إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

صدر الدين القونوي

إعجاز البيان في تفسير اُمّ القرآن

المؤلف:

صدر الدين القونوي


المحقق: السيّد جلال الدين الآشتياني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-183-8
الصفحات: ٣٩١

والممكنات المذكور شأنهما ؛ والسرّ الجامع بينهما ـ وهو الإنسان وله حكم ينفرد به ـ سنقصّ عليك من حديثه ما شاء الله تعالى.

والذات من حيث نسبة الغنى وعدم التعلّق والمناسبة فلا كلام فيها ، كما قد علمته فيما (١) سلف ، والمسمّى معوّقا هو حكم بعض الأعيان في البعض ، ظهر بالحقّ على نحو خاصّ فيه كماله أيضا ، ككمال غيره في سوى ذلك.

وهكذا الأمر في النقائص والحجب والآلام ، فافهم. ونتيجة الكمالين ما ذكرنا ، والغاية الكلّيّة ما ينتهي إليه كلّ موجود من الأمر والحال الذي يستقرّ عليه ، ويدوم حكمه من الوجه الكلّي في أيّ مرتبة وموطن وصورة كان ، لا التفصيليّ ؛ إذ ليس للتفصيل غاية إلّا بالنسبة والفرض ، فاعلم ذلك وتدبّر ما تضمّنته هذه القاعدة ، فلقد نبّهت فيها على أسرار شتّى من أسرار الأسماء بألسنة مختلفة ، بعضها أعلى من بعض ، والسرّ الأكبر لا تظفر به إلّا مبثوثا إن عملت بمقتضى ما وصّيت به في أوّل الكتاب والله وليّ الإرشاد.

باب

يتضمّن سرّ البدء والإيجاد ، وسرّ الوحدة والكثرة ، والغيب والشهادة ، والجمع والتفصيل ومقام الإنسان الكامل ، وسرّ الحبّ وأحكامه ، وسرّ بسم الله الرحمن الرحيم من بعض الوجوه ، وغير ذلك ممّا ستقف عليه ـ إن شاء [الله] تعالى ـ وإذ قد بيّنّا من سرّ العلم والكلام ومراتبهما وأحكامهما وما يختصّ بهما من اللوازم كأدوات التفهيم والتوصيل ، وسرّ الأسماء ومراتب التميّز ، وغير ذلك ما يسّر ذكره مع ما وقع في أثناء الكلام عليها وقبل ذلك من الأسرار التي قدّر الحقّ إبرازها وبيانها ، فلنذكر النتائج ، وثمرات الأصول ، وما بقي من أمّهات العلوم والحقائق التي سبق الوعد بذكرها ، مبتدئين بسرّ البدء والإيجاد ، ومستعينين بالله ربّ العباد.

سرّ البدء والإيجاد

فنقول : اعلم ، أنّ الحقّ علم كلّ شيء من عين علمه بذاته لم يتّصف بعلم مستفاد من غيره

__________________

(١) ق : ممّا.

١٠١

ولا بغيره ، ثم أوجد العالم على نحو ما علمه في نفسه أزلا ، فالعالم صورة علمه ومظهره ، ولم يزل سبحانه محيطا بالأشياء علما ووجودا كما علم وأخبر وفهّم. وكلّ ما ظهر فإنّما ظهر منه ؛ إذ لم يكن لغيره وجود مساوق لوجوده ، كما أخبر الصادق المصدّق صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : «كان الله ولم يكن معه شيء» (١). وقد أخبر سبحانه عن نفسه ناعتا لها ، فقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (٢) ونبّه في موضع آخر من كلامه على صفات كماله ، فقال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣).

فعلم المحقّقون من خاصّته ، والمعنيّ (٤) بهم من أهل قربه وكرامته بما كشف لهم ، وأطلعهم عليه من أسرار وجوده أوّلا ، وربما أخبر ثانيا : أنّ المراتب ـ وإن كثرت ـ فإنّها ترجع إلى هاتين المرتبتين وهما : الغيب والشهادة والحقيقة الجامعة بينهما ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

فكلّ شيء فله ظاهر وهو صورته وشهادته ، وباطن وهو روحه ومعناه وغيبه ، فنسبة جميع الصور ـ على اختلاف أنواعها الخفيّة والجليّة ـ إلى الاسم «الظاهر» المنعوت بالشهادة ، ونسبة جميع المعاني والحقائق المجرّدة التي هي أصول لما ظهر من الصور الجزئيّة المتعيّنة ، أو أسباب أو شروط كيف شئت (٥) قلت إلى الغيب والاسم «الباطن».

وكلّ شيء موجود فهو من حيث معناه أو روحانيّته ، أو هما معا متقدّم على صورته ، تقدّما بالمرتبة والشرف ، وله درجة الأوّليّة باعتبار. وللصورة من وجه آخر تقدّم على المعنى والروحانيّة ولو من حيث التقدّم العلمي ؛ فإنّ العلم بالجزء متقدم على العلم بالكلّ ، والعلم بالظاهر متقدّم على العلم بالباطن وشرط في معرفته ، ومن حيث إنّ الأرواح الإنسانيّة إنّما تتعيّن بعد الإنشاء المزاجي وبحسبه أيضا ، فظهر أنّ كلّ واحد من الصور والحقائق الباطنة أوّل من وجه وباعتبار ، وآخر أيضا من وجه وباعتبار.

__________________

(١) طبقات الشافعية ، ج ٣ ، ص ٣٦٤.

(٢) الحشر (٥٩) الآية ٢٣.

(٣) الحديد (٥٧) الآية ٣.

(٤) ق : المعتني ، ه : المغني.

(٥) ق : شئت و.

١٠٢

ولمّا صحّ أنّ الحقّ وسع كلّ شيء رحمة وعلما ، والرحمة ـ كما قدّمنا ـ هي الوجود الشامل ؛ فإنّ ما عداه لا شمول فيه ولا عموم ، ظهرت إحاطة الاسم «الرّحمن» بالأشياء. ولمّا كان لكلّ شيء خصوصيّة يمتاز بها ، وحصّة متعيّنة (١) من الوجود المطلق لا يشارك فيها ، علم عموم حكم اسم «الرّحيم» أيضا على كلّ شيء بالخصوص ، فصحّ أنّ الحقّ محيط بالأشياء كلّها علما ووجودا من حيث ذاته ، ومن حيث أسمائه الكلّيّة المذكورة في هاتين الآيتين.

ثم نقول : وكلّ ما ظهر وشوهد فمن بطون متقدّم على الظهور تقدّم الغيب على الشهادة ، سواء (٢) كان التقدّم والأوّليّة ـ في جميع ما مرّ ذكره في هذا الباب ـ عند القائل (٣) به بالوجود ، أو بالمرتبة ، أو بهما معا.

فالاسم «الظاهر» وسائر ما ظهر به من الصور كانت غيبا في غيب الحقّ ، وكانت مستهلكة تحت قهر الوحدانيّة التي هي أقرب النعوت نسبة إلى الغيب الإلهي المذكور ، فمنعها حجاب الوحدانيّة والاستهلاك بالقرب المفرط من إدراكها ذاتها وربّها.

ثم أظهرها الحقّ بنور تجلّيه لما ميّزها حسب ما علمها ، فاستنارت بنوره ، وظهرت بظهوره ، فصارت مشهودة موجودة بعد أن كانت باطنة مفقودة ، وسمّيت المرتبة الجامعة لها من حيث نسبة ظهورها شهادة ، كما سمّيت المرتبة الباطنة المتقدّمة عليها الحاوية لكلّ ما ظهر غيبا.

