إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

الخصيصة بروحه معتدلا ، وكان اجتماع أسطقسّاته هنا حال انتشاء بدنه واقعا على هيئة متناسبة في الاعتدال ، فجمع بالاعتدال الغيبي الأصلي المذكور ، بين الاعتدال الروحاني والطبيعي المثالي والحسّي ، كانت (١) أحواله وأفعاله وتصوّراته واقعة جارية على سنن الاعتدال والاستقامة. سواء كانت تلك الأفعال والآثار من الأمور الزائلة أو الثابتة إلى أجل أو دائما.

وكلّ شيء يصدر منه صدورا معتدلا فهو في سيره من ربّه آتيا وعائدا يمشي مشيا مستقيما على الصراط السوي ، بسيرة مرضيّة ، وتطوّرات معتدلة رضيّة في نفس الأمر عند الله.

ومن انحرف عن هذه النقطة الوسطيّة المركزيّة ، التي هي نقطة الكمال في حضرة أحديّة الجمع ، فالحكم له وعليه بحسب قرب مرتبته من هذه وبعدها فقريب وأقرب وبعيد وأبعد ، وما بين الانحراف التامّ المختصّ بالشيطنة وهذا الاعتدال الإلهي الأسمائي الكمالي يتعيّن مراتب أهل السعادة والشقاء ، فللاعتدال الطبيعي السعادة الظاهرة ـ على اختلاف مراتبها ـ والنعيم المحسوس ، ويختصّ بالمرتبة الأولى من مراتب الهداية وبجمهور أهل الجنّة.

وللاعتدال الروحاني باطن الهداية في الرتبة (٢) من ربّها ، ويختصّ بالأبرار.

ومن غلبت عليه الأحكام الروحانيّة من الأولياء ، كقضيب البان (٣) وأمثاله ، فبعلّيّين. (٤) وأصحاب الاعتدال الأسمائي الغيبي الإلهي هم الكمّل المقرّبون ، أهل التسنيم ، وخزنة مفاتيح الغيب ، ويختصّ بهم المرتبة الثالثة من مراتب الهداية الكاملة الآتي ذكرها عن قريب.

وينقسم أهل الهداية الظاهرة والباطنة المذكورين (٥) على أقسام عددها على عدد الأولياء الذين هم على عدد مراتب الاعتدال الطبيعي والروحاني ، وهي تزيد على الثلاثمائة بمقدار قليل ، من حيث أصول هذه الأقسام. وأمّا من حيث أمّهات الأصول

__________________

(١) جواب «من».

(٢) ه : الرتبة الثانية.

(٣) هو عبد الله بن محمّد ، حجازيّ كان حسن الخطّ. قتل (١٦٨٤) له «نظم الأشباه الفقهية» و «حلّ العقال». المنجد قسم الأعلام.

(٤) كان في الأصل : وبعليين.

(٥) كذا في الأصل. والصحيح : المذكورون ـ صفة للأهل ـ أو المذكورتين ـ للهدايتين ـ.

٢٦١

فلا تجاوز (١) التسعة :

فمنهم : المهتدي بكلام الحقّ ـ من حيث رسله الملكيّين (٢) ، أو البشريّين (٣) ـ في نفسه فقط ، أو فيه وفي غيره. ولا يتعدّى أمر هؤلاء المسجد الأقصى عند سدرة المنتهى ، مع تفاوت عظيم بينهم ؛ فإنّ فيهم من لا يتعدّى أمره السماء الأولى ، ولا الخطاب الإلهي الوارد عليه ، ولا الرسول الملكي الآتي إليه.

وفيهم (٤) من يختصّ بالسماء الثانية ، وآخر بالثالثة ، هكذا إلى المسجد المذكور ، عند سدرة المنتهى ، وليس فوق هذا المسجد تشريع تكليفي ، ولا إلزام بصراط معيّن يتعبّد به أحد هنا بالقهر.

ومنهم : المهتدي بكلام كلّ قدوة آخذ عن الله ، مأمور بالإرشاد ، وداع على بصيرة.

ومنهم : المهتدي بصور أفعال الحقّ التي هي آيات الآفاق والأنفس.

ومنهم : المهتدي بما فعل (٥) الرسل وكلّ متبوع محقّ ، أو واضع شريعة سياسيّة عقليّة مصادفة ما قرّرتها الرسل ، لكن واضعها ابتدعها وتبعه فيها غيره (٦) تقليدا أو استحسانا.

ومنهم : المهتدي بإذنه على اختلاف صور الإذن ، وقد نبّه سبحانه على هذا المقام بقوله :

(فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ). (٧) ومنهم : من اهتدى بإيمانه كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) (٨).

ومنهم : من اهتدى بأمر متحصّل من مجموع ما ذكر أو بعضه ، كقوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (٩) هذا ، مع أنّ كلّ قسم ممّا ذكرنا ينقسم أهله إلى أقسام ، فافهم.

ومنهم : من اهتدى به سبحانه من حيث بعض أسمائه.

__________________

(١) ه : يجاوز.

(٢) ق : الملكيون.

(٣) ق : البشريون.

(٤) في بعض النسخ : ومنهم.

(٥) ق : بأفعال.

(٦) في بعض النسخ : غير.

(٧) البقرة (٢) الآية ٢١٣.

(٨) يونس (١٠) الآية ٩.

(٩) طه (٢٠) الآية ٨٢.

٢٦٢

ومنهم : من اهتدى به من حيث جملتها.

ومنهم : من اهتدى به من حيث خصوصيّة المرتبة الجامعة بين سائر الأسماء والصفات.

