إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

هذا اللسان الجمعي ، فنقول :

الاشتقاق المنسوب إلى هذا الاسم راجع إلى المعنى المتشخّص منه في أذهان المتصوّرين ، لا إلى حقيقته ؛ لأنّ أحد شروط الاشتقاق أن يكون المعنى المشتقّ منه سابقا على المشتقّ وهذا لا يصحّ في حقّ (١) شيء من الحقائق ؛ فإنّ للحقائق ـ وخصوصا لهذا الاسم ـ التقدمة على سائر المفهوم والمفهومات المتصوّرة ، وقد كان ثابتا لمسمّاه (٢) قبل وجود التصوّر والمتصوّرين لمعنى الألوهيّة (٣) مطلقا ومقيّدا ، فكيف يصحّ فيه الاشتقاق المعلوم؟! وأمّا اختصاصه بهذه الحروف دون غيرها فذلك لسرّ يعرفه من يعرف أسرار الحروف ، ومراتب روحانيّتها ، فيعلم سعة دائرة حروف هذا الاسم ، وحكم بسائطها وعظم أفلاكها ، ومناسبتها لما وضعت بإزائه ، وأنّ هذا اللفظ أتمّ تأدية للمعنى الذي وضع له ، وأقرب مطابقة من غيره من الأسماء اللفظيّة المركّبة من غير هذه الحروف عند من أدرك مدلول هذا الاسم وتصوّره في أنهى مراتب الإدراك وأعلى مراتب التصوّر.

واعلم ، أنّ الأتمّ شهودا وعلما بكلّ منادى ومدعوّ ومذكور ومسمّى هو أصحّ الموجودات تصوّرا له ، والأصحّ تصوّرا أصحّ استحضارا ، والأصحّ استحضارا ـ بعد صحّة التصوّر ـ أتمّ احتظاء بإجابة المدعوّ والمنادى عند ذكره أو التوجّه إليه أو الطلب له أو منه.

وأمّا ما غاب من حروف هذا الاسم في مرتبتي التلفّظ والكتابة فإشارة إلى ما بطن من المسمّى به وما لا يقبل التعيّن منه في عالم الشهادة والغيب المقابل له ، فافهم.

وأمّا (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فهو في ذوق هذا المقام المتكلّم فيه اسم مركّب ، فلا يخلو كلّ منهما عمّا تضمّنه الآخر ، فبعموم الحكم الرحماني ـ الذي هو الوجود ـ ظهر التخصيص العلمي ، ثم الإرادي المنسوب إلى الرحيم ، فبه تعيّنت الحصص الغيبيّة صورا وجوديّة ، كما أنّه بالرحيم ظهر الوجود الواحد متعدّدا بالموجودات العينيّة.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تعريف بأطلق مراتب الثناء وأوسعه ، وبأوّل تعيّنات مطلق

__________________

(١) ق : وهذا لا يصحّ في حقّ هذا الاسم ولا في حقّ شيء من الحقائق.

(٢) ق : مسمّاه.

(٣) ق : الألوهة.

٢٢١

الاسم «الله» بحسب الاسم «الربّ» ، وبأوسع أفلاك الاسم «الربّ» المحيط بالعالمين والدائر (١) عليهم بسرّ التربية ، والسيادة ، والملك ، والثبات ، والإصلاح ، وبإظهار سرّ ارتباط العالم بالربّ من كونه عالما.

وأمّا سرّ الحمد فمن أغرب أحكامه التي لم يتقدّم ذكرها هو حمد الحقّ الحمد والموجودات أيضا بنفس شهادته سبحانه للثناء ؛ فإنّ علم الحقّ بأنّ الثناء ثناء هو المقتضي للشهادة ؛ إذ لا شهادة في الحقيقة إلّا بعد العلم ، ولا : أمر يثبت ، ولا حكم ينفذ لغير الحقّ إلّا بعد شهادة الحقّ بأنّه مستحقّ لما شهد له به وأضيف إليه ، ولمّا أضاف الحقّ الحمد لنفسه بحكم كمالي ، ثبت له ذلك (٢) وتعيّنت مكانته.

وأمّا حمد الحقّ الكائنات فهو بذواتها ـ أي بما يقتضيه كلّ شيء لذاته من الأمور المحمودة (٣) ـ فيظهر أعيانها ويعرّف البعض للبعض ، حتى يعمّ التعريف والإشهاد ، فيشمل الحمد ـ الذي هو الثناء ـ كلّ شيء من الحقّ بكلّ شيء ، فمجموع العالم محمود بجملة ما يشتمل عليه من الصفات والأحوال المرضيّة بألسن شتّى وغير المرضيّة بلسان الإرادة والجمال المطلق والتوحيد الفعلي والذاتي والحكمة الباطنة ، من حيث إنّه ما من شيء إلّا وهو شرط في ظهور كمال القدرة وغيرها من الصفات ، وإنّ كمال مرتبة العلم والوجود المتوقّفين على ظهور التفصيل الكوني متوقّف على كلّ فرد فرد من أفراد الموجودات ، فكلّ ما توقّف عليه حصول المقصود ، فهو مطلوب ومشكور من حيث إنّه به ظهر ما أريد ظهوره ، فافهم واقنع ؛ فهذا اللسان لا يحتمل الإطناب.

ويحمد الحقّ الخلق بالحمد أيضا ، وذلك بإظهاره عين الحمد حيث شاء من العوالم ، وجعله صفة من أراد من أهل ذلك العالم ، (٤) فيظهر حكم الحمد بالحقّ فيمن قام به وصار صفة له ، فإنّ المعاني توجب أحكامها لمن قامت به.

وأمّا حمد الحمد الحقّ أو نفسه أو الكون فهو بظهور حكمه وقيامه بالمحمود أو فيه وقد مرّ حديثه من قبل.

__________________

(١) ق : الدابر.

(٢) ق : لم يرد.

(٣) ه : إلى المحمودة.

(٤) ق : العلم.

٢٢٢

قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ليس تكرّرا (١) لما في البسملة ، بل للواحد تخصيص حكم التعميم ، وللآخر تعميم حكم التخصيص. ومتعلّق أحدهما الحكم الدائم بمقتضى حكم معنى الأمر باطنا مطلقا ، للآخر الحكم المقدّر (٢) المشروط ظاهرا وباطنا.

