إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

الكلمتين ، ليتّضح بذلك حكم اللسان ، ثم أتكلّم بما فتح الحقّ به عليّ في ذلك وما يقتضيه ذوقي ، ولو لا قصد تطبيق الأمور الذوقيّة على ما يقتضيه المفهوم من حيث الاصطلاح اللغوي ، لم أورد شيئا من كلام أهل النقل ، ولكن قد استثنيت في أول التزامي المذكور في مقدّمة الكتاب هذا القدر لهذه الحكمة التي نبّهت عليها ، فأقول :

من جملة ما ذكروا في الفرق بين الملك والمالك أنّ المالك مالك العبد ، والملك ملك الرعيّة ، والعبد أدون حالا من الرعيّة ، فوجب أن يكون القهر في المالكيّة أكثر منه في الملكيّة ، فالمالك إذا أعلى حالا من الملك ، والملك يملك من بعض الوجوه مع قهر وسياسة ، والمالك يملك على كلّ حال ، وبعد الموت له الولاء.

وقالوا أيضا : الحقّ تمدّح بكونه مالك الملك ـ بضمّ الميم ـ ولم يتمدّح بكونه ملك (١) الملك ـ بكسر الميم ـ وذلك قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (٢) ؛ فثبت أنّ المالك أشرف من الملك.

وقالوا أيضا : الملك قد يكون مالكا وقد لا يكون مالكا ، كما أنّ المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون ، فالملكيّة والمالكيّة قد تنفكّ كلّ واحدة منهما عن الأخرى إلّا أنّ المالكيّة سبب لإطلاق التصرّف ، والملكيّة ليست كذلك ، فكان المالك أولى.

اعلم ، أنّه لمّا كان سائر المفهومات التي تتضمّنها هذه الكلمة من صفات الكمال ـ بالألف وبدونه ـ كلّها ثابتة للحقّ ، لهذا وردت القراءة بالروايتين ، فإنّ الجمع أولى وأكمل ، و (٣) لمّا (٤) كان أمر الحقّ واحدا ، والترجيح في كلّ مرتبة من مراتب الأسماء والصفات لا يصحّ إلّا لشيء واحد من نسبة واحدة ، فبذلك الأمر الراجح يصل الأمر الإلهي الوحداني إلى غيره من الأشياء المرجوحة ، في ذلك المقام وتلك المرتبة ، وهو مظهر الحقّ ، وحامل سرّ الربوبيّة والتحكّم على ما تحت حيطته حالتئذ ، كما ذكر من قبل ، ويذكر أيضا عن قريب ـ إن شاء الله ـ اقتضى الأمر الذوقي ترجيح إحدى (٥) القراءتين مع جواز القراءة بهما.

__________________

(١) ق : مالك.

(٢) آل عمران (٣) الآية ٢٦.

(٣) ه : لم يرد.

(٤) ق : ولكن.

(٥) ق : أحد.

١٨١

ومتعلّق (١) ذلك الترجيح (٢) القراءة ب «ملك يوم الدّين» دون «مالك» ؛ لأسرار تقتضيها قواعد التحقيق :

أحدها : أنّ المالك مندرج في الاسم «الربّ» فإنّ أحد معاني الاسم «الربّ» في اللسان المالك ، والقرآن العزيز ورد بسرّ الإعجاز والإيجاز ، فلو ترجّحت القراءة بمالك ، لكان ذلك نوع تكرار ينافي الإيجاز ، والكشف التامّ أفاد أن لا تكرار (٣) في الوجود ، فوجب ترجيح القراءة إذا ب «ملك» دون «المالك» ،

والسرّ الآخر فيما ذكرنا يظهر بعد التنبيه على مقدّمتين :

إحداهما : استحضار ما ذكرت أنّ الآخر نظير الأوّل ، بل هو عينه ؛ فإنّ الخواتم عين السوابق.

والمقدّمة الأخرى : أنّ جميع الأمور الحاصلة في الوجود لم تقع عن اتّفاق ، بل بترتيب إلهي مقصود للحقّ ، وإن جهلته الوسائط والمظاهر.

وليس في قوّة الممكنات المتّصفة بالوجود في كلّ وقت قبول ما هو أشرف من ذلك ولا أكمل ، فإن لم تهتد العقول إلى سرّ ذلك الترتيب وسرّ الحكم الإلهيّة المودعة فيه ، فذلك للعجز الكوني والقصور الإمكاني ، وقد لوّحت بشيء من ذلك على سبيل التنبيه والتذكرة عند الكلام على أسرار حروف البسملة.

وإذا تقرّر هذا ، فأقول : آخر سور القرآن في الترتيب الإلهي الواقع المستمرّ الحكم ـ سواء (٤) عرف ذلك حال الترتيب أو لم يعرف ـ هو (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (٥) وهذا الاسم ورد في هذه السورة بلفظ «الملك» دون «المالك» وذكر عقيب الاسم «الربّ» مع عدم جواز القراءة فيها ب «مالك» ، فدلّ على أنّ القراءة ب «ملك» أرجح.

وأيضا فإنّ الحقّ يقول في آخر الأمر عند ظهور غلبة الأحديّة على الكثرة في القيامة الكبرى ، والقيامة الصغرى الحاصلة للسالكين عند التحقيق بالوصول ، عقيب انتهاء السير وحال الانسلاخ : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٦) والحاكم على الملك هو الملك ، فدلّ على أنّه أرجح.

__________________

(١) ق : ويتعلّق.

(٢) ق : الترجّح.

(٣) ق : تكرّر.

(٤) في الأصل : وسواء.

(٥) الناس (١١٤) الآية ١.

(٦) غافر (٤٠) الآية ١٦.

١٨٢

وأيضا فالأسماء المستقلّة ، لها تقدّم على الأسماء المضافة ، والاسم «الملك» ورد مستقلّا بخلاف «المالك» وممّا يؤيّد ذلك أنّ الأسماء المضافة لم تنقل في أسماء الإحصاء الثابتة بالنقل ، مثل قوله عزوجل : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) (١) و (ذِي الْمَعارِجِ) وشبههما.

