اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

٤٢٥٢ ـ ..........

وحديث ما على قصره (١)

وقد تقدم هذا في أوائل البقرة (٢). و «هنالك» يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون خبر الجند و «ما» مزيدة ، ومهزوم نعت لجند. ذكره مكي (٣).

الثاني : أن يكون صفة لجند (٤).

الثالث : أن يكون منصوبا «بمهزوم» (٥) ومهزوم يجوز فيه أيضا وجهان :

أحدهما : أنه خبر ثان لذلك المبتدأ المقدر (٦).

والثاني : أنه صفة لجند (٧) إلا أن الأحسن على هذا الوجه أن لا يجعل «هنالك» صفة بل متعلقا به لئلا يلزم تقدم الوصف غير الصريح على الصريح (٨).

و «هنالك» مشار به إلى موضع التقاول والمحاورة بالكلمات السابقة وهو مكة أي سيهزمون بمكة ، وهو إخبار بالغيب. وقيل : مشار به إلى نصرة الأصنام ، وقيل : إلى حفر الخندق يعني إلى مكان ذلك (٩).

الثاني من الوجهين الأولين : أن يكون «جند» مبتدأ و «ما» مزيدة ، و «هنالك» نعت ومهزوم خبره ، قاله أبو البقاء (١٠) قال أبو حيان : وفيه بعد لتفلته (١١) عن الكلام الذي قبله قال شهاب الدين وهذا الوجه (١٢) المنقول عن أبي البقاء سبقه إليه مكي (١٣).

قوله : (مِنَ الْأَحْزابِ) يجوز أن يكون صفة لجند وأن يكون صفة «لمهزوم» وجوز أبو البقاء أن يكون متعلقا به (١٤) وفيه بعد لأن المراد بالأحزاب هم المهزومون.

__________________

(١) هذا عجز بيت من البسيط لامرىء القيس صدره :

وحديث الركب يوم هنا

 ..........

ويروى :

جد بالوفاق لمشتاق إلى مهره

إن لم تجد فحديث ما على قصره

وانظر : شرح شواهد الكشاف ٤١٩ ، والديوان ١٢٧ وفيه «فحديث» بالفاء. وانظر أيضا الدر المصون ٤ / ٥٩٣.

(٢) عند قوله : «إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها» [البقرة : ٢٦] وبين أن «ما» تلك يجوز فيها أن تكون زائدة وأن تكون صفة لما قبلها ونكرة موصوفة.

(٣) قاله في مشكل الإعراب ٢ / ٢٤٨.

(٤) البيان ٢ / ٣١٣ والتبيان ١٠٩٨.

(٥) السابقان ولم يرجحه ابن الأنباري.

(٦) أبو حيان في البحر ٧ / ٣٨٦.

(٧) مشكل الإعراب ٢ / ٢٤٨.

(٨) الدر المصون ٤ / ٥٩٤.

(٩) السابق وانظر الرازي ٢٦ / ١٨١ ، والكشاف ٣ / ٦٢.

(١٠) التبيان للعكبريّ ١٠٩٨.

(١١) في البحر لفصله انظر : البحر ٧ / ٣٨٦.

(١٢) الدر المصون ٤ / ٥٩٤.

(١٣) المشكل ٢ / ٢٤٨.

(١٤) ذكر العكبري أبو البقاء هذه الأوجه الثلاثة في التبيان ١٠٩٨.

٣٨١

فصل

المعنى أن الذين يقولون هذا القول جند هنالك و «ما» صلة مهزوم مغلوب من الأحزاب أي من جملة الأجناد ، يعني قريشا ، قال قتادة : أخبر الله تعالى نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو بمكة أنه سيزم جند المشركين فقال : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥] فجاء تأويلها يوم بدر ، وهنالك إشارة إلى (يوم) (١) بدر ومصارعهم ، وقيل : يوم الخندق (٢). وقال ابن الخطيب : والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة لأن المعنى أنهم جند سيصيرون منهزمين (٣) في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون منهزمين في مكة وما ذاك إلا يوم الفتح.

وقوله : (مِنَ الْأَحْزابِ) أي من جملة الأحزاب أي هم من القرون الماضية (٤) الذين تحزّبوا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا وأهلكوا.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(١٧)

ثم قال لنبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معزيا له : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) قال ابن عباس ومحمد بن كعب : ذو البناء المحكم ، وقيل : أراد ذو الملك الشديد الثابت (٥) ، وقال القتيبيّ (٦) : تقول العرب : هم في عزّ ثابت الأوتاد بريدون أنه دائم شديد ، وقال الضحاك : ذو القوة والبطش ، وقال عطية : ذو الجنود والجموع الكثيرة ، وسميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها (٧) في أسفارهم. وهي رواية عطية العوفي عن ابن عباس يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد (٨) الشيء. وهذه استعارة بليغة حيث شبه الملك ببيت الشّعر ، وبيت الشعر لا يثبت إلا بالأوتاد والأطناب (٩) كما قال الأفوه الأودي :

٤٢٥٣ ـ والبيت لا يبتنى إلّا على عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد (١٠)

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) وانظر : معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٤٢.

(٣) في ب : مهزومين وما هنا موافق للرازي.

(٤) في ب : العضاضية لحن وتحريف وانظر الرازي ٢٦ / ١٨١.

(٥) البغوي ٦ / ٤٢.

(٦) الغريب ٣٧٧.

(٧) كذا هي في البغوي وفي أهنا وما في ب يوقدونها.

(٨) معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٤٢.

(٩) قال في اللسان : «الطّنب والطّنب حبل الخباء والأطناب ما يشد به البيت من الحبال بين الأرض والطرائق». اللسان (طنب) ٢٧٠٨ وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٩٤.

(١٠) له من بحر البسيط وأتى به شاهدا على أن المعنوي شبه بالحسي عن طريق الاستعارة وعلى أن الجامع ـ

٣٨٢

فاستعير لثبات العز (١) والملك واستقرار الأمر (٢) كقول الأسود بن يعفر :

٤٢٥٤ ـ ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

في ظلّ ملك ثابت الأوتاد (٣)

والأوتاد جمع وتد وفيه لغات : وتد بفتح الواو وكسر التاء وهي الفصحى ، ووتد بفتحتين ، وودّ بإدغام التاء في الدال قال :

٤٢٥٥ ـ تخرج الودّ إذا ما أشجذت

وتواريه إذا ما تشتكر (٤)

ووت بإبدال (الدال) (٥) تاء (٦) ، ثم إدغام التاء فيها ، وهذا شاذ ؛ لأن الأصل إبدال الأول للثاني لا العكس ، وقد تقدم نحو من هذا في آل عمران عند قوله : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) [آل عمران : ١٨٥].

ويقال : وتد (واتد) (٧) أي قويّ ثابت وهو مثل مجاز قولهم : شغل شاغل (٨).

أنشد الأصمعي :

٤٢٥٦ ـ لاقت (٩) (على) (١٠) الماء جذيلا واتدا

ولم يكن يخلفها المواعدا (١١)

وقيل : الأوتاد هنا حقيقة لا استعارة (١٢) ، (و) قال الكلبي ومقاتل : الأوتاد جمع الوتد وكان له أوتاد يعذب الناس عليها فكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد تشدّ (١٣) كل يد وكل رجل منه إلى سارية ويتركه كذلك في

__________________

ـ بينهما التمكن والثبات وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٩٤ وأمالي القالي ٢ / ٢٢٤ والبحر المحيط ٧ / ٣٨٦ وديوانه ١٠ ، والكشاف ٣ / ٣٦٢ وشرح شواهده ٣٨٥ ، ٣٨٦.

(١) في ب : العد لحن.

(٢) قاله في الكشاف ٣ / ٣٦٢.