ومنهم : من اهتدى به لا من حيث قيد خاصّ ، ولا نسبة متعيّنة من اسم أو صفة أو شأن أو تجلّ في مظهر ، أو خطاب منضبط بحرف وصوت ، أو عمل مقنّن ، أو سعي متعمّل ، أو علم موهوب أو مكتسب وبالأسباب أو الوسائل محصّل ، وإنّما علم الحقّ أنّ من مقتضى حقيقته (١) التكيّف بصورة كلّ شيء ، والتلبّس بكلّ حال ، والانصباغ بحكم كلّ مرتبة وكلّ حاكم في كلّ وقت وزمان.

فلمّا رآها مضاهية لصورة حضرته ، اختارها مجلى لحضرة ذاته المطلقة ، التي إليها تستند الألوهة الجامعة للأسماء والصفات ، فتجلّى فيها تجلّيا تستدعيه هذه الحقيقة ، فعلم كلّ شيء من حيث تعيّنه في علم ربّه أزلا بذلك العلم عينه ، وهدى كلّ شيء لكلّ شيء ، وحكم على كلّ شيء بنفس ذلك الشيء ، فانحفظت به صور الحقائق من حيث عدم تغيّرها في مرآته ، على ما كانت عليه حال ارتسامها في نفس موجدها. ولو لا هذا المجلى ما ظهر عن الحقّ بتجلّيه فيه صور الأشياء بين المجلى والمتجلّي ، فافهم.

__________________

(١) ه : حقيقة.

٢٦٣

وصل

في مراتب الاستقامة

وإذ قد ذكرنا نبذا من أقسام الناس في مراتب الهداية والاهتداء ، فلنذكر ما يختصّ بالاستقامة.

اعلم ، أنّ الناس في الاستقامة على سبعة أقسام : مستقيم بقوله وفعله وقلبه ، ومستقيم بقلبه وفعله دون قوله ، ولهذين الفوز ، والأوّل أعلى ، ومستقيم بفعله وقوله دون قلبه ، وهذا يرجى له النفع بغيره ، ومستقيم بقوله وقلبه دون فعله ، ومستقيم بقوله دون فعله وقلبه ، ومستقيم بقلبه دون فعله وقوله ، ومستقيم بفعله دون قلبه وقوله ، وهؤلاء عليهم لا لهم وإن كان بعضهم فوق بعض.

وليس المراد بالاستقامة في القول هنا ترك الغيبة والنميمة وشبههما ؛ فإنّ الفعل يشمل ذلك ، وإنّما المراد بالاستقامة في القول إرشاد الغير بقوله إلى الصراط المستقيم ، وقد يكون عريّا ممّا يرشد إليه ، وسنجمع الأمر (١) لك في مثال واحد موضح ، فنقول :

مثاله : رجل تفقّه في أمر صلاته وحقّقها ، ثم علّمها غيره ، فهذا مستقيم في قوله ، ثم حضر وقتها فأدّاها على نحو ما علّمها ، محافظا على أركانها الظاهرة ، فهذا مستقيم في فعله ، ثم علم أنّ مراد الله منه من تلك الصلاة حضور قلبه معه فيها ، فأحضره ، فهذا مستقيم بقلبه. وقس على ذلك بقية الأقسام ، تصب ـ إن شاء الله ـ

__________________

(١) ق : لك الأمر.

٢٦٤

وصل منه

وإذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ أسدّ صراط خصوصي في مطلق الصراطات المشروعة ما كان عليه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قولا وفعلا وحالا على نحو ما نقل من سيرته. والفائز بها الكامل في الاتّباع تقليدا ، أو عن معرفة وشهود وهي الحالة الوسطى الاعتداليّة ، والناس فيها على مراتب لكلّ ذي مرتبة منها آية ، أو آيات تدلّ على صحّة تبعيّته ونسبته منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بموجب القرابة الدينيّة الشرعيّة ، أو (١) القرابة الروحانيّة من حيث ورثه في الحال أو في العلم ـ ذوقا ومأخذا ـ أو في المرتبة الكماليّة التي تقتضي الجمع والاستيعاب.

وهذه الآيات تكون في حقّ المحجوبين وفي حقّ أهل الاطّلاع.

فآيتها في الإلهيّات بالنسبة إلى من هو دون الكمّل والأفراد شهود الحقّ الأحد في عين الكثرة مع انتفاء الكثرة الوجوديّة وبقاء أحكامها المختلفة. هذا ، مع المعرفة اللازمة لهذا الشهود وهي معرفة سبب تفرّع النسب والإضافات ورجوعها حكما إلى الوجود الواحد الحقّ ، الذي لا كثرة فيه أصلا.

وأهل هذا الحال فيه على درجات في الشهود والمعرفة والولاية ، وفي معرفة سرّ الاتّباع وحكمه موافقة واقتداء ، وفي نتائج الأعمال الموقّتة وغير الموقّتة ، الصادرة بالنسبة إلى التابع ، وبالنسبة إلى الموافق.

والاستقامة الوسطيّة بالنسبة إلى غير أهل الكشف والمعرفة من المؤمنين والمسلمين أيضا على مراتب ودرجات ، فأتمّهم إيمانا بهذا الذوق المذكور ، وأشدّهم تحرّيا للمتابعة ،

__________________

(١) ق : و.

٢٦٥

وأصحّهم تصوّرا لما يذكر من هذه الشأن أتمّهم قربا من الطبقة الأولى ، ولهم الجمع بين التنزيه المنبّه عليه في سورة الإخلاص ، وفي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وبين تشبيه : «ينزل ربّنا إلى السماء الدنيا كلّ ليلة» (١) و «يسكن جنّة عدن في دار له فيها» ويتحوّل في الصور يوم القيامة ، وينزل مع ملائكة السماء السابعة فيستوي على عرش الفصل والقضاء ، ويراه السعداء ، ويسمعون كلامه كفاحا ، ليس بينه وبينهم ترجمان فيثبت كلّ ذلك للحقّ كما أخبر به عن نفسه ، وبحسب ما ينبغي لجلاله ، في مرتبة ظاهريّته ، لأنّ كلّ هذا من شؤون الاسم «الظاهر» كما أنّ التنزيه متعلّقه الاسم «الباطن».

