إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

إنّما تخرج من القلب ، وتتفرّع أحكامها وتنفذ في الجوارح ، ثم إلى غيرها بحسب وجوه القلب الآتي ذكرها ، وبحسب ما اتّصف به القلب حال الشروع من الصفات المتعيّنة فيه من غيب الذات ، والظاهرة الغلبة عليه بواسطة إصبعي الرحمن أو اللمّتين أو ما نزل عنهما من الأحكام الروحانيّة والنفسانيّة والطبيعيّة ، جهل تعيّن (١) حكم كلّ من ذلك أو عرف.

والبواعث والأحكام للوجوه (٢) القلبيّة بأجمعها ـ على اختلاف مراتبها ما عدا الوجه الخاصّ ـ غايتها أحد أمرين : إمّا جلب المنافع ، أو دفع المضارّ عاجلا و (٣) آجلا ، صورة ومعنى ، جمعا أو فرادى ، بتعمّل أو بدونه ، كما سبق التنبيه عليه ، لكن تحت ما ذكرنا أقسام دقيقة لا يعرفها إلّا الأكابر ، من جملتها أنّ بعض الأعمال قد يكون حجابا على أحد الأصلين المذكورين ، ويقصد من العامل وبدونه ، بمعنى أنّه قد يصدر من بعض الناس عمل مّا ، فيصير حجابا مانعا من وصول بعض الشرور إليه ، أو وصول خير لو لا ذلك الحجاب ، لحصل لصاحب العمل ، وقد يعلم العامل ذلك ، وقد لا يعلمه ، وقد يعلم فيما بعد.

وللجزاء أيضا رتبتان كلّيّتان : إحداهما : تقتضي سرعة المجازاة في الدنيا ، وعدم تخلّف الجزاء عن الفعل خيرا كان أو ضدّه. والرتبة الأخرى : قد تقتضي تخلّف (٤) الجزاء وتأخيره (٥) إلى أجل معلوم عند الله في الآخرة ، كما نبّه عليه من قبل وعلى بعض ما يختصّ به من الأحكام والأسرار.

فمن الجزاء الخاصّ في الخير المنبّه عليه في الإخبارات النبويّة هو أنّ اتّفاق الكلمة والجمعيّة قرن بينهما (٦) درّ الرزق واستقامة الحال في الدنيا ، وإن كان القوم الذين هذا شأنهم أهل فسوق. وفي رواية أخرى «صلة الرحم». (٧) وفي (٨) أخرى «الدوام على الطهارة». وفي أخرى جمع فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزي بها في الآخرة». وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ، فإذا أفضي

__________________

(١) ق : تعيين.

(٢) ق : أحكام الوجوه.

(٣) ق : أو.

(٤) ق ، ه : بتخلّف.

(٥) ق : تأخّره.

(٦) ق : بهما.

(٧) جامع الصغير ، ج ٢ ، ص ٤٤.

(٨) ق : أيضا وفي.

٢٠١

إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا ، وعيّن صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا في باب السيّئات وعدم تأخير (١) الجزاء عليها بالعقوبة ، قطيعة الرحم ، والبغي وترك النهي عن المنكر مع التمكّن من ذلك.

والجزاء العامّ السريع في الخير تهيئة واستقامة تحصل للقوى القلبيّة والصفات الروحانيّة والطبيعيّة ، فيعقبها انكشاف بعض الحجب وذهاب بعض الموانع الحائلة بين الإنسان وبين إدراك بعض ما في إدراكه ، له خير وراحة في عاجل أو آجل ، معنويّا كان الخير أو محسوسا ، فيحظى من ذلك الخير بمقدار تهيّئه وقبوله وما كتب له منه ، دون بطء ولا تأخير بطء والجزاء العامّ السريع في باب المكروه الحرمان الذي يوجبه إمّا حجاب وارد ، أو عدم ارتفاع حجاب حاصل في المحلّ حاكم عليه ، لو لا ذلك الفعل السيّئ ، لانتهى حكمه وخلأ الإنسان منه ، أو لعدم (٢) حراسة تقي ضرر ما اجتلبه الإنسان إلى نفسه بواسطة الفعل السيّئ وتعرّض له بقبيح العمل.

فهذه الأقسام من نوع الجزاء لا تتأخّر عن الفعل ، بل تترتّب عليه عقيب صدوره من العامل.

ويشتمل هذا المقام على أسرار إلهيّة وكونيّة شريفة جدّا لا يشهدها إلّا الأكابر من أهل الحضور والشهود والمعرفة التامّة ، ويعلمون من تفاصيلها بمقدار معرفتهم التي يتبعها حضورهم.

ومن هذا المقام يشهد من يكشفه على التمام سرّ الأمر الأحدي الجمعي الإلهي ، ثم الرحماني الذي تفرّع منه حكم الإصبعين في إقامة القلب وإزاغته ، ثم حكم الإصبعين من كونهما إصبعين ، ثم اللمّتين ، والأفعال النفسانيّة الطبيعيّة المباحة ، التي لا أجر فيها ولا وزر ، إلّا إذا ظهرت من الكمّل والأفراد ومن شاء الله من المحقّقين الحاضرين مع الآمر حين المباشرة من حيث الأمر ، بمعنى أنّه لو لم يبح له مباشرة ذلك الفعل ، ما باشره ، مع ما أضاف إلى الإباحة بقوله تعالى : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) (٣) و (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ

__________________

(١) ق : تأخّر.

(٢) ق : عدم.

(٣) البقرة (٢) الآية ٥٧.

٢٠٢

ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١) وغير ذلك ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه» (٢) ونحو هذا ؛ فإنّ المباشر للمباح ، الحاضر مع الآمر أو مع الأمر من كونه أمرا يوجر على كلّ مباح ، ويكتب في ارتكابه إيّاه من الطائعين الممتثلين أوامر سيّدهم ، وقد ورد ما يؤيّد ما ذكرناه في الحديث الثابت لمّا نبّه عليه‌السلام (٣) بعض الصحابة عيل هذا السرّ ، وأخبره أنّه له في إتيان أهله أجرا ، فتعجّب الصحابي من ذلك ، فقال ما معناه : ألي في وضع شهوتي أجر؟ فقال عليه‌السلام : «نعم ، أرأيت لو وضعتها في حرام أكان عليك فيها وزر؟» فقال : نعم ، قال : «فكذلك إذا وضعتها في حلال كان لك أجر» أو كما قال عليه‌السلام. ويمتاز الكمّل والأفراد فيما ذكرنا عمّن سواهم بحال وحضور (٤) وظهور علم زائد على ما نبّهنا عليه يختصّون به ، ربما نلوّح (٥) بطرف منه فيما بعد ، إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) المائدة (٥) الآية ٨٧.

