إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

وصل

من لسان الجمع والمطلع وبه نختم الكلام

على هذا القسم الثاني بعون الله ومشيئته

اعلم ، أنّ الله لمّا خلق الخلق لعبادته ـ كما أخبر ـ وهبهم من وجوده وصفاته ما قدّر لهم قبوله ، فعبدوه به ؛ إذ لا يصحّ أن يعبدوه بهم على جهة الاستقلال ، لأنّهم من حيث هم لا وجود لهم ، ولا يتأتّى منهم عبادة ، ولهذا شرع لهم أن يقولوا بعد قولهم : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) قولهم : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لعدم الاستقلال. فانبعثوا عند هذا التنبيه طالبين منه المعونة على عبادته ، كما كان القبول منهم لوجوده حالة الإيجاد معونة لاقتداره سبحانه وتعالى. فإنّه لو لا مناسبة ذاتيّة غيبيّة أزليّة يشهدها الكمّل المقرّبون ، ما صحّ ارتباط بين الربّ والمربوب ، ولا أمكن إيجاد ؛

فالإيجاد خدمة وعبادة بصورة إحسان ، والعبادة إيجاد لصور أعيان أعمال ، وتسوية إنشاء ، وإحياء لنشآت العبادة ، ليرجع إلى المنشئ ممّا ظهر وانتشأ به كمال لم يكن ظاهرا من قبل ، كظهوره بعد الإنشاء ، فكذلك الأمر في الطرف الآخر ؛ فإنّه لو لا ظهور آثار الأسماء ، ما عرف كمالها ، ولو لا المرائي المتعيّنة في المرآة الجامعة ـ التي هي مجلى (١) ـ ما امتاز من غيب الذات ، و [لو لا] التي ظهر فيها كوامن التعدّدات (٢) الحالية ، المستجنّة في غيب الذات

__________________

(١) ق : محلّ.

(٢) ق : المتعدّدات.

٢٤١

ما ظهرت أعيان الأسماء.

فنحن العابدون وهو المعبود ، وهو الموجد ونحن الموجودون ، فلام العلّة المنبّه على أحد حكميها بقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) ذاتيّة في الجانبين ، فأظهر أحد حكمي هذا السرّ بهذه (٢) اللام المذكورة في «ليعبدون» حكمة ظاهرة ، وأخفى حكمها الآخر في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) حكمة باطنة ؛ لأنّ له سبحانه في كلّ شيء ـ ولا سيّما في شرائعه وأوامره وإخباراته ـ حكما ظاهرة وباطنة يشهدها ويتحقّق بمعرفتها الكمّل والمتمكّنون من أهل الكشف والوجود ، ويشعر أهل العلوم الرسميّة من ظاهر تلك الحكم بالأقلّ من القليل منها في بعض الصور التكليفيّة بطريق التعليل.

وأمّا سرّ قوله : (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ) بضمير الجمع ، فلسرّين كلّيّين كبيرين :

أحدهما : ما سبقت الإشارة إليه من أنّ ظهور عين العبادة والأعمال مطلقا لا يحصل في الوجود العيني إلّا بين الرتبة المشتملة على أحكام الربوبيّة وبين المجلى المذكور المشتمل على أحكام المربوبيّة ، فمتعلّق ضمير الجمع بلسان الحقّ والكون حيث ورد ، مثل «نحن» و «إنّا» و «نعبد» و «نستعين» وغير ذلك هو لسان جملة ما يشتمل عليه كلّ واحدة من الرتبتين المذكورتين ، فافهم.

وأمّا السرّ الآخر المتضمّن تحقيق ما أجمل ، وبيانه ، فهو أنّ لكلّ من هاتين المرتبتين : الربانيّة والكونيّة المشار إليهما نشأة معنويّة غيبيّة ، ذات أحوال وحقائق متناسبة متباينة ، ولأحكامها فيما بينهما امتزاج وتداخل بائتلاف واختلاف وهي من جانب الحقّ عبارة عن الصورة التي حذيت عليها الصورة الآدميّة ، وتعيّنها من غيب الحقّ الذاتي هو من حيث المرتبة الإنسانيّة الكماليّة ، المسمّاة هنا بحضرة أحديّة الجمع ، المظهرة أعيان الأشياء وأحكام الأسماء والصفات والشؤون الإلهيّة المتقابلة من جهة الأثر ، والمتفاوتة في الحيطة والحكم ، ك «القابض» و «الباسط» و «المانع» و «المعطي» و «المميت» و «المحيي» و «العليم» و «القدير» و «المريد» وك «السخط» و «الرضا» و «الفرح» و «الحياء» ، و «الغضب» و «الرأفة» و «الرحمة» و «القهر» و «اللطف» ، ونحو ذلك ممّا ورد ؛ فإنّ لهذا كلّها

__________________

(١) الذاريات (٥١) الآية ٥٦.

(٢) بهذا.

٢٤٢

في حضرة أحديّة الجمع ـ التي هي البرزخ بين مطلق الغيب الذاتي وبين الحضرة التي امتازت عن الغيب من وجه ، (١) وكانت محلّ نفوذ الاقتدار ، وهدف أسهم التوجّهات الغيبيّة والآثار ـ تعيّنا وانتظاما بهيئة غيبيّة علميّة ، يضاهيها نظم النشأة الإنسانيّة بقواها الطبيعيّة وأخلاقها الروحانيّة وخصائصها المعنويّة الغيبيّة ، والحقيقة الإلهيّة التي تنضاف إليها الصورة المذكورة في مقابلتها العين الثابتة التي للإنسان ، وأنّها عبارة عن صورة علم ربّه به أزلا وأبدا في نفسه سبحانه ، كما أنّ صورة ربّه عبارة عن صورة علمه سبحانه بذاته وشؤونها وصور عبارة عن صور نسب علمه ؛ ونسب علمه في ذوق المقام المتكلّم فيه (٢) عبارة عن تعيّنات وجوده التي قلنا : إنّها من حيث تعدّدها أحواله ومن حيث توحّدها عينه ، وأحواله تتعيّن في هذا البرزخ المسمّى بحضرة أحديّة الجمع وتظهر متعدّدة في الحضرة (٣) الكونيّة التي هي عبارة عن أحد وجهي حضرة أحديّة الجمع المشتمل على صورة الكثرة (٤) ؛ فإنّ هذه الحضرة هي مقام الكمال الظاهر الحكم بالإنسان الكامل المرآة (٥) لغيب الذات ولما تعيّن منه ـ أي من الغيب المذكور ـ فيه (٦) وبها أيضا.

