إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

معرفته عليه ، وكون الظاهر مطلوبا للباطن والظاهر مستغن ، فلا تزال المجاذبة والمقارعة واقعة بين المرتبتين.

والحافظ للحدّ ـ أعني الإنسان الكامل ـ برزخ بين الحضرتين ، جامع لهما ، بيده الميزان في قبّة أرين (١) ، دائم النظر إلى عين الميزان ، الذي هو مقام الاعتدال ونقطة وسط الدائرة.

فتراه حارسا واقيا (٢) حافظا بأحديّة الجمع صورة الخلاف ، مظهرا ناظما فاصلا يطلب من ربّه أن يجوع يوما ويشبع يوما ، تأسّيا بصورة الأصل ، وتطبيقا تناسبيّا بين حكم الحقائق الغيبيّة المجرّدة الباطنة والموادّ الصوريّة التركيبيّة الظاهرة ؛ فإنّ العصمة من لوازم الاعتدال وأحكامه على اختلاف مراتب الاعتدال المعنويّة والروحانيّة والطبيعيّة بالنسبة إلى الصور البسيطة و (٣) المركّبة ، وضدّ الاعتدال ـ حيث كان ـ يلزمه الفناء والاختلال والتحليل وظهور الأحكام الشيطانيّة ونحو ذلك ، فاعتبر ما ذكرته لك كلّيّا عامّا وجزئيّا في كلّ مرتبة وصورة معيّنة ، وعضو ظاهر وباطن ، وأمر طبيعي أو روحاني ، تستشرف على أسرار غريبة عزيزة ، عظيمة الجدوى.

غذاء الروح وغذاء الجسد

ثم اعلم ، أنّه كما اختصّ كلّ مزاج صوري باعتدال يخصّه ويناسبه وبحفظه تنحفظ صحّة ذلك المزاج ، ويدوم بقاء صاحبه ، ويظهر أحكام القوى البدنيّة في ذلك المزاج ، على الوجه الموافق والميزان المناسب بالمزج المتوسّط بين طرفي الإفراط والتفريط ، فيتأتّى لجميع القوى أن تتصرّف في أفانين أفعالها ، وتتعلّق المدارك بحسب مراتبها بمدركاتها ونحو ذلك ، كذلك للروح الإنساني قوى وصفات واختلاف (٤) يحصل بينها امتزاج روحاني ومعنوي يقوم منها نشأة نورانيّة ، ولذلك المزاج أيضا اعتدال يخصّه ، وميزان يناسبه ، بحفظه تنحفظ تلك النشأة ، ويتأتّى لقواها التصرّف فيما أبيح له التصرّف فيه ، على نحو ما سبق التنبيه عليه في المزاج الصوري.

__________________

(١) الأرين : النشاط ، واسم موضع. وكلاهما صحيح هنا.

(٢) وافيا.

(٣) ق : لم يرد.

(٤) ق : أخلاق.

١٦١

فمتى انفتحت عين البصيرة لإدراك تلك النشأة وخواصّها وقواها وصفاتها وأغذيتها وأحكامها ، سرى حكم النشأة الباطنة وقواها في النشأة الظاهرة سريان حكم صورة الاسم «الباطن» والاسم «الظاهر» فيها عند تمام المحاذاة وارتفاع الحجب المانعة من الإدراك ، فإنّها الجامعة بين الصورتين ، والفائزة بالحسنيين وهي المخلوقة على الصورة ، والصورة الظاهرة الإنسانيّة جزء منها ، فإنّ الصورة الظاهرة نسخة الاسم «الظاهر» والأحوال الإنسانيّة ـ من حيث تبعيّتها لعينه الثابتة وحال كونها بأسرها ثابتة ـ هي نسخة صورة الاسم «الباطن».

وهذه الصورة المنتشية و (١) الناتجة بينهما من الصفات والعلوم الإلهيّة والأخلاق بالامتزاج المذكور ، التالي للامتزاج المختصّ بالنشأة الظاهرة ، هي نسخة صورة الحقّ من حيث حضرة الجمع والوجود وقد مرّ حديثها.

وإن شئت قلت : من حيث الاسم «الله» الجامع ـ كيف ما أردت ـ بشرط معرفة المقصود وخرق حجب العبارات. وهذه هي الولادة الثانية ، التي يشير إليها المحقّقون ، ولها البقاء السرمدي والمقام العليّ ، وأهل الأذواق فيها على مراتب وحصص نشير إليها فيه بعد ، إن شاء الله. ومن هذا المقام يعرف سرّ الاسم «الربّ» وكينونته في العماء ، كما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سئل : أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه قال : «كان في عماء ما فوقه هواء ، وما تحته هواء» الحديث ، ويعرف العماء أيضا وما يختصّ به من الأسرار ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، ولتحصيل معرفته فليعمل العاملون.

حكمة العارفين

ثم نقول : فإذا انفتحت عين البصيرة ـ كما قلنا ـ واتّحد نورها بنور البصر ، وهكذا كلّ قوّة من قوى النشأة المذكورة تتّحد (٢) بآلات النشأة الظاهرة ويتّصل حكم بعضها بالبعض ، عرف صاحبها حينئذ سرّ تقويم الصحّة وحفظها على النفس ، وتصريف كلّ قوّة فيما خلقت له (٣)

__________________

(١) ق : لم يرد.

(٢) ب : ينحل.

(٣) في بعض النسخ : له لم يتجاوز.

١٦٢

ولم يتجاوز بها حدّها ، ولم يمزج بين الصفات ، ولم يخلط بين المراتب وأحكامها ، وأقام العدل في نفسه وخاصّة (١) رعاياه ، وتحقّق بالاسمين : «الحكم» «العدل» وغيرهما ، وصار صحيح الكشف ، صحيح المزاج الروحاني ، كنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله والكمّل قبله وبعده من ورثته.

فما كان كمال كشفه (٢) إدراكه في مرتبة المثل ، كشفه ممثّلا ، وما كان كمال كشفه أن يدرك في الحسّ ، أدركه في الحسّ ، وما كان كمال كشفه أن يدرك في عالم المعاني المجرّدة والحضرات الروحانيّة ، أدركه في مرتبته حيث كان على ما هو عليه.

أخبرني شيخي وإمامي الإمام الأكمل رضي الله عنه : أنّه منذ تحقّق بهذا الأمر ما استعمل قوّة من قواه إلّا فيما خلقت له ، وأنّ قواه شكرته عند الحقّ ؛ لإقامة العدل فيها وتصريفه إيّاها فيما خلقت له ، وهذا من أعلى صفات مرتبة الكمال عند من عرف ما الكمال ، فكن يا أخي ممّن عرف ـ إن شاء الله ـ

تخبط المحجوبين

ثم نقول : وفي مقابلة صاحب هذا الذوق المحجوبون عن عالم الكشف ، وهم الذين بعدت نسبة أمزجتهم الروحانيّة عن الاعتدال المذكور ، بطمس قواهم النفسانيّة ، واستيلاء حكم بعض الصفات الطبيعيّة (٣) بقهرها لباقي الصفات ، وانصباغ ما عدا الغالب بحكم تلك الصفة الغالبة انصباغا أوجب اضمحلال خاصّيّته واستهلاكه ، كما أشرنا إلى ذلك في التجلّي الذاتي بالنسبة إلى المتجلّى له التامّ التوجّه والاستعداد.