وسرّ ذلك وتفصيله أنّ الرحمة رحمتان : رحمة ذاتيّة مطلقة امتنانيّة ، هي التي وسعت كلّ شيء ، ومن حكمها الساري في الذوات رحمة الشيء بنفسه وفيها ، تقع من كلّ رحيم بنفسه بالإحسان أو الإساءة بصورة الانتقام والقهر ؛ فإنّ كلّ ذلك من المحسن والمنتقم رحمة بنفسه ، فافهم. ومن حيث هذه الرحمة وصف الحقّ نفسه بالحبّ وشدّة الشوق إلى لقاء أحبّائه ، وهذه المحبّة بهذه الرحمة لا سبب لها ولا موجب ، وليست في مقابلة شيء من الصفات والأفعال وغيرهما وإليها أشارت رابعة ـ رضي الله عنها ـ بقولها :

أحبّك حبّين : حبّ الهوى

وحبّا لأنّك أهل لذاكا

فأمّا الذي هو حبّ الهوى

فذكرك في السرّ حتى أراكا

فأمّا الذي أنت أهل له

فشغلي بذكرك عمّن سواكا

ولا الحمد في ذا ولا ذاك لي

ولكن لك الحمد في ذا وذاكا (٣)

فحبّ الهوى لمناسبة ذاتيّة غير معلّلة بشيء غير الذات. وأمّا حبّ أنّك أهل لذاكا فسببه المثمر له هو العلم بالأهليّة. ولهذه الرحمة من صور الإحسان كلّ عطاء يقع لا عن سؤال أو حاجة ولا لسابقة حقّ أو استحقاق لوصف ثابت للمعطى له أو حال مرضيّ يكون عليه هذا مطلقا.

ومن تخصيصاته الدرجات والخيرات الحاصلة في الجنّة لقوم بالسرّ المسمّى في الجمهور عناية ، لا لعمل عملوه أو خير قدّموه.

ولهذا ثبت كشفا أنّ الجنّات ثلاث : جنّة الأعمال ، وجنّة الميراث ، وجنّة الاختصاص.

وقد نبّه على جميع ذلك في الكتاب والسنّة ، وورد في المعنى : أنّه يبقى في الجنّة مواضع خالية يملأها الله بخلق يخلقهم لم يعملوا خيرا قطّ ، إمضاء لسابق حكمه وقوله تعالى :

__________________

(١) ق : تكرارا.

(٢) ق : المقيّد.

(٣) ق : الأبيات الثلاثة الأخيرة غير موجودة.

٢٢٣

«لكلّ واحدة (١) منكما ملؤها».

والرحمة الأخرى هي الرحمة الفائضة عن الرحمة الذاتية ، والمنفصلة عنها بالقيود التي من جملتها الكتابة المشار إليها بقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٢) فهي مقيّدة موجبة بشروط من أعمال وأحوال وغيرهما. ومتعلّق طمع إبليس الرحمة الامتنانيّة التي لا تتوقّف على شرط ولا قيد حكمي ولا زماني ، فالحكمي قيد القضاء والقدر اللذين أوّل مظاهرهما من الموجودات القلم الأعلى واللوح المحفوظ. والزمانيّ إلى يوم الدين وإلى يوم القيامة ، وخالدين فيها ما دامت السماوات والأرض.

فرحمتا البسملة للتعميم والتخصيص ، ورحمتا الفاتحة لما ذكرنا من الرحمة الذاتيّة الامتنانيّة والتقييديّة الشرطيّة.

ومن هذا المقام (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ؛ فإنّ المجازاة ذاتيّة وغير ذاتيّة ، فالوقت لغير الذاتيّة. والذاتيّة لا وقت لها ؛ لإطلاقها.

ولمّا كان للحقّ سبحانه الأمران وفي العالم ما يقتضي قبول الحكمين ، ذكر اليوم المشتمل على الليل والنهار اللذين هما مظهر الغيب المطلق الممحوّ آيته ، والشهادة المبصرة علاماته.

والمجازاة الذاتيّة الواقعة بين الوجود والأعيان باعتبار القبول الأوّل والعطاء الأوّل. وقد مرّ ذكرهما عن قريب.

والمجازاة الصفاتيّة (٣) والفعليّة مثل قوله (أَنِ اعْبُدُونِي) (٤) (وَاشْكُرُوا لِي) (٥) في مقابلة ما أسدى إلى عباده من النعم الظاهرة والباطنة «وأنا عند ظنّ عبدي بي (٦) ، وسيجزيهم وصفهم» والدعاء والإجابة ونحو ذلك لمرتبة الأفعال.

وأمّا متعلّق قوله سبحانه بلسان النبوّة عند قول العبد : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : «مجّدني عبدي» فهو ما يستدعيه مقام العبوديّة العامّة ، كنسبة الرعيّة مع الملك بخلاف قوله تعالى في

__________________

(١) ق : واحد.

(٢) الأنعام (٦) الآية ٥٤.

(٣) ق : الصناعية.

(٤) يس (٣٦) الآية ٦١.

(٥) البقرة (٢) الآية ١٥٢.

(٦) جامع المسانيد ، ج ١٢ ، ص ٣٢٤.

٢٢٤

ذلك أيضا : «فوّض إليّ عبدي» عند قوله تعالى : (مالِكِ) بالألف ، فإنّ متعلّقه ما يقتضيه خصوص العبوديّة (١) من حيث الملك بالنسبة إلى المالك (٢) من كمال التفويض والاستسلام وصرافة الطاعة والإذعان ، فافهم.

وما يتبع الجزاء ـ كالحال والطاعة والعادة وما سبق ذكره من معاني لفظة «الدّين» ـ فكلّها أحوال العبوديّة والطهارة الحاصلة للعبد المحض ، الذي لا يعامل معاملة الأجير تحصل له بأمور ، منها ومن آياتها رفع المجازاة الصفاتيّة والفعليّة ، ويبقى في مقامه من حكم المجازاة الذاتيّة ما يقتضيه الأمر الذي يمتاز به العبد عن الحقّ من حيث الفروق التي سلفت ، (٣) لكن بين الكامل وغيره في ذلك تفاوت كثير قد سبق التنبيه عليه أيضا في ذكر مراتب التمييز.

