إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

والواحد في مرتبة وحدته التي لا يظهر فيها لغيره عين لا يدركه سواه ؛ إذ لو أدركه الغير ، لما صحّ كونه واحدا ؛ فإنّ نسبة معقوليّة إدراك غيره له أمر زائد على حقيقته ، ولا يمكن أن يتّصل به أيضا حكم من خارج ؛ لأنّه ليس ثمّة ما يخرج عنه ، فلم يدرك إلّا بنفسه ، أو (١) بما ظهر منه وامتاز عنه ؛ لعدم مغايرته إيّاه من أكثر الوجوه.

ولمّا كان مبدأ انبعاث النفس الإنساني ـ الذي انفتحت فيه صور الحروف ـ هو باطن القلب ، وله الغيب الإضافي نظير الغيب المطلق ، الذي له النفس الرحماني ، وهو مستند الأحديّة والتعيّن الأوّل المشار إليه وكان (٢) الشفتان آخر مراتب النفس الإنساني والكلام ، ولهما (٣) الشهادة والتثنية الظاهرة ، في مقابلة التثنية الأولى المتعيّنة من الوحدة وبها ، وكان الواحد من شأنه أن لا يتعيّن في مرتبة من المراتب بنفسه ، بل يعيّن ولا يتعيّن ، والألف ـ كما بيّنّا ـ مظهره وكان أقرب الحروف نسبة إلى الألف هو الباء ، كما أنّ أقرب المراتب نسبة إلى الوحدة هي (٤) التثنية الأولى المذكورة لمجاورة آخر نقطة الدائرة أوّلها ، ولما علمت من حال الكثرة ـ التي هي في (٥) مقابلة الوحدة ـ من أنّها تنتهي عند التحليل إلى الوحدة التي انتشت (٦) منها.

النظريّة الدوريّة والحروف العاليات

وأحكام الوجود والحقائق والمراتب والموجودات دوريّة ، والحركات المعقولة والمحسوسة من الأمور الكلّيّة والتالية لها أيضا دوريّة ، وهذا من البيّن عند الألبّاء المستبصرين ، فظهر ـ لما قلنا وكما بيّنّا ـ [أنّ] حرف الباء في المرتبة الثانية من الألف.

وقد أسلفنا أنّ كلّ ظاهر متعيّن فإنّه اسم دالّ على أصله الذي تعيّن منه وظهر به ، فالحروف والكلمات اللفظيّة والرقميّة هي أسماء الأسماء ، لدلالتها على حقائق الأسماء الغيبيّة.

__________________

(١) في بعض النسخ : و.

(٢) ق : كانت.

(٣) ق : لها.

(٤) في بعض النسخ : هنّ.

(٥) في بعض النسخ : لم يرد.

(٦) في بعض النسخ : انتشأت.

١٢١

فكان الدالّ على الحقّ من حيث التعيّن الأوّل الاسم الأحدي الجمعي الذي هو مفتاح الأسماء والمسمّيات ، وفي عالم الحروف الهمزة والألف من وجه والباء من وجه ، فنفس التعيّن له الهمزة والمتعيّن بذلك التعيّن [له] الألف ، فالهمزة برزخ بين ما تعيّن من الحروف وبين النفس من حيث هو عينه (١) وإطلاقه ، والنفس أيضا ـ من حيث تعيّنه في مرتبة الألف بالهمزة التي هي نفس التعيّن ـ برزخ بين ما تعيّن منه من الحروف كالباء وغيره ، وبين نفسه من حيث إطلاقه وعدم تعيّنه.

وهكذا الاسم المتميّز من غيب الذات ، الذي هو مفتاح الأسماء برزخ بين الأسماء وبين الذات من حيث إطلاقه الغيبي ، وعدم تعيّنها في هذه المرتبة الأوّليّة الأسمائيّة (٢) المذكورة ، وقد سبق التنبيه عليه في شرح الحدّ.

الهمزة والألف

ثم نقول : فالهمزة والألف كلّ منهما ظاهر من وجه ، وخفيّ من وجه ، كسائر البرازخ ، وهكذا الاسم الذي له التعيّن الأوّل المنعوت بالوحدة ، وقد ذكر غير مرّة.

فمن خفاء الهمزة عدم ظهورها في الحروف الرقميّة مثل أصلها الذي هو نفس التعيّن والحدّ المذكور ؛ فإنّه لا يظهر إلّا في متعيّن ، وبه. ومن ظهورها تمكّن النطق بها ووجدان أثرها. وحكم الألف بخلافها ؛ فإنّ صورته تظهر في الرقم ولا تتعيّن في اللفظ النفسي ؛ لأنّه عبارة عن امتداد النفس دون تعيّنه بمقطع خاصّ ، في مخرج من مخارج الحروف ، فمجموع الهمزة والألف حرف واحد ، وفي هذا المقام يكون التعيّن جزءا من المتعيّن ، وهكذا حال الوحدة والتميّز التابعين للاسم الذي هو مفتاح الأسماء.

وكما أنّ أوّل موجود صدر من الحقّ بالتجلّي المتعيّن من الغيب المطلق المتوجّه لإيجاد عالم التدوين والتسطير هو القلم ، كذلك أوّل الحروف الموجودة من النفس الإنساني من حيث تعيّنه بالهمزة في مرتبة أحديّته ، الذي الألف مظهره هو حرف الباء ، فالهمزة أقرب

__________________

(١) ق : غيبه.

(٢) الاسمية.

١٢٢

المراتب نسبة إلى الإطلاق الباطني النفسي وأوّلها ، والباء أقرب الموجودات نسبة إليه وهو آخر مراتب الغيب وأوّل مراتب الشهادة التامّة.

السين

ثم ظهر السين بعد الباء في الوسط ، بين الظاهر والباطن ، منصبغا بحكم التثليث الأوّل المذكور ، ولكن في مرتبة الكثرة ؛ لأنّ مراتب التجريد التي لها بسائط الأعداد قد تمّت بالمراتب السابقة ، كما قد عرفت ذلك إن تأمّلت ما أسلفنا.

فكان للسين من الأعداد الستّون الذي له درجة (١) التماميّة في مراتب العشرات ؛ إذ بالكثرة الظاهرة تمّ الأمر.

