اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

واللام في قوله : «العزة» يفيد الاستغراق وإذا كان الكل ملكا له لم يبق لغيره شيء فثبت أن قوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات (١)(وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) ، الذين بلغوا عن الله التوحيد بالشرائع (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على هلك الأعداء ونصر الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ (٢).

روي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ قال «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر فليكن آخر كلامه من مجلسه : سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين» (٣). وروى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من قرأ سورة «والصافات» أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ جنّيّ وشيطان وتباعدت منه مردة الشياطين وبرىء من الشّرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا (٤).

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) قاله الإمام الرازي ٢٦ / ١٧٣.

(٢) البغوي ٦ / ٤٠ ، والقرطبي ١٥ / ١٤٢.

(٣) أخرجه البغوي في تفسيره معالم التنزيل عن أصبغ بن نباتة على عليّ ـ رضي الله عنه ـ انظر : المرجع السابق.

(٤) انظر هذا الحديث في الكشاف ٣ / ٣٥٨ ، ومجمع البيان ٨ / ٦٨١ ، والسّراج المنير ٣ / ٣٩٨ ، والبيضاوي ٢ / ١٦١.

٣٦١

سورة ص (١)

مكية (٢) وهي خمس وثمانون آية (٣) وسبعمائة واثنتان وثمانون (٤) كلمة ، وثلاثة آلاف وسبعة وستون (٥) حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ)(٣)

قوله تعالى : (ص) قرأ العامة بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور وقد مر ما فيه.

وقرأ أبيّ والحسن وابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة وأبو السّمّال بكسر الدال من غير تنوين (٦). وفيه وجهان :

أحدهما : أنه كسر لالتقاء الساكنين وهذا أقرب.

والثاني : أنه (أمر) (٧) من المصاداة وهي المعارضة ومنه صوت الصّدى لمعارضته لصوتك ، وذلك في الأماكن الصّلبة الخالية (٨).

والمعنى عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره (وانته عن نواهيه. قاله الحسن (٩). وعنه أيضا (١٠) أنه من صاديت أي حادثت) (١١) والمعنى حادث النّاس بالقرآن ، وقر ابن

__________________

(١) ويقال لها سورة «داود».

(٢) بالإجماع وانظر : زاد المسير ٧ / ٩٦ والقرطبي ١٥ / ١٤٢.

(٣) الأصحّ كما في القرطبي والبغوي أنها ستّ وثمانون آية وقيل : ثمان وثمانون آية.

(٤) كذا في النسختين والأصح وثلاثون.

(٥) في النسختين وتسعة وتسعون حرفا.

(٦) وانظر : المحتسب ٢ / ٢٣٠ والقرطبي ١٥ / ١٤٢ والمختصر ١٢٩ ومعاني الفراء ٢ / ٣٩٦ ومعاني الزجاج ٤ / ٣١٩ والإتحاف ٣٧١.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) انظر : المحتسب ٢ / ٢٣٠ والبحر المحيط ٧ / ٣٨٣ والدر المصون ٤ / ٥٧٩.

(٩) انظر : زاد المسير لابن الجوزي ٧ / ٩٧.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) ما بين القوسين كله سقط من ب.

٣٦٢

أبي إسحاق كذلك إلّا أنه نونه (١) وذلك على أنه مجرور بحرف قسم مقدر حذف وبقي عمله كقولهم : الله لأفعلنّ بالجر إلا أن الجر يقل في غير الجلالة ، وإنما صرفه ذهابا به إلى معنى الكتاب أو التنزيل (٢). وعن الحسن أيضا وابن السميقع وهارون الأعور (٣) صاد بالضم من غير تنوين (٤) على أنه اسم للسورة وهو (خبر) (٥) مبتدأ مضمر أي هذه صاد. ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث (٦) وكذلك قرأ ابن السّميقع وهارون قاف (٧) ونون (٨) بالضم على ما تقدم وقرأ عيسى وأبو عمرو ـ في رواية محبوب ـ صاد (٩) بالفتح من غير تنوين وهي تحتمل ثلاثة أوجه : البناء على الفتح تخفيفا كأين وكيف ، والجر بحرف القسم المقدر وإنما منع من الصرف للعلمية والتأنيث كما تقدم. والنصب بإضمار فعل أو على حذف حرف القسم (١٠) نحو قوله :

٤٢٣٢ ـ فذاك أمانة الله الثّريد (١١)

وامتنعت من الصرف لما تقدم. وكذلك قرأ (١٢) قاف ونون بالفتح (١٣) فيهما. وهما كما تقدم (١٤) ولم يحفظ التنوين مع الفتح والضم.