فالمزاج الروحاني ـ الذي للجاهل الفدم ، (٤) الغليظ ، الأحمق ، الجافي ، البعيد الفطنة جدّا ـ في مقابلة المزاج الروحاني المختصّ بصاحب الكمال المذكور ، الذي يبصر بالحقّ ويسمع به ، ويبصر أيضا به الحقّ ويسمع به ، كما ورد في الحديث الثابت.

ونظير هذا الذي ذكرناه ـ من الصور المركبة بالنسبة إلى الاعتدال الطبيعي في الأمزجة ـ مزاج المعدن بالنسبة إلى مزاج الإنسان ، الذي هو أقرب الأمزجة نسبة إلى الاعتدال التامّ.

__________________

(١) ه : خاصّته.

(٢) ق : عرفت.

(٣) ق : الطبعية.

(٤) الفدم : العييّ عن الكلام ، الأحمق ، الغليظ الدم. وفي ب : القدم.

١٦٣

وبين مرتبة الكامل (١) وحاله ، ومرتبة الجاهل المحجوب المذكور وحاله مراتب ودرجات.

فمن كانت نسبته إلى المرتبة الكماليّة أقرب ، كان حظّه من الكشف والصورة الإلهيّة والعلم بالحقّ وغير ذلك من صفات الكمال بمقدار ذلك القرب وتلك (٢) النسبة ؛ ومن كانت نسبته إلى المرتبة التي في مقابلة الكمال أقرب ، (٣) كانت حجبه أكثر ، وحظّه من الصورة والكشف وغيرهما ممّا ذكرنا (٤) أقلّ.

والميزان الإلهي في كلّ زمان هو كامل ذلك الزمان وحاله وكشفه ، ومنه يعلم حكم الاعتدال والانحراف في مطلق الصورة الوجودية والصور المتعيّنة الإنسانيّة ، وفي باقي مراتب الاعتدال ، كالاعتدال المعنوي والروحاني وغيرهما ، ولكلّ ما يغتذي به من صور الأغذية خواصّ وقوى روحانيّة غير القوى والخواصّ المشهودة والمدركة من حيث صورته وأثره في الأجسام ، ولتلك الخواصّ أحكام مختلفة على نحو ما ذكر في الإنسان وغيره ، وبين الأغذية ومن يغتذي بها ـ من حيث المزاج الصوري والمزاج الروحاني والمعنوي ـ مناسبات من وجه ومنافرات من وجه ، والحكم في كلّ وقت للاسم «الربّ» إنّما يظهر بالغالب منها ، وأكثرها خفية تعسر معرفتها إلّا بتعريف إلهي.

فعلى قدر المناسبة وصحّة المزاج الروحاني المذكور يقوى الكشف ، ويصحّ ويكثر ، وتعلو مرتبته ، وتشرف نتائجه من العلوم والأذواق والتجلّيات بشرط اقتران حكم الاسم «الأوّل» ومساعدته ، كما نبّهنا على ذلك غير مرّة ، وعلى قدر المباينة وقلّة المناسبة وضعف الامتزاج والمزاج الروحانيّين يكثر الحجب ، ويقلّ الكشف والعلم والإدراك الذوقي ولوازم ذلك كلّه.

ولهذا المقام من حيث ما يتكلّم فيه الآن تتمّات أخر لكن ذكرها في شرح إيّاك نعبد أولى ، فأخّرتها لذلك ، والله الميسّر.

ثم اعلم ، أنّ للطبيعة ـ من حيث هي ـ أحكاما ولها من حيث تعيّن حكمها في مزاج مزاج

__________________

(١) ه : الكمال.

(٢) ه : لم يرد.

(٣) ق : أبعد.

(٤) ق : ذكر.

١٦٤

أحكام ، وللأرواح أيضا صفات وأحكام ، وللأمر الجامع لهما (١) أحكام ، ولمرتبة الاجتماع ـ من حيث هي ـ أحكام ، وللوازم التابعة للاجتماع بها والأمر الجامع أحكام.

فالتدريج والرياضة والتهذيب والسياسة ينتفع بها في خروج ما في القوّة إلى الفعل ورسوخ بعض الأحكام العارضة المحمودة لتصير ذاتيّة أو كالذاتيّة ، وفي إزالة بعض الصفات ورفع أحكامها المذمومة لئلا تترسّخ فيتعذّر الانسلاخ عنها ، ويبقى في المحلّ أحكام (٢) ثابتة مضرّة وكلّ ذلك ليتدرّج الإنسان ، فيصل إلى ما يناسبه من الاعتدال المعنوي والروحاني والصوري المثالي وغير المثالي ، ويستمرّ حكمه المؤجّل إلى الأجل المعلوم المقدّر وغير المؤجّل.

فمن عرف ما ذكرناه ، (٣) عرف سرّ الصورة والظهور بها ، وسرّ الكشف والحجاب وما للأغذية في ذلك من الحكم ، ويعرف سرّ الحلال من الأطعمة والحرام ، وسرّ المجاهدة والرياضة وغير ذلك من الأسرار العظيمة المصونة عن الأغيار. (٤)

المزاج يغلب قوّة الغذاء

واعلم ، أنّه كما أنّ الغذاء إذا ورد على محلّ قد غلب (٥) عليه كيفيّة مّا ، فإنّه يستحيل إلى تلك الكيفيّة ، وكون المزاج ـ إذا كان قويّا ـ أبطل قوة الغذاء وحكمه بغلبة قوّته عليه ، فلم يظهر أثر للخواصّ المودعة في ذلك الغذاء ، التي لو لم تصادف هذا المقام والقاهر ، لبدا أثرها :

فكذلك حكم الخواصّ والقوى الروحانية المودعة في كلّ غذاء مع المزاج الروحاني الذي للمتناول (٦) ، الحاصل (٧) ـ كما قلنا ـ من اجتماعات القوى الروحانيّة والصفات النفسانيّة العلميّة منها والعمليّة ؛ فإنّ هذا المزاج ينتهي في القوّة (٨) إلى حدّ يقلب (٩) أعيان الصفات الروحانيّة إلى الصفة المحمودة الكاملة ، الغالب حكمها على صاحب هذا الحال والمزاج الروحاني المشار إليه ، ويضمحلّ قواها وخواصّها في جنب قوّة هذا الشخص وروحه.

__________________

(١) ق : لها.

(٢) ق : أحكاما.

(٣) ق : ذكرنا.

(٤) ق : الأعيان.

(٥) ق : غلبت.

(٦) ق : للمشارك.

(٧) في بعض النسخ : الخاص.

(٨) ق : القوى للمتن.

(٩) ق : يغلب.

١٦٥

وهكذا الأمر في الطرف المذموم ومقام النقائص بالنسبة إلى من هو في مقابلة أهل الكمال ؛ فإنّ الفيض الإلهي وآثار القوى العالية (١) والتوجهات الملكيّة تصل إليهم في غاية التقديس والطهارة متميّزا (٢) بعضها عن بعض ، فإذا اتّصلت بهم انصبغت بحسب أحوالهم والصفة الناقصة المذمومة المستولية عليهم ، فانقهرت الآثار الأسمائيّة والتوجّهات الروحانيّة تحت حكم طبيعتهم وأمزجتهم المنحرفة الناقصة ، وظهر عليها سلطان صفاتهم المذمومة ، فحجبتها وأخفت حكمها ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في سرّ التجليات ، فافهم.