(٢) جامع المسانيد ، ج ٢٩ ، ص ٢٢.

(٣) ق : (ص).

(٤) ق : بحضور.

(٥) ق : فلوح.

٢٠٣

تتمّة

متضمّنة كشف سرّ سائر الأوامر والنواهي

التي قرن بها العذاب الأخروي و (١) النعيم

اعلم ، أنّ حاصل سائر الأوامر والنواهي الشرعيّة الواصلة من الحقّ إلى الخلق في كلّ عصر بواسطة رسول (٢) ذلك العصر هو التعريف بما تتضمّنه الأحوال والأقوال والصفات والأفعال الإنسانيّة الظاهرة والباطنة ، من الخواصّ والثمرات الناتجة عنها ، والمتعيّنة صورها في طبقات السماوات والبرزخ والحشر والجنّة والنار وحيث شاء الله ، إثباتا ومحوا ، وضررا (٣) ومنفعة ، وغلبة ومغلوبيّة ، بواسطة اشتراك حكم الرحمة والغضب الإلهيّين موقّت حسّا (٤) وخيالا ، وروحا ومثالا. فافهم هذا ؛ فإنّه من أعزّ الأسرار الإلهيّة المختصّة بالمقام المتكلّم فيه والمترجم عنه.

ولمّا اطّلعت عليه ، عرفت الأسباب المعيّنة للغضب والرحمة ، وصورة ظهور حكميهما لها ، وانطباعهما فيها انطباع الصور في المرآة.

وعاينت سرّ (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) (٥) وسرّ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٦) و «المحسنين» و «المتقين» وغير ذلك.

__________________

(١) ه : للآخر أو النعيم.

(٢) ه : رسول الله.

(٣) كذا.

(٤) ه : حسنا.

(٥) الزخرف (٤٢) الآية ٥٥.

(٦) البقرة (٢) الآية ٢٢٢.

٢٠٤

وعرفت سرّ النعيم والعذاب المعجّل والمتطاول المدّة وسريع الزوال ، وسرّ تبديل السيّئات الحسنات ، وسرّ «إنّما هي أعمالكم ترد عليكم» وسرّ قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (١) وسرّ (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). (٢)

ورأيت الأفعال ـ إذا تعيّنت صورها في باطن الإنسان أو ظاهره ـ صارت مرآة لغضب الحقّ أو رحمته كما قلنا ، لكن من غير تغيّر وتجدّد حال في الجناب الأقدس ، مع حدوث ظهور التعيّن والأثر بما يلائم وما لا يلائم.

ورأيت أيضا سرّ الحلّ والحرمة في كلّ عصر وأمّة وبالنسبة إلى كلّ شخص أيضا في وقت واحد ، وحال مخصوص ، أو في حالين ووقتين مختلفين.

ورأيت صورة (٣) انبعاث الشرائع وتعيّن أحكامها بحسب أحوال الأمم والأعصار.

ورأيت الأوامر والنواهي المقصورة الحكم على هذه الدار وهذه النشأة ، والمختصّة بمصالحهما الكلّيّة والجزئيّة ولوازمهما.

ورأيت المتعدّية الحكم إلى الآخرة تنقسم إلى اربعة أقسام : قسم ينتهي حكمه في أثناء زمان المكث البرزخي ، أو ينتهي بانتهاء البرزخ ؛ وقسم ينتهي حكمه في أثناء زمان الحشر ، (٤) أو ينتهي بانتهاء يومه ؛ وقسم ينتهي في أثناء زمان سلطنة جهنّم على من دخلها ، أو ينتهي بانتهاء حكمها في غير المخلّدين ؛ وقسم يختصّ بأهل الجنّة وبمن قيل فيهم : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٥).

وهنا بحار زاخرة ، وأسرار باهرة ، لو خلّي كشفها ، لظهر ما يحيّر الألباب ، ويبدي العجب (٦) العجاب.

ويعلم من هذا المقام أيضا الجزاء الأبدي المستمرّ الحكم في الشرّ والخير ، والثابت إلى أجل متناه ، وسرّ المجازاة على الخير والشرّ والموازنة بالمثل في الشرّ والتضعيف في الخير إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف وما شاء الله من الزيادة بحساب ، (٧) وسرّ المجازاة على

__________________

(١) الأنعام (٦) الآية ١٤٩.

(٢) الإسراء (١٧) الآية ١٥.

(٣) لم ترد في بعض النسخ.

(٤) ه : الخسر.

(٥) الحجر (١٥) الآية ٤٨.

(٦) ه : عجب.

(٧) ق : بغير حساب.

٢٠٥

بعض الأعمال لبعض العاملين في الدنيا والآخرة ، وفي الآخرة دون الدنيا ، وبالعكس ، والمجعول هباء منثورا ، حتى لا يبقى لعين العمل صورة تترتّب (١) عليها مكافأة بالخير.

ويعلم أيضا من كمل له التحقّق (٢) بهذا المقام المشار إليه سرّ (٣) المرتفع عن مراتب المجازات والموازنات المتعيّنة ، المنبّه عليها وتبيانه (٤) (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٥) ومثله ممّا ورد وثبت ، فإنّ هذا الصنف من الأعمال لا يتعيّن له جزاء معلوم لغير من ظهر به ، فإنّه إلهي باق على أصله لا تعلّق له بسوى الحقّ ، ولسان حكمه من باب الإشارة لا التفسير (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) (٦).