وللحال (٤) والطاعة وغيرهما من المعاني المذكورة تمخّضات (٥) وامتزاجات بين رتبة العبد وربّه ، وزبدة مخيضتها (٦) ما سبقت الإشارة إليه في الفصل السابق عند الكلام على مراتب الأعمال ونتائجها ، فأمعن التأمّل فيه وفيما يليه وما يذكر في سرّ الشكر في آخر الكتاب ، تر الغرائب.

__________________

(١) ق ، ه : العبودة.

(٢) ق : مالك.

(٣) ق : سبقت.

(٤) ق : والحال.

(٥) ق : محضات.

(٦) ق : بخصتها.

٢٢٥

وصل

في الظهر والبطن والحدّ والمطلع

اعلم ، أنّا بيّنّا في غير موضع (١) من هذا الكتاب أنّ العالم من حيث حقيقته مرآة لأحكام الحضرات الخمس ، وأنّ صور العالم ظاهرة بحسبها ، وما من موجود عيني ولا أمر غيبي إلّا وحكم هذه الحضرات سار فيه ، كما نبّهت عليه غير مرّة. وجميع الخواص والأوصاف واللوازم المضافة (٢) إلى الكون إنّما تظهر بحكم مقام الجمع الأحدي ، الذي تستند (٣) إليه الأسماء والصفات والعوالم والحضرات ، فإنّها منفعلة ومتفرّعة عنه وتابعة له ، وإن كانت في هذا المقام الأنزه الأنوه الذاتي لا تتعدّد (٤) ، بل يظهر عنها وفيها التعيين والتفصيل بحسب مراتب العالمين وأحوالهم ومدركاتهم وتطوّراتهم.

وإذا تقرّر هذا ، فنقول : الكلام الإلهي من أجلّ النسب والصفات الكلّيّة المستوعبة مراتب الإيضاح والإفصاح وقد صدر من حضرة الحقّ ووصل إلينا منصبغا بحكم الحضرات الخمس الأصليّة المذكورة وما اشتملت عليه.

وله ـ كما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ظهر وهو الجليّ والنصّ المنتهي إلى أقصى مراتب البيان والظهور نظير الصور المحسوسة. وله أيضا بطن خفيّ نظير الأرواح القدسيّة المحجوبة عن أكثر المدارك.

وله حدّ مميّز بين الظاهرة والباطنة (٥) به يرتقى من [الظاهر إلى الباطن] و (٦) هو البرزخ

__________________

(١) في الأصل : غير ما موضع.

(٢) ق : المنضافة.

(٣) ه : يستند.

(٤) ه : لا يتعدّد.

(٥) ق : الباطنة والظاهرة ، ه : الظاهر والباطنة.

(٦) ما بين المعقوفين لم ترد في ق.

٢٢٦

الجامع بينهما بذاته ، والفاصل أيضا بين الباطن والمطلع. ونظيره عالم المثال الجامع بين الغيب المحقّق والشهادة.

وله مطلع وهو ما يفيدك الاستشراف على الحقيقة التي إليها يستند ما ظهر وما بطن وما جمعها وميّز بينهما ، فيريك ما وراء ذلك كلّه وهو أوّل منزل من منازل الغيب الذاتي الإلهي ، وباب حضرة الأسماء والحقائق المجرّدة الغيبيّة ، ومنه يستشرف المكاشف على سرّ الكلام الأحدي الغيبي ، فيعلم أنّ الظهور والبطون والحدّ والمطلع منصّات لهذا التجلي الكلامي ولغيره ، ومنازل لتعيّنات أحكام الاسم «المتكلّم» من حيث امتيازه رتبة خامسة تعرف من سرّ النفس الرحماني ، وقد مرّ حديثه سيّما من هذا الوجه ، فتذكّر.

وقد انتهى القول في القسم الأوّل من أقسام الفاتحة جمعا وتفصيلا ، ويسّر الله الوفاء بما التزمته ، وإنّي وإن بسطت القول فيما مرّ بالنسبة لمن لا يعرف قدر هذا الإيجاز ، فإنّما كان ذلك من أجل أنّ تحرير الكلام في القواعد وفي أمّهات المسائل يفتح ما يأتي بعد.

ومن الأمور المتفرّعة على تلك الأمّهات والتفاصيل التابعة لأصولها ولا سيّما والسورة المتكلّم فيها أصل أصول الكلم ، ومفتاح جوامع الأسرار والحكم ، فجدير بمن قصد تفسيرها أن ينبّه على مشارع أنهار أسرارها ، ومطلع شموس أنوارها ، ومجتمع كنوزها ومفتاح خزائنها وحاصل مخزونها (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) (١) ، (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢).

فاتحة القسم الثاني قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

ولنبدأ أوّلا بعون الله ومشيئته بذكر ما يقتضيه ظاهر اللسان ومرتبته ، ثم نرقى منه وفيه بالتدريج إلى الباطن ، ثم الحدّ والمطلع والأمر المحيط الحاكم على الجميع ، كما يسّر (٣) الله ذلك فيما مرّ. فنقول :

«إيّا» ضمير منفصل للمنصوب ، واللواحق التي تلحقه (٤) من الكاف والهاء والياء في «إيّاك» و «إيّاه» و «إيّاي» لبيان (٥) حكم المتكلّم والغائب والمخاطب ، ولا محلّ لها عند

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) الآية ٤.

(٢) يونس (١٠) الآية ٢٥.

(٣) ق : يسرى.

(٤) ه : يلحقه.

(٥) ق : لسان.

٢٢٧

المحقّقين من أرباب اللسان من الإعراب ، كما لا محلّ للكاف في «أرأيتك» وليست بأسماء مضمرة مقصودة. وما حكاه الخليل عن بعضهم أنّه «إذا بلغ الرجل الستّين فإيّاه وإيّا الشوابّ» فشاذّ لا يعوّل عليه.