(٣) له من تمام الكامل وشاهده كسابقه من تشبيه المعنوي بالحسي ، وغنوا فيها : أي أقاموا فيها من غني بالمكان. وقد تقدم.

(٤) من المديد لامرىء القيس في وصف سحابة وأنها إذا أشجذت أي سكنت يظهر الوتد الذي يربط به الخباء فإذا اشتكرت أي امتلأت وفاض ماؤها وارته وأخفته وشاهده : «الود» والأصل الوتد فقلبت التاء دالا وأدغم المثلان في بعضهما فدل على أنها لغة في الوتد. انظر : ديوانه ١٤٤ والبحر ٧ / ٣٨١ والدر المصون ٤ / ٥٩٤.

(٥) سقط من ب.

(٦) في ب : دالا. وهو خطأ وقلب.

(٧) سقط من ب وفيه بدله «قوي».

(٨) قال صاحب اللسان في وتد ٤٧٥٧ ووتد واتد : ثابت راس منتصب ذهب أبو عبيد إلى أنه من باب شعر شاعر على النّسب ، قال ابن سيده: وعندي أنه على وتد كما تقدم قال : وإنما يحمل الشيء على النسب إذا عدم الفعل وإذا أمرت قلت : تد وتدك بالميتدة ، وهي المدقّ (المرزبة التي يضم بها الوتد).

(٩) في ب : لات.

(١٠) على سقطت من ب.

(١١) من الرجز لأبي محمد الفقعسيّ. وهو يشبه الرجل بالجذل لثباته وجذيل تصغير له والجذل الراعي.

والضمير في «لاقت» للإبل. واستشهد به على أنه يقال وتد واتد كما يقال : شغل شاغل. ولا يخفى أن معنى الوتد في هذا الشّعر أيضا يراد به المعنوي لا الحسي ، فهو تشبيه.

(١٢) كما قال أهل التفسير.

(١٣) في ب : تشتد.

٣٨٣

الهواء (١) بين السماء والأرض حتى يموت. وقال مجاهد ومقاتل بن حيّان كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يشد (٢) يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد. وقال السدي : كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيّات. وقال قتادة وعطاء : كانت له أوتاد وأرسان (٣) وملاعب يلعب عليها بين يديه (٤) ، ثم قال : (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) تقدم الخلاف في الأيكة في سورة الشعراء (٥).

قوله : (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) يجوز أن تكون مستأنفة لا محل لها (من الإعراب) وأن تكون خبرا ، والمبتدأ قال أبو البقاء (من) قوله : (وَعادٌ) وأن يكون من «ثمود» وأن يكون من قوله (وَقَوْمُ لُوطٍ)(٦).

قال شهاب الدين (٧) : الظاهر عطف (عاد) وما بعدها على «قوم نوح» واستئناف الجملة بعده ، وكان يسوغ على ما قاله أبو البقاء أن يكون المبتدأ وحده (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ).

فصل

المعنى أن هؤلاء الذين ذكرناهم من (٨) الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم وكذلك قومك هم من جنس الأحزاب المتقدمين. وقيل : المعنى أولئك الأحزاب (٩) مع كمال قوّتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء (المساكين) (١٠)؟

قوله : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) إن نافية ولا عمل لها هنا البتة ولو على لغة من قال :

__________________

(١) وفيها الهوى بالقصر. وهو الحب بخلاف الهواء.

(٢) وفيها يمد لا يشد.

(٣) أي أحبال جمع رسن ، وفي المثل مر الصعاليك بأرسان الخيل. اللسان (ر س ن).

(٤) وانظر : البغوي والخازن ٦ / ٤٣ والقرطبي ١٥٤ / ١٥ وانظر البيت في القرطبي المرجع السابق واللسان وتد ٥٧ والبحر ٧ / ٣٨١ والدر المصون ٤ / ٥٩٥ و «ليس» لابن خالويه ٥٨ وفتح القدير ٤ / ٤٢٣.

(٥) قرأ نافع وابن كثير «ليكة» بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسما غير معرف بأل مضافا إليه أصحاب هنا ، وفي سورة (ص) خاصة والباقون الأيكة معرفا بأل موافقة لما أجمع عليه في الحجر وفي (ق). وقد اضطربت أقوال العلماء مفسرين ولغويين في قراءة نافع هذه فانظرها بالتفصيل هناك اللباب ميكروفيلم سورة الشعراء.

(٦) التبيان ١٠٩٨.

(٧) كتابه ٤ / ٥٩٥.

(٨) كذا هي هنا وفي الرازي وفي ب : في.

(٩) مبالغة لوصفهم بالقوة والكثرة كما يقال : فلان هو الرّجل.

(١٠) زيادة من ب عن أ. وهي في الرازي وانظر : تفسير الرازي ٢٦ / ١٨٢.

٣٨٤

٤٢٥٧ ـ إن هو مستوليا على أحد

 ..........(١)

وعلى قراءة : إن الذين تدعون من دون الله عبادا (٢) [الأعراف : ١٩٤] لانتقاض النفي ب «إلّا» فإن انتقاضه مع الأصل وهي «ما» مبطل فكيف بفرعها؟ وقد تقدم أنه يجوز أن تكون جوابا للقسم (٣).

فصل

المعنى كل هذه الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان ذلك بعد حين ، والمقصود منه زجر السامعين. ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) أي وما ينتظر (٤) هؤلاء يعني كفار مكة (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهي نفخة الصور الأولى كقوله : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) [يس : ٤٩ ـ ٥٠] والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معدّ لهم يوم القيامة فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطّرف إليه يقطع كل ساعة في حضوره. وقيل : المراد بالصيحة عذاب يفجأهم ويجيئهم دفعة واحدة كما يقال : صاح الزمان بهم إذا هلكوا (قال) (٥) :

٤٢٥٨ ـ صاح الزّمان بآل برمك صيحة

خرّوا لشدّتها على الأذقان (٦)

ونظيره قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [يونس : ١٠٢].

قوله : (ما لَها مِنْ فَواقٍ) يجوز أن يكون «لها» رافعا «لمن فواق» بالفاعلية ؛ لاعتماده

__________________

(١) صدر بيت من المنسرح تمامه :

 ..........

إلّا على أضعف المجانين

ويروى : إلا على حزبه الملاعين ، كما يروى : إلا على حزبه المناحيس. وشاهده : إعمال إن النافية عمل ليس قياسا على «ما» أختها. وهذا رأي قليل من النحويين كالكسائي والمبرد. والجمهور على عدم إعمالها ولكل رأيه ، وانظر : التصريح ١ / ٢٠١ ، والهمع ١ / ١٢٥ وشرح الكافية للرضي ١ / ٢٧٠ والخزانة ٤ / ١٦٦ ، ١٦٨ والأشموني ١ / ٢٥٥ ورصف المباني ١٠٨ والأزهية ٤٦ ، وإصلاح الخلل وتوضيح المقاصد ١ / ٣٢١ وشرح التسهيل للمرادي ١ / ٣٨٧ وتمهيد القواعد ٢ / ٢٥ وعمدة الحافظ ١٢٠ والمقرب ١ / ١٠٥.

(٢) وهي قراءة ابن جبير وانظر : المراجع السابقة وابن خالويه ٤٨.

(٣) وهو والقرآن ذي الذكر. وقد سبق.

(٤) البغوي ٤٣ / ٦.

(٥) سقط من ب وانظر : الرازي ٢٦ / ١٨٢.

(٦) من الكامل ولا أعرف قائله و «برمك» بلد وجيء به على أن الصيحة هي العذاب الذي يفجأ الناس فيهلكون بسببه وانظر : الفخر الرازي ٢٦ / ١٨٢ وفتح القدير للشوكاني ٤ / ٤٢٤.