وقد لوّحت بطرف من هذا فيما مرّ في باب الحمد وتنزّل الجزاء على الحامدين بحسب علومهم ومعتقداتهم في المحمود ومراتبهم وحظوظهم عنده ؛ فإنّها متعلّقات هممهم وقبلة مقاصدهم منه ، وبيّنت (٧) أنّ ثمّة من ليس لقصده وهمّته والأفعال المنسوبة إليه والظاهرة به من حمد وغيره غاية ولا مستهدف سوى الحقّ المطلق ، فجزاء مثل هذا خارج عن المراتب والأقسام المعروفة ، فليلمح من هناك على أنّه سنزيد لذلك (٨) بيانا عن قريب ، ـ إن شاء الله تعالى ـ

ويعلم أيضا من هذا المقام سبب اختلاف الأعمال ـ من حيث هي أعمال للمسمّين عاملين ـ والمقامات التي يستقر فيها الأعمال في آخر مدى ارتفاعها ورفعها ، وما أوّل تلك المقامات منها ، وأيّها (٩) أغلب حكما بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة وبالنسبة إلى الأعمال الباطنة أيضا ، وما أعلاها وآخرها ، وما المقام الذي ينزل منه الجزاء الكلّي الأحدي المتنوّع والمنقسم بحسب مراتب الأعمال المختلفة الظاهرة في الأوقات المختلفة بالعاملين المختلفى المقاصد والعلوم والعقائد والتوجهات والأحوال والمواطن والمقامات والأزمان والنشآت.

__________________

(١) ه : يترتّب.

(٢) في بعض النسخ : التحقيق.

(٣) ق : سرّ العمل.

(٤) ق : لسانه.

(٥) الأنفال (٨) الآية ١٧.

(٦) يوسف (١٢) الآية ٧٥.

(٧) ق : يثبت.

(٨) ق : ذلك.

(٩) ق : إنّها.

٢٠٦

وهذا المقام ـ المترجم عن بعض أحكامه وخصائصه ـ يحتوي على نحو ثلاثة آلاف مقام أو أكثر ، وله أسرار شريفة نزيهة تعزّ معرفتها ، ويقلّ وجدان الواقف عليها ، ولو لا أنّ الخوض في تفصيل أمّهاتها يحتاج إلى فضل بسط ، (١) ويفضي (٢) إلى إيضاح ما يحرم كشفه من أسرار الربوبيّة ، لظهر ما يدهش العقول والبصائر ، ويشرح الصدور والسرائر ، ولكن لا مظهر لما شاء الحقّ إخفاءه (٣) من أسراره المستورة ولا كاتم لما أحبّ بروزه وظهوره.

ثم نعود إلى إتمام ما وقع الشروع في إيضاحه أوّلا ، فنقول : وأمّا وجوه القلب ، المشار إليها آنفا فخمسة على عدد الحضرات الأصليّة المذكورة ، ولا يمكن أن يصدر من أحد فعل مّا من الأفعال إلّا ولا بدّ أن يكون ذلك الفعل منصبغا بحكم أحد هذه الوجوه أو كلّها.

فالوجه الواحد منها يقابل غيب الحقّ وهويّته وهو المسمّى بالوجه الخاصّ عند المحقّقين الذين ليس للوسائط ـ من الصفات والأسماء وغيرهما ممّا نزل عنهما ـ فيه حكم ولا مدخل ، ولا يعرفه و [لا] يتحقّق به إلّا الكمّل والأفراد وبعض المحقّقين ، ولهذا الأمر ـ من حيث الوجه الذي يقابله من قلب الإنسان وغيره ـ في الوجود الظاهر مراتب ومظاهر وآيات من جملتها الأوّليّات : كالحركة الأولى ، والنظرة ، والخاطر ، والسماع ، وكلّ ظاهر أوّل ممّا لا يخفى على أهل الحضور. ولا يترتّب شرعا ولا تحقيقا في جميع العالم (٤) على هذا الوجه وما يخصّه حكم ، ولا يدخل تحت قيد ؛ فإنّه إلهي باق على حكم التقديس الأصلي ، ولا يتطرّق إليه شكّ ولا غلط ولا كذب أصلا.

والمتحقّق بهذا الوجه متى راقب قلبه مراقبة لا تتخلّلها فترة بعد معرفته سرّ التجدّد والخلق الجديد في كلّ نفس ، حكم بكلّ ما يخطر له ، وأصاب ولا بدّ ؛ فإنّه لا تكرّر عنده ، كما لا تكرار في حضرة الحقّ. وصاحب هذا ، المشهد والمقام كلّ خواطره وإدراكاته واقعة بالحقّ في مرتبته (٥) الأوّليّة ، فالأفعال الصادرة منه من حيث جميع مشاعره وحواسّه تترتّب وتبتني على هذا الأساس الإلهي ، فلا يصدر منه إلّا جميل حسن وما يوجب رفع الدرجة ومزيد القرب في عين القرب ، لكن من باب المنّة والإحسان لا المجازاة ؛ فإنّ أعمال

__________________

(١) ق : بسيط.

(٢) ه : يقضي.

(٣) ه : أخفاه.

(٤) ق : العوالم.

(٥) ه : مرتبة.

٢٠٧

صاحب هذا المقام الصادرة على هذا الوجه قد ارتفعت ـ كما ذكرنا من قبل ـ عن مراتب الجزاء. وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى : (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١) وبقوله (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٢) وبالتنبيه المضمّن في قصّة كتب الفجّار والأبرار ـ التي هي جرائد أعمالهم ـ وكون الواحد في سجّين ، والآخر في علّيّين ، ولم يذكر للمقرّبين كتابا ، ولم ينسب إليهم غير الشهود واختصاصهم بالعين التي يطيب ويشرف بها مشرب الأبرار ، فافهم.

ومن هذا المقام قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) (٣) الآية. وهذه الحالة المذكورة لصاحب هذا المقام إحدى علامات من كان الحقّ سمعه وبصره ، وإحدى علامات صاحب قرب الفرائض أيضا باعتبار آخر يعسر شهوده وتصوّره إلّا للندّر.

والوجه الثاني من وجوه القلب يحاذي عالم الأرواح ، ويأخذ به صاحبه عنها ، وتنتقش فيه منها بحسب المناسبة الثابتة بينه وبينها ، وبحسب طهارة الوجه وصقاله ، الذي (٤) بهما تظهر صحة النسبة وتحيا رقيقة الارتباط ، التي هي كالأنبوب والمرزاب الذي يمرّ عليه الفيض ، ويسري فيه ، ويصل به إلى مستقرّه من القابل. وزكاته وصقاله (٥) بالتحلّي بالأخلاق المحمودة واجتناب المذمومة وعدم تمكين القوى الطبيعيّة من الاستيلاء على القوى الروحانيّة وإطفائها بظلمتها وتكديرها أشعّة أنوارها ، حتى تضمحلّ أحكامها وآثارها بقهر الأحكام الطبيعيّة المضادّة لها.