ومن تفاصيل هذا السرّ والمقام تستشرف على سرّ الحلّ والحرمة أيضا ، كما نبّهت عليه ، فتعلم أنّ ثمّة أمورا هي بالنسبة إلى بعض الخلق نافعة وبالنسبة إلى غيرهم غير نافعة ، ونظير هذا في المرتبة الطبيعيّة الظاهرة أشياء شتّى كالعسل ـ مثلا ـ بالنسبة إلى المحرور المحترق المزاج ، وبالنسبة إلى المبرود والمرطوب الغالب على مزاجه البلغم.

والضابط لك في هذا الباب أنّه مهما ظهر لك حكم من هذه الأحكام في الطبيعيّات فاعتبر مثله في المراتب الروحانيّة والصفات المعنويّة النفسانيّة ، واستحضر ما أسلفت لك في النكاحات الخمسة وأسرارها من أنّ الأحكام الطبيعيّة ناتجة (٣) متحصّلة عن الأحكام الروحانيّة ، والروحانيّة ناتجة عن الحقائق الغيبيّة فإن كنت من أهل الكشف والشهود ، فتذكّر بهذا الكلام وتنزّه ، وإلّا فسلّم واطلب ؛ فإنّ الرزّاق ذو القوّة المتين ، ما هو على الغيب بضنين ولتعتبر (٤) أيضا بعد اعتبارك لتبعيّة الطبيعيّات للروحانيّات تولّد الأرواح الجزئيّة عن الأمزجة الطبيعيّة ، وما للمزاج فيها وفيما يختصّ بها من الأحكام والآثار من حيث إنّها متعيّنة بقدر (٥) الأبدان ، وبحسب المزاج ، و (٦) ارق به بعد ذلك إلى حكم الأعيان مع الأسماء والوجود الواحد المطلق ، على ما نبّهتك عليه أوّلا ، وانظر ما يبدو لك من المجموع ، تر العجب العجاب ، وتنزّه في عموم حكم الغذاء في كلّ مرتبة ، فغذاء الأسماء أحكامها بشرط المظاهر التي هي محلّ الحكم ، وهذا هو عالم المعاني والحقائق الغيبيّة ، وغذاء الأعيان

__________________

(١) ق : الغالبة.

(٢) ق : في بعض النسخ : متميّزة.

(٣) ق : لا توجد.

(٤) ق : لنعتبر.

(٥) ق : بعد.

(٦) ق : لم يرد.

١٦٦

الوجود ، وغذاء الوجود أحكام الأعيان ، وغذاء الجواهر الأعراض ، وغذاء الأرواح علومها وصفاتها ، وغذاء الصور العلويّة حركاتها وما به دوام حركتها الذي هو شرط لدوام استمدادها من أرواحها المستمدّة من الحقائق الأسمائيّة ، وغذاء العناصر ما به بقاء صورها المانع لها من الاستحالة إلى المخالف والمضادّ ، وغذاء الصور الطبيعيّة الكيفيّات التي منها تركّبت تلك الصورة والمزاج ، فالحرارة لا تبقى إلّا بالحرارة ، وكذا البرودة وغيرهما (١) من الكيفيّات الروحانيّة ، والرطوبة الأصليّة التي هي مظهر الحياة (٢) لا تبقى إلّا بالرطوبة المستمدّة من الأغذية لكن لا يتأتّى قيام المعنى بالمعنى وانتقاله إليه حقيقة وحكما إلّا بواسطة الموادّ والأعراض اللازمة وهي شروط يتوقّف الأمر عليها ، وليست مقصودة لذاتها ولا مرادة بالقصد الأوّل الأصلي ، فوظيفتها أنّها توصل المقصود وتنفصل ، فيعقبها المثل ، وهكذا الأمر في كلّ غذاء ومغتذ على اختلاف مراتب الأغذية والمغتذين الذين سبق ذكر مراتبهم.

ولمّا كان الوجود واحدا ولا مثل له كانت تعيّناته الحاصلة والظاهرة بالأعيان هي التي يخلف بعضها بعضا مع أحديّة الوجود ، فافهم.

وهنا أسرار لا يمكن كشفها ، لكن من تدبّر ما اومأت إليه واطّلع على مقامه وأصله ، عرف سرّ ظهور صور العالم بأسرها ، وسرّ أرواحه والنشآت الدنياويّة والأخرويّة والبرزخيّة وغيرها ، وعرف ما تنتشي من الحركات والأفعال والأحوال ، من كلّ متحرّك وفاعل ذي حال ، ومن كلّ كون وفساد واقع في العالم ، وما [هو] المراد بالقصد الأوّل من المجموع وفيه ، وما [هو] المراد بالتبعيّة وبالقصد الثاني ، وما هو شرط فحسب من وجه واحد ، مراد باعتبار واحد ، وما هو شرط في مرتبة ، وتبع وهو بعينه مراد ومتبوع في مرتبة أخرى ، وحكم الوقت والحال والمرتبة والموطن في مجموع ما ذكر من حيث التقيّد بالموطن والوقت وغيرهما ، وكيف تكون هذه الأمور أيضا تارة في مرتبة المتبوعيّة والمشروطيّة ، وأخرى في مرتبة الشرطيّة والتبعيّة ، وحكم الوقت والحال. وما ذكرنا بالنسبة إلى من يتعيّن بها وبحسبها وبالنسبة إلى من تتعيّن به ، وليس شيء مرادا في كلّ مرتبة بالقصد الأوّل غير الإنسان الكامل في دوره وعصره. ومن الأشياء ما هي مرادة بقصد أوّل وثان في

__________________

(١) ق : غيرها.

(٢) ق : الحرارة.

١٦٧

زمان واحد باعتبارين ، وما المرتبة التي تتضمّن هذه التفاصيل قبل ظهور الإنسان الكامل ، وهل يصحّ ذلك أم لا؟ ويعرف سرّ الدوام والحياة والبقاء والإبقاء ، وسرّ الزوال والموت والفناء والإفناء ، وغير ذلك من العلوم التي يتعذّر تفصيلها ، وتفصيل ترجمتها مع تعذّر تسمية (١) بعضها بأحقّ أسمائها ؛ لما في ذلك من الأخطار. وفيما ذكرنا غنية للمستبصرين (٢) وتذكرة للمشاركين وعبرة للمعتبرين (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) (٣) (وَ (٤) يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥).

لسان الظاهر

(الْعالَمِينَ) التفسير : العالمين جمع عالم (٦) ، والعالم مأخوذ من العلامة ، وهو عبارة عن كلّ ما سوى الله.