وأيضا فالأحاديث النبويّة مبيّنات لأسرار القرآن ، ومنبّهات عليها ، وقد ورد في الحديث في بعض الأدعية النبويّة «لك الحمد لا إله إلّا أنت ربّ كلّ شيء وملكه (٢)» ولم يرد و «مالكه» وهذا السياق مناسب لسياق الأسماء المذكورة في أوّل الفاتحة.

وأيضا ما (٣) ذكروه في ترجيح المالك على الملك ـ من أنّ المالك مالك العبد ، وأنّه مطلق التصرّف فيه ، بخلاف الملك فإنّه إنّما يملك بقهر وسياسة ومن بعض الوجوه ـ فقياس لا يصحّ ولا يطّرد إلّا في المخلوقين لا في الحقّ ؛ فإنّه من البيّن أنّه مطلق التصرّف ، وأنّه يملك من جميع الوجوه ، فلا تقاس ملكيّة غيره عليه ، ولا تضاف النعوت والأسماء إليه إلّا من حيث أكمل مفهوماتها ، وسيّما مما سبق وضوحه بالشرع والبرهان ، فاعلم ، فدلّ ذلك على ترجيح القراءة بملك يوم الدّين.

وأمّا سرّ المالك من حيث الباطن فقد اندرج فيما ذكرته في شرح الاسم «الربّ» فأغنى ذلك عن الإعادة ، فافهم وتذكّر ، والله المرشد.

سرّ اليوم

لا بدّ قبل الشروع في الكلام على أسرار هذه الكلمة من تقديم مقدّمة تكون مذكّرة ببعض ما سلف من الأصول المنبّهة على حقيقة الزمان وما يختصّ به وما [هو] مستنده في الإلهيّات ، فأقول :

قد علمت ممّا مرّ أنّ الغيب الإلهي المطلق لا يحكم عليه بالتناهي ولا التعيين (٤) ولا التقييد ولا غير ذلك ، وأنّ الممكنات غير متناهية ، لكنّ الداخل في الوجود من الممكنات والظاهر

__________________

(١) الأنعام (٦) الآية ٩٦.

(٢) ق : مليكه.

(٣) ق. فما وفي بعض النسخ : ممّا والصحيح ما أثبتناه.

(٤) ق : التعيّن.

١٨٣

من الغيب الذاتي ـ في كلّ وقت ومرتبة وحال وموطن ، وبالنسبة إلى كلّ اسم ـ لا يكون إلّا أمرا متعيّنا ذا بداية وغاية مقدّرة.

والحقائق الكلّيّة والأسماء الإلهيّة الحاكمة في الأكوان متناهية الأحكام ، لكنّ بعضها ينتهي حكمه جملة واحدة ، وبعضها ينتهي حكمه من الوجه الكلّي لا الجزئي التفصيلي.

وبيّنت أيضا أنّ الإنسان متعيّن متميّز متقيّد بعدّة أمور وصفات لا يمكنه الانفكاك عن كلّها لكن عن بعضها ، فكلّ ما يصل إليه من غيب الحقّ من تجلّ وخطاب وحكم فإنّه يرد بحسبه ، وينصبغ بحكم حاله ومرتبته ، ومبدأ الحكم الإلهي ومنشأه هو من التعيّن الأوّل ، وله النفوذ والاستمرار على نحو ما بيّن من قبل.

وإذا وضح هذا ، فنقول : أصل الزمان الاسم «الدهر» وهو نسبة معقولة كسائر النسب الأسمائيّة والحقائق الكلّيّة ، وهو من أمّهات الأسماء ، ويتعيّن أحكامه في كلّ عالم بحسب التقديرات المفروضة ، المتعيّنة بأحوال الأعيان الممكنة وأحكامها وآثار الأسماء ومظاهرها السماوية والكوكبيّة.

ولمّا امتاز كلّ اسم ـ من حيث تقيّده بمرتبة معيّنة ـ بأحكام مخصوصة ينفرد بها مع اشتراكه مع غيره من الأسماء في أمور أخر ، اقتضى الأمر أن يكون محلّ نفوذ أحكام كلّ اسم ومعيّنات تلك الأحكام أعيانا مخصوصة من الممكنات هي مظاهر أحكامه ومحلّ ربوبيّته فإذا انتهت أحكامه المختصّة به في الأعيان القابلة لتلك الأحكام من الوجه الذي يقتضي لها الانتهاء ، كانت السلطنة لاسم آخر في أعيان أخر ، وتبقى أحكام ذلك الاسم إمّا خفيّة في حكم التبعيّة لمن له السلطنة من الأسماء ، وإمّا أن ترتفع أحكامه ، ويندرج هو في الغيب ، أو في اسم آخر أتمّ حيطة منه وأدوم حكما ، وأقوى سلطانا ؛ هكذا الأمر على الدوام في كلّ عالم ودار وموطن ، ولهذا اختلفت الشرائع والإلقاءات والتجلّيات الإلهيّة ، وقهر ونسخ بعضها بعضا مع صحّة جميع ذلك وأحديّة الأصل وحكمه من حيث هو وأمره ، فافهم.

ولا تكون السلطنة والغلبة في كلّ وقت بالنسبة إلى كلّ مرتبة وموطن وجنس ونوع وعالم إلّا لاسم واحد ، ويبقى حكم باقي الأسماء في حكم التبعيّة كما أشرت إلى ذلك غير مرّة ؛ لأنّ السلطان لله وحده ، والألوهيّة الحاكمة الجامعة للأسماء واحدة وأمرها واحد ،

١٨٤

فمظهر (١) ذلك الأمر في كلّ وقت وحال لا يكون إلّا واحدا ؛ إذ بالوحدة الإلهيّة يحصل النظام ، ويدوم حكمه في الموجودات جميعها وإليه الإشارة بقوله عزوجل : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٢) وهذا من البيّن عند المحقّقين.

وإلى هذا الأصل يستند القائلون بالطوالع في أحكام المواليد وغيرها ، فيجعلون الحكم مضافا إلى أوّل ظاهر من الأفق حين الولادة والشروع في الأمر والانتهاء إليه ، وما سوى الأوّل الذي له السلطنة حينئذ فتبع له ، ومنصبغ بحكمه ، فافهم.