فصل

قيل : هذا قسم (١٥) ، وقيل : اسم للسورة كما ذكر في الحروف المقطعة في أوائل

__________________

(١) قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٥٨ والدر المصون ٤ / ٥٧٩.

(٢) بالمعنى من الكشاف للزمخشري قال : «وقد صرفها من قرأ «ص» بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل».

(٣) هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور العتكيّ البصري مولاهم علامة صدوق نبيل له قراءة معروفة روى عن عاصم الجحدري وابن محيصن وعبد الله بن كثير وغيرهم روى عنه عليّ بن نصر ، ويونس بن محمد المؤدب وغيرهما. مات قبل المائتين انظر : غاية النهاية ٢ / ٣٤٨.

(٤) ذكرها ابن خالويه في المختصر وهي من غير المتواتر. انظر : المختصر ١٢٩ والدر المصون ٤ / ٥٧٩.

(٥) سقط من ب وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٧٩ والقرطبي ١٥ / ١٤٣.

(٦) السابقان.

(٧) من قوله تعالى : «ق. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» [ق : ١].

(٨) من قوله : «ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» [القلم : ١] وانظر : مختصر ابن خالويه ١٤٤ ، والدر المرجع السابق.

(٩) القرطبي ١٥ / ١٤٣ والكشاف ٣ / ٣٥٨ وابن خالويه ١٢٩.

(١٠) البيان ٢ / ٣١١ والبحر المحيط ٧ / ٣٨٣ والدر المصون ٤ / ٥٧٩.

(١١) سبق هذا البيت وما ورد فيه من شواهد.

(١٢) أي عيسى وأبو عمرو.

(١٣) انظر : مختصر ابن خالويه ١٤٤ ، ١٥٩.

(١٤) من احتمال الأوجه الثلاثة التي ذكرها.

(١٥) أقسم الله به وهو من أسمائه رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. انظر : زاد المسير ٧ / ٩٧.

٣٦٣

السور (١). قال محمد بن كعب القرظيّ : (ص) مفتاح اسم الصّمد وصادق الوعد (٢). وقال الضحاك: معناه صدق الله (٣) وروي عن ابن عباس صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤). وقيل معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضته (٥).

فإن قيل : قوله (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) قسم فأين المقسم عليه؟.

فالجواب من وجوه :

أحدها : قال الزجاج والكوفيون غير الفراء : هو قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ)(٦) قال الفراء : لا نجده مستقيما لتأخيره جدا عن قوله (وَالْقُرْآنِ)(٧). وقال ثعلب والفراء هو قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا)(٨) والأصل : «لكم أهلكنا» فحذف اللام كما حذفها في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها)(٩) [الشمس : ٩] بعد قوله : (وَالشَّمْسِ) ، لما طال الكلام.

الثالث : قال الأخفش هو قوله : «إن كل لما كذب الرسل» (١٠) ، كقوله : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا) [الشعراء : ٩٧] وقوله : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ إِنْ كُلُ) [الطارق : ١ و ٤].

الرابع : قوله : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا)(١١).

الخامس : هو قوله : (ص) لأن المعنى والقرآن لقد صدق محمد قاله الفراء وثعلب (١٢) أيضا ؛ وهذا بناء منهما على جواز تقديم جواب القسم وأن هذا الحرف مقتطع من جملة دالّ هو عليها (١٣) وكلاهما ضعيف.

السادس : أنه محذوف (١٤). واختلفوا في تقديره فقال الحوفيّ تقديره : «لقد جاءكم الحق» ونحوه وقدره ابن عطية (١٥) : ما الأمر كما تزعمون. ودل على هذا المحذوف

__________________

(١) البغوي ٦ / ٤٠.

(٢) المرجع السابق.

