اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

أحدها : أن تكون موصولة بمعنى الذي مرادا بها الضّرّ أي نسي الشّرّ الذي يدعو إلى كشفه (١) أي ترك دعاءه كأنه (لم) يتضرع إلى ربه (٢).

الثاني : أنها بمعنى الذي مرادا (٣) الباري تعالى أي نسي الله الذي كان يتضرع إليه (٤). وهذا عند من يجيز وقوع «ما» على أولي العلم (٥) ، وقال ابن الخطيب : وما بمعنى «من» كقوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [الليل : ٣] (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣] (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(٦) [النساء : ٣].

الثالث : أن تكون (٧) «ما» مصدرية أي نسي كونه داعيا (٨).

الرابع : أن تكون (٩) (ما) نافية وعلى هذا فالكلام تام على قوله : («نسي» (١٠)) ثم استأنف إخبارا بجملة منفية ، والتقدير : نسي ما كان فيه لم يكن دعاء هذا الكافر خالصا لله (تعالى) (١١). وقوله : (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل الضر على القول الأخير ، وأما على الأقوال قبله فالتقدير من قبل تحويل النّعمة.

قوله : (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) يعني الأوثان (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليضلّ» بفتح الياء أي ليفعل الضلال بنفسه ، والباقون بضمها (١٢) فمفعوله محذوف ، وله نظائر تقدمت ، واللام يجوز أن تكون للعلة ، وأن تكون لام العاقبة كقوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(١٣).

ثم قال : قل يا محمد لهذا الكافر (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) في الدنيا أي إلى انقضاء أجلك ، وليس المراد منه الأمر بل المراد منه الزجر وأن يعرفه قلة تمتّعه في الدنيا ثم مصيره إلى النار ، قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة ، وقال مقاتل : نزلت في حذيفة بن المغيرة المخزوميّ ، وقيل : عامّ في كل كافر.

قوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) لما شرح الله تعالى صفات المشركين وتمسكهم بغير

__________________

(١) نقله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٨٩ والسمين في الدر ٤ / ٦٣٩ والرازي في التفسير الكبير ٢٦ / ٢٤٩.

(٢) المرجع السابق وما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في ب مراد.

(٤) المراجع السابقة وقال الزجاج في المعاني ٤ / ٣٤٦ بالقولين والثاني الفراء في المعاني ٢ / ٤١٥.

(٥) الزجاج والفراء في المرجعين السابقين.

(٦) وقد أجاز «ما» بمعنى «من» الزمخشري أيضا في الكشاف المرجع السابق ٣ / ٣٨٩ وانظر : الرازي ٢٦ / ٣٤٩.

(٧) في ب يكون.

(٨) قاله الفراء في المعاني ٢ / ٤١٥.

(٩) في ب يكون وانظر كل هذه الأقوال في الدر المصون ٤ / ٦٣٩.

(١٠) سقط من ب.

(١١) سقط كذلك من ب.

(١٢) الإتحاف ٣٧٥ والدر المصون ٤ / ٦٣٩ والنشر ٢ / ٣٦٢.

(١٣) قاله في البحر أبو حيان ٧ / ٤١٨ والسمين في الدر ٤ / ٦٣٩ والرازي ٢٦ / ٣٦٢.

٤٨١

الله أردفه بشرح أحوال المحقين (١). قرأ الحرميّان نافع وابن كثير بتخفيف الميم والباقون بتشديدها (٢) فأما الأولى ففيها وجهان :

أحدهما : أنها همزة الاستفهام دخلت على «من» بمعنى الذي ، والاستفهام للتقرير ، ومقابله محذوف تقديره : أمّن هو قانت كمن جعل لله أندادا؟ أو : أمّن هو قانت كغيره؟ أو التقدير : أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً)؟ ويدل عليه قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٣) محذوف خبر المبتدأ وما يعادل المستفهم عنه. والتقدير أن الأوّلان أولى لقلة الحذف ومن حذف المعادل للدلالة قول الشاعر :

٤٢٩٤ ـ دعاني إليها القلب إنّي لأمرها

سميع فما أدري أرشد طلابها (٤)

يريد : أم غي (٥).

الثاني : أن تكون الهمزة للنداء (٦) و «من» منادى ويكون المنادى هو النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو المأمور بقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) كأنه قال : يا من هو قانت قل كيت وكيت كقول الآخر :

٤٢٩٥ ـ أزيد أخا ورقاء إن كنت ثائرا

 ..........(٧)

__________________

(١) في ب المحققين ، وانظر : الرازي ٢٦ / ٦٨ و ٦٩.

(٢) وكذا هي قراءة حمزة. وانظر : السبعة ٥٦١ والإتحاف ٣٧٥ ومعاني الفراء ٢ / ٤١٦ حيث أشار إلى ذلك وانظر كذلك النشر ٢ / ٣٦٢.

(٣) وانظر : الكشاف ٣ / ٣٩٠ والبيان ٢ / ٣٢٢ والكشف ٢ / ٢٢٧ والدر المصون ٤ / ٦٣٩.

(٤) يروى : عصيت إليها ، وعصاني إليها وهو المشهور. وهو من الطويل لأبي ذؤيب الهذليّ. والشاهد : حذف المعادل للدلالة عليه ، والتقدير كما هو أعلى : أرشد طلابها أم غيّ ، وانظر : البحر ٧ / ٤١٨ والدر المصون ٤ / ٦٤٠ والأشموني ٣ / ١١٦ والهمع ٢ / ١٣٢ ومعاني الفراء ١ / ٢٣٠ ومعاني الزجاج ١ / ٤٧٠ وتأويل مشكل القرآن ١٦٦ ، والمغني ١٣ و ٤٣ و ٦٢٨ ديوان الهذليين ١ / ٧١.

(٥) انظر : المراجع السابقة.

(٦) قال بهذا الرأي ابن الأنباري أيضا في البيان ٣ / ٣٢٢ والفراء في معانيه ٢ / ٤١٦ قال يا من هو قانت وهو وجه حسن العرب تدعو بألف كما يدعون بيا فيقولون : يا زيد أقبل وأزيد أقبل. وقال به شهاب السّمين في الدر أيضا ٤ / ٦٤٠.

(٧) صدر بيت من الطويل مجهول القائل وعجزه :

 ..........

فقد عرضت أحناء حقّ فخاصم

والأحناء جمع حنو ، وورقاء : أحد أحياء قيس القديمة ، والثائر : من يطلب ثأره والشاهد : استعمال الهمزة للنداء مع «من» في الآية كما استعمل الهمزة مع زيد هنا في البيت وقد ضعف هنا من المؤلف من جهة أن القرآن لم يناد إلا بياء. وانظر الكتاب ٣ / ١٨٣ وابن يعيش ٢ / ٤ واللسان «حنا» ١٠٣٣ ، والمقتصد ٧٧١.

٤٨٢

وفيه بعد ، ولم يقع في القرآن نداء بغير يا حتى يحمل هذا عليه. وضعف أبو حيان هذا الوجه بأنه أجنبي مما قبله ومما بعده (١) ، قال شهاب الدين : وقد تقدم أنه ليس أجنبيا مما بعده إذ المنادى هو المأمور بالقول (٢). وضعفه الفارسي أيضا بقريب من هذا (٣). وتجرأ على قارىء هذه القراءة أبو حاتم والأخفش(٤) ، وأما القراءة الثانية فهي «أم» داخلة على من الموصولة أيضا فأدغمت الميم في الميم. وفي «أم» حينئذ قولان :

أحدهما : أنها متصلة ومعادلها محذوف تقديره : الكافر خير أم الذي هو قانت ، وهذا معنى قول الأخفش (٥).

قال أبو حيان : ويحتاج حذف المعادل إذا كان أوّل إلى سماع (٦) ، وقيل : تقديره أمّن يعصي أمن هو مطيع يستويان وحذف الخبر لدلالة قوله (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ)(٧).

والثاني : أنها منقطعة فتتقدّر (٨) ببل والهمزة أي بل أمّن هو قانت كغيره أو كالكافر المقول له تمتع بكفرك (٩).

وقال أبو جعفر : هي بمعنى «بل» و «من» بمعنى الذي تقديره بل الذي هو قانت أفضل مما ذكر قبله (١٠).

وانتقد عليه هذا التقدير من حيث إن من تقدم ليس له فضيلة البتّة حتى يكون هذا أفضل منه والذي ينبغي أن يقدر : بل الّذي هو قانت من أصحاب الجنة لدلالة ما لقسيمه (١١) عليه من قوله : (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ)(١٢). وقال البغوي من شدّد فله وجهان :

__________________

(١) قال : وقال الفراء الهمزة للنداء كأنه قيل : يا من هو قانت ويكون قوله : «قل» خطابا له وهذا القول أجنبي مما قبله ومما بعده. البحر ٧ / ٤١٨.

(٢) الدر المصون ٤ / ٦٤٠.

(٣) قال : «ولا وجه للنداء هنا لأن هذا موضع معادلة فليس النداء مما يقع في هذا الموضع». الحجة ٧ / ٥٦.

(٤) قال أبو حيان : ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة. انظر : المرجع السابق من البحر.

(٥) البحر المرجع السابق.

(٦) السابق وقد أخبر الأنباري في البيان عن تقدير هذا دون تعليق : «العاصون ربّهم خير أم من هو قانت» البيان ٢ / ٣٢٢.

(٧) التبيان ١١٠٩.

(٨) كذا في النسختين وفي السمين فنقدر بتاء واحدة فلا فرق في المعنى بين الكلمتين.

(٩) هذا رأي أبي إسحاق الزجاج في المعاني ٤ / ٣٤٧ : «وأثر القراءة بتشديد الميم على معنى بل أم من هو قانت».

(١٠) تبع أبو جعفر أستاذه الزجاج في هذا انظر الإعراب ٤ / ٨ له.

(١١) في ب لتسمية خطأ.

(١٢) هذا رد أبي حيان ومن بعد السمين الحلبي انظر : البحر ٧ / ٤١٩ والدر المصون ٤ / ٦٤١.

٤٨٣

أحدهما : أن تكون الميم في «أم» صلة ويكون معنى (١) الكلام استفهاما وجوابه محذوف مجازه : أمّن هو قانت كمن هو غير قانت كقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الزمر : ٢٢] يعني كمن لم يشرح صدره.

والثاني : أنه عطف على الاستفهام مجازه : الذي جعل لله أندادا (٢).

فصل

القانت : هو القائم بما يجب عليه من الطاعة ، ومنه قوله عليه (الصلاة و) السلام : «أفضل الصّلاة صلاة القنوت» وهو القائم فيها ومنه القنوت لأنه يدعو قائما ، وعن ابن عمر أنه قال : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ). وعن ابن عباس : القنوت الطاعة كقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي مطيعون (٣).

قوله : (آناءَ اللَّيْلِ) آناء منصوب على الظرف (٤). وتقدم اشتقاقه (٥) ، والكلام في مفرده ، والمعنى ساعات الليل. وفي هذه الآية دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار ، قال ابن عابس ـ في رواية عطاء ـ : نزلت في (أبي بكر (٦) الصدّيق ، وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر وعمر ، وعن ابن عمر : أنها نزلت في عثمان وعن الكلبي : أنها نزلت في) ابن مسعود ، وعمّار وسلمان (٧).

قوله : «ساجدا» حال و «قائما» حال أيضا وفي صاحبها وجهان :

أظهرهما : أنه الضمير المستتر (في) (٨) «وقانت».

والثاني : أنه الضمير المرفوع «بيحذر» قدما على عاملهما (٩) ، والعامة على نصبهما.

__________________

(١) في البغوي فيكون معنى وفي ب ويكون بمعنى.

(٢) نسي الناسخ وربّما المؤلف أن ينقل كلام البغوي كاملا حتى يستقيم المراد الذي جعل لله أندادا أخير أم من هو قانت. ومن قرأ بالتخفيف فهو ألف استفهام دخلت على من معناه أهذا كالذي جعل لله أندادا.

انظر : معالم التنزيل ٦ / ٦٩.

(٣) انظر : الرازي ٢٦ / ٢٥٠ ومعالم البغوي وتفسير الخازن ٦ / ٦٩ والقرطبي ١٥ / ٢٣٩ وغريب القرآن ٣٨٢ وتأويل المشكل ٣٥٠.

(٤) في الأصل الظروف.

(٥) في ب : انقسامه. تحريف. عند قوله : «آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ»[آل عمران : ١١٣] والآناء من المحتمل أن تكون جمع أنى وزنة عصا بفتح الأول والثاني وأن تكون بزنة أني بفتح الأول وكسر الثاني مثل معي أو بفتح الأول وسكون الثاني أني ككلب في الصحيح وظبي في المعتل وبكسر الأول وسكون الثاني إني ، أو بالكسر والسكون لكن مع واو كجرو والهمزة منقلبة عن ياء أو واو مثل : كساء وعطاء. اللباب ٢ / ٨٦ ب.

(٦) ما بين الأقواس سقط من ب.

(٧) زاد المسير ٧ / ١٦٦ و ١٦٧.

(٨) سقط من ب.

(٩) قال بهذا الإعراب صاحب التبيان ١١٠٩ والسمين في الدر ٤ / ٦٤١.

٤٨٤

وقرأ الضحاك برفعهما على أحد وجهين ، إما النعت «لقانت» (١) وإما أنهما خبر بعد خبر (٢).

قوله : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) يجوز أن يكون حالا من الضمير في «قانت» وأن يكون حالا من الضمير في «ساجدا» و «قائما» وأن يكون مستأنفا جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل : ما شأنه يقنت آناء الليل ويتعب (٣) نفسه ويكدّها؟ فقيل : يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه (٤) ، أي عذاب الآخرة. وفي الكلام حذف (٥) ، والتقدير كمن لا يفعل شيئا من ذلك ، وإنّما حسّن هذا الحذف دلالة ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) والتقدير : هل يستوي الذين يعلمون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل ساجدا وقائما والذين لا يعلمون وهم الذين صفتهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغ (٦) يشركون ، وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون لأنه تعالى وإن آتاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم فلهذا جعلهم الله كأنهم ليسوا أولي الألباب من حيث إنّهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم (٧).

قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) قيل : الذين يعلمون «عمار» والذين لا يعلمون أبو حذيفة المخزوميّ (٨) ، وهذا الكلام تنبيه على فضيلة العلم قيل لبعض العلماء : إنكم تقولون العلم أفضل من المال (ثم نرى (٩) العلماء عند أبواب الملوك) ولا نرى الملوك عند أبواب العلماء فأجاب بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنفعة فطلبوه ، والجهال (١٠) لم يعرفوا ما للعلم من المنافع فلا جرم تركوه.

(قوله) (١١) : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) قرىء : إنّما يذكر (١٢) بإدغام التاء في الذال.

قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١٠)

قوله : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي بطاعته ، واجتناب معاصيه. قال

__________________

(١) السابق ومعاني الفراء ٢ / ٤١٧ والبحر المحيط ٧ / ٤١٩.

(٢) نقله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٩٠.

(٣) في ب ويقنت. خطأ.

(٤) الدر المصون ٤ / ٦٤١.

(٥) كرر المؤلف ثانية في الحذف وأتى بكلام الرازي وكان من باب أولى أن يضع له عنوانا كعادته في النقل عن السابقين.

(٦) في الرازي والفراغة.

(٧) الرازي ٢٦ / ٢٥١.

(٨) البغوي ٦ / ٦٩.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(١٠) في «أ» الجبال فالتصحيح من «ب» والرازي.

(١١) سقط من ب.

(١٢) في ب يتذكر لحن وخطأ وانظر : الكشاف ٣ / ٣٩٠ والبحر ٧ / ٤١٩.

٤٨٥

القاضي أمرهم بالتقوى لكي لا يحبطوا إيمانهم بأعمالهم لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط.

فيقال (له) (١) : هذا بأن يدل على ضد قولك أولى لأنه أمر المؤمنين بالتقوى فدل ذلك على أنه يبقى مؤمنا مع عدم التقوى وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان (٢).

واعلم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالاتّقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ).

قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، وحذفت صفة «حسنة» إذ المعنى حسنة عظيمة لأنه لا يوعد (٣) من عمل حسنة في الدنيا حسنة مطلقا بل مقيدة بالعظم ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «حسنة» كانت صفة لها فلما تقدمت بقيت حالا (٤).

فصل

قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) يحتمل أن يكون صلة (٥) لقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي آمنوا وأحسنوا العمل في الدنيا حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة ، والتنكير في «حسنة» للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها ، قاله مقاتل. ويحتمل أن يكون صلة لقوله : «حسنة». وعلى هذا قال السدي : معناه في هذه الدنيا حسنة يريد (٦) الصحة. قال ابن الخطيب : الأولى أن يحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصّحّة والكفاية (٧) ، وقال بعضهم : الأول أولى لوجوه:

أحدها : أن التنكير يفيد النهاية في التعظيم والرفعة ، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا لأنها خسيسة منقطعة وإنما يليق بأحوال الآخرة.

وثانيها : أن الثواب للتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة ، وأما الأمن والصحة والكفاية فحاصل للكفار أكثر من حصولها للمؤمنين كما قال ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ : «الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» (٨).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) قاله الرازي ٢٦ / ٢٥٢.

(٣) في ب يؤخذ خطأ.

(٤) بالمعنى من البحر ٧ / ٤١٩ وباللفظ من الدر ٤ / ٦٤٢.

(٥) الواقع أن المؤلف على كثير من عادته قد خلط خطأ بين قولين منقولين بين الرازي والبغوي يقول الرازي : «يحتمل أن يكون صلة لقوله : أحسنوا ، أو الحسنة فعلى التقدير الأول معناه للذين أحسنوا في هذه الدنيا كلهم حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة ، وأما على التقدير الثاني فمعناه الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة» [الرازي ٢٦ / ٢٥٢]. ويقول البغوي : أي آمنوا وأحسنوا العمل حسنة يعني الجنة [٦ / ٦٩].

(٦) السابق.

(٧) لم أجده إلا في الرازي المرجع السابق.

(٨) أورده مسلم في صحيحه باب الزهد عن أبي هريرة ٨ / ٢١.

٤٨٦

وقال تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣]

وثالثها : قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) يفيد الحصر ، ومعناه أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا وهذا باطل. أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر فكان حمله على حسنة الآخرة أولى.

قوله : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) قال ابن عباس : يعني ارتحلوا من مكة ، وفيه حثّ على الهجرة من البلد الّذي يظهر فيه المعاصي ، ونظيره قوله تعالى : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)(١) [النساء : ٩٧].

وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة ، وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي (٢) فليهرب ، وقال أبو مسلم (٣) : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة ؛ لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية (٤) الله ، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ، ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة كقوله تعالى : (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] وقوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣]. قال ابن الخطيب : والأول عندي أولى لأن قوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٥) لا يليق إلا بالأول.

قوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى ، وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا (٦). قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير نهاية ؛ لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه فما لا نهاية له كان خارجا عن الحساب (٧) قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : كل مطيع يكال له كيلا أو يوزن له (٨) وزنا إلا الصابرين فإنه يحثى لهم حثيا ، يروى : أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصبّ عليهم الأجر صبّا قال الله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما ذهب به أهل البلاء من الفضل (٩).

__________________

(١) وانظر البغوي ٦ / ٦٩ ، ٧٠.

(٢) في البغوي : ببلد فليهرب منها. وانظر : البغوي المرجع السابق.

(٣) هو أبو مسلم الأصفهاني وقد ترجم له.

(٤) خشية الله تصحيح من الرازي. وفي النسختين : حسنة الله.

(٥) كذا في كتابه وفي ب : إنما يليق بالأول. وانظر هذا في الرازي ٢٦ / ٢٥٣.

(٦) البغوي ٦ / ٦٩ و ٧٠.

(٧) هذا رأي الرازي في ٢٦ / ٢٥٤.

(٨) كذا رواه البغوي وفي القرطبي : قال أهل العلم كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا ١٥ / ٢٤١.

(٩) البغوي ٦ / ٧٠ والقرطبي السابق.

٤٨٧

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ)(١٨)

قوله : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً (لَهُ الدِّينَ) أي مخلصا له) (١) التوحيد لا أشرك به شيئا ، وهذا هو النوع الثامن (٢) من البيانات التي أمر الله رسوله أن يذكرها.

قوله : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) في هذه اللام وجهان :

أحدهما : أنها للتعليل تقديره وأمرت بما أمرت به لأن أكون قال الزمخشري : فإن قلت : كيف عطف «أمرت» على «أمرت» وهما واحد؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ؛ وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحوز (٣) به قصب السبق في الدّين شيء آخر ، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين.

الثاني : أن تكون اللام مزيدة في «أن» قال الزمخشري : وذلك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في قولك : أردت لأن أفعل. ولا تزاد إلّا مع «أن» خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في «أسطاع» عوضا من ترك الأصل الذي هو «أطوع» والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٧٢ والنمل : ٩١] (و) (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ١٠٤] (و) (٤)(أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [الأنعام : ١٤] انتهى (٥).

قوله : «ولا تزاد إلا مع أن» فيه نظر من حيث إنها تزاد باطّراد إذا كان المعمول متقدما (٦)

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٢) في ب والرازي النوع الثاني لا الثامن ، فالتصحيح من ب والرازي.

(٣) في الكشاف ليحرز القائم به الخ ...

(٤) زيادة للسياق.

(٥) وانظر : الكشاف للزمخشري ٣ / ٣٩١ و ٣٩٢ والدر المصون للسمين ٤ / ٦٤٢.

(٦) إذا كان معمول الفعل متقدما وكان عامله متأخرا عنه في اللفظ مثل : «لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» من الأعراف يقول أبو العباس في المقتضب : «وتقول : لزيد ضربت ولعمرو أكرمت ، إذا قدمت المفعول لتشغل اللام ما وقعت عليه فإن أخرته فالأحسن ألا تدخلها» المقتضب ٢ / ٣٦.

٤٨٨

أو كان العامل (١) فرعا وبغير اطراد في غير الموضعين. ولم يذكر أحد من النحويين هذا التفصيل. وقوله : كما عوض السين في «أسطاع» (٢) هذا على أحد القولين ، والقول الآخر أنه استطاع ، فحذف تاء الاستفعال ، وقوله : والدليل عليه مجيئه بغير لام قد يقال : إن أصله باللام ، وإنما حذفت لأن حرف الجر يطرد حذفه مع «أن» و «أنّ» ويكون المأمور به محذوفا تقديره : أن أعبد لأن أكون.

فصل

المراد من الكلام : أن يكون أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها. واعلم أن العبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح وهو الإسلام فقال : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي من هذه الأمة.

قوله : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) وعبدت غيره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهذا حين دعا إلى دين آبائه (٣) ، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي. ودلت هذه الآية على أن الأمر للوجوب لقوله في أول الآية : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) ثم قال بعده : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) فيكون معنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره ، ودلت الآية أيضا على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب (٤).

قوله : (قُلِ (٥) اللهَ أَعْبُدُ) قدمت الجلالة عند قوم لإفادة الاختصاص (٦). قال الزمخشري : ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة هنا وأخره في الأول فالكلام أولا وقع في الفعل نفسه وإيجاده ، وثانيا فيمن (٧) يفعل الفعل من أجله فلذلك رتب عليه قوله : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ)(٨). قال ابن الخطيب : فإن قيل : ما معنى التكرير في قوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) وقوله : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي)؟ قلنا : هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان (٩) بالعبادة والثاني إخبار بأنّه أمر أن لا يعبد أحدا غير الله ، وذلك لأن قوله : (أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) لا يفيد الحصر وقوله تعالى : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) يفيد الحصر أي الله أعبد ولا أعبد أحدا سواه ، ويدل عليه أنه لما قال : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) قال بعده : (فَاعْبُدُوا ما

__________________

(١) أي إذا كان العامل غير أصيل مثل اسم الفاعل في قوله : «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» * وهذه اللام تسمى لام التقوية لأنها قوت العامل ـ وهو اسم الفاعل ـ لما كان فرعا عن الفعل وهو فعل.

(٢) في ب استطاع لحن وخطأ.

(٣) قاله البغوي في معالم التنزيل [٦ / ٧٠].

(٤) قاله الرازي ٢٦ / ٢٥٥.

(٥) في ب قل كما القرآن وفي «أ» بل فالتصحيح من ب.

(٦) نقله السمين في الدر ٤ / ٦٤٣.

(٧) كذا في ب والكشاف وفي «أ» ضمير بدل من «فيمن». خطأ.

(٨) انظر : الكشاف ٣ / ٣٩٢.

(٩) كذا في النسختين وفي تفسير ابن الخطيب وهو الرازي بالإتيان. وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٥٥.

٤٨٩

شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) وهذا أمر توبيخ وتهديد. والمراد منه الزجر كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠]. ثم بين كمال الزجر بقوله : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أوقعوها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه وخسروا أهاليهم أيضا لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده البتة. وقيل : خسران النفس بدخول النار وخسران الأهل أن يفرق بينه وبين أهله.

ولما شرح الله تعالى خسرانهم وصف ذلك الخسران (المبين بالفظاعة فقال : (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ) الْمُبِينُ) ، وهذا يدل على غاية المبالغة من وجه :

أحدها : أنه وصفهم بالخسران ، ثم أعاد ذلك بقوله : (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) وهذا التكرير لأجل التأكيد.

وثانيها : ذكره حرف «ألا» وهو للتّنبيه ، وذكر التنبيه يدل على التعظيم كأنه قيل : بلغ في العظم إلى حيث لا تصل عقولكم إليه فتنبهوا له.

وثالثها : قوله : (هُوَ الْخُسْرانُ) ، ولفظ «هو» يفيد الحصر كأنه قيل : كل خسران يصير في مقابلته كلا خسران.

ورابعها : وصفه بكونه خسرانا مبينا وذلك يدل على التهويل (١).

قوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ) يجوز أن يكون الخبر أحد الجارين المتقدمين وإن كان الظاهر جعل الأول هو الخبر ، ويكون (مِنْ فَوْقِهِمْ) إما حالا من «ظلل» فيتعلق بمحذوف ، وإما متعلقا بما تعلق به الخبر و (مِنَ النَّارِ) صفة لظلل ، وقوله : (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) كما تقدم (٢).

وسماها ظللا بالنسبة لمن تحتهم ، ونظيره قوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] وقوله : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [العنكبوت : ٥٥]. والمعنى أن النار محيطة بهم من جميع الجوانب.

فإن قيل : الظلة ما علا الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلة؟

فالجواب من وجوه :

الأول : أنه من باب إطلاق اسم أحد الضّدّين على الآخر ، كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].

الثاني : أن الذي تحته يكون ظلة لغيره لأن النار درجات كما أن الجنة درجات.

__________________

(١) انظر : الرازي في تفسيره ٢٦ / ٢٥٤ و ٢٥٤.

(٢) هذا إعراب أبي البقاء في التبيان ١١١٠ والسمين في الدر ٤ / ٦٤٣.

٤٩٠

الثالث : أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانيّة في الحرارة والإحراق والإيذاء (١) أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة (٢).

قوله : «ذلك» مبتدأ. وقوله «الذي يخوف الله به» خبر ، والتقدير ذلك العذاب المعدّ للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين ، لأن لفظ العباد في القرآن يختص بأهل الإيمان ، وقيل : تخويف للكفار والضلال والأول أقرب لقوله بعده : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ). والظاهر أن المراد منه المؤمنون.

قوله : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) الذين مبتدأ ، والجملة من (لَهُمُ الْبُشْرى) الخبر ، وقيل : «لهم» هو الخبر نفسه ، و «البشرى» فاعل به (٣).

وهذا أولى لأنه من باب الإخبار بالمفردات (٤). والطّاغوت قال الزمخشري : فعلوت من الطّغيان كالملكوت والرّهبوت إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام (٥) على العين. لما ذكر وعيد عبدة الأصنام ذكر وعد من اجتنب عبادتها واحترز عن أهل الشرك ليكون الوعد مقرونا بالوعيد أبدا فيحصل كمال الترغيب والترهيب.

قيل : المراد بالطاغوت هنا : الشيطان (٦).

فإن قيل : إنما عبدوا الصنم.

فالجواب : أن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان الشيطان هو الداعي كانت عبادة الصنم عبادة للشيطان (٧) ، وقيل المراد بالطاغوت : الصنم وسميت طواغيت على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها ، (والطغاة (٨) هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان بسبب عبادتها والقرب منها وصفت بذلك) إطلاقا لاسم السبب على المسبّب بحسب الظاهر. وقيل : الطاغوت كل من يعبد ويطاع دون الله. نقل (ذلك) (٩) في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم (كانوا) (١٠) مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وأن الملائكة أنواع (١١) مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صورها (١٢) على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون

__________________

(١) كذا في «أ» والرازي وفي ب : والإيذاق.

(٢) الرازي ٢٦ / ٢٥٧ والدر المصون ٤ / ٦٤٣.

(٣) قاله السمين في المرجع السابق وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٣٣.

(٤) المرجع السابق وهو الدر.

(٥) وهي الألف حاليا المنقلبة عن الياء قاله في الكشاف ٣ / ٣٩٢ أقول : وما دام هذا رأي الزمخشري فلماذا لا يكون وزنه فلعوت؟ كأيس بزنة عفل ؛ فإن القلب المكاني ممّا يراعى فيه الصورة الحاضرة وأمثلته كثيرة في العربية.

(٦) وهو قول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٤٩ والزمخشري ٣ / ٣٩٢.

(٧) في ب الشيطان وانظر الرازي ٢٦ / ٢٥٨.

(٨) ما بين القوسين كله ساقط من ب.

(٩) زائد من «أ».

(١٠) كذلك.

(١١) في ب والرازي : أنوار لا أنواع.

(١٢) في ب صور وفي الرازي : تماثيل وصورا.

٤٩١

تلك التماثيل على اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة (١).

قوله : (أَنْ يَعْبُدُوها) الضمير يعود على الطّاغوت لأنها تؤنث ، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في البقرة (٢) و (أَنْ يَعْبُدُوها) في محل نصب على البدل من «الطّاغوت» بدل اشتمال كأنه قيل : اجتنبوا عبادة الطاغوت (٣).

قوله : (فَبَشِّرْ عِبادِ) من إيقاع الظاهر موقع (٤) المضمر أي فبشّرهم أي أولئك المجتبين ، وإنما فعل ذلك تصريحا بالوصف المذكور (٥).

فصل

الذين اجتنبوا الطاغوت أي أعرضوا عن عبادة (٦) ما سوى الله وأنابوا أي رجعوا بالكلية إلى الله وأقبلوا بالكلية على عبادة الله. ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء :

أحدها : قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى)(٧) وهذه البشرى تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر ، وعند الخروج من القبر ، وعند الوقوف في عرصة القيامة وعند ما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير ، ففي كل موضع من هذه المواضع تحصل البشارة بنوع من الخير ، وهذا المبشّر يحتمل أن يكون هم الملائكة عند الموت لقوله : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [النحل : ٣٢] أو بعد دخول الجنة لقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤]. ويحتمل أن يكون هو الله تعالى كما قال : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] ، ثم قال (فَبَشِّرْ عِبادِ) (ي) (٨)(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وهم الذين اجتنبوا وأنابوا لا (٩) غيرهم. وهذه الآية تدل على وجوب النظر والاستدلال لأنه مدح الإنسان الذي إذا سمع أشياء كثيرة يختار منها ما هو الأحسن الأصوب وتمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما بحجة العقل. واختلفوا في المراد باتّباع الأحسن ، فقيل : هو مثل أن

__________________

(١) وانظر : الرازي السابق والقرطبي ١٥ / ٢٤٥.

(٢) عند قوله : «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» وبين هناك ما تستخلصه من أن الطاغوت من الإمكان أن يراد به الجماعة أو يراد به المفرد المؤنث أو يراد به الجمع المؤنث والمذكر ولم يغير لكونه مصدرا وفي تسميته بالمصدر مبالغة كأن عين الشيطان طغيان وأن البناء بناء مبالغة. انظر : اللباب ١ / ٤٨٣ ب.

(٣) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٢٢ و ٣٢٣ والكشاف ٣ / ٣٩٢ و ٣٩٣ والسمين في الدر ٦٤٤.

(٤) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٩٣.

(٥) السمين ٤ / ٦٤٤.

(٦) في ب عبودية. وهو الموافق لما في الرازي.

(٧) في ب في هذه البشرى.

(٨) الياء مزيدة في النسختين وقراءة حفص المعتادة : عباد.

(٩) في ب إلى غيرهم وانظر في هذا الرازي ٢٦ / ٢٦٠ و ٢٦١.

٤٩٢

يسمع القصاص والعفو فيعفو ، لأن العفو مندوب إليه لقوله : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة: ٢٣٧] ، وقيل : يسمع العزائم والرخص فيتبع الأحسن وهو العزائم ، وقيل : يستمعون القرآن وغير القرآن فيتبعون القرآن (١). وروى عطاء عن ابن عباس : آمن أبو بكر بالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فجاءه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزل فيهم : (فَبَشِّرْ عِبادِ (ي) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(٢). وقال ابن الخطيب : إنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نعرض (٣) تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا فكل ما حكم به أول العقل بأنه أفضل وأكمل كان أولى بالقبول ، مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن (إله العالم حي عالم قادر حكيم رحيم أولى من إنكار ذلك فكان ذلك المذهب أولى. والإقرار) (٤) بأن الله لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجري (٥) في سلطان الله على خلاف إرادته ، والإقرار بأن الله تعالى فرد أحد صمد ، منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعّضا (٦) ، مؤلفا ، وأيضا القول باستغنائه عن المكان والزمان أولى من القول بأنه لا يستغني عنه ألبتة ، فكل هذه الأبواب داخلة تحت قوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ، فهذا في أبواب الاعتقادات وأما أبواب التكاليف فهي قسمان : عبادات ومعاملات ، أما العبادات فكقولنا : الصلاة التي يذكر في تحريمها (٧) : الله أكبر وهي بنيّة ويقرأ فيها بالفاتحة (٨) ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة ويتشهّد فيها ويخرج منها بالسلام فلا شكّ أنها أحسن من تلك التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال ، فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ، وكذا القول في جميع أبواب العبادات.

وأما المعاملات فكما تقدم في القصاص والعفو عنه ، وروي عن ابن عباس : أن المراد منه أن الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء (٩) فيحدّث بأحسن ما سمع ويترك ما سواه.

قوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ) الظاهر أنه نعت «لعبادي» ، أو بدل منه ، أو بيان له (١٠) ،

__________________

(١) المرجع السابقة وانظر أيضا معالم التنزيل وتفسير الخازن كلاهما ٦ / ٧١.

(٢) المرجعان السابقان.

(٣) في ب بعرض خطأ.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٥) في ب ما يحركهم.

(٦) كذا في الرازي. وفي النسختين : مشقصا. لحن وتحريف وتصحيف.

(٧) في ب فتحريمها. لحن.

(٨) في الرازي : ويقرأ فيها سورة الفاتحة. وفي ب الفاتحة بدون حرف جر.

(٩) كذا في الرازي و «أ». وفي ب مساءات.

(١٠) قال بالثلاثة السمين في الدر ٤ / ٦٤٤ والبدلية وعطف البيان ظاهر كلام الزمخشري فقال «الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم». الكشاف ٣ / ٣٩٣.

٤٩٣

وقيل : يجوز أن يكون مبتدأ ، وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ) إلى آخره خبره ، وعلى هذا فالوقف على قوله : «عبادي» والابتداء بما بعده (١).

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) قال ابن زيد : نزلت : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها ...) الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون : لا إله إلا الله زيد (٢) بن عمرو (٣) وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسيّ ، والأحسن قول لا إله إلا الله. وفي هذه الآية لطيفة وهي أن حصول الهداية في العقل والروح حادث فلا بدّ له من فاعل وقائل أما الفاعل فهو الله تعالى وهو المراد من قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) ، وأما القائل فإليه الإشارة بقوله : (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) فإن الإنسان ما لم يكن عاقلا كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف والحقيقة في قلبه (٤).

قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ)(٢٠)

قوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ) في «من» هذه وجهان :

أظهرهما : أنها موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف فقدره أبو البقاء : «كمن نجا» (٥). وقدره الزمخشري : «فأنت تخلّصه» قال : حذف لدلالة : «أفأنت تنقذ» عليه (٦) وقدره غيره : تتأسّف عليه ، وقدره آخرون : تتخلّص منه ، أي من العذاب (٧).

وقدر الزمخشري على عادته جملة بين الهمزة والفاء تقديره : أأنت مالك أمرهم فمن حقّ عليه كلمة العذاب (٨)؟

وأما غيره (٩) فيدعي أن الأصل تقديم الفاء ، وإنما أخّرت لما تستحقه الهمزة من التصدير. وقد تقدم تحقيق هذين القولين (١٠).

الثاني : أن تكون «من» شرطية وجوابها : «أفأنت» فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء ، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار. وأوقع الظاهر وهو (مَنْ فِي النَّارِ)

__________________

(١) المرجع السابق وبه قال السمين أيضا.

(٢) ابن نفيل أبو سعيد أحد المسمّين للجنة قتل من النصارى. المعارف ٥٩.

(٣) وانظر : البغوي ٦ / ٧١.

(٤) قال بتلك اللطيفة الرازي في تفسيره ٢٦ / ٢٦٢.

(٥) التبيان ١١١٠.

(٦) الكشاف ٣ / ٣٩٣.

(٧) ذكر هذين التقديرين أبو حيان في بحره ٧ / ٤٢١ والسمين في الدر ٦٤٤ والتقدير : يتخلّص منه أو ينجو منه تقدير الزجاج في الإعراب ٤ / ٣٥٠.

(٨) الكشاف ٣ / ٣٩٣.

(٩) من الجمهور وسيبويه.

(١٠) تقدم هذا مبسوطا.

٤٩٤

موقع المضمر إذ كان الأصل أفأنت تنقذه وإنما وقع موقعه شهادة عليه بذلك ، وإلى هذا نحا الحوفيّ (١) والزمخشريّ (٢) ، قال الحوفي : وجيء بألف الاستفهام لمّا طال الكلام توكيدا ولو لا طوله لم يجز الإتيان بها لأنه لا يصلح في العربية أن يؤتى بألف الاستفهام في الاسم ، وألف أخرى في الجزاء ومعنى الكلام أفأنت تنقذه (٣).

وعلى القول بكونها شرطية يترتّب على قول الزمخشري وقول الجمهور مسألة وهو أنه على قول الجمهور يكون قد اجتمع شرط واستفهام. وفيه حينئذ خلاف بين سيبويه ويونس هل الجملة الأخيرة في جواب الاستفهام وهو قول يونس أو جواب الشرط وهو قول سيبويه (٤).

وأما على قول الزمخشري فلم يجتمع (٥) شرط (و) (٦) استفهام ؛ إذ أداة الاستفهام عنده داخلة على جملة محذوفة عطفت عليها جملة الشرط ولو (٧) لم يدخل على جملة الشرط (٨). وقوله : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ) استفهام توقيف ، وقدم فيها الضمير إشعارا بأنك لست قادرا على إنقاذه إنما القادر عليه الله وحده (٩).

فصل

قال ابن عباس : معنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار. وقيل كلمة العذاب قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). وقيل : هي قوله : «هؤلاء في النار ولا أبالي»(١٠).

فصل

احتج أهل السنة بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال بقوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) ، فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة وإلّا لزم (انقلاب) (١١) خبر الله الصدق كذبا وانقلاب علمه جهلا ، وهو محال ، وأيضا فإنه تعالى

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ٤٢١.

(٢) قال : «أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ، جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب تقديره أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ووضع «مَنْ فِي النَّارِ» موضع الضمير فالآية على هذا جملة واحدة». الكشاف ٣ / ٣٩٣.

(٣) نقله عنه أبو حيان في البحر ٧ / ٤٢١.

(٤) قد تقدم هذا أيضا وانظر الكتاب ٣ / ٨٢ ، ٨٣.

(٥) في ب : يجمع.

(٦) الواو سقط من ب.

(٧) «لو» سقط من ب.

(٨) البحر المحيط ٧ / ٤٢١.

(٩) نقله السمين في تفسيره ٤ / ٦٤٥.

(١٠) قاله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٧١.

(١١) سقط من ب.

٤٩٥

حكم بأن حقية (١) كلمة العذاب (توجب (٢) الاستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة منه ولو كان ذلك ممكنا ولم تكن حقية كلمة العذاب) مانعة منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى (٣).

فصل

احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يشفع لأهل الكبائر لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار (٤) والاستبعاد ، وأجيب : بأنا لا نسلم أن أهل الكبائر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق عليهم العذاب مع أن الله تعالى قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] وقال: (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)(٥) [الزمر : ٥٣].

قوله : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) استدراك بين شيئين نقيضين ، أو (بين) ضدين ، وهما المؤمنون والكافرون وقوله : (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ). والمعنى لهم منازل في الجنة رفيعة ، وفوقها منازل أرفع منها.

فإن قيل : ما معنى قوله «مبنية»؟

فجوابه : أن المنزل إذا بني على منزل آخر كان الفوقاني أضعف بناء من التّحتانيّ ، فقوله : «مبنية» معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو المنزل الأسفل ، ثم قال : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وذلك معلوم (٦).

قوله : (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بواجب الإضمار لأن قوله : (لَهُمْ غُرَفٌ) في معنى وعدهم الله ذلك (٧) ، وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد يصرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد البتة مثل هذا التأكيد والتقوية ، وذلك يدل أنّ جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف قول المعتزلة إنه قال في جانب الوعيد : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩] وأجيبوا بأن قوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) ليس تصريحا بجانب الوعيد بل هو عام يتناول القسمين الوعد والوعيد فثبت أن الترجيح الذي ذكرنا حق. والله أعلم (٨).

__________________

(١) في ب : حقيقة.

(٢) سقط ما بين القوسين بسبب انتقال النّظر من ب.

(٣) الرازي ٢٦ / ٢٦٣.

(٤) في ب دون أوالرازي : الاستنكار.

(٥) وانظر : تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ٢٦٣.

(٦) وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٦٣.

(٧) هذا رأي الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٩٤ وتبعه الرازي في المرجع السابق ، والسمين في الدر ٤ / ٦٤٦.

(٨) الرازي ٢٦ / ٢٦٣ ، ٢٦٤.

٤٩٦

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢٢)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (الآية) (١) لما وصف الآخرة بوصف يوجب (٢) الرغبة العظيمة فيها وصف الدنيا بصفة توجب (اشتداد) (٣) النفرة عنها ، وذلك أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل : كل (٤) ماء في الأرض فهو من السماء ، ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) أي عيونا ومسالك وركايا (٥) في الأرض ومجاري كالعروق في الأجساد (٦)(ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) من خضرة وحمرة ، وصفرة وبياض وغير ذلك مختلفا أصنافه من برّ وشعير وسمسم «ثمّ يهيج» أي ييبس (٧)(فَتَراهُ مُصْفَرًّا) لأنه إذا تم جفافه جاز (له) (٨) أن ينفصل عن منابته (٩) وإن لم تتفرّق أجزاؤه فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم تصير حطاما فتاتا متكّسرا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) يعني من شاهد هذه الأحوال في النبات علم أن أحوال الحيوان والإنسان كذلك وأنه وإن طال عمره فلا بدّ من الانتهاء إلى أن يصير مصفرّ اللون متحطم الأعضاء والأجزاء ثم يكون عاقبته الموت ، فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات (١٠) مذكرة حصول (مثل) (١١) هذه الأحوال في نفسه وفي حياته فحينئذ تعظم نفرته عن الدنيا ولذاتها.

قوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ) العامة على رفع الفعل نسقا على ما قبله ، وقرأ أبو بشر (١٢) ثم يجعله منصوبا (١٣).

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) في ب : فوجب.

(٣) سقط من «ب».

(٤) لعل قصد المؤلف ـ نقلا عن الرازي ـ كل ماء. وفي النسختين «كلما في الأرض» وفي الرازي كل ما في الأرض بلفظ «ما» فقط.

(٥) جمع ركية وهي البئر تحفر وجمعها ركايا ، وجمعها ابن سيده ركاوى لأنه من ركوت الأمر أصلحته ، اللسان «ر ك ا» ١٧٢٢.

(٦) في ب : الأجسام.

(٧) قال الزجاج : يجف وقال أو عبيدة يذوي ، انظر : الزجاج ٤ / ٣٥١ والمجاز ٢ / ١٨٩ والغريب ٣٨٣.

(٨) سقط من ب.

(٩) في ب : مباينة.

(١٠) في الرازي تذكره.

(١١) سقط من ب.

(١٢) هارون بن حاتم أبو بشر الكوفيّ ، مقرىء ، مشهور روى الحروف عن أبي بكر بن عياش والقراءة عن أحمد بن محمد بن عبد الله وعنه أحمد بن يزيد الحلواني وابن العباس الرازي مات سنة ٢٤٩ ه‍.

انظر : غاية النهاية ٢ / ٣٤٥ ، ٣٤٦.

(١٣) وانظر : البحر ٧ / ٢٢٤ والشواذ ٢٠٩ والكامل مخطوط. وصاحب الكامل : هو أبو القاسم يوسف بن ـ

٤٩٧

قال أبو حيان : قال صاحب الكامل ـ يعني الهذليّ ـ : وهو ضعيف. ولم يبين هو ولا صاحب الكامل وجه ضعفه ولا تخريجه (١) ، فأما ضعفه فواضح حيث لم يتقدم ما يقتضي نصبه في الظاهر ، وأما تخريجه فذكر أبو البقاء فيه وجهين :

أحدهما : أن ينتصب بإضمار «أن» ويكون معطوفا على قوله : (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) في أول الآية والتقدير : ألم تر إنزال الله ثم جعله.

والثاني : أن يكون منصوبا بتقدير : ترى أي ثم ترى جعله حطاما يعني أنه ينصب «بأن» مضمرة وتكون أن وما في حيّزها مفعولا به بفعل مقدر وهو «ترى» لدلالة : (أَلَمْ تَرَ) عليه (٢).

قوله (تعالى) (٣) : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) الآية ، لما بين الدلائل الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله ووجوب الإعراض عن الدنيا وذكر أن الانتفاع بهذه البيانات لا تكمل (٤) إلا إذا شرح الصدر ونوّر القلب ، والكلام في قوله (تعالى) : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ) وقوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي) كالكلام في (أَفَمَنْ حَقَّ) والتقدير : أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن قسا قلبه ، أو كالقاسي المعرض لدلالة : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) عليه وكذا التقدير في : (أَفَمَنْ يَتَّقِي) أي كمن أمن العذاب ، وهو تقدير الزمخشري (٥) ، أو : كالمنعمين في الجنة وهو تقدير ابن عطيّة.

فصل

معنى شرح الله صدره للإسلام أي وسعه لقبول الحق (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) كمن أقسى الله قلبه (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). قال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب وما غضب الله على قوم إلا نزع منهم الرحمة (٦).

فإن قيل : إن ذكر الله ـ عزوجل ـ سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] فكيف جعله في هذه الآية مبينا لحصول القسوة في القلب؟

__________________

ـ جبارة الهذلي المغربي الذي طاف البلاد ، وروى عن أئمة القراءة حتى انتهى إلى بلاد «ما وراء النّهر» انظر : طبقات ابن الجزري ٢ / ٣٩٧ ، ٣٩٨ ولطائف الإرشادات ١ / ٨٧ ، ٨٨ وإبراز المعاني ٢٣.

(١) البحر ٧ / ٤٢٢ والدر المصون ٤ / ٤٦.

(٢) بتوضيح من صاحب الدر ٤ / ٦٤٦. وانظر : التبيان ١١١٠ ولم يرتض صاحب البيان قراءة النصب قال : «وقرىء بالنصب وهي قراءة ضعيفة وليس في توجيهها قول مرض جار على القياس» البيان ٢ / ٣٢٣.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : يكمل.

(٥) الكشاف ٣ / ٣٩٦ عند الآية ٢٤ الآتية.

(٦) قاله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٧٢.

٤٩٨

فالجواب : أن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الرّوحانيّات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذّميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة وكدورة (١) ، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف (٢) أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس تسود (٣) وجه القصار (٤) ويبيض ثوبه ، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح. وقد نرى إنسانا (واحدا) (٥) يذكر كلاما واحدا في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره ، وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس ، ولما نزل قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] وعمر بن الخطاب حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) قال كل (واحد) (٦) منهما : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : اكتب فكذا نزلت فازداد عمر إيمانا على إيمان ، وازداد ذلك الإنسان (كفرا (٧) على كفر) وإذا عرف هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله ـ عزوجل ـ يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانيّة ويوجب القسوة والبعد عن الحقّ في النفوس الخبيثة الشّيطانيّة.

قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٢٦)

قوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه :

الأول : أنه تعالى وصفه بكونه : «حديثا» في هذه الآية وفي قوله : «قل (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)(٨) وفي قوله : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) [الواقعة : ٨١] والحديث لا بدّ وأن يكون حادثا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه (لا) (٩) يصح أن يقال :

__________________

(١) في ب : كدرة.

(٢) في ب : يختلف.

(٣) كذا في أوفي ب والرازي : يسود عائدا على نور.

(٤) قال سيبويه ـ نقله عنه ابن منظور ـ : قصر الثّوب قصارة وقصره بمعنى حوره ودقه اللسان : «ق ص ر» ٣٦٤٩.

(٥) سقط من ب.

(٦) سقط من ب.

(٧) ما بين القوسين سقط من أوانظر : الرازي ٢٦ / ٢٦٦.

(٨) الآية ٣٤ من سورة الطور ؛ وتصحيحها : «فليأتوا بحديث مثله».

(٩) زيادة خطأ من أ.

٤٩٩

هذا حديث وليس بعتيق ، وهذا عتيق (١) وليس بحديث ، ولا يصح أن يقال : هذا عتيق وليس بحادث فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحدوث. وسمي الحديث حديثا لأنه مؤلّف من الحروف والكلمات وتلك الحروف والكلمات تحدث (٢) حالا فحالا وساعة فساعة.

الثاني : قالوا بأنّه تعالى وصفه بأنه أنزله والمنزل يكون في محلّ تصرف الغير وما كان كذلك فهو محدث وحادث.

الثالث : قالوا : إن قوله : (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أنّ قوله : «زيد أفضل الإخوة» (يقتضي (٣) أن يكون زيد مشاركا لأولئك الأقوام في صفة الأخوّة) ويكون من جنسهم ، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث ، ولما كان سائر الأحاديث حادثة وجب أيضا أن يكون القرآن حادثا.

الرابع : قالوا : إنه تعالى وصفه بكونه كتابا والكتاب مشتق من الكتيبة وهي الاجتماع ، وهذا يدل على كونه حادثا.

قال ابن الخطيب : والجواب أن نحمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والألفاظ والعبارات ، وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق (٤).

فصل

كون القرآن أحسن الحديث إما أن يكون بحسب اللفظ وذلك من وجهين :

الأول : أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجزالة.

الثاني : أن يكون بحسب النظم في الأسلوب وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر ولا من جنس الخطب ولا من جنس الرّسالة بل هو نوع يخالف الكلّ مع أن كل (ذي) (٥) طبع سليم يستلذّه ويستطيبه ، وإما أن يكون أحسن الحديث لأجل المعنى. وهو من وجوه :

الأول : أنه كتاب منزه عن التناقض قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المعجزات.

الثاني : اشتماله (٦) على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل.

__________________

(١) أي قديم.

(٢) في ب : بحدوث.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٤) وانظر في هذا تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ٢٦٧.

(٥) زيادة من الرازي عن النسختين.

(٦) في ب : استعماله.

٥٠٠