وقد عرفت أنّ الحقّ هو الأوّل والظاهر ، وقد نبّهت في هذا الكتاب على كثير من أسرار الأوّليّة في غير موضع (٣) منه ، فتذكّر ترشد ـ إن شاء الله تعالى ـ

ثم نقول : فتعيين الأوقات والأيّام والشهور والأعوام والأدوار العظام ، كلّها تابعة لأحكام الأسماء والحقائق المذكورة ، والعرش والكرسي والأفلاك والكواكب مظاهر الحقائق والأسماء الحاكمة المشار إليها ومعيّنات لأحكامها ؛ فبالأدوار تظهر أحكامها الكلّيّة الشاملة المحيطة ، وبالآنات تظهر أحكامها الذاتيّة من حيث دلالتها على المسمّى وعدم مغايرتها له ، كما بيّنّا ذلك من قبل ، وما بين هاتين المرتبتين من الأيّام والساعات والشهور والسنين فيتعيّن باعتبار ما يحصل بين هذين الأصلين من الأحكام المتداخلة ، وما يتعيّن بينهما من النسب والرقائق ، كالأمر في الوحدة التي هي نعت الوجود البحت ، والكثرة التي هي من لوازم الإمكان ، والموجودات الظاهرة بينهما والناتجة عنهما ، فافهم.

وانظر اندراج جميع (٤) الصور الفلكيّة وغيرها في العرش مع أنّه أسرعها حركة ، وكيف يتقدّر بحركته الأيّام؟! وارق منه إلى الاسم «الدهر» من حيث دلالته على الذات وعدم المغايرة كما بيّنّا ، واعتبر الآن الذي هو الزمن الفرد غير المنقسم ، فإنّه الوجود الحقيقي وما عداه فأمر معدوم سواء فرض ماضيا أو مستقبلا ، فللوجود الآن ، وللدور حكم الكثرة والإمكان ، ولمعقوليّة الحركة التعلّق الذي بين الوجود الحقّ وبين الأعيان ، فبين الآن والدوران المدرك مظهره في العيان ، وبين الوجود والإمكان المدرك بالكشف والمعقول في

__________________

(١) ق : فظهر.

(٢) الأنبياء (٢١) الآية ٢٢.

(٣) في الأصل : غير ما موضع.

(٤) ق : جمع.

١٨٥

الأذهان تظهر الأكوان والألوان ، وتتفصّل أحكام الدهر والزمان ، فمستند الأدوار «أكتب علمي في خلقي إلى يوم القيامة» ومستند الآن ومحتده «كان الله ولا شيء معه» وقوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (١) فافهم.

فبالآن تتقدّر الدقائق ، وبالدقائق تتقدّر الدرج ، وبالدرج تتقدّر الساعات ، وبالساعات يتقدّر اليوم ، وتمّ الأمر بهذا الحكم الرباعي والسرّ الجامع بينهما.

فإن انبسطت سمّيت أسابيع وشهورا وفصولا وسنين ، وإلّا كان الزائد على اليوم تكرارا ، كما أنّ ما زاد على السنة في مقام الانبساط تكرار.

ومن تحقّق بالشهود الذاتي ، وفاز بنيل مقام الجمع الأحدي لم يحكم بتكرار ولم ينتقل من حكم الآن إلى الأدوار ؛ فإنّ ربّه أخبره أنّه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢) فلمّا أضاف اليوم إلى الهو ، عرف شهودا وإخبارا أنّه الآن الذي لا ينقسم ؛ لأنّ يوم كلّ مرتبة واسم بحسبه وللهو الذات الوحدة التي تستند إليها المرتبة الجامعة للأسماء والصفات ، ومن هذا المقام يستشرف هذا العبد وأمثاله على سرّ قوله عزوجل : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (٣) فيعلم الأقرب أيضا ويشهده (٤) وإن لم يكيفه ، فاعلم ، والله المعلّم الهادي.

سرّ (الدِّينِ)

هذه الكلمة لها أسرار كثيرة لا تتشخّص في الأذهان ، ولا تنجلي لأكثر المدارك والأفهام ، إلّا بعد استحضار عدّة مقدّمات عرفانيّة ذوقيّة يجب تقديمها قبل الكلام عليها بلسان التفصيل ، وحينئذ نذكر ما تشتمل عليه من المعاني ـ إن شاء الله تعالى ـ وليست فائدة هذه المقدّمات مقصورة على فهم ما تتضمّنه هذه الكلمة من الأسرار المنبّهة عليها ، بل هي عامّة الفائدة ينتفع بها فيما سبق من الكلام وما يذكر من بعد وفيما سوى ذلك.

وإذا عرفت هذا ، فنقول : اعلم ، أنّ الصفات والنعوت ونحوهما تابعة للموصوف والمنعوت بها بمعنى أنّ إضافة كلّ صفة إلى موصوفها إنّما تكون بحسب الموصوف ،

__________________

(١) الحديد (٥٧) الآية ٤.

(٢) الرحمن (٥٥) الآية ٢٩.

(٣) القمر (٥٤) الآية ٥٠.

(٤) ق : شهده.

١٨٦

وبحسب قبول ذاته إضافة تلك الصفة إليها ، والحقّ سبحانه وإن لم يدرك كنه حقيقته ، فإنّه قد علم بما علّم وأخبر وفهّم أنّ إضافة ما تصحّ نسبته إليه من النعوت والصفات لا تكون على نحو نسبتها إلى غيره ؛ لأنّ ما سواه ممكن ، وكلّ ممكن فمنسحب عليه حكم الإمكان ولوازمه ، كالافتقار والقيد والنقص ونحو ذلك وهو سبحانه من حيث حقيقته مغاير لكلّ الممكنات (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١) فإضافة النعوت والصفات إليه إنّما تكون على الوجه المطلق الكلي الإحاطي الكامل.

ولا شكّ أنّ العلم من أجلّ النسب والصفات ، فإضافته ونسبته إلى الحقّ إنّما تكون على أتمّ وجه وأكمله وأعلاه ، فلا جرم شهدت الفطر بنور الإيمان ، والعقول السليمة بنور البرهان ، والقلوب والأرواح بأنوار المشاهدة والعيان بأنّه لا يعزب عن علمه علم عالم ، ولا تأويل متأوّل ، ولا فهم فاهم ؛ لإحاطة علمه بكلّ شيء كما أخبر وعلّم.