(٣) السابق وانظر أيضا زاد المسير ٧ / ٩٧.

(٤) السابقان.

(٥) البغوي السابق.

(٦) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣١٩ وانظر التبيان ١٠٩٦ والبيان ٢ / ٣١١ والدر المصون ٤ / ٥٨٠ والقرطبي ١٥ / ١٤٤ وقد نسبه للكسائي وكذلك أبو حيان في البحر ٧ / ٣٨٣ وانظر : الإغفال للفارسي ١١٨٨.

(٧) المعاني له ٢ / ٢٩٧.

(٨) وانظر : المعاني للفراء ٢ / ٣٩٧.

(٩) معاني الأخفش ٦٦٩ ، ٦٧٠ وانظر أيضا البيان ٢ / ٣١٢ والتبيان والقرطبي المرجعين السابقين وانظر : البحر ٧ / ٣٨٣.

(١٠) نقله القرطبي في ١٥ / ١٤٤.

(١١) معاني الفراء ٢ / ٣٩٦ ، و ٣٩٧ وانظر أيضا الدر المصون ٤ / ٥٨٠ وزاد المسير ٧ / ٩٨.

(١٢) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٣٨٣ والسمين في الدر ٤ / ٥٨٠.

(١٣) وانظر : زاد المسير ٧ / ٩٩. وإليه ذهب قتادة وابن جرير في جامع البيان ٢٣ / ٧٦.

(١٤) قاله في البرهان في علوم القرآن. وانظر : البحر ٧ / ٣٨٣.

(١٥) في ب : ابن مالك. وهو تحريف.

٣٦٤

قوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا). والزمخشري : أنه لمعجز (١) ، وأبو حيان (٢) : إنّك لمن المرسلين. قال : لأنه نظير : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس : ١ ـ ٣].

وللزمخشري هنا عبارة بشعة (٣) جدا قال : فإن قلت : قوله : (ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) كلام ظاهر متناف غير منتظم فما وجه انتظامه؟.

قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز كما مر في أول الكتاب ثم أتبعه القسم محذوف الجواب بدلالة التّحدّي عليه كأنه قال : والقرآن ذي الذّكر إنه لكلام معجز.

والثاني : أن يكون (صاد) خبر مبتدأ محذوف على أنها اسم للسورة كأنه قال : هذه «ص» يعني هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر كما تقول : «هذا حاتم والله» تريد هو المشهور بالسخاء والله وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال : أقسمت بصاد والقرآن ذي الذكر إنه لمعجز. ثم قال : بل الّذين كفروا في عزّة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف (بالحق) (٤) وشقاق لله ورسوله. (و) جعلتها مقسما بها وعطفت عليها (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله ، وأن تريد السورة بعينها. ومعناه : أقسم بالسّورة الشّريفة والقرآن ذي الذّكر كما تقول : مررت بالرّجل الكريم وبالنّسبة المباركة ، ولا تريد بالنّسبة غير الرجل (٥). وقيل : فيه تقديم وتأخير (٦) تقديره بل الذين كفروا في عزّة وشقاق والقرآن ذي الذكر.

(والمراد بكون القرآن (٧) ذي الذكر) أي ذي الشرف (٨) ، قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] وقال : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠] كما تقول : «لفلان ذكر في النّاس». ويحتمل أن يكون معناه ذو النبأ (٩) أي فيه أخبار الأولين والآخرين وبيان العلوم الأصلية والفرعية.

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٣٥٩.

(٢) البحر ٧ / ٣٨٣.

(٣) لعل المصنّف بشّعها من ناحية الأسلوب فقد قال : «غير منتظم فما وجه انتظامه؟» وكأنه يعدل على كلام الله المعجز وكيف يكون مرصوصا تعالى الله عن ذلك علوا كثيرا. ولعل الزمخشري يقصد بالمنتظم التقديم والتأخير فعالم مثل هذا لا يخفى عليه العبارات الركيكة التي قد تشبهه وتدخله في منازل الإلحاد.

(٤) زيادة من الكشاف.

(٥) الكشاف ٣ / ٣٥٩.

(٦) نقله البغوي في تفسيره ولم يحدد قائله انظر : معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٤٠.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) قاله أبو إسحاق الزجاج في المعاني ٤ / ٣١٩.