وخفي الألف ـ الذي هو مظهر الواحد ـ بين الباء والسين تعريفا بسرّ المعيّة ، وسريان حكم الجمع بالأحديّة ، وكذلك خفي في وسط الاسم «الله» والاسم «الرّحمن» اللذين هما الأصلان لباقي الأسماء ، وقد عرّفتك بسرّ الوسط ، فافهم. وخفي أيضا هو باعتبار آخر في المراتب الثلاث المقابلة لهذه الثلاثة المذكورة المختصّة بالعبوديّة التامّة ، وهي المقابلة للربوبيّة التامّة ، وهي الياء الساكنة في «السين» و «الميم» و «الجيم» ليعلم سريان تجلّي الحقّ في كلّ حقيقة ومرتبة سريان الواحد في المراتب العدديّة ، المظهر للأعداد ، مع عدم ظهور عينه من حيث هو وبحسبه كما مرّ ، وليحصل الجمع بين السريان المذكور وبين الإطلاق والتنزّه عن التقيّد (٢) بالأحكام والنسب والتعلّقات ، ولا يعرف ما (٣) اومأت إليه إلّا من عرف سرّ تحكّم الحقّ ، وإجابته.

ثم نقول : فالألف ـ كما علمت ـ للسريان الذاتي ، والباء أوّل مراتب التعدّد والظهور الكوني ، الناتج من المقام الجمعي الأحدي. والهمزة ـ التي هي نظير نفس التعيّن دون إضافته إلى من تعيّن به ـ لها فتح باب الإيجاد ؛ لأنّ الحقّ من حيث ذاته لا يقتضي أمرا على التعيّن (٤) من إيجاد أو غيره ، فالتعلّق والاقتضاء ونحوهما إنّما هو من حيث اعتبار نسبة الألوهية (٥)

__________________

(١) ق : الدرجة.

(٢) ه : التقييد.

(٣) ق : بما.

(٤) ق : التعيين.

(٥) ق : الالوهة.

١٢٣

المرتبطة بالمألوه والتي يرتبط بها (١) المألوه ، ومن جهتها تضاف (٢) النسب والأسماء والاعتبارات إلى الحقّ.

ولمّا لم يكن الإيجاد أمرا زائدا على تعيّن (٣) الوجود الواحد وتعدّده في مراتب الأعيان الممكنة وبحسبها ، مع عدم تعيّنه وتعدّده في نفسه من حيث هو كذلك ، قلنا : إنّ الهمزة مظهر سرّ الإيجاد ، فهي تختصّ بالقدرة التي هي أخرى النسب والصفات الباطنة ، المتعلّقة بإظهار ما تعلّقت المشيئة بإظهاره ، والميم ـ الذي له التربيع المذكور ـ هو مقام الملك ، وتمّ حكم الفرديّة في هذه المرتبة أيضا ؛ فإنّ لها في كلّ مرتبة مظهرا وحكما بحسب تلك المرتبة ، فلذلك أكرّر ذكرها ليعلم حكمها في كلّ مرتبة ما هو ، وليعلم حكم المراتب وتأثيرها فيما يمرّ عليها ويظهر فيها من الأمور.

فلمّا ظهر بعد الباء بسرّ الألف الغيبي الساري في كلّ كلمة من كلمات البسملة حرف السين ، وظهرت به صورة الكثرة ، رجع التجلّي والأمر ـ بعد نفوذه وظهور حكمه في مرتبة الكثرة وإبراز أعيان نسبها ـ يطلب الرجوع إلى الأصل الذي هو مقام الأحديّة المشار إليه من قبل ، فلم يمكن (٤) للسين الاتّصال المطلوب ؛ لأنّه جزء من أجزاء ثوب الاسم الذي به يدوم ظهور كلّ ظاهر ، والرجوع إلى الأحدية ينافي ذلك ، وحكم القيوميّة لا يقتضيه.

وأيضا فالألف ـ الذي هو مظهر الواحد ـ ظهر في مقام الأوّلية ، لتعيين مظهر الاسم «الله» الجامع ، وليس قبل الألف ما يتّصل به كون ؛ لأنّه المجاور (٥) للغيب كما قد علمت ، ولم يمكن للسين أن يسكن ؛ فإنّ الإرادة الأصليّة بالتجلّي ـ الساري الوحداني المعقول بين الباء وبينه ـ تحكم عليه بالحركة لنفوذ الأمر ، فدار في نفسه دورة تامّة بسرّ التجلّي المذكور ، فظهر عين الميم مشتملا على ما تضمّنته الدائرة الغيبيّة التي هي فلكه من المراتب البسيطة ، في المقام العددي ، ولكن بحسب مرتبته التي هي الكثرة المتوسّطة ، فصار ذا وجهين وحكمين مثل أصله المقدّم ذكره.

__________________

(١) ب : ارتبطها.

(٢) ق : انضاف.

(٣) ه : تعيين.

(٤) ب : يكن.

(٥) ق : مجاور ، ب : مجاوز.

١٢٤

الميم

فمن حيث سريان حكم الإرادة وإتمام الدورة ظهر بجميع الأعداد البسيطة وهي التسعة ؛ فإنّ الميم في الصورة الظاهرة ميمان لكلّ ميم أربعون ، وللياء المتوسّطة عشرة ، فصارت الجملة تسعين. والتسعون هي التسعة بعينها لكن في مراتب العشرات ، وكذلك حكم الميم مع السين والسين مع الباء باعتبار السابق والتثنية التي ذكرتها في حكم القلم واللوح.

ثم نرجع إلى الميم ونقول : فظهرت الياء ـ التي لها العشرة ـ بين صورتي الميم ؛ لأنّ الوسط مقام الجمع الذي منه تنشأ الأحكام ، وسكونها إشارة إلى الخفاء الذي هو شرط في التأثير ؛ فإنّ الأثر فيما ظهر راجع إلى المراتب الغيبيّة ، فكلّ أثر يشهد من كلّ ظاهر فإنّما ذلك بأمر باطن فيه أو منه ، وهكذا خفي حكم الإرادة في المراتب المتقدمة عليها ، ثم ظهر بظهور متعلّقها الذي هو المراد ، وقد أشرت إلى ذلك من قبل.

ولهذه الآخريّة والجمع اختصّ الميم بالإنسان ، كما أخبر به سيّدنا وشيخنا رضى الله عنه ، فعلى هذا كان احتواء الميم على التسعة من وجه والتسعين من وجه إشارة إلى استيفائه أحكام أسماء الإحصاء ، وحكمه في هذه الإحاطة والدور المذكور.

واختصاصها بالإنسان ـ الذي هو آخر الموجودات ظهورا ـ من حيث صورته ، نظير التجلّي الحبّي الأوّل ، الذي دار في الغيب على نفسه الدورة الغيبيّة المذكورة حتى كان مفتاح سائر البواعث الحبّية المستجنّة في حقائق الممكنات ، ومفتاح الحركات الدوريّة العشقيّة المنبّه عليها عند الكلام على سرّ بدء الإيجاد.