وكلامه أيضا صفة من صفاته أو نسبة من نسب علمه على الخلاف المعلوم في ذلك بين أهل الأفكار ، لا بين المحقّقين من أهل الأذواق. والقرآن العزيز هو صورة تلك الصفة ، أو النسبة العلميّة ـ كيف قلت ـ فله الإحاطة أيضا كما نبّه على ذلك بقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٢) وبقوله أيضا : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣) فما من كلمة من كلمات القرآن ممّا يكون لها في اللسان عدّة معان إلّا وكلّها مقصودة للحقّ ، ولا يتكلّم متكلّم في كلام الحقّ بأمر يقتضيه اللسان الذي نزل به ، ولا تقدح فيه الأصول الشرعيّة المحقّقة ، إلّا وذلك الأمر حقّ ومراد لله ،

فإمّا بالنسبة إلى الشخص المتكلّم ، وإمّا بالنسبة إليه وإلى من يشاركه في المقام والذوق والفهم.

ثم كون (٤) بعض معاني الكلمات في بعض الآيات والسور يكون أليق بذلك الموضع وأنسب لأمور مشروحة من قرائن الأحوال كأسباب النزول وسياق الآية والقصّة أو الحكم ، أو رعاية الأعمّ والأغلب من المخاطبين وأوائلهم ، ونحو ذلك ، فهذا لا ينافي

__________________

(١) الشورى (٤٢) الآية ١١.

(٢) الأنعام (٦) الآية ٣٨.

(٣) الأنعام (٦) الآية ٥٩.

(٤) كذا في الأصل. والظاهر زيادة «كون».

١٨٧

ما ذكرنا ؛ لما سبق التنبيه عليه في سرّ القرآن ، وأنّ له ظهرا وبطنا وحدّا ومطلعا ، ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن وإلى سبعين.

وإذا تقرّر هذا ، فلتعلم أنّ للفظة «الدّين» في اللسان عدّة معان ، منها الجزاء ، والعادة ، والطاعة ، والشأن ، و «دانه» في اللغة : أذلّه واستعبده وساسه وملكه. والديّان : المالك ، والدين : الإسلام أيضا ، فهذه المعاني كلّها تتضمّنها لفظة «الدّين» وهي بأسرها مقصودة للحقّ ، لكمال كلامه وإطلاقه وحيطته ، وتنزّهه عن التقيّد بمفهوم خاصّ ، أو معنى معيّن ، كما مرّ بيانه.

وأنا أومئ ـ إن شاء الله ـ إلى ما ييسّر الحقّ ذكره من معاني هذه الكلمات (١) بإشارات وجيزة كما فعلت ذلك فيما مرّ ، ثمّ أبيّن معاقد أحكام هذه الآية من حيث الترتيب ، وسرّ انتهاء القسم الأوّل من أقسام الفاتحة بانتهاء هذه الآية ، ثم أنتقل إلى الآية الأخرى المشتملة على القسم الثاني ـ إن شاء الله تعالى ـ فلنبدأ أوّلا بشرح الجزاء الذي هو المفهوم الأوّل القريب من هذه الكلمة في هذا الموضع ، مع أنّي أدرج فيه نكتا شريفة تنبّه على جمل من أسرار أحوال الآخرة وغيرها ، فمن أمعن النظر فيما نذكره بنور الفطرة الإلهيّة ، استشرف على أمور جليلة ، عظيمة الجدوى ، والله الهادي.

اعلم ، أنّ الحقّ سبحانه ربط العوالم والموجودات ـ جليلها وحقيرها ، كبيرها وصغيرها ـ بعضها بالبعض ، (٢) وأوقف ظهور بعضها على البعض ، وجعل بعضها مرائي ومظاهر للبعض ، فالعالم السفلي بما فيه مرآة للعالم العلوي مظهر لآثاره ، وكذلك العالم العلوي أيضا مرآة تتعيّن وتنطبع فيه أرواح أفعال العالم السفلي تارة ، وصورها تارة ، والمجموع تارة أخرى ، وعالم المثال الكلّي من حيث تقيّده في بعض المراتب ، ومن حيث عموم حكمه وإطلاقه أيضا مرآة لكلّ فعل وموجود ومرتبة ، وانفرد الحقّ سبحانه بإظهار كلّ شيء على حدّ علمه به ، لا غير ، وجعل ذلك الإظهار تابعا لأحكام النكاحات الخمسة ، التابعة للحضرات الخمس ، وقد سبق التنبيه على كلّ ذلك ، فظهور الموجودات ـ على اختلاف أنواعها وأشخاصها ـ متوقّف على سرّ الجمع النكاحي ، على اختلاف مراتبه المذكورة ، وأحكامها

__________________

(١) ق : الكلمة.

(٢) ق : على البعض.

١٨٨

المشار إليها من قبل.

وإذا عرفت هذا ، فأقول : الجزاء المراد بيان سرّه ، عبارة عن نتيجة ظاهرة بين فعل فاعل ، وبين مفعول لأجله بشيء (١) [وفي شيء] والباعث على الفعل هو الحركة الغيبيّة الإراديّة ، التابعة لعلم المنبعث على الفعل. ولتلك الحركة بحسب علم المريد حكم يسري في الفعل الصادر منه ، حتى ينتهي إلى الغاية التي تعلّق بها العلم ، وعلّق بها الإرادة ، فكلّ فعل يصدر من فاعل فإنّ مبدأه ما أشرت إليه ، ولا بدّ له أيضا من أمر به تتعيّن الغاية وتظهر صورة الفعل ، وإليه الإشارة بقولي : «مفعول لأجله بشيء وفي شيء ، ولا بدّ له أيضا من نتيجة وأثر يكون متعلّقه غاية ذلك الفعل ، وكما له.

وهذه الأمور تختلف باختلاف الفاعلين وقواهم وعلومهم ومقاصدهم ؛ وحضورهم ومواطنهم ونشآتهم ، إن كانوا من أهل النشآت المقيّدة ، والفاعل المطلق في الحقيقة لكلّ شيء وبكلّ شيء وفي كلّ شيء هو الحقّ ، ولا يتصوّر صدور الفعل من فاعل ويكون خاليا عن أحكام هذه القيود النسبيّة المذكورة إلّا النشآت المقيّدة ؛ فإنّ أفعال الحقّ من حيث الأسماء والوجه الخاصّ وآثار الحقائق الكليّه والأرواح ، لا تتوقّف على النشآت المقيّدة ، ولكن تتوقّف على المظهر ولا بدّ إلّا أنّه ليس من شرط المظهر.