ولمّا وردت هذه السورة من حضرة الجمع ومتضمّنة سرّه ، (٧) وذكر الاسم «الربّ» فيها ذكرا مضافا إلى كلّ ما سوى الله ؛ تنبيها على عموم حكمه الذي كشفت لك بعض أسراره ؛ فإنّ إضافات هذا الاسم كثيرة وهذا أعمّها ، وأخصّ إضافاته المتضمّن لهذا العموم إضافته إلى الإنسان الجامع الكامل سيّدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كقوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) وكقوله أيضا (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) (٨) وكقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٩) فإنّه لمّا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله كما سمّاه الله لكماله وجمعيّته وكذا كلّ كامل كانت إضافته إلى الاسم «الربّ» بعد ذلك محمولة على أعمّ أحكام الربوبيّة وأكملها وأجمعها ، وما سوى هاتين الإضافتين فمراتب تفصيليّة جزئيّة تتعيّن فيما بينهما.

لسان الباطن

وإذا عرفت هذه ، فنقول في شرح العالم بلسان الباطن ثم بما بعده : اعلم أنّ الحقّ سبحانه

__________________

(١) ق : تسميته.

(٢) ق : للمستقصرين.

(٣) الأحزاب (٣٣) الآية ٤.

(٤) ق : وهو.

(٥) يونس (١٠) الآية ٢٥.

(٦) كذا في الأصل. والأولى : العالم.

(٧) كذا في الأصل. والظاهر زيادة الواو وكون «ذكر» جواب لمّا.

(٨) الانعام (٦) الآية ١٣٣.

(٩) النجم (٥٣) الآية ٤٢.

١٦٨

قد جعل كلّ فرد من أفراد العالم علامة ودليلا على أمر خاصّ مثله ، فمن حيث وجوده المتعيّن هو علامة على نسبة من نسب الألوهيّة المسمّاة اسما الذي (١) هذا الشيء الدالّ مظهر له ، ومن حيث عينه الثابتة فهو دليل على عين ثابتة مثله ، ومن حيث كونه عينا ثابتة متّصفة بوجود متعيّن هو علامة على مثله من الأعيان المتّصفة بالوجود.

فالأجزاء من حيث هي أجزاء علامة على أجزاء مثلها ، ومن حيث مجموعها وما يتضمّنه كلّ جزء من المعنى الكلّي هي علامة على الأمر الكلّي الجامع لها والوجود المطلق الذي يتعيّن منه وجودها.

وجعل أيضا مجموع العالم الكبير من حيث ظاهره علامة ودليلا على روحه ومعناه ، وجعل جملة صور العالم وأرواحه علامة على الألوهيّة الجامعة للأسماء والنسب ، وعلى مجموع العالم.

وجعل الإنسان الكامل بمجموعه من حيث صورته وروحه ومعناه ومرتبته علامة تامّة ودليلا دالّا عليه سبحانه وتعالى دلالة كاملة.

وكلّ ما عدا الحقّ والإنسان الكامل فليس كونه علامة على ما دلّ عليه شرطا ضروريا مطّرد الحكم ، لا يمكن معرفة ذلك الشيء بدونه ، بل ذلك بالنسبة إلى أكثر العالم والحكم الغالب ، بخلاف الحقّ والإنسان الكامل ؛ فإنّه قد يعلم بكلّ منهما كلّ شيء ، ولا يعلم أحدهما إلّا بالآخر ، أو بنفسه.

وموجب ما ذكرنا وسرّه هو أنّ الإنسان نسخة من كلّ شيء ، ففي قوّته ومرتبته أن يدلّ على كلّ شيء بما فيه من ذلك الشيء ، فقد يغني في الدلالة على كلّ شيء عن كلّ شيء.

وهكذا الأمر في الجناب الإلهي ؛ فإنّ الحقّ محيط بكلّ شيء ، فمن عرفه معرفة تامّة فقد (٢) يعرف حقيقة كلّ شيء بطريق التضمّن أو الالتزام.

والأمر في سوى الحقّ والإنسان الكامل كما بيّنّا ؛ فإنّ من عباد الله من يكون مبدأ فتحه الحقّ ، فيعرف الحقّ بالحقّ ، فإذا تحقّق بمعرفته وشهوده ، سرى حكم تلك المعرفة وذلك الشهود في مراتب وجوده ، فيعلم كلّ شيء بالحقّ ، حتى نفسه التي هي أقرب الأشياء

__________________

(١) ق : الذي هو.

(٢) ه : قد.

١٦٩

نسبة إليه ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك من قبل.

وإذا سبق العلم بشرطيّة بعض الأشياء ، وأنّه يكون سببا في معرفة أمر ما لا محالة ، تجلّى الحقّ سبحانه للعبد الذي حاله ما ذكرنا وأمثاله في مرتبة ذلك الشيء وعينه ، فعرفوه من تلك الحيثيّة في تلك المرتبة ، ثم عرفوا به ما توقّف معرفته على هذا الشرط ، ولكن من حيث النسبة الإلهيّة المشار إليها ، وارتفاع حكم النسب الكونيّة ، وسريان حكم الوجه الخاصّ ، فلم يعرفوه (١) إذا إلّا بالحقّ كما بيّنّا ذلك في سرّ الطرق ، فبعض التجلّيات علامة له على تجلّيات أخر أنزل منها مرتبة من حيث إنّ المعرّف يجب أن يكون أجلى من المعرّف ومتقدّما (٢) عليه ، ولا خلاف في تفاوت التجلّيات عند المحقّقين من حيث القوابل ، وبحسب تفاوت الأسماء والحضرات التي منها يكون التجلّي وفيها يظهر ، وبعض مظاهر التجلّيات من كونه مظاهر يكون علامة على مظاهر أخرى ، كما أنّ بعض التجلّيات والمظاهر يكون حجابا على تجلّيات ومظاهر وغيرها ، مع أحديّة المتجلّي في الجميع ، فافهم.

فالتفاوت بالمراتب ، والاطّلاع على المراتب بحسب العلم ، (٣) ولحصول العلم أسباب كثيرة من العلامات والطرق وغيرهما (٤) يطول ذكرها.

ثم أقول : وقد تحصل لبعض النفوس في بعض الأحيان عند هبوب النفحات الجوديّة الإلهيّة أحوال توجب لها الإعراض عمّا سوى الحقّ ، والإقبال بوجوه قلوبها ـ بعد التفريغ التامّ ـ إلى حضرة غيب الذات ، في أسرع من لمح البصر ، فتدرك من الأسرار الإلهيّة والكونيّة ما شاء الحقّ ، وقد تعرف تلك النفس هذه المراتب والتفاصيل ، وقد لا تعرف ، مع تحقّقها بما حصل لها من العلم المتعلّق بالحقّ أو بالكون ، ممّا لم يكن له دليل ولا علامة غير الحقّ ، بل كان الحقّ عين العلامة ، كما أشرنا إلى ذلك من قبل ، والعوالم كثيرة جدّا ، وأمّهاتها هي الحضرات الوجوديّة التي عرّفتك ما هي.

وأوّل العوالم المتعيّنة من العماء عالم المثال المطلق ، ثم عالم التهييم ، (٥) ثم عالم القلم

__________________

(١) ق : فلم يعرفوا.

(٢) ب : مقدّما.

(٣) ق : العالم.

(٤) ب : غيرها.

(٥) ق : التهيم.

١٧٠

واللوح ، ثم عالم الطبيعة من حيث ظهور حكمها في الأجسام بحقيقتي الهيولى والجسم الكلّ ثم العرش هكذا على الترتيب إلى أن ينتهي الأمر إلى الإنسان في عالم الدنيا ، ثم عالم البرزخ ، ثم عالم الحشر ، ثم عالم جهنّم ، ثم عالم الجنان ، ثم عالم الكثيب ، ثم حضرة أحديّة الجمع والوجود ، الذي هو ينبوع جميع العوالم ، فافهم والله الهادي.

قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، التفسير : لمّا تكلّمت على مفردات قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وبيّنت ما يختصّ بكلّ كلمة منها من الأسرار الكلّيّة والأحكام الجمليّة اللازمة لها ، احتجت [إلى] أن أتكلّم على هذه الآية مرّة أخرى بتنبيه وجيز جملي ، لتفهم من حيث جملتها وتركيبها ، كما علمت من حيث مفرداتها ، وهكذا أفعل في باقي السورة ـ إن شاء الله ـ ثم أضيف إلى ما سبق ذكره من التنبيه الجملي المذكور الكلام على الاسمين : «الرّحمن» ، «الرّحيم» حسب ما يستدعيه هذا الموضع ، وإن كان فيما سلف غنية ولكن لا بدّ من التنبيه على حكمهما هنا مع تقدّم ذكرهما في البسملة ، فنقول :

اعلم ، أنّه لمّا كان ظهور الحمد من الحامدين للمحمودين إنّما يكون في الغالب بعد الإنعام وفي مقابلة الإحسان ، وأنهى من (١) ذلك الحمد الصادر من العارفين المخلصين لا في معرض أمر مخصوص ؛ فإنّ نفس معرفتهم ـ المستفادة من الحقّ بأنّه سبحانه يستحقّ الحمد لذاته وما هو عليه من الكمال ـ من أجلّ النعم وأسناها ، ولم (٢) يخل أحد من أن يكون على إحدى حالتين ؛ الراحة أو (٣) النكد ، وصحّ عند المحقّقين أنّ الحقّ أعرف بمصالح عباده وأرعاها لهم منهم ، لا جرم جمع سيّد العارفين والمحقّقين صلى‌الله‌عليه‌وآله حكم الحمد في قوله في السرّاء : «الحمد لله المنعم المفضل» وفي قوله في الضرّاء : «الحمد لله على كلّ حال» (٤) تنبيها على أنّ الحال الذي لا يوافق أغراضنا وطباعنا لا يخلو عن مصلحة أو مصالح لا ندركها ، يعود نفعها (٥) علينا ،

فتلك (٦) الأحوال وإن كرهناها فلله فيها رحمة خفيّة ، وحكمة عليّة يستحقّ منّا الحمد عليها ، وذلك القدر من الكراهة هو حكم بعض أحوالنا عاد علينا مع التجاوز الإلهي عنّا في

__________________

(١) ه : عن.

(٢) ق : ولما لم.

(٣) ق : و.

(٤) جامع المسانيد ، ج ٢٩ ، ص ٢٦٢.

(٥) في بعض النسخ : نفعه.

(٦) ق : وتلك.

١٧١

أمور كثيرة ، كما أخبر بقوله تعالى : (ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (١) ويقول نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر حديث أبي ذرّ رواية عن ربّه (٢) : «فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه».

فما من حال يكون فيه أحد من العباد حتى المكروهة إلّا والحقّ يستحقّ منه الحمد على ذلك من حيث ما في ضمنه من المصالح التي يشعر بها كلّ أحد ، كمسألة عمر رضي الله عنه ومن تنبّه لما أدركه (٣) وهذا من شمول النعمة وعموم الرحمة ، فافهم.

ثم اعلم ، أنّ الحمد يتولّد بين إحسان المحسن وبين من هو محل لإحسانه وهكذا الأمر في سائر الأوصاف الكماليّة المضافة إلى الحقّ إنّما يظهر بين هاتين المرتبتين : الإلهيّة والكونيّة.

ولمّا كان أقوى موجبات الحمد ومنتجاته (٤) الإحسان ، وكان قول القائل : «الحمد لله» ، تعريفا بأنّ الحقّ مالك الحمد ومستحقّه والمختصّ به دون غيره ، على اختلاف مراتبه التي سبق بيانها وتفصيل أحكامها الكلّيّة ، وكان الحمد حقيقة كلّيّة مطلقة ، وكذا (٥) الاسم «الله» المضاف إليه هذا الحمد المطلق ، كما بيّنّا ولم يمكن أن يتعيّن للمطلق حكم من حيث هو مطلق ؛ لما أسلفنا ، جاء التعريف بعدهما بالاسم «الربّ» الذي قلنا : إنّه لا يرد إلّا مضافا ، وأضافه إلى «العالمين» ؛ تعريف لمسمّى الاسم «الله» في هذه المرتبة ومن هذا الوجه. وأضاف الربّ إلى العالمين ؛ بيانا لعموم سلطنة ربوبيّته وشمول حكم ألوهيّته (٦) وإثبات نفوذ أمره في العالم وقدرته من جهة الملك والتربية والتصريف وغير ذلك ، ممّا مرّ بيانه.

فلمّا عرف الإنعام وتعيّنت مرتبة المنعم المحمود على الإنعام ، (٧) احتيج (٨) بعد ذلك إلى أن يعرف أنّ وصول الإنعام المثمر للحمد والمبيّن علوّ المحمود على الحامدين وربوبيّته وشمول حكمهما إلى العالمين ، الذين هم محالّ هذه الأحكام ، ومظاهر هذه النسب والصفات ، بأيّ طريق هو؟ وكم هي أقسامه؟ فإنّ ذلك ممّا يستفيد المنعم عليه منه معرفة بالمنعم والإنعام ، فيكمل حضوره في الحمد ، ويعلو ويتّسع ، فلا جرم ذكر سبحانه بعد ذلك ،

__________________

(١) الشورى (٤٢) الآية ٣٠.

(٢) ب : الله سبحانه وتعالى.

(٣) ق : أدرك.

(٤) ق : مثمراته.

(٥) ق : كذلك.

(٦) ب : الألوهية.

(٧) ق : الإنعام بالإنعام.

(٨) ب : احتجّ.

١٧٢

الاسمين : «الرّحمن» ، «الرّحيم» دون غيرهما ، إشارة إلى أنّ الإنعام والإحسان المثمرين للحمد والشكر هما من توابع هذين الاسمين ؛ فإنّه لو لا الرحمة وسبقها الغضب لم يكن وجود الكون ، ولا ظهر للاسم «المنعم» و «المحسن» وأخواتهما عين ، ولهذا كان الاسم «الرّحمن» تلوا في الحيطة والحكم والتعلّق والجمعيّة للاسم «الله».

فعرّف سبحانه بهذين الاسمين هنا أنّ لوصول إنعامه طريقين ، وأنّ إنعامه على قسمين ، فإحدى الطريقين سلسلة الترتيب ومرتبة الأسباب والوسائط والشروط ، والطريق الأخرى مرتبة رفع الوسائط ، وما ذكروا (١) الإنعام من الوجه الخاصّ الذي ليس للأسباب والأكوان فيه حكم ولا مشاركة. وقد نبّهت على ذلك غير مرّة.