فمن أحكام الباء الدلالة على التثنية الأولى ، المنبّهة على الجمع وأوّليّة المرتبة الكونيّة التالية للأحديّة الإلهيّة ، وعلى الألف الغيبي المختصّ (١) بالأحديّة المعقول بينه وبين السين.

ومن أحكام السين الدلالة على ما دلّ عليه حرف الباء ، وعلى النسب التي تستند إليها الأرواح المهيمنة (٢) قبل الباء ، كالأسماء الباطنة الأصليّة وغيرها ممّا سبق التنبيه عليه في سرّ بدء الأمر وانفصال الشطر الغيبي ، ونظير ذلك في النفس الإنساني مخارج الحروف التي

__________________

(١) ق : المخصّص.

(٢) ه : المهيميّة.

١٢٥

بين الهمزة التي لها التعيّن الأوّل وبين الباء الذي هو آخر الغيب وأوّل الشهادة.

ومن أحكام الميم الدلالة على سرّ حضرة الجمع الذي ظهرت صورته من بعد ظهور المدلول بعد الدليل وهو الاسم (١) «الله» لاختصاص الميم بالإنسان الذي هو أتمّ دليل على الحقّ وأسدّه (٢) ، فظهر الاسم «الله» بألفين ولا مين وهاء.

فالألف الواحد لنسبة الاسم «الباطن» وهي الظاهرة في النطق لا في الخطّ كظهور الاسم «الباطن» بأثره لا بعينه ، والألف الآخر الظاهر للاسم الظاهر الأوّل.

وإحدى اللامين لنسبة ارتباط الحقّ بالعالم من كونه ظاهرا بحقائق العالم. والأخرى لنسبة ارتباط العالم بالحقّ من حيث ظهور العالم بعضه للبعض في غيب الحقّ ، والحقّ المظهر والمرآة ، كما قد أشرت إليه في سرّ العلم والوجود والتقدم والتأخّر ، عند الكلام على مراتب التمييز.

والهاء للهويّة الغيبيّة الجامعة بين الأوّل والآخر ، والباطن والظاهر.

فاستحضر من الأسرار الخمسة ، وتذكّر الحضرات الخمس والأسماء الأصليّة الأربعة ، والسرّ الجامع بينهما (٣) ، وكذلك النكاحات الخمسة ، والحكم الخماسي الظاهر في الحروف والنقط والإعراب ، وانظر جمعيّة الاسم «الله» لسائرها (٤).

ثم انظر إلى سرّ الهاء الذي له جمع الجمع من حيث الأمر ومن حيث المرتبة ، وكيف اختصّ من الأعداد بالخمسة ، وتدبّر أيضا التثليث والتربيع المذكورين ، وسريان حكمهما وتأمّل كيف كان كلّ كلمة من كلمات البسملة جامعا لهما من وجه ، محلّا لحكمهما.

والاسم «الله» إذا جمعت حروفه الظاهرة والباطنة كانت ستّة على رأي شيخنا رضي الله عنه : الألف ، واللامان ، والألف الظاهرة في النطق لا في الخطّ ، والهاء ، والواو الظاهرة بإشباع الضمّة. وإذا أضفت إلى هذه الستّة الحقيقة التي يدلّ عليها هذا الاسم أعني الألوهيّة (٥) التي هي عبارة عن نسبة تعلّق الحقّ من حيث ذاته بالأسماء المتعلّقة بالكون ، كانت سبعة ، فافهم.

__________________

(١) ق : بين اسم.

(٢) ق : أسدّ وفي بعض النسخ : أشدّ. وفي بعضها : أشدّه والصحيح ما أثبتناه.

(٣) ب : بينها.

(٤) ب : لسائرهما.

(٥) ق : الألوهة.

١٢٦

وانظر سريان حكم الحقائق التي نبّهت على سرّها ، وهكذا الاسم الكلّي «الرّحمن» التالي لهذا الاسم الجامع ، والمشارك له في الجمع والحكم والإحاطة ، كما أخبرنا (١) سبحانه ، وكما نبّهت عليه في هذا الكتاب وفي مفتاح غيب الجمع ؛ فإنّ حروفه ستّة ، والسابع هو الألف الغيبي المعقول بين الميم والنون ، الذي هو مظهر أحديّة الجمع ، فتذكّر.

ولمّا كانت كلمة «بسم» من حيث الظاهر لم تجمع هذا السرّ السباعي الذي هو التثليث والتربيع ، تمّ ذلك بالإضمار (٢) الذي به صحّ «بسم» أن يكون كلمة ، فتقديره : (٣) بدأت أو أبدأ (٤) مع لفظة «بسم» تجمع التثليث والتربيع المنبّه عليهما.

وهكذا ينبغي لك أن تستحضر سرّ الغيب الذاتي من حيث الإطلاق الرافع للاعتبارات ، ومن حيث التقيّد باعتبار واحد ، ثم سريان ذلك في المقدّمتين الموجبتين انقسام الغيب بشطرين ، ثم نسبتي الرحمة والغضب ، اللتين نبّهت عليهما ، ونسبة الوحدة الصرفة باعتبار كونها وحدة فقط ، ونسبتها من حيث استناد الكثرة إليها ، وحكم الباء المستندة إلى هذه التثنية ، والسين المنبّه على الكثرة التالية ، وكاللوح مع القلم والكرسيّ ـ الذي هو محل التقسيم الظاهر في عالم الصور ـ بالنسبة إلى العرش الوحدانيّ الصفة ، والكلمة والأمر ، والإحاطة والعموم لسرّ الاسم «الرّحمن» المستوي عليه ، وسرّ الاسم «المدبّر» المختصّ بالقلم ، وكذلك سرّ الاسم «المفصّل» المختصّ باللوح (٥) ، وظهور تخصيصه وتميّزه بالاسم «الرّحيم» في الكرسي الكريم.

وانظر عموم حكم الحقّ وإحاطته وجمعيّته ، من حيث ذاته ومن حيث أسمائه الكلّيّة ، ثم اندراج الجميع جملة في الاسم «الله» ، وتفصيلا في الاسمين : «الرّحمن» و «الرّحيم» ثم اندراج الجميع في هاء الاسم «الله» الذي هو مظهر الغيب الذاتي.

وانظر حكم الحضرات الخمس مع النسبتين الأوليين (٦) المنبّه عليهما ، اللتين بهما ظهر السرّ السباعي وتمّ.

__________________

(١) ق : أخبر.

(٢) ب : بالإظهار.

(٣) ق : فتقدير.

(٤) ه : بدأ.

(٥) ق : اللوح.

(٦) ه : الأوّلين.