ولحقيقة سبحانه المسمّاة بالهويّة الجمع بين الظاهر والباطن كما نبّه على ذلك بقوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (٢) ، فعيّن مقام الهويّة (٣) في الوسط بين الأوّليّة والآخريّة ، والظاهريّة والباطنيّة ، وكذلك نبّهنا سبحانه فيما شرع لنا من التوجّه إلى الكعبة بعد التوجّه إلى بيت المقدس على سرّ ما أشرنا إليه بقوله : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) ؛ أي بين المشرق والمغرب ؛ لأنّه أردف ذلك بقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ؛ (٥) أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب.

ولمّا كان المشرق للظهور والمغرب للبطون والوسط للهو (٦) كما بيّنّا ، كان صاحب الوسط له العدل والاستقامة المحقّقة ، وأمّا قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٧) ، فهو تنبيه منه سبحانه على سرّ الحيطة والمعيّة الذاتيّة والإطلاق ، ويظهر حكم ذلك في الحائر الذي لم يتحقّق جهة القبلة ، وفيمن يتوجّه إلى القبلة من جهة المغرب أو المشرق كأنّ أحدهما متوجّه إلى المغرب ـ وإن كان قصده استقبال القبلة من جهة المغرب ـ والآخر بالعكس كأنّه متوجّه إلى المشرق ، وفيمن ينتقل على راحلته ؛ فإنّه يصلّي حيث توجّهت به راحلته كما ثبت ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي المصلّي في نفس الكعبة لا يتعيّن بجهة معيّنة هكذا (٨) حال من عاين محتد الجهات وارتقى عنها إلى حيث لا «أين» ولا «حيث» ولا «إلى» ؛ لأنّه حصل

__________________

(١) طبقات الشافعية ، ج ٩ ، ص ٨١.

(٢) الحديد (٥٧) الآية ٣.

(٣) ق : الهو.

(٤) البقرة (٢) الآية ١٤٢.

(٥) البقرة (٢) الآية ١٤٣.

(٦) ق : للوسط الهو.

(٧) البقرة (٢) الآية ١١٥.

(٨) في بعض النسخ : هكذا من.

٢٦٦

في العين وتحرّر من رقّ كلّ جهة وكون ومقام وحال وأين ، فصار قبلة كلّ قبلة ، وجهة (١) أهل كلّ نحلة وملّة ، لا يسلك ولا يسير ، بل منه أبرز ما أبرز ، وإليه يسلك به ، وإليه المصير.

ثم نرجع ونقول : ودون هذه الطائفة المذكورة من قبل التامّين في التبعيّة والإيمان الطائفة المنزّهة التي لا تعطّل ولا تجزم بما (٢) تتأوّل ، ودون أولئك الظاهرية التي لا تشبّه ولا تتحكّم ، وكلّ طائفة من هؤلاء ينقسم إلى أقسام ؛ وبين كلّ طائفتين منهم درجات في الاعتقادات ، لكلّ منها أهل ، فمن عرف ما ذكرنا ، ثم استقرأ حال الفرق الإسلاميّة ، عرّف حالهم وعرف أبعدهم نسبة من أقربهم ، المنبّه على حاله وعرف ما بين الطرفين ونسبة قربهم وبعدهم من الطبقة العليا ، ولو لا التطويل ، لذكرتهم على سبيل الحصر ، وعيّنت طرقهم وسيرهم ولكنّ الغرض الاختصار والإيجاز ، و (٣) فيما ذكرنا غنية للألبّاء ، والله المرشد.

__________________

(١) ق : ووجهة.

(٢) في بعض النسخ : لما.

(٣) ه : أو.

٢٦٧

وصل

في مراتب السير والسلوك

اعلم ، أنّ السير الذاتي الأصلي بالنسبة إلى الحقائق الكونيّة والأسماء الإلهيّة والأرواح العليّة والأجرام الفلكيّة والاستحالات الطبيعيّة والأحوال التكوينيّة وجميع التطوّرات الوجوديّة كلّها دورى ؛ فسير الأسماء بظهور آثارها وأحكامها في القوابل. وسير الحقائق بتنوّعات ظهوراتها في المظاهر المتنوّعة ، وسير الأرواح بلفتتيها استمدادا من الحقّ بلفتة وإمدادا بلفتة أخرى ، وبالمواظبة على ما يخصها من العبادة الذاتية مع دوام التعظيم والشوق ، وسير الطبيعة بإكساب كلّ ما يظهر عنها صفة ، صفة الجملة وحكمه ، فافهم.

والسير الخصوصي من الوسط وإليه خطان (١) ، والخطّ المستقيم أقصر الخطوط ، فهو أقربها فأقرب الطرق إلى الحقّ ـ المعرّف في الشريعة ، الذي قرنت السعادة بالتوجّه إليه ـ هو الصراط المستقيم الذي نبّهت عليه ، وقد ذكرت لك صورة العدل والاعتدال في المراتب الكلّيّة والأحوال والأخلاق العليّة السنيّة ، ونبّهتك على أحكامها وآثارها ونتائجها الموقّتة وغير الموقّتة والظاهرة منها والباطنة ، وأوضحت لك مراتب الهداية وأهلها العالين والمتوسّطين والنازلين ، وحال الناس في الاستقامة أيضا من حيث الفعل والقول والقلب.

وأنا الآن أجمع لك ذلك جمعا موجزا من أوّل مرتبة الرشاد الذي هو الإسلام ، ثم الإيمان ، ثم التوبة التي هي أوّل مقامات السالكين ، وهكذا إلى آخر مقام ، لينتظم الأمر (٢) وترتبط السلسلة المتعيّنة بين بداية الأمور وغايتها وأوائلها وأواخرها ، ثم أنبّهك على سرّ

__________________

(١) في الأصل : خطى.

(٢) ق : لك الأمر.