وهذا البرزخ أيضا عبارة عن مبدأ تعيّنه سبحانه بنفسه لنفسه بصفة (٧) ظاهريّته ومظهريّته ، وجمعه ببرزخيّته المذكورة بين الطرفين من حيث الإنسان الكامل ، وهذا التعيّن البرزخي الوسطي أيضا هو أصل كلّ تعيّن ، والمنبع لكلّ ما يسمّى شيئا سواء (٨) نسب ذلك التعيّن ـ أيّ تعيّن كان ـ إلى الحقّ ، بمعنى أنّه اسم له أو صفة أو مرتبة ، أو نسب إلى الكون أيضا بهذا الاعتبار الاسمي أو الصفاتي أو المرتبي ، أو اعتبر أمرا ثالثا (٩) وهو ظهور الحقّ من حيث عينه ثانيا بالنسبة إلى ما قام منه مجلى لسائر تعيّناته أولا كما مرّ ، وثالثا ورابعا ، وهلمّ جرّا إلى ما لا نهاية له ، فيما تعيّن لنفسه منه من كونه غير متعيّن ، ثم فيما تعيّن ممّا تعيّن منه وبه ، غيبا وشهادة ، ممّا يسمّى عينا أو غيرا بالنسبة ، فاعلم ذلك.

__________________

(١) ق : من وجه عن الغيب.

(٢) ق ، ه : منه.

(٣) ق : حضرة.

(٤) ه : الكثيرة.

(٥) ق : والمرآة.

(٦) ه : فيها.

(٧) ق : بصفتي.

(٨) في الأصل : وسواء.

(٩) ق ، ه : أمر ثالث.

٢٤٣

وإذا تقرّر هذا ، فاعلم ، أنّ العبارات اختلفت في تعريف حضرة أحديّة الجمع ، وكلّها صحيحة.

فإن قلت : إنّها الحقيقة الإنسانيّة الإلهيّة الكماليّة ، التي (١) كان كلّ إنسان كامل من حيث صورته الظاهرة مظهرا لتلك الحقيقة ولوازمها ، صدقت ، وإن سمّيتها برزخ الحضرتين : الإلهيّة والكونيّة ؛ لكونها مشتملة على جميع الأحكام الإلهيّة والإمكانيّة ، مع أنّها ليست بشيء زائد على معقوليّة أحديّة جمعها كسائر البرازخ ، صدقت أيضا.

وإن سمّيتها مرآة الحضرتين ، أو أنّها مرتبة صورة الحقّ والإنسان الكامل من غير تعديد ، والحدّ الفاصل بين ما تعيّن من الحقّ ، وكان مجلى لما لم يتعيّن منه ولم يتعدّد ، صدقت ، فكلّ ذلك ذاتي لها دائما أزلا وأبدا. وتقيّد الكمّل الذين هم أصحاب هذه المرتبة ، من حيث بعض النشآت التي يظهرون بها بالزمان ، لا يقدح فيما أصّلنا ، ولا ينافي ما ذكرنا وقرّرنا.

ثم نقول : الإنسان الكامل في كلّ عصر من حيث أحد وجهي هذه المرتبة ـ أعني الوجه الذي يلي غيب ذات الحقّ ولا يغايره ولا يمتاز عنه ـ يترجم ، عن غيب الذات وشؤونها التي هي حقائق الأسماء ب «نحن» و «إنّا» و «لدينا» ونحو ذلك ، ومن حيث الوجه الآخر الذي ينطبع فيه الأعيان وأحوالها يترجم عنها وعنه من حيث هي وبلسانها ، ومن حيث هو أيضا بلسان جمعيّة خصوصيّته وما حوته ذاته من الأجزاء والخصائص والصفات والقوى الروحانيّة والجسمانيّة الطبيعيّة ب «نعبد» و «نستعين» و «اهدنا» ونحو ذلك ، لإحاطة مرتبته (٢) الكماليّة هذه ، الطرفين وما اشتملا عليه غيبا وشهادة ، روحا وجسما ، عموما وخصوصا ، قوّة وفعلا ، إجمالا وتفصيلا ، فافهم ، وأمعن التأمّل ، وراجع ربّك بالتضرّع والافتقار ؛ فإنّه إن فكّ لك ختم هذا الكلام ، عرفت سرّ الربوبيّة والعبوديّة في كلّ شيء ، وسرّ العبادة والتوجّه والطلب والفوز والحرمان ، وتحقّقت أنّ كلّ عابد متوجّه من حيث فرعيّته وخلقيّته ، إلى أصله الإلهي المتعيّن به من مطلق غيب الذات في المرآة المذكورة الكماليّة الإنسانيّة الإلهيّة ، بانعكاس حكميّ راجع من عرصة الإمكان ، إلى المرآة المذكورة ، فإيّاه يعبد ، وإليه يتوجّه ، ومنه بدأ ، وإليه يعود.

__________________

(١) ق ، ه : الذي.

(٢) ه : مرتبة.

٢٤٤

هذا ، مع أنّه ما عبد أحد إلّا الله ، ولا توجّه إلّا إليه ، من حيث إنّ تلك المرآة الكماليّة الإلهيّة قبلة كلّ موجود كان ويكون ، ومن حيث مواجهة كلّ شيء من هذه المرآة وفيها أصله المحاذي والمتعيّن له به من غيب الذات ، فكلّ أحد له قسط من الحقّ أخذه من مشكاة هذه المرتبة الكماليّة المسمّاة هنا بالمرآة ، وذلك القسط عبارة عن تعيّن الحقّ من حيث شأن من شؤونه ، وذو القسط صورة ذلك الشأن ، فافهم.