و «العبادة» في اللغة : أقصى (١) غايات الخضوع والتذلّل ، ومنه ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج. كأنّه إشارة إلى قبوله الانفعال والتأثير القوي. وأرض معبّدة : مذلّلة.

وأمّا سرّ باطن ظاهر (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) الآية ، هو أنّه لمّا ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه صفات العظمة والجلال ، ونعته بنعوت الكمال ، تعلّق العلم أو الذهن بمتصوّر عظيم الشأن ، جدير بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة به في المهمّات ، فخوطب ذلك المعلوم أو المتصوّر المتميّز ، بتلك الصفات حين تعيّن مرتبته وصورة عظمته في ذهن المناجي ، بحسب معتقده فيه الذي عليه يترتّب إسناد تلك الصفات إليه.

وقيام المناجي حالتئذ في مقام العبوديّة المقابلة للربوبيّة المستحضرة له عقيب ذلك بإيّاك نعبد يا من هذه صفاته ، إشارة إلى تخصيصه بالعبادة وطلب الاستعانة منه ، أي لا نعبد غيرك ولا نستعينه اقتصارا عليه وانفرادا له وليكون الخطاب أدلّ على أنّ العبادة لذلك المتميّز (٢) بذلك المتميّز الذي لا تتحقّق العبادة إلّا به وإقران العبادة بالاستعانة للجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته. وتقديم العبادة على الاستعانة كتقديم الوسيلة على طلب الحاجة ؛ رجاء الإجابة (٣) ، كما نبّه سبحانه على ذلك بقوله : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٤) الآية وإطلاق الاستعانة لتناول كلّ مستعان به.

وبعد أن ذكرنا في هذه الآية ما استدعاه ظاهر مقامها من إلماع بطرف من الباطن ، فلنرق منه إلى ما فوقه ، ولنذكّرك أوّلا أيّها المتأمّل بما أسلفناه قبل في حقيقة الذكر والحضور ، في بيان سرّ جواب الحقّ عبده التالي المصلّي حين قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : «ذكرني

__________________

(١) ه : أقضى.

(٢) ق : التميّز.

(٣) ق : للإجابة.

(٤) المجادلة (٥٨) الآية ١٢.

٢٢٨

عبدي» الحديث ؛ لمسيس الحاجة إليه هاهنا. ثم نقول :

اعلم ، أنّ الله سبحانه قد نبّه الألبّاء على بعض أسرار ما نحن بصدد بيانه تنبيها خفيّا بقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (١) وكلّ عابد لشيء فإنّه متوجّه إلى معبوده لا محالة ، وتوجّهه إليه مسبوق بما بعثه على ذلك التوجّه ، وباعثه على التوجّه يتعيّن بحسب ما استقرّ عنده من المتوجّه إليه ، والمستقرّ عنده صورة علميّة منتشية من دلائل ومقدّمات تفيد الجزم اليقيني في زعمه ، أو صورة ذهنيّة متحصّلة من أقاويل مسموعة ، أو آيات وآثار مشهودة دالّة على أمور يزعم أنّها كمالات ، وأنّها حاصلة لمن تضاف (٢) إليه تلك الآثار ، وتستند إليه تلك الكمالات ، فحالما تصوّر تلك الصفات قائمة بموصوف مّا منفرد بها دون غيره حكم بأنّه مستحقّ للعبادة ، فرغب في اللجأ إليه والتعبّد له ؛ خوفا وطمعا ، أو (٣) استحسانا.

هذا ، مع أنّه قد يكون ما حكم به لمن نسبت إليه تلك الصفات ودلّت عليه الآثار والآيات المسموعة والمدركة صحيحا ثابتا لذلك الموصوف ، وقد لا يكون كذلك إلّا في زعم المعتقد لا في نفس الأمر ، أو تكون تلك الصفات والآثار ونحوهما ثابتة لغير من أضيفت إليه ، وتلك الأقاويل دالّة على تشخّصات متعيّنة في أذهان القائلين بحسب آرائهم وحدسهم وتصوّراتهم ، فهي ـ أعني تلك الصور الذهنيّة الاعتقاديّة ـ من حيث أوّل حادس ومستحضر ما أنشأ تصوّره منفعلة عنه ، ومن حيث السامع الأوّل القائل المستعبد نفسه من حيث هي بحسب ما ثبت في نفسه وتصوّره منها لقول القائلين منفعلة مرّة أخرى ، وهلمّ جرّا.

فالشخص إذا مستعبد نفسه لما انتشى في ذهنه ، وكان ناشئا أيضا عن صورة أخرى منفعلة عن متصوّر آخر بتصوّر هو بالأصالة منفعل ، هكذا ذاهبا إلى أوّل فاعل منفعل وكون الأمر كما تصوّر فإنّه يمكن أن يكون المتوجّه إليه بالعبادة فاعلا من حيث هو ، ومنفعلا من حيث تعيّنه في تصوّرات العقول والأذهان والظنون والأوهام ، أو ليس كذلك.

فيه : نظر. أمّا في طور العقل فلا شكّ في فساده وبطلانه ؛ لما يستلزم ذلك من المحالات

__________________

(١) البقرة (٢) الآية ١٤٨.

(٢) ه : يضاف ، ق : انضاف.

(٣) ق : و.

٢٢٩

التي لا حاجة بنا إلى الخوض فيها ، كتجويز انضباط الحقّ وتعيّنه في تصوّر أحد على ما هو عليه في نفسه ، مع استحالة ذلك في نفس الأمر ، فافهم.

ثم نقول : وقد يكون الحاصل في نفس العابد المتوجّه أمرا متركّبا من موادّ عقليّة ومدركات حسّيّة ، ومن مسموعات ومظنونات ، فالإدراك ـ على اختلاف ضروبه المعنويّة والحسّيّة ـ تابع للمدرك ، فتوجّه كلّ من شأنه ما ذكر ليس إلّا إلى صور منشآت في الأذهان شخصتها نفوس المتوجّهين من موادّ ظنونها وآرائها ، أو ممّا انتقل إليها من مشخّصات أذهان من حكى لها ، أو نقل إليها أو هي منتزعة من صفات وآثار وآيات قرّر المنتزع إضافتها وثبوتها لموصوف بها ومنسوب إليه جميعها ، وأنّ ذلك كمال في زعمه ، بمعنى أنّ من هو بهذه المثابة فجدير أن يعبد.