والغيب غيبان : إضافي ، وحقيقي ، فالإضافي : ما يرد تفصيل حكمه. والحقيقي هو حضرة ذات الحقّ وهويّته.

سرّ الوحدة والكثرة

ومن المتّفق عليه أنّ حقيقته لا يحيط بها علم أحد سواه ؛ لأنّه لا يتعيّن عليه حكم مخصوص ، ولا يتقيّد بوصف ، ولا يتميّز ، ولا يتعيّن ، ولا يتناهى ، وما لا يتميّز بوجه لا يمكن

__________________

(١) ق : معيّنة.

(٢) في الأصل : وسواء.

(٣) ق : القابل.

١٠٣

تعقّله ؛ إذ العقل لا يحيط بما (١) لا ينضبط ولا يتميز عنده ، فإن تعيّن ولو بنسبة مّا ، أو من وجه مّا علم بتعيّنه من حيث ما تعيّن به ، وبحسبه لا مطلقا.

وهذا القدر من المعرفة المتعلّقة بهذا الغيب إنّما هي معرفة إجماليّة حاصلة بالكشف الأجلى ، والتعريف الإلهي الأعلى الذي لا واسطة فيه غير نفس التجلّي المتعيّن من هذه الحضرة الغيبيّة غير المتعيّنة ، وقد سبق التنبيه عليها وعلى كيفيّة حصولها ، ثم الاستدلال عليه ثانيا بما ظهر منه (٢) ، وامتاز عنه من الأسماء والآثار الوجوديّة ، والتجليات النوريّة المظهريّة ، ونحو ذلك ، كما لوّحت به في سرّ التشكّل والمتشكّل والشكل من قبل ؛ فإنّ هذا الغيب هو أصل كلّ ما ظهر وعلم وسواهما أعني ما انفرد الحقّ بمعرفته هو مقام الغنيّ عن العالمين والنسبة التي لا تعلّق لها بالسوى ؛ لارتفاع المناسبة ، كما مرّ بيانه. فأمّا من حيث نسبة تعلّقه بالعالم وتعلّق العالم به من جهة الألوهيّة (٣) وحكمها ، وسرّ المناسبات المذكورة في سرّ العلم والتأثير ، فمحكوم عليه بما ظهر به وأظهره ، وأخبر وعلّم وجلّى لمن شاء من عباده من غيب ذاته مهما تجلّى.

وأقرب المراتب نسبة إلى هذا الغيب العماء الذي هو النفس الرحماني ، وإليه تستند الأحديّة التي هي أوّل أحكام التعيّن الأوّل ، وأقربها نسبة إلى إطلاقه.

وهو أعني حضرة العماء حضرة الأسماء كلّها والصفات ، وصاحبة النعوت المذكورة من قبل ، وهو أوّل مرتبة الشهادة بالنسبة إلى الغيب الإلهي المذكور. وإلّا فهو غيب بالإضافة إلى ما تحته وهو آخر مرتبة الشهادة أيضا من حيث انتهاء كلّ كثرة صوريّة أو معنويّة عند التحليلين إليها.

والكثرة المشهودة في العالم منبثّة من الأحديّة المذكورة ، وظاهرة بها باعتبار ، ولكن لا بمعنى أنّ الواحد من حيث هو واحد يكون منبعا للكثرة من حيث هي كثرة ؛ إذ لا يصحّ أن يظهر من شيء ـ كائنا ما كان ـ ما يضادّه من حيث الحقيقة ، كما مرّ ، ولا خفاء في منافاة الوحدة للكثرة ، والواحد للكثير ، فتعذّر صدور أحدهما عن الآخر من الوجه المنافي.

__________________

(١) ق : إلّا بما.

(٢) ب : منه وعلى كيفيّة حصولها.

(٣) ق : الألوهة.

١٠٤

لكن للواحد والوحدة نسب متعدّدة ، وللكثرة أحديّة ثابتة ، فمتى ارتبطت إحداهما بالأخرى ، أو أثّرت ، فبالجامع المذكور.

وصورته فيما نروم بيانه : أنّ للواحد حكمين : أحدهما : كونه واحدا لنفسه فحسب من غير تعقّل أنّ الوحدة صفة له ، أو اسم ، أو نعت ، أو حكم ثابت ، أو عارض ، أو لازم ، بل بمعنى كونه هو لنفسه هو ، وليس بين الغيب المطلق الذي هو الهويّة وبين هذا التعيّن الاسمي الأحدي فرق غير نفس التعيّن ، كما أنّه ليس لشيء في هذا الغيب تعيّن ، ولا تعدّد وجودي فيكون الحقّ ظرفا لغيره ، تعالت أحديّته عن ذلك.

ثم نقول : والحكم الآخر من الحكمين المضافين إلى الواحد هو كونه يعلم نفسه بنفسه ، ويعلم أنّه يعلم ذلك ، ويعلم وحدته ومرتبته ، وكون الوحدة نسبة (١) ثابتة له ، أو حكما ، أو لازما ، أو صفة لا يشارك فيها ، ولا تصحّ لسواه. وهذه النسبة هي حكم الواحد من حيث نسبته (٢).

ومن هنا أيضا يعلم نسبة الغنى عن التعلّق بالعالم ، ونسبة التعلّق به المذكور من قبل ، ومن هذه النسبة انتشت (٣) الكثرة من الواحد بموجب هذا التعدّد النسبي الثابت ، من حيث إنّ معقوليّة نسبة كونه يعلم نفسه بنفسه ، وكونه واحدا لذاته (٤) لا شريك له في وجوده مغايرة لحكم الوحدة الصرفة ، فالتعدّد بالكثرة النسبيّة أظهر التعدّد العيني (٥).

وهذان الحكمان اللازمان للواحد مسبوقان بالغيب الذاتي المجهول النعت الذي لا يصحّ عليه حكم مخصوص ، ولا تتعيّن له ـ كما قلنا ـ صفة مميّزة من وحدة أو كثرة أو غيرهما.

وحكم الوحدة بالنسبة إلى العدد هو كونها من شأنها أن يعدّ بها ، وأن تظهر العدد ، لا أنّها منه ، والاثنينيّة علّة للعدد أيضا ، ولكنّها كالعلّة (٦) الماديّة ، والثلاثة أوّل العدد التامّ ، وأوّل كثرته ، وأوّل تركيباته ، فافهم.

وإذ قد نبّهنا على مرتبة الوحدة بهذه الإشارة الوجيزة ، فلننبّه أيضا على مرتبة الكثرة

__________________

(١) ه : نسبته.

(٢) ه : نسبة.

(٣) في بعض النسخ : انتشأت.

(٤) ب : بذاته.

(٥) ق : النسبي ، ب : الغيبي.

(٦) ب : كالعدد.

١٠٥

ليتمّ التنبيه عليهما ، فلا يخفى حكمهما بعد ، فنقول : الكثرة على قسمين :

أحدهما : كثرة الأجزاء والمقوّمات التي تلتئم فيها (١) الذات كجزئي المادّة والصورة ، أو الجوهر والعرض بالنسبة إلى الجسم على اختلاف المذهبين ، وكالأجناس والفصول بالنسبة إلى الأنواع الحاصلة منهما ، وبالجملة ، كثرة يفتقر إليها أوّلا ؛ ليتصوّر حصول الشيء منها ثانيا.