٣٨٥

على النفي (١) ، وأن يكون جملة من مبتدأ وخبر وعلى التقديرين فالجملة المنفية في محل نصب صفة «لصيحة» و «من» مزيدة (٢). وقرأ الأخوان : «فواق» بضم الفاء ، والباقون بفتحها (٣) ، قال الكسائيّ والفراء (٤) وأبو عبيدة (٥) : هما لغتان وهما الزمان الذي بين حلبتي الحالب ، ورضعتي الرّاضع ، والمعنى ما لها من توقف قدر فواق ناقة.

وفي الحديث : «العيادة (٦) قدر فواق ناقة». وهذا في المعنى كقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) [الأعراف : ٣٤].

وقال ابن عباس : ما لها من رجوع (٧) من أفاق المريض إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع اللبن إلى ضرعها يقال : أفاقت النّاقة تفيق إفاقة رجعت الفيقة في ضرعها ، والفيقة اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ، ويجمع على أفواق وأما أفاويق فجمع الجمع ، ويقال : ناقة مفيق ومفيقة (٨).

وقال الفراء (٩) وأبو عبيدة (١٠) ومؤرّج السّدوسيّ (١١) : الفواق بالفتح الإفاقة والاستراحة كالجواب من الإجابة وهو قول ابن زيد والسّدّيّ (١٢).

وأما المضموم فاسم لا مصدر أي اسم لما بين الحلبتين ، والمشهور أنهما بمعنى واحد كقصاص الشّعر وقصاصه وجمام المكول (١٣) وجمامه ، فالفتح لغة قريش (١٤) ،

__________________

(١) على اعتبار من مزيدة ، أي ما استقر لها فواق.

(٢) قال بهذا الإعراب السمين في الدر ٤ / ٥٩٦.

(٣) التبيان ١٠٩٨ والسبعة ٥٥٢ ومعاني الفراء ٢ / ٤٠٠ وانظر : النشر ٢ / ٣٦١ ، وحجة ابن خالويه ٣٠٤ ، واللسان فوق ٣٤٨٩.

(٤) المعاني ٢ / ٤٠٠.

(٥) المجاز ٢ / ١٧٩ ، والبحر ٧ / ٣٨٧.

(٦) في ب : الساعة لا العيادة. والحديث ذكره الفراء ٢ / ٤٠٠ واللسان : «ف وق» ٣٤٨٩ والبحر ٧ / ٣٨٧.

(٧) أخرجه البغوي في تفسيره معالم التنزيل عن ابن عباس وفي القرطبي والبحر أن هذا الرأي لمجاهد.

انظر : القرطبي ١٥ / ١٥٦ والبحر ٧ / ٣٨٧.

(٨) انظر : اللسان : «ف وق» ٣٤٨٨ ، ٣٤٨٩ ومعاني الزجاج ٤ / ٣٢٣ وغريب القرآن لابن قتيبة ٢ / ٣٧٧ ، ٣٧٨ قال : «والفواق والفواق واحد كما يقال : جمام المكّوك وجمامه وهو أن تحلب الناقة وتترك ساعة حتى ينزل شيء من اللبن ... فاستعير الفواق في موضع التمكث والانتظار». وانظر أيضا المجاز ٢ / ١٧٩. وقد فرق أبو عبيد ما بين الضمّ والفتح فقال من فتحها قال ما لها من راحة ومن ضمها جعلها من فواق وهو ما بين الحلبتين وانظر : البحر ٧ / ٣٨٧ والقرطبي ١٥ / ١٥٦ ، ١٥٧.

(٩) المعاني له ٢ / ٤٠٠.

(١٠) المجاز المرجع السابق.

(١١) البحر ٧ / ٣٨٧ والدر المصون ٤ / ٥٩٦.

(١٢) قاله أبو الفرج في زاد المسير ٧ / ١٠٧ ، ١٠٨ والسمين في الدر ٤ / ٥٩٦.

(١٣) البئر قلية الماء وانظر : الغريب والمجاز السابقين.

(١٤) في ب : لقريش.

٣٨٦

والضم لغة تميم (١). قال الواحدي : الفواق والفواق اسمان من الإفاقة (٢). والإفاقة معناها الرجوع والسكون كما في إفاقة المريض إلا أن الفواق بالفتح يجوز أن يقام مقام المصدر ، والفواق بالضم اسم لذلك الزمان ، الذي يعود فيه اللبن (٣) ، وروى الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال في هذه الآية : يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ نفخة الفزع قال : فيمدّها ويطولها وهي التي يقول ما لها من فواق ، ثم قال الواحدي : وهذا يحتمل معنيين :

أحدهما : ما لها من سكون.

الثاني : ما لها من رجوع والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون ويقال لكل من بقي على حالة واحدة بأنه لا يفيق منه ولا يستفيق (٤).

قوله : «قطنا» أن نصيبنا وحظّنا ، وأصله من قطّ الشيء أي قطعه ، ومنه قطّ (٥) القلم والمعنى قطعه مما وعدتنا به ولهذا يطلق على الصحيفة والصك (٦) قطّ ، لأنهما قطعتان يقطعان ، ويقال للجائزة أيضا قطّ لأنها قطعة من العطية (٧) ، قال الأعشى :

٤٢٥٩ ـ ولا الملك النّعمان يوم لقيته

بغبطته يعطي القطوط ويأفق (٨)

وأكثر استعماله في الكتاب ، قال أمية بن أبي الصّلت :

٤٢٦٠ ـ قوم لهم ساحة أرض العراق وما

يجبى إليهم بها والقطّ والقلم (٩)

__________________

(١) قاله في الدر ٤ / ٥٩٦ وانظر : الرازي ٢٦ / ١٨٣.

(٢) في ب : الفاقة خطأ.

(٣ و ٤) تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ١٨٣.

(٣ و ٤) تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ١٨٣.

(٥) القطّ بالفتح القطع عامة ، وقيل : وهو قطع الشيء الصّلب كالحقّة ونحوها ، وقيل : هو القطع عرضا قطّه يقطّه قطّا قطعه عرضا واقتطّه فانقطّ ، ومنه قط القلم. انظر : اللسان : «قطط» ٣٦٧١.

(٦) كذا هي في اللسان وفي الكتب المفسرة وفي ب الصلب ، لحن وتحريف.

(٧) انظر : اللسان «قطط» ٣٦٧٣ ، ٣٦٧٤ وغريب القرآن ٣٧٨ والمجاز ٢ / ٧٩ ومعاني الفراء ١ / ٤٠٠ ، ومعاني الزجاج ٤ / ٣٢٣ وإعراب النحاس ٣ / ٤٥٧ وانظر أيضا القرطبي ١٥ / ١٥٧ والرازي ٢٦ / ١٨٣ والبغوي ٦ / ٤٣.

(٨) هو له من بحر الطويل ومعنى يأفق يفضل ويعلو والبيت من قصيدة في مدح المحلق الكلابي.

والشاهد : في القطوط فهي جمع قط وهي النصيب والعطية وانظر : اللسان قطط ٣٦٧٣ والمجاز ٢ / ١٧٩ والقرطبي ١٥ / ١٥٧ والبحر ٧ / ٣٧٨ والإعراب للنحاس ٣ / ٤٥٧ ومعاني الزجاج ٤ / ٣٢٣ والطبري ٢٣ / ٨٥ ومجمع البيان ٧ / ٧٣١ والكامل لابن الأثير ١ / ١٧١ ، ١٧٤ وفتح القدير ٤ / ٤٢٤ والجمهرة لابن دريد قطط وديوانه ١١٧.