١٢٧

وانظر حكم المرتبة الأولى (١) كيف سرى فيما تحتها من المراتب من غير انخرام ولا اختلال تعرف بعض الأمر ممّا تسمع وتستروح صحّته لئلّا تظنّ أنّه اعتبار ، أو تأويل ، أو كلام نتج (٢) عن حدس وتخمين ، بل ذلك تنبيه عزيز على أسرار إلهيّة غامضة ، وترتيب شريف رتّبه ربّ لطيف عليم خبير.

ثم أقول : ولست أسلك هذا المسلك في تفسير هذه السورة وإنّما ذكرت هذا القدر تعريفا بما أودع الحقّ كتابه العزيز ، وسيّما هذه السورة التي هي أنموذج ونسخة لكتابه الكريم ، بل لسائر كتبه من الأسرار الغريبة ، والعلوم العجيبة ليعلم أنّه رتّب حروفه وكلماته وترتيب مدبّر خبير ، فما فيه حرف بين حرفين أو متقدّم ، أو متأخّر إلّا وهو موضوع بقصد خاص ، وعلم كامل ، وحكمة بالغة لا تهدى العقول إلى سرّها.

بطون القرآن وأسرار الحروف

ومن لا يكشف له هذا الطور لم يعرف سرّ بطون القرآن التي ذكرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله «للقرآن ظهر وبطن إلى سبعة أبطن» (٣) ، وفي رواية «إلى سبعين بطنا» ولا سرّ (٤) قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) (٥) ولا سرّ قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (٦) ، ولا سرّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «خصّصت بستّ» ، وتعيينه في جملتها الفاتحة وخواتم البقرة الدالّة على كمال ذوقه وجمعيّته ، ولا سرّ قوله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٧) ، ولا سرّ قول علي رضي الله عنه : «لو أذن لي في تفسير الفاتحة ، لحملت منها سبعين وقرا» ، ولا سرّ قول الحسن رضى الله عنه : «أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب ، فأودع المائة في الأربعة» وهي : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، وأودع الجميع في القرآن ، وأودع جميع ما في القرآن في المفصّل ، وأودع ما في المفصّل في الفاتحة. وقد نبّهتك الآن على اندراج الجميع في هذه الأسماء الثلاثة ، ثم اندراج الاسمين ، وما تحت حيطتهما في الاسم «الله» ثم اندراج كلّ شيء في حرف الهاء من الاسم «الله».

__________________

(١) ه : أولى.

(٢) ق : ينتج.

(٣) أحاديث مثنوي ، ص ٨٣.

(٤) ق : لا توجد.

(٥) طه (٢٠) الآية ٥٠.

(٦) الرعد (١٣) الآية ٢.

(٧) فصلت (٤١) الآية ٤٢.

١٢٨

ولو لا أنّ همم الخلق وعقولهم تضعف وتعجز عن الترقّي (١) إلى ذروة هذا الذوق ، وخرق حجبه والتنزّه في رياض نتائجه وكمالاته ، وطباعهم تمجّه ؛ لبعد المناسبة ، لأظهرت ـ مع عجزي وضعفي ـ من أسراره ما يبهر العقول والأذهان والبصائر والأفكار ولكن (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) وقد حصل ـ بحمد الله ـ بهذا القدر تنبيه لكلّ نبيه ، وموافقة لشيخنا الإمام الأكمل رضي الله عنه ، حيث قرن الكلام على سرّ البداية بالكلام على سرّ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) واستفتحه بهذا اللسان ، ثم بيّن بعد ذلك ما قدّر الله له بيانه.

ولعمر الله لم أقصد ذلك ، بل وقع هذا الكلام والموافقة والترتيب دون تعمّل ، وإنّما تنبّهت له فيما بعد ، فشكرت الله سبحانه على ذلك.

وسببه أنّي ما تصدّيت لنقل كلام أحد في هذا الكتاب ، لا الشيخ رضي الله عنه ولا غيره إلّا كلمات يسيرة أخطرها الحقّ بالبال دون قصد وتعمّل في جملة ما ورد من نفحات جوده ، وقد كان يقع ذلك لشيخنا رضي الله عنه ، ويقع لكثير من أهل الأذواق ، فيظنّ من لا يعرف أنّ ذلك نقل عن قصد وتعمّل بمطالعة واستكشاف وجمع وليس كذلك. وفي الأذواق النبويّة من ذلك كثير ، ولهذه الشبهة قالوا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٣) ، فافهم ، والله وليّ الفضل والإحسان والإرشاد.

وإذ قد ذكرنا في شرح كلمة «بسم» والاسم «الله» وحروفهما ما قدّر الحقّ ذكره ، مع تنبيهات جملية تتعلّق بالاسمين : «الرّحمن» «الرّحيم» فلنذكر في تفسيرهما من حيث ما يخصّهما ما يمليه الحقّ على القلب ، ويجري به القلم. فنقول :

الرّحمن الرّحيم

فلمّا انضاف إلى المراتب المتقدّمة ـ أعني التربيع التابع للتثليث ـ الأسرار الخمسة ، التي تضمّنها ظاهر الاسم «الله» تمّت الاثنا عشريّة المستوفية لمراتب الأسماء الكلّيّة ، والتالية

__________________

(١) ق : الرقي.

(٢) فاطر (٣٥) الآية ٢٠.

(٣) الفرقان (٢٥) الآية ٥.

١٢٩

لها في الحكم والمرتبة.

وقد أشرت إلى بعض أحكامها عند الكلام على سرّ الإعراب والنقط ، وو تمّت بها المراتب العددية أيضا التي هي الآحاد المنتهية في التسعة ، ثم العشرات ، ثم المئون ، ثم الألوف.

فلمّا تعيّنت مراتب الأسماء في الحضرة الجامعة لها بأحكامها ، وتوجّهت لإظهار مظاهرها وما به يتمّ كمالها ويدوم ، أعقب ذلك ظهور صورة الوجود ب «الرّحمن» المضاف إليها الوجود الشامل العامّ ، كما سبق التنبيه عليه.

وجاء بصيغة المبالغة ؛ لعدم توقّف شموله على شرط علمي أو سعي (١) تعمّلي ، أو نحوهما ، بخلاف غيره من الأسماء. وظهر مثاله ومظهره ومستواه ـ الذي هو العرش المحيط وأوّل الصور الظاهرة ـ مناسبا للمستوي عليه في الشمول والإحاطة وعدم التحيّز تنبيها على أنّ مظهر الاسم «الرّحمن» ـ مع كونه صورة مجسّدة مركّبة من جوهر وعرض ، أو هيولى وصورة على اختلاف المذهبين ـ ليس له مكان ، فلأن يكون المستوي ـ الذي جعله مكانا لما أحاط به ـ غنيّا عن المكان ، وأجلّ من أن يحصره مكان بطريق أولى ، فحصل الاستواء على المقام الوجودي بالرحمة التي هي الوجود. وعلى مظهره الذي هو العرش بالاسم «الرّحمن» ، فلم يظهر فيه تقسيم ولا تخصيص ولا اختلاف.