٢٦٨

النبوّة الآتية بصورة الهدايات ، والدالّة على غايات الكمالات ، وأطلعك على سرّ الاستقامة والاعوجاج والمبادئ والغايات وما يختصّ بجميع ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ فأقول :

أوّل مرتبة الرشاد في الصراط الخصوصي المشروع الإسلام وله التنبيه الإجمالي على حكم التوحيد الكلّي المرتبي والانقياد لله الموجد ، الذي لا يجهل أحد الاستناد إليه ولا الانقياد (١) له ، وله فروع من الأحكام والأحوال ، وتلبّس الإنسان بتلك الأحوال وانقياده لتلك الأحكام هو سيره في مراتب الإسلام ودرجاته ، حتى ينفذ منه إلى دائرة الإيمان ، وهكذا حاله في دائرة الإيمان بالأحكام والأحوال المختصّة به ، حتى ينتهي إلى حال الطائفة التي ذكرناها آنفا وقلنا : إنّها تلي طائفة العرفان والكشف والشهود.

ومبدأ الشروع في درجات الكمال الإيماني من مقام التوبة ، فالصراط المستقيم العدل الوسط في التوبة عبارة عن التلبّس بالحالة الخالصة من الشوائب المنافية للصدق ، والجزم عند قصد الإنابة بحيث تكون التوبة طاهرة من كلّ ما يشينها مقبولة ثابتة الحكم ، ثم التصديق الخاصّ بأنّ الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات ويعلم ما يفعل عباده.

وفي قوله سبحانه في هذه الآية : (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٢) ، تنبيه على هذا الإيمان المشار إليه ؛ فإنّ الإيمان ـ كما علمت ـ التصديق ، فمن صدّق الله في إخباره أنّه يعلم ما يفعلون (٣) ، لم يقدم متجاسرا على ما يكره ؛ لأنّه من الضعف بمثابة أنّه لو نهاه مخلوق مثله ـ ممّن له عليه تسلّط ـ عن أمر مّا ، وعرف أنّه كاره لذلك الأمر ، ثم تأتّى له فعل (٤) ذلك الأمر مع وفور الرغبة ووجدان الاستطاعة لكنّه بمرأى من ذلك المتسلّط الناهي ومسمع ، فإنّه لا يقدم على ارتكاب ذلك الفعل أبدا وإن توفّرت رغبته (٥) إلى أقصى الغاية ، بل مجرّد الحياء من معاينته له مع تقدير الأمن من غائلته يصدّه عن ذلك ، فكيف به إذا لم يتحقّق الأمن ، فهذا النحو من الإيمان ليس هو نفس الإيمان بالله وكتبه ورسله على سبيل الإجمال ، بل هذا إيمان خاصّ.

__________________

(١) ق : الانفعال.

(٢) الشورى (٤٢) الآية ٢٥.

(٣) ق : يفعل.

(٤) ه : فصل.

(٥) ه : رغبة.

٢٦٩

ومن أكبر فوائد إخبار الحقّ ورسله والكمّل من خاصّته (١) عن أحكام القدر تنبيه النفوس والهمم وتشويقها للتحلّي (٢) بعلم القدر أو التحقّق بالإيمان به بعد الإيمان بما ذكرنا ، كقوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٣) وكقوله عليه‌السلام : «إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب» (٤) وكقوله : «لا يستكمل إيمان عبد مسلم حتى يكون فيما في يد الله أوثق منه ممّا في أيدي (٥) الناس» (٦) ، وفي الحديث الآخر الصحيح أيضا : «حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» (٧) و «حتى يخاف الله في مزاحه (٨) وجدّه» ونحو هذا في هذا المعنى وغيره ممّا يطول ذكره ويجرّب العبد بميزانه عليه‌السلام وميزان ربّه إيمانه ، فيعلم ما حصّل وما بقي عليه ولم يحصّله.

ثم الصراط المستقيم العدل الوسط بعد التحقّق بالتوبة المقبولة المنبّه على حكمها هو الثبات على العمل الصالح بصفة الإخلاص الذي هو شأن أهل الإنابة ، ثم الترقّي بالعمل الصالح في الدرجات العلى كما قال : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (٩) يعني الأرواح الطاهرة (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (١٠) فلا يزال الإنسان ـ مع إيمانه وتوبته وملازمته الأعمال الصالحة ـ يتحرّى الأسدّ فالأسدّ ، والأولى فالأولى من كلام (١١) وعمل ، فيتّقي ويرتقي من حقّ الإيمان إلى حقيقته ، كما نبّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك الحارثة وقد سأله : كيف أصبحت يا حارثة؟ قال : أصبحت مؤمنا حقّا فقال : «إنّ لكلّ حقّ حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟» فقال : عزفت نفسي عن (١٢) الدنيا فتساوى عندي ذهبها وحجرها ونحو ذلك ، ثم قال : وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي بارزا وكأنّ أهل الجنّة في الجنّة ينعّمون وأهل النار في النار يعذّبون ،

__________________

(١) ق : خاصيته.

(٢) ق : للتجلّي.

(٣) الحديد (٥٧) الآية ٢٢.

(٤) جامع المسانيد ، ج ١٣ ، ص ٨٩.

(٥) ه : أيد.

(٦) جامع المسانيد ، ج ١٤ ، ص ٥٤١.

(٧) طبقات الشافعية ، ج ٤ ، ص ١٣٤.

(٨) ق : مزاجه.

(٩ و ١٠). فاطر (٣٥) الآية ١٠.

(١١). ق : كلّ أمر.

(١٢). عزفت نفسه «عن الشيء : زهدت فيه» وملّته. وعزف نفسه عن الشيء : منعها عنه ؛ فيمكن قراءة «عزفت» بصيغة التكلّم أيضا : وفي ق لا توجد.

