (١) الفوز والاحتظاء بالنعم التي جدت (٢) بها على الكمّل من أحبّائك ، حيث سلكت بهم على أسدّ صراط وأقومه وأقربه وأسلمه ، حتى ألقوا عصيّ تسيارهم بفنائك ، وحظوا ـ بعد التحقيق بمعرفتك وشهودك (٣) ـ بسابغ إحسانك وأشرف نعمائك وأخلص حبائك المقدّس عن شوب المزج وشين النفاد ، المقرونين بالنعم المبذولة لأهل الفساد ، المغضوب عليهم ظاهرا والضالّين باطنا عن سبل (٤) الرشاد ، فاستجب لنا يا ربّ (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٥).

__________________

(١) ق : لاستلزام.

(٢) ق : حدث.

(٣) ه : شهودتك.

(٤) ق : سبيل.

(٥) آل عمران (٣) الآية ١٩٤.

٢٩٠

وصل بلسان الحدّ والمطلع

توحيد الوجود

اعلم أنّ (١) التمييز للعلم ، والتوحيد للوجود ، لا بمعنى أنّ العلم يكسب المعلوم التميّز بعد أن لم يكن متميّزا ، بل بمعنى أنّه يظهر تميّزه المستور عن المدارك ، لأنّه نور والنور له الكشف ، فهو يكشف التميّزات الثابتة في نفس الأمر.

وتوحيد الوجود هنا عبارة عن انبساطه على الحقائق المتميّزة في علم الموحّد أزلا (٢) ، فيوحّد كثرتها ؛ لأنّه القدر المشترك بين سائرها فيناسب (٣) كلّا منها بذاته الواحدة البسيطة.

وإذا تقرّر هذا ، فاعلم ، أنّ الهداية حكم من أحكام العلم ؛ فإنّه ليس لها إلّا تعيين المستقيم

من المعوجّ ، والصواب من الخطأ ، والضارّ من النافع ، والأسدّ والأولى من كلّ أمرين مرادين لجلب منفعة أو دفع مضرّة ، أو وسيلتين تترجّح (٤) إحداهما بالنسبة إلى الغايات المقصودة والمطالب المتعيّنة عند الطالب والمفقودة الغائبة عنه حال الطلب.

وهذا التعيين ـ المشار إليه المنسوب إلى الهداية ـ ضرب من التمييز ، كما بيّن لك ، فالنعمة المقرون ذكرها ب (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) والتعريف التابع من بعد ب (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) هي : نعمة العدل والإصابة وثمراتهما ، كما بيّن لك من قبل ، ونتمّم (٥) لك بيانه ـ إن شاء الله تعالى ـ والإصابة ثمرة العلم ؛ لأنّ الخطأ ـ على اختلاف مراتبه ـ ثمرة الجهل ، فالأصل فيه العلم

__________________

(١) ه : آن.

(٢) ه : أذلا.

(٣) ه : فتناسب.

(٤) ه : يترجّح.

(٥) ه : يتمّم.

٢٩١

لكنّ العلم ـ من حيث هو علم ـ مجرّد مطلق عن قيد إضافته إلى شيء لا حكم له ، ومن حيث إضافته ـ مطلق الإضافة ـ له أحكام شتّى تنحصر في حكمين :

أحدهما : هو من حيث إضافته إلى الحقّ ، وله أوصاف كثيرة ، كالقدم والحيطة وغيرهما.

والثاني : من حيث إضافته إلى الممكنات ، فالنعمة الكلّيّة المختصّة بالممكنات من جهة علم الحقّ هي مطلق اختياره سبحانه لعبده ما فيه الخير ، والخيرة له في كلّ حال يتلبّس به ، أو مقام يحلّه أو يمرّ عليه ، أو نشأة تظهر بها نفسه وموطن يتعيّن فيه النشأة ، وزمان يحويه من حيث تقيّده به ودخوله في دائرته ، ومكان يستقرّ فيه من حيث ما هو متحيّر ، وأوّل كلّ ذلك ومبدؤه هو من حال تعلّق الإرادة الإلهيّة بإظهار تخصيصه الثابت أزلا في علم الحقّ ، ثم اتّصال حكم القدرة به لإبرازه في التطوّرات الوجوديّة ، وإمراره على المراتب الإلهيّة والكونيّة ، وله في كلّ عالم وحضرة يمرّ عليه صورة تناسبه من حيث ذلك العالم والحضرة ، وحال تخصّه بحسب ما ذكرنا أيضا ، ووديعة يأخذها هي من جملة النعم.