ثم ميزت القبضتان ـ الظاهرتان بحكم النسبتين المعبّر عنهما بالرحمة والغضب ، المنبّه عليهما من قبل ـ إن (٢) انسحب عليه حكم الرحمة ، بحسب سرعة إجابة بعض الحقائق الكونيّة للنداء الإلهي الحامل للأمر التكويني وقبول ذلك التجلّي على وجه لا ينضاف إليه ما يشين جماله ، وبحسب تثبّط (٣) بعض الحقائق أيضا عن هذه (٤) الإجابة على هذا الوجه المذكور ، وإلباسها ذلك التجلّي بسوء قبولها له أحكاما وصفات لا يرتضيها جماله ، وإن وسعها كماله ، إلى سعيد معتنى به ، وإلى شقيّ غير معتنى به في أيّ مرتبة كانت غايته.

فظهر سرّ هذا التفصيل العلمي الغيبي المذكور في مقام الكرسي ، المختص بالاسم «الرحيم».

__________________

(١) في بعض النسخ : وسعي.

(٢) في بعض النسخ : من قبل ما انسحب.

(٣) التثبّط : التريّث والإبطاء.

(٤) ب : الرحمة.

١٣٠

فانقسم الحكم إلى أمر مؤدّ ومفض بالممتثل (١) له والعامل به إلى الانتظام في سلك السعداء أهل النعيم الدائم والراحة الخالصة في ذلك المقام بعينه ، فإنّه مقام أهل اليمين ومظهر الاسم «الرّحيم». وإلى نهي وتحذير عن الوقوع فيما يؤدّي إلى الانخراط في سلك الأشقياء أهل المكروه ، الذي لا يظهر للاسم «الرّحيم» فيه أثر غير نفس التخصيص في الحال ؛ لغلبة حكم القبضة الأخرى ، وتمّت مراتب التثليث في المراتب التابعة للفرديّة الأولى.

فالاسم «الله» من حيث أوّليّته لمرتبة الألوهيّة (٢) ، التي يستند إليها المألوه ، ويختصّ بها القسم الأوّل من الفاتحة. وللرحمن الوجود العام المشترك ووسط الفاتحة ، وللرحيم التخصيص المذكور وآخر الفاتحة للإجابة الإلهيّة ، والتخصيص المتضمّن (٣) فيه بقوله : «هو (٤) لعبدي ، ولعبدي ما سأل». (٥)

فالرّحيم ـ كما بيّنّا ـ لأهل اليمين والجمال. والرّحمن ـ الجامع بين اللطف والقهر ـ لأهل القبضة الأخرى والجلال. وأهل الاسم «الله» من حيث الجمعيّة لهم البرزخ الجامع بين القبضتين ومقام القربة والسبق والوجه والكمال ، فتدبّر ما يقرع سمعك ويستجليه فهمك.

فهذه تنبيهات إلهيّة يستفاد منها أسرار جليلة من جملتها معرفة سريان أحكام المراتب الكلّيّة فيما تحت حيطتها من المراتب والمظاهر ، فيتحقّق الارتباط بين جميعها ، فيصير ذلك سلّما لرقي الألبّاء ـ ذوي الهمم العالية والمدارك النوريّة الخارقة ـ إلى ما فوق ذلك بتوفيق الله وعنايته ، والله وليّ الإرشاد والهداية. ولنختم الآن الكلام على البسملة بالإشارة النبويّة المستندة إلى الحضرة الإلهيّة وهي قول الحقّ عند افتتاح عبده المناجاة ببسم الله الرّحمن الرّحيم في الجواب : «ذكرني عبدي»

كيف يذكر العبد ربّه؟

فنقول : الذكر إمّا أن يقترن معه علم به وبالمذكور ، أو بأحدهما ، أو لا يقترن ، فإن اقترن فهو مظهر للحضور وسبب له ، والحضور حقيقة متعلّقها استجلاء المعلوم ،

__________________

(١) ب : بالمتمثّل.

(٢) ق : الألوهة.

(٣) ق : المضمّن.

(٤) ق : هؤلاء.

(٥) روح الأرواح ، ص ٦٩٠.

١٣١

وله خمس مراتب :

إحداها الحضور مع الشيء من حيث عينه فحسب ، أو من حيث وجوده ، أو من حيث روحانيّته ، أو من حيث صورته. أو من حيث مرتبته الجامعة بين الأحكام الأربعة المذكورة.

وأمّا الحضور مع الحقّ فإمّا أن يكون من حيث ذاته ، أو من حيث أسمائه ؛ والذي من حيث أسمائه فإمّا أن يكون متعلّقه اسما من أسماء الأفعال ، أو من أسماء الصفات فالمختصّ بالأفعال يتعيّن بالفعل ، وينقسم بحسب أنواعه. والذي من حيث الصفات. فإمّا أن يكون متعلّقه أمرا سلبيّا أو ثبوتيّا. والذي متعلّقه الذات فإمّا أن يكون مرجعه إلى أمر تقرّر في الذهن من حيث الاعتقاد السمعي ، أو البرهان النظري ، أو الإخبار الإيماني النبوي ، أو المشاهدة الذوقيّة ، أو أمرا متركّبا من المجموع ، أو من بعضها مع بعض. وكلّ ذلك لا بدّ وأن يكون بحسب أحد الأحكام الخمسة بالنسبة إلى صاحب الحضور أو بحسب جميعها.

فأتمّ مراتب الحضور مع الحقّ أن يحضر معه لا باعتبار معيّن من حيث تعلّق خاصّ ، أو باعتبار حكم وجودي ، أو نسبي ، أو أسمائي بسلب أو إثبات بصورة جمع أو فرق أو تقيّد بشيء من ذلك أو كلّه بشرط الحصر.

وما ليس كذلك فهو إمّا حضور نسبي من حيث مرتبة خاصّة أو اسم معيّن إن كان صاحبه من أهل الصراط المستقيم ، وإلّا فهو حضور مع السوى كيف كان. ثم نرجع إلى إتمام ما بدأناه. فنقول :

والعلم المقترن (١) بالذكر إمّا أن يتعدّى الذكر ويتعلّق بالمذكور ، ويتبعه الحضور المنبّه على سرّه ويكون تعلّقه به تابعا للأمور المذكورة في نتائج الأذكار من بعد وبحسب ما سبق التنبيه عليه ، أو لا يتعدّى ، فيكون متعلّقه نفس الذكر ، ويكون الحضور حينئذ معه فحسب ، أو معه ومع المفهوم منه إن كان ممّا (٢) يدلّ على معنى زائد على نفس الذكر ودلالته على المذكور.