(٩) في الرازي ذو البيانين (الأولين والآخرين). وانظر : الرازي ٢٦ / ١٧٥.

٣٦٥

قوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) إضراب انتقال من قصة إلى أخرى. وقرأ الكسائي ـ في رواية سورة(١) ـ وحماد بن الزّبرقان (٢) وأبو جعفر والجحدريّ : في غرّة (٣) بالغين المعجمة والراء. وقد نقل أن حمّادا (٤) الرواية قرأها (٥) كذلك تصحيفا فلما ردّت عليه قال : ما ظننت أن الكافرين في عزّة. وهو وهم منه ، لأن العزة المشار إليها حمية الجاهلية. والتنكير في (عزة وشقاق) دلالة على شدّتهما وتفاقمهما(٦).

فصل

قالت المعتزلة دل قوله : (ذي الذّكر) على أنه محدث ، ويؤيده قوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) [الأنبياء : ٥٠] (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس : ٦٩] ، والجواب : أنا نصرف دليلكم إلى ما نقرأه نحن به (٧).

فصل

قال القتيبيّ : بل لتدارك كلام ونفي آخر ، ومجاز الآية أن الله أقسم بصاد والقرآن ذي الذكر أن الذين كفروا من أهل مكة في عزة وحميّة جاهلية وتكبّر عن الحق وشقاق خلاف وعداوة لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٨) ـ وقال مجاهد : في عزة وتغابن (٩).

قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا) (كم) مفعول «أهلكنا» و (مِنْ قَرْنٍ) تمييز ، و (مِنْ قَبْلِهِمْ) لابتداء الغاية (١٠) والمعنى كم أهلكنا من قبلهم من قرن يعني من الأمم الخالية فنادوا استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النّقمة. وقيل : نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب (١١).

قوله : (وَلاتَ حِينَ) هذه الجملة في محل نصب على الحال من فاعل «نادوا» أي استغاثوا والحال أنه لا مهرب ولا منجى (١٢).

__________________

(١) هو سورة بن المبارك الخراساني الدّينوري. روى القراءة عن الكسائي وعنه محمد بن سمعان ، عن ابن مسعود وانظر : طبقات القراء ١ / ٣٢١.

(٢) كذا هنا وفي أكثر النسخ. وفي ب : الزبير وحماد بن الزبرقان. وقد مر ترجمته.

(٣) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٩ وانظر : البحر ٧ / ٣٨٣ والدر المصون ٤ / ٥٨١ والكشاف ٣ / ٣٥٩.

(٤) كان من أهل الكوفة مشهور بالأشعار والأخبار. وانظر : نزهة الألباء ٢٤ : ٢٧.

(٥) عزا ابن خالويه هذه القراءة إلى حماد بن الزبرقان السابق وعزاها صاحب شواذ القرآن لابن مسعود (٢٠٧).

(٦) وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٨١.

(٧) الرازي ٢٦ / ١٧٥.

(٨) قاله في تأويل المشكل وفي غريب القرآن له ٣٧٦ وانظر : تفسير البغوي ٤ / ٤١.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) الدر المصون ٤ / ٥٨١ ، ٥٨٢.

(١١) وانظر : الرازي ٢٦ / ١٧٥ والبغوي ٤ / ٤١.

(١٢) الدر المصون ٤ / ٥٨٢.

٣٦٦

وقرأ العامة «لات» بفتح التاء وحين منصوبة وفيها أوجه :

أحدها وهو مذهب سيبويه : أن لا نافية بمعنى ليس والتاء مزيدة فيها كزيادتها في ربّ وثمّ ، كقولهم: ربّت وثمّت وأصلها «ها» وصلت بلا فقالوا «لاه» كما قالوا «ثمّه» (١) ولا يعمل إلا في الزمان خاصة نحو : لات حين ، ولات أوان كقوله :

٤٢٣٣ ـ طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن ليس حين بقاء (٢)

وقوله الآخر :

٤٢٣٤ ـ ندم البغاة لات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم (٣)

والأكثر حينئذ حذف مرفوعها (٤) تقديره : ولات الحين حين مناص. وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع (٥). وقد قرأ هنا (٦) بذلك بعضهم لقوله :