هذا ، مع اعتراف كلّ منصف هذا شأنه أنّه حال حكمه بمثل هذا الحكم وتصوّره هو في نفسه ناقص ، وتصوّره وغير ذلك من صفاته تابع له ؛ لأنّ الصفة تتبع الموصوف كما قلنا في الإدراك.

فالحاصل في ذهنه من صورة الكمال ـ الذي يجب أن يكون حاصلا للمعبود ـ صورة ناقصة ، والمنسوب إليه ذلك الكمال ـ الثابت نقصه بما ذكرنا وغيره ـ مجهول عنده ، فأين المطابقة المشاهدة بصحّة التصوّر الذي يتبعه الحكم التصديقي؟ وقد ثبت أنّ حاصل ما أشرنا إليه كونه إنشاء في حال نقصه صورة ناقصة في الكمال ، متحصّلة من أجزاء وهميّة وخياليّة ، أو استجلاءات نظريّة ضعيفة غير مطابقة لما قصد تصوّره ، ثم جعلها قبلة توجّهه وتوقّع منها السعادة والمغفرة وقضاء الحوائج ، أليس الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) ألست تعلم أنّ الذي أنشأته في ذهنك منفعل مثلك ، بل أنزل درجة منك ، من حيث إنّك منشئه (٢).

فيا من هذا شأنه ، بالله عليك راجع نفسك ، وانظر : هل يمكن أن يكون لمثل هذا الحال والاعتقاد ثمرة ، أو يرضى بها عاقل ذو همة عالية في معتقده ، أو عباداته وتوجّهه في صلاة ، أو غيرها من العبادات؟ وأين المقصود من قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (٣) الآية؟

__________________

(١) الأعراف (٧) الآية ١٩٤.

(٢) ق : منشئته.

(٣) البقرة (٢) الآية ١٤٨.

٢٣٠

فأين المسابقة؟ وأين التوجّه الصحيح المصدّق قول المتوجّه إلى الحقّ في زعمه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)! وهو كاذب؟

فإنّه لم يخاطب بهذا إلّا الصورة الذهنيّة التي خلقها بعقله السخيف ، أو وهمه وخياله ورأيه الضعيف. وأنّى ترجى ثمرة عبادة أو صلاة هذا أساسها؟ وأين «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي» وذكره سبحانه الفاتحة وأقسامها ك «مجّدني عبدي» و «فوّض إليّ» و «هذه بيني وبين عبدي» و «هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل»؟

فبالله عليك ، هذه الصورة المنتشية في ذهنك تقول شيئا من هذا ، أو تقدر على شيء ، هيهات. المنشئون لتلك الصور (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) ، (١) فما الظنّ ببعض ما انتشأ فيهم على النحو المذكور.

واعلم ، أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) في حديث الفاتحة والصلاة «يقبل من الصلاة ربعها ونصفها» وتعديده الأقسام حتى انتهى إلى التسع ، ثم قال : «وآخر تؤخذ صلاته كالثوب الخلق ، فيضرب بها وجهه» ، إشارة إلى ما ذكرنا من تفاوت حظوظ المتعبّدين ، وقلّة جدوى الكثير منهم ، وحرمان آخرين بالكلّيّة ، وليس ذلك إلّا لما ذكرنا من تأسيس الأمر على (٣) غير أصل صحيح ، ونعوذ بالله من ذلك ومثله.

ولنعد الآن إلى بيان الوجهة التي هي قبلة قلوب المتوجّهين وأرواحهم وعقولهم ونفوسهم وطباعهم ، من حيث أحكام الصفات والأحوال الغالبة عليهم ، بحكم هذه الأمور المذكورة ؛ فإنّ وجهة كلّ متوجّه هدف سهم إشارته حال توجّهه.

وقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فنقول في إيضاح سرّ ذلك : لأصل شجرة الحضرة الإلهيّة فروع يسري في كلّ فرع منها من سرّ الألوهيّة ، (٤) بالسراية الذاتيّة من الذات المقدّسة قسط بمقدار ما يحتمله ذلك الفرع من أصله ألا وإنّ تلك الفروع هي الأسماء الإلهيّة ، ألا وإنّ تلك السراية الذاتيّة الأصليّة عبارة عن سريان التجلّي الذاتي في مراتب أسمائه ، بحسب ما تقتضيه مرتبة كلّ اسم منها ، ولذلك قلنا غير مرّة : إنّ كلّ اسم من وجه عين المسمّى ، ومن وجه غيره ،

__________________

(١) الرعد (١٣) الآية ١٦.

(٢) ه : في قوله.

(٣) ق : عليه.

(٤) ق ، ه : الألوهة.

٢٣١

وفصّلنا في ذلك ما يغني عن إعادة الخوض فيه والإطناب.

ولمّا كان كلّ اسم من أسماء الحقّ سببا لظهور صنف مّا من العالم ، كان قبلة له ، فاسم ظهرت عنه الأرواح ، وآخر ظهرت عنه الصور البسيطة بالنسبة ، وآخر ظهرت عنه الطبائع والمركّبات ، وكلّ واحد من المولّدات أيضا ظهر باسم مخصوص عيّنته مرتبة الظاهر به ، بل حال المظهر واستعداده الذاتي غير المجعول ، ثم صار بعد قبلة له في توجّهه وعبادته لا يعرف الحقّ إلّا من تلك الحيثيّة ولا يستند إليه إلّا من تلك الحضرة ، وحظّه من مطلق صورة الحضرة بمقدار نسبة ذلك الاسم من الأمر الجامع لمراتب الأسماء كلّها والصفات.