وحظّه من النعم الذاتيّة والأسمائيّة يتفاوت بحسب استعداده وحظّه من نعمة حسن الخلق والتسوية والتعديل والتهمّم به بموجب المحبّة الذاتيّة التي لا سبب لها أيضا حال التصوير.

فكم [فرق] بين من باشر الحقّ تسويته وتعديله ، وجمع له بين يديه المقدّستين ، ثم نفخ بنفسه فيه من روحه نفخا استلزم معرفته (١) الأسماء كلّها وسجود الملائكة له أجمعين ، وإجلاسه على مرتبة النيابة عنه في الكون ، وبين من خلقه بيده الواحدة أو بواسطة ما شاء ، ولم يقبل من حكمي التسوية والتعديل ما قبله من اختير للنيابة.

وكون الملك هو الذي ينفخ فيه الروح بالإذن ـ كما ورد في الشريعة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «يجمع خلق أحدكم في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ، ثم أربعين يوما علقة ، ثم أربعين يوما مضغة ، ثم يؤمر الملك ، فينفخ فيه الروح ويقول : يا ربّ أذكر أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟ ما عمله» (٢)؟ فالحقّ يملي والملك يكتب أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فأين هذا من قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)» (٣)؟ شتّان بينهما ؛ هنا أضاف

__________________

(١) ق ، ه : معرفة.

(٢) جامع المسانيد ، ج ٢٧ ، ص ١٠٥.

(٣) الحجر (١٥) الآية ٢٩.

٢٩٢

المباشرة إلى نفسه بضمير الإفراد الرافع للاحتمال ، ولهذا قرع بذلك المستكبر المتأبّي عن السجود له ، ولعنه وأخزاه ، وقال له : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (١).

وأكّد ذلك صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمور كثيرة منها قوله : «إنّ الله خلق آدم على صورته» و «على صورة الرحمان» (٢) ، وبقوله في الصحيح أيضا الرافع للاحتمال الذي ركن إليه أرباب العقول السخيفة ، الجاهلون بأسرار الشريعة والحقيقة ، في وصيّته بعض أصحابه في الغزو : «إذا ذبحت ، فأحسن الذبحة وإذا قتلت ، فأحسن القتلة ، واجتنب الوجه ؛ فإنّ الله خلق آدم على صورته»

الخلق بيد وبيدين

وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وآله في المعنى : «إنّ الله إذا خلق خلقا للخلافة ، مسح بيمينه على ناصيته» فنبّه على مزيد التهمّم والخصوصيّة. وأشار أيضا في حديث آخر ثابت أيضا «إنّ الذي باشر الحقّ سبحانه إيجاده أربعة أشياء» ، ثم سردها ، فقال : «خلق جنّة عدن بيده وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده ، وخلق آدم بيديه» وقال أيضا : «الإنسان أعجب موجود خلق» فافهم.

كيف ينحرف الإنسان

فلا يزال الإنسان مباشرا ـ في سائر مراتب الاستيداع من حين إفراز الإرادة له من عرصة العلم ، باعتبار نسبة ظاهريّته (٣) لا نسبة ثبوته (٤) وتسليمها إيّاه إلى القدرة ، ثم تعيينه (٥) في مقام القلم الأعلى ، الذي هو العقل الأوّل ، ثم في المقام اللوحي النفسي ، ثم في مرتبة الطبيعة باعتبار ظهور حكمها في الأجسام ، ثم في العرش المحدّد للجهات ، ثم في الكرسي الكريم مستوى الاسم «الرحيم» ثم في السماوات السبع ، ثم في العناصر ، ثم المولودات (٦) الثلاث

__________________

(١) ص (٣٨) الآية ٧٥.