(٩) من البسيط له وهو في اللسان ٣٦٧٤ والقرطبي ١٥ / ١٥٧ والمذكر والمؤنث لابن الأنباري برواية :

 ..........إذا

ساروا جميعا والقطّ والقلم

وانظر : البحر ٧ / ٣٨٧ والدر المصون ٤ / ٥٩٧ وأنشد شاهدا على أن القطّ مراد به الكتاب بدليل المعطوف وهو القلم.

٣٨٧

ويجمع على قطوط كما تقدم ، وعلى قططة نحو : قرد وقردة وقرود ، وفي القلة على أقطّة وأقطاط(١) كقدح وأقدحة وأقداح ، إلا أن أفعلة في فعل شاذ (٢).

فصل

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني كتابنا. والقطّ : الصحيفة أحصت كل شيء ، قال الكلبي: لما نزل قوله في الحاقة : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) [الحاقة : ١٩ ـ ٢٥] قالوا استهزاء : عجل لنا كتابنا في الدنيا قبل يوم الحساب ، وقال سعيد بن جبير : يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول. وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي : يعني عقوبتنا ونصيبنا من العذاب قال عطاء : قاله النّضر بن الحرث وهو قوله : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] وعن مجاهد قطنا : حسابنا يقال للكتاب قط (٣).

قال أبو عبيدة والكسائي : القط الكتابة بالجوائز (٤). واعلم أن (٥) القوم تعجبوا من أمور ثلاثة ، أولها : من أمر النبوات وإثباتها فقال : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ، فقال الكافرون هذا ساحر كذّاب».

وثانيها : تعجبهم من الإلهيات فقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا.

وثالثها : تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) ، قالوا ذلك استهزاء فأمره الله تعالى بالصبر على سفاهتهم فقال : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ).

فإن قيل : أي تعلق بين قوله : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) وبين قوله (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ)؟

فالجواب : هذا التعلق من وجوه :

الأول : كأنه قيل : إن كنت شاهدت من هؤلاء الجهّال جراءتهم على الله وإنكارهم الحشر والنشر فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن يوم الحشر فإن بقدر ما يزداد أحد الضّدين شرفا يزداد (الضّدّ) الآخر نقصانا.

الثاني : كأنه قيل لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (لا) (٦) تضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك فإنهم وإن خالفوك فالأكابر من الأنبياء وافقوك.

__________________

(١) في النحاس ويجمع على أقط أيضا على وزن أفعل وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٩٧.

(٢) التسهيل لابن مالك ٢٧٠ وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٩٧.

(٣) وانظر : تفسير البغوي معالم التنزيل ، وتفسير الخازن لباب التأويل ٦ / ٤٣ ، وانظر أيضا هذه الأقوال في القرطبي ١٥ / ١٥٧ وزاد المسير ٧ / ١٠٨ ، ١٠٩.

(٤) المجاز ٢ / ١٧٩ والقرطبي ٥ / ١٥٧ والبغوي ٦ / ٤٣.

(٥) انظر كل هذا الآتي في الفخر الرازي ٢٦ / ١٨٣ ، ١٨٤.

(٦) كلمة لا سقطت من ب.

٣٨٨

الثالث : أن للناس في قصة داود قولان : منهم من قال : إنها تدل على دينه ، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنّ حزنك ليس إلا لأن الكفار كذبوك ، وأما حزن داود فكان بسبب وقوع ذلك الذنب ، ولا شك أن حزنه أشد فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن. ومن قال بالثاني قال الخصمان اللذان دخلا على داود كانا من البشر وإنما دخلا عليه لقصد قتله ، فخاف منهما داود ومع ذلك فلم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهم على (ما سيجيء تقرير (١) هذه الطريقة) ، فلا جرم أمر الله تعالى محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأن يقتدي به في حسن الخلق.

الرابع : أن قريشا إنما كذبوا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واستخفوا به لقولهم : إنه يتيم فقير ، ثم إنه تعالى قصّ على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما كان في مملكة داود ، ثم بين بعد ذلك أنه ما سلم من الأحزان والغموم ليعلم أن الخلاص من الحزن لا سبيل إليه في الدنيا.

الخامس : قوله تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) ولم يقتصر على قصة داود بل ذكر عقيب قصة داود قصص أنبياء كثيرة فكأنه تعالى قال : فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولا بهمّ خاص وحزن خاص فيعلم حينئذ أن لا انفكاك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجة العالية عند الله لا تحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.

قال ابن الخطيب : وههنا وجه آخر قويّ وأحسن من كل هذه الوجوه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) الآية (٢) [ص : ٢٩].

قوله : «داود» بدل أو عطف بيان ، أو منصوب بإضمار أعني و «ذا الأيد» نعت له (٣) ، والأيد القوة (٤) ، قال ابن عباس : أي القوة في العبادة ، وقيل : القوة في الملك (٥) ، واعلم أن قوله : «عبدنا داود» فوصفه بكونه عبدا له. وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة المعراج ، قال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] وأيضا فإن وصف الأنبياء بالعبودية مشعر بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة ، والمراد بالأيد القوة في الطاعة والاحتراز عن المعاصي لأن مدحه بالقوة يوجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح العظيم وليست إلا القوة على فعل ما أمر الله به ، وترك ما نهى

__________________

(١) ما بين القوسين من الرازي وما في النسختين (فاقتد بهذه الطريقة).

(٢) الرازي ٢٦ / ١٨٤.

(٣) الدر المصون ٤ / ٥٩٧ والتبيان ١٠٩٨.

(٤) القرطبي ١٥ / ١٥٩ ومعاني الفراء ٢ / ٤٠١ ومجاز القرآن ٢ / ١٧٩ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣٢٣.

(٥) ذكرهما البغوي والخازن في تفسيريهما ٦ / ٤٣ ، ٤٤.

٣٨٩

عنه ، والأيد المذكورة ههنا كالقوة المذكورة في قوله : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢] وقوله: (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ) [الأعراف : ١٤٥] أي باجتهاد وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف ، والأيد (و) (١) القوة سواء ، ومنه قوله : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) [الأنفال : ٦٢] وقوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة : ٨٧] (وقوله) (٢) : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧] وقال عليه (الصلاة و) السلام : «أحبّ الصّيام إلى الله صيام داود عليه (الصّلاة و) السّلام وأحبّ الصّلاة إلى الله عزوجل صلاة داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وكان ينام نصف اللّيل ويقوم ثلثه وينام سدسه»(٣).

قوله : «إنّه أوّاب» أي رجاع إلى الله عزوجل بالتوبة على كل ما يكره ، والأوّاب فعّال من آب يؤوب إذا رجع قال تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) [الغاشية : ٢٥] وهذا بناء مبالغة كما يقال : قتّال وضرّاب وهو أبلغ من قاتل وضارب ، وقال ابن عباس : مطيع ، وقال سعيد بن جبير : مسبّح بلغة الحبشة (٤).

قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(٢٦)

قوله : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) فقوله : «يسبحن» جملة حالية من «الجبال» (٥) وأتى بها هنا فعلا مضارعا دون اسم الفاعل فلم يقل مسبّحات (٦) ، دلالة على

__________________

(١) الواو سقطت من أ.

(٢) زيادة للسياق.

(٣) الحديث رواه البخاري في صحيحه ١ / ١٩٨ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وانظر أيضا البغوي ٦ / ٤٤ ومسند الإمام أحمد ٣ / ٣٠٤ ، ٢ / ١٦٠ ، ١٦٤ ، ١٩٠ ، ٢٠٠ ، ٢٠٥ ، ٢١٦.

(٤) ذكره البغوي في تفسيره ٦ / ٤٤.

(٥) انظر : الكشاف ٣ / ٣٦٤ والدر المصون ٤ / ٥٩٧.

(٦) في ب : يسبحات تحريف ولحن.