٢٧٠

فقال عليه‌السلام : «عرفت فالزم» (١). فهذا آخر درجات الإيمان ، وأوّل درجات الإحسان (٢).

ثم إنّ العبد يرقى ويزداد من النوافل بعد إحكام الفرائض وإتقانها وجمع الهمّ على الله وإحضار قلبه فيما يرتكبه لله ، مع مشاهدة التقصير بالنسبة إلى ما يجب وينبغي ، ثم الإكثار (٣) من النوافل ما كان أحبّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكونه كان أحبّ إلى الله ، فيدأب عليه ويلازمه ؛ لحبّ الله فيه ورسوله ، ولأنّه أشدّ جلاء للقلب الذي عليه مدار كلّ ما ذكرنا. ومنتهى جميع ذلك ما أخبر الحقّ به على لسان رسوله بقوله : «ولا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه وبصره» الحديث. وهذا مقام الولاية ، وبعده خصوصيات الولاية التي لا نهاية لها ؛ إذ لا نهاية للأكمليّة ، بل بين مرتبة «كنت سمعه وبصره» (٤) ومرتبة الكمال المختصّ بصاحب أحديّة الجمع ـ المذكور غير مرّة والمنبّه عليه أيضا منذ قريب ـ مراتب ، فما ظنّك بدرجات الأكمليّة التي هي وراء الكمال ، فمن جملة ما بين مرتبة «كنت سمعه وبصره» وبين مرتبة الكمال. مرتبة النبوّة ، ثم مرتبة الرسالة ، ثم مرتبة الخلافة المقيّدة بالنسبة إلى أمّة خاصّة ، ثم الرسالة العامّة ، ثم الخلافة (٥) العامّة ، ثم الكمال في الجمع ، ثم الكمال المتضمّن للاستخلاف والتوكيل الأتمّ من الخليفة الكامل لربّه (٦) سبحانه في كلّ ما كان الحقّ سبحانه قد استخلفه فيه ، مع زيادة ما يختصّ بذات العبد وأحواله ؛ فكلّ نبيّ وليّ ولا ينعكس ، وكلّ رسول نبي ولا ينعكس ، وكلّ من قرن برسالته السيف فخليفة ، وليس كلّ من يرسل هذا شأنه ، وكلّ من عمّت رسالته ، عمّت خلافته [إذا منحها بعد الرسالة ، وكلّ من تحقّق بالكمال ، علا على جميع المقامات والأحوال والسلام] (٧) وما بعد استخلاف الحقّ والاستهلاك فيه عينا والبقاء حكما مع الجمع بين صفتي التمحّض والتشكيك مرمى لرام.

ومن أراد أن يتفهّم شيئا من أحوال الكامل وسيرته وعلاماته ، فليطالع كتاب مفاتح غيب الجمع وتفصيله الذي ضمّنته التنبيه على هذا وغيره ، وقد فرّقت في هذا الكتاب

__________________

(١) جامع المسانيد ، ج ٦ ، ص ٣٣.

(٢) ق : الإحسان الأوّل.

(٣) ق : الاختيار.

(٤) ق : وبين.

(٥) ق : ثم الخلافة العامة ، لا توجد.

(٦) ق : بربه.

(٧) ما بين المعقوفين غير موجود في ق.

٢٧١

جملا من هذه الأسرار ، فإن أردت الاطّلاع على مثل هذه الجواهر ، فأمعن التأمّل في هذا الكتاب ، وألحق آخر الكلام بأوّله ، واجمع النكت المبثوثة فيه وما قصد تفريقه من غامضات الأسرار ، تر العجب العجاب. وما يتوهّمه المتأمّل تكرارا فليس كذلك ، وإنّما كلّ ما لا يمكنني التصريح به دفعة واحدة قد أعيد ذكره بتعريف آخر ولقب غير اللقب الأوّل لأكشف بذلك قناعا من حجبه غير ما كشف من قبل ، اقتداء بربّي وسنن الكمّل من قبلي ، فاجمع وتذكّر واقنع واستبصر ، والله الهادي والمبصّر.

٢٧٢

فصل

في بيان سرّ النبوّة وصور إرشادها وغاية سبلها وثمراتها

اعلم ، أنّ للنبوّة صورة وروحا ، ولكلّ واحدة منهما حكم وثمرة ، فصورة النبوة التشريع وهو على ثلاثة أقسام : قسم لازم يختصّ بكلّ من تعبّده الله في نفسه بشريعة عيّنها له يسلك عليها ويعبد ربّه من حيثها. والشريعة : الطريقة ، فافهم ، وقسم يختصّ بكلّ مرسل للإرشاد إلى طائفة خاصّة ، فحكم نبوّته متعدّ ؛ لأنّه ومن أرسل إليه من الطوائف شركاء فيما عيّن له ، لكن أمر شريعته لا يعمّ.

والقسم الثالث رسالة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّها رسالة مشتملة على جميع ضروب الوحي وجميع صور الشرائع ، وأمرها محيط عام مستمرّ لم يعيّن لها انتهاء ، وإنّما ينقضي حكمها بانخرام نظم نشأتي صورة الكون والزمان الذي من جملته طلوع الشمس من مغربها ، وكفى بذلك عبرة وآية.

أحكام النبوّة

ثم نقول : وللنبوّة من حيث أصلها الظاهر الأثر تماما في شريعتنا حكم كلّي يظهر بتفاريعها الخمسة التي هي : الوجوب ، والندب ، والحظر ، والكراهة ، والإباحة باعتبار ترتّبها وانسحابها على سائر المكلّفين بحسب أحوالهم وأفعالهم وفهومهم. وأوقاتهم ونشآتهم ، وما تواطؤوا عليه وأنسته عقولهم وألفته طباعهم ألفة يتعذّر (١)

__________________

(١) ه : تتعذّر.

٢٧٣

عليهم الانفكاك عنها.