(٢) ر. ك : مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٢٤٤.

(٣) ه : ظاهرية.

(٤) ق : ثبوتية.

(٥) ق : تعيّنه.

(٦) ق : المولدات.

٢٩٣

إلى حين استقراره بصفة صورة الجمع ، بعد استيفاء أحكام مراتب الاستيداع ـ مباشرة تابعة للمشيئة والعناية التابعتين للمحبّة الذاتيّة بالإيجاب العلمي ، فمهتمّ به اهتماما تامّا ، ومتساهل في حقّه ، كما نبّه على الأمرين صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله في جنازة سعد : «اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» وقال في طائفة أخرى ؛ لما ذكر : «إنّ الموت ينتقي (١) خيار الناس الأمثل فالأمثل حتى لا تبقي إلّا حثالة كحثالة التمر أو الشعير لا يبالي الله بهم». (٢) فأين من يهتزّ لموته عرش الرحمن ممّن لا يبالي الله بهم أصلا؟ فكما هو (٣) الأمر آخرا ، كذا هو أوّلا ، بل الخاتمة عين السابقة ، فافهم.

ثم نرجع ونقول متمّمين لما وقع الشروع في بيانه : ومكث الإنسان في كلّ عالم وحضرة يمرّ عليها (٤) ويهتمّ (٥) أهل ذلك العالم والمرتبة به وبخدمته وإمداده وحسن تلقّيه أوّلا ومشايعته ثانيا ، هو بحسب ما يدركونه فيه من سمة (٦) العناية وأثر الاختصاص ، وما من عالم من العوالم العلويّة يمرّ عليه إلّا وهو بصدد التعويق أو الانحراف المعنوي ؛ لغلبة صفة بعض الأرواح ـ الذي يتّصل حكمه به ـ عليه ، والأفلاك بالنسبة إلى البواقي ، فيتعوّق أو ينحرف عمّا يقتضيه حكم الاعتدال الحالي الجمعي الوسطي الربّاني ، الذي هو شأن من يختار للنيابة ، ثم الأمثل فالأمثل.

وإذا دخل عالم المولودات ، (٧) ـ وسيّما من حين تعدّي مرتبة المعدن إلى مرتبة النبات وعالمه ـ إن لم تصحبه العناية ولم يصحبه الحقّ بحسن المعونة والمرافقة والحراسة والرعاية ، وإلّا (٨) خيف عليه ، فإنّه بصدد آفات كثيرة ؛ لأنّه بعد دخوله عالم النبات إن لم يكن محروسا معتنى به وإلّا (٩) فقد ينجذب ببعض المناسبات التي تشتمل عليها جمعيّته إلى نبات رديء لا يأكله حيوان ، أولا يمكن أكل الأبوين أو أحدهما له ، ويفسد ذلك النبات الرديء فيخرج منه إلى عالم العناصر ويبقى فيه حائرا عاجزا حتى يعان ويؤذن له في الدخول مرّة أخرى.

__________________

(١) ه : يبتغي.

(٢) جامع المسانيد ، ج ٥ ، ص ١٦٩.

(٣) ه : هو هو.

(٤) ق : عليهما.

(٥) في بعض النسخ : تهمّم.

(٦) ه : سمته.

(٧) ق : ه : المولدات.

(٨ و ٩). كذا في الأصل. والظاهر زيادة موالاة في الموردين.

٢٩٤

ثم بعد دخوله واتّصاله (١) بنبات صالح مغذّ ربما عرضت له آفة من العناصر من برد شديد ، أو حرّ مفرط ، أو رطوبة زائدة ، أو يبس بالغ (٢) ، فيتلف ويخرج ليستأنف دخولا آخر ، هكذا مرارا شتّى حسب ما شاء الله وقدّره.

ثم على تقدير سلامته أيضا فيما ذكرنا بنعمة الحراسة ونعمة الرعاية وباقي النعم التي يستدعيها فقره ، ربما تمّ في صورة نبات مّا ، لكن تناوله حيوان ولم يقدر للأبوين أكل ذلك الحيوان لمانع من الموانع ، أو منع مانع عن أخذ ذلك النبات وتناوله ؛ لما لم يكن رزق اللذين سبق في علم الله أن يكونا أبويه.