٣٩٠

التجدد والحدوث شيئا بعد شيء كقول الأعشى :

٤٢٦١ ـ لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في بقاع تحرّق (١)

أي تحرق (٢) شيئا فشيئا ، ولو قال : محرقة (٣) لم يدل على هذا المعنى.

فصل

المعنى يسبحن بتسبيحه. (و) (٤) في كيفية تسبيح الجبال وجوه :

الأول : أن الله تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلا وقدرة ونطقا ، فحينئذ يصير الجبل مسبحا لله تعالى.

الثاني : قال القفال : إن داود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دويّ حسن وما يصغي الطير (إليه) (٥) لحسنه فيكون دويّ الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه تسبيحا ، وروى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحدا من خلقه مثل صوت داود حتى إنه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى تؤخذ (٦) بأعناقها.

الثالث : أن الله تعالى سخر الجبال حتى إنّها كانت تسير إلى حيث يريده داود فجعل ذلك السير تسبيحا لأنه يدل على كمال قدرة الله وحكمته (٧).

قوله : (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) قال الكلبي غدوة وعشيّا (٨) والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها قال الزجاج : يقال شرقت الشمس (إذا (٩) طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت ، وقيل : هما بمعنى. والأول أكثر (١٠). تقول العرب شرقت الشمس) والماء يشرق (١١) ، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى. قال ابن عباس كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أمّ هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثمّ صلّى الضّحى وقال يا أم هانىء : هذه صلاة الإشراق (١٢). وروى

__________________

(١) من الطويل من قصيدة في مدح المحلق وشاهده التعبير بالمضارع في «تحرق» دون الاسم محرقة لأن الجملة الفعلية تدل على التجدد والحدوث بخلاف الاسمية فإنها تدل على الثبوت والاستمرار على حال واحدة. وانظر : الكشاف ٣ / ٣٦٤ والدر المصون ٤ / ٥٩٧ وشرح شواهد الكشاف ٤٦٥ ، ٤٦٦ ودلائل الإعجاز ١٩٥ وديوانه ١٢٠.

(٢) في ب : يجري. لحن وتحريف.

(٣) في ب : محرق. بالإفراد.

(٤) الواو سقطت من ب.

(٥) كذلك.

(٦) في ب : يأخذ. وانظر : الرازي ٢٦ / ١٨٥.

(٧) الرازي المرجع السابق.

(٨) معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٤٤.

(٩) ما بين القوسين كله ساقط من ب.

(١٠) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٢٤.

(١١) الرازي ٢٦ / ٨٦.

(١٢) البغوي ٦ / ٤٤ والقرطبي ١٥ / ١٥٩ ، ١٦٠.

٣٩١

طاوس عن ابن عباس قال : هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا : لا ؛ فقرأ : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) قال : وكانت صلاة يصليها داود عليه‌السلام وقال لم يزل في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى طلبتها فوجدتها في قوله تعالى : (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ)(١).

قوله : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) العامة على نصبها عطف مفعولا على مفعول ، وحالا على حال كقولك : ضربت زيدا مكتوفا وعمرا مطلقا (٢) ، وأتى بالحال (٣) اسما لأنه لم يقصد أن الفعل وقع شيئا فشيئا لأن حشرها دفعة واحدة أدلّ على القدرة والحاشر الله تعالى (٤). وقرأ ابن أبي عبلة والجحدري برفعهما جعلاها مستقلة من مبتدأ وخبر (٥).

والمعنى وسخرنا الطير محشورة ، قال ابن عباس : كان داود إذا سبح جاءته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله تعالى.

فإن قيل : كيف يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها؟

فالجواب : أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى لها عقولا حتى تعرف (٦) الله فتسبحه حينئذ ويكون ذلك معجزة لداود (٧) قال الزمخشري قوله : «محشورة» في مقابلة : «يسبّحن» إلا أنه ليس في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء فلا جرم أتى به اسما لا فعلا ، وذلك أنه لو قيل : وسخرنا الطير (محشورة) (٨) (يحشرن) (٩) على تقدير أن الحشر يوجد من حاشرها شيئا بعد شيء والحاشر هو الله عزوجل لكان خلفا لأنه تعالى حشرهم جملة واحدة (١٠).

قوله : (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل من الجبال والطير لداود أي لأجل تسبيحه ، فوضع أواب موضع مسبّح. وقيل : (إنّ) (١١) الضمير في : «له» للباري تعالى (١٢) ، والمراد كل من داود والجبال والطير مسبح ورجاع لله تعالى.

قوله : «وشددنا» العامة على تخفيف شددنا أي قوّينا كقوله : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص : ٣٥] وابن أبي عبلة والحسن «شدّدنا» بالتشديد (١٣). وهي مبالغة

__________________

(١) الرازي المرجع السابق.

(٢) الإعراب ٤ / ٤٥٨ ، ٤٥٩ والسمين ٤ / ٥٩٧.

(٣) في ب : الجبال خطأ.

(٤) الكشاف ٣ / ٣٦٥.

(٥) معاني الفراء ٢ / ٤٠١ والإعراب ٣ / ٤٥٩ ومختصر ابن خالويه ١٢٩ وهي من الشواذ غير المتواترة.

(٦) في ب : يعرف.

(٧) الرازي ٢٦ / ١٨٦.

(٨) كذا هي في الرازي. وقد نقلها الرازي عن الزمخشري كذا.

(٩) تصحيح من الكشاف.

(١٠) وانظر : الكشاف ٣ / ٣٦٥

(١١) سقط من ب.

(١٢) قاله الرازي المرجع السابق.

(١٣) من الشواذ ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٢٩ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٦٥ والسمين في الدر ٥٩٨.

٣٩٢

كقراءة العامة ، ومعنى الكلام قويناه بالحرس والجنود.

قال ابن عباس : كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل(١).

قوله : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) أما الحكمة فهي النبوة ، وقيل : العلم والخير (٢) ؛ قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] وأما فصل الخطاب فقال بعض المفسرين : إن داود أول من قال في كلامه : أما بعد (٣). وقيل : المراد منه : معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين (٤).

قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرا على التعبير على كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال بحيث لا يخلط شيئا بشيء وبحيث يفصل كلّ مقام عن ما يخالفه هذا معنى عامّ يتناول فصل الخصومات ويتناول الدعوة إلى الدين الحق ويتناول جميع الأقسام والله أعلم (٥).

وروى ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود أن هذا غصبني بقرأ فسأله (داود) فجحد فقال للآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود : قوما حتى انظر في أمركما فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت فأوحى الله إليه ثانية فلم يفعل فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة ، فأرسل داود إليه فقال إن الله أوحى إليّ أن أقتلك ؛ فقال : تقتلني بغير بينة ، فقال داود نعم والله لأنفذنّ أمر الله فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله قال لا تعجل حتى أخبرك إنّي والله ما أخذت بهذا الذنب ولكن اغتلت والد هذا فقتلته ولذلك أخذت فأمر به داود فقتل فاشتد هيبة داود عند ذلك في قلوب بني إسرائيل ، واشتد به ملكه فذلك قوله : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ)(٦)(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) يعني النبوة والإصابة في الأمور (٧) ، و (فَصْلَ الْخِطابِ) قال ابن عباس : بيان الكلام. وقال ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل : على الحكم بالقضاء ، وقال علي بن أبي طالب : هو أن البينة على المدّعي واليمين على من أنكر (٨) ؛ لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به ، ويروى ذلك

__________________

(١) البغوي ٦ / ٤٤.

(٢) زاد المسير ٧ / ١١١.

(٣) وهو قول أبي موسى الأشعري والشعبي انظر : زاد المسير ٧ / ١١٢.