فو الله ما أظنّك تعرف مقصودي إلّا أن أمدّك الله بأيده ونوره ، وما فاز بالحقّ إلّا الكامل ، فإنّه يواجه غيب الذات بأحد وجهيه المنبّه عليه مواجهة ذاتيّة ، لا يمتاز المتوجّه فيها عن المتوجّه إليه إلّا بالجمع بين الوجهين المشتملين على أحكام الحضرتين : فهو المطلق المقيّد ، والبسيط المركّب ، والواحد الكثير ، والحادث الأزلي ، له وجد الكون ، وبه ظهر كلّ وصل وبين ، فتنبّه وانظر بما بيّنّا صحّة حكم قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (١) وقوله الآخر : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٢) وقضاؤه حكمه بلا شكّ ، وأمره الحقيقي نافذ دون ريب ، كما قال سبحانه : (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) و (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (٣).

فلو لم يكن سرّ العبادة كما ذكر ، لزم أن تصحّ (٤) عبادة غير الله والتوجّه إليه ، ولزم تعقيب حكمه وردّ أمره ، ويتعالى الله عن ذلك وعن كلّ ما لا يليق بجلاله علوّا كبيرا.

فالتخطئة والمؤاخذه وقعتا من أجل الحصر والتعيين (٥) والإضافة ؛ لأنّ إضافة استحقاق العبادة لشيء واعتقاد أنّه الربّ المطلق التصرّف (٦) ، ذو الألوهيّة الشاملة الحكم على سبيل حصر هذه الأمور فيه والتعيّن (٧) جهل وخلاف الواقع ، فصحّت المؤاخذة مع نفاذ الحكم الأوّل والأمر المؤصّل.

__________________

(١) الإسراء (١٧) الآية ٢٣.

(٢) يوسف (١٢) الآية ٤٠.

(٣) الرعد (١٣) الآية ٤١.

(٤) ه : يصحّ.

(٥) ق : التعيّن.

(٦) ق : الصرف.

(٧) ق ، ه : التعيين.

٢٤٥

وصل من هذا الأصل

ولمّا كان كلّ واحدة (١) من المرتبتين المذكورتين ـ اللتين كانت حضرة أحديّة الجمع مرآة لهما وجامعة بالذات بينهما ـ أصلا من وجه ، فرعا من آخر كما سبق التنبيه عليه في غير موضع (٢) من هذا الكتاب ، من جملة ذلك قولنا : إنّ الحقّ من حيث باطنه (٣) مظهر لأحوال العالمين ومرآة من حيث حضرة أحديّة الجمع لأعيانها ، فيه يرى البعض منها البعض ، ويتّصل حكم البعض بالبعض ، ويظهر أثر المتبوع المتقدّم بالشرف المرتبي (٤) والوجود والزمان على المتأخّر التابع ، وبالعكس أيضا من حيث إنّ التابع المتأخّر (٥) من وجه آخر متقدّم متبوع وشرط كما بيّن من قبل في أوّليّة الحقّ من حيث الوجود ، وآخريّته من حيث الصفات ، كما أخبر سبحانه وأبان بقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وبقوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) وفي (٦) بيان مرتبة آخريّته من حيث الصفات بقوله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) وبقوله عليه‌السلام : «من عرف نفسه عرف ربّه» وبقوله : «إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا» وبقوله : «كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف» (٧) الحديث ، فافهم ، واذكر ، ومن حيث إنّ الحقّ مسمّى بالظاهر ، كان العالم من حيث حقائقه مظاهر لوجوده ومجالي تعيّنات شؤونه ، وكلّ مظهر فغير مرئيّ وإن كان الأثر له ، وكلّ منطبع فظاهر ولا ينسب إليه أثر من حيث هو

__________________

(١) ق : واحد.

(٢) في الأصل : غير ما موضع.

(٣) ه : باطنة.

(٤) ق : المرتبتي.

(٥) ق : المؤخر.

(٦) ق : لا توجد.

(٧) أحاديث مثنوي ، ص ٢٩.

٢٤٦

كذلك ، فلهذا (١) وغيره قلنا : إنّ كلّ فرع متوجّه إلى أصله وعابد (٢) له ، ولهذا الموجب وسواه سرت أحكام العبوديّة والربوبيّة في كلّ شيء بحسب ما يليق به ، فظهر سرّ المعيّة الإلهيّة الذاتيّة في كلّ شيء بالإحاطة الوجوديّة والعلميّة والحكميّة ، فكلّ حاكم فبصفة الربوبيّة ، وكلّ مجيب وتابع فبالصفة الأخرى ، وقد عرّفتك مراتب ظهور هذه الأمور في الأشياء كيف تكون (٣) ، ومتى تصحّ ، ومتى تمتنع ، وفي الشيء الواحد أيضا بحسب شؤونه المختلفة والمحالّ والمراتب والمحالي المتباينة والمؤتلفة ، فتذكّر واكتف ، والله الهادي.

فاتحة القسم الثالث من أقسام أمّ الكتاب

بموجب التقسيم الإلهي ، والتصرف النبوي ، وهو آخر أقسامها والخصيص بالعبد ، كما كان الأوّل خصيصا بالحقّ ، والمتوسّط مشتركا بين الطرفين.

قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) :

اعلم ، أنّ هذه الآية تشتمل على أمور تتعلّق بظاهرها ، وأمور تختصّ بما بعد الظاهر وفوقه ، ونحن نبدأ بالظاهر ، ثم نشرع فيما بعد. فنقول :

هذه الآية منتظمة من ثلاث كلمات : لفظة «اهدنا» ولفظة «الصراط» و [لفظة] «المستقيم» ، ولكلّ واحدة من هذه الثلاث ثلاث مراتب ظاهرة ، وثلاث مراتب باطنة ، سننبّه عليها كلّها ـ إن شاء الله تعالى ـ فتذكّر تثليث الفاتحة ، وافحص عن سرّه ، فإن أشهدته شاهدت العجب :

و «اهدنا» ، أمر في صورة دعاء وسؤال ، وهو مأخوذ من الهداية وهي : البيان ، وأصل هذه اللفظة بالياء (٤) وانحذفت للأمر. وورودها بصيغة الجمع هو إرداف لما سلف في قوله : (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ) فكان (٥) كلّ من العباد يترجم عن الجميع بلسان النسب الجامع

__________________

(١) هذا جواب «لمّا» في أوّل البحث. ق : لهذا.