والقسم الثاني : كثرة لوازم الشيء وهو أن يكون للشيء (٢) الواحد في نفسه الوحدة الحقيقيّة ، أو المركّب من أجزاء أو مقوّمات تلزمه بعد وجوده ـ كيف ما كان ـ معان وأوصاف في ذاته ، ولا تكون ذاته ملتئمة منها ، سواء كان في نفسه ملتئما من غيرها أو لم يكن بل تتبع ذاته ضرورة ووجودا بحيث لا يتصوّر وجود ذلك الشيء أو تعقّله إلّا وتلزمه تلك المعاني ، كالستّة ـ مثلا ـ التي لا يتصوّر وجودها إلّا أن تكون زوجا ، لا أنّ الزوجيّة جزء من أجزاء الستّة ، بل هي لازمة لها لزوم اضطرار وتأخّر في الرتبة تتضمّن (٣) أيضا معقوليّة النصف والثلث ، والفرديّة التي في الثلاثة والخمسة وغير ذلك.

ومن هنا يتنبّه الفطن الذي لم يبلغ درج التحقيق لمعرفة سرّ الإحاطة مع كون المحيط ليس ظرفا للمحاط به ولا المحاط به جزءا من أجزاء المحيط ، وكون الصفات اللازمة للواحد غير قادحة في أحديّته وغير ذلك.

سرّ الغيب والشهادة

وحيث وضّح ما رمت التنبيه عليه من سرّ الوحدة والكثرة ؛ ليكون معرفتهما عونا على فهم ما أذكره في سرّ بدء الأمر الذي هو مفتاح الكتاب الكبير المسمّى بالعالم ، ليتدرّج منه إلى معرفة نسخته ونسخة النسخة ، حتى يحصل الانتهاء إلى النسخة الأخيرة التي هي الفاتحة [التي يكون] المراد بيان بعض أسرارها كما سبق الوعد ، فنقول :

اعلم ، أنّ الحقّ سبحانه نظر بعلمه الذي هو نوره في حضرة غيب ذاته نظر تنزّه في الكمال

__________________

(١) ق : بها.

(٢) ق : الشيء.

(٣) ق : أيضا وتتضمّن.

١٠٦

الوجودي الذاتي المطلق الذي لا يتوقّف ثبوته له على أمر خارجي ؛ إذ ما ثمّ ما يخرج عنه ، وبهذا (١) صحّ الغنى (٢) المشار إليه ، وليس هذا النظر عن حجاب متقدّم ، ولا أمر خارج متجدّد لم يكن حاصلا من قبل (٣) ـ تعالى الحقّ عمّا لا يليق به ـ فلا تجدّد هناك ، ولا قبليّة ولا بعديّة إلّا بالنسبة ، ولكن لسان علم (٤) المشاهد في عالمنا الآن ـ بعد معرفة الأمور وما بينها من التفاوت في الحكم والنعت ، والتقدّم والتأخّر ، وإدراكه لها في الحضرة العلميّة النوريّة الغيبيّة ـ يعرب عن أسرار الحقائق على مقدار ما تحتمله العبارة ، ويقتضيه حال المخاطب والمخاطب حين الخطاب ، ومراتبهما ومواطنهما ؛ إذ لكلّ ممّا ذكرنا فيما نروم بيانه حكم يوجب أثرا في الأمر (٥) المعبّر عنه يخرجه عمّا كان عليه من النزاهة ، والإطلاق السابق للتقيّد (٦) اللاحق له والعارض بسبب الموادّ والكيفيّات المختلفة حسب ما تقتضيه أدوات التوصيل (٧) والقيود المذكورة ، كما اومأت إلى ذلك في سرّ الكلام من قبل.

وبالجملة ، فقوى نشأة الإنسان تضعف عن ضبط كلّ ما تدركه نفس العارف حال المشاهدة والتجريد ، وعن كمال محاكاته والتعبير عنه ، وإبرازه على نحو ما تعلّق به الشهود ، ولذلك لا يستحضر حال الرجوع إلى عالم الشهادة إلّا كلّيات ما شاهده ، وبعض الجزئيّات لا كلّها ؛ لعدم مساعدة القوى الطبيعيّة ، وقصورها عن مدى مدرك البصيرة ، وضيق فلكها بالنسبة إلى فسيح مسرح النفس ، وسعة دائرة مرتبتها في حضرة القدس.

وحال العارف فيما ذكرنا كحال الكاتب المجيد ذي الارتعاش في كونه يعرف الكتابة معرفة تامّة في نفسه (٨) ، ولا يقدر على إظهارها على نحو ما يعلمها ؛ لعدم مساعدة الآلة له على ما يريد ، فمن (٩) لا يعرف مراتب الوسائط والآلات ، وحكمها ، وقصورها بالنسبة إلى ما في نفس مستعملها ينسب القصور إلى المستعمل وليس كذلك ، وإنّما العيب من الآلة وقصور استعدادها الجزئي المجعول الوجودي أو الغيبي الكلّي الخارج عن دائرة الوجود

__________________

(١) ب : لهذا.

(٢) ب : المعنى.

(٣) ق : قبل للحقّ.

(٤) ق : عالم.

(٥) في بعض النسخ : الأمور.

(٦) ه : للتقييد.

(٧) ق : التفصيل.

(٨) ب : نفسها.

(٩) ق : ومن ، ب : ممّن.

١٠٧

والجعل عن حسن المؤاتاة التامّة للفاعل على ما يريد إظهاره بها ، وهنا سرّ جليل إن بحثت عليه (١) وصلت إليه ـ إن شاء الله تعالى ـ

وإذا تقرّر هذا ، فلنرجع إلى ما كنّا بسبيله من كشف بدء الأمر وتفصيله ، فنقول : فشاهد الحقّ بالنظر المذكور على النحو المشار إليه كمالا آخر مستجنّا في غيب هويّته غير الكمال الأوّل الوجودي الذاتي الوجوبي ، وإذا رقيقة متّصلة بين الكمالين اتّصال تعشّق تامّ ، فكان ذلك الكمال المستجنّ كمال الجلاء والاستجلاء الآتي حديثه ، فاستدعت واستتبعت تلك النظرة العلميّة المقدسّة عن أحكام الحدوث من حيث النسبة الشهوديّة التي لمّا ظهر تعيّنها عندنا فيما بعد وعقلت ، عبّر عنها بالاسم «البصير» ـ انبعاث تجلّ غيبي آخر ، فتعيّن ذلك التجلّي لنفسه ـ منصبغا بصبغة (٢) حبّية متعلّقة بما شاهده العلم ـ يطلب (٣) ظهوره ، وذلك لتقدّم مرتبة العلم على مرتبة المحبّة ؛ إذ المجهول مطلقا لا تتعلّق به محبّة أصلا ، كما أشرنا إليه في الطلب الأسمائي والكوني (٤) في كتاب مفتاح غيب الجمع (٥).

ولمّا لم يكن في الغيب إلّا ما هو معلوم للحقّ ومشهود له ؛ لإحاطته بالأشياء وارتسامها في ذاته كان ذلك تقدّما بالنسبة ، والمرتبة كتقدّم الإرادة على القدرة ونحو ذلك ، فنظير العلم في ذلك نسبتا (٦) حكمه وحكمته اللذين كانت الرؤيتان منّا ـ البصريّة ، والعقليّة ـ مظهرين ونظيرتين لهما.

فعلم أنّ حصول المطلوب يتوقّف على تركيب مقدّمتين ؛ إذ الواحد من حيث وحدانيّته وفي مقام أحديّته لا ينتج غيره ، ولا تظهر عنه كثرة ، فلا يصحّ معه إلّا هو فقط ، وعلم أنّ الكمال المطلوب لا يظهر بدون الكثرة ، فعلم أنّ ما لا يحصل المطلوب إلّا به فهو مطلوب.