وأمّا القسمان فالعموم والخصوص ، فالعموم للوجود المختصّ بالرحمن ؛ فإنّ الرحمة كما بيّنّا نفس الوجود ، والغضب يتعيّن بالحكم العدمي اللازم للكثرة (٢) الإمكانيّة ، والسبق هو الترجيح الإيجادي. والرحمن اسم للحقّ (٣) من كونه عين الوجود ؛ فإنّ أسماء الحقّ إنّما تنضاف إليه بحسب الاعتبارات المتعيّنة بالآثار والقوابل ، ولهذا كثرت مع أحديّة المسمّى.

ولمّا كان التخصيص حكما من أحكام العموم وفرعا عليه ، اندرج الاسم «الرّحيم» في «الرّحمن» ولمّا كانت الألوهيّة ـ من حيث هي ـ مرتبة معقولة لا وجود لها ، وكانت من حيث الحقّ المنعوت بها والمسمّى لا تغايره ؛ لما بيّنّا أنّ الاسم من وجه هو المسمّى ، كان الاسم «الله» جامعا للمراتب والموجودات ، وكان «الرّحمن» أخصّ منه ؛ لدلالته على الوجود فحسب ، واختص الاسم «الرّحيم» بتفصيل (٤) حكم الوجود وإظهار تعيّناته في الموجودات.

فإن فهمت ما بيّنته لك ، وتذكّرت ما أسلفته في شرح هذين الاسمين وسرّ الاستواء وسرّ العرش والكرسي ، تحقّقت بمعرفة هذه الأسماء ، واستشرفت على كثير من أسرارها.

ثم نقول : وكلّ شيء فلا بدّ وأن يكون استناده إلى الحقّ من حيث المرتبة أو (٥) الوجود جمعا وفرادى ، فلهذا عبّر (٦) سبحانه بهذين الاسمين في مرتبة التقدم والرئاسة على باقي

__________________

(١) ق ، ه : وما ذكر و.

(٢) ق : لكثرة.

(٣) ق : الحق.

(٤) ب : بتخصيص.

(٥) ب : و.

(٦) ق : عين.

١٧٣

الأسماء ، فقال عزوجل : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). (١).

ثمّ اعلم ، أنّ الرحمة حقيقة واحدة كلّيّة ، والتعدّد المنسوب إليها ، المشار إليه في الحديث «بأنّ لله مائة رحمة» راجع إلى مراتبها ، واختصاصها بالمائة إشارة إلى الأسماء الكلّيّة المحرّض على إحصائها ، وهكذا الأمر في الدرجات الجنانيّة ، فما من اسم من أسماء الإحصاء إلّا وللرحمة فيه حكم ؛ فإنّ الأسماء ـ كما بيّنّا ـ من وجه عين المسمّى ، والمسمّى هو الرحمن الذي له الوجود المطلق ، وقد عرفت ممّا أسلفنا أنّ الأسماء لا يظهر حكمها إلّا بمظاهرها ، ومظاهرها إذا لم تعتبر من حيث وجودها كانت نسبا عدميّة أيضا ، ولا اعتبار للنسب إلّا بالوجود ، فحكم الأسماء والأعيان التي هي المظاهر تابع للوجود ، وهذا من سرّ عموم حكم الاسم «الرّحمن» الذي نبّهنا عليه.

فالرحمة الواحدة المرسلة إلى الدنيا هي النسبة الجامعة من نسب الرحمة ظهرت في الموطن الجامع ؛ لما بيّنّا من أنّ تجلّي الحقّ وحكم أسمائه يتعيّن في كلّ حال ووقت وموطن بحسب القوابل والأحكام المختصّة بها.

والتسعة والتسعون رحمة هي عبارة عن مراتب الرحمة وأحكامها في أسماء الإحصاء فالنسبة الجامعة تظهر حكم الرحمة من الوجه الكلّي ، وبالأسماء المذكورة تظهر أحكامها التفصيليّة ، وبأحديّة جمعها يظهر في آخر الأمر سرّ سبقها للغضب.

وقد بيّنّا غير مرّة أنّ الآخر نظير الأوّل ، بل هو عينه خفي بين الطرفين ، لتداخل أحكام النسب المتعيّنة بين البداية والنهاية ، ثم تكمّل حكم الأوليّة في آخر الأمر ، فتظهر له الغلبة في النهاية ، فإنّ الحكم في كلّ أمر هو للأوّليّات ، ولكن بسرّ الجمع كما أشرت إلى ذلك مرارا ، فإذا كان يوم القيامة ، وانضافت هذه النسبة الجامعة إلى التسعة والتسعين المتفرّعة في الأسماء ، وانتهى حكم الاسم «المنتقم» و «القهّار» وأخواتهما ، ظهر سرّ سبق الرحمة الغضب في أوّل الإنشاء (٢) ، فافهم.

ولمّا كانت الموجودات مظاهر الأسماء والحقائق ، وكان الإنسان أجمعها وأكملها ،

__________________

(١) الإسراء (١٧) الآية ١١٠.

(٢) ق : الأشياء.

١٧٤

اقتضى الأمر الإلهي أن يكون في عباد الله من هو مظهر هذا الحكم الكلّي والتفصيلي المختصّين بالرحمة ، فكان ذلك العبد صاحب السجلّات ، الذي وردت قصّته في الحديث ، وكانت بطاقته الحاملة سرّ أحديّة الجمع هي التي فيها لا إله إلّا الله ، ولها الأوّلية والجمعيّة والأحديّة ، فغلبت لذلك أحكام الأسماء كلّها.

وفي التحقيق الأتمّ أنّ الرحمة لمّا كانت سارية الحكم في مراتب الأسماء ، بنسبة التفصيل والكثرة في (١) مرتبة (٢) جمعيّتها وأوّليّتها بأحديّة الجمع ، كانت الغلبة والمغلوبيّة حكمين راجعين إليها ، فهي ـ من حيث أحديّتها وجمعيّتها للنسب التفصليّة ـ غالبة ، وهي بعينها ـ من حيث تفاريعها ونسبها الجزئيّة المتعيّنة في مرتبة كلّ اسم بحسبه ـ مغلوبة ، فهي الغالبة المغلوبة ، والحاكمة المحكومة ، وهكذا سرّ الحكم في المظهر المشار إليه ؛ فإنّ التسعة والتسعين سجلّا هي نسخ حاملة ما قبح من أفعال ذلك العبد ، والبطاقة المتضمّنة لا إله إلّا الله هي نسخة ما حسن من فعله ، فغلب الفعل الحسن المضاف إليه تلك الأفعال السيّئة (٣) ، فهو من حيث فعله الحسن غالب ، ومن حيث فعله القبيح مغلوب.

ومن ارتقى فوق هذا المقام ، رأى أنّ الفعل بالفاعل غلب نفسه ، فإن كمل ذوق المرتقي في هذا المقام ، رأى أنّ جميع (٤) الصفات والأفعال المنسوبة إلى الكون صادرة من الحقّ وعائدة إليه ولكن بالممكنات ، وهي شروط فحسب كالموادّ الغذائيّة الحاملة للمعاني التي بها يحصل التغذّي ، فيصل المطلوب بها إلى الطالب ويتّحد به مع عدم المغايرة ، وتنفصل هي من البين ، فيرتفع البين ، فافهم. وقد بقيت تتمّة تختصّ بالاسم «الرّحمن الرّحيم» (٥) نذكرها ونختم الكلام بها عليهما إن شاء الله (٦) ، فنقول :

حضرات الرحمة

اعلم ، أنّ الحضرات الكلّيّة المختصّة بالرحمة ثلاث : حضرة الظهور ، وحضرة البطون ، وحضرة الجمع. وقد سبق التنبيه عليها في شرح مراتب التمييز ، وفي مواضع أخر أيضا.