وأقرب من ينضاف إليه ذلك الفعل أن يكون عارفا بما ذكرنا أو حاضرا معه ؛ فإنّ من الأفعال ما إذا اعتبر بالنظر إلى أقرب من ينسب إليه سمّي لغوا وعبثا بمعنى أنّ فاعله ظاهرا لم يقصد به مصلحة مّا ، ولا كان له فيه غرض ، والشأن في الحقيقة ليس كذلك ؛ فإنّ فاعل ذلك الفعل في الحقيقة الذي لا فعل لسواه هو الحقّ عزوجل ، ويتعالى أن ينسب إليه العبث ؛ فإنّه كما أخبر وفهّم (أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (٢) (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) (٣) بل له سبحانه في كلّ تسكينة وتحريكة حكم عجيبة ، وأسرار غريبة ، لا تهتدي أكثر الأفهام إليها ، ولا تحيط العقول دون تعريفه بكنهها ، ولا تستشرف النفوس عليها.

فلا بدّ لكلّ فعل من ثمرة وبداية وغاية ، ولا بدّ أن يصحبه حكم القصد الأوّل والحضور

__________________

(١) كذا في الأصل. ولعلّه سقط «وفي شيء» كما سيأتي.

(٢) المؤمنون (٢٣) الآية ١١٥.

(٣) ص (٣٨) الآية ٢٧.

١٨٩

التابعين للعلم المتعلّق (١) بالغاية كما مرّ ، لكن للفعل ولمن ينسب إليه مراتب ، فربما نعت الفعل في بعض المراتب بنعوت عرضت له من حيث النسبة والإضافة في مرتبة معيّنة أو حالة مخصوصة أو بحسب مراتب وأحوال ، فيظنّ من لا يعرف السرّ أنّ الفعل يستند إلى فاعلين أو أنّ ذلك النعت ذاتي للفعل واجب الحكم عليه به على كلّ حال وفي كلّ مرتبة ظهر منها ، وليس كذلك بل الأمر كما قلنا.

ثم اعلم ، أنّ الأفعال على أقسام : ذاتيّة ، وإراديّة ، وطبيعيّة ، وأمريّة.

والأمريّة على قسمين : قسم يتّحد بالأفعال الإراديّة ولا يغايرها ، كفعال الملائكة والأرواح النوريّة ، وقسم يخالف الإراديّة من بعض الوجوه كالتسخير المنسوب إلى الشمس والقمر وبعض الملائكة.

والطبيعيّة في التقسيم كالأمريّة ، وتتّحد في بعض الصور بالنسبة إلى بعض الموجودات بالإراديّة كاتّحاد الأمرية بالإراديّة.

وثمّ قسم جامع لهذه الأقسام الستّة ، وصدور هذه الأقسام الفعليّة من الموجودات على أنواع ؛ فإنّ من الموجودات ما يختصّ بقسم واحد من هذه الأقسام المذكورة ، ومنها ما يختصّ بقسمين وثلاثة على الانفراد والتركيب ، بمعنى أنّ أفعاله تصدر مركّبة من هذه الأقسام. أو يكون في قوّته أن يصدر منه بحسب كلّ قسم فعل أو أفعال شتّى ، ومنها ما يجمع سائرها بالتفسير المذكور. ومظاهر هذه الأقسام الأرواح النوريّة والناريّة والصور العلويّة والعناصر وما تولّد عنها ، وخصوصا الإنسان وما تولّد عنه في كلّ نشأة وحال وموطن ومقام.

وقد بقي من هذا الأصل أمر واحد وهو إسناد (٢) كلّ قسم من أقسام الأفعال إلى من (٣) يختصّ به من الموجودات على التعيين ، والكلام عليه يستدعي بسطا وكشف أسرار لا يجوز إفشاؤها ، ومن عرف من ذوي الاستبصار ما اومأت إليه ، تنبّه لبعض ما سكتّ عنه ولما تركت ذكره ، ثم نرجع إلى تتميم ما يختصّ بالإنسان من هذا الأصل ، فإنّه العين

__________________

(١) ق : المطلق.

(٢) ق : استناد.

(٣) ق : ما.

١٩٠

المقصودة والمثال الأتمّ والنسخة الجامعة. فنقول :

الإنسان جامع لسائر أقسام الفعل وأحكامها ، وله من حيث مجموع صورته وروحه في الحياة الدنيا أفعال كثيرة ، وله من حيث روحانيّته حال الانسلاخ بالمعراج الروحاني أفعال وآثار شتّى ، تقتضي أمورا شتّى ونتائج جمّة ، مع بقاء العلاقة البدنيّة والتقيّد من بعض الوجوه بحكم هذه الدار ، وهذه النشأة العنصريّة ، وله أيضا بعد مفارقة النشأة العنصريّة بالكلّيّة في نشأته البرزخيّة والحشريّة والجنانيّة وغيرها أفعال وأحوال مختلفة ، ولكن (١) كلّها تابعة للنشأة العنصريّة وناتجة عنها ، وبتوسّطها تتعدّى أفعال الإنسان من الدنيا إلى البرزخ ، ثم إلى (٢) الآخرة ، وتتشّخص في الحضرات العلويّة ، ويثبت ويدوم حكمها كيف كان الإنسان ، وحيث كان من المراتب والعوالم والمواطن ، فإنّه لا يعرى عن أحكام المزاج العنصري ولوازمه ونتائجه التي يظهر بها وفيها نفسه ؛ إذ لا غنى له عن مظهر. ومظاهر الإنسان لا تعرى عن حكم الطبيعة أبدا ، فافهم.

__________________

(١) ق : لا توجد.

(٢) ق : لا توجد.