ولم يتعيّن من مطلق الغيب حالتئذ إلّا مقدّمة واحدة وهي التجلّي بالباعث الحبّي ، فلم ينفذ الحكم ؛ لما ذكرنا من سرّ الوحدانيّة ، وسرّ (٧) الغنى الذاتي الغيبي الوجودي أيضا الذي له السلطنة حالتئذ ، والإحاطة بما ذكرنا من النسب.

__________________

(١) كذا في الأصل. والأنسب «عنه».

(٢) ق : بصفة.

(٣) ق : بطلب.

(٤) ق : والكوني و.

(٥) المقصود منه كتاب مفتاح غيب الجمع والوجود الذي شرحه ابن الفناري.

(٦) في الأصل : من نسبتي حكمه وحكمته.

(٧) ه : لسرّ.

١٠٨

وهذا من سرّ أحديّة التراكيب الستّة غير المفيدة والمنتجة وهو قولي : اتّصال أحكام التجلّيات بعضها ببعض دون أمر آخر يكون مظهرا لحكمها المسمّى فعلا لا يفيد ولا ينتج ، وعين الفعل هو التجلّي بنسبة التأثير الواصل من الحقّ ـ من كونه موجدا وخالقا ـ إلى المفعول فيه ، أو به ، أو معه ، أو له على اختلاف المراتب.

ف «فيه» إذا كان هو المقصود أو من جملة المقصود. و «به» إذا كان الواسطة و (١) الشرط ، و «معه» إذا كان جزء علّة أو (٢) أحد الأسباب ، أو مرادا باعتبار. و «له» إذا كانت فائدة ذلك الفعل تعود عليه ، أو كانت (٣) غايته ، وهو سرّ إيجاد الحقّ العالم للعالم (٤) ، وسرّ الأمر بالعبادة لأجل العابد لا للمعبود ؛ لأنّه يتعالى من حيث عزّه وغناه [عن] أن يكون فعله لغرض ، بل رحمة ذاتيّة بالكون ، وقس على ذلك باقي مراتب الفعل ؛ فقد فتحت لك الباب.

ثم نقول (٥) : والموجب الآخر لتأخّر حصول النتيجة ونفوذ الحكم بمجرد التجلّي الحبّي هو : أنّه لو فرضنا وقوع الأمر بهذه المقدّمة الواحدة أو إمكانه ، لسبق (٦) إلى مدارك بعض من يتعيّن بذلك الحكم ويظهر عينه أنّ الأمر الإيجاديّ والإنشاء الكوني إنّما متعلّقه وغايته تحصيل ما يختصّ بحضرة الحقّ لا غير ، فكان ذلك نوع نقص متوهّم في مرتبة الغنى الكمالي الوجودي الذاتي (٧) ، وتعالى ذلك الجناب عمّا (٨) لا يليق به.

فلمّا لم ينفذ حكم التجلّي المذكور ؛ لهذه الموانع وغيرها ممّا لا يمكن ذكره ، عاد يطلب مستقرّه من الغيب المطلق ، كما هو سنّة سائر التجلّيات المتعيّنة بالمظاهر وفيها عند انقضاء حكمها في المتجلّى له ، فإنّها بالذات هي تطلب الرجوع والتقلّص إلى أصلها عند انقضاء (٩) حكمها بالمظاهر وفيها ؛ لعدم مناسبتها عالم الكثرة ، وهذا هو سبب الانسلاخ الحاصل للتجليّات التفصيليّة بعد التلبّس بأحكام المتجلّى له ، وعودها إلى الغيب (١٠) الذي ذكرته في سرّ التجلّي والمتجلّى له ، وفي مراتب التصوّرات وسبب تجرّد الأرواح الإنسانيّة عن

__________________

(١) ب : أو.

(٢) في بعض النسخ : و.

(٣) ق : كان.

(٤) ق : لعالم.

(٥) ق : أقول.

(٦) ق : ليسبق.

(٧) ب : والذاتي.

(٨) ق : بما.

(٩) ب : انقضائها.

(١٠) ق : النسب.

١٠٩

النشآت التي تتلبّس بها ، بعد الاستكمال بها واستصحابها زبد أسرار كلّ نشأة ، ولطائف خصائص كلّ صورة وموطن ، وعودها إلى أصلها منصبغة بأحكام الكثرة ، لا بصورتها القادحة في وحدتها ، فتذكّر.

ثم نقول : فحصلت بهذا العود المذكور حركة غيبيّة ، ودورة مقدّسة شوقيّة سرى حكمها فيما حواه الغيب من الحقائق الأسمائيّة والكونيّة ، ومرّ ذلك التجلّي في عوده على سائر التعيّنات العلميّة ، فمخضها بتلك الحركة القدسيّة الغيبيّة الشوقيّة ، فانتشت بتلك المخضة البواعث العشقيّة ، والحركات المعنويّة الحبّية من سائر الحقائق تطلب من الحقّ ـ بحكم ما سرى فيها من أثر التجلّي الحبّي ـ ظهور أعيانها وما فيه كمالها ، فصار ذلك مفتاح سائر الحركات الدوريّة الإحاطيّة ، المظهرة للخفيّات ، والمخرجة ما في قوّة الإمكان والغيب إلى الفعل من أعيان الكائنات ، وكانت النسبة الجوديّة من جملة الحقائق المستهلكة تحت قهر الأحديّة الغيبيّة ، فانبعث لسان مرتبتها ـ لحبّ ظهور عينها وكمالها المتوقّف على نفوذ حكمها على نحو ما ذكر ـ يطلب إسعاف السائلين ، فحصلت المقدّمتان : إحداهما : الطلب الذي تضمّنه التجلّي الحبّيّ ، والأخرى الطلب الاستعدادي الكوني بصفة القبول الذي بيّنّا أنّه مظهر الفعل ، فتعيّنت النسبة ـ المسمّاة عندنا الآن قدرة ـ تطلب متعلّقا تعيّنه لها الإرادة ، فتمّت الأركان ؛ لأنّ التجلّي الذي أوجب للعلم شهود ما ذكر هو تجلّي الهويّة منصبغا بحكم نسبة الحياة المظهر عين (١) النور الوجودي الغيبي ، ثم أظهر التجلّي الحبّي بالعلم نسبة الإرادة التي هي عنوان السرّ الحبّي ، ثم تعيّنت القدرة كما بيّنّا.

فتمّت الأصول التي (٢) يتوقّف عليها ظهور النتيجة المطلوبة ، وهما (٣) المقدّمتان كلّ مقدّمة مركّبة من مفردين ، فصارت أربعة ، وتردّد الواحد منها ـ وهو سرّ أحديّة الجمع ـ من حيث نسبة الإرادة الصابغة بحكمها الثلاثة الباقية حين خفائها في الثلاثة ؛ لحصول الأثر وكماله ، فحصلت الفرديّة ، ثم ظهر بتلك الحركة الغيبيّة الذي (٤) هو الترداد سرّ النكاح ، فتبعتها (٥) النتيجة

__________________

(١) ب : عن.

(٢) ه : الذي.

(٣) كذا في الأصل.

(٤) كذا في الأصل.

(٥) ق : تبعتها.