فإن اقترن (٣) مع ذلك حكم (٤) الخيال ، استحضر ما كان صورة الذكر سببا لتشخصه في

__________________

(١) ق : المفترق.

(٢) في بعض النسخ : ما.

(٣) ق : افترق.

(٤) ق : بحكم.

١٣٢

الذهن فعلا كان ، أو حركة ، أو كيفيّة ، أو صورة وجوديّة ، لفظا كان أو غيره ، أو أمرا متركّبا (١) من ذلك كلّه أو بعضه.

وإن لم يقترن مع ذلك تخيّل حاكم فهو ـ أعني المسمّى ذكرا ـ عبارة عن نطق بحروف نظمت نظما خاصّا تصلح لأن يجعل أو يفهم لها مدلول مّا ، كائنا ما كان.

وأمّا نتائج الأذكار فإنّها تظهر بحسب اعتقاد الذاكر وعلمه ، وبحسب ما يتضمّنه الذكر من المعاني التي يدلّ عليها ، وبحسب الخاصّة اللازمة للهيئة التركيبيّة الحاصلة من اجتماع حروف الاسم الذي يتلفّظ به الذاكر أو يستحضره في خياله أو يتعقّله (٢) ، وبحسب الصفة الغالبة على الذكر حين الذكر ، وغلبة أحد (٣) الأحكام الخمسة المذكورة ، أو بحسب حكم جمعيّة الأمور المستندة إلى الذاكر (٤) نفسه ، واستيلاء أحدها أو كلّ ذلك بحسب الموطن والنشأة والوقت ، وأوّليّة الأمر الباعث على التوجّه ، وروحانيّة المحلّ (٥) والاسم الإلهي ، الذي له السلطنة إذ ذاك ، فافهم وتدبّر وأمعن التأمّل فيما بيّن لك ، فإنّه إن فكّ لك معمّاه ، شاهدت بعقلك النظري الآلي (٦) ما يهولك أمره ، ويطيب لك خبره وأثره ، والله وليّ الإحسان ، الهادي إلى الحقّ وإلى صراط مستقيم.

__________________

(١) ب : مركّبا.

(٢) ب : يعتقد.

(٣) ه : إحدى.

(٤) ق : الذكر.

(٥) ق : المحمل.

(٦) ق : الأولى.

١٣٣

باب ما يتضمّن ذكر الفواتح الكلّيّات المختصّة

بالكتاب الكبير والكتاب الصغير وما بينهما من الكتب

ومن جملة ما يتضمّن (١) التنبيه على مراتب الحقائق والفصول التي تضمّنتها الفاتحة ، وبيان سرّ ارتباط بعضها بالبعض على سبيل الإجمال.

وهذا الباب سطر على نحو ما ورد لفظا ومعنى ، وإن كان الكلّ من حيث المعنى كذلك ـ أي هو مقدّس عن التعمّل والفكر ـ ولكن انفرد هذا بالجمع بين اللفظ والمعنى ، وكثيرا مّا يقع هذا في الكتاب وغيره ، فافهم.

ثم اعلم ، أنّه ما ثمّة (٢) أمر من الأمور يفرض بين أمرين ، أو ينسب إليه بداية وغاية إلّا ولا بدّ أن يكون له فاتحة هي مرتبة أوّلية ، وخاتمة هي مرتبة آخريّة ، وأمر ثالث يكون مرجع الحكمين إليه يجمعهما ويتعيّن بهما ، والفاتحة من جملة هذه الأمور المشار إليها ، وكذلك الإنسان والعالم وما تفرّع على ما ذكرنا وكان تبعا له.

فواتح العالم الكبير

وإذا تقرّر هذا ، فاعلم ، أنّ الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ فتح خزانة غيب ذاته وهويّته التي لا يعلمها سواه باسمه الجامع بين صفات الجمع والتفرقة ، والإطلاق والتقييد ، والأوّليّة والآخريّة ، والظاهريّة والباطنيّة ، وخصّه بأن جعله مفتاحا للأسماء والأعيان وهو «الحمد» الذي نبّهنا عليه في سرّ بدء الأمر.

__________________

(١) أي من جملة ما يتضمّنه هذا الباب التنبيه.

(٢) ق : ثمّ.

١٣٤

وفتح بأحديّة هذا الاسم التعدّد والاختلاف الظاهر في كلّ أمر من الأسماء وغيرها لدى البسط الأوّل والانتشار.

وفتح باب الصفات بالحياة والجمع بالتفصيل ، والترجيح بالاختيار.

وفتح الإجمال بالتفصيل ، والتعيّن بالتميّز ، والتخصيص بالاستدلال (١) والتذكار.

وفتح باب رحمته وسعتها بالتجلّي الوجودي العامّ ، والخصوص بالعموم ، والعموم بالسعة ، والسعة بالعلم ، والإيجاد بالقول. والقول بالإرادة والاقتدار.

وفتح أبواب المدارك والإدراك بالتلاقي والانطباع واقتران الأنوار ، وفتح أبواب الكمالات بالإدراك المتعلّق بالغايات ، والمحبّة والخبرة والإشعار. (٢) وفتح أبواب التوجهات بالحركات الحبّيّة ، وانبعاث الأحكام الشوقيّة. المتعلّقة بنيل الأوطار.

وفتح باب الألفة برابط المناسبة وحكم الاتّحاد والإبصار.

وفتح بآدم باب الخلافة الكبرى ؛ لتكميل مرتبتي الظهور والإظهار.

وفتح به وبحوّاء باب التوالد والتناسل البشري ، وأظهر بهما سرّ تفصيل الذرّيّة الكامل (٣) فيهما قبل الانتشار. وفتح باب الافتراق بإشهاد المباينة وإظهار حكم النفار.

وفتح باب الكرم بالغنى وسدل الأستار.

وفتح باب الإكرام بالمعرفة.

وفتح الفتح بالاصطفاء ، والاصطفاء بالعناية ، والعناية بالمحبّة ، والمحبّة بالعلم ، والعلم بالشهود والإخبار.

وفتح باب الحيرة والعجز عن معرفته بالتردّد والقصور عن تعقّل الجمع بين الأضداد في العين الواحدة ، كالقيد والإطلاق ، والتنزيه والتشبيه ، والإبدار والسرار.

وفتح أبواب السبل بالغايات ، وبالتعريف بإحاطته لكلّ غاية ، وبقوله :

__________________

(١) ق : للاستدلال.