وحكم صورة النبوّة حفظ نظام العالم ، ورعاية مصالح الكون ؛ للسلوك والترقّي من حيث الصور إلى حيث سعادة السالك المرتقي ، كما مرّ بيانه ؛ ولإقامة العدل بين الأوصاف الطبيعيّة واستعمال القوى والآلات البدنيّة فيما يجب وينبغي استعماله ، مع اجتناب طرفي الإفراط والتفريط في الاستعمال والتصرّف بمراقبة الميزان الإلهي الاعتدالي في ذلك والعمل بمقتضاه والفوز أيضا بالنعيم المحسوس الطبيعي في الدار الآخرة أبد الآباد ، وتحصيل الاستعداد الجزئي الوجودي ، لإذعان البدن بجملة قواه للروح القدسي الإلهي والانصباغ بصفته وحكمه (١) وما يستلزمان من الأمور الإلهيّة والفوائد الروحانيّة.

وروح النبوّة : القربة ، وثمرتها : الصفاء والتخلية التامّة ، ثم صحّة المحاذاة ، المستلزمة لمعرفة الحقّ ، وشهوده ، والأخذ منه ، والإخبار عنه ، وإحياء المناسبة الغيبيّة الثابتة بين روح السالك المتشرّع وبين روح النبيّ أيضا ، والأرواح الآتية إليه ، والملقية الوحي الإلهيّ والتنزّلات العلويّة الظاهرة الحكم والأثر عليه عند تقوية الروح وطهارته ومشاركته ملائكة الوحي ، والإلقاء ، في الدخول تحت دائرة المقام الذي منه يتنزّل (٢) الوحي المطلق ، المنقسم على ملائكة الوحي والواصل (٣) إلى من وصل [إليه] بواسطة الملك ، والمشاركة أيضا في الدخول تحت حكم الاسم الإلهي الذي له السلطنة على الأمّة المرسل إليها الرسول ، وعلى الملك والرسول أيضا ، من حيث ما هو رسول تلك الأمّة.

فإن كان الرسول هو كامل عصره كنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فله شرط آخر وهو أن يصير مرآة لحضرة الوجوب ، والإمكان في مرتبة أحديّة الجمع ، وقد مرّ حديثها.

وإن كانت رسالة الرسول جزئية ، فإنّ رسالته ناتجة وظاهرة عن اسمين : أحدهما الاسم «الهادي» والاسم آخر يتعيّن بحاله وعلمه وشرعته ومنهاجه ، وليس في الرسل من صدرت رسالته عن الاسم «الله» الجامع لسائر مراتب الأسماء والصفات ، المستوعب لأحكامها إلّا رسالة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فهو عبد الله ورسوله ، كما أشار إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) ه : بصفة وحكمة.

(٢) ق : ينزل.

(٣) ق : الوصل.

٢٧٤

وحكم النبوّة من حيث روحها تنبيه للاستعدادات بالإخبار عن الله وعن أسمائه وصفاته ، والتشويق إليه وإلى ما عنده ، والتعريف بأحوال النفوس والسعادات الروحانيّة واللذّات المعنويّة ، وإمداد الهمم للترقّي إلى ما لم تستقلّ عقول الأمّة بإدراكه دون التعريف الإلهي من طريق الكشف المحقّق والوحي ، لتسمو همم النفوس إلى طلبه ، وتهتمّ في تحصيله من مظنّته ، وتحصيل معرفة كيفيّة التوجّه إلى الحقّ بالقلوب والقوالب أيضا من حيث تبعيّتها لأحكام القلوب حين انصباغها بوصفها ، ومعرفة عبادة الحقّ الذاتيّة والحكميّة الوقتيّة والموطنيّة الحالية (١) ، والتوجّه الجمعي بالسلوك نحوه على الصراط الأسدّ الأقوم الأقرب ، والوجه الأحسن وفهم ما أخبرت عنه سفراؤه والكمّل من صفوته من العلوم والحقائق والأسرار والحكم التي لا تستقلّ عقول الخلق بإدراكها ، والاستشراف عليها ، ومعرفة إرشاد الخلق ، للتوجّه إلى الحقّ التوجّه المستلزم لتحصيل الكمال على الوجه الأسدّ والطريق الأقصد الأصوب ، وهو الطريق الجامع بين معرفة القواطع المجهولة الخفيّة الضرر ، والأسباب المعيّنة الخفيّة المنفعة أيضا ، ليتأتّى طلب كلّ معيّن محمود يحتاج إليه ويستعان به على تحصيل السعادات ، والتحقق بالكمال على الوجه الأحسن الأيسر ، ويتمكّن من الأعراض عن العوائق ، وإزالة ضرر ما اتّصل من أحكامها بالإنسان ، ومعرفة النتائج ـ التابعة للمضارّ والمنافع ـ المنبّه عليها ، وما هو منها مؤجّل ومتناه ، وما لا يتقيّد بأجل ، ولا يحكم عليه بالتناهي ، وإصلاح الأخلاق بتحسين السيرة والزهد فيما سوى المطلوب الحقّ.

وغاية كلّ ذلك ، الفوز بكمال معرفة الحق ، وشهوده الذاتي ، والأخذ عنه ، والتهيّؤ على الدوام لقبول ما يلقيه ويأمر به ويريه ، دون اعتراض ، ولا تثبّط ، ولا إهمال ، ولا تفقّه ولا تأويل يقضي بالتقاعد.

وليراع الأولى فالأولى ، والأجدر فالأجدر من كلّ أمر ، بالقصد أوّلا ، و (٢) بأن تصفو مرآة قلبه وحقيقته ثانيا صفاء يستلزم ظهور هذه الأمور كلّها ـ بل ظهور كلّ شيء ـ فيها ، وبروزها به ـ أي بالإنسان ـ في الوجود على ما كانت عليه في علم الحقّ من الحسن التام

__________________

(١) ق : الحاكية.

(٢) في بعض النسخ : لم يرد.