(٤) وهو قول شريح وقتادة وحبذه ابن الجوزي فقال : وهو قول حسن لأن الخصومة إنما تفصل بهذا.

(٥) الرازي ٢٦ / ١٨٨.

(٦) أخرجه البغوي في تفسيره معالم التنزيل وكذلك الخازن في لباب التأويل عن عكرمة عن ابن عباس ٦ / ٤٤ و ٤٥.

(٧) المرجعان السابقان.

(٨) القرطبي ١٥ / ١٦٢ والبغوي والخازن السابقان وزاد المسير ٧ / ١١١ و ١١٢ وانظر أيضا معاني الزجاج ٤ / ٣١ ومعاني الفراء ٢ / ٤٠١.

٣٩٣

عن أبي بن كعب قال : فصل الخطاب الشهود والإيمان. وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن الشعبي : فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه : أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر (١).

قوله (تعالى) (٢) : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) قد تقدم أن الخصم في الأصل مصدر فلذلك يصلح للمفرد والمذكر وضدّيهما ، وقد يطابق ، ومنه (لا تَخَفْ خَصْمانِ) [ص : ٢٢]. والمراد بالخصم هنا جمع بدليل قوله : (إِذْ تَسَوَّرُوا) وقوله : (إِذْ دَخَلُوا). قال الزمخشري : وهو يقع للواحد والجمع كالضّيف ، قال تعالى : (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) [الذاريات : ٢٤] لأنه مصدر في أصله ، يقال خصمه يخصمه خصما كما تقول : ضافه ضيفا. فإن قلت : هذا جمع وقوله: خصمان تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت : معنى خصمان فريقان خصمان ، والدليل قراءة من قرأ : «بغى بعضهم على بعض» (٣) ونحوه قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) [الحج : ١٩] فإن قلت : فما تصنع بقوله : (إِنَّ هذا أَخِي) وهو دليل على الاثنين (٤)؟ قلت : معناه أنّ التحاكم بين ملكين ولا يمنع أن يصحبهما آخرون ، فإن قلت : كيف سماهم جميعا خصما في قوله : «نبأ الخصم وخصمان»؟ قلت : لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به (٥).

قوله : (إِذْ تَسَوَّرُوا) في العامل في «إذ» أوجه :

أحدها : أنه معمول للنبأ إذا لم يرد به القصة. وإليه ذهب ابن عطية (٦) وأبو البقاء (٧) ومكّيّ (٨) أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسوّرهم المحراب ، وقد ردّ بعضهم هذا بأن النبأ الواقع في ذلك الوقت لا يصح إتيانه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإن أريد بالنبأ القصة لم يكن ناصبا. قاله أبو حيّان (٩).

الثاني : أن العامل فيه «أتاك» (١٠). وردّ بما ردّ به الأول (١١) ، وقد صرح الزّمخشريّ

__________________

(١) البغوي ٦ / ٤٥.

(٢) زيادة من «أ».

(٣) لم أجدها نسبت لمعين. انظر الكشاف ٣ / ٣٦٧ والبحر ٧ / ٣٩١ والدر المصون ٤ / ٥٩٨ وقد نسبها الكرماني في شواذ القرآن لابن عمير. الشواذ ٢٠٧.

(٤) الواقع أن في الكشاف كلاما زائدا على هنا وهو (قلت : هنا قول البعض المراد به بعضنا على بعض ، فإن قلت : فإنه قد جاء في الرواية أنه بعث إليه ملكان).

(٥) وانظر : كشافه ٣ / ٣٦٦ و ٣٦٧.

(٦) البحر المحيط ٧ / ٣٩٢.

(٧) التبيان ١٠٩٨.

(٨) مشكل الإعراب ٢ / ٢٤٩ وانظر : الكشاف ٣ / ٣٦٨ والبيان ٢ / ٣١٣ والدر المصون ٤ / ٥٩٩.

(٩) البحر المحيط ٧ / ٣٩١ والدر المصون ٤ / ٥٩٩. قال أبو حيان : ورد بأن إتيان النبأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يقع إلّا في عهده لا في عهد داود. كما قال : «وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها لم يكن ناصبا».

(١٠) قال أبو حيان في المرجع السابق إنه رأي الحوفيّ. انظر : المرجع السابق.

(١١) وهو أن النبأ الواقع في ذلك الوقت لا يصح إتيانه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه في عهد داود.

٣٩٤

بالرد على هذين الوجهين. فقال : «فإن قلت : بم انتصب إذ؟ قلت : لا يخلوا إما أن ينتصب «بأتاك» أو «بالنّبأ» أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك لأن إتيان النبأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود (و) (١) لا بالنبأ ؛ لأن النبأ واقع في عهد داود فلا يصح إتيانه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها لم يكن ناصبا ، فبقي أن يكون منصوبا بمحذوف تقديره : وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ» (٢). فاختار (٣) أن يكون معمولا لمحذوف (٤).

الرابع : أن ينتصب بالخصم ؛ لما فيه من معنى الفعل (٥).

قوله : (إِذْ دَخَلُوا) فيه وجهان :

أحدهما : أنه بدل من «إذ» الأولى.

الثاني : أنه منصوب بتسوّروا (٦).

ومعنى تسوروا علوا أعلى السّور (٧) ، وهو الحائط غير مهموز كقولك : تسنّم البعير أي بلغ سنامه. والضمير في «تسوّروا» و «دخلوا» راجع على الخصم ، لأنه جمع في المعنى على (٨) ما تقدم ، (أو على (٩) أنه مثنّى والمثنى جمع في المعنى. وتقدم) تحقيقه (١٠).

قوله : «خصمان» خبر مبتدأ مضمر أي نحن خصمان ولذلك جاء بقوله : «بعضنا» (١١) ، ومن قرأ : «بعضهم» (١٢) بالغيبة يجوز أن يقدره كذلك ويكون قد راعى لفظ : خصمان ، ويجوز أن يقدرهم خصمان ليتطابق (١٣) ، وروي عن الكسائي خصمان بكسر الخاء (١٤). وقد تقدم أنه قرأها كذلك في الحجّ.

قوله : (بَغى بَعْضُنا) جملة يجوز أن تكون مفسّرة لحالهم ، وأن تكون خبرا ثانيا (١٥).

فإن قيل : كيف قالا : بغى بعضنا على بعض وهما ملكان ـ على قول بعضهم ـ

__________________

(١) الواو ساقطة من ب.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٤٨.

(٣) أي هو. وهو الزمخشري.

(٤) وانظر مع هذا الدر المصون ٤ / ٥٩٩.

(٥) المرجع السابق فهو قول السمين.

(٦) اختار النحاس الأول ٤ / ٤٥٩ وكذلك أبو البقاء في التبيان ١٠٩٧ والمشكل ٢ / ٢٤٩ والبيان ٢ / ٣١٤ وجوز الثاني مع الأول المراجع السابقة عدا النّحاس.

(٧) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣٢٥ وانظر : الغريب ٣٧٨.

(٨) الدر المصون ٤ / ٥٩٩.

(٩) ما بين القوسين سقط من نسخة «ب».

(١٠) في [الحج : ١٩] وهي : «هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ».

(١١) معاني الفراء ٢ / ٤٥٩ ومعاني الزجاج ٤ / ٣٢٦ والبيان لابن الأنباري ٢ / ٣١٤ ومشكل الإعراب لمكي ٢ / ٢٤٩ والدر المصون للسمين ٤ / ٥٩٩.

(١٢) سبق أن هذه القراءة لم تنسب إلا في شواذ القرآن للكرماني ٢٠٧ لابن عمير.

(١٣) في ب ليطابق. وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٠٠.

(١٤) مختصر ابن خالويه ١٢٩ وقد رواها عن الكسائي أبو يزيد الخزان.