(٢) ق : عائد.

(٣) ه : يكون.

(٤) أي : اهدي.

(٥) ق : وكأنّ.

٢٤٧

والحكم المشترك بين الكلّ.

والحكمة الأولى في ذلك أنّ الخلق لا يخلو فيهم من عبد يستجاب له في عين ما سأل ، فيسري حكم دعائه وبركة عبادته تلك في الجميع ، ولهذا ورد : «الجماعة رحمة» وحرّضنا على الصلاة والذكر في الجماعة بأنواع من التحريض رجاء البركتين : الواحدة ما ذكرنا من سراية بركة من أجيب دعاؤه وقبلت صلاته كلّها فيمن لم تقبل صلاته ولم يستجب له في عين ما سأل وبحسب ما أراد.

والبركة الأخرى هي أنّه لو قدّر أن لا يكون في الجمع من أتمّ نشأة تلاوته أو صلاته على نحو ما ينبغي ، فإنّه قد يتحصّل من بين الجمع ـ باعتبار قبول المعبود من كلّ واحد من التالين أو المصلّين بعض ما أتى به ـ صورة تامّة عمليّة ، منتشية من أجزاء صالحة مقبولة ، كلّ جزء وقسط يختصّ بواحد من تلك الجماعة ، فتعود تلك الصورة التامّة ـ بحكم كمالها ـ تشفع فيما بقي من الأجزاء والحصص التي لم تستحقّ القبول ، وتسري بركة المقبولة في غير المقبولة سراية الإكسير بقوّته في الرصاص والقزدير ، فيقلب عينه ، ويوصل بينه ، ويرقّيه إلى درجة الكمال الذي أهّل له ، فافهم.

لفظة (الصِّراطَ) : الصراط هو ما يمشى عليه ، ولا يتعيّن إلّا بين بداية وغاية ، وفي هذه اللفظة ثلاث لغات : الصاد ، والسين ، والزاي. واختصاصها بالألف واللام هو للعهد والتعريف ، وهو أحد أقسام التعريف ؛ لأنّ التعريف بالألف واللام على ثلاث أقسام :

أحدها : تعريف الجنس نفسه لا باعتبار ثبوته لما تحته من الأفراد ، بل باعتبار ذاته فقط.

والثاني : التعريف باعتبار ثبوت الحقيقة لأحد الأفراد التي تحتها.

والثالث : تعريف الحقيقة من حيث استغراقها وهو اعتبار ثبوتها لما تحتها من الأفراد. ويسمّى الأوّل تعريف الذات ، والثاني تعريف العهد ، والثالث استغراق الجنس.

وفي التحقيق القسم الثاني من هذه الثلاثة الذي هو تعريف العهد هو أتمّ الأقسام ؛ فإنّ له وجها إلى التعريف الذاتي ، وكأنّه لا يغايره من ذلك الوجه ، وهكذا حكمه أيضا مع القسم الثالث ؛ فإنّه ما لم تسبق للمخاطب معرفة مقصود المخاطب من الأدوات التي يعرّف (١) بها

__________________

(١) ه : تعرف.

٢٤٨

لم يعلم مراده ، فكلّ تعريف إذا لا يخلو عن حكم العهد بالاعتبار المذكور.

ولا شكّ أنّ الألف واللام ها هنا لتعريف العهد ، فإنّه قد تكرّر التنبيه على ذلك عند ذكر الكمّل من الأنبياء ، حيث قال سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (١) وذكر التأسّي (٢) أيضا بالجمع والإفراد في غير موضع وهو الاقتداء ، وبعد تعريفه سبحانه عباده أنّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يهدي إلى صراط مستقيم ، نبّههم وأخبرهم أنّهم إن كانوا صادقين في دعواهم محبّة ربّهم ، فليتّبعوه يحبّهم الله ، وهذا من الاقتداء أيضا الذي هو المشي على الصراط.

قوله : (الْمُسْتَقِيمَ) نعت للصراط ، والمراد بالمستقيم هنا استقامة خاصّة نذكر سرّها وسرّ أربابها ، وأقسامهم فيما بعد ، وإلّا فما ثمّة صراط إلّا والحقّ غايته ، كما ستعرفه ـ إن شاء الله ـ

ولنشرع بعد في الكلام على أسرار هذه الآية على جاري السنّة الملتزمة ، فنقول أوّلا :

اعلم ، أنّ للهداية والإيمان والتّقى وأمثالها من الصفات ثلاث مراتب : أولى ، ووسطى ، ونهاية ، قد نبّه عليها سبحانه في مواضع من كتابه العزيز ، وعاينها (٣) ، وتحقّق بها أهل الكشف والوجود ، فمن ذلك قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، (٤) وقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ، (٥) فنبّه بذلك كلّه الألبّاء ليتفطّنوا أنّ بعد الإيمان بالله والإقرار بوحدانيّته درجات في نفس الإيمان والهداية والتقى ونحو ذلك ، وإلى تلك الدرجات الإشارة بالزيادة ، كقوله : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (٦) وكقوله (٧) في أهل الكهف : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (٨).

ولمّا لم يعلم أهل الظاهر من العلم هذه الدرجات ولم يعاينوها ولم يتحقّقوا بها ، اختبطوا في هذه الأمور ، وقالوا : الصفات معان مجرّدة لا تقبل النقص والزيادة ، فشرعوا في التأويل ، وهاموا في كلّ واد من أوديته.

__________________

(١) الأنعام (٦) الآية ٩٠.

(٢) ق : الناس.

(٣) غايتها.

(٤) المائدة (٥) الآية ٩٣.

(٥) طه (٢٠) الآية ٨٢.

(٦) الفتح (٤٨) الآية ٤.

(٧) فكقوله.

(٨) الكهف (١٨) الآية ١٣.