٢٧٥

المطلق ، الذاتي الأزلي دون تعويق مناف للترتيب الذاتي الإلهي يوجبه صدى محلّ القابل ، أو خداج حاصل بسبب نقص الاستعداد ، واختلال في الهيئة المعنويّة التي لمرآته يقضي بسوء (١) القبول ، الذي هو عبارة عن تغيير صورة كلّ ما ينطبع فيها عمّا كان عليه في نفس الحقّ ، صفة كان من صفاته أو خلقا أو علما أو حالا أو اسما إلهيّا أو صفة من صفاته سبحانه أو فعلا أو كونا مّا من الأكوان.

ومنتهى كلّ ذلك بعد التحقّق بهذا الكمال التوغّل في درجات الأكمليّة توغّلا يستلزم الاستهلاك في الله استهلاكا يوجب غيبوبة العبد في غيب ذات ربّه ، وظهور الحقّ عنه في كلّ مرتبة من المراتب الإلهيّة والكونيّة ، بكلّ وصف وحال وأمر وفعل ، ممّا كان ينسب إلى هذا الإنسان من حيث إنسانيّته وكمال الإلهي ، وينسب إلى ربّه من حيث هذا العبد ، ظهورا وقياما يوهم عند أكثر أهل الاستبصار أنّه عنوان الخلافة وحكمها وحالها (٢) والأمر بعكس ذلك في نفس الأمر عند الله وعند أهل هذا الشهود العزيز المنال.

ومن (٣) حصلت له هذه الحالة ، وشاهد اللحمة النسبيّة التي بينه وبين كلّ شيء ، وانتهى إلى أن علم أنّ نسبة الكون كلّه إليه نسبة الأعضاء الآلية والقوى إلى صورته ، ونسبة القرائب الأدنين وتعدّى مقام السفر إلى الله ومنه إلى خلقه ، وبقي سفره في الله لا إلى غاية ولا أمد ، ثم اتّخذ الحقّ وكيلا مطلقا به عن أمره ، يقول حالتئذ : اللهمّ أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، وأنت حسبي في سفري فيك ، والعوض عنّي وعن كلّ شيء ، ونعم الوكيل أنت على ما خلّفت ممّا كان مضافا إليّ على سبيل الخصوص من ذات وصفة وفعل ولوازم ، كلّ ذلك ، وما أضفته إلىّ أيضا من حيث استخلافك لي على الكون إضافة شاملة عامّة محيطة ، فقم عنّا بما شئته منّا ، كيف ما شئت ، وفي كلّ ما شئت ، فكفانا أنت عوضا عنّا ، وعن سوانا ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) ق : لسوء.

(٢) ق : لا توجد.

(٣) ق : متى.

٢٧٦

خاتمة وهداية جامعة

اعلم ، أنّ الاستقامة والاعوجاج في الطرق هما بحسب الغايات المقصودة ، والغايات أعلام المبالغ والكمالات النسبيّة المسمّاة مقامات أو منازل ودرجات. وهي ـ أعني الغايات ـ تتعيّن بالبدايات ، وبين البدايات والغايات تتعيّن الطرق التي هي في التحقيق أحكام مرتبة البداية التي منها يقع الشروع في السير الذي هو عبارة عن تلبّس السائر بتلك الأحكام والأحوال المختصّة بالبداية والغاية ، جذبا ودفعا ، وأخذا وتركا ، فانصباغه بحكم بعد حكم ، وانتقاله من حالة إلى حالة ـ مع توحّد عزيمته وجمع همّه على مطلوبه الذي هو قبلة توجّهه وغاية مبتغاه ، واتّصال حكم قصده وطلبه بوجهته دون فترة ولا انقطاع ـ هو سلوكه ومشيّة هكذا ، حتى يتلبس بكلّ ما يناسبه من الأحوال والأحكام ، ويستوفيها ، فإذا انتهى إلى الغاية هي وجهة مقصده ، فقد استوفى تلك الأحوال والأحكام من حيث تلبّسه بها وتكيّفه بحسبها ، ثم يستأنف أمرا آخر هكذا ، حتى ينتهي إلى الكمال الحقيقي الذي أهلّ له ذلك السائر كائنا من كان.

ثم نقول : البدايات (١) تتعيّن بأوّليّات التوجّهات ، والتوجّهات تعيّنها البواعث المحرّكة للطلب والسلوك في الطرق ، والطرق إلى معرفة كلّ شيء بحسب وجوه التعرّف المثيرة للبواعث ، والبواعث تتعيّن بحسب حكم إرادة المنبعث ؛ فإنّ بواعث كلّ أحد أحكام إرادته ، وشأن الإرادة إظهار التخصيص السابق تعيّن صورته ومرتبته في العلم ، والعلم في نفس الأمر هو نور الحقّ الذاتي. وعلم الكمّل بالنسبة إلى الكمّل ومن شاء الله من الأفراد حصّة

__________________

(١) ه : والبدايات.

٢٧٧

من علمه سبحانه ؛ فإنّ من عرف الأشياء بالله وحده ، فله نصيب من علم الله ؛ لأنّه علم الأشياء ـ التي شاء الحقّ أن يعلمها ـ بما علمها به الله. والتنبيه على ذلك في الكتاب العزيز قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) (١) وفي الحديث «فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يعقل» فافهم واستحضر ما نبّهنا عليه منذ قريب في سرّ الاهتداء ، وتذكّره كلّيّا أوّليّا إليّا أزليّا ، والحظ (٢) مبدئيّة (٣) الأشياء من الحقّ باعتبار تعيّنها في علمه ، ثم بروزها بالإرادة ، وقوله آخرا : (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) ، (٤) وارق وانظر وتنزّه ولا تنطق ، وأمعن التأمّل في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٥) تعلم ما نريد ـ إن شاء الله تعالى ـ

ثم نرجع إلى (٦) إتمام هذه القاعدة الكلّيّة الدوريّة. فنقول :

والبواعث وإن كانت تتعيّن بالعلم إلى منتهى الدائرة كما بيّنّا فقد تتعيّن أيضا بالنسبة إلى البعض بحسب فهمه أو شعوره أو تذكّره أو حضوره عن استحضار أو دون استحضار.