(١٥) الدر ٤ / ٦٠٠.

٣٩٥

والملكان لا يبغيان؟ قيل : معناه أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر ، وهذا من معاريض الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما (١).

قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) العامة على ضم التاء وسكون الشين ، وضم الطاء الأولى من (أ) (٢) شطط يشطط إشطاطا إذا تجاوز الحق (٣) ، قال أبو عبيدة : شططت في الحكم وأشططت إذا جرت (٤) ؛ فهو مما اتفق فيه فعل وأفعل (٥) ، وإنما فكّه على أحد الجائزين كقوله : (مَنْ يَرْتَدِدْ)(٦). وقد تقدم تحقيقه. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن أبي عبلة تشطط بفتح التاء وضم الطاء من «شطّ» بمعنى «أشطّ» كما تقدم (٧).

وقرأ قتادة : تشطّ من «أشطّ» رباعيا إلا أنه أدغم (٨). وهو أحد الجائزين كقراءة من قرأ : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) وعنه أيضا «تشطّط» بفتح الشين وكسر الطاء مشددة (٩) من شطّط يشطّط. والتثقيل فيه للتكثير. وقرأ زرّ بن حبيش تشاطط (١٠) من المفاعلة وأصل الكلمة من : شطّت الدّار وأطّت إذا (١١) بعدت. (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أرشدنا إلى طريق الصواب (١٢) فقال لهما داود : تكلّما فقال أحدهما : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) يعني امرأة (١٣)(وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) أي امرأة واحدة.

__________________

(١) قاله الإمام البغوي في : معالم التنزيل ٦ / ٤٧ وكذلك الخازن في : لباب التأويل ٦ / ٤٧.

(٢) الهمزة سقطت من ب.

(٣) في ب الحدّ. وانظر : غريب القرآن ٣٧٨ قال : يقال : أشططت ، إذا جرت وشطّت الدار إذا بعدت فهي تشطّ. وقال الزجاج : لا تجر يقال أشط يشط إذا جار. ويقرأ لا تشطط بمعنى لا تبعد عن الحق وكذلك لا تشطط معناه كمعنى الأول الزجاج ٤ / ٣٢٦ ونفس هذا المعنى من الفراء في المعاني ٢ / ٤٠٣.

(٤) الذي في المجاز «ولا تشطط أي لا تسرف ... ويقال كلّفتني شططا. ومنه : وشطّت الدّار أي بعدت». المجاز ٢ / ١٨٠. وقد نسب القرطبيّ في الجامع هذا القول لأبي عبيد القاسم بن سلّام.

انظر : القرطبي ١٥ / ١٧٢.

(٥) في ب وفاعل.

(٦) المائدة ٥٤ ، والبقرة ٢١٧ فيجوز : ولا تشطّ كما جاز ولا تشطط التي هي قراءة العامة كما قرأ قتادة القراءة الآتية.

(٧) معاني الفراء ٢ / ٤٠٣ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣٢٦ والكشاف ٣ / ٣٦٨ والمحتسب ٢ / ٢٣١ ومختصر ابن خالويه ١٢٩ و ١٣٠ وشواذ القرآن ٢٠٧ واللسان : «ش ط ط» ٢٢٦٤.

(٨) البحر المحيط ٧ / ٣٩٢ والدر المصون ٤ / ٦٠٠.

(٩) المرجعين السابقين. وانظر المختصر والكشاف وشواذ القرآن المراجع السابقة.

(١٠) هي من الأربع الشواذ فوق العشر المتواترة. انظر : الإتحاف ٣٧٢. وانظر : المختصر والكشاف والبحر والدّرّ المراجع السابقة.

(١١) انظر في هذا اللسان ٢٢٦٤.

(١٢) غريب القرآن ٣٧٨ ومعاني الفراء ٢ / ٤٠٣ والزجاج ٤ / ٣٢٦.

(١٣) السابق.

٣٩٦

قوله : (تِسْعٌ وَتِسْعُونَ) العامة على كسر التاء وهي اللغة الفاشية ، وزيد بن عليّ والحسن بفتحها (١). وهي لغيّة (٢) لبعض تميم ، وكثر في كلامهم الكناية بها عن المرأة ، قال ابن عون :

٤٢٦٢ ـ أنا أبوهنّ ثلاث هنّه

رابعة في البيت صغراهنّه

ونعجتي خمسا توفّيهنّه (٣)

وقال آخر :

٤٢٦٣ ـ هما نعجتان من نعاج تبالة

لدى جؤذرين أو كبعض دمى هكر (٤)

قال الحسين بن الفضل : هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي كقولهم : ضرب زيد عمرا ، أو اشترى بكر دارا. ولا ضرب هناك ولا شراء (٥).

قال الزمخشري : «أخي» بدل من «هذا» (٦) وقر عبد الله : «تسع (٧) وتسعون نعجة أنثى» (٨) وهذا تأكيد كقوله : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] وقال الليث : لنّعجة الأنثى من الضأن والبقر الوحشي والشاة والجمع النّعاج (٩).

قوله : (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) قال ابن عباس أعطنيها ، وقال مجاهد : انزل لي عنها. وحقيقته ضمّها إليّ واجعلني كافلها ، وهو الذي يعولها وينفق عليها ، والمعنى : طلقها لأتزوج إياها (١٠).

__________________

(١) اختلف في نسبة هذه القراءة لمن قرأ بها فقد نسبت في المختصر إلى الحسن وابن مسعود (١٣٠) ، ونسبها ابن جني في المحتسب ٢ / ٢٣١ إلى الحسن فقط وبخلاف عنه ، ونسبها أبو حيان والسمين في البحر والدرّ إلى الحسن وزيد بن علي كما سار عليه المؤلف أعلى ، ومن الأربع فوق العشر انظر : الإتحاف ٣٧٢ وشواذ القرآن ١٠٧.

(٢) تصغير لغة أي لغة قليلة ، فالتصغير هنا يفيد التقليل.

(٣) من الرجز والشاهد في قوله : «ونعجتي» حيث كنى بها عن المرأة.

وانظر القرطبي ١٥ / ١٧٢ ، والدر المصون ٤ / ٦٠١ والبحر المحيط ٧ / ٢٨٨.

(٤) من بحر الطويل لامرىء القيس. وتبالة موضع فيه النّعاج الحسان والدّمى جمع دمية وهي صور الرخام وهكر موضع تكثر فيه هذه الصور ، والجؤذر : ولد البقرة الوحشية. وشاهده كسابقه حيث كنى عن المرأة بالنعجة وهما هر وفر تنى في البيت قبل وانظر : ديوانه ١١٠ واللسان هكر ٤٦٨٠ والجمهرة لابن دريد ٢ / ٤١٥ والبحر ٧ / ٣٨٨ والدر على هامشه ٧ / ٣٨٩ والدر المصون ٤ / ٦٠١.

(٥) نقله الإمامان البغوي والخازن في معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ٤٧.

(٦) الكشاف ٣ / ٣٦٨.

(٧) تصحيح من العرف النحوي ؛ ففي النسختين : تسعة وتسعون بتاء التأنيث في «تسع».

(٨) كذا في الرازي ٢٦ / ١٩٦ وما في المختصر لابن خالويه «ولي نعجة أنثى» فالأنثى للفظ النعجة الواحدة وليس لتمييز التسع والتسعين. المختصر ١٣٠.

(٩) اللسان ٤٤٧١.

(١٠) البغوي والخازن ٦ / ٤٧.

٣٩٧

قوله : «وعزّني» أي غلبني ، قال :

٤٢٦٤ ـ قطاة عزّها شرك فباتت

تجاذبه وقد علق الجناح (١)

يقال : عزّه يعزّه بضم العين. وتقدم تحقيقه في يس عند قوله تعالى : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ.)