وإذا قدّر مؤاتاة كلّ ما ذكرنا وتناوله الشخصان المتعيّنان في العلم أن يكونا أبويه أو أحدهما ، وصار ذلك النبات كيلوسا ، ثم دما ، ثم منيّا ، فإنّه قد يخرج على غير الوجه الذي يقتضي تكوينه منه ، فهو مفتقر بعد الاتّصال بالأبوين إلى نعمة الحراسة والرعاية وغيرهما.

فإذا تعيّن في الرحم ، فقد تعدّى مراتب الاستيداع وصار مستقرّا في الرحم متطوّرا فيه على الوجه المعلوم عند الجمهور من حيث الشرع ، ومن حيث ظاهر الحكمة ، فيحتاج إلى حراسة أخرى ومعونة ورعاية لحسن الغذاء واعتدال حركات الوالدة وسلامتها من الأمراض والآفات ، وأن يكون انفصاله عنها في وقت صالح سعيد مناسب ، فإنّ لحكم الزمان والمكان حال مسقط النطفة وحال الانفصال عن الوالدة مدخلا كبيرا (٣) في أمر الإنسان من حيث ظاهره وباطنه.

فالمختصّ (٤) بمسقط (٥) النطفة من حكمي المكان والزمان شاهدان على كثير من أحواله الباطنة ، والمختصّان بحال الولادة شاهدان على معظم أحواله الظاهرة وسرّ الابتداء في السلوك إلى جناب الحقّ سبحانه أو إلى ما يرغب الإنسان فيه ويطلب الاستكمال به ينبّه على الأمر الجامع بين الظاهر والباطن.

وجملة الحال أنّه ما من مرتبة من هذه المراتب التي ذكرناها إلّا والإنسان من حيث الخلق التقديري ـ المنبّه عليه بقوله عليه‌السلام : «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام». (٦)

__________________

(١) ق : إيصاله.

(٢) ق : غالب.

(٣) ق : كثيرا.

(٤) كذا في الأصل. والظاهر ـ بقرينة الخبر ـ : فالمختصّان.

(٥) ق : يسقط.

(٦) كشف المحجوب ، ص ٣٣٧.

٢٩٥

وبقوله : «إنّ الله مسح على ظهر آدم فأخرج ذريّته كأمثال الذرّ». (١) الحديث ، وبما أخبرنا أنّ تعيّن صور الأشياء في اللوح المحفوظ بالكتابة الإلهيّة القلميّة سابق على التعيّنات الروحانيّة والجسمانيّة ـ معرض للآفات التي أجملنا ذكرها ممّا لا تستقلّ (٢) العقول بإدراكه.

فأين من يكون أحديّ السير من حين صدوره من غيب الحقّ إلى عرصة الوجود العيني (٣) ، لم يتعوّق من حيث حقيقته وروحانيّته في عالم من العوالم ، ولا حضرة من الحضرات متذكّرا حين كشف الغطاء عنه هنا ما مرّ عليه ، يسأل عن ميثاق «ألست» فيقول : كأنّه الآن في أذني وغيره يخبر بما هو أكثر من ذلك ، ممّن يتعوّق ويتكرّر ولوجه وخروجه المقتضيان كثافة حجبه وكثرتها ، وتقلّبه في المحن والآفات ، نعوذ بالله منها.

ثم نقول : وأمّا الآفات والمحن التي الإنسان معرض لها من حين الولادة ، بل من حيث الاستقرار في الرحم إلى حين تحقّقه بمعرفة ربّه وشهوده وتيقّنه بالفوز بتحصيل أسباب الرشد والسعادة بل إلى حين تحقّق حسن الخاتمة بالبشرى الإلهيّة ، أو بما شاء الله بالنسبة إلى البعض ، فغير خافية على العقلاء ، وبالنسبة إلى البعض إلى حين دخول الجنّة ، كما ورد : «لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط» ، فما من مقام ولا حال ولا زمان ولا مكان ولا نشأة من النشآت الاستيداعيّة ، والتطوّرات الاستقراريّة ، التي ذكرها الله في خلق الإنسان من تراب وماء مهين ، ونطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظم ولحم ، إلى تمام النشأة الدنياويّة ، ثم البرزخيّة ، ثم الحشريّة ، ثم الجنانيّة إلّا ولله فيها على الإنسان نعم كثيرة ـ كما بيّنّا ـ موقّتة ومستصحبة.