(٢) ب : بالإشعار.

(٣) ه : الكامن.

١٣٥

(أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (١) ، وبقوله : (إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) (٢) ليعلم تعميره بسعته جميع المراتب والنهايات والأقطار.

وفتح باب الاستقامة بمتعلّقات المقاصد والأغراض التي هي غايات السبل بالنسبة إلى السائرين والأسفار ، وعيّن منها ما شاء بشرائعه ؛ رعاية لتقيّد السالك ، وتنبيها له على تعيّن مرتبته ومصلحته ، ليعلم أنّ الحكم هو المتعيّن في أوّل الأسفار.

وفتح باب المحاذاة الكلّيّة الأولى باعتبار الرحمة العامّة الإيجاديّة الرحمانيّة التي وسعت كلّ شيء بمطلق حكم قابليّة الممكنات المخلوقة ، وقيامها مقام المرائي لظهور الوجود. ومن جهة أنّها لمّا كانت شرطا في ظهور آثار الأسماء وتعيّناتها ، عوّضت بالتجلّي الوجودي الذي ظهر به لها عينها. ونفذ حكم بعضها في بعض ، فكان ذلك أيضا ذلك مفتاح سرّ القضاء والأقدار.

وفتح باب الأحكام الإلهيّة بالأحوال ، والموازين بالانحراف والاعتدال معنى وصورة بحسب الآثار.

وفتح باب الاختصاص التقرّبي والتحكيم العلمي والتدبير العليّ بالقلم الأعلى ، المقدّس عن موادّ أمداد الأكوان والأغيار ، وعيّن به حكم الإقبال ولوازمه المنتجة للقرب وكذلك الإدبار.

وفتح باب التفصيل الوجودي باللوح المحفوظ ، المحفوظ عن التبديل والتحريف والتغيير ، وعن ملاحظة الأفكار.

وفتح باب (٣) الزمان بالآن ، والكيف (٤) بالشأن ، ونبّه على عموم حكمهما أولي الأيدي والأبصار.

وفتح باب المظاهر الجسمانيّة التي هي مثل الحقائق العليّة (٥) الغيبيّة مثل الإحاطة والرجوع إلى البداية عند حصول البغية لدى النهاية ، بالفلك الإحاطي الدوّار.

وفتح باب صورة الاسم «الدهر» بالحركة العرشيّة اليوميّة وما يتبعها من الأدوار.

__________________

(١) الشورى (٤٢) الآية ٥٣.

(٢) هود (١١) الآية ١٢٣.

(٣) ق : لا توجد.

(٤) ق : اليكف.

(٥) ق : الكليّة.

١٣٦

وفتح باب الأوقات بتقدير الحركات التي أودعها كلّ فلك وكوكب سيّار.

وفتح باب الحركات بباعثه الحبّي المتعلّق بكمال الظهور والإظهار.

وفتح باب التفصيل الشخصي والتمييز الأمري بالكرسي العليّ محلّ الورد والإصدار ، ومنزل المقرّبين ومستقرّ الأبرار.

وفتح باب الأمر بالبقاء ، والإبقاء بالاعتدال ، ورفع أحكام الكثرة التركيبيّة بغلبة حكم الجمع الأحدي ، ورعايته به (١) حكم الاختلاف الثابت بين الأضداد بحفظ المقدار.

وفتح باب نشء (٢) السماوات العلى بالفلك الشمسي ، وجعله أيضا مفتاح الليل والنهار.

وفتح باب العناصر بالاسم الحامل لعرشه الكريم ، مقام الاستواء لا الاستقرار.

وفتح أبواب التراكيب العنصريّة بالمولّدات ، والمولّدات بالمعادن والأحجار.

وفتح باب أمره بالدعوة ، والدعوة بجميل الوعد والترغيب والإنذار.

وفتح باب الامتثال بالسماع ، والسماع بالنداء ، والنداء بالإعراض ، والحجّة بالإنكار.

وفتح باب النسيان بالغفلة ، والغفلة بالقصور عن الإحاطة ، والجمع والذكر بالحضور والاستحضار.

وفتح باب سلطنة الربوبيّة بالمربوب ، والطلب والعبوديّة بمشاهدة الفقر والعجز (٣) والانكسار.

وفتح باب العبادة بشهود الانفعال تحت حكم الاسم «المقتدر» و «القهّار».

وفتح باب المناجاة بصحّة المواجهة المعقولة وحسن التلقّي الأدبي والتسليم والابتدار.

وفتح باب الثناء بالتعريف لما تضمّنه مقام الربوبيّة من اللطف والرحمة في حقّ المربوب. مع ثبوت الملك والتمكّن من فعل ما شاء ، كيف شاء على كلّ حال في كلّ دار. وفتح باب الشكر بالإحسان ، وباب المزيد بالشكر ، وأشهد نفوذ أحكام قهره فيمن أبى (٤) من حيث حقيقة قبول إحسانه ولطفه ، تحذيرا من ازدراء النعم ، وتذكرة لأهل الاعتبار.

وفتح باب السؤال بالحاجة والتّرجي وحسن الظنّ والانتظار.

__________________

(١) ق : في.

(٢) ق : نشر.

(٣) ب : بالعجز.

(٤) ق : أتى.

١٣٧

وفتح باب التمجيد والتعظيم بإشهاد ذلّ العبودية تحت عزّ الربوبية ، لترك (١) الشطح والتعاظم والافتخار.

وفتح باب الاستعانة بالقبول والتفويض والاستظهار.

وفتح باب تميّز (٢) القبضتين بتخصيص حكم الإجابة والإنابة الظاهرة الحكم في السعداء والأشقياء الفجّار.

وفتح باب الهدى والبيان بما أظهر من آياته في الآفاق وفي الأنفس ، وأبان حكمهما وحكمتهما (٣) بحقيقتي الفهم والنطق ، وكمّلهما في ذوات تراجمة أمره المصطفين الأخيار.

وفتح باب العجمة بالإعراب ، والإبهام بالإفصاح ، والرمز بالشرح ، والعقد بالحلّ ، والقيد بالإطلاق. والأشفاع بالأوتار.

وفتح باب الأمل بالإمكان والاغترار.

وفتح (٤) باب الاغترار بالدعوى والاختيار.

وفتح باب (٥) الاحتراز بالإمكان. والشكّ بالفرض ، والطمأنينة بالمشاهدة والاستبصار.

وفتح باب الإرث بصحّة النسبة والنسب ، والمكاسب بالنشآت والأوقات والأعمار.

وفتح باب الركون إلى الأسباب بالعوائد والتجربة وشبهة التكرار.