وقرأ طلحة وأبو حيوة : «وعزني» بالتخفيف (٢). قال ابن جنّي : حذف الزاي الواحدة تخفيفا كما قال الشاعر :

٤٢٦٥ ـ ..........

أحسن به فهنّ إليه شوس (٣)

يريد أحسسن فحذف. وتروى هذه قراءة عن عاصم. وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك : وعازّني بألف مع تشديد الزاي (٤) أي غالبني.

قوله : (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) مصدر مضاف لمفعوله. والفاعل محذوف أي بأن (٥) سألك نعجتك(٦) ، وضمّن السؤال معنى الإضافة والانضمام أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال ولذلك عدي (بإلى)(٧).

فصل

قال ابن الخطيب : للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال :

أحدها : أن هذه القصة دلت على صدور الكبيرة عنه.

وثانيها : دلالتها على الصغيرة.

وثالثها : لا تدل على كبيرة ولا على صغيرة ، فأما القول الأول فقالوا : إن داود

__________________

(١) من الوافر لقيس بن الملوح وهو مجنون ليلى ، و «قطاة» من طيور الصحراء و «عزّها» غلبها وأمسك بها. وهو موطن الشاهد حيث العزّ هنا وفي الآية الشريفة معناه الغلبة. وانظر البحر المحيط ٧ / ٣٨٨ والدر المصون ٤ / ٦٠١ والقرطبي ١٥ / ١٧٤ والكشاف ٣ / ٣٦٩ وشرح شواهده ٣٦٣ وكامل المبرد ٣ / ٣٧ وديوانه ٩٠.

(٢) من القراءات الشاذة غير المتواترة ، وانظر : الكشاف ٣ / ٣٦٩ وابن خالويه ١٣٠ والمحتسب ٢ / ٢٣٢.

(٣) عجز بيت من تمام الوافر لأبي زبيد الطّائيّ وصدره :

خلا أن العتاق من المطايا

 ..........

ديوانه ٩٦ وفي رواية الديوان : «حسسن» وعلى هذه الرواية فلا شاهد فيه والبيت يصف قوما تبعهم أسد وهم لا يحسون به إلا أن المطايا أحسّت به فهي تنظر بمؤخر عينها نحوه وهو معنى تشوس وشوس جمع أشوس والمؤنث شوساء. ويروى البيت : حسسن. وعليها أيضا فلا شاهد. والشاهد : «أحسن» حيث أن الأصل أحسسن فخفف بحذف أحد المثلين. وقد تقدم.

(٤) من الشواذّ. انظر : الكشاف ٣ / ٣٦٩ والمختصر ١٣٠.

(٥) في ب بأنه.

(٦) البيان ٢ / ٣١٤ والتبيان للعكبري ١٠٩٩ والبحر ٧ / ٣٩٣.

(٧) المرجع السابق.

٣٩٨

أحبّ امرأة «أوريا» فاحتال في قتل زوجها ثم تزوج بها ثم أرسل الله (تعالى) (١) ملكين في صورة (٢) المتخاصمين في واقعة تشبه واقعته (وعرضا (٣) تلك الواقعة عليه) فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنبا ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة. وقال ابن الخطيب : والذي أدين به وأذهب إليه أنّ ذلك باطل لوجوه:

الأول : أن هذه الحكاية لا تناسب داود لأنها لو نسبت إلى أفسق النّاس وأشدهم فجورا لانتفى منها ، والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه ورعا ولعن من نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إليه؟!.

الثاني : أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي وقتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول فأمر منكر ؛ قال ـ عليه (الصلاة و) السلام : «من سعى في دم مسلم ولو بشرّ كلمة جاء مكتوب عليه بين عينيه آيس من رحمة الله» (٤). وأما الثاني فمنكر عظيم ، قال ـ عليه (صلاة و) السلام ـ : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (٥). وإن «أوريا» لم يسلم من داود لا في روحه(٦) ولا في منكوحه.

الثالث : أن الله تعالى وصف داود بصفات تنافي كونه ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ موصوفا بهذا الفعل المنكر فالصفة الأولى أنه تعالى أمر محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (في) (٧) أن يقتدي بداود في المصابرة مع المكاره فلو قيل إنّ داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم مسلم لغرض شهوته (٨) فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمدا أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله؟!. وأما الصفة الثانية فإنه وصفه بكونه عبدا له ، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملا في وصف العبودية أما في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات ، فلو قلنا : إن داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملا إلّا في طاعة الهوى والشهوة. وأما الصفة الثالثة وهي قوله : (ذَا الْأَيْدِ) أي ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار ، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحظورات ، وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم؟! الصفة الرابعة : كونه أوّابا كثير الرجوع إلى الله تعالى فكيف يليق هذا بمن قلبه مشغوف بالقتل والفجور؟!. الصفة الخامسة : قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذوا (٩) سبيله

__________________

(١) سقطت من ب والرازي.

(٢) في ب بصورة وما هنا موافق للرازي.

(٣) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٤) رواه ابن ماجه في سننه ٢ / ٨٧٤ عن أبي هريرة.

(٥) رواه البخاريّ في صحيحه ١ / ١١ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(٦) كذا في الرازي وما في ب نفسه.

(٧) سقط من ب.

(٨) في «أ» شهرته والتصحيح من ب والرازي.

(٩) كذا في النسختين وما في الرازي ليتخذه وسيلة.

٣٩٩

إلى القتل والفجور؟! الصفة السادسة : قوله تعالى : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) قيل : إنه كان محرّما عليه صيد شيء من الطير فكيف يعقل أن يكون الطير آمنا (١) منه ولا يجوز (٢) أمن الرجل المسلم على زوجته ومنكوحه (٣). الصفة السابعة : قوله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) ومحال أن يكون المراد أنه تعالى : شد ملكه بأسباب الدنيا بل المراد بأنا ملكناه تقوى الدين وأسباب سعادة الآخرة ، أو المراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك؟! الصفة الثامنة : قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (والحكمة اسم (٤) جامع لكل ما ينبغي علما وعملا فكيف يجوز أن يقال : إنّا آتيناه) الحكمة وفصل الخطاب مع إصراره على ما يستنكف عنه الشيطان من مزاحمة أخصّ (٥) أصحابه في الروح والمنكوح؟! فهذه الصفات التي وصف بها قبل شرح القصّة.

وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فأولها (٦) قوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) وهذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة (على (٧) قوته في طاعة الله أما لو كانت القصة المتقدمة) دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) لائقا.

وثانيها : قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه :

الأول : أن الملك الكبير إذا حكي عن عبده أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم (٨) فعند فراغه من شرح قصته على الناس يقبح منه أن يقول عقيبه أيها العبد إنّي فوضت إليك خلافتي ونبوتي لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب (٩) الزجر والحجر فأما جعله نائبا وخليفة لنفسه فذلك مما (لا)(١٠) يليق البتة.

الثاني : أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة ، ثم قال بعده : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أشعر هذا (الوصف) (١١) بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة. ومعلوم أن هذا فاسد. أما لو ذكرنا أن تلك

__________________

(١) في ب آمنا معه وما هنا يوافق الرازي.

(٢) كذا في النسختين وما في الرازي : ولا ينجو منه الرجل المسلم.

(٣) كذا في الرازي وفي ب ومنكوحته.

(٤) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(٥) في ب أخس.

(٦) في ب وأولها وفي الرازي فهي عشرة.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٨) في ب وأزواجهم وأموالهم.

(٩) كذا هي في الرازي وفي ب تناسب.

(١٠) كلمة لا سقطت من ب.

(١١) الوصف سقط من ب.

٤٠٠