__________________

(١) ه : وفي.

(٢) ب : مرتبة و.

(٣) ق : السببية.

(٤) ب : سائر.

(٥) ق : والرحيم.

(٦) ب : الله تعالى.

١٧٥

وكلّ موجود فله هذه المراتب ولا يخلو عن حكمها ، وعلى هذه المراتب الثلاث تنقسم أحكام الرحمة في السعداء والأشقياء ، والمتنعّمين بنفوسهم دون أبدانهم ، كالأرواح المجرّدة وبالعكس ، والجامعين بين الأمرين والسعداء في الجنّة أيضا من حيث نفوسهم بعلومهم دون صورهم ؛ لكونهم لم يقدّموا في جنّة الأعمال ما يستوجبون به النعيم الصوري ، وإن كان ، فنزر يسير بالنسبة إلى سواهم ، وعكس ذلك كالزهّاد والعبّاد الذين لا علم لهم بالله ، فإنّ أرواحهم قليلة الحظّ من النعيم الروحاني ، لعدم المناسبة بينهم وبين الحضرات الإلهيّة العلميّة ، ولهذا ـ أي لعدم المناسبة ـ لم يتعلّق هممهم زمان العمل بما وراء العمل وثمرته ، بل ظنّوه الغاية ، فوقفوا عنده واقتصروا عليه ، رغبة فيما وعدوا به أو رهبة ممّا حذّروا منه.

وأمّا الجامعون بين النعيمين تماما فهم الفائزون بالحظّ الكامل في العلم والعمل كالرسل ـ صلوات الله عليهم ـ ومن كملت وراثته منهم أعني الكمّل من الأولياء.

ولمّا كانت الرحمة عين الوجود ، والوجود هو النور ، والحكم العدميّ له الظلمة ، كما نبّهتك عليه ، كان كلّ من ظهر فيه حكم النور (١) أتمّ وأشمل ، فهو أحقّ العباد نسبة إلى الحقّ وأكمل ، ولهذا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ربّه أن ينوّر ظاهره ، وعدّد الأعضاء الظاهرة كالشعر والجلد واللحم وغير ذلك ، ثمّ عدّد القوى الباطنة كالقلب والسمع والبصر ، فلمّا فرغ من التفصيل ، نطق بلسان أحديّة جمعه ، فقال : «اجعل لي نورا واجعلني نورا» (٢). وهذا هو عموم حكم الرحمة ظاهرا وباطنا ، وإجمالا وتفصيلا من جميع الوجوه.

وصاحب هذا المقام لا يبقى فيه من الحكم الإمكاني الذي له وجه إلى العدم إلّا نسبة واحدة من وجه واحد ، بها تثبت عبوديّته ، وبها يمتاز عمّن هو على صورته ، وتذكّر تعريف الحقّ سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه أرسل رحمة للعالمين ، وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وتضرّع إلى الله في أن ترث من هذا السيد الأكمل هذا المقام الأشرف الأفضل ، وصاحبه هو الإنسان الكامل ، والحال المذكور هو من أكبر (٣) أجزاء حدّ الكمال ، ومن أتمّ الأوصاف المختصّة به ،

__________________

(١) ق : النور فيه.

(٢) ر. ك : معجم مستدرك الوسائل ، ج ٥ ، ص ٧٨.

(٣) ب : الأكمل.

١٧٦

فاعلم ذلك. ثم نرجع إلى ما كنّا بسبيله ، فنقول :

وهكذا الأمر في جهنّم ؛ فإنّ المؤمن لا تؤثّر النار في باطنه ، والمنافق لا يعذّب في الدرك الأعلى المتعلّق بالظاهر ، بل في الدرك الأسفل المختصّ بالباطن ، والمشرك يعذّب في الدرك الأعلى والأسفل ، في مقابلة السعيد التامّ السعادة.

وهنا أمور لا يمكن ذكرها يعرفها اللبيب ممّا سبقت الإشارة إليه من قبل. ولهذه الأقسام تفاصيل وأحكام يفضي ذكرها إلى بسط كثير ، فأضربت عن ذكرها لذلك ، واقتصرت على هذا القدر ، وسأذكر عند الكلام على قوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (١) ما يبقى من جمل أسرار هذا المقام حسب ما تستدعيه الآية ويقدّره (٢) الحقّ ـ إن شاء الله تعالى ـ

ثم لتعلم (٣) أنّ التخصيص الذي هو حكم الاسم «الرّحيم» على نوعين تابعين للقبضتين كما مرّ بيانه :

أحدهما : تخصيص أسباب النعيم لأهل السعادة برفع الشوائب ، كما أخبر به الحقّ بقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٤) ، فإنّ الدنيا دار جمع ومزج ، فهي للمؤمنين في الدنيا ممزوجة بالأنكاد والأحكام الموطنيّة ، وهي لهم في الآخرة خالصة.

فالاسم «الرّحيم» هو المصفّي أسباب النعيم وسوابغ الإحسان عن شوائب الأكدار والأنكاد.

والنوع الآخر من التخصيص هو مطلق تمييز السعداء من الأشقياء و (٥) التخليص من حكم التشابه الحاصل في الدنيا ، بسبب عموم حكم الاسم «الرّحمن» وما للأشقياء في الدنيا من النعيم والراحة ونحوهما من أحكام الرحمة ، وبضدّ ذلك لسعداء المؤمنين من الآلام والأنكاد.

وأيضا فالرحمن عامّ المعنى ، خاصّ اللفظ ، والرحيم عام اللفظ ، خاصّ المعنى ، على

__________________

(١) الفاتحة (١) الآية ٧.

(٢) في بعض النسخ : يقدّر.

(٣) ق : ليعلم.

(٤) الأعراف (٧) الآية ٣٢.

(٥) ق : لم يرد.

١٧٧

رأي جماعة من أكابر علماء الرسوم ، وهذا القول من وجه موافق لبعض ما أشرنا إليه بلسان التحقيق وإن لم يكن من مشرب أهل الظاهر ، فافهم.

وانظر إلى كمال معرفة الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ بالأمور وقول الخليل ـ على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة ـ الذي حكاه الحقّ لنا عنه في كتابه العزيز لأبيه : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) (١) فراعى ـ صلوات الله عليه ـ من له الحكم من الأسماء على أبيه يومئذ وهو الاسم «الرّحمن» فإنّه كان في سلامة وراحة ، فنبّهه على أنّ الاسم «الرّحمن» اسم جامع وتحت (٢) حيطته أسماء لها أحكام غير الرحمة تظهر بحكم التخليص (٣) الرحمي (٤) في دار الفصل فتمتاز حصة الرحمة الخالصة عن (٥) كلّ ما ينافيها وتظهر خاصّيّة كلّ اسم بحسبه ، فكأنّه قال له : لا تغترّ بما أنت عليه من الأمن والدعة ؛ فإنّ الاسم «المنتقم» إذا انفصل عنه حكم الاسم «الرّحمن» بالتمييز والتخليص المذكور ، ظهرت لك أمور شديدة تخالف ما أنت عليه الآن ، فاستدرك مادام الأمر والوقت موافقين (٦) ، فحجب الله إدراكه عن معرفة ما أشار الخليل إليه ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

وهنا سرّ عزيز أنبّه عليه ونختم به الكلام على هذه الآية ، وهو أنّ التخصيص المضاف إلى الاسم «الرحيم» هو حكم الإرادة ؛ فإنّ الإرادة ـ كما بيّنّا ـ من الأسماء الأصليّة الأول ، والرحيم وإن عدّ من الكلّيّات باعتبار ما تحت حيطته ، فهو من الأسماء التالية للأمّهات الأول المذكورة.