١١٠

تبعيّة استلزام لا تبعيّة ظهور ، وبقي تعيين المرتبة التي هي محلّ نفوذ الاقتدار بالحركة الحبّية ، ليظهر عين المراد بحسب أحكام الأصول المذكورة التي هي النسب الأصليّة والأسماء الذاتيّة اللازمة حضرة الوحدانيّة الغيبيّة ، حاملا خواصّها ومظهرا أسرارها ، وما عدا هذه الأسماء من الأسماء لهما (١) ، فهي التالية لها إن كانت كلّيّة ، وإلّا فهي الأسماء التفصيليّة المتعلّقة بعالم التدوين والتسطير ، والمتعيّنة فيه ، وقد كنّا بيّنّا أنّه لا يمكن تأثير الشيء في نفسه من حيث وحدته وبساطته ، فاقتضى الأمر تمييز مقام الوحدة عمّا يغايرها ممّا (٢) هو دونها في المرتبة ، ليتميّز منها ما يصلح أن يكون محلّا لنفوذ الاقتدار ، فإنّ المتكافئين فيما هما (٣) فيه متكافئان ـ بنسبتين (٤) كانتا (٥) أو أمرين وجوديّين ـ لا يكون اختصاص أحدهما بالمؤثّريّة في الآخر بأولى من صاحبه ، فلا بدّ من موجب أو معنى كماليّ يرجّح أحدهما على الآخر به ، يصحّ له أن يكون مؤثّرا ، وينزل الآخر عنه بالمرتبة لعود (٦) تلك الصفة الكماليّة أو الأمر المقتضي للترجيح فيكون محلّا لأثر هذا المؤثّر المرجّح (٧).

ولمّا لم يكن في الغيب الإلهي تعدّد وجودي لشيء مّا ؛ لتقدّمه على كلّ شيء وكونه منبع التعدّد والمعدودات كان هذا تعدّدا معنويّا من حيث النسب ، وترجيحا واقعا بين الأحوال الذاتيّة ، فكانت الكثرة في مقام المقابلة من الوحدة ، وعلى إحدى جنبتي الوحدة أحكامها ونسبها ناظرة إلى الكثرة ، وعن الجانب الآخر نسبة الظهور تنظر إليها الكثرة ، والجميع ناظر إلى مقام كمال الجلاء والاستجلاء وكلّ ذلك نظر تودّد وتعشّق بعين المناسبة والارتباط الغيبي ، فسرى الحكم الذاتي الأحدي الجمعي في النسبة العلميّة (٨) بالشروع في تحصيل المقصود وإظهار عينه ، فانقسم الغيب الإلهي شطرين. ومع أنّ السرّ الحبّي له السلطنة في الأمر فلم يخل من حكم قهري هو من لوازم المحبّة والغيرة التابعة للأحديّة ، فتعلّق ـ أعني الحكم القهري الأحدي ـ بالكثرة من حيث ما ينافيها عزّا وأنفة من مجاورة الكثرة لها ، بعد ظهور تعيّنها ؛ إذ قبل التعيّن لم يظهر للمنافاة والغيرة حكم ولا لأمثالهما من النسب.

__________________

(١) كذا. ق : لا توجد.

(٢) ه : عمّا.

(٣) ه : هو.

(٤) ق : نسبتين.

(٥) ق ، ه : كانا.

(٦) ق : لعون ، ب : لفوز.

(٧) ق ، ه : المترجّح.

(٨) في بعض النسخ : العامية.

١١١

ومن هنا يتنبّه اللبيب إلى سرّ منشأ التنزيه ومبدإ وسرّ الرحمة والغضب ، والسبق المشار إليه ، والرضا والسخط ، و (١) الجلال والجمال ، و (٢) القهر واللطف ، كيف قلت ، فإنّ الجميع يرجع إلى هذين الأصلين ، وأتمّ العبارات عنهما وأشدّها مطابقة (٣) ما ورد به التعريف الإلهي ، أعني الرحمة والغضب ، فافهم ، والله المرشد.

ثم نقول : فانفصلت في أحد الشطرين نسبة الوحدة التي تستند إليها الكثرة من حيث أحكامها المتعدّدة بسائر توابعها ، فتعيّنت مرتبة الاسم الظاهر بالانفصال المذكور من حضرة الغيب فتعيّن التعيّن (٤) لنفسه وللمتعيّن به قبل أن يظهر التعدّد للمعدود في مقام الكمّ والكيف وأخواتهما ، كمتى ، وأين ، وامتاز بالشهادة عن الغيب ، فتعيّنت للباطن مرتبة جملية بامتياز الظاهر عنه ، وشوهد بغيب الظاهر من حيث ظهوره ما أظهر من الأحكام والصفات والصور واللوازم التابعة له فعلم [بالشهادة الظاهرة منه فعلم الشهادة بالغيب] (٥) المستبطن فيه ، وجميع ما انفصل في الشطر المختصّ بالاسم الظاهر ، فإنّما هو في تبعيّة كمال الجلاء والاستجلاء وخدمته ، وبقي الشطر الآخر على إطلاقه في مقام عزّه (٦) الأحمى ، وكماله المنزّه عن النعوت والقيود والأحكام وتعلّقات المدارك ، ما عدا التعلّق الإجمالي المشار إليه.

وتسميته شطرا ليس لتعيّنه وتقيّده ، بل لمّا تعيّن منه شطر ، صار (٧) دليلا عليه ؛ [لأنّه الأصل ، فالمتعيّن منه دليل عليه] (٨) من حيث إنّه غير متعيّن ، فكان هو الدليل والمدلول كما سبق التنبيه عليه في سرّ العلم ، وكلّ دليل فإنّه حجاب على المدلول مع أنّه معرّف له من الجهة التي من حيث (٩) هي تدلّ عليه ، فافهم.

ثم إنّه اخترع له ، فظهر بحسب حكمه في كلّ ما تعيّن به ، ومنه اسم يدلّ عليه دلالتين : دلالة الحكم المختصّ بالأمر المتعيّن ، ودلالة أخرى إجماليّة تعرّف أنّه أصل كلّ ما تعيّن. وهذا هو سرّ التسمية ، فافهم.

__________________

(١) ب : أو.

(٢) ق : أو.

(٣) ق : مطابقا.

(٤) في بعض النسخ : فتعيّن لنفسه.

(٥) ما بين المعقوفين غير موجود في ه.

(٦) ب : عزته.

(٧) ب : صادر.

(٨) ما بين المعقوفين ساقط من المطبوعة.

(٩) ب : حيثها.

١١٢

ثمّ إنّه لم يكن بدّ من حافظ يحفظ الحدّ الفاصل بين الشطرين ، ويمنع الشطر المنفصل من الامتزاج والاتّحاد بما انفصل عنه بعد التعيّن والامتياز ، ليبقى الاسم «الظاهر» وأحكامه على الدوام ، ويستمرّ نفاذ حكم التجلّي الإيجادي والحكم التعيّني ، فإنّه إن لم يكن ثمّة حافظ (١) يمنع ممّا ذكرنا (٢) اختلّ النظام ؛ لأنّ في الممتاز المنفصل ما يطلب الغيب الأوّل طلبا ذاتيّا ، فإنّه معدن الجميع ، والأشياء تحنّ إلى أصولها والجزئيّات إلى كلّيّاتها ، فكانت الأحديّة نعت ذلك الحدّ المشار إليه ، فهو معقول غيبي لا يظهر له عين أصلا وهكذا كلّ فاصل يحجب (٣) بين أمرين إنّما يظهر حكمه لا عينه ، وكان الحافظ لهذا الحدّ هو الحقّ ، ولكن من حيث باطن الاسم «الظاهر» وهي النسبة الباقية منه في الغيب الذي به صحّ بقاؤه ودلالته على المسمّى الذي هو الباطن أيضا.