٤٢٣٥ ـ من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح (٧)

أي لا براح ليّ. ولا تعمل في غير الأحيان على المشهور ، وقد تمسك بإعمالها في غير الأحيان في قوله :

٤٢٣٦ ـ حنّت نوار ولات هنّا حنّت

وبدا الّذي كانت نوار أجنّت (٨)

فإن «هنّا» من ظروف الأمكنة ، وفيه شذوذ من ثلاثة أوجه :

__________________

(١) انظر : التبيان ١٠٩٧ ومشكل الإعراب ٢ / ٢٤٧ والبيان ٢ / ٣١٢ والكشف ٢ / ٢٣٠ والقرطبي ١٥ / ١٤٦ ، ١٤٧ والدر المصون ٤ / ٥٨٢ والكشاف ٣ / ٣٥٩.

(٢) من الخفيف لأبي زبيد الطّائي. وانظر : معاني الأخفش ٦٧٠ والخصائص ٢ / ٣٧٧ والهمع ١ / ١٢٦ والأشموني ١ / ٢٥٦ والقرطبي ١٥ / ١٤٧ والخزانة ٤ / ١٨٣ وابن يعيش ٩ / ٣٢ والكشاف ٣ / ٣٥٩ والطبري ٢٣ / ٧٨ وديوانه ٣٠ والفراء ٢ / ٣٩٨.

(٣) البيت على رواية المؤلف من تمام الكامل لمحمد بن عيسى التميمي. وقيل : مهلهل بن مالك الكناني. وشاهده : «ولات ساعة» حيث عملت لات في الزمان خاصة. وانظر : الخزانة ٤ / ١٧٤ ، ١٧٥ ومعاني الفراء ٢ / ٣٩٧ والأشموني ١ / ٣٥٥ وابن الناظم ٥٨ وشرح الكافية للرضي ١ / ٢٧٠ والدر المصون ٤ / ٥٨٢.

(٤) وهو مذهب إمام النحاة سيبويه. وانظر الكتاب ١ / ٥٧ ، ٥٨.

(٥) انظر : المراجع السابقة وقبله الزجاج فقال : «والرفع جيد» بينما لم يحبذه الفراء في المعاني قال : «والكلام أن ينصب بها لأنها في معنى ليس».

(٦) أي في تلك الآية. وقد نسبها ابن خالويه إلى عيسى بن عمر. انظر : المختصر ١٢٩.

(٧) لسعد بن مالك من الكامل. وشاهده : «لا براح» حيث رفع الاسم وبقي وحذف الخبر المنصوب في لا العاملة عمل ليس وانظر : الأشموني ١ / ٥٤ والكتاب ١ / ٥٨ والمقتضب ٤ / ٣٦ والإنصاف ٣٦٧ وابن يعيش ١ / ١٠٨ وتمهيد القواعد ٢ / ٢٧ ، ٣٠ والسراج المنير ١ / ٣٩٩.

(٨) من الكامل كسابقه لشبيب بن جعيل التغلبي ، وقد تقدم.

٣٦٧

أحدها : عملها في اسم الإشارة وهو معرفة ولا تعمل إلا في النكرات.

الثاني : كونه لا ينصرف.

الثالث : كونه غير زمان. وقد رد بعضهم هذا بأن «هنا» قد خرجت عن المكانية واستعملت في الزمان كقوله تعالى : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) [الأحزاب : ١١] ، وقوله :

٤٢٣٧ ـ (وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت) (١)

فهناك يعترفون أين المفزع (٢)

كما تقدم في سورة الأحزاب.

إلا أن الشذوذين الأخيرين باقيان. وتأول بعضهم البيت أيضا بتأويل آخر وهو أن «لات» هنا مجملة لا عمل لها ، و «هنا» ظرف خبر مقدم و «حنت» مبتدأ بتأويل حذف «أن» المصدرية تقديره «أن حنّت» نحو : «تسمع بالمعيديّ (٣) خير من أن تراه». وفي هذا تكلف وبعد إلى أن فيه الاستراحة من الشذوذات المذكورة أو الشذوذين (٤). وفي الوقف عليها مذهبان : أشهرهما عند [علماء] العربية وجماهير القراء السبعة بالتاء المجبورة اتباعا لمرسوم الخط (٥) ، والكسائي وحده من السبعة بالهاء.