ثم التخصيص المنسوب إلى الإرادة هو في التحقيق الأتمّ من حكم العلم ؛ إذ لو توقّف كلّ تخصيص على الإرادة ، لكان نفس تخصيصها بكونها إرادة إمّا أن يتوقّف عليها ، فيفضي إلى توقّف الشيء على نفسه وكونه سببا (٧) لنفسه ، وهذا لا يصحّ أو يتوقّف على إرادة أخرى ، متقدّمة على هذه الإرادة ، والكلام في تلك كالكلام في هذه ، فيفضي الأمر إلى الدور أو التسلسل ، وكلاهما محال في هذه الصورة ، ولكان تخصيص العلم والحياة أيضا متوقّفا

__________________

(١) مريم (١٩) الآية ٤٥.

(٢) ق : في.

(٣) ق : التلخيص.

(٤) ق : الرحيمي.

(٥) ق : ه : من.

(٦) ق : مواتبين.

(٧) ق : مبنيا.

١٧٨

على الإرادة ، مع ثبوت تبعيّتها لهما وتأخّر مرتبتهما عن مرتبتهما ، ولا يصحّ ذلك ، فالإرادة ، في التحقيق تعلّق خاصّ للذات ، يتعيّن بالعلم وتظهر التخصيصات الثابتة في العلم ، لا أنّها تخصيص ما لم يثبت تخصيصه في العلم ، والعلم من كونه علما تعلق خاصّ من الذات ، يتعيّن حكمه في المعلوم والمراد بحسبهما ، فمعقوليّة القبول من الممكن لنسبة الترجيح الإيجادي ولوازمه تعيّن الحكم العلمي المعيّن لنسبة الإرادة والاختيار وأحكامهما (١) ، فافهم.

ولهذا المقام أسرار يحظى بها الأمناء ، الذين رقوا بقدمي الصدق والعناية إلى ذروته ، فإن كنت من أهل الهمم العالية والاستعدادات التامّة ، فتوجّه إلى الحقّ في أن يطلعك على مخزن هذه الأسرار ، وينبوع هذه الأنوار ، فإن منحت الإجابة فارق وانظر وتنزّه ولا تنطق (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (٢).

قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يتضمّن عدّة مسائل : إحداها سرّ الملك ، وسرّ (٣) اليوم (٤) ، وسرّ الدين ، من كونه يدلّ على العبادة (٥) ، وعلى الجزاء ، وعلى الانقياد وعلى غير ذلك ممّا ننبّه عليه ـ إن شاء الله تعالى ـ فلنبدأ أوّلا ـ بعون الله ـ بالكلام على هذه الأمور من حيث الانفراد ، ثم من حيث الجمع كما فعلت ذلك فيما مرّ ، فنقول :

سرّ الملك

الملك : القوّة والشدّة ، ويطلق على القدرة أيضا ، والتصرّف. وملك الطريق في اللغة : وسطه ، وملك الدابّة ـ بضم الميم واللام ـ : قوائمها وهاديها أيضا. والملكوت مبالغة ؛ لكونه يشمل الظاهر والباطن.

وهذه المعاني التي تتضمّنها هذه الكلمة كلّها صادقة في حقّ الحقّ سبحانه وتعالى ؛ فإنّ الحقّ ذو القوّة المتين ، والهادي القيّوم ، والقادر على كلّ شيء ، والفاعل ما يشاء ، ومن بيده ملكوت كلّ شيء. وفي الملكوت سرّ لطيف ، وهو أنّه مبالغة في الملك ، والملك يتعلّق

__________________

(١) ق : أحكامها.

(٢) الشورى (٤٢) الآية ١٩.

(٣) لا توجد.

(٤) لا توجد.

(٥) ق : العادة.

١٧٩

بالظاهر دون الباطن ؛ لأنّ الملك والمالك من الخلق لا يمكنهما ملك القلوب والبواطن ، بخلاف الحقّ سبحانه ؛ فإنّه يملكهما جميعا. أمّا باطنا فلأنّ «القلب بين إصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء» وكلّ ظاهر في باب الفعل والتصرّف فتبع للباطن ، فملك الباطن يستلزم ملك الظاهر دون العكس.

ولهذا نجد من الناس من إذا أحبّ أحدا ، انفعل (١) له بباطنه وظاهره ، وإن لم يكن المحبوب ملكه وسلطانه ، ولا سيّده ومالكه بالاصطلاح المتقرّر.

على أنّ التحقيق الكشفي أفاد أنّ كلّ محبّ فإنّما أحبّ في الحقيقة نفسه ، ولكن قامت له صورة المعشوق كالمرآة لمشاهدة نفسه من حيث المناسبة التامّة والمحاذاة الروحانيّة ، فكان المسمّى معشوقا شرطا في حبّ المحبّ نفسه ، وفي تأثيره في نفسه.

ومن أسرار ذلك أنّ الإنسان نسخة جامعة مختصرة من الحضرة الإلهيّة والكونيّة ، وكلّ شيء فيه كلّ شيء وإن لم يتأتّ إدراكه على التعيين لكلّ أحد ؛ للقرب المفرط والإدماج الذي توجبه غلبة حكم الوحدة على الكثرة ، فإذا قام شيء بشيء (٢) في مقام المحاذاة المعنويّة والروحانيّة كالمرآة إمّا منه أو ممّا يناسبه ، صار ذلك القدر من الامتياز والبعد المتوسّط مع المسامتة سببا لظهور صورة الشيء فيما امتاز به عنه ، أو عن مثله فأدرك نفسه في الممتاز عنه ، وتأتّى له شهودها ؛ لزوال حجاب القرب والأحديّة ، فأحبّ نفسه في ذلك الأمر الذي صار مجلاه ، فافهم.

ولهذا المقام أسرار أخر شريفة جدّا لا يقتضي هذا الموضع ذكرها ، وإنّما هذا تنبيه وتلويح.

ثم نقول : وقد قرئ ـ كما علمت ـ ملك يوم الدّين و (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ولكلّ منهما من حيث اللغة معان ينفرد بها لا يشاركه فيها غيره.

وأهل الظاهر قد ذكروا بينهما فروقا شتّى ، ورجّح بعضهم قراءة «ملك» ورجّح آخرون قراءة «مالك» بالألف ، واستدلّ كلّ منهم على صحّة ما اختاره بوجوه تقتضيها اللسان ، ولست ممّن ينقل هنا تفاصيل مقالاتهم غير أنّي أذكر من ذلك ما يفهم منه الفرق بين

__________________

(١) ق : يفعل.

(٢) ق ، ه : لشيء.

١٨٠