١٩١

وصل من هذا الأصل

اعلم ، أنّ أهمّ ما يجب ذكره وبيانه من هذه التقاسيم كلّها هو أفعال المكلّفين ، المضمون لهم عليها الجزاء وهم الثقلان ؛ وللحيوانات في ذلك مشاركة من جهة القصاص لا غير ، وليس لها ـ على ما ورد ـ جزاء آخر ثابت مستمرّ الحكم. وأمّا الجنّ فنحن وإن كنّا (١) لا نشكّ في أنّهم يجازون على أفعالهم ، لكن لا نتحقّق أنّهم يدخلون الجنّة ، وأنّ المؤمن منهم يجازى على ما عمل من خير في الآخرة ؛ فإنّه لم يرد في ذلك نصّ ، ولا يعرف من جهة الذوق في هذه المسألة ما يوجب الجزم ، فقد يجنون ثمرة خيرهم في غير الجنّة ، حيث شاء الله. وأمّا الإنسان فعليه مدار الأمر وهو محلّ تفصيل الحكم.

فنقول : فعله لا يخلو إمّا أن لا يقصد به مصلحة مّا ، فهو المسمّى عبثا ، وقد سبق التنبيه عليه وعلى أنّه غير مقصود للحقّ في نفس الأمر ، وإمّا أن يكون مقصودا ومتعلّقا بأمر هو غايته ، وذلك الأمر إمّا أن يكون الحقّ أو ما منه.

فما متعلّقه الحقّ ، فإنّ مجازاته سبحانه عليه تكون بحسب عنايته بالعبد الذي هذا شأنه ، وبحسب علم العبد بربّه ، الذي لا يطلب بما يفعله شيئا سواه ، وبحسب اعتقاده فيه ، وحضوره معه حين الفعل من حيث العلم والاعتقاد ، ولهذا المقام أسرار يحرم كشفها.

وما من الحقّ يتعلّق تفصيله بأربع مقامات : مقام الخوف ، ومقام التقوى ، ومقام الرجاء ، ومقام حسن الظنّ.

وهذه المقامات تابعة لمقامات المحبّة ؛ فإنّ الباعث على الفعل هو الحكم الحبّي ،

__________________

(١) ق : لا توجد.

١٩٢

ومتعلّقه باعتبار ما من الحقّ.

إمّا طلب ما يوافق الطالب ، أو دفع ما لا يوافقه عنه ، أو الاحتزاز من وقوع غير الموافق ، أو ترجّي جلب الموافق بالفعل ، أو به وبحسن الظنّ بمن يرجو من فضله نيل ما يروم حصوله من كون المرجوّ جوادا محسنا ونحو ذلك ، أو العصمة ممّا يحذر وقوعه منه من كونه قاهرا شديد العقاب ، فيخشى أن يصل إليه منه ألم وضرر.

ثم كلّ ذلك إمّا أن يتقيّد بوقت معيّن وحالة مخصوصة ودار دون دار ، كالدنيا والآخرة وما بينهما من المواطن ، وإمّا أن لا يتقيّد بشيء ممّا ذكرنا ، بل يكون مراد الفاعل أحد أمرين : إمّا جلب المنافع ، أو دفع المضارّ على كلّ حال وفي كلّ وقت ودار بما تأتّى له من الطرق ، أو يكون الباعث له على فعل الخير هو نفس معرفته بأنّه حسن ، واحترازه من الشرّ هو نفس معرفته بأنّه قبيح مضرّ.

ونتيجة كلّ قسم من أقسام الأفعال تابعة لحكم الأمر الأوّل ، الموجب للتوجّه نحو ذلك الفعل والباعث عليه مع مشاركة من حكم الاسم «الدهر» و «الشأن» الإلهيّين. وحكم الموطن والنشأة والنقص والإتمام وما سوى هذا فقد سبق التنبيه عليه.

وظهور كلّ فعل من حيث صورته في مقام المجازاة والإنتاج تابع لحكم الصفة الغالبة على الفاعل حال التوجّه نحوه. ومنتهى (١) الفعل حيث مرتبة الفاعل من الوجه الذي يرتبط بتلك الصفة الغالبة ، وبحسب متعلّق همّته ، لكنّ الغلبة المنسوبة إلى الصفات الجزئيّة من حيث أوّليّتها تابعة للغلبة الكلّيّة الأولى ، المشتملة على تلك الجزئيّات ، كالأمر فيما سبق به القلم من السعادة والشقاء بالنسبة إلى محاسن الأفعال الجزئيّة ومقابحها الظاهرة بين السابقة والخاتمة ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك كلّه غير مرّة ، وبيّنت أنّ الحكم في الأشياء هو لأحديّة الجمع ويظهر بالأوّليّات ، فتذكّر.

ثم اعلم ، أنّ كلّ فعل يصدر من الإنسان فإنّ له في كلّ سماء صورة تتشخّص حين تعيّن ذلك الفعل في هذا العالم وروح تلك الصورة هو علم الفاعل وحضوره بحسب قصده حال الفعل ، وبقاؤها هو بإمداد الحقّ ـ من حيث اسمه الذي له الربوبيّة ـ على الفاعل حين الفعل ،

__________________

(١) «منتهى» مبتدأ و «حيث» خبره و «بحسب» عطف على «حيث».

١٩٣

وكلّ فعل فلا يتعدّى مرتبة الصفة الغالبة ، الظاهرة الحكم فيه حين تعيّنه من فاعله.

والشرط في تعدّي الأفعال الحسنة وحكمها من الدنيا إلى الآخرة أمران هما الأصلان في باب المجازاة ودوام صور الأفعال من حيث نتائجها ، أحدهما : التوحيد ، والآخر : الإقرار بيوم الجزاء ، وأنّ الربّ الموجد (١) هو المجازي ، فإن لم يكن الباعث على الفعل أمرا إلهيّا كليّا ، أو معيّنا تابعا للأصلين وناتجا عنهما ، فإنّ الصورة المتشخّصة في العالم العلوي ، المتكوّنة (٢) من فعل الإنسان لا تتعدّى السدرة ، ولا يظهر لها حكم إلّا فيما دون السدرة خارج الجنّة ، في المقام الذي يستقرّ فيه فاعله آخر الأمر ، هذا إن كان فعلا حسنا.