٢٤٩

والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا (١) وما يذّكّر بعد هذا الإيمان بجليّة الأمر ويستشرف (٢) على كنه السرّ إلّا أولو الألباب الذين لم تحجبهم القشور وتعدّوها ، فعرفوا كنه حقائق الأمور.

ومن غرائب ما في هذه التنبيهات الربانيّة ذكر «ثمّ» المفيدة (٣) للتراخي والمؤذنة بامتياز ما بعدها عمّا تقدّمها ، لئلّا يريبك (٤) المحجوب ؛ فأين الاهتداء المشار إليه بعد التوبة الإيمانيّة ، ثم الإيمان اللازم لتلك التوبة والأعمال الصالحة بتعريف الله من الاهتداء إلى أنّ دين الإسلام هو الدين الحقّ بعد بعثة محمّد ، وأنّ ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله حقّ ، وما سواه منسوخ أو باطل؟ وأين الإيمان والتقى المذكوران في أوّل الآية ـ التي أوردناها تأنيسا للمحجوب الضعيف ـ من الايمان والتقى المذكورين في وسطها ، والمذكورين في آخرها ، فتذكّر.

وللهداية (٥) ثلاث مراتب يقابلها ثلاث درجات من الحيرة التي هي الضلالة مقابلة الدركات النارية الدرجات الجنانيّة ستعيّن لك فيما بعد عند الكلام بلسان الجمع والمطلع ـ إن شاء الله ـ

__________________

(١) إشارة إلى الآية ٧ من آل عمران (٣).

(٢) عطف على «يذّكّر».

(٣) ه : المفيد ، ق : لا توجد.

(٤) ق : يربيك.

(٥) ق : والهداية.

٢٥٠

وصل من هذا الأصل

لا شرف في التجلّي المطلق

اعلم ، أنّ في التخصيص المتعلّق بالصراط المستقيم أسرارا منها : أنّ الحقّ لمّا كان محيطا بكلّ شيء وجودا وعلما ، ومصاحبا كلّ شيء بمعيّة ذاتيّة مقدّسة عن المزج والحلول والانقسام وكلّ ما لا يليق بجلاله ، كان سبحانه منتهى كلّ صراط ، وغاية كلّ سالك ، كما أخبر سبحانه بقوله ـ بعد قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ـ : (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، (١) فنبّه أنّ مصير كلّ شيء إليه : وكلّ من الأشياء يمشي على صراط ، إمّا معنويّ أو محسوس بحسب سالكه ، والحقّ غايته كما قال : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢) فعرّف سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعرّفنا ، فقال له : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣) منها بالنسبة إلى غيرها ، فهو تعالى غاية السائرين ، كما أنّه دلالة الحائرين ، لكن لا شرف في مطلقاته التي يرتفع فيها التفاوت ، كمطلق خطابه ومطلق معيّته ومصاحبته ، ومطلق الانتهاء إليه من حيث إحاطته ، ومطلق توجّهه الذاتي والصفاتي معا للإيجاد ؛ فإنّه لا فرق بين توجّهه إلى إيجاد العرش والقلم الأعلى وبين توجّهه إلى إيجاد النملة من حيث أحديّة ذاته ومن حيث التوجّه.

ومن صار حديد البصر ؛ لاتّحاد بصره ببصيرته وانصباغهما بالنور الذاتي الإلهي (٤) (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ، (٥) وهكذا الأمر في معيّته الذاتيّة وصحبته ؛ فإنّه مع

__________________

(١) الشورى (٤٢) الآية ٥٢ و ٥٣.

(٢) آل عمران (٣) الآية ٢٨.

(٣) الشورى (٤٢) الآية ٥٢.

(٤) في بعض النسخ : الذاتي بدون «الإلهي».

(٥) الملك (٦٧) الآية ٣.

٢٥١

أدنى مكوّناته كهو مع أشرفها وأعلاها بمعيّة ذاتيّة قدسيّة لائقة. وحكم مطلق خطابه أيضا كذلك ، هو المخاطب موسى ومن شاء ، وشرّفهم بخطابه وبما شاء ، والمخاطب أهل النار ب (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١) وباقي الآيات ولا شرف لهم من تلك المخاطبة ، ولا فضيلة ، بل يزيدهم ذلك عذابا إلى عذابهم ، وهكذا الأمر في إحاطته ؛ فإنّه بكلّ شيء محيط رحمة وعلما ، ورحمته هنا وجوده ؛ إذ ليس ثمّ ما تشترك فيه الأشياء على ما بيّنها من التفاوت والاختلاف إلّا الوجود ، كما بيّن من قبل.

فهو سبحانه من حيث الإحاطيّة (٢) والوجوديّة (٣) والعلميّة غاية كلّ شيء ، وقد نبّهتك أنّ علمه سبحانه في حضرة أحديّة ذاته لا يغاير ذاته ، ولا يمتاز عنها ؛ إذ لا تعدّد هناك بوجه أصلا ، ومع ثبوت أنّه غاية كلّ شيء ، ومع كلّ شيء ، ومحيط بظاهر كلّ ذرّة وجزء منقسم أو غير منقسم ، وبظاهر كلّ بسيط من روح ونسبة ، ومحيط بباطن الجميع ، فإنّ الفائدة لا تعمّ ، والسعادة لا تشمل.

وإنّما تظهر الفوائد بتميّز (٤) الرتب ، واختلاف الجهات والنسب ، وتفاوت ما به يخاطبك ، وبأيّ صفة من صفاته يصحبك ، وإلى أيّ مقام من حضراته العلى يدعوك ويجذبك ، وفي أيّ صورة من صور شؤونه ولأيّ أمر من أموره ينشئك ويركّبك ، وفي أيّ حال ومقام يقيمك (٥) ويثبتك ، ومن أيّها ينقلك ويقلّبك ، ففي ذلك فليتنافس المتنافسون.

أليس قد عرّفتك أنّ كلّ اسم من أسمائه سبحانه وإن توقّف تعيّنه على عين من أعيان الموجودات ، فإنّه غاية ذلك الموجود ، ومرتبة ذلك الاسم قبلته ، والاسم هو المعبود.