والحضور كيفما كان عبارة عن استجلاء المعلوم الذي هو عبارة عن صور تعقّلات العالم نفسه في علمه ، بحسب كلّ حالة من أحواله الذاتيّة ، واستجلائه ذاته من حيث هي ، أعني من حيث أحواله.

والتذكّر والشعور والحضور والفهم سبب للانجذاب إلى ما دعت إليه ألسن الدعاة ، ومحدث صفة الإجابة ، وقوّة الجذب ، وأثر الدعاء بحسب ما من الداعي في المدعوّ والجاذب من المجذوب ، وبالعكس أيضا.

والإجابة والانجذاب ممّن هما صفتاه بحسب قوّة المناسبة والشعور ، وغلبة حكم ما به الاتّحاد والاشتراك على ما به الامتياز.

وحاصل جميع ذلك تكميل كلّ بجزء ، وإلحاق فرع بأصل ، ليظهر ويتحقّق كلّ فرد من أفراد مجموع الأمر كلّه بصورة الجمع وحكمه ووصفه ، والمنتهى ـ بعد صيرورة الفروع

__________________

(١) البقرة (٢) الآية ٢٥٥.

(٢) ه : والخط.

(٣) مبدئية أي مخلوقية.

(٤) لقمان (٣١) الآية ٢٢.

(٥) الحديد (٥٧) الآية ٣.

(٦) ه : على.

٢٧٨

أصولا بالتفسير المذكور ، وظهور الواحد في تنوّعات أحوال ذاته أشخاصا وأنواعا وأجناسا وفصولا ـ زوال عين الأغيار ، مع بقاء التمييز والاختلاف على الدوام والاستمرار ، وهذا سرّ لا إله إلّا الله المشروع ، فافهم وأظنّ (١) أنّك لا تكاد تفهم.

ثم أقول : والحضور المذكور المعرّف المعيّن بالعلم صور البواعث ، وحكمه استجلاء المعلوم لا يتأخّر عنه الاستجلاء ، سواء تعلّق العلم بالمعلوم حال الاستحضار أو كان معلوما من قبل ، لكن منع من دوام ملاحظته غفلة أو ذهول عنه بغيره ؛ لإنّ حكم كلّ واحد من الحضور والغيبة لا يعمّ ، بل لا بدّ للإنسان في كلّ حال من حضور مع كذا ، أو (٢) غفلة عن كذا ، ولا يظهر حكمهما إلّا بالنسبة والإضافة وهكذا الأمر في المبادئ والغايات إنّما تتعيّنان ـ كما قلنا ـ بحسب قصد القاصدين ، وأوّليّات بواعث السائرين ، وإلّا فكلّ غاية بداية لغاية أخرى هذه بدايتها ، فأقوم الصراطات بالنسبة إلى كلّ قاصد غاية مّا يتوخّاها ويقصد التوجه إليها هو الصراط الأسدّ ، الأسلم من الشواغب والآفات ، الأقرب إلى تلك الغاية المقصودة له ، أيّة غاية كانت ، وكلّ صراط لا يكون كذلك ، فهو عنده بالإضافة إلى الصراط المذكور معوّج غير مستقيم.

فظهر أنّ الاستقامة والاعوجاج أيضا ، يتعيّنان بالمقاصد ، فالأمر فيهما ـ كما في سواهما ـ راجع إلى النسب والإضافات فافهم ، فقد أبنت (٣) لك الحقائق الأصليّة ، والأسرار العليّة الإلهيّة (٤) منتظمة محصورة في أوجز عبارة ، وألطف إيماء وإشارة ، والله المرشد.

__________________

(١) ق : ظني ، ه : ظن.

(٢) ق ، ه : و.

(٣) ق : أنبئت ، ه : أنبت.

(٤) في بعض النسخ : الآلية.

٢٧٩

فصل في الهداية الموعودة

ومضمونها التنبيه على سرّ الدعاء المدرج في قوله تعالى : (اهْدِنَا) وعلى أشرف الأحوال التي ينبغي أن يكون الإنسان عليها سلوكا ووقوفا وسكونا وظهورا وبطونا ، ما عدا الكمّل.

سرّ الدعاء والإجابة

فلنبدأ بسرّ الدعاء فنقول : «اهدنا» سؤال من العبد ودعاء ، والسؤال والدعاء قد يكون بلسان الظاهر ـ أعني الصورة ـ وقد يكون بلسان الروح وبلسان الحال وبلسان المقام ولسان الاستعداد الكلّي الذاتي الغيبي العيني الساري الحكم من حيث الاستعدادات الجزئيّة الوجوديّة التي هي تفاصيله.

والإجابة أيضا على ضروب : إجابة في عين المسؤول ، وبذله على التعيين دون تأخير ، أو (١) بعد مدّة ، وإجابة بمعاوضة في الوقت أيضا. أو بعد مدّة ، وإجابة ثمرتها التكفير ، وقد نبّهت الشريعة على ذلك ، وإجابة بلبّيك أو ما يقوم مقامه.

وكلّ دعاء وسؤال يصدر من الداعي بلسان من الألسنة المذكورة في مقابلته من أصل المرتبة التي يستند إليها ذلك اللسان حسب علم الداعي به ، أو اعتقاده فيه إجابة يستدعيها الداعي من حيث ذلك اللسان ، ويتعيّن بالوصف والحال الغالبين عليه وقت الدعاء.

ولصحّة التصوّر وجودة الاستحضار في ذلك أثر عظيم (٢) اعتبره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحرّض عليه

__________________

(١) ه : و.

(٢) ه : عظيم.

٢٨٠