وهذا الشرط ـ أعني حفظ صحّة أحكام كلّ وجه وحالة (٦) والصفات المختصّة به من الغلبة المحذورة من الضدّ ومن الانحراف عن اعتداله الوسطي إلى طرف الإفراط و (٧) التفريط ـ معتبر في كلّ وجه من هذه الوجوه ، فزكاة الوجه الأوّل المقابل لغيب الحقّ بصحّة المسامتة وخلوّه عن كلّ قيد وحكم كوني ورقيقة إطلاقه عن القيود وطلسته ، (٨) وعروه عن النقوش ، وحياة تلك الرقيقة بدوام الافتقار المحقّق والتوجّه الذاتي العاري عن

__________________

(١) الصافّات (٣٧) الآية ٣٩ ، ٤٠.

(٢) سبأ (٣٤) الآية ١٧.

(٣) الفتح (٤٨) الآية ٢.

(٤) كذا في الأصل. والصحيح بقرينة «بهما» : اللذين.

(٥) ق : صقالته.

(٦) ه : حاله.

(٧) ق : أو.

(٨) الطلسة : غبرة في سواد ، السحابة الرقيقة.

٢٠٨

التعمّل والتكلّف.

والوجه الثالث يقابل به صاحبه العالم العلويّ ، وقبوله لما يريد الحقّ إلقاءه إليه من حيث هو يكون بحسب صور هذا الإنسان التي له في كلّ سماء ، كما نبّه على ذلك السيّد الحبر (١) ابن عباس رضي الله عنه ووافقه عليه المحقّقون من أهل الله وخاصّته قاطبة.

وزكاة هذا الوجه وإحياء رقيقته هو بما مرّ ذكره في وجه الأرواح ، وبحفظ الاستقامة في الأوصاف الظاهرة الحفظ المتوسّط المانع من التفريط والإفراط. ولن يتحقّق أحد بذلك ما لم يعرف نسبته من كلّ عالم ، ويراعي (٢) حكم الموازنة والمناسبة في ذلك ، ويتفصّل (٣) له ـ ذوقا ـ ما أجملت الشريعة الإلهيّة الحقّة (٤) ذكره ، وتكفّلت السيرة النبويّة المحمديّة الكماليّة ببيانه (٥) بالفعل والحال بعد الإفصاح عنه مجملا ، فحينئذ متى (٦) حكم ، أصاب ، وعرف كيف يتحرّى طريق الجزم والصواب ، والله المرشد.

والوجه الآخر يقابل به عالم العناصر ، وتزكيته وإحياء رقيقته (٧) أيضا معلوم بالموازين الربانيّة المشروعة والمعقولة ، وعمدته أمران :

أحدهما : استعمال الحواسّ والقوى فيما تتعيّن المصلحة فيه حسب الاستطاعة والإمكان وتقديم الأهمّ فالأهمّ والمبادرة إلى ذلك.

والآخر : كفّها عن كلّ ما ليس بمهمّ ، فضلا عن استعمالها في الفضول وما لا ينبغي استعمالها فيه ، أو يجب الاحتراز عنه.

والوجه الآخر يقابل عالم المثال ، وله نسبتان :

نسبة مقيّدة ، وتختصّ بعالم الخيال (٨) الإنساني ، (٩) وطهارته تابعة لطهارة الوجه المتقدّم ، المختصّ بعالم الحسّ والشهادة ، فينضمّ (١٠) إلى ذلك تحسين المقاصد حال تصوّرها وامتشائها في الحسّ المشترك ، والحضور مع الخواطر ، ومحو ما لا يستحسن منها ؛ فإنّ هذه

__________________

(١) ه : الخبر.

(٢) كذا في الأصل. والصحيح : لم يراع (أو) يراع.

(٣) ق : ينفصل.

(٤) ه : الحققة.

(٥) ه ، ق : بيانه.

(٦) ق : هي.

(٧) ه : رقيقة.

(٨) ق : ه ، خيال.

(٩) ق : الإنسان.

(١٠) ق : فمنضمّ.

٢٠٩

أمور يسري حكمها فيما يصدر عن الإنسان من الأعمال والأنفاس وغيرهما.

وهكذا الأمر في الحسّ الظاهر ، وقد نبّهنا على ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أصدقكم رؤيا ، أصدقكم حديثا» ؛ فإنّ الخيال لا ينتقش فيه إلّا ما انتقل إليه من عالم الحسّ ، فإن اختلف فمن حيث تغيّر التركيب وتجدّده. وأمّا المفردات فمستفادة من الحسّ لا محالة ، فمن صحّ (١) وجه حسّه وقواه الحسّية ، صحّ له وجه خياله.

والنسبة الأخرى تختصّ (٢) بعالم المثال المطلق ، وكمال استقامتها ـ من حيث حصّة (٣) الإنسان منها ـ ناتج عن استقامة الوجوه الثلاثة المذكورة بعد الوجه الغيبي وصحّتها ، فاعلم ذلك.

__________________

(١) ق : صحح.

(٢) ه : يختصّ.

(٣) في بعض النسخ : صحّة.

٢١٠

فصل

يتضمّن الكلام على ما تبقى من أسرار معاني لفظة

«الدّين» وبيان سرّ التكليف وحكمته ، وأصل منشئه

وما يتعلّق بذلك من الأمور الكلّيّة (١) واللوازم المهمّة

بلسان مقام المطلع وأحديّة الجمع

مقدّمه

ولنقدّم قبل الشروع في الكلام على ما ترجمنا عليه مقدّمة تنبّه على نكت مفيدة مهمّة يجب التنبيه عليها ، فنقول :

اعلم ، أنّ سرّ كلّ شيء هو ما خفي من شأنه ، أو بطن منه ، سواء كان الباطن أمرا وجوديّا يمكن أن يدرك ببعض الحواسّ أو كلّها ، كتجويف باطن قلب الإنسان مثلا وما فيه من البخار بالنسبة إلى ظاهر جلدة بدنه ، وكدهن اللوز ونحوه مثلا بالنسبة إلى صورة اللوز ، أو كان أمرا معنويّا كالقوى والخواصّ التي أودعها الحقّ سبحانه وتعالى في الأرواح وغيرها ، بالنسبة إلى المظاهر والصور الجزئيّة ، التي بها تظهر تلك الخواصّ ، ويكمّل الحقّ بها أفعال تلك القوى ، كالقوّة المسهلة التي في السقمونيا والقوّة الجاذبة للحديد في المغناطيس.