والأسماء وإن جمعها فلك واحد فهي من حيث الحقائق مختلفة ، من حيث إنّ كلّ اسم من وجه عين المسمّى ، والمسمّى واحد يقال : إنّها متّحدة وإلّا فأين الضارّ من النافع ، والمعطي من المانع؟ وأين المنتقم من الغافر ، والمنعم اللطيف من القاهر؟ وأين الرحمة والغضب ، والغلبة والسبق وما يقابلها (٦) من النسب بأحديّة الجمع؟ حفظت

__________________

(١) المؤمنون (٢٣) الآية ١٠٨.

(٢) ق ، ه : الإحاطة.

(٣) ق : لا توجد.

(٤) ق ، ه : بتمييز.

(٥) ق : يقفك.

(٦) ق : يقابلهما.

٢٥٢

على الأشياء صورة الخلاف الذي وصفت به ، وبسرّ الإحاطة والمعيّة الذاتيّة الأحديّة حصل بين الأضداد الائتلاف ، فانتبه ، وإليه يرجع الأمر كلّه ، وما حرم كشفه ، فلا أبديه ولا أحلّه.

وممّا نبّه الحقّ سبحانه الألبّاء على أنّه في البداية الغاية والطريق المتعيّن بينهما بحسب كلّ منهما قوله بلسان هود ـ على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام ـ : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) ، (١) فأشار إلى أنّه هو الذي يمشي بها ، ثم قال : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢) فهم على صراط مستقيم ، من حيث إنّهم تابعون بالقهر لمن يمشي بهم ، وهذه هي الاستقامة المطلقة ، التي لا تفاوت فيها ، ولا فائدة من حيث مطلق الأخذ بالنواصي ومطلق المشي ، كما مرّ.

ونبّه في الذوق المحمّدي على سرّ هذا المقام بنمط آخر أتمّ ، فقال : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، (٣) تنبيه منه أنّ الدعوة إلى الله ممّا هو المدعوّ حاصل فيه وعليه إيهام من وجه بأنّ الحقّ متعيّن في الغاية ، مفقود في الأمر الحاضر.

ولمّا كان حرف «إلى» المذكور في قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) حرفا يدلّ على الغاية ويوهم التحديد ، أمره أن ينبّه أهل اليقظة واليقين على سرّ ذلك ، فكأنّه يقول لهم : إنّي وإن دعوتكم إلى الله بصورة إعراض وإقبال ، فليس ذلك لعدم معرفتي أنّ الحقّ مع كلّ ما أعرض (٤) عنه المعرض كهو مع ما أقبل عليه ، لم يعدم من البداية فيطلب في الغاية ، بل أنا ومن اتّبعني في دعوة الخلق إلى الحقّ على بصيرة من الأمر ، وما أنا من المشركين ، أي : لو اعتقدت شيئا من هذا ، كنت محدّدا للحق ، ومحجوبا عنه ، فكنت إذا مشركا ، وسبحان الله أن يكون محدودا متعيّنا في جهة دون جهة أو منقسما ، أو أن أكون من المشركين الظانّين بالله ظنّ السوء.

وإنّما موجب الدعوة إلى الله اختلاف مراتب أسمائه بحسب اختلاف أحوال من

__________________

(١ و ٢). هود (١١) الآية ٥٦.

(٣) يوسف (١٢) الآية ١٠٨.

(٤) ق : عرض.

٢٥٣

يدعى إليه ، فيعرضون عنه من حيث ما يتّقى ويحذر ، ويتوقّع من البقيا معه على ذلك الوجه الضرر ، ويقبل به عليه بما هدى وبصر ، لما يرجى به من الفوز به وبفضله ويذكر ، فافهم وتذكّر.

٢٥٤

فصل في وصل

في مراتب الهداية

اعلم ، أنّ الصراط المستقيم له ثلاث مراتب : مرتبة عامّة شاملة وهي الاستقامة المطلقة ، التي سبق التنبيه عليها ولا سعادة تتعيّن بها.

ومرتبة وسطى ، وهي مرتبة الشرائع الحقّة الربانيّة المختصّة بالأمم السالفة من لدن آدم إلى بعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والمرتبة الثالثة مرتبة شريعتنا المحمّديّة الجامعة المستوعبة ، وهي على قسمين : القسم الواحد ما انفرد به واختصّ دون الأنبياء. والقسم الآخر ما قرّر في شرعه من أحكام الشرائع الغابرة.

والاستقامة فيما ذكرنا الاعتدال ، ثم الثبات عليه ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله في جواب سؤال الصحابي منه الوصيّة : «قل آمنت بالله ثم استقم» (١) وهذه حالة صعبة عزيزة جدّا ، أعني التلبّس بالحالة الاعتداليّة الحقّة ، ثم الثبات عليها ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «شيّبتني سورة هود وأخواتها» (٢). وأشار إلى قول الحقّ له حيث ورد : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٣) فإنّ الإنسان من حيث نشأته وقواه الظاهرة والباطنة يشتمل على صفات وأخلاق وأحوال وكيفيّات طبيعيّة (٤) وروحانيّة ، ولكلّ منها طرفا إفراط وتفريط والواجب معرفة الوسط من كلّ ذلك ، ثم البقاء عليه ، وبذلك وردت الأوامر الإلهيّة ، وشهدت بصحّته الآيات الظاهرة والموجودات العينيّة ،

__________________

(١) جامع المسانيد ، ج ٥ ، ص ٣٢١.

(٢) كشف المحجوب ، ص ٥١٥.

(٣) هود (١١) الآية ١١٢.

(٤) ق : طبيعة.