سرّ الإنسان الكامل

وهذه النسبة الباطنة من الظاهر لا تقبل الانفصال من الغيب. فإنّها عبارة عن الأمر الجامع بين الظاهر والباطن المطلق ، والفعل والانفعال ، والطلب والمطلوبيّة ، ولهذه النسبة وجه يلي الظاهر ، ووجه يلي الباطن المطلق ، فأحد وجهيه (٤) يلي الإطلاق الغيبي والآخر له التقيّد والتعدّد الشهادي. فأشبهت الهويّة التي انفصل منها الشطر المذكور من حيث اتّحاد الشطرين في الأصل وكون التغاير لم يكن إلّا بالامتياز وهو نسبة عدميّة ، لا أمر وجودي ، فتلك الحقيقة الحافظة المذكورة هي مرتبة الإنسان الكامل الذي هو برزخ بين الغيب والشهادة ، ومرآة تظهر فيها حقيقة العبوديّة والسيادة ، واسم المرتبة بلسان الشريعة العماء ونعتها الأحديّة ، والصفات المتعيّنة فيها بمجموعها هي الأسماء الذاتيّة ، والصورة المعقولة ـ الحاصلة من مجموع تلك الأسماء المتقابلة ، وأحكامها ، والصفات ، والخواصّ اللازمة لها من حيث بطونها ـ هي الصورة الإلهيّة (٥) المذكورة.

وهذه الأسماء وما يتلوها في المرتبة من الأسماء الكلّيّة لا ينفكّ بعضها عن بعض ،

__________________

(١) ق : حافظه.

(٢) في بعض النسخ : ذكر.

(٣) ق : يحجر.

(٤) ق : وجهة.

(٥) ق : الألوهية.

١١٣

ولا يخلو أحدها عن حكم البواقي ، مع أنّ الغلبة في كلّ مرتبة وكلّ شأن كلّ آن بالنسبة إلى ما هو مظهرها (١) لا تكون إلّا لواحد منها ، وتكون أحكام البواقي مقهورة تحت حكم ذلك الواحد ، وتابعة له ، ومن جهته يصل الأمر الذاتي الإلهي إلى ذلك المظهر المستند إلى الحقّ من حيث ذلك الاسم وتلك المرتبة من حيث وجوده ومن حيث عبوديّته ، فيقال (٢) له ـ مثلا ـ «عبد القادر» و «عبد الجواد» إلى غير ذلك من الأسماء.

ومن لم يكن نسبته إلى أحد الأسماء أقوى من غيرها ولم ينجذب من الوسط إلى إحدى المراتب لمزيد مناسبة أو حكم أو تعشّق مع قبوله آثار جميعها والظهور بجميع أحكامها دون تخصيص غير ما يخصّصه الحقّ من حيث الوقت والحال والموطن ، مع عدم استمرار حكم ذلك التخصيص والتقيّد به فهو عبد الجامع.

والمستوعب لما ذكرنا بالفعل دون تقيّده بالجمع ، والظهور ، والإظهار والتعرّي عنه ، وغير ذلك مع التمكّن ممّا شاء متى شاء ، مع كونه مظهرا للمرتبة والصورة بحقيقة العبوديّة ، والسيادة اللتين هما نسبتا مرتبتي الحقّ والخلق (٣) ـ هو الإنسان الكامل ومن الأسماء (٤) القريبة النسبة إلى مرتبته «عبد (٥) الله». وكمال الجلاء هو كمال ظهور الحقّ بهذا العبد الذي هو الإنسان المذكور. وكمال الاستجلاء هو عبارة عن جمع الحقّ بين شهوده نفسه بنفسه في نفسه وحضرة وحدانيّة ، وبين شهوده نفسه فيما امتاز عنه ، فيسمّى (٦) بسبب الامتياز غيرا ولم يكن قبل الامتياز كذلك ، وعبارة عن مشاهدة ذلك الغير أيضا نفسه بنفسه من كونه غيرا ممتازا ، ومشاهدته من امتاز عنه أيضا بعينه وعين من امتاز عنه أيضا ، فتميّز الواحد عمّن ثناه بالفرقان البيني (٧) ـ الذي حصل بينهما وظهر بينهما (٨) منهما ـ وانفرد كلّ بأحديّته وجمعيّته.

ولمّا كانت أعيان الموجودات ـ التي هي نسب العلم ومظاهر (٩) أحكام الكثرة وأحديّتها ـ

__________________

(١) ق : مظهر لها.

(٢) ق : فقال.

(٣) في بعض النسخ : الحقّ هو.

(٤) ه : أسماء.

(٥) ق : عند.

(٦) ق : فسمّي.

(٧) ق : النسبي ، ه : النبي.

(٨) ب : بنيتهما.

(٩) ق : مظاهره.

١١٤

مستجنّة في غيب الحقّ ، وكانت من حيث التعدّد النسبي مغايرة للأحديّة التي هي أقرب النعوت نسبة إلى إطلاق الحقّ وسعته وغيبه (١) ، كانت معقوليّة النسبة ـ الجامعة لتعيّناتها وأحكامها المتعددة المختصة بها ، من حيث تساوي قبولها للظهور بالتعين واللاظهور بالنظر إليها ـ مسمّاة بمرتبة الإمكان ، والكثرة صفة لازمة لها لزوم الزوجيّة للأربعة ، كما مرّ.

فظهر التغاير بين مرتبتها وبين مرتبة الوحدانيّة من هذا الوجه ، فتعلّقت المشيئة بتميّز (٢) مقام الوحدانيّة عمّا لا يناسبها من الوجه المغاير ، وهو أحد حكمي الوحدة التي هي منشأ الكثرة المذكورة فإنّ المغايرة غير حاصلة من الوجه الآخر المختصّ بالحضرة العلميّة الذاتيّة الغيبيّة ؛ لعدم التعدد هناك ، ولهذا ما برحت الأشياء من حيث حقائقها في الغيب ، ولم تفارق الحضرة العلميّة من الوجه الذي لا يتعدّد لنفسها ولا يتكثّر وجودها ، وامتازت باعتبار آخر للمغايرة المذكورة ، فظهر بالإيجاد كمال مرتبة الوحدانيّة بانفصال ما قويت نسبته من الكثرة عنها ، وسرى حكم الوحدانيّة في كلّ نسبة من نسب الكثرة من الوجه الذي تكثّرت به ، وظهر سلطان الأحديّة على الكثرة (٣) ، فعلم كلّ متكثّر أنّه من الوجه غير متكثّر ، وكثير ، وأنّ لكلّ موصوف بالكثرة أحديّة تخصّه ، وظهر لمجموع أجزاء الكثرة أحدية مساوية للأحديّة المنفيّ (٤) عنها التعدّد ، فاتّصل الأمر بعد بلوغ الكثرة إلى غايتها بالأصل الذي منه انبعث الوحدة والكثرة ، وما تعيّن وظهر بهما فهو (٥) الغيب الإلهي ، معدن سائر التعيّنات ، منبع (٦) جميع التعدّدات الواقعة في الحسّ وفي العقول والأذهان ، فافهم.