وإن كان سيّئا ، فإنّه ـ لعدم صعوده وخرقه عالم العناصر ـ يعود ، فتظهر نتيجته للفاعل سريعا ، وتضمحلّ وتفنى أو تبقى في السدرة ؛ لما يعطيه سرّ الجمع الكامن في النشء الإنساني وما تقتضيه دار الدنيا ، الجامعة لأحكام المواطن كلّها. فإذا كان يوم الحشر ، ميّز الله الخبيث من الطيّب ، كما أخبر : (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) (٣) الآية. وهذه صفة أفعال الأشقياء الذين لا يصعد لهم عمل حسن على اختلاف مراتبهم. والسرّ في ذلك أمران :

أحدهما : أنّ للكثرة (٤) حكم الإمكان كما بيّنّا ولا بقاء لها ولا وجود إلّا بالتجلّي الوجودي الأحدي والحكم الجمعي ، فأيّ موجود لم يعقل استناده إلى أحديّة المرتبة الإلهيّة ، تلاشت أحكام كثرته وآثارها ، ولم تبق ؛ لعدم الاستناد إلى المرتبة التي بها يحفظ الحقّ ما يريد حفظه ، ولو لا انسحاب حكم ميثاق «ألست» ونفوذه بالسرّ الأوّل ، لتلاشى هو بالكلّيّة.

والأمر الآخر فيما ذكرنا يتضمّن (٥) أسرارا غامضة جدّا ، يجب كتمها ، فأبقيناها في خزائن غيبها ، يظهرها الحقّ لمن شاء كيف شاء.

وأمّا الموحّدون ومن يكون فعله تابعا للأمر الإلهي الكلّي والجزئي المعيّن ، فإنّ صور أفعاله تنصبغ ـ كما قلنا ـ بصفة علمه ، ويسري فيها روح قصده ، ويحفظها الحقّ عليه من حيث رحمته وإحصائه بموجب حكم ربوبيّته.

__________________

(١) في بعض النسخ : الموحّد.

(٢) ق : المنكوبة.

(٣) الأنفال (٨) الآية ٣٧.

(٤) ق ، ه : الكثرة.

(٥) ه : تتضمّن.

١٩٤

فإن غلب على الفعل حكم العناصر وصورة النشأة العنصريّة ، انحفظت في سدرة المنتهى ، منبع الأوامر الشرعيّة الباعثة على الفعل ؛ فإنّها غاية العالم العنصري ومحتد الطبيعة من حيث ظهورها بالصور العنصرية ، فجعلها الحقّ غاية مرتقى الآثار العنصريّة ؛ فإنّ أفعال المكلّفين بالنسبة الغالبة نتيجة الصور والأمزجة المتولّدة من العناصر والمتركّبة منها ، فلهذا لم (١) يمكن أن يتعدّى الشيء أصله ، فما من العناصر لا يتعدّى عالم العناصر ، فإن تعدّى فبتبعيّة حقيقة أخرى تكون لها الغلبة إذ ذاك والحكم ، فافهم.

فإن خرقت همّة الفاعل وروحانيّته عالم العناصر بالغلبة المذكورة ـ لاقتضاء مرتبته ذلك وحاله ـ تعدّى إلى الكرسي وإلى العرش وإلى اللوح وإلى العماء بالقوّة والمناسبة التي بينه وبين هذه العوالم ، وكونه نتيجة من سائرها ، فانحفظ في أمّ الكتاب إلى يوم الحساب.

فإذا كان يوم الفصل ، انقسمت أفعال العباد إلى أقسام :

فمنها : ما تصير هباء منثورا ، وهو الاضمحلال الذي أشرت إليه.

ومنها : ما يقلبها إكسير العناية والعلم بالتوحيد أو به وبالتوبة ، فيجعل قبيحها حسنا ، والحسن أحسن ، فتصير (٢) التمرة كأحد ، ويوجر من أتى معصية جزاء من أتى مثلها من الحسنات بالموازنة ، فالقتل بالإحياء ، و (٣) الغصب بالصدقة والإحسان ونحو ذلك.

ومنها : ما يعفو الحقّ عنه ويمحو حكمه وأثره.

ومنها : ما إذا قدم الفاعل عليه ، وفّاه له مثلا بمثل خيرا كان أو ضدّه.

ونموّ الجميل من الفعل وغلبته (٤) الظاهرة بصورة الترجيح تارة ، وبالحكم الماحي تارة أخرى راجع إلى العناية والعلم الشهودي التامّ مع الحضور وسبق الرحمة والشفاعة المختصّة بالتوحيد والإيمان ، المتفرّعة في الملائكة والرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنين ، والآخريّة للعناية السابقة المضافة إلى الحقّ آخرا من كونه أرحم الراحمين.

ومن الأفعال ما يكون حكمها في الآخرة هو كسر سورة العذاب الحاصل من نتائج

__________________

(١) ب : يتعدّ سدرة المنتهى التي منبع الأوامر الشرعية الباعثة على الفعل ؛ لأنّ الشيء لا يتعدّى أصله. توجد إضافة.

(٢) ه : فيصير.

(٣) ق ، ه : لم يرد.

(٤) في بعض النسخ : غلبة.

١٩٥

الذنوب ، وقبائح الأفعال.

ومن الأفعال ما يختصّ بأحوال الكمّل ، ونتائجها خارجة عن هذه التقاسيم كلّها ، ولا يعرف حكمها على التعيين إلّا أربابها ، والواصل من الحقّ في مقابلتها إلى من ظهرت به لا يسمّى جزاء ولا معاوضة.

وتسمية المحقّق مثل هذا جزاء وأجرا إنّما هي من حيث إنّ العمل المشروع يستلزم الأجر ؛ لكونه ناتجا عنه وظاهرا به ، كما أنّ الإنسان شرط في ظهور عين العمل في الوجود ، وتلك سنّة إلهيّة في هذا ونحوه ، لا أنّ هذا النوع من الجزاء يطلب من ظهر منه العمل أو به غير أنّه لمّا لم يكن العمل يقتضي لذاته قبول الأجر والانتفاع به ؛ لأنّه نسبة لا أمر وجودي ، أعاده الحقّ بفضله على من أضيف إليه ذلك الفعل ظاهرا من أجل ظهوره به وتوقّف وجوده عليه ، ولاستحالة عوده من هذا الوجه على الحقّ ، فإنّه كامل الغنى يتنزّه ويجلّ أن يعود من خلقه إليه وصف لم تكن ذاته من حيث هي مقتضية لذلك. وسرّ الأمر أنّ المطلوب من كلّ مرتبة من مراتب الوجود وبها وفيها ليس غير الكمال المختصّ بتلك المرتبة ومظاهرها ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

وللأفعال والأعمال مرتبة ، ولها بداية وكمال ، فمبدؤها الحركة الحبّية والتوجّه الإرادي الكلّي ، المتعلّق بظهور الكمال الذي سبق التنبيه عليه عند الكلام على سرّ الإيجاد وبدئه. وكمالها هو ظهور نتائجها التي هي غاية كلّ فعل وعمل.