٢٥٥

وصحّ للأكابر من بركات مباشرة الأخلاق والأعمال المشروعة ما صحّ ونبّهت على ذلك الإشارات الربانيّة ، كقوله في مدح نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ، (١) وكقوله في مدح آخرين في باب الكرم : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ، (٢) وكوصيّته سبحانه لنبيّه أيضا بقوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٣) ، (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ، (٤) فحرّضه على السلوك على الأمر الوسط بين البخل والإسراف ، وكجوابه لمن سأله مستشيرا في الترهّب وصيام الدهر وقيام الليل كلّه بعد زجره إيّاه ، (٥) «ألا إنّ لنفسك عليك حقّا ، ولزوجك عليك حقّا ، لزورك عليك حقّا ، فصم وأفطر وقم ونم». ثم قال لآخرين في هذا الباب : «أمّا أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» (٦) فنهى عن تغليب القوى الروحانيّة على القوى الطبيعيّة بالكلّيّة ، كما نهى عن الانهماك في الشهوات الطبيعيّة.

وهكذا فعل في الأحوال وغيرها ، فمن ذلك لمّا رأى عمر رضي الله عنه وهو يقرأ رافعا صوته ، فسأله عن ذلك ، فقال : أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. فقال له : «اخفض من صوتك قليلا» وأتى أبا بكر رضي الله عنه فوجده يقرأ أيضا خافضا صوته ، فسأله كذلك ، فقال : «قد أسمعت من ناجيت» فقال له : «ارفع من صوتك قليلا» ؛ فأمرهما صلى‌الله‌عليه‌وآله بلزوم الاعتدال الذي هو صفة الصراط المستقيم وهكذا الأمر في باقي الأخلاق ؛ فإنّ الشجاعة صفة متوسّطة بين التهوّر والجبن ، والبلاغة صفة متوسّطة بين الإيجاز والاختصار المجحف ، وبين الإطناب المفرط ، وشريعتنا قد تكفّلت ببيان ذلك كلّه وراعته وعيّنت الميزان الاعتدالي في كلّ حال وحكم ومقام وترغيب وترهيب ، وفي الصفات والأحوال الطبيعيّة ، والروحانيّة والأخلاق المحمودة والمذمومة ، حتى أنّه عيّن للمذمومة مصارف إذا استعملت فيها كانت محمودة وراعى هذا المعنى أيضا في الإخبارات الإلهيّة والإنباء عن الحقائق ؛ فإنّه سلك في ذلك

__________________

(١) النجم (٥٣) الآية ١٧.

(٢) الفرقان (٢٥) الآية ٦٧.

(٣) الإسراء (١٧) الآية ١١٠.

(٤) الإسراء (١٧) الآية ٢٩.

(٥) روح الأرواح ، ص ٦٧٧.

(٦) ق ، ه : أمر ثالث.

٢٥٦

طريقا جامعا بين الإفصاح والإشارة ، وبسنّته نقتدي ، وبالله نهتدي ، فاكتف بالتلويح ؛ فإنّ التفصيل يطول.

وجملة الحال فيما أصّلنا أوّلا أنّ الإنسان لمّا كان نسخة من جميع العالم ، كانت له مع كلّ عالم ومرتبة وأمر وحال ، بل مع كلّ شيء نسبة ثابتة لا جرم فيه ما يقتضي الانجذاب من نقطة وسطه الذي هو أحسن تقويم ، إلى كلّ طرف ، والإجابة لكلّ داع.

وليس كلّ جذب وانجذاب وإجابة ودعاء بمفيد ولا مثمر للسعادة. هذا وإن كان الحقّ ـ كما بيّنّا ـ غاية الجميع ومنتهاه ومعه ومبتغاه ، وإنّما المقصود إجابة وسير وانجذاب خاصّ إلى معدن السعادات ، و (١) إلى ما يثمر سعادة مرضيّة ملائمة خالصة غير ممتزجة ، مؤبّدة لا موقّتة ، فما لم يتعيّن للإنسان من بين الجهات المعنويّة وغير المعنويّة الجهة التي هي المظنّة لنيل ما يبتغي ، أو المتكفّلة بحصوله ، ومن الطرق الموصلة إلى تلك الجهة ، و (٢) ذلك الأمر أسدّها وأقربها وأسلمها من الشواغب والعوائق ، فإنّه ـ بعد وجدان الباعث الكلّي إلى الطلب أو مسيس الحاجة إلى دفع ما يضرّ وجلب ما ينفع ، أو ما هو الأنفع ظاهرا وباطنا أو عاجلا وآجلا ـ لا يعلم كيف طلب ، ولا ما يقصد على التعيين؟ ولا كيف يقصده؟ ولا بأيّ طريق يحصّله؟ فيكون ضالًّا حائرا حتى يتعيّن له الأمر والحال ، ويتّضح له وجه الصواب بالنسبة إلى الوقت الحاضر والمآل ، فافهم (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٣).

__________________

(١) ق : أو.

(٢) ه : أو.

(٣) الأحزاب (٣٣) الآية ٤.

٢٥٧

وصل

وإذ قد يسّر الله في ذكر أسرار ظاهر هذه الآية وباطنها بعد ثم حدّها الذي فرغنا منه الآن ما يسّر ، فلنشرع في الكلام عليها بما يقتضيه سرّ المطلع ، ولسانه ، ثم لسان الجمع على سبيل الإلماع حسب التيسير ، والله المرشد.

مراتب الهداية والضلال

اعلم ، أنّ الهداية ضدّ الضلال ، ولكلّ منهما ثلاث مراتب ، وصفة الضلال ـ الذي هو الحيرة ـ اللاتعيّن ، والتعيّن للهداية ، والسرّ في تقديم (١) حكم ضلالة الإنسان على هدايته هو تقدّم حكم الشأن المطلق الإلهي الذاتي ، من حيث غيب هويّته ، على نفس التعيّن ، كتقدّم الوحدة والإجمال والإبهام والعجمة ، على (٢) الكثرة والتفصيل والإيضاح والإعراب.

وتذكّر ما بيّن لك في صدر الكتاب عند الكلام على سرّ الإيجاد وبدئه ، وتقدّم مقام كان الله ولا شيء معه ولا اسم ولا صفة ولا حال ولا حكم ، على التعيّن الأوّل المختصّ بحضرة أحديّة الجمع ـ المنبّه عليه في صدر الكتاب ومنذ قريب أيضا ـ المعيّن لمفاتح (٣) الغيب. وكذا فلتتذكّر تقدّم حضرة أحديّة الجمع ، على الكينونة العمائيّة الثابتة في الشرع والتحقيق والمقول (٤) بلسانها «كنت كنزا لم أعرف ، فأحببت أن أعرف (٥) ، وتقدّم السرّ النوني على الأمر

__________________

(١) ق : تقدّم.