والأول : مذهب الخليل وسيبويه والزّجّاج والفراء وابن كيسان.

والثاني : مذهب المبرد (٦).

وأغرب أبو عبيد فقال : الوقف على «لا» والتاء متصلة بحين فيقولون : قمت تحين قمت وتحين كان كذا فعلت كذا ، وقال : رأيتها في الإمام كذا «ولا تحين» متصلة ، وأنشد على هذا أيضا قول أبي وجزة السّعديّ :

٤٢٣٨ ـ العاطفون تحين ما من عاطف

والمطعمون زمان لا من مطعم (٧)

__________________

(١) صدر البيت حذف من ب وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٨٣.

(٢) سبق الكلام على الشاهد هذا وهو هنا يستشهد بالبيت على أن «هناك» للزمان لا للمكان.

(٣) هذا مثل يضرب للشيء يظن به الخير فإذا حضر كان الأمر على خلافه ، وانظر : مجمع الأمثال للميداني ١ / ٢٢٧.

(٤) الدر المصون ٤ / ٥٨٣.

(٥) وانظر : مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٤٧ ومعاني الزجاج ٤ / ٣٢٠ وإعراب النحاس ٣ / ٤٥١ والبيان ٢ / ٣١٢ والتبيان ١٠٩٧ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٩٨ والإتحاف ١ / ٣٧ ، وإبراز المعاني ١ / ٢٧٤ ، ٢٧٥ والبحر المحيط ٧ / ٣٨٤ والمذكر والمؤنث لابن الأنباري ١ / ١٨٠ و ١٨٣ والإغفال للفارسي ٩٢ / ١١.

(٦) السابقة.

(٧) البيت من الكامل. وانظر : الخزانة ٤ / ١٧١ ، ١٧٥ والمذكر والمؤنث لابن الأنباري ١ / ١٨٣ ، ١٨٤.

وانظر : الغريب المصنف لأبي عبيد ٢٢٥ ، والأشموني ٤ / ٣٣٩ ومجمع البيان للطبرسي ٧ / ٧٢٥ والإنصاف ١٠٨ ومجالس ثعلب ٣٧٤ وتمهيد القواعد ٢ / ٣٧ والدر المصون ٤ / ٥٨٣ ، ٥٨٤ ، وفتح القدير ٤ / ٤٢٠ وإعراب القرآن للنحاس ٣ / ٤٥١ ، ٤٥٣ وجامع البيان للطبري ٢٣ / ٧٨ بزيادة (هاء) العاطفونه والمطعمونه.

٣٦٨

ومنه حديث ابن عمر وسأله رجل عن عثمان فذكر مناقبه ثم قال : «اذهب تلان إلى أصحابك» يريد «الآن» (١) والمصاحف إنما هي لات حين. وحمل العامة ما رآه على أنه مما شذ عن قياس الخط كنظائر له مرت. فأما البيت فقيل فيه : إنه شاذ لا يلتفت إليه (٢).

وقيل : إنه إذا حذف الحين المضاف إلى الجملة التي فيها «لات حين» جاز أن يحذف (لا) وحدها ويستغنى عنها بالتاء ، والأصل : العاطفون حين لات حين لا من عاطف ، فحذف الأول ولا وحدها كما أنه قد صرح بإضافة حين إليها في قول الآخر :

٤٢٣٩ ـ وذلك حين لات أوان حلم

 ..........(٣)

ذكر هذا الوجه ابن مالك (٤) ؛ وهو متعسف (٥) جدا. وقد يقدر إضافة «حين» إليها من غير حذف لها كقوله :

٤٢٤٠ ـ تذكّر حبّ ليلى لات حينا

 ..........(٦)

أي حين لات حين. وأيضا فكيف يصنع أبو عبيد بقوله : «ولات ساعة مندم ، ولات أوان» فإنه قد وجدت التاء من «لا» دون حين؟!

الوجه الثاني من الأوجه السابقة : أنها عاملة عمل «أن» يعني أنها نافية للجنس فيكون «حين مناص» اسمها ، وخبرها مقدر تقديره ولات حين مناص لهم ، كقولك : لا غلام سفر لك. واسمها معرب لكونه مضافا (٧).