وقد يكون الأمر المضاف إليه السرّ معنى مجرّدا لا ظهور له في الأعيان ، بل يتعقّل في

__________________

(١) ق : الممكنة.

٢١١

الأذهان لا غير ، كالنبوّة والرسالة والدين والتقى والإيمان ونحو ذلك ؛ فإنّ نسبة (١) السرّ إلى (٢) هذه الأمور ليست على نحو نسبته إلى الأمور المتحقّقة الوجود في الأعيان ، فإذا قيل : ما سرّ النبوّة؟ وما سرّ الشريعة؟ وما سرّ الدين؟ فالمراد بالسرّ هنا عند المحقّقين هو أصل الشيء المسئوول عنه ، أو ما خفي من أمره الذي من عرفه علّة ذلك الشيء وخاصّيّته ، وأصل منشئه وسبب حكمه وظهوره ، ولوازمه البيّنة والخفيّة.

وللدين سرّ يعرفه من يعرف حقيقة الجزاء وأحكامه ، وللجزاء سرّ أيضا تتوقّف معرفته على معرفة الأفعال التي يترتّب عليها الجزاء ، وللأفعال أيضا ـ من حيث ما يجازى عليها من نسبت إليه وظهرت منه ـ سرّ تتوقّف معرفته على معرفة التكليف ، فإنّه ما لم يكن تكليف لم يتقرّر أمر ونهي يوجبان تركا أو فعلا ، ومتى لم يتقرّر الأفعال المشروعة المتفرّعة عن الأوامر والنواهي ، لا يتعقّل الجزاء المجعول في مقابلة الأفعال التي هي متعلّقات الأوامر والنواهي ، فالتكليف إذا أصل هذه الأمور المذكورة ، وله أيضا سرّ وحكمة ، سنشير إليه ـ إن شاء الله تعالى ـ ؛ فإنّه قد ذكرنا من سرّ الأفعال والمجازاة وما يختصّ بهما ما قدّر الحقّ ذكره ، ونبّهنا على كثير من الأفعال من الأسرار الإلهيّة ، المتعلّقة بهذا الباب ، وما إذا تأمّله اللبيب وفهمه (٣) ثم استحضره ، لم يعزب عنه شيء من كلّيّات أسرار الدين وأحكامه ولوازمه الأصليّة.

وقد شاء الله أن أختم الكلام على هذه اللفظة من هذه الآية بذكر ما تبقى من أمّهات أسرار الدين ، وأنبّه على أصل التكليف وسرّه وحكمته المعرّفة بمرتبته وثمرته وجلّ جدواه ؛ وفاء بما التزمته في أوّل الكتاب من التنبيه على أصول ما يقع الكلام (٤) عليه في هذا التفسير ، ممّا تتضمّنه الفاتحة ، فأقول :

أصل التكليف وحكمته

كلّ نسبة تعقل بين أمرين ، فإنّ تحقّقها وثبوتها يتوقّف على ذينك الأمرين لا محالة ،

__________________

(١) ه : نسبته.

(٢) في بعض النسخ : على.

(٣) ق : فهم.

(٤) ق : في الكلام.

٢١٢

والتكليف نسبة لا تتعقّل إلّا بين مكلّف قادر قاهر عليم ، وبين مكلّف له صلاحيّة أن يكون محلّا لنفوذ اقتدار المكلّف ، وقابلا حكم تكليفه.

ولمّا علمنا بالله ـ أو قل ـ بما نوّر به سبحانه عقولنا وبصائرنا أنّ له تعالى الكمال المطلق الأتمّ ، بل هو ينبوع كلّ كمال ، ثم عرّفنا بواسطة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال له في كتابه العزيز (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (١) تحقّقنا بما نوّر أوّلا وبما أخبر ثانيا أنّ الأحكام والأفعال الصادرة منه سبحانه تصدر منصبغة بالوصف الكمالي ، فليس منها حكم ولا فعل إلّا وهو كامل ، مشتمل على فوائد وأسرار وحكم شتّى ، لا يحيط بها علم أحد سواه ، وإنّما غاية الخلق وقصاراهم أن يعرفوا اليسير منها بوهب منه سبحانه أيضا ، لا بتسلّط كسبي ، ولا على سبيل الإحاطة بذلك اليسير.

لكن مع هذا لا نشكّ أنّ أفعاله وإن كانت من حيث صدورها منه ونسبتها إليه ـ كما قلنا ـ خيرا محضا ، وكمالا صرفا ، فإنّها متفاوتة في نفسها بحسب مراتب الأسماء والصفات والمواطن والحضرات ، فبعض تلك الأفعال يكون لما ذكرنا أعظم جدوى من البعض ، وأجلّ قدرا ، وأتمّ إحاطة ، وأشمل حكما ، وأكثر استيعابا للحكم والأسرار.

والحكم التكليفي من أجلّ الأفعال والأحكام وأتمّها حيطة ، وأشملها حكما ؛ فإنّه عنوان العبوديّة المنسحبة الحكم على كلّ شيء بسوط (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٢) وقوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٤) ولا شكّ أنّ كلّ مسبّح لله مقرّ بعبوديّته له ، بل نفس تسبيحه بحمده إقرار منه بالعبوديّة لله تعالى إقرار علم ، كما أخبر سبحانه بقوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٥).

فكلّ ما يطلق عليه اسم «شيء» فهو داخل في حيطة هذا الحكم والإخبار الإلهي. وقد أسلفنا من قبل أنّ لكلّ حقيقة أو صفة تنضاف إلى الكون بطريق الخصوصيّة التي هي من خصائص الممكنات ، أو بطريق الاشتراك ، بمعنى أنّه تصحّ نسبتها إلى الحقّ من وجه وباعتبار ، وإلى الكون أيضا كذلك فإنّ لها ـ أي لتلك الحقيقة ـ أصلا في الجناب الإلهي ، إلى

__________________

(١) الإسراء (١٧) الآية ٨٤.

(٢) مريم (١٩) الآية ٩٣.

(٣) الزمر (٣٩) الآية ٦٢.

(٤) الإسراء (١٧) الآية ٤٤.

(٥) النور (٢٤) الآية ٤١.