(٢) ق : على لسان الكثرة.

(٣) ه : لمفاتيح.

(٤) ق : والقول.

(٥) أحاديث مثنوى ، ص ٢٨.

٢٥٨

القلمي ، وتقدّم القلم على اللوح ، وتقدّم الكلمة والحكم والأمر العرشي الوحدانيّ الوصف ، على الأمر التفصيلي الأوّل الصوري الظاهر بحكم القدمين في الكرسي.

ثم انظر انتهاء الأمر بالترتيب ـ المعلوم في العموم ، والمدرك في الخصوص ـ إلى آدم الذي هو آخر صورة السلسلة وأوّل معناها ، واجتماع الذرّيّة واندماجها في صورة وحدته كالذرّ (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) (١) فبرزوا بعد الكمون والاندماج في الغيب الإضافي الآدمي الجملي ، بإبانة الحقّ سبحانه لهم وبثّه إيّاهم ، حتى شهد كلّ منهم من نفسه وغيره ما كان عنه (٢) الاندماج محجوبا ، واتّصلت أحكام بعضهم بالبعض بالإبرام والنقض غالبا ومغلوبا ، فافهم وأمعن التأمّل فيما لوّحت به ، تعرف أنّ الهدى في الحقيقة عين الإبانة والإظهار بالتمييز والتعيين.

فللوحدة والإجمال وما نعت آنفا بالتقدّم : البطون ، وللكثرة : الظهور والإبانة والفصل والإفصاح ، ولمّا قدّر الإنسان على الصورة ، وظهر نسخة وظلّا ، جاءت نسخته على صورة الأصول التابعة لأصله ، لا جرم كانت ضلالته متقدّمة على هدايته كما أخبر سبحانه عن أكمل النسخ وأتمّ الناس تحقّقا وظهورا بالكمال الإلهي والإنساني ، بقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٣) أي كنت بحال من لم يتعيّن له وجه الصواب والأولويّة في ما ذا ، فعيّنه لك وميّزه (٤) وعلّمك ما لم تكن تعلم فكملت في مرتبة الهداية وغيرها ، وامتلأت حتى فضت ، فهديت وكمّلت ، وانبسط منك الفيض على غيرك ، فتعدّى بك خيري إلى الكون ، وبي خيرك ، فسبحان الذي خلق الإنسان وهداه النجدين ، ثم اختار له الصراط السويّ الاعتدالي ، وعلّمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيما.

فالجواذب ـ يا أخي ـ من كلّ ناحية وطرف تجذب ، والدعاة بلسان المحبّة ـ من حيث إنّ الإنسان معشوق الكل ، و (٥) حيث حكم الربوبيّة الذي انصبغ به الجميع ـ يدعون ، والدواعي بحسب الجواذب والمناسبات للإجابة والانجذاب تنبعث ، وأنت عبد ما أحببت

__________________

(١) النساء (٤) الآية ١.

(٢) كذا في الأصل. والصحيح : عند.

(٣) الضحى (٩٣) الآية ٧.

(٤) ه : ميّزه من غيره.

(٥) ق : ومن حيث.

٢٥٩

وما إليه انجذبت ، والاعتدال في كلّ مقام وحال وغيرهما وسط ، ومن مال عنه انحرف ، ولا ينحرف إلّا منجذب بكلّه أو أكثره إلى الأقلّ. (١) ومن تساوت في حقّه أطراف دائرة كلّ مقام ينزل فيه أو يمرّ عليه ويثبت في مركزه هيولانيّ الوصف ، حرّا من قيود الأحكام والرسوم ، معطيا كلّ جاذب وداع حقّه وقسطه (٢) منه فقط ، وهو ـ من حيث ما عدا ما تعيّن منه بالإقساط ـ باق على أصل إطلاقه وسذاجة (٣) طلسه (٤) ، دون وصف ولا حال معيّن ولا حكم ولا اسم ، فهو الرجل التابع ربّه في شؤونه ، حيث (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ؛ (٥) أي بيّن وأوضح كما قال الشيخ الكامل (٦) :

أصلّي إذا صلّت وأشدو (٧) إذا شدت

ويتبعها قلبي إذا هي ولّت (٨)

فافهم ، وتذكّر ما مرّ في هذا الباب عند الكلام في سرّ الوجهة ، وسرّ «إيّاك نعبد» بلسان الجمع الكمالي ، وما سبق ذكره قبل ذلك أيضا ، عساك تعرف ما أشير إليه.

مراتب الاعتدال

ثم نقول : اعلم ، أنّ للاعتدال مرتبة غيبيّة إلهيّة ؛ هي عبارة عن الصورة المعنويّة ، والهيئة الغيبيّة ، والمتعقّلة والمتحصّلة من الاجتماع الأزلي الواقع بحكم الجمع الأحدي بين الأسماء الذاتيّة الأصليّة في العماء ـ الذي هو حضرة النكاح الأوّل ، الذي ظهر به القلم الأعلى ـ والأرواح المهيّمة وهي أمّ الكتاب.

فمن تعيّنت مرتبة عينه فيها ، بحيث تكون توجّهات أحكام الأسماء والأعيان إليه توجّها متناسبا ، وينتظم في حقّه انتظاما معتدلا ، مع عدم استهلاك حكم شيء منها في غيره ، وبقاء اختلافها بحاله على صورة الأصل ، وإن ظهرت الغلبة لبعضها على البعض كالأمر في المزاج العنصريّ ، كان (٩) مقامه الروحاني من حيث الصفات والأفعال والأحوال الروحانيّة

__________________

(١) ق : للأقلّ.

(٢) ق : قسط.

(٣) ه : سداحة.

(٤) ه : طلسته.

(٥) طه (٢٠) الآية ٥٠.

(٦) ق : لا توجد.

(٧) ه : أشذ وإذا شذت.

(٨) ق : دلت.

(٩) ق : كان في.

٢٦٠