وفتح باب السلامة (٦) بالبقاء على الأصل وعدم التقيّد بالعوارض العواري والتبرّي من الدعوى واتّباع الآثار.

وفتح باب الاجتراء بالحكم والإمهال والاحتمال والجهل والاغتفار.

وفتح باب القهر والنقمة بالشرك والمنازعة والانتصار.

وفتح بإظهار الأمثال باب الدوام والاستمرار.

وفتح باب العصمة بالدراية ، والمسامحة بالإذعان والاعتراف والاعتذار.

وفتح كتابه العزيز بالنسبة إلى جمعيّة اسمه المتكلّم بأمّ الكتاب وفاتحة جامعة

__________________

(١) ب : كترك.

(٢) ق : تمييز.

(٣) ق : حكمها وحكمتها.

(٤) ق ، ه : وجود سقط ومشوش. وفي بعض النسخ : وفتح بالدعوى باب الاختيار.

(٥) ب : الاحتزان.

(٦) ق : السلام.

١٣٨

العلوم والأذكار.

وفتح الفاتحة بذكر أسمائه الكلّيّة التالية الأصليّة الأولى المذكورة في الدرجات والآثار.

وفتح ذكر أسمائه بالباء التي لها التقدمة على الحروف التامّة في أوّل النطق والإبدار.

وفتح باب معرفة ذاته وحضرة جمعه وإشهاده وتجلّيه الكمالي المعتلي على سائر الأسماء والصفات بمن أظهره آخر الوجودات ، وقدّره على صورته ، وحباه بسرّه وسورته ، وجعله خزانة حاوية على كلّ الخزائن والمفتاح الذي هو أصل المفاتيح ، وينبوع الأنوار والمصابيح ، لا يعرفه سوى من هو مفتاحه ، ويعلم هو من المفاتيح ـ التي حوتها ذاته ، واشتملت عليها عوالمه ونشأته ، مفاتيح الغيب وأحاطت بها (١) مراتبه ومقاماته ـ ما شاء ربّه أن يريه منها ويكشف له عنها.

مفاتيح الغيب

فإنّ متعلّق النفي الوارد في قوله سبحانه : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) (٢) إنّما هو نفى أن يعرف مجموعها غير الحقّ ، وأن تعرف من كونها مفاتيح الغيب ، وأن تعرف إلّا (٣) بتعريفه سبحانه وتعليمه.

فأمّا كون المفاتيح لا تعلم نفسها ، ولا يعرف بعضها بعضا ، ولا تعرف من هي مفاتيحه ، لا تعرف بتعريفه دون كسب وقصد ، فذلك لا نصّ فيه.

ومن اطّلع على بعض أسرارها عرف أنّ المتعذّر هو معرفتها من كونها مفاتيح أول مطلق الغيب ، باعتبار فتحها الأوّل لا من حيث حقائقها ؛ فإنّ المفتاحيّة نعت زائد على حقيقتها تعرف بمشاهدة فتحها ومشاهدة كيفيّة الفتح الأوّل. لا يعلمه غير الحقّ ؛ لتقدّمه بالذات على كلّ شيء فإنّه كان ولا شيء معه ، وإن شهد (٤) أحد. الآن سرّ ذلك الفتح الإيجادي ، وكيفيّته ، لكان كالأوّل لا عينه ؛ إذ الفتح الأوّل قد مرّ حديثه.

وأيضا فمعنى المفتاحيّة نسبة بين الحقيقة المنعوتة بها وبين الغيب الذي بفتحه تثبت هذه النسبة والصفة للحقيقة المنعوتة بالمفتاحيّة ، وتحقّق النسبة بين الأمرين يتوقّف على

__________________

(١) ب : به.

(٢) الانعام (٦) الآية ٥٩.

(٣) في بعض النسخ : وأن تعرف لا بتعريفه.

(٤) في الأصل : أشهد.

١٣٩

معرفة ذينك الأمرين وأحد الأمرين هو الغيب الإلهي الذاتي. و (١) لا خلاف في استحالة معرفة ذاته سبحانه من حيث حقيقتها لا باعتبار اسم أو حكم أو نسبة أو مرتبة.

فتعذّرت هذه المعرفة المشار إليها من هذا الوجه ، وقد سبق في ذلك ما يغني عن التكرار والإعادة. والتحقيق الأتمّ أفاد أنّه متى شمّ (٢) أحد من معرفتها رائحة ، فذلك بعد فناء رسمه وانمحاء (٣) حكمه ونعته واسمه واستهلاكه تحت سطوات أنوار الحقّ وسبحات وجهه الكريم ، كما سبقت الإشارة إليه في شرح حال السالك على السبيل الأقوم ، إلى المقام الأقدم.

فيكون حينئذ العالم والمتعلّم والعلم في حضرة وحدانيّة رفعت الاشتباه والأشباه ، (٤) وحقّقت وأفادت معرفة سرّ قول : «لا إله إلّا الله» مع انفراده سبحانه في غيب ذاته من حيث حجاب عزّته عن درك البصائر والأبصار ، وعن إحاطة العقول والأفكار ، وعن قيد الجهاد والاعتبارات والأقطار ، فسبحانه لا إله إلّا هو العزيز الغفّار ، كما قلنا ولما بيّنّا ونبّهنا على ما به أخبر وإليه أشار قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). يتضمّن مسائل أربع : أولاها : سرّ الحمد ، ثم سرّ الاسم «الله» ثمّ سرّ الاسم «الربّ» ، ثم «العالمين».

مقدّمه

ولا بدّ قبل الشروع في هذا الكلام من تقديم أصل وجيز يكون مذكّرا ببعض ما سلف ذكره في القواعد ممّا يتعلّق بهذا الأمر المتكلّم فيه ، وعونا على فهم ما يذكر من بعد.

ولهذا المعنى ونحوه قدّمت تلك القواعد الكلّيّة ، وضمّنتها من كلّيّات العلوم والحقائق ما يستعين به (٥) اللبيب على معرفة ما يأتي بعدها من التفاصيل ، ولأكتفي في المواضع الغامضة ـ التي لا يتمّ إيضاحها إلّا بمعرفة أصلها ـ بالتنبيه على ما سلف من كلّيّات الأمور المعرّفة بسرّ ذلك الأصل وحكمه ، فلا أحتاج إلى الإعادة والتكرار ، فممّا (٦) سلف ـ ممّا يحتاج إلى استحضاره في هذا الموضع هو : أنّ كلّ موجود كائنا ما كان فله ذات ومرتبة ،

__________________

(١) ق : لم يرد.

(٢) ق : يشمّ.

(٣) ق : امتحاء.

(٤) ق : الأشباه والاشتباه.

(٥) ق : بها.

(٦) ق : ممّا.

١٤٠