__________________

(١) تفسير البغوي ٤ / ٤١.

(٢) قال بذلك شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٥٨٤.

(٣) صدر بيت من الوافر مجهول قائله عجزه :

 ..........

ولكن قبلها اجتنبوا أذاتي

وقبله :

لعلّ حلومهم يأوي إليكم

إذا شمّرت واضطربت شذاتي

وشاهده : إضافة حين إلى لات. وانظر الهمع ١ / ١٢٦ والخزانة ٤ / ١٧٨ وتمهيد القواعد ٢ / ٣٦ وشرح التسهيل للمرادي ١ / ٣٩٩ والارتشاف ٤٦٤ والدر المصون ٤ / ٥٨٤.

(٤) نقله في التسهيل ٥٧ قال : «وقد يضاف إليها حين لفظا أو تقديرا وربما استغني مع التقدير عن «لا» بالتاء».

(٥) لما فيه من التكلف والتأويل فالأصل عدم التأويل.

(٦) صدر بيت من الوافر عجزه :

 ..........

وأمسي الشّيب قد قطع القرينا

والبيت مما جهل قائله ، وانظر فتح القدير ٤ / ٤٢٠ ومجمع البيان ٧ / ٧٢٥ بلفظ : وأضحى الشيب.

وشاهده : تقدير حين مضافة إلى «لات» من غير حذف لها كما حدث في البيت السابق على أحد الآراء. وانظر : معاني الفراء ٢ / ٣٩٧ والخزانة ٤ / ١٧٨ والهمع ١ / ١٢٦ وتمهيد القواعد ٢ / ٣٦ والتذييل ٢ / ٥١٢ وشرح التسهيل للمرادي ١ / ٣٩١ وإعراب النحاس ٣ / ٤٥٣.

(٧) نسب هذا القول للأخفش والكوفيين. وانظر خزانة الأدب للبغدادي ٤ / ٢٧٣ والهمع للإمام السيوطي ١ / ١٢٦ ولم أجد في معاني الأخفش عن هذه الآية ما يفيد ذلك.

٣٦٩

الثالث : أنّ بعدها فعلا مقدّرا ناصبا لحين مناص بعدها أي لات أرى حين مناص لهم بمعنى لست أرى ذلك ، ومثله : «لا مرحبا بهم ولا أهلا ولا سهلا» أي لا أتوا مرحبا ولا وطئوا سهلا ولا لقوا أهلا.

وهذا الوجهان ذهب إليهما الأخفش (١). وهما ضعيفان وليس إضمار الفعل هنا نظير إضماره في قوله :

٤٢٤١ ـ ألا رجلا جزاه الله خيرا

 ..........(٢)

لضرورة أن اسمها المفرد النكرة مبني على الفتح فلما رأينا هنا معربا قدرنا له فعلا خلافا للزجّاج فإنه يجوز تنوينه في الضرورة ويدعي أن فتحته للإعراب ، وإنما حذف التنوين للتخفيف ويستدلّ بالبيت المذكور(٣) وقد تقدم تحقيق هذا.

الرابع : أن لات هذه ليست هي «لا» مرادا فيها تاء التأنيث. وإنما هي ليس فأبدلت السين تاء ، وقد أبدلت منها في مواضع قالوا : النّات يريدون الناس ومنه ستّ وأصله سدس ، وقال :

٤٢٤٢ ـ يا قاتل الله بني السّعلات

عمرو بن يربوع شرار النّات

ليسوا بأخيار ولا أليات (٤)

وقرىء شاذا : «قل أعوذ برب النات» (٥) إلى آخرها [الناس : ١ ـ ٦] يريد شرار

__________________

(١) وانظر هذا وما قبله في الدر المصون للسمين ٤ / ٥٨٥.

(٢) صدر بيت من الوافر لعمرو بن قعناس أو قعاس عجزه : يدل على محصلة تبيت. والمحصلة المرآة التي تحصل تراب المعدن ويروى تبيت مفتوح الأول ومضمومه ، والشاهد : ألا رجلا حيث أن بعد لا إذا