فكمال الأعمال ونتائجها إنّما يتمّ حصوله بصدورها عن الحضرة الذاتيّة الغيبيّة ، وبروزها إلى مرتبة الشهادة التي هي محلّ سلطنة الاسم «الظاهر» الذي هو مرآة الاسم «الباطن» ومجلاه ومقام نفوذ حكمه ، فإذا كملت في مرتبة الشهادة بظهور امتياز نتائجها عنها وتبعيّتها لها ، عاد الأمر كلّه إلى الحقّ مفصّلا (١) على نحو امتيازه عنده في حضرة علمه أزلا ، مع أن لا فاعل سواه ، لكن توقّف ظهور الأفعال على العباد وإن كانوا من جملة الأفعال ، فالأفعال إنّما تنسب إليهم في الحقيقة من حيث ظهورها بهم ، لا أنّهم الفاعلون لها.

وهكذا حكم الصفات التي توهّم الاشتراك بين الحقّ والخلق ، على اختلاف أحكامها

__________________

(١) ق : تفصيلا.

١٩٦

ومراتبها ، فافهم وتذكّر ما سبق ذكره في سرّ الغذاء وصوره وكونه شرطا في التوصيل وظهور التفصيل لا غيره ، وكذلك ما نبّهت عليه من النكت المبثوثة الكاشفة لهذا السرّ ؛ فإنّك تستشرف على أسرار جليلة ، عظيمة الجدوى ، والله المرشد.

١٩٧

وصل من هذا الأصل

اعلم ، أنّ كلّ فعل يصدر من الإنسان من أفعال البرّ ، ويقصد (١) به أمرا مّا غير الحقّ ـ كائنا ما كان ـ فهو فيه يعدّ من الأجراء لا من العبيد.

ومتى صدر منه الفعل المسمّى برّا أو (٢) عملا صالحا ، ولا يقصد به أمرا بعينه ، بل يفعله لكونه خيرا فقط ، كما سبقت الإشارة إليه ، أو لكونه مأمورا بفعله ويكون مطمح نظره في العمل الأمر ولكن ليس لكونه أمرا مطلقا ، بل من حيث الحضور فيه مع الآمر ، فهو الرجل ، فإن ارتقى بحيث أن لا يقصد بما يعمله غير الحقّ كان تامّا في الرجوليّة ، فإن تعدّى هذا المقام بحيث يتحقّق أنّه لا يفعل شيئا إلّا بالحقّ ، كما ورد في الحديث «فبي يسمع ، وبي يبصر وبي يبطش ، وبي يسعى» كان تامّا في المعرفة والرجوليّة.

فإن انضمّ إلى ما ذكرنا حضوره مع الحقّ من حيث صدور أفعاله من العبد وبالعبد ، ويتحقّق ذلك ويشهده بعين الحقّ لا بنفسه ، من حيث إضافة الشهود والفعل والإضافة إلى الحقّ لا إلى نفسه ، فهو العبد المخلص المخلص.

فإن ظهرت عليه أحكام هذا المقام والمقام الذي ـ وهو مقام «فبي يسمع ، وبي يبصر» ـ وغيرهما من المقامات غير متقيّد بهما ولا بمجموعهما ، مع سريان حكم شهوده الأحدي على النحو المشار إليه في كلّ مرتبة ونسبة ، دون الثبات على أمر بعينه ، بل يكون ثابتا في سعته وقبوله كلّ وصف وحكم ، مع عدم تقيّده بمرتبة دون غيرها ، عن علم صحيح منه

__________________

(١) ق : يقصده.

(٢) و.

١٩٨

بما اتّصف به وما انسلخ عنه في كلّ وقت وحال ، دون غفلة ولا حجاب ، فهو الكامل في العبوديّة والخلافة والإحاطة والإطلاق. حقّقنا الله وسائر الإخوان بهذا المقام المطلق ، والحال المحقّق بمنّه وفضله.

١٩٩

وصل من هذا الأصل

اعلم ، أنّ الأحكام الأصليّة المشروعة ـ أعني الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة ـ منسحبة على سائر أفعال المكلّفين ، فلا يمكن أن يصدر من المكلّف فعل من الأفعال ـ كائنا ما كان ـ ولا أن يكون في حال من الأحوال إلّا وللشرع فيه حكم من إحدى هذه المراتب الخمس (١) وسواء كان الفعل ممّا تعيّنت له صورة في الأوامر والنواهي المشروعة ، كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (٢) وكقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (٣) وغيرهما من الأمور المعيّنة بالذكر والمقيّدة بالشرط ، كالحال والوقت ونحوهما من الشروط. أو كانت مندرجة الذكر في ضمن أصل كلّي شامل الحكم ، مثل قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٤) إلى آخر السورة ، وكقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٥) وكقوله عليه‌السلام : «في كلّ ذي كبد رطبة أجر» ونحو ذلك ممّا أجمل ذكره في الكتاب العزيز والأحاديث النبويّة.

ومبدأ ظهور جميع الأفعال ، الإنسانيّة من حيث نشأته الطبيعيّة العنصريّة وهو باطن القلب ، لكن شروع الفاعل في فعل أيّ أمر كان ، متوقّف على داعية تتشخّص في قلبه ، تبعثه على بعض الأفعال ، وترجّحه على غيره من الأفعال وعلى الترك.

وتشخّص هذه الداعية في القلب ، وتعيّن البواعث الموجبة لصدور الأفعال من الفاعلين ،

__________________

(١) كان في الأصل : وسواء.

(٢) البقرة (٢) الآية ٤٣.

(٣) الإسراء (١٧) الآية ٣٣.

(٤) الزلزلة (٩٩) الآية ٧.

(٥) النساء (٤) الآية ١٢٣.

٢٠٠