فالموقّتة منها كلّ نعمة هي من لوازم كلّ نشأة وحالة يتلبّس الإنسان بها ، ثم ينسلخ عنها في العوالم والمراتب والأطوار التي يمرّ عليها.

وغير الموقّتة والمستصحبة نعمة الحراسة ، ونعمة العناية ، ونعمة الرعاية ، ونعمة قبول الأعمال الذاتيّة ، ونعمة صحّة المعرفة اللازمة للشهود (٤) الذاتي ، ونعمة الارتضاء والقبول الذاتي ، ونعمة حسن التعويض والتبديل والإنشاء ، ونعمة التخلّي للتجلّي ، ونعمة إشهاد

__________________

(١) جامع المسانيد ، ج ١٨ ، ص ٢٤٩.

(٢) ه : يستقلّ.

(٣) ق : الغيبي.

(٤) ق : بالشهود.

٢٩٦

الخلق الجديد في كلّ آن ، ونعمة حسن المرافقة (١) في كلّ ذلك وسواه ، ونعمة الإمداد بما يحتاج إليه في ذاته وخواصّها ولوازمها ، وما يحتاج إليه في الوصول إلى مرتبة الكمال الذي أهلّ له ، ونعمة التوفيق والهداية المقرّبين للمدى ، المنافيين (٢) لما عليه العدى ، ونعمة العافية ، ونعمة تهيئة الأسباب الملائمة في كلّ الأمور.

والأعلى والأشرف نعمة المشاهدة الذاتيّة ، التي لا حجاب بعدها ـ مع كمال المعرفة والحضور معه سبحانه ، على أتمّ وجه يرضاه للكمّل ـ منه ومنهم له دنيا وبرزخا وآخرة ، فقوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالنسبة لمن يعرف ما بيّنّا هو ما أشرنا إليه.

وأوّل موجود تحقّق بالنعم الإلهيّة القلم الأعلى الذي هو أوّل عالم التدوين والتسطير ، فإنّ المهيمنين (٣) وإن كانوا أعلى (٤) في المكانة ، لكنّهم لا شعور لهم من حيث هم بأنفسهم ، فضلا أن يكون لهم شعور بنعيم ولذّة.

وآخر الموجودات تحقّقا بهذه النعم عيسى بن مريم ـ على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام ـ لأنّه لا خليفة لله بعده إلى يوم القيامة ، بل لا يبقى بعد انتقاله وانتقال من معه مؤمن على وجه الأرض ، فضلا عن وليّ وكامل. كذا أخبر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال : «لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول : الله الله ، ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس». (٥)

فينبغي لمن فهم ما ذكرنا أن يستحضر عند قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، القلم الأعلى وعيسى ومن بينهما ، ممّن منح النعم الإلهيّة التي عدّدناها والتي أومأنا إليها إشارة وتلويحا على سبيل الإجمال ؛ فإنّه لا يفوته نعمة من النعم الإلهيّة أصلا ؛ لأنّ أهلها محصورون في المذكورين ومن بينهما ، وسيّما إذا استحضر قوله تعالى على لسان نبيّه : «هؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل» ، وصدّق ربّه بإيمانه التامّ فيما أخبر عن نفسه ، وفي وعده بالإجابة وأنّه سبحانه عند ظنّ عبده به ، فإنّ الله تعالى يعامله بكرمه (٦) الخاصّ واعتقاده فيه لا محالة كما أخبر ، وهو الصادق الوعد والحديث ، الجواد المحسان. (٧)

__________________

(١) ق : الموافقة.

(٢) ق : المنافين.