وأمّا الإنسان فلمّا توقّف ظهور صورته على توجّه الحقّ بالكلّيّة إليه حال إيجاده ، وباليدين ، كما أخبر سبحانه ولإحدى يديه الغيب ، وللأخرى الشهادة ، وعن الواحدة (١) ظهرت الأرواح القدسيّة ، وعن الأخرى ظهرت الطبيعة والأجسام والصور ، ولهذا كان الإنسان جامعا لعلم الأسماء كلّها ومنصبغا بحكم حضراتها أجمع ، ما اختصّ منها بالصور وكلّ ما يوصف بالظهور ، وما اختصّ منها بكلّ ما بطن من الأرواح وغيرها ، ممّا يوصف بالغيب والخفاء ، فلم يتقيّد بمقام يحصره حصر الملائكة ، كما أشارت بقولها : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ). (٢) ولا حصر الأجسام الطبيعيّة ، وبذا وردت الإخبارات الإلهيّة بلسان الشرائع وغيرها فتوجّه الإنسان الحقيقي ـ إن تحرّر من رقّ المقامات ، وارتقى وخلص بالاعتدال الكمالي الوسطي عن أحكام جذبات الأطراف والانحرافات ـ إلى حضرة الهويّة التي لها أحديّة جمع الجمع ، المنعوتة بالظهور والبطون ، والأوّليّة والآخريّة والجمع والتفصيل ، وقد مرّ للمتأمّل في الحديث عنها ما قدّر ذكره وبيانه ، وسنزيد ذلك تفصيلا ، ـ إن شاء الله تعالى ـ

وإن مال ـ أعني الإنسان ـ عن الوسط المشار إليه إلى طرف لمناسبة جاذبة قاهرة ، وغلب عليه حكم بعض الأسماء والمراتب فانحرف ، استقرّ في دائرة ذلك الاسم الغالب ، وارتبط به وانتسب إليه ، وعبد (٣) الحقّ من حيث مرتبته ، واعتمد عليه ، وصار ذلك الاسم منتهى مرماه وغاية مبتغاه ووجهه (٤) من حيث حاله ومقامه ، حتى يتعدّاه.

__________________

(١) ه : الواحد.

(٢) الصافّات (٣٧) الآية ١٦٤.

(٣) ق : عند.

(٤) ه : وجهة ، ق : وجهته.

٢٣٢

ولمّا كانت مراتب الأسماء مرتبطا بعضها بالبعض ، وأحكامها مشتبكة متداخلة بالتوافق والتباين الموضحين حكمي الإبرام والنقض ، صارت أحوال الخلق ـ من حيث هم تحت حكم هذه المراتب ، ومحلّ آثارها ـ متفاوتة مختلفة ؛ لأنّ اجتماعات تلك الأحكام الأسمائيّة تقع في المراتب الوجوديّة على ضروب ، فتحصل بينهما كيفيّات معنويّة ، مقرونة بتقلابلات (١) روحية ، فيحدث في البين ما يشبه المزاج في كونه متحصّلا عن تفاعل كيفيّات ناشئة عن امتزاج واقع بين الطبائع المختلفة وقواها. ونظيرها هناك التقابل والتباين اللذين (٢) بين الأسماء ، فتظهر الغلبة لبعض المراتب الوجوديّة والأسمائيّة ، كغلبة بعض الطبائع هنا على البعض ، حتى يقال : هذا مزاج صفراوي ودموي وغير ذلك. ويقال : هناك زيد عبد العزيز ، وآخر عبد الظاهر ، وآخر عبد الباطن ، وآخر عبد الجامع ، وآدم في السماء الأولى ، وعيسى في الثانية ، وإبراهيم في السابعة ونحو ذلك.

ثم إنّه يحصل بين تلك الأمزجة المعنويّة والروحانيّة وبين هذه الأمزجة الطبيعيّة اجتماع آخر ، تظهر له أحكام مختلفة تنحصر (٣) في ثلاثة أقسام : قسم يختصّ بمن غلبت عليه أحكام روحانيّته (٤) على أحكام طبيعته (٥) ، حتى صارت قواه الطبيعيّة تابعة لقواه الروحانيّة وكالمستهلكة فيها ، وقسم يختصّ بجمهور الخلق وهو عكس ما ذكرنا ؛ فإنّ قواهم وصفاتهم الروحانيّة مستهلكة تحت حكم قوى طبائعهم ، وقسم ثالث يختصّ بالكمّل ومن شاء الله من الأفراد ، وآيتهم (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٦) فافهم ؛ فهذا مقام لا يحتمل البسط.

ثم نقول : فيظهر لما قلنا بحسب الغلبة المذكورة حكم ما يقتضيه وصف الأمر الغالب من المراتب والأسماء والطبائع ، وإن لم يخل المحلّ عن حكم الجميع ، لكن إنّما ينتسب لمن ظهرت له السلطنة عليه ، فمنزّه ، ومشبّه ، وجامع بين التنزيه والتشبيه ، ومشرك ، وموحّد ، وغير ذلك.

__________________

(١) في بعض النسخ : متقابلات.

(٢) ق ، ه : الذي.

(٣) ه : تخسر.

(٤) ق ، ه : روحانية.

(٥) ه : طبيعية.

(٦) طه (٢٠) الآية ٥٠.

٢٣٣

فتفرّعت لما ذكرنا الآراء المتباينة ، والأحوال المختلفة (١) ، والمنازل المتفاوتة ، والمقاصد والتوجّهات ، فمن عرف مراتب الوجود وحقائق الأسماء عرف سرّ العقائد والشرائع والأديان والآراء على اختلاف ضروبها وكيفيّة تركيبها وانتشائها ، وسنلمع لك بيسير من هذا الباب ، فاتّخذه أنموذجا ومفتاحا ، تعرف سرّ ما أشرنا إليه ـ إن شاء الله ـ

__________________

(١) ه : المخلقة.

٢٣٤

وصل

في قبلة العقول والنفوس والإنسان

اعلم ، أنّ قبلة العقول مطلقا أحديّة معنى الأمر ، لكن من حيث استنادها إليه ، لا من حيث هو.