ثم نقول : فلمّا امتاز الاسم «الظاهر» من الغيب المطلق حاملا صورة الكثرة المعبّر عنها بالإمكان ، وتميّزت مرتبته في العماء الذي هو منزل التدلّي النكاحي الغيبي ومحلّ نفوذ الاقتدار ، انفصل مع الاسم «الظاهر» سائر التوابع واللوازم المنضافة إليه ، فشهد الحقّ نفسه بنفسه في مرتبة ظاهريّته الأولى الممتازة من غيب باطنه وهويّته ، فظهرت ذاته له بأسمائه الذاتيّة ونسبها الأصليّة الظاهر تعيّنها بحكم المقام الأحدي الذاتي ، والتعيّن الأوّل الذي هو الحدّ المذكور ، وذلك في حضرة أحديّة الجمع الذي هو العماء.

__________________

(١) ق : غيبه و.

(٢) ق : تمييز.

(٣) ق : كثرة.

(٤) في بعض النسخ : المنافي.

(٥) ق : وهو.

(٦) ق : ومنبع.

١١٥

فأوّل المراتب والاعتبارات العرفانيّة المحقّقة لغيب الهويّة الاعتبار المسقط لسائر الاعتبارات ، و (١) هو الإطلاق الصرف عن القيد والإطلاق ، وعن الحصر في أمر من الأمور الثبوتيّة والسلبيّة كالأسماء والصفات ، وكلّ ما يتصوّر ويعقل ويفرض بأيّ وجه تصوّر ، أو تعقّل أو فرض.

وليس لهذا المقام لسان ، وغاية التنبيه عليه هذا ومثله ، ثم اعتبار علمه نفسه بنفسه وكونه هو لنفسه هو ، فحسب ، من غير تعقّل تعلّق ، أو اعتبار حكم ، أو تعيّن أمر ثبوتي أو سلبي ـ كائنا ما كان ـ ممّا يعقله غيره بوجه من الوجوه ما عدا هذا الاعتبار الواحد المنفيّ حكمه عن سواه. ومستند الغنى (٢) والكمال الوجودي الذاتي والوحدة الحقيقيّة الصرفة قوله (٣) : «كان الله ولا شيء معه» ونحو ذلك من الأمر الذي يضاف إليه ، هذا الاعتبار الثاني.

ويليه مرتبة شهوده سبحانه نفسه بنفسه في مرتبة ظاهريّته الأولى بأسمائه الأصليّة ، وذلك أوّل مراتب الظهور بالنسبة إلى الغيب الذاتي المطلق ، وقد أشرت إليه ، وجميع ما مرّ ذكره من التعيّنات إلى هنا (٤) هي تعيّنات الظاهر بنفسه لنفسه على النحو المشار إليه قبل أن يظهر للغير عين أو يبدو لمرتبته حكم ، فافهم.

واستخلص المقصود من الكلام غير متقيّد (٥) بالألفاظ كلّ التقيّد ؛ فإنّها أضيق ما يكون ، وأضعف في مثل هذا المقام و (٦) الإفصاح عن كنهه على ما هو عليه ، فمن خرق له حجابها ، استشرف من هذا الباب على العجب العجاب. و (٧) الله المرشد بالصواب.

ثم نقول : ويلي ما ذكرنا مرتبة شهود الظاهر نفسه في مرتبة سواه من غير أن يدرك (٨) ذلك الغير نفسه ، وما ظهر من الأمر به أو له ؛ لقرب نسبته وعهده ممّن امتاز عنه ، ولغلبة حكم الغيب المطلق ، والتجلّي الوحداني المذكور عليه ، وهذا صفة المهيّمين في جلال جمال الحقّ وحالهم (٩) ، ثم ظهر حكم تعلّق الإرادة بنسبتي التفصيل والتدبير ، لإيجاد عالم التدوين

__________________

(١) في بعض النسخ : لم يرد.

(٢) ق : «الغنى و».

(٣) ه : وقوله.

(٤) ب : هي هنا.

(٥) ب : مقيّد.

(٦) ق : لم يرد.

(٧) في بعض النسخ : لم يرد.

(٨) ب : يذكرك.

(٩) ق : حالتهم.

١١٦

والتسطير ، وإبراز الكلمات الإلهيّة التي هي مظاهر نوره ، وملابس نسب علمه ، ومرائي أسمائه ، ومعيّناتها (١) في رقّ مسطوره ، فكان ثمرة هذا التعلّق الإرادي شهود الظاهر نفسه في مرتبة الغير الممتاز عنه في الشهادة الأولى. ليظهر حكم الغيب بظهوره في كلّ نسبة ظهر تعيّنها في مرتبة الظهور بحسب تعيّنها الثبوتي في العلم ، وبحسب التوجّه الإرادي نحو تلك النسبة. وليشهده أيضا كما قدّمنا ما امتاز به عنه في مرتبة الشهادة ، وتعيّنت له نسبة ظاهرة سمّي بها خلقا وسوى ، فيدرك بهذا التجلّي عينه ، ومن امتاز عنه ، وما (٢) امتاز به عن غيره. وهنا سرّ عزيز ، وضابط شريف أنبّه عليه ، ثم أذكر (٣) من سرّ الترتيب الإيجادي ما يستدعي هذا الباب ذكره من كونه مبدأ لتفسير البسملة.

فنقول : كلّ موجود أو أمر يكون جامعا لصفات شتّى أو نسب متعدّدة ، فإنّ وصول حكمه وأثره إلى كلّ قابل في كلّ شأن أو آن وشأن أيضا إنّما يتعيّن بحسب أوّليّة الأمر الباعث له على هذا (٤) الحكم والتأثير ، وبحسب الصفة الغالبة الحكم عليه بالنسبة إلى باقي صفاته حال التحكّم والتأثير في القابل ، وبحسب حال القابل واستعداده. ولا يخلو كلّ توجّه صادر من كلّ متوجّه [إلى كلّ متوجّه (٥)] ، إليه من أن يتعين بحسب أحد هذه الأمور الثلاثة ، ويبقى حكم الأمرين الآخرين.

وأحكام باقي النسب والصفات التي للقابل تابعة لغلبة أحد هذه الأصول ، وكذلك صورة ثمرة ذلك التوجّه تكون تابعة لحكم الأغلبيّة المذكورة ، وظاهرة هي بحسبها ، وإن (٦) انعجن فيها حكم باقي النسب والصفات ، ولكن يكون حكمها خافيا (٧) بالنسبة إلى حكم ذلك الأمر الواحد الغالب ، وتبعا له ، ولا يثمر توجّه متوجّه إلى متوجّه إليه قطّ إلّا إذا كان متعلّق التوجّه أمرا (٨) واحدا ، ومهما تعلّق بأمرين فصاعدا فإنّه لا يثمر ولا ينفذ له حكم أصلا ، وسببه أنّ الأثر من كلّ مؤثّر [في كلّ مؤثّر (٩)] فيه لا يصحّ إلّا بالأحديّة ، والنتيجة تتبع الأصل.

__________________

(١) في بعض النسخ : متعيّناتها.

(٢) ب : به ومن.

(٣) ب : أذكره.

(٤) ق : ذلك.

(٥) ما بين المعقوفين ساقط من المطبوعة.

(٦) ب : أو إن.

(٧) ب : حكمها يكون خائفا.

(٨) ه : أوامر.

(٩) ما بين المعقوفين ساقط من المطبوعة.

١١٧

وبيانه أنّ مبدأ التوجّه الإلهي للإيجاد صدر من ينبوع الوحدة بأحدية الجمع ، وتعلّق بكمال الجلاء والاستجلاء المعبّر عن حكمه تارة بالعبادة ، وتارة بالمعرفة ، وهو قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) (١) الآية. بالتفسيرين ، والظاهر بهذا التوجّه من غيب الحقّ هو الوجود المنبسط على الأعيان لا غير.

ولمّا كان العالم بما فيه ظلّا لحضرة الحقّ ومظهرا لعلمه ، سرى الحكم واطّرد فيما هو تابع للعلم وفرع عليه ، فاعلم ذلك ، وإذا تقرّر هذا فلنعد إلى ما كنّا فيه من بيان سرّ بدء الأمر لنستوفيه.

فنقول : فانسحب (٢) حكم التوجّه الإلهي الأحدي لإيجاد عالم التدوين والتسطير على الأعيان الثابتة بعد ظهور الأرواح المهيّمة (٣) التي مرّ حديثها منصبغا بحكم كلّ ما حواه الغيب ممّا تعيّن به ، وامتاز عنه من وجه ، فكان توجّها جمعيّا وحدانيّ الصفة :

فأمّا جمعيّته فلما حواه الغيب ممّا أحاط به العلم وتعلّق بإبرازه. وأمّا أحديّته فلأنّ الإرادة وحدانيّة ، ومتعلّقها من كلّ مريد في الحال الواحد لا يكون إلّا أمرا واحدا ، والمريد الحقّ سبحانه واحد (٤) ، فإرادته واحدة لا محالة ، ومتعلّقها لا يكون في كلّ شأن إلّا أمرا واحدا هو غاية ذلك التوجّه الإرادي ونتيجته ، ومنزل التوجّه الإلهي ، ومحلّ نفوذ اقتداره ليس إلّا أمرا واحدا وأنّه العماء وقد مرّ حديثه ، فأنتج التوجّه الإلهي المذكور ـ كما قلنا في مقام عالم التدوين والتسطير ـ نتيجة وجوديّة متوحّدة حاملة كثرة غيبيّة نسبيّة ، فسمّاها الحقّ قلما وعقلا.

فعقلا من حيث الوجه الذي يلي ربّه ، ويقبل به ما يهبه ويمدّه ، ومن حيث إنّه أوّل موجود متعيّن عقل نفسه ، ومن تميّز عنه ، وما تميّز به عن غيره بخلاف من تقدّمه بالمرتبة وهم المهيّمون.

وقلما من حيث الوجه الذي يلي الكون ، فيؤثّر ويمدّ ، ومن حيث إنّه حامل للكثرة

__________________

(١) الذاريات (٥١) الآية ٥٦.

(٢) ق : فانسجب.

(٣) في بعض النسخ : المهيمنة.

(٤) ه : فواحد.

١١٨

الغيبيّة الإجماليّة المودعة في ذاته ليفصلها فيما يظهر منه بتوسّط مرتبة (١) وبدونها ، فلمّا كان هو ثمرة التوجّه المقدّم ذكره ، ظهر مشتملا على خاصيتي الجمع والأحديّة ، كما نبّهت عليهما (٢) ، وظهر به سرّ التربيع من حيث التثنية الظاهرة في وجوده ، التالية للمقام الأحدي المذكور من حيث التثنية المعقولة في التوجّه المنبّه عليه ، المنتج له ، لكن لمّا كان الواحد من هذه الأربعة هو (٣) السرّ الذاتي الجمعي ـ وهو ساري الحكم في كلّ شيء من المراتب والموجودات ، فلا يتعيّن له نسبة ولا مرتبة مخصوصة ـ كان الأمر في التحقّق مثلّثا ، وذلك سرّ الفرديّة الأولى (٤) المشار إليه من قبل ، فلمّا انتهى حكم الإرادة بنفوذ حكمها من هذا الوجه ، وظهر القلم الذي كان متعلّقها ، تعيّنت نسبة أخرى بتوجّه ثان من حيث التعيّن لا من حيث الحقّ ؛ فإنّ أمره واحد ، فظهر وتعيّن من الغيب تجلّ (٥) ذو حكمين : أحدهما : الحكم الذاتي الأحدي الجمعي ، والآخر من حيث انصباغ عين ذلك الحكم بما مرّ عليه وامتاز عنه وهو القلم ، فتعيّن بحكم التثليث المذكور في المرتبة التالية لمرتبة القلم وجود اللوح المحفوظ حاملا سرّ التربيع ؛ لأنّه انضاف إلى حكم التثليث المشار إليه حكم المرتبة اللوحيّة ، فحصل تربيع تابع للتثليث فتعيّنت المرتبة الجامعة لمراتب الصور والأشكال ، أعني التثليث والتربيع.

وظهر في اللوح تفصيل الكثرة التي حواها العماء ، فكملت مظهريّة الاسم «المفصّل» كما كملت بالقلم ـ المذكور شأنه ـ مظهريّة الاسم «المدبّر» من حيث اشتماله على خاصيّتي الجمع والأحديّة المنبّه عليهما.

ثم تعيّنت مرتبة الطبيعة باعتبار ظهورها من حيث حكمها في الأجسام ، وللطبيعة هنا ظاهريّة الأسماء الأول الأصليّة التي سبق التنبيه عليها.

ثم تعيّنت مرتبة الهيولى المنبّهة على الإمكان الذي هو مرتبة العالم.

وبه وبالجسم الذي تعيّنت به مرتبة بعد هذه المرتبة الهيولانيّة ـ ظهر سرّ التركيب

__________________

(١) ق : مرتبته.

(٢) في بعض النسخ : عليها.

(٣) ق : و.

(٤) ق : الأوّل.

(٥) ه : تجلّي.

١١٩

المعنوي المتوهّم الحصول من ارتباط الممكنات بالحقّ وارتباطه من حيث ألوهيّة بها ، فافهم.

ثم ظهر العرش الذي هو مظهر الوجود المطلق الفائض. ونظير القلم وصورة الاسم «المحيط» ثم الكرسيّ الذي هو مظهر الموجودات المتعيّنة من حيث ما هي متعيّنة ونظير اللوح المحفوظ.

فللتثنية الأولى : الباء التي هي أوّل المراتب العدديّة.

وللتثليث الحامل للكثرة المذكورة : السين.

وللتربيع الجامع بين إجمال (١) الكثرة وتفصيلها : الميم.

وللاسم «الله» من حيث جمعيّته : ثم النفس الذي ظهرت به ، ومنه الموجودات ، ولا يتعيّن له في عالم الصور مرتبة ظاهرة.

ثم يلي ما ذكرنا مرتبة الاسم «الرّحمن» المستوي على العرش ، ثم الاسم «الرّحيم» المستوي على الكرسي كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

تفصيل لمجمل قوله

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

الشرح بلسان المرتبة الذوقيّة المعربة بآثارها عن كنهها.

اعلم ، أنّ التعيّن الأوّل الاسمي الأحدي الذي سبقت الإشارة إليه هو أوّل ممتاز من الغيب الإلهي المطلق ، وهو مفتاح حضرة الأسماء ، والحدّ المذكور ، ونظيره من عالم الحروف في النفس الإنساني : الهمزة ، والألف هو مظهر صورة العماء الذي هو النفس الرحماني الوحدانيّ النعت ، الذي به وفيه بدت وتعيّنت صور سائر الموجودات التي هي الحروف والكلمات الإلهيّة ، والأسماء وأسماء الأسماء ، كما تتعيّن الحروف والكلمات الإنسانية بنفس الإنسان ، فلا يظهر لشيء من الحروف عين إلّا بالألف الذي هو مظهر الواحد كما مرّ ، ولا يظهر للألف على سبيل الاستقلال التامّ عين في مرتبة الكلام ؛ لأنّ مقامه الوحدة

__________________

(١) ق : جمل.

١٢٠