(٣) ق ، ه : المهمين. والظاهر ـ بقرينة الأحكام المرتّبة عليهم ـ : «المهيّمين».

(٤) كذا في الأصل. والأولى : أعلون.

(٥) جامع المسانيد ، ج ٢١ ، ص ١٦٢.

(٦) ق : بكونه.

(٧) أي كثير الإحسان.

٢٩٧

وصل منه

اعلم ، أنّ النعيم والعذاب ثمرة الرضا والغضب ، ولكلّ منهما ثلاث مراتب ، كما لباقي الصفات على ما عرفت به من قبل عند بيان سرّ الهداية والإيمان والتقى وغير ذلك.

مراتب الغضب

فأوّل درجات الغضب يقضي بالحرمان وقطع الإمداد العلمي ، المستلزم لتسلّط الجهل والهوى والنفس والشيطان والأحوال والأخلاق الذميمة الحاكمة ، لكن كلّ ذلك موقّت إلى أجل معلوم عند الله في الدنيا إلى النفس الذي قبل آخر الأنفاس في حقّ من يختم له بالسعادة كما ثبت شرعا وتحقيقا (١) سواء كانت سلطنة ما ذكرنا (٢) باطنا أو ظاهرا أو هما معا.

والرتبة الثانية تقضي (٣) بانسحاب الحكم المذكور باطنا هنا ، وظاهرا في الآخرة برهة من زمان الآخرة ، أو يتّصل الحكم إلى حين دخول جهنّم وفتح باب الشفاعة ، وآخر مدّة الحكم حال ظهور حكم أرحم الراحمين بعد انتهاء حكم شفاعة الشافعين.

وفي هذه الرتبة حالة أخرى تقضي (٤) بانسحاب حكم ظاهر الغضب ظاهرا هنا فقط منها بتعيّن (٥) المحن على الأنبياء وأهل الله ، وينتهي الأمر بانتهاء حكم هذه النشأة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة عليها‌السلام حين وفاته : «لا كرب على أبيك بعد اليوم». وهذا الحكم باطنه فيه الرحمة

__________________

(١) كان في الأصل : وسواء.

(٢) ق : ما ذكر.

(٣) ه : يقضي.

(٤) ه : يقضي.

(٥) ه : يتعيّن.

٢٩٨

وظاهره من قبله العذاب ، وله التطهير ومزيد الترقّي في الأمور (١) التي سبق العلم أنّها لا تنال تماما إلّا بهذه المحن المنبّه على أصلها. وفوق هذا سرّ عزيز جدّا لا أعرف له ذائقا ، أذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ

وذلك أنّ الكمّل من أهل الله من الأنبياء والأولياء ومن شاركهم في بعض صفات الكمال إنّما امتازوا عن سواهم أوّلا بسعة الدائرة وصفاء جوهريّة الروح والاستيعاب الذي هو من لوازم الجمعيّة ، كما نبّهتك عليه في سرّ مرتبة أحديّة الجمع واختصاصها بالإنسان الذي هو برزخ الحضرتين ومرآتهما. وحضرة الحقّ مشتملة على جميع الأسماء والصفات ، بل هي منبع لسائر النسب والإضافات والغضب من أمّهاتها والمجازاة (٢) الشريفة الصفاتيّة الأولى إنّما كانت بين (٣) الغضب والرحمة ، فمن ظهر بصورة الحضرة تماما وكانت ذاته مرآة كاملة لها ، لا بدّ وأن يظهر فيها كلّ ما اشتملت عليه الحضرة ، وما اشتمل عليه الإمكان على الوجه الأتمّ ، ومن أمّهات ما فيها ما ذكرنا (٤) فلا جرم وقع الأمر كما علمت ، ولو لا سبق الرحمة الغضب ، كان الأمر أشدّ ، فكما أنّ حظّهم من الرحمة والنعيم والعظمة والجلال أعظم من حظوظ سواهم بما لا نسبة ، فكذلك كان الأمر في الطرف الآخر لكن في الدنيا ؛ لأنّ هذه النشأة هي الظاهرة بأحكام حضرة الإمكان المقتضية النقائص والآلام ونحو ذلك.