وقبلة النفوس التجلّي الكثيبيّ ، وله آخر درجات الظهور ، وأوّل درجات باطن الظاهر. وللمشبّهة أحد وجهي هذه (١) الدرجة ، وما اتّصل بها من التجلّي البرزخيّ المشار إليه ، ويختصّ بإنسانيّة روح الأمر. وقبلة أهل السنّة والجماعة ومن شاء الله من أهل الشرائع الماضية روح الأمر ومرتبته معا ، وله تنزيه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢) وتشبيه «اعبد الله كأنّك تراه». (٣) وأعلى مراتبه ظاهر العماء.

وقبلة العارفين وجود مطلق الصورة الربّانيّة ، وظاهر الحقّ.

وقبلة المحقّقين وجود الحقّ ، ومرتبته الجامعة بين الوجود والمراتب من غير تفرقة وتعديد.

وقبلة الراسخين مرتبة (٤) الحقّ من حيث عدم مغايرتها له وانضياف صورته سبحانه ـ التي حذى آدم عليها ـ إليها ، ولها حضرة أحديّة الجمع ، فافهم.

وأمّا قبلة الإنسان ـ الحقيقي ، الذي هو العبد الأخلص الأكمل ـ فقد مرّ ذكرها آنفا عند الكلام في الوجهة والتوجّه ، لكنّني تركت من أسراره ما يجلّ وصفه ، ويحرم كشفه ، مع أنّي

__________________

(١) ه : هذا.

(٢) الشورى (٤٢) الآية ١١٠.

(٣) جامع المسانيد ، ج ٢٨ ، ص ٤٢٨.

(٤) ه : مرتبته.

٢٣٥

قد ألمعت بطرف منه في آخر ما ذكرته في مجازاة العبد المخلص ، وقبل ذلك في سرّ الحضور مع الحقّ ، على الوجه الأتمّ ، وبيّنت (١) منه نكتا نفيسة في مواضع متفرّقة من هذا الكتاب ، يتفطّن (٢) لها اللبيب ـ إن شاء الله ـ

__________________

(١) ه : تثبت ، ق : يثبت.

(٢) ق : يفطن ، ه : تفطن.

٢٣٦

وصل

العبادة الذاتيّة ، والصفاتيّة

لتعلم بعد استحضارك ما مرّ أنّ للإنسان عبادتين : عبادة ذاتيّة مطلقة ، وعبادة صفاتيّة مقيّدة.

فالذاتيّة : قبول شيئيّته الثابتة المتميّزة في علم الحقّ أزلا للوجود (١) الأوّل من موجده ، وإجابته لندائه ، وامتثاله للأمر التكويني المتعيّن ب «كن» وهذه العبادة مستمرّة الحكم من حال القبول الأوّل والإجابة والنداء المشار إليه لا إلى أمد متناه ، فإنّه من حيث عينه ومن حيث كلّ حال من أحوالها مفتقر إلى الموجد دائما ، لانتهاء مدّة الوجود المقبول في النفس الثاني من زمان تعيّنه وظهوره ، والحقّ ممدّه دائما بالوجود (٢) المطلق المتعيّن والمتخصّص بقبول الإنسان من الأسماء وغيره من الممدودين به ، والحركات والأفعال التي لا تعمّل للإنسان فيها والأنفاس أيضا من لوازم هذا القبول ومن جملة صور هذه العبادة.

والعبادة المقيّدة الصفاتيّة تختصّ بكلّ ما يظهر عن ذات العابد من حيث حكم صفاته أو خواصه أو لوازمه من حال أو زمان معيّن ذي بداية ونهاية وغيرهما.

وتختصّ بهذه العبادة أيضا عبوديّة الأسباب الكونيّة ، وتفاوت الخلق فيها ، بحسب غلبة أحكام الصفات على حكم الذات وحكم ما يناسبها ـ أعني الصفات ـ من الأمور المؤثّرة في الإنسان الذي هو منفعل لها ، ومنجذب بالقهر ـ الذي هو الاستعباد في الحقيقة ـ إليها ، فإنّك عبد ما انفعلت له وظهر عليك سلطانه ، ولهذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تعس عبد الدينار ، تعس عبد

__________________

(١) ق ، ه : الوجود.

(٢) ق : بوجوده.

٢٣٧

الدرهم ، تعس عبد الخميصة».

والضابط في هذا المعنى : أنّ التأثير مطلقا ـ حيث كان ـ لسرّ الربوبيّة ، والانفعال مطلقا لمعنى العبوديّة ، وقد أسلفنا أنّ الكامل لا يؤثّر أصلا ، إنّما هو مرآة تامّة صحيحة الهيئة ، يظهر كلّ منطبع فيها بحسب ما هو عليه في نفسه ، فاذكر ، تعرف سرّ ما سبقت الإشارة إليه.

وهاتان العبادتان هما في مقابلة رحمة الوجوب ، ورحمة الامتنان المذكورتين من قبل ، وكما أنّ في رحمة الوجوب رائحة التكليف ، ورحمة الامتنان مطلقة لا إيجاب فيها ولا التزام ، كذلك العبادة الذاتيّة التي لا تكليف فيها ، وليست من نتائج الأمر ، وإنّما متعلّق الأمر والتكليف العبادة المقيّدة الصفاتيّة ، المشار إليها رأفة من الله ورحمة ، واحتياطا وتحذيرا من ميل الإنسان بجاذب إحدى صفاته إليها ، فيحصل (١) بذلك الميل الذاتي لتلك الصفة الغلبة على غيرها من الصفات ، بحيث تستهلك أحكام باقي الصفات التي بظهور سلطنتها يحصل الاستكمال المتوقّف على حفظ الصحّة والاعتدال الروحاني والمعنوي ، المختصّ بالمزاجين المتحصّلين من الاجتماعات الواقعة بين الأرواح وقواها الباطنة ، وبين الصفات وغيرها من المعاني المجرّدة ، وقد سبق التنبيه على ذلك في تفسير اسم «الربّ» منذ (٢) قريب ، فاذكر.