٢١٣

ذلك الأصل ترجع وإلى الحقّ من حيث ذلك الأصل تستند.

والتكليف من جملة الحقائق وأنّه ظهر بين أصلين ، هما (١) له كالمقدّمتين أو كالأبوين ، كيف قلت ، وهكذا كلّ أمر يظهر في مراتب التفصيل فإنّه لا بدّ وأن يكون ظاهرا بين أصلين في إحدى حضرات النكاحات الخمسة المذكورة من قبل.

فالأصلان الأوّلان : حضرة الوجوب والإمكان أو قل : حضرة الأسماء والأعيان كيف شئت ، والنكاحات قد مرّ حديثها.

وأنت متى رجعت (٢) إلى (٣) ما أسلفناه في بدء الإيجاد وسرّه وسرّ الوحدة (٤) ، تذكّرت (٥) ما بيّنّا من أنّ الأحديّة لا تقتضي إظهار شيء ولا إيجاده ، وأنّ الحقّ من حيث ذاته وأحديّته غنيّ عن العالمين ، لا يناسب شيئا ، ولا يرتبط به ، ولا يناسبه أيضا شيء ، ولا يتعلّق به ، فإنّ التعلّق والمناسبة إنّما ثبتا من جهة المراتب بحكم التضايف الثابت بين الإله والمألوه ، والخالق والمخلوق ، وغير ذلك ممّا هو واقع بين كلّ متضايفين وكلّ مرتبتين هذا شأنهما ، وقد مرّ أنّ الأثر لا يصحّ بدون الارتباط ، والارتباط لا يكون إلّا للمناسبة ، فتذكّر تفصيل ما ذكر في ذلك ، ففيه غنية عن التكرار ، والله المرشد.

ثم نرجع ونقول : فالأصل الواحد الذي يستند إليه التكليف هو الإيجاب الإلهي ، المختصّ بذلك الجناب ، وهو إيجاب ذاتي منه عليه قبل أن يظهر للغير عين ، أو يبدو لمرتبته (٦) حكم.

ولسان مقام هذا الأصل هو الناطق في الكتاب العزيز بقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٧) وبقوله (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) (٨) وبقوله (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) (٩) و (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (١٠) و (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) (١١) ونحو ذلك. في الأخبار النبويّة

__________________

(١) ق : فيما.

(٢) ق ، ه : راجعت.

(٣) ق : لا توجد.

(٤) ه : الواحدة.

(٥) ه : تذكرة.

(٦) ه : لمرتبة.

(٧) الأنعام (٦) الآية ٥٤.

(٨) غافر (٤٠) الآية ٦.

(٩) السجدة (٣٢) الآية ١٣.

(١٠) مريم (١٩) الآية ٧١.

(١١). ق (٥٠) الآية ٢٩.

٢١٤

«وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ» (١) الحديث «وإنّ حقّا على الله أن لا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلّا وضعه» ونحوه ممّا يطول ذكره.

والأصل الآخر ـ الذي منه نشأ التكليف ، وبه ظهر سرّ المجازاة بما لا يوافق من بعض الوجوه ـ هو أنّ التجلّي الوجودي المقتضي إيجاد العالم ـ وإن شئت قل : الوجود الفائض من ذات الحقّ على حقائق الممكنات ـ له الإطلاق التامّ عن سائر القيود الحكميّة والصفات التعيّنية (٢) المتكثّرة الإمكانيّة ، ومن حيث انطباعه في أعيان الممكنات ـ أو قل : اقترانه أو انبساطه عليها ، وظهوره بحسب مراتبها الذاتيّة واستعداداتها ، كما بيّن لك من قبل ـ أضيفت إليه ـ أي إلى الوجود المنبسط المذكور ـ الأوصاف المتعدّدة المختلفة ، وتقيّد بالأحكام والأسماء والنعوت تقيّدا غير منفكّ عنه ، بحيث استحال تعقّله وإدراكه مجرّدا عنها جميعها ، بل قصارى الأمر التجرّد عن أكثرها. وأمّا عن جميعها بالكلّيّة فمحال إلّا بالفرض ، وأنهى الأمر الانتهاء إلى قيد واحد إضافي ، هذا في أعلى مراتب الإطلاق.

فلا جرم اقتضت الحكمة العادلة وحكم الحضرة الجامعة الكاملة ظهور سرّ المجازاة ، ووضعه بسرّ المناسبة والموازنة المحقّقة ، فظهر التكليف الإلهي للعباد كلّهم ، وكلّ ما سواه عبد ، فتعيّنت القيود الأمريّة والأحكام الشرعيّة ، في مقابلة ما عرض للوجود من التقيّدات العينيّة وأحكام المراتب الكونيّة الإمكانيّة والعبادات المقرّرة على نمط خاصّ في مقابلة ما يختصّ كلّ موطن وعالم وزمان ونشأة وحال به من الأحكام ، وتقتضيه بحيث لا يمكن تعيّن الوجود فيه ، ولا ظهور الحقّ وتصرّفه إلّا بحسبه ، فتقرّرت العبادات ـ كما قلنا ـ في أهل كلّ عالم أيضا ودور ووقت خاصّ وموطن ونشأة وحال ومزاج ومرتبة بحسب ما يقتضيه حكم الحال والزمان وما ذكر ، وبحسب الصفات اللازمة لكلّ ذلك أيضا ، وثبت ذلك جميعه في الكائنات ، كثبوت الحكم المذكور (٣) آنفا هناك لا جرم لو انتهى الإنسان ـ الذي هو الأنموذج لجميع الممكنات والنسخة الجامعة لخصائصها وحقائقها ـ في أمره وحاله وترقّيه إلى أقصى مراتب الإطلاق ، علما وشهودا ، وحالا ومقاما ، وتجريدا

__________________

(١) جامع المسانيد ، ج ١٠ ، ص ١٣ ـ ١٤.

(٢) في بعض النسخ : العينيّة.

(٣) في بعض النسخ : لمذكور.

٢١٥

وتوحّدا ، فإنّه لا يتّصف بالحرّيّة التامّة الرافعة لجميع الاعتبارات والنسب والإضافات وأحكام القيود أصلا ، بل ولو ارتقى ما عسى أن يرتقي بحيث تسقط عنه الأحكام التقييديّة الإمكانيّة والصفاتيّة الأسمائيّة أيضا بعد سقوط التكليفات الأمرية عنه وخروجه عن حصر الأحوال والنشآت والمواطن والمقامات ، فلم يحصره عالم ولا حضرة ولا غيرهما ممّا ذكرنا (١) لا بدّ وأن يبقى معه حكم قيد واحد إمكاني في مقابلة القيد الاعتباري الثابت في أنهى مراتب الإطلاق للوجود المطلق.