وعند الانتقال منها بعد التحقّق بالكمال يظهر حكم غلبة الرحمة الغضب وسبقها ، وثمرة الاستكمال المستفاد بواسطة هذه النشأة الجامعة المحيطة ، وحكم من دون الكمّل بالنسبة إليهم بحسب قرب نسبتهم منهم وبعدها ، وكذا نبّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «نحن معاشر الأنبياء أشدّ الناس بلاء في الدنيا» (٥) وفيه ـ أي في الحديث ـ : «ثم الأمثل فالأمثل» ، وورد في طريق آخر في المعنى : «أشدّ الناس بلاء في الدنيا الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل» وهكذا الأمر في طرف النعيم والسعادة. ومن بعث رحمة للعالمين فدى بنفسه في الأوقات الشديدة المقتضية عموم العقوبة لسلطنة الغضب ضعفاء الخلق ، وكذا نبّه على هذا السرّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) ه : الأمر.

(٢) ق : المجازاة.

(٣) ق : من.

(٤) أي الغضب.

(٥) جامع المسانيد ، ج ١٥ ، ص ١١٢.

٢٩٩

أهل هذا الذوق الأشرف لمّا رأى جهنّم وهو في صلاة الكسوف ، وجعل يتّقي حرّها عن وجهه (١) بيده وثوبه ويتأخّر عن مكانه ويتضرّع ويقول : [«ألم تعدني يا ربّ أنّك لا تعذّبهم وأنا فيهم؟»] (٢) «ألم ، ألم» : حتى حجبت (٣) عنه. يريد قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٤) ، فافهم.

وأمّا الرتبة الثالثة من رتب الغضب بالنسبة إلى طائفة خاصّة فتقتضي التأبيد وكمال حكمها يوم القيامة ، كما تخبر الرسل عن ذلك قاطبة بقولها الذي حكاه لنا نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو أنّها تقول : «إنّ الله قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله» ، فشهدت بكماله شهادة تستلم بشارة لو عرفت لم ييأس أحد من رحمة الله ،

ولو جاز إفشاء ذلك وكشف سرّ تردّد الناس إلى الأنبياء ، وانتهائهم إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسرّ فتحه باب الشفاعة ، وسرّ حثيات ربّنا ، وسرّ «فيضع الجبّار فيها ـ يعني في جهنّم ـ قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول (٥) : قطّ قطّ» أي حسبي حسبي ، وسرّ السجدات الأربع ، وما يخرج من النار (٦) في كلّ دفعة ، وما تلك المعاودة والمراودة ، وسرّ قول مالك خازن النار لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر مرّة يأتيه لإخراج آخر من يخرج بشفاعته : يا محمّد! ما تركت لغضب ربك شيئا ، وسرّ قوله تعالى : «شفعت الملائكة وشفع النبيّون وشفع المؤمنون ولم يبق إلّا أرحم الراحمين» وسرّ قوله سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عند شفاعته في أهل لا إله إلّا الله : «ليس ذلك لك» الذي يقول في إثره : «شفعت الملائكة» ، الحديث ، وغير ذلك من الأسرار التي رمزها لنا وأجمل ذكرها لظهر (٧) ما يبهر العقول ويحيّر الألباب ، ولكنّ الأمر كما قال بعض التراجمة ـ قدّس الله روحه ـ :

وما كلّ معلوم يباح مصونه

ولا كلّ ما أملت عيون الظبا يروى

ثم اعلم ، أنّ حكم الغضب الإلهي هو تكميل مرتبة قبضة الشمال ؛ فإنّه وإن كانت كلتا يديه المقدّستين يمينا مباركة ، لكن حكم كلّ واحدة منهما يخالف [حكم] الأخرى ،

__________________

(١) ه : وجه.

(٢) ما بين المعقوفين ، غير موجود في ق.

(٣) أي حجبت جهنّم عنه.

(٤) الأنفال (٨) الآية ٣٣.

(٥) ه : يقول.

(٦) ق : جهنّم.

(٧) جواب «لو جاز».

٣٠٠