العمل والعبادة

ثم نقول : اعلم ، أنّ العمل جسد وروحه العبادة ، فالعمل يطلب الثواب من جنّة وغيرها ، لكن لا مطلقا ، بل من حيث يستند إلى أصل وحدانيّ المرتبة ، شامل الحكم. والعبادة تطلب المعبود. والعبادات من أحوال الروح ، والأعمال تختصّ (٣) بالبدن ، أو بما تنضاف إلى الروح باعتبار تعلّقه بالبدن وتلبّسه بأحكامه الطبيعيّة ، وظهوره بحسب أحكام أصباغها ، وحضور العبد بصفة الذلّ بين يدي عزّ ربّه في كلّ فعله من طاعة وغيرها من أحوال العارفين الذين يصدرون الأعمال مصحوبة بالحياة الرفيعة ، التي أوجبها علمهم وحضورهم مع مشهودهم ،

__________________

(١) ه : فتحصل.

(٢) ه : ومنذ.

(٣) مختصّ.

٢٣٨

فيعلو العمل إلى منتهى مرقاة من المرتبة التي تستند إليها معرفتهم وشهودهم وتوجّههم ، كما نبّهت على ذلك في تفسير (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) عند الكلام على مراتب العمّال ومجازاتهم ، فاكتف واستبصر.

قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)

اعلم ، أنّه قد ذكرنا في لفظة «إيّاك» ما يقتضيه حكم اللسان وما لا حاجة إلى إعادته ، أو ذكر مثله ، كما لا حاجة أيضا إلى ذكر كلّيّات أسرار بقيّة السورة ؛ لأنّا إنّما الكتاب بالكلام على الأصول الكلّيّة ، وأمّهات الحكم والعلوم والأسرار العليّة ، ليكتفي بها اللبيب حيثما أحيل عليها ، فإنّ المقصود الإلماع والإيجاز ، لا التصريح والإطناب ، فهذه أصول ومفاتيح كلّيّة من فهمها وعرف كيف يطّرد حكمها فيما هو فرع عليها وتبع لها ، عرف معظم أسرار القرآن العزيز ، بل وسائر الكتب ، فلا تتّكل بعد على البسط للكلام (١) منّي ، فقد اتّكلت على مزيد فهم وتأمّل منك ـ إن شاء الله تعالى ـ وإنّما أذكر فيما بعد عقيب الفراغ من وظيفة الظاهر ما تتضمّنه بقيّة السورة مما يختصّ بكلّ آية آية منها من الحكم والأسرار الباطنة ، وما بعد الباطن كما سبق به الوعد ـ إن شاء الله تعالى ـ ولنشرع ـ بعد هذا التقرير والاكتفاء في ظاهر «وإيّاك» الثاني بما مرّ في «إيّاك» الأوّل ـ في الكلام بلسان الباطن ، فنقول :

اعلم ، أنّ متعلق الإشارة من (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ليس هو متعلّق الإشارة من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ؛ لأنّ الأوّل إشارة إلى الأمر الذي ثبت استحقاقه للعبادة عند العابد ، (٢) وصار منتهى مدى مقصده ووجهته ، بحسب علمه أو شهوده ، أو اعتقاده المتحصّل من موادّ الظنون والتخيّلات المنبّه عليها من قبل.

ومتعلّق الإشارة من (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ليس مطلق ذلك المعبود من كونه معبودا فقط ، بل من حيث إنّ له صلاحيّة أن يعين من يعبده فيما لا يستقلّ به العابد إذا طلب الإعانة منه ، وفي طلب الاستعانة من العبد دعوى ضرب من الاستطاعة ، بصورة تعريف بحالة في العبادة ، وعلمه بمكانة المعبود ، وما يعامل به ، مع اعتراف خفيّ بعدم الاستقلال ، وكأنّه يقول : أجد

__________________

(١) ق ، ه : الكلام.

(٢) ق : القابلة.

٢٣٩

عندي قوّة على تحصيل مطالبي ، لكنّي غير متيقّن (١) ولا جازم أنّها وافية بتحصيل الغرض ، فلا مندوحة عن معاونة منك لما عندي من التمكّن ؛ لأنّ المعونة منك إذا اتّحدت بما عندي من القوّة ، رجوت الفوز بالبغية (٢) ، والوفاء بحقّ العبادة ، وإنّي شاكرك على ما منحتني من القوّة ، وجدت بها عليّ ابتداء دون سؤال منّي ، وبها تمكّنت من طلب العون منك ، رجاء القيام بحقّك ، والانفراد لك دون تردّد فيك ، و (٣) تعرّض إلى غيرك. هذا لسان مرتبة العبد.

وأمّا لسان الربوبيّة المستبطنة في ذلك من كون الحقّ أنزل هذا على عباده ، وأمرهم بعبادته على هذا الوجه ، فهو أنّه سبحانه لمّا علم أنّ القلوب وإن كانت مفطورة على معرفته والعبادة له واللجأ إليه ، فإنّ الشواغل والغفلات التي هي من خصائص هذه النشأة تذهل الإنسان في بعض الأوقات عن تذكّر ما يجب تذكّره واستحضاره ، فاحتاج إلى التذكير وتعيين ما الأولى له الدؤوب عليه ؛ لأنّ ما لا يتعيّن لا يثمر ولا يؤثّر ، لا جرم أمره تعالى أن يقول بعد تقديم الثناء عليه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تذكيرا له أنّ الذي تجده من العلم والقوّة وغيرهما ، لا تظنّنّ أنّك فيه مستقلّ ، أو لك بشيء من الكمالات اختصاص ، بل ذلك كلّه منّي ولي ، كما قال الكامل المكمّل صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما نحن به وله» ، فالمرتبة الربانيّة تعرّف العبد بتعذّر الاستقلال في الطرفين ، وهذا من غاية العدل حيث ينبّهك الحقّ ذو الجود والفضل والإحسان والنعم التي لا تحصى ، على ما لك من المدخل في تكميل صورة إحسانه ، ويعتدّ لك بذلك ، ويعتبره ولا يهمله ؛ كما قال سبحانه معرّفا منبّها : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) (٤) وهذا من التضعيف ، ثم قال (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٥) ، فافهم ، ترشد ، ـ إن شاء الله تعالى ـ

__________________

(١) ق : مستغن.

(٢) ق : بالغيبة.

(٣) ق ، ه : أو.

(٤) النساء (٤) الآية ٤٠.

(٥) النساء (٤) الآية ٤٠.

٢٤٠