وهذا القيد الباقي للإنسان هو حظّه المتعيّن من غيب الذات ، الذي قلنا غير مرّة : إنّه لا يتعيّن لنفسه من حيث هو إلّا بأمر ، ولا يتعيّن فيه لنفسه شيء ، فتعيّنه ـ أي تعيّن الغيب المذكور ـ هو بحسب ما به ظهر متعيّنا وهو حاله المسمّى فيما بعد بالممكن ، فافهم.

وبهذا التعيّن يظهر سرّ ارتباط الحقّ بالإنسان وارتباط الإنسان به ، من حيث يدري الإنسان ومن حيث لا يدري. ولما ذكرنا توقّف تعقّل الوجود المطلق على نسبة أو مظهر يفيد التمييز ولو غيبا لا عينا ، كتوقّف ظهور العين ـ التي هي شرط في التعقّل ـ على الوجود.

وأمّا عدم شعور قوم من أهل الشهود الحالي هذا التمييز فلا ينافي ثبوته في نفسه ؛ فإنّ الكمّل والمحقّقين من أهل الصحو ـ المخلصين من ورطة السكر والمشاهدات المقيّدة عند استقرارهم من وجه في مركز مقام الكمال الإحاطي الجمعي الأحدي الوسطي ، المعاينين من أطراف المحيط وأهلها ما خفى عن المنحرفين ـ يحكمون بما ذكرنا.

ثم نقول : ولكلّ واحد من هذين القيدين : قيد الوجود ، وقيد الإنسان حكم نافذ ثابت يعطي آثارا جمّة يعرفها الأكابر ، ويشهدونها من أنفسهم ومن سواهم وفي أحوالهم ، فيعرفون من الناس ـ بل ومن الأشياء كلّها ـ ما لا يعرفه شيء من نفسه ، فضلا عن أن (٢) يعرفه من سواه.

وأمّا أحكام (٣) التكاليف والقيود اللازمة لها فتتفاوت في الخلق بالقلّة والكثرة ، والدوام وعدم الدوام ، بحسب القيود المضافة إلى الوجود من جهة كلّ فرد من أفراد الخلق. فمن كانت

__________________

(١) ق : ذكر.

(٢) ق : أنّه.

(٣) ه : حكام.

٢١٦

مرآة عينه الثابتة في ضرب المثل أقرب إلى الاعتدال والاستدارة وصحّة الهيئة والشكل ، متناسبة الأحوال والصفات ، والقوى والأحكام ، بحيث لا تظهر في الأمر المنطبع فيها ، والظاهر بها حكما مخالفا لما يقتضيه الأمر في نفسه لذاته من حيث هو ، كان أقلّ المجالي تكليفا ، وأتمّها استحقاقا للمغفرة الكبرى ، التي لا يعرفها أكثر المحقّقين ، وأقربها نسبة إلى الإطلاق ، وأسرعها انسلاخا عن الأحكام الإمكانية والصفات التقييديّة ، ما عدا القيد الواحد المنبّه عليه ، كنبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم الكمّل من عباد الله من الأنبياء والأولياء.

ولهذا وغيره قيل له : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (١) وأبيح له ولمن شاء الله ما حجر على الغير.

وصاحب (٢) هذه المرآة التامّة هو العبد المحقّق ذو القدم القديم ، والفضيلة الذاتيّة الأزليّة ، الذي لم يؤثّر ـ بنقص القبول ـ في صورة كلّ ما تجلّى فيه خداجا ولا نقصا وتغيّرا ، ولا أكسب الأمر المنطبع فيه وصفا متجدّدا لم يكن ثابتا له أزلا سوى نفس التعيّن بحسب القيد الواحد ، الذي لا مندوحة عنه ، بخلاف غيره ، فهو ـ أعني هذا العبد ـ يحاذي ويقابل كلّ شيء بالطهارة الصرفة ، ليظهر كلّ من شاء بما هو عليه في نفسه ، وكلّ من هذا شأنه فإنّه يحفظ على كلّ شيء صورته الذاتيّة الأصليّة على نحو ما كانت مرتسمة في ذات الحقّ ، ومتعيّنة في علمه أزلا مادام محاذيا له ، فإن انحرف عن كمال المسامتة ـ لاقتضاء حكم حقيقة الانحراف ـ فلا يلومنّ إلّا نفسه «من وجد خيرا ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه».

انظر ما الذي أخبرك عليه‌السلام عن ربّه أنّه قال لك ، وافهم عنه ، وقد أخبرتك أنّك من وجه مرآة وجوده ، وهو مرآة أحوالك ، وقد كرّرت (٣) وربما زعمت أنّي طوّلت ، فاذكر فو الله لقد أو جزت واختصرت ، لو (٤) عرفت ما ذكرت لك ، لطار قلبك ودهش لبّك ، ولكن والله ما أراك تفهم مقصودي وأنت معذور ، كما أنّي في التلويح بهذا القدر من هذا المقام مجبور ومأمور ، (٥)

__________________

(١) الفتح (٤٨) الآية ٢.

(٢) ق : فصاحب.

(٣) ق : فكررت.

(٤) ق ، ه : ولو.

(٥) ق : لا توجد.

٢١٧

وأمّا حكم من نزل عن هذه الدرجة والمقام من الخلق ـ كائنا من كان ـ فبحسب قربه وبعده من المقام وزنا بوزن ، لا ينخرم ولا يختلّ ؛ فإنّ ذلك من سنّة الله (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (١).

فإذا عرفت هذا ، فاعلم ، أنّ الأحكام التقييدية إن انضافت إلى الوجود من جهة (٢) مرتبة موجود مّا من أربعة أوجه مثلا أو خمسة ، حتى اقتضى كلّ وجه منها حكما وتعيين وصف وحال خاصّ ، لم تكن تنضاف إلى الوجود بدونه ؛ فإنّ حكم التكليف يظهر فيه وينفذ من حيث تلك الوجوه الخمسة وبحسبها ، وتقلّ الأحكام التكليفيّة وتكثر بحسب الوجوه التي للممكن وما تعطى من الآثار المضافة إلى الوجود. وسبب كثرة الوجوه هو تضاعف أحكام الإمكان ، لكن بالنسبة إلى كلّ ممكن كثرت الوسائط بينه وبين موجده ؛ لنقص (٣) القبول وقصور الاستعداد الذاتي ، لا للجمع والاستيعاب ؛ فإنّ الإنسان من حيث صورته أكثر الموجودات وسائط من حيث سلسلة الترتيب ، وآخرها ظهورا ، لكن إنّما كان ذلك ليجمع سرّ كلّ واسطة ، ويحيط بحكم ما اشتملت عليه الدائرة ، وينختم به من حيث إنّه آخر مستمدّ مع أنّه عن (٤) مرتبة يحصل المدد للقلم الأعلى ، الذي هو أوّل ممدّ من الوسائط بعد الحقّ ، فافهم. وهنا تفصيل يطول ذكره.

ولمّا كانت مراتب الموجودات من الوجه الكلّي تنحصر في خمس مراتب كلّ مرتبة منها تقتضي أحكاما شتّى ـ كما أسلفنا ـ لذلك كانت أصول التكاليف خمسة ، فالخمسة التي تختصّ (٥) بالمكلّف هو : حكم عينه الثابتة من حيث تميّزها في علم الحقّ أزلا ، وحكمه من حيث روحانيّته ، (٦) وحكمه من حيث صوره ونشأته الطبيعيّة وما يختصّ بها ، وحكمه من حيث العماء باعتبار سريانه في المراتب المذكورة ، والحكم الخامس من حيث معقوليّة الأمر الجامع بين هذه الأربعة باعتبار الهيئة المعنويّة ، الحاصلة من الاجتماع المذكور وذلك هو حكم مقام أحديّة الجمع ، فافهم.

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) الآية ٦٢.

(٢) ه : جمة.

(٣) ق : لينقص.

(٤) ه : من.

(٥) ه : يختصّ.

(٦) ه : روحانية.

٢١٨

ويستلزم ما ذكرنا حكم الاسم «الدهر» و «الشأن» و «الموطن» و «المقام» والسرّ الجامع بين سائرها ، واستلزمت هذه خمسة أخرى ، هي الشروط التابعة للخمسة المذكورة ، والمنشعبة منها : أحدها سلامة عقل المكلّف ، وسنّ التكليف ، والاستطاعة من صحّة ونحوها ، العلم المتوقّف على بلوغ الدعوة ، والدخول تحت حيطة أمر الوقت ، الإلهي من حيث تعيّنه كمواقيت الصلوات وصوم رمضان ، وأداء الزكاة في رأس الحول ، والحجّ في ذي الحجّة ونحو ذلك ، فكانت لما ذكرنا أركان الإسلام خمسة ، وكذلك الإيمان ، وكذا الأحكام الخمسة ، والعبادات الكلّيّة.

وحبّة المجازاة وبذرة شجرتها ومنبع أنهارها هو ما سلف في باب الفواتح من أنّ الأعيان الكونيّة لمّا كانت شرطا في تعيّن (١) أحكام الأسماء والصفات وظهور نسبة أكمليّتها في الوجود العيني بنفوذ أحكامها في القوابل ، ورجوع تلك الأحكام ـ بعد الظهور التفصيلي المشهود ـ إلى الحقّ على مقتضى معلوميّتها ومعقوليّتها باطنا في حضرة الحقّ ، اقتضى العدل والجود المحتويان أن عوّضت بالتجلّي الوجودي ، فظهرت به أعيانها لها ، ونفذ حكم بعضها في البعض بالحقّ ، جزاء تامّا وفضلا وعدلا شاملا عامّا ، فافهم هذا الأصل الشريف ؛ فإنّ جميع أنواع المجازاة الإجماليّة والتفصيليّة متفرّعة عنه وعن الأصل المتقدّم الذي بيّنت أنّه سبب التكليف ، وأنّ التكليف مجازاة أوجبها تقيّد الوجود بالأعيان على نحو ما مرّ ذكره ، فاذكر ، ترشد ، ـ إن شاء الله تعالى ـ

__________________

(١) ق : نفس.

٢١٩

لسان جمع هذا القسم وخاتمته (١)

لمّا كانت الفاتحة منقسمة بالتقسيم الإلهي ثلاثة أقسام ، وقد انتهى ما يسّر الله ذكره في القسم الأوّل منها ، وكان الوعد الإلهي قد سبق أن يكون خاتمة الكلام على كلّ آية قسما (٢) بلسان مقام الجمع والمطلع ، حان لنا أن نقبض عنان العبارة عن الخوض في هذا النمط بلسان البسط ، ونشرع (٣) فيما سبق الوعد بذكره ، فنقول باللسان الجمعي ، ونبدأ ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) :

اعلم ، أنّ التسمية من كلّ مسمّ لكلّ مسمّى تنبيه عليه لمن هو مجهول عنده ، أو تذكير به إن كان ممّا قد علم (٤) المذكّر له ثم نسيه ، أو إظهار له من حيث صفة خاصّة أو حالة أو مرتبة أو زمان أو موطن أو المجموع.

وتسمية الشيء نفسه مع علمه بها تنبيه للغير ، أو ترهيب منه من حيث إنّه بمثابة أن يخشى ويحذر ، أو ترغيب للمنبّه فيما عند ذي الاسم من الأمور التي يتعذّر نيلها (٥) أو معرفتها (٦) ابتداء دون ذلك التنبيه أو ما يقول مقامه من المنبّهة.

فمتى نبّه الشخص شعّر ، فرغب وسعى وطلب ليغنم ، أو اتّقى وحذر ليسلم ، سواء (٧) كان ذلك مقيّدا بوقت أو حال أو غيرهما من الشروط ، أو لم يكن ، فافهم.

وأمّا اسم (٨) «الله» فإنّه وإن تقدّم القول فيه بما شاء الحقّ ذكره فلا بدّ من تتمّة يستدعيها

__________________

(١) ه : خاتمة.

(٢) ق : وقسم. ه : قسم.

(٣) ق : والشرع.

(٤) كذا في الأصل. والصحيح : علمه.

(٥) ق : عليها.

(٦) ق : يعتبر فيها.

(٧) في الأصل : وسواء.

(٨) ق : الاسم.

٢٢٠