اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

٤٢٧٧ ـ حتّى إذا ما أضاء البرق في غلس

وغودر البقل ملويّ ومحصود (١)

أي منه ملويّ ومنه محصود.

الثالث : أن يكون «هذا» مبتدأ والخبر محذوف أي هذا كما ذكر أو هذا للطاغين (٢).

الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر أي الأمر هذا. ثم استأنف أمرا فقال «فليذوقوه» (٣).

الخامس : أن يكون مبتدأ خبره فليذوقوه (٤) وهو رأي الأخفش (٥). ومنه :

٤٢٧٨ ـ وقائلة خولان فانكح فتاتهم (٦)

وتقدم تحقيق هذا عند قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) [المائدة : ٣٨]. وقرأ الأخوان وحفص غسّاق بتشديد السين هنا وفي (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] وخفّفه الباقون فيهما(٧). فأما المثقل فهو صفة كالجبّار والضّرّاب مثال مبالغة وذلك أن «فعّالا» في الصفات أغلب منه في الاسم (٨). ومن وروده في الأسماء الكلّاء (٩) والحبّان (١٠) والفيّاد لذكر البوم (١١) والعقّار (١٢) والخطّار(١٣). وأما المخفف فهو اسم لا صفة لأن فعالا بالتخفيف في الأسماء كالعذاب والنّكال أغلب منه في الصفات على أنّ منهم من جعله صفة بمعنى «ذو كذا» أي ذي غسق ، وقال أبو البقاء أو يكون «فعّال» بمعنى

__________________

(١) هذا بيت من بحر البسيط ولا يعرف قائله ، ويروى الصبح بدل البرق والبقل : النبات الذي لا يبقى منه شيء في الأرض بعد قلعه ، والملويّ : الذابل. والمحصود : ما قطعته الأيدي. والشاهد : حذف الخبر لدلالة الكلام عليه كما قدره : منه ملويّ ومنه محصود. وانظر معاني الفراء ١ / ١٩٣ ، ٢ / ٤١٠ والبحر ٧ / ٤٠٦ والقرطبي ١٥ / ٢٢١ والدر المصون ٤ / ٦١٨.

(٢) قد سبق أن هذا أحد قولي الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٧٩ وانظر الدر المصون ٤ / ٦١٨.

(٣) مشكل الإعراب ٢ / ٢٥٢ والبيان ٢ / ٣١٧.

(٤) المرجع الأخير السابق ، وإعراب النحاس ٣ / ٤٦٩.

(٥) انظر : البيان المرجع السابق.

(٦) سبق الكلام على هذا البيت وشاهده هنا : أن خولان مبتدأ فانكح فتاتهم ، كقوله : «هذا فَلْيَذُوقُوهُ».

(٧) من القراءة المتواترة وانظر : معاني الفراء ٢ / ٤١٠ والتبيان ١١٠٥ والسّبعة ٥٥٥ والإتحاف ٢٧٣.

(٨) قال السيوطي في المزهر ٢ / ٧٧ : «قال في ديوان الأدب» قليل أن يأتي فعال من أفعل يفعل ومنه الدراك للكثير الإدراك وقال ابن خالويه في كتاب «ليس» ليس في كلامهم فعّال من أفعل إلا جبّار من أجبر ودرّاك من أدرك وسئّار من أسأر ، وكذلك قال ثعلب في أماليه». (انظر المزهر المرجع السابق).

(٩) اسم للموضع الذي تكل فيه الربع عن حملها. اللسان : «كلل» ٣٩١٨.

(١٠) اسمان موضوعان من الحب اللسان : «ح ب ب» ٧٤٤.

(١١) ويقال فيد الرجل إذا تطير من صوت الفيّاد. اللسان : «ف ي د» ٣٤٩٩.

(١٢) كل ما يتداوى به اللسان : «ع ق ر» ٣٠٣٨.

(١٣) نوع من الدهن له رائحة نفاذة اللسان : «خ ط ر» وهو العطار وهو المقلاع ، وهو الطعان بالرمح انظر : اللسان : «خ ط ر» ١١٩٦.

٤٤١

فاعل (١). قال شهاب الدين : وهذا غير معروف (٢).

فصل

قيل : هذا على التقديم والتأخير. والتقدير : هذا حميم وغسّاق (فليذوقوه (٣) ، وقيل : التقدير : جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ثم يبتدىء فيقول : حميم وغسّاق أي منه حميم وغساق) (٤). والغسق السّيلان ، يقال : غسقت عينه أي سالت ، قال المفسرون : إنه ما يسيل من صديدهم ، وقيل : غسق أي امتلأ ، ومنه غسقت عينه أي امتلأت بالدمع ومنه الغاسق للقمر لامتلائه وكماله. وقيل : الغسّاق ما قتل ببرده ، ومنه قيل لليل : غاسق ، لأنه أبرد من النهار (٥) ، (و) قال ابن عباس : هو الزّمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرّها. وقال مجاهد وقتادة : هو الذي انتهى برده (٦) ، وقيل : الغسق شدة الظلمة ومنه قيل للّيل غاسق ، ويقال للقمر غاسق إذا كسف لاسوداده ، والقولان منقولان في تفسير قوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ)(٧) [الفلق : ٢]. وقيل : الغساق : المنتن بلغة الترك (٨) وحكى الزجاج : «لو قطرت منه قطرة بالمغرب لأنتنت أهل المشرق» (٩). وقال ابن عمر : هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه (١٠) ، قال قتادة : هو ما يغسق أي يسيل من القيح والصّديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة من قولهم : غسقت عينه إذا انصبّت والغسقان الانصباب (١١) ، قال كعب : الغسّاق عين في جهنم يسيل إليها كل ذوات حية وعقرب (١٢).

قوله : (وَآخَرُ) قرأ أبو عمرو بضم (١٣) الهمزة على أنه جمع وارتفاعه من أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ و «من شكله» خبره ، و «أزواج» فاعل به (١٤).

الثاني : أن يكون مبتدأ أيضا و «من شكله» خبر مقدم ، و «أزواج» مبتدأ. والجملة خبره(١٥) ، وعلى هذين القولين فيقال : كيف يصحّ من غير ضمير يعود على «آخر» فإن

__________________

(١) التبيان ١١٠٥.

(٢) الدر المصون ٤ / ٦١٨.

(٣) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٤) وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٢١.

(٥) وانظر كل هذا في اللسان «غ س ق» ٣٢٥٥ ، ٣٢٥٦ ومعاني الفراء ٢ / ٤١٠ والمجاز ٢ / ١٨٦ ومعاني الزجاج ٤ / ٣٣٩ وغريب القرآن ٣٨١ والكشاف ٣ / ٣٧٩ والقرطبي ١٥ / ٢٢١.

(٦) وانظر البغوي ٦ / ٦٢.

(٧) وانظر : اللسان «غ س ق» ٣٢٥٥ / ٣٢٥٦ والقرطبي ١٥ / ٢٢١ ، ٢٢٢.

(٨) البغوي ٦ / ٦٢.

(٩) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٣٩.

(١٠) الرازي ٢٦ / ٢٢١.

(١١) البغوي ٦ / ٦٢.

(١٢) الرازي السابق.

(١٣) من المتواترات انظر : السبعة ٥٥٥ ومعاني الفراء ٢ / ٤٠ ، ٤١١ والبحر المحيط ٧ / ٤٠٦ والدر ٤ / ٦١٩.

(١٤) الدر المصون المرجع السابق وفيه نظر لعدم تسويغ المبتدأ بالنكرة.

(١٥) السابق وانظر : التبيان ١١٠٥ والبيان ٢ / ٣١٨.

٤٤٢

الضمير في «شكله» يعود على ما تقدم أي من شكل المذوق؟ والجواب أن الضمير عائد على المبتدأ وإنما أفرد وذكر لأن المعنى من شكل ما ذكرنا. ذكر هذا التأويل أبو البقاء (١). وقد منع مكّيّ ذلك لأجل الخلوّ من الضمير. وجوابه (٢) ما ذكرنا.

الثالث : أن يكون «من شكله» نعتا «لآخر» و «أزواج» خبر المبتدأ أي و «آخر من شكله المذوق أزواج».

الرابع (٣) : أن يكون «من شكله» نعتا أيضا ، و «أزواج» فاعل به والضمير عائد على «آخر» بالتأويل المتقدم وعلى هذا فيرتفع «آخر» على الابتداء ، والخبر مقدر أي ولهم أنواع أخر استقر من شكلها أزواج.

الخامس (٤) : أن يكون الخبر مقدرا كما تقدم أي ولهم آخر و «من شكله» و «أزواج» صفتان لآخر ، وقرأ العامة «من شكله» بفتح الشين ، وقرأ مجاهد (٥) بكسرها.

وهما لغتان بمعنى المثل والضرب. تقول : هذا على شكله أي مثله وضربه وأما الشّكل بمعنى الغنج(٦) فبالكسر لا غير. قاله الزمخشري (٧). وقرأ الباقون وآخر بفتح الهمزة وبعدها ألف بصيغة أفعل التفضيل والإعراب فيه كما تقدم ، والضمير في أحد الأوجه يعود عليه من غير تأويل لأنه مفرد إلا أن في أحد الأوجه يلزم الإخبار عن المفرد بالجمع أو وصف المفرد بالجمع لأن من جملة الأوجه المتقدمة أن يكون «أزواج» خبرا عن «آخر» أو نعت له كما تقدم. وعنه جوابان :

أحدهما : أن التقدير وعذاب آخر أو مذوق آخر (٨) ، وهو ضروب ودرجات فكان في قوة الجمع أو يجعل كل جزء من ذلك الآخر مثل الكل وسماه باسمه وهو شائع كثير نحو غليظ الحواجب وشابت مفارقه.

__________________

(١) قال وذكر الضمير لأن المعنى من شكل ما ذكرناه التبيان المرجع السابق.

(٢) قال في الكشف ٢ / ٢٣٣ : «وقوله : من شكله يدل على التوحيد ولو كان على الجمع لقال من شكلها». وقال في المشكل ٢ / ٢٥٣ : لأنك إذا رفعت الأزواج بالظرف لم يكن في الظرف ضمير وهو صفة والصفة لا بد لها من الضمير يعود على الموصوف فهو رفع بالظرف والظرف لا يرفع فاعلين.

(٣) هو والثالث الذي قبله ذكرا في البيان ٢ / ٣١٨ والتبيان ١١٠٥ وقد استضعف هذا الوجه ابن الأنباري في البيان ٢ / ٣١٨ قال : «لأنك إذا رفعت الأزواج بالظرف لم يكن في الظرف ضمير وهو صفة والصفة لا بد لها من ضمير يعود على الموصوف لأن الظرف لا يرفع فاعلين».

(٤) التبيان المرجع السابق وانظر هذا كله في الدر المصون ٤ / ٦١٩.

(٥) انظر : البحر ٧ / ٤٠٦ ولم ينسبها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٧٩ وانظر : الدر المصون ٤ / ٦٢٠.

(٦) وهو الدّل دلال المرأة وتدللها والغنج والغيج واحد. اللسان : «غ ن ج» ٣٣٠٥.

(٧) الكشاف ٣ / ٣٧٩.

(٨) المعاني للفراء ٢ / ٤١١ قال : «وإذا كان الاسم فعلا جاز أن ينعت بالاثنين والكثير كقولك في الكلام عذاب فلان ضروب شتى» وانظر : الدر المصون ٤ / ٦٢٠.

٤٤٣

على أن لقائل أن يقول : إن «أزواجا» صفة للثلاثة الأشياء المتقدمة أعني الحميم والغساق وآخر من شكله فيلغى السؤال (١).

قوله : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) مفعول «مقتحم» محذوف أي مقتحم النار ، والاقتحام الدخول في الشيء بشدة (٢) والقحمة الشدة (٣). وقال الراغب : الاقتحام توسط شدة مخيفة ومنه قحم الفرس فارسه أي توغل به ما يخاف منه ، والمقاحيم الذين يقتحمون في الأمر الذي يتجنب (٤).

قوله : «معكم» يجوز أن يكون نعتا ثانيا «لفوج» وأن يكون حالا منه لأنه قد وصف وأن يكون حالا من الضمير المستتر في «مقتحم» (٥). قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون طرفا لفساد (٦) المعنى ، قال شهاب الدين : ولم أدر من أي وجه يفسد والحالية والصفة في المعنى كالظرفية (٧) ، وقوله : (هذا فَوْجٌ) إلى «النار» يجوز أن يكون من كلام الرؤساء بعضهم لبعض بدليل قول الأتباع (لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) وأن يكون من كلام الخزنة ، ويجوز أن يكون (هذا فَوْجٌ) من كلام الملائكة والباقي من كلام الرؤساء. وكان القياس على هذا أن يقال : بل هم لا مرحبا بهم لا يقولون للملائكة ذلك إلا أنهم عدلوا عن خطاب الملائكة إلى خطاب أعدائهم تشفيا منهم. والمعنى هنا جمع كثيف وقد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال (٨) ، والفوج القطيع من النّاس وجمعه أفواج (٩).

(قوله) (١٠) : (لا مَرْحَباً) في «مرحبا» وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول بفعل مقدر أي لا أتيتم مرحبا (أو لا (١١) سمعتم مرحبا.

والثاني : أنه منصوب على المصدر. قاله أبو البقاء (١٢) أي لا رحبتكم (١٣) داركم مرحبا) بل ضيقا ، ثم في الجملة المنفية وجهان :

__________________

(١) قاله الفراء من قبل انظر : المعاني ٢ / ٤١١.

(٢) قال في اللسان : «قحم الرّجل في الأمر يقحم قحوما واقتحم وانقحم ـ وهما أفصح ـ رمى بنفسه فيه من غير رويّة».

(٣) معاني القحمة الإثم والمهلكة والسنة الشديدة. المرجع السابق وانظر : الكشاف ٣ / ٣٧٩ والدر المصون ٤ / ٦٢٠.

(٤) نقله في المفردات «٣٩٤».

(٥) ذكرها أبو البقاء في التبيان ١١٠٥ والسمين في الدر ٤ / ٦٢١.

(٦) التبيان السابق.

(٧) الدر المصون ٤ / ٦٢١.

(٨) الدر المصون ٤ / ٦٢١ والكشاف ٣ / ٣٧٩ والبحر المحيط ٧ / ٤٠٦.

(٩) المجاز ٢ / ١٨٦.

(١٠) سقط من ب.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) التبيان ١١٠٥ والدر المصون ٤ / ٦٢١.

(١٣) لم يقل بتعدي فعل إلى المفعول إلا أبو علي عن هذيل وجاء في قول نصر بن سّيار «أرحبكم الدّخول في طاعة ابن الكرمانيّ» على الشذوذ ومن الجائز أن تقول : تعدي رحب إذا تضمن معنى (وسع).

انظر : شرح الشافية للرضي ١ / ٧٥ واللسان : «ر ح ب» ١٦٠٦ والدر المصون ٤ / ٦٢١.

٤٤٤

أحدهما : أنها مستأنفة سيقت للدعاء عليهم ، وقوله : «بهم» بيان للمدعوّ عليهم.

والثاني : أنها حالية (١) ، وقد يعترض عليه بأنه دعاء والدعاء طلب (والطلب) (٢) لا يقع حالا والجواب أنه على إضمار القول أي مقولا لهم لا مرحبا (٣). قال المفسرون قوله تعالى : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء منهم على أتباعهم يقول الرجل لمن يدعو له : مرحبا أي أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا أو رحبت بلادك رحبا ، ثم تدخل عليه كلمة «لا» في دعاء النفي (٤).

قوله : (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) تعليل (٥) لاستجابة الدعاء عليهم. ونظير هذه الآية قوله : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨] «قالوا» أي الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) والضمير للعذاب أو للضّلال.

فإن قيل : ما معنى تقديمهم (٦) العذاب لهم؟

فالجواب : الذي أوجب التقديم عو عمل السوء كقوله تعالى : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ٩ ، ١٠] إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل : أنتم قدمتموه لنا (٧) ، وقوله : (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي بئس المستقرّ والمستكنّ (٨) جهنم.

قوله : (مَنْ قَدَّمَ) يجوز أن تكون «من» شرطية و («ف) زده» (٩) جوابها ، وأن تكون استفهامية وقدّم خبرها أي (أن) (١٠) أي شخص قدم لنا هذا؟ ثم استأنفوا دعاء ، بقولهم : «فزده» وأن تكون موصولة (١١) بمعنى الذي وحينئذ يجوز فيها وجهان : الرفع بالابتداء والخبر «فزده» والفاء زائدة تشبيها له بالشرط ، والثاني : أنها منصوبة بفعل مقدر على الاشتغال (١٢) والكلام في مثل هذه الفاء (قد) (١٣) تقدم.

وهذا الوجه يجوز عند بعضهم حال كونها شرطية أو استفهامية أعني الاشتغال إلا أنه لا يقدر الفعل إلا بعدها لأن لها صدر الكلام (١٤) و «ضعفا» نعت لعذاب أي مضاعفا.

__________________

(١) ذكر هذين الوجهين أبو البقاء ١١٠٥.

(٢) سقط من ب.

(٣) السابق.

(٤) الكشاف ٣ / ٣٧٩.

(٥) المرجع السابق.

(٦) السابق وفي ب : تقدمهم.

(٧) قاله الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ٢٢٢.

(٨) كذا هي هنا. وفي ب والرازي : المسكن.

(٩) الفاء من أفقط دون ب.

(١٠) زيادة لا معنى لها.

(١١) انظر هذه الأوجه في التبيان ١١٠٦ والدر المصون ٤ / ٦٢١ ومعاني الفراء ٢ / ٤١١ جاء بوجه الاستفهام فقط وكذلك فعل أبو جعفر النحاس ٣ / ٤٧٠.

(١٢) التبيان ١١٠٦ والدر المصون ٤ / ٦٢٢.

(١٣) سقطت «قد» من «ب».

(١٤) نقله شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤ / ٦٢٢.

٤٤٥

قوله : (فِي النَّارِ) يجوز أن تكون ظرفا «لزده» أو نعتا «لعذاب» أو حالا منه لتخصيصه أو حالا من مفعول «زده» (١).

قوله : «قالوا» يعني الأتباع (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) أي شرعه وسنّه (٢) لنا فزده عذابا ضعفا أي مضاعفا (فِي النَّارِ) ونظيره قوله تعالى : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً (٣) مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨] وقولهم (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٧ ـ ٦٨].

فإن قيل : كل مقدار (٤) يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفا وإن كان زائدا عليه كان ظلما وإنه لا يجوز.

فالجواب : المراد منه قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» والمعنى أنه يكون أحد القسمين عذاب الضّلال ، والثّاني عذاب الإضلال ، والله أعلم (٥).

وهذا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحبابا لهم في الدنيا ، وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله : (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) أي أن صناديد قريش قالوا ، وهم في النار : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) في الدنيا يعنون فقراء المؤمنين عمارا وخبابا وصهيبا وبلالا وسلمان وسموهم أشرارا إما بمعنى الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشرارا (٦).

قوله : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) قرأ الأخوان وأبو عمرو بوصل الهمزة (٧) ، وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون خبرا محضا (٨) ، وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية «لرجالا» كما وقع (كُنَّا نَعُدُّهُمْ) صفة (٩) وأن يكون المراد الاستفهام وحذفت أداته لدلالة «أم» (١٠) عليها كقوله :

__________________

(١) المرجع السابق وقد ذكر هذه الإعرابات العكبري في التبيان ١١٠٦.

(٢) قاله الفراء في المعاني ٢ / ٤١١.

(٣) سقط من ب.

(٤) في ب : كل مقدر بدون ألف.

(٥) نقله فخر الدين الرازي في التفسير الكبير ٢٦ / ٢٢٢.

(٦) المرجع السابق.

(٧) من القراءات السبعية المتواترة وقد ذكرها أبو البقاء في التبيان ١١٠٦ وذكرها صاحب السبعة ٥٥٦ ، وصاحب الإتحاف ٣٧٣.

(٨) الكشف ٢ / ٢٣٤ وابن خالويه في حجته ٣٠٧ والسمين في الدر ٤ / ٦٢٢.

(٩) السابق وانظر أيضا هذا الإعراب لجار الله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٨٠.

(١٠) الحجة والكشف والسمين السابقات وقد قاله أيضا صاحب التبيان ١١٠٦.

٤٤٦

٤٢٧٩ ـ تروح من الحيّ أم تبتكر

وماذا عليك بأن تنتظر (١)

«فأم» متصلة على هذا ، وعلى الأول منقطعة ، بمعنى «بل» والهمزة لأنها لم يتقدمها همزة استفهام ولا تسوية (٢) ، والباقون (٣) بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل ، والظاهر أنه لا محل للجملة حينئذ لأنها طلبية ، وجوز بعضهم أن تكون صفة لكن على إضمار القول أي رجالا مقولا فيهم أتخذناهم كقوله :

٤٢٨٠ ـ ..........

جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قطّ (٤)

إلا أن الصفة في الحقيقة ذلك القول المضمر ، وقد تقدم الخلاف في «سخريّا» في (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)(٥) والمشهور أن المكسور من الهزء كقوله :

٤٢٨١ ـ إنّي أتاني لسان لا أسرّ بها

من علو لا كذب فيها ولا سخر (٦)

وتقدم معنى لحاق الياء المشددة في ذلك ، و «أم» مع الخبر منقطعة فقط كما تقدم ومع الاستفهام يجوز أن تكون متصلة ، وأن تكون منقطعة كقولك : (أ) زيد عندك أم عندك عمرو ، ويجوز أن يكون (أَمْ زاغَتْ) متصلا بقوله : (ما لَنا) ؛ لأنه استفهام إلا أنه يتعين انقطاعها لعدم الهمزة ويكون ما بينهما معترضا على قراءة «أتّخذناهم» بالاستفهام إن لم

__________________

(١) من المتقارب لامرىء القيس ويروى الشطر الثاني : وماذا يضيرك لو تنتظر. وتروح من الرواح وتبتكر من البكور والرواح في العشيّ والتبكير : الذهاب في الغداة. وشاهده : حذف ألف الاستفهام دلالة عليها بأم والأصل : أتروح. وانظر : الدر المصون ٤ / ٦٢٢ وحجة ابن خالويه ٣٠٧ والقرطبي ١٥ / ٢٢٥ والطبري ٢٩ / ٤٣ وديوانه ١٥٤.

(٢) البحر المحيط ٧ / ٤٠٧ والكشاف ٣ / ٣٨٠ والدر المصون ٤ / ٦٢٢.

(٣) ابن كثير ونافع وابن عامر ، وعاصم. انظر مراجع القراءات السابقة.

(٤) رجز مشهور ورغم ذلك فهو مجهول وهذا عجز بيت صدره :

حتّى إذا جنّ الظّلام واختلط

 ..........

وجنّ الظلام جاء وأقبل كقوله : «فلمّا جنّ عليه الليل رأى كوكبا» والمذق اللبن. وشاهده : «هل رأيت الذئب» فإنها جملة طلبية استفهامية وقعت نعتا لمذق ولكن مع التأويل أي بمذق مقول فيه كيت وكيت وقد تقدم.

(٥) عند قوله : «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي» [١١٠]. فقد قرأ نافع والأخوان بضم السين والباقون بالكسر فيها وفي «ص» هنا. وقد أجمع السبعة على الضم في سورة الزخرف وقراءة الضم من التسخير وهو الخدمة وقراءة الكسر من السّخرية وهو الاستهزاء كما أخبر أعلى.

(٦) مختلف في نسبة هذا البيت فمن قائل أنه لأعشى باهلة وقيل غير ذلك. والبيت من البسيط. واللسان بمعنى الرسالة وروى أبو زيد البيت في النوادر أتاني شيء والبيت هنا كما رواه أبو حيان في البحر والسمين في الدر. والشاهد : «ولا سخر» فإنه بمعنى الاستهزاء. وانظر : الخزانة ١ / ١٩١ والمذكر والمؤنث ١ / ٣٩١ والبحر المحيط ٧ / ٤٠٧ ، والأصمعيات ٨٨ ، والكامل ٤ / ٦٥. والنوادر لأبي زيد ٢٨٨ والدر المصون ٤ / ٦٢٣.

٤٤٧

تجعله (١) صفة على إضمار القول كما تقدم. قال أهل المعاني : قراءة الأخوين أولى لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخريا لقوله تعالى : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) فلا يستقيم الاستفهام. وتكون «أم» على هذه القراءة بمعنى «بل» (٢) وأجاب الفراء عن هذا بأن قال : هذا من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ. ومثل هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم (٣) ومن فتح الألف قال هو على اللفظ لا على المعنى ليعادل «أم» في قوله (أَمْ زاغَتْ)(٤).

فإن قيل (٥) : فما الجملة المعادلة بقوله : (أَمْ زاغَتْ) على القراءة الأولى؟

فالجواب : أنها محذوفة ، والتقدير : أم زاغت عنهم الأبصار (٦). وقرأ نافع سخريّا ـ بضم السّين ـ والباقون بكسرها. فقيل : هما بمعنى ، وقيل : الكسر بمعنى الهزء ، وبالضم التذليل والتسخير (٧) وأما نظم الآية على قراءة الإخبار فالتقدير : ما لنا نراهم حاضرين لأجل أنّهم لحقارتهم تركوا لأجل (٨) أنهم زاغت عنهم الأبصار ، ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) وأما على قراءة الاستفهام فالتقدير لأجل أنّا قد اتخذناهم سخريا وما كانوا كذلك فلم يدخلوا (٩) لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار.

فصل

معنى الآية : وما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخريا لم يدخلوا معنا النّار أم دخلو (ها) فزاغت أي فمالت عنهم أبصارنا (١٠) فلم نرهم حتى دخلوا.

وقيل : (أم) (١١) هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا ، وقال ابن كيسان أم كانوا خيرا منا ونحن لا نعلم فكان أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهّم شيئا (١٢).

__________________

(١) في ب : تجعل.

(٢) نقله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٦٣ والرازي في التفسير الكبير ٢٦ / ٢٢٣.

(٣) قال : «واستفهم الحسن وعاصم وأهل المدينة وهو من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ ، فهو يجوز بالاستفهام وبطرحه». المعاني ٢ / ٤١١.

(٤) البغوي المرجع السابق ، والرازي ٢٦ / ٢٢٣.

(٥) هذا طرح لسؤال من الرازي في التفسير الكبير المرجع السابق.

(٦) الأصح كما فيه : (المقصودون هم) أم زاغت.

(٧) سبق هذا ولكن المئلف نقل كلام الرازي في تلك القراءة وكان الأولى أن لا يذكرها ما دام قد ذكرها قبل وانظر الرازي ٢٦ / ٢٢٣ وفيه «بمعنى واحد ، وبالضم هو التذليل والسخير».

(٨) في الرازي : أو لأجل.

(٩) وفيه : فلم يدخلوا النار أم لأجل الخ ... وانظر : الرازي المرجع السابق.

(١٠) في ب : الأبصار.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) قال هذا البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٦٣.

٤٤٨

قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ) أي الذي ذكرت لحق أي لا بدّ وأن يتكلموا به ، ثم بين ذلك الذي حكاه عنهم فقال : (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) العامة على رفع «تخاصم» مضافا «لأهل» وفيه أوجه :

أحدها : أنه بدل من «لحقّ» (١).

الثاني : أنه عطف بيان (٢).

الثالث : أنه بدل من «ذلك» على الموضع حكاه مكي (٣) وهذا يوافق قول بعض الكوفيين.

الرابع : أنه خبر ثان ل «إنّ» (٤).

الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر (٥) أي هو تخاصم.

السادس : أنه مرفوع بقوله : «لحقّ» (٦) إلا أن أبا البقاء قال : ولو قيل : هو مرفوع «بحق» (٧) لكان بعيدا لأنه يصير جملة ولا ضمير فيها يعود على اسم «إنّ» (٨) ، وهذا رد صحيح (٩). وقد يجاب عنه بأن الضمير مقدر أن لحقّ تخاصم أهل النار فيه (١٠) ، كقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى : ٤٣] أي منه ، وقرأ ابن محيصن بتنوين «تخاصم» (١١) ورفع «أهل» فرفع «تخاصم» على ما تقدم ، وأما رفع «أهل» فعلى الفاعلية بالمصدر المنون كقولك : «يعجبني تخاصم الزيدون» أي (أن) (١٢) تخاصموا وهذا قول البصريّين ، وبعض الكوفيين خلا الفراء(١٣) ، وقرأ ابن أبي عبلة تخاصم بالنصب مضافا «لأهل» (١٤) وفيه أوجه :

__________________

(١) في ب : الحق وانظر : البيان ٢ / ٢١٩ والسمين ٤ / ٦٢٣ ، والتبيان ١١٠٦ والمشكل ٢ / ٢٥٥.

(٢) الدر المصون ٤ / ٦٢٣.

(٣) المشكل المرجع السابق والبيان والدر المرجعين السابقين.

(٤) البيان ٢ / ٣١٩ والمشكل ٢ / ٢٥٥ والدر المصون ٤ / ٦٢٣.

(٥) التبيان ١١٠٦ بالإضافة إلى المراجع السابقة.

(٦) قاله أبو البقاء في التبيان ناقلا له ١١٠٦ وذكره السمين ٤ / ٦٢٣.

(٧) في التبيان «لحق» باللام.

(٨) التبيان ١١٠٦.

(٩) في ب : صريح والتصحيح من أ.

(١٠) قاله السمين في الدر ٤ / ٦٢٣.

(١١) ذكرها أبو حيان في بحره ٧ / ٤٠٧ والسمين في المرجع السابق.

(١٢) كلمة أن سقطت من ب.

(١٣) قد سبقت هذه القضية ورفع الكلمة على الفاعلية بالمصدر اختيار الأخفش ومن تبعه ووافقه الشلوبين إلا أن الجمهور أولوا المصدر المنون بالمبني للمفعول وما بعده على النيابة عن الفاعل نحو المثال الذي هنا تخاصم أهل النار ونحو : «عجبت من ضرب زيد» ووافق أبو حيان الجمهور في رأيه إن لزم البناء للمجهول فعل المصدر نحو عجبت من جنون بالعلم زيد بخلاف ما ليس كذلك. (بتصرف من الهمع ٢ / ٩٤).

(١٤) الكشاف ٣ / ٣٨٠ بدون نسبة ونسبت في البحر ٧ / ٤٠٧.

٤٤٩

أحدها : أنه صفة «لذلك» (١) على اللفظ ، قال الزمخشري : لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس (٢) وهذا فيه نظر لأنهم نصوا على أن أسماء الإشارة لا توصف إلا بما فيه أل نحوه : (مررت) (٣) بهذا الرجل ولا يجوز : (مررت) (٤) بهذا غلام الرجل ، فهذا أبعد ، ولأن الصحيح أن الواقع بعد اسم الإشارة المقارن «لأل» إن كان مشتقا كان صفة وإلا كان بدلا ، و «تخاصم» ليس مشتقا (٥).

الثاني : أنه بدل من «ذلك» (٦) الثالث : أنه عطف بيان (٧).

الرابع : على إضمار أعني (٨) ، وقال أبو الفضل : ولو نصب «تخاصم» على أنه بدل من «ذلك» لجاز انتهى (٩). كأنه لم يطلع عليها قراءة. وقرأ ابن السّميقع «تخاصم» (١٠) فعلا ماضيا «أهل» فاعل به وهي جملة استئنافية ، وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصما لأن قول الرؤساء : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) وقول الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) من باب الخصومة (١١).

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)(٦٨)

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) لما شرح الله نعيم أهل الثّواب وعقاب أهل العقاب عاد إلى تقرير التوحيد والنبوة والبعث المذكورين أول السورة فقال : قل يا محمد إنما أنا منذر مخوف ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار فكونه واحدا يدل على عدم التشريك وكونه قهارا مشعر بالترهيب والتخويف ولما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب فقال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) فكونه ربّا يشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه غفارا يشعر بأن العبد لو أقدر على المعاصي والذنوب فإنه يغفر برحمته. وهذا الموصوف هو الذي (يجب (١٢) عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى ثوابه ويجوز أن يكون) (رَبُّ السَّماواتِ) خبر مبتدأ مضمر ، وفيه معنى المدح.

قوله : (هُوَ نَبَأٌ) (هو) يعود على القرآن وما فيه من القصص والأخبار ، وقيل : على

__________________

(١) الكشاف المرجع السابق والدر المصون ٤ / ٦٢٤ والبحر ٧ / ٤٠٧.

(٢) الكشاف السابق.

(٣ و ٤) كلمة مررت زيادة للسياق.

(٣ و ٤) كلمة مررت زيادة للسياق.

(٥) فبقي أن يكون معربا بالإعراب الآخر وهو البدلية ، أو عطف البيان ، أو على إضمار أعني. وانظر هذا التوجيه والاعتراض على الزمخشري في الدّر المصون ٤ / ١٢٤.

(٦ و ٧ و ٨) المرجع السابق.

(٩) نقله عنه صاحب البحر ٧ / ٤٠٧.

(١٠) من الشواذ غير المتواترة أوردها ابن خالويه في المختصر ١٣٠.

(١١) قاله الإمام الرازي ٢٦ / ٢٢٣.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب وانظر الرازي ٢٦ / ٢٢٤ ، ٢٢٥.

٤٥٠

تخاصم أهل النار وقيل : على ما تقدم من إخباره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأنه نذير مبين وبأن الله إله واحد متصف بتلك الصفات الحسنى (١) و (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) صفة «لنبأ» (٢) ، أو مستأنفة (٣) ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : المراد بالنبأ العظيم القرآن ، وقيل : القيامة لقوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ و ٢].

قال ابن الخطيب : هذا النبأ العظيم يحتمل وجوها : فيمكن أن يكون المراد به القول بأن «الإله» واحد ، وأن يكون المراد القول بإثبات الحشر والقيامة نبأ عظيم ويمكن أن يكون المراد (كون) (٤) القرآن معجزا لتقدم ذكره في قوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) ، وهؤلاء الأقوام أعرضوا عنه (٥). قوله : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) يعني الملائكة فقوله : (بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) متعلق بقوله : (مِنْ عِلْمٍ) وضمن معنى الإحاطة فلذلك تعدى بالباء. و (قد) (٦) تقدم تحقيقه (٧).

قوله تعالى : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)(٨٥)

قوله : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) فيه وجهان :

أحدهما : هو منصوب بالمصدر (٨) أيضا.

والثاني : بمضاف مقدر أي بكلام الملأ الأعلى إذ (٩) ؛ قاله الزمخشري ، والضمير

__________________

(١) في ب : الحسنة وانظر هذه الأقوال في الكشاف ٣ / ٣٨١ والبحر ٧ / ٤٠٨ ، ٤٠٩ والسمين ٤ / ٦٢٤ والقرطبي ١٥ / ٢٢٩.

(٢) البيان ٢ / ٢١٩ والسمين ٤ / ٦٢٤.

(٣) المرجع السابق.

(٤) سقط من ب.

(٥) مع تغيير طفيف في عبارته وانظر تفسيره ٢٦ / ٢٢٥.

(٦) سقط من ب وانظر : الدر المصون ٤ / ٦٢٥.

(٧) عند قوله تعالى : «وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ» [البقرة : ١٩] فالإحاطة فيه بمعنى العلم. وانظر اللباب ١ / ٢٧ ب.

(٨) وهو العلم وانظر التبيان ١١٠٦ والدر المصون ٤ / ٦٢٥ وقال الكشاف ٣ / ٣٨١ بالثاني كم سيجيء.

(٩) السابق.

٤٥١

في «يختصمون» للملأ الأعلى هذا هو الظاهر ، وقيل : لقريش أي يختصمون في الملأ الأعلى فبعضهم يقول : بنات الله ، وبعضهم يقول غير ذلك فالتقدير إذ يختصمون فيهم (١) ؛ (يعني) (٢) في شأن آدم ، حين قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها)(٣) [البقرة : ٣٠].

فإن قيل : الملائكة لا يجوز أن يقال : إنهم اختصموا بسبب قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، والمخاصمة مع الله كفر.

فالجواب : لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة (٤) والمشابهة علة(٥) لجواز المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه ، ولما أمر الله تعالى محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول : (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) يعني أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلا بالوحي (٦).

قوله : (إِلَّا أَنَّما أَنَا) العامة على فتح همزة «أنّما» ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنها مع ما في خبرها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل أي ما يوحى إليّ (إلا) (٧) الإنذار أو (٨) إلا كوني نذيرا مبينا.

والثاني : أنها في محل نصب أو جر بعد إسقاط (٩) لام العلة والقائم مقام الفاعل على هذا الجار والمجرور أي ما يوحى إليّ إلّا للإنذار (١٠) ، أو (١١) لكوني نذيرا (١٢) ، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل على هذا ضميرا يدل عليه السياق أي ما يوحى إليّ ذلك الشيء (١٣) إلا للإنذار. وقرأ أبو جعفر بالكسر(١٤) ؛ لأن الوحي قول ، قاله (١٥) البغوي. وهي القائمة مقام الفاعل على سبيل الحكاية كأنه قيل: ما يوحى إليّ إلا هذه

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٦٢٥.

(٢) سقط من ب.

(٣) وهذا رأي الرازي في تفسيره ٢٦ / ٢٢٥.

(٤) كذا في الرازي وأ وفي ب المناكرة.

(٥) في ب : محلة.

(٦) المرجع السابق.

(٧) سقط من ب.

(٨) في ب : و.

(٩) في ب : إسقاطه.

(١٠) في ب : الإنذار. والتصحيح من أهنا.

(١١) في ب : «و» كالسابقة.

(١٢) وقد قال بهذا صاحب البيان ٢ / ٣١٩ ورجح الرفع فقال : «والوجه الأول ـ يعني الرفع ـ أوجه الوجهين». كما قال بهما شهاب الدين السمين ٤ / ٦٢٥.

(١٣) وهو مفهوم كلام الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٨١ قال : «على معنى ما يوحى إليّ إلا هذا وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك أي ما أومر إلا بهذا الأمر وحده».

(١٤) كسر «إنما» وتلك القراءة مروية في المتواتر فقد ذكرها البناء في الإتحاف ٣٧٤ ، وبرغم ذلك فقد أوردها ابن جني في المحتسب ٢ / ٢٣٤ ، ٢٣٥ وابن خالويه في المختصر ١٣٠.

(١٥) معالم التنزيل ٦ / ٦٤.

٤٥٢

الجملة المتضمنة لهذا الإخبار ، وقال الزمخشري : (على) (١) الحكاية أي إلا هذا القول وهو أن أقول لكم إنّما أنا نذير مبين ولا أدّعي شيئا آخر (٢). قال أبو حيان : وفي تخريجه تعارض لأنه قال إلا هذا فظاهره (٣) الجملة التي هي (أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ثم قال : وهو أن أقول لكم إني نذير ، فالقائم (٤) مقام الفاعل هو أن أقوال لكم وإنّي (٥) وما بعده في موضع نصب. وعلى قوله : «إلا هذا القول» يكون في موضع رفع فتعارضا (٦).

قال شهاب الدين : ولا تعارض البتة لأنه تفسير (٧) معنى في التقدير الثاني وفي الأول تفسير إعراب فلا تعارض (٨).

قوله : (إِذْ قالَ) يجوز أن يكون بدلا من «إذ» الأولى وأن يكون منصوبا باذكر مقدرا. قال الأول الزمخشري وأطلق (٩) ، (و) (١٠) أبو البقاء الثاني وأطلق (١١). وفصل أبو حيان فقال بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) هذا إذا كانت الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض وعلى غيره من الأقوال يكون منصوبا «باذكر» انتهى (١٢). قال شهاب الدين : وتلك الأقوال أن التّخاصم إما بين الملأ الأعلى أو بين قريش وفي ما (إ) (١٣) ذا كان المخاصمة خلاف (١٤).

قوله : (مِنْ طِينٍ) يجوز أن يتعلق بمحذوف صفة «لبشرا» (١٥) وأن يتعلق بنفس «خالق»(١٦).

فصل

اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر ؛ لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر والكفار إنما نازعوا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بسبب الحسد والكبر فذكر الله تعالى هذه القصة ههنا ليصير سماعها (١٧) زاجرا لهم عن هاتين الخصلتين

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٨١.

(٣) في ب : وظاهره.

(٤) في ب : فالمقام.

(٥) في البحر : وإن وما بعده.

(٦) البحر المحيط ٧ / ٤٠٩.

(٧) كذا في الدر المصون وفي ب مفسر.

(٨) الدر المصون ٤ / ٦٢٥.

(٩) الكشاف ٣ / ٣٨١.

(١٠) الواو سقطت من ب.

(١١) التبيان ١١٠٧.

(١٢) البحر ٧ / ٤٠٩.

(١٣) الألف في النسختين.

(١٤) في ب : بخلاف. وأحسن ما يقال فيه : إنّه تعالى لما قال : «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» والمعنى أنهم قالوا أي فائدة في خلق البشر مع أنهم يشتغلون بقضاء الشهوة وهو المراد من قوله : «مَنْ يُفْسِدُ فِيها». انظر : الرازي ٢٦ / ٢٢٥ ، ٢٢٦.

(١٥) الدر المصون ٤ / ٦٢٦.

(١٦) قال بهما صاحب التبيان ١١٠٧.

(١٧) في ب : سماعنا.

٤٥٣

المذمومتين ، والمراد بالبشر ههنا : آدم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ.

قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أتممت خلقه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فأضاف الروح إلى نفسه وذلك يدل على أنه جوهر شريف علويّ قدسيّ ، والفاء في قوله : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) يدل على أنه كما تم (نفخ) (١) الروح في الجسد توجه أمر الله عليهم بالسجود. وقد تقدم الكلام في الملائكة المأمورين بالسجود (و) (٢) هل هم ملائكة الأرض أو يدخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل وميكائيل والروح الأعظم المذكور في قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨]. وقال بعض الصوفية : الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم هم القوى النّباتيّة والحيوانية والحسيّة والحركيّة فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة ، وإبليس الذي لم يسجد هو القوى الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل(٣).

قوله : (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) تأكيدان. وقال الزمخشري «كل» للإحاطة و «أجمعون» للاجتماع ، فأفادا معا أنهم سجدوا (٤) عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرّقين (٥).

وقد تقدم الكلام معه في ذلك في سورة الحجر (٦).

قوله : (أَنْ تَسْجُدَ) قد يستدل به من يرى أن «لا» في «أن لا تسجد» في السورة الأخرى (٧) زائدة ، حيث سقطت هنا والقصة واحدة. وقوله : (لِما خَلَقْتُ) قد يستدل به (٨) من يرى جواز وقوع «ما» على العاقل (٩) ؛ لأن المراد به آدم ، وقيل : لا دليل فيه لأنه كان فخّارا غير جسم حسّاس فأشير إليه في تلك الحالة (١٠). وهذا ليس بشيء ؛ لأن هذا الخطاب إنما كان بعد نفخ الرّوح فيه لقوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) الواو من أ.

(٣) انظر في هذا التفسير للإمام الرازي ٢٦ / ٢٢٨ ، ٢٢٩.

(٤) في ب : يسجدوا.

(٥) الكشاف ٣ / ٣٨٢ وفيها «غير متفقين في أوقات».

(٦) من الآية ٣٠ منها : «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» وانظر الكلام في الملائكة المأمورين بالسجود في سورة البقرة عند قوله : «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى» [٣٤] وانظر اللباب ١ / ٣٨ ب و ٣ / ٧٢ ب.

(٧) وهي قوله : «قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك» [الأعراف : ١٢] وقال بزيادتها أبو البقاء وأبو حيان انظر : البحر المحيط ٧ / ٤١٠.

(٨) في ب : على بدل من به.

(٩) ولم أجد من نسب إليه هذا القول لأنه قليل ونادر والدليل على ذلك ما نقله صاحب الهمع ١ / ٩١ فقد قال : «والغالب في «ما» وقوعها على غير العاقل وقد يقع للعاقل نادرا نحو : لما خلقت بيدي ، والسماء وما بناها» وقال الفراء في المعاني ١ / ١٠٢ : «وقد تجعل العرب ما في بعض الكلام للناس ـ أي العقلاء ـ وليس بالكثير».

(١٠) في ب : الحال.

٤٥٤

رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) فلما امتنع من السجود قال : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). وقيل (١) : ما مصدرية والمصدر غير مراد فيكون واقعا موقع المفعول به أي لمخلوقي. وقرأ الجحدريّ «لمّا» بتشديد الميم وفتح (٢) اللام وهي (٣) «لمّا» الظرفية عند الفارسيّ ، وحرف وجوب لوجوب عند سيبويه (٤). والمسجود (٥) له على هذا غير مذكور ؛ أي ما منعك من السجود لمّا خلقت أي حين خلقت لمن أمرتك بالسجود له. قرىء : «بيديّ» بكسر الياء (٦) كقراءة حمزة : (بِمُصْرِخِيَ) [إبراهيم : ٢٢] ، وتقدم ما فيها (٧) وقرى : بيدي بالإفراد (٨).

قوله : «أستكبرت» قرأ العامة بهمزة الاستفهام (٩) ، وهو استفهام توبيخ وإنكار ، و «أم» متصلة هنا ، وهذا قول جمهور النّحويّين ونقله ابن عطية عن بعض النحويين أنها لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين وإنما تكون معادلة إذا دخلتا على فعل واحد كقولك : أقام زيد أم عمرو ، وأزيد قام أم عمرو ، وإذا اختلف الفعلان كهذه الآية فليست معادلة (١٠). وهذا الذي حكاه عن بعض النحاة مذهب فاسد بل جمهور النحاة على خلافه. قال سيبويه : وتقول : أضربت زيدا أم قتلته ، فالبداءة (١١) هنا (١٢) بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيّهما كان ، ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت : أيّ ذلك (١٣) كان. انتهى (١٤) ، فعادل (١٥) بها الألف (١٦) مع اختلاف الفعلين ، وقرأ جماعة منهم ابن كثير ـ وليست مشهورة عنه ـ استكبرت بألف الوصل (١٧) ؛ فاحتملت وجهين :

__________________

(١) قال بهذا الرأي أبو حيان في البحر ٧ / ٤١٠.

(٢) من القراءات الشاذة غير المتواترة انظر ابن خالويه ١٣٠.

(٣) في ب : على بدل هي.

(٤) قال في الكتاب ٤ / ٢٣٤ : «وأما لّما فهي للأمر الذي وقع لوقوع غيره». وانظر : الدر المصون ٤ / ٦٢٦.

(٥) في ب : السجود.

(٦) لم تنسب في كل من الكشاف ٣ / ٣٨٣ والبحر ٧ / ٤١٠ والدر المصون ٤ / ٦٢٧ ونسبها صاحب شواذ القرآن في ص ٢٠٩ إلى ابن محيصن.

(٧) عدّ هذه القراءة بعض الناس لحنا ، وليست بلحن إنما هي مستعملة وقد قال قطرب : إنها لغة في بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء ، فحمزة وحده هو الذي كسر الياء كما أنه قدر الزيادة على الياءين كما زيدت الباء في الهاء في به وذلك هو الأصل ولكنه مرفوض غير مستعمل لثقل الياءين والكسرة قبلهما والكسرة بينهما ، فلما قدر الياء مزيدة على الياء التي للإضافة حذفها استخفافا لاجتماع ياءين وكسرتين إحداهما على ياء الإضافة. وانظر : الكشف ٢ / ٢٦ واللباب ٣ / ٣٧٧ ب.

(٨) هي قراءة الجحدري وانظر : ابن خالويه ١٣٠ والكشاف ٣ / ٣٨٢.

(٩) الإتحاف ٣٧٤.

(١٠) البحر ٧ / ٤١٠.

(١١) في الكتاب و «ب» : فالبدء.

(١٢) في ب : ههنا.

(١٣) في ب : ذاك. وكذلك الكتاب.

(١٤) وانظر الكتاب ٣ / ١٧١.

(١٥) في ب : وعادل.

(١٦) أي الهمزة.

(١٧) نقلها صاحب الإتحاف ٣٧٤. وانظر : القرطبي ١٥ / ٢٢٨ والمختصر ١٣٠ ، وهي من الأربع فوق العشر المتواترة.

٤٥٥

أحدهما : أن يكون الاستفهام مرادا يدل عليه «أم» كقوله :

٤٢٨٢ ـ ..........

بسبع رمين الجمر أم بثمان (١)

وقوله :

٤٢٨٣ ـ تروّح(٢)من الحيّ أم تبتكر

 ..........(٣)

فتتفق (٤) القراءتان في المعنى ، واحتمل أن يكون (٥) خبرا محضا ، وعلى هذا «فأم» منقطعة لعدم شرطها (٦).

فصل

المعنى استكبرت الآن أم كنت من المتكبرين أبدا أي من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود لكونك منهم فأجاب إبليس بقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فبين كونه خيرا منه بأن أصله من النار ، وأصل آدم من الطين ، والنار أشرف من الطين ، والدليل على أن النّار أفضل من الطين أن الأجرام الفلكيّة أفضل من الأجرام العنصريّة ، والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعدها عنه ، فوجب كون النار أفضل من الأرض وأيضا فالنار خليفة الشمس والقمر في إضاءة العالم عند غيبتهما ، والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض وأيضا فالكيفية الفاعلة الأصلية إما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت ، وأيضا فالنار لطيفة ، والأرض كثيفة ، واللطافة أشرف من الكثافة وأيضا فالنار (٧) مشرقة والأرض مظلمة ، والنور خير من الظلمة ، وأيضا فالنار خفيفة (٨) تشبه الروح ، والأرض كثيفة تشبه الجسد ، والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض ، وذهب آخرون إلى تفضيل الأرض على النار ، وقالوا (٩) : إن الأرض

__________________

(١) عجز بيت من الطويل لعمر بن أبي ربيعة صدره :

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

 ..........

والشاهد : «بسبع» فإن المقام والسياق يقتضيان همزة وسؤالا فهي محذوفة والتقدير : أبسبع فالمقام مقام استفهام وحذفت لعدم اللبس. وقد تقدم.

(٢) في ب : تزوج».

(٣) صدر بيت من المتقارب لامرىء القيس عجزه :

 ..........

وماذا عليك بأن تنتظر

وشاهده كسابقه من حذف همزة الاستفهام المتقدمة على أم المتصلة لعدم اللبس وانظر : الديوان ١٥٤ والدر المصون ٤ / ٦٢٧ وحجة ابن خالويه ٣٠٧ والطبري ٢٩ / ٤٣.

(٤) في أ : فتنتفي فالتصحيح من ب.

(٥) في ب : تكون.

(٦) وهو تقدم الاستفهام وهي هنا الآن بمعنى بل.

(٧) في ب : والنار.

(٨) تصحيح من الرازي ففي أخفية وفي ب حقيقة.

(٩) في ب : قالوا.

٤٥٦

أمين مصلح فإذا أودعته حبّة ردّها (١) إليك شجرة مثمرة ، والنار خائن مفسد كلّ ما سلمته إليه وأيضا فالنار بمنزلة الخادم لما في الأرض إن احتيج إليها استدعيت استدعاء الخادم وإن استغني عنها طردت وأيضا والأرض مستولية على النار فإنها تطفىء النار وأيضا فإن استدلال إبليس بكون أصله خيرا من أصله فهو استدلال فاسد لأن أصل الرماد وأصل البساتين (٢) المزهرة والأشجار المثمرة هو الطين ، ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد وأيضا (هب) (٣) أن اعتبار هذه الجهة يوجب (٤) الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يعارض بجهة أخرى فوجب الرّجحان مثل إنسان نسيب (٥) عار عن كل الفضائل فإنّ نسبه (٦) يوجب رجحانه إلا أن من لا يكون نسيبا قد يكون كثير العلم والزهد فيكون أفضل من النّسيب بدرجات لا حدّ لها فكذبت مقدمة إبليس.

فإن قيل (٧) : هب أن إبليس أخطأ في هذا القياس لكنه كيف لزمه الكفر في تلك المخالفة؟ وتقرير هذا السؤال من وجوه :

الأول : أن قوله : «اسجدوا» أمر والأمر لا يقتضي الوجوب بل النّدب ، ومخالفة الندب لا تقتضي العصيان فضلا عن الكفر ، (وأيضا فالذين (٨) يقولون : إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملا للندب احتمالا ظاهرا ومع قيام الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلا عن الكفر؟!).

الثاني : هب أنها للوجوب إلّا أنّ إبليس ما كان من الملائكة فالأمر (بالسجود) (٩) لآدم لا يدخل فيه إبليس.

الثالث : هب أنه تناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فجاز أن يخصص نفسه من عموم ذلك الأمر بالقياس.

الرابع : هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأمورا به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر؟!.

فالجواب : هب أن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ)، فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد ودل ذلك على أنه إنما ذكر القياس

__________________

(١) كذا في النسختين وفي الرازي فإذا أودعتها حبة ردتها بتأنيث الفعلين عائدا على الأرض وهنا التذكير يعود على لفظ أمين ، وكلاهما صحيح معنى وإن اختلفا لفظا. وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٣٢ مع تغيير طفيف في الأسلوب.

(٢) كذا في أهنا وفي ب الزهرة وفي الرازي النزهة.

(٣) سقط من نسخة ب.

(٤) في ب : توجب.

(٥) كذا في الرازي وفي ب نسبة.

(٦) كذا في الرازي وفي ب نسيبه.

(٧) في ب : فصل بدل من فإن قيل.

(٨) ما بين القوسين كله سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٩) سقط منها كذلك.

٤٥٧

ليتوسل (١) به إلى القدح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر. وإذا عرفت هذا فنقول : إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) وقد ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف ، وههنا الحكم بكونه رجيما ورد عقيب ما حكى عنه أنه خصص النص بالقياس فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم (٢).

قوله : «منها» أي من الجنة أو من الخلقة لأنه كان حسنا فرجع قبيحا ؛ وكان نورانيّا فعاد مظلما. وقيل : من السّموات (٣). وقال هنا لعنتي وفي غيرها اللّعنة (٤) ، وهما وإن كانا في اللفظ عامّا وخاصّا إلا أنهما من حيث المعنى عامّان بطريق اللازم لأن من كانت عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل أحد لا محالة ، وقال تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [البقرة : ١٦١] وباقي الجملة تقدم نظيرها.

قوله (٥) : «الرّجيم» المرجوم والرّجم ههنا عبارة عن الطّرد ؛ لأن الظاهر أن من طرد فقد يرمى بالحجارة وهو الرجم (٦) فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد (٧).

فإن قيل : الطرد هو اللّعن ، فلو حملنا قوله : «رجيم» (على الطرد) (٨) لكان قوله بعد ذلك: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) تكرارا.

فالجواب : من وجهين :

الأول : أنّا نحمل الرجم على الطرد من الجنة ومن السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله.

الثاني : أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله : (عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) على أنه الطرد إلى يوم القيامة فيكون على هذا فيه فائدة زائدة ولا يكون تكرارا ، وقيل : المراد بالرجم كون الشياطين مرجومين بالشهب.

فإن قيل : كلمة «إلى» لانتهاء (٩) الغاية فقوله (١٠) : (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) يقتضي (١١)

__________________

(١) كذا في أهنا وفي الرازي من التوسل والوسيلة وفي ب ليتوصّل من التّوصّل.

(٢) وانظر في هذا تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ٢٣٣.

(٣) السابق. وانظر الكشاف ٣ / ٣٨٤ والدر المصون ٤ / ٦٢٨.

(٤) يشير إلى قوله عز وعلا : «وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ» [الحجر : ٣٥]. وانظر : البحر ٧ / ٤١٠ معنى ، والدر المصون ٤ / ٦٢٨ لفظا.

(٥) في ب : فصل ، بدل قوله هنا.

(٦) في ب : الرجيم.

(٧) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٨٤ والرازي في تفسيره ٢٦ / ٢٣٣ ، ٢٣٤ وانظر أيضا القرطبي ١٥ / ٢٢٩ واللسان : «ر ج م» ١٦٠١ ، ١٦٠٢.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) في ب : انتهاء.

(١٠) وفيها : فنقول بدل فقوله.

(١١) في ب : مقتضى.

٤٥٨

انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين وأجاب الزمخشري بأن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم القيامة حصل مع اللعنة أنواع من العذاب فتصير اللعنة مع حصرها منفية (١) واعلم أنّ إبليس لما صار مغلوبا قال : (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، قيل : إنما طلب الإنظار إلى يوم القيامة لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت فقال تعالى : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه فقال إبليس : «فبعزّتك» وهو قسم بعزة الله وسلطانه لأغوينّهم أجمعين» فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه على مذهب القدريّة ، وقال مرة أخرى : ربّ بما أغويتني فأضاف الإغواء إلى الله على ما هو مذهب الجبرية. ثم قال : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) قيل : إن غرض إبليس من هذا الاستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء أو أدعى أنه يغوي الكل لظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله المخلصين وعند هذا يقال : إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فكيف يليق بالمسلم (الإقدام (٢) عليه)؟ وهذا يدل على أن إبليس لا يغوي عباد الله المخلصين ، وقد قال الله تعالى في صفة يوسف عليه (الصلاة و) السلام ـ : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف : ٢٤] فتحصل من مجموع الآيتين أن إبليس ما أغوى يوسف عليه‌السلام فدل على كذب المانويّة (٣) فيما نسبوه إلى يوسف ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ من القبائح (٤).

قوله : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ) قرأهما (٥) العامة منصوبين ، وفي نصب الأول أوجه :

أحدها : أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كقوله :

٤٢٨٤ ـ فذاك أمانة الله الثّريد (٦)

وقوله : لأملأنّ (جهنّم) (٧) جواب القسم ، قال أبو البقاء (٨) : إلّا أنّ سيبويه يدفعه

__________________

(١) هذا كلام الرازي عن صاحب الكشاف الذي قال في ٣ / ٣٨٤ «فإن قلت : قوله : لعنتي إلى يوم الدين كأن لعنة إبليس غايتها إلى يوم الدين ثم تنقطع ، قلت : كيف تنقطع وقد قال الله تعالى : «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» ولكن المعنى أن عليه اللعنة في الدنيا فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة فكأنها انقطعت» انظر : الرازي ٢٦ / ٢٣٤.

(٢) تكملة من الرازي.

(٣) كذا في النسختين المانوية وفي الرازي الحشوية أي الحاشون كذبا.

(٤) وانظر : الرازي ٢٦ / ٢٣٤.

(٥) مشى المؤلف وراء السمين في تجاوزه ذلك فحمزة وعاصم يقرآن الأول بالرفع والباقون بنصبه ، والجميع ينصبون الثاني وانظر : السبعة ٥٥٧ وإبراز المعاني ٦٦٨ والدر المصون ٤ / ٦٢٨ وحجة ابن خالويه ٣٠٧ والنشر ٢ / ٣٦٢.

(٦) سبق هذا البيت مكررا. وهو هنا يستشهد بأمانة المنصوبة بعد خفض. وانظر : الكشف ٢ / ٢٣٤ ، ٢٣٥ والبيان ٢ / ٣٢٠ والدر المصون ٤ / ٦٢٨.

(٧) زيادة من ب.

(٨) التبيان ١١٠٧.

٤٥٩

لأنه لا يجوز حذف حرف القسم إلّا مع اسم الله (١) ويكون قوله : (وَالْحَقَّ أَقُولُ) معترضا بين القسم وجوابه (٢) قال الزمخشري : كأنه قيل : ولا أقول إلّا الحقّ (٣) يعني أن تقديم المفعول أفاد الحصر. والمراد بالحق إما الباري تعالى كقوله : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور : ٢٥] وإمّا نقيض الباطل (٤).

والثاني : أنه منصوب على الإغراء أي الزموا الحقّ (٥).

والثالث : أنه مصدر مؤكد لمضمون (٦) قوله : «لأملأنّ» (٧) ، قال الفّراء : هو على معنى قولك : حقّا لآتينّك ، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء (٨) (أي لأملأن (٩) جهنم حقا) انتهى. وهذا لا يتمشّى مع قول البصريين ، فإن شرط نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة أن يكون بعد جملة ابتدائية جزءاها معرفتان جامدان (١٠). وجوز ابن العلج (١١) أن يكون الخبر نكرة (١٢) ، وأيضا فإن المصدر المؤكد لا يجوز تقديمه على الجملة المؤكد هو لمضمونها ؛ وهذا قد تقدم.

وأما الثاني فمنصوب «بأقول» بعده ، والجملة معترضة كما تقدم ، وجوز الزمخشري أن يكون منصوبا على التكرير (١٣) بمعنى (أنّ) (١٤) الأول والثاني كليهما منصوبان بأقول وسيأتي إيضاح ذلك في عبارته وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني ، فرفع الأول من أوجه :

__________________

(١) قال إمام النحاة في الكتاب ٣ / ٤٩٨ : «ومن العرب من يقول : الله لأفعلنّ وذلك أنه أراد حرف الجر وإياه نوى فجاز حيث كثر في كلامهم وحذفوه تخفيفا وهم ينوونه».

(٢) التبيان المرجع السابق والمعاني للفراء ٢ / ٤١٢ والدر المصون ٤ / ٦٣٨ والكشاف ٣ / ٣٨٤.

(٣) السابق.

(٤) الكشاف المرجع السابق والدر المصون ٤ / ٦٢٨.

(٥) البيان ٢ / ٣١٩ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٥٥ فضلا عن الدر المصون المرجع السابق.

(٦) في ب : بمضمون.

(٧) هذا مفهوم كلام الفراء الآتي في المعاني ٢ / ٤١٣.

(٨) المرجع السابق.

(٩) زيادة على قول الفراء في المعاني وفي المعاني : «لآتينك» وفي النسختين والسمين «لا شك».

(١٠) قال الأشموني ٢ / ١٩ : إن المصدر المؤكد لنفسه هو الواقع بعد جملة هي نص في معناه وسمي بذلك لأنه بمنزلة إعادة الجملة فكأنه نفسها (له عليّ ألف عرفا) أي اعترافا والمؤكد لغيره هو الواقع بعد جملة تحتمل غيره فتصير به نصا وسمي بذلك لأنه أثر في الجملة فكأنه غيرها.

(١١) تقدم التعريف به.

(١٢) قال أبو حيان عنه : ونقل صاحب البسيط أنه يجوز أن يكون الخبر نكرة قال : والمبتدأ يكون ضميرا نحو : هو زيد معروفا وهو الحقّ بيّنا وأنا الأمير مفتخرا ويكون ظاهرا كقولك : زيد أبوك عطوفا. وانظر هذا كله في الأشموني ٢ / ١١٩ ، ١٢٠ والبحر ٧ / ٤١١ والدر المصون ٤ / ٦٢٩.

(١٣) أي التوكيد اللفظي قال الزمخشري : «ومعناه التوكيد والتشديد. وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع أيضا». الكشاف ٣ / ٣٨٤.

(١٤) سقط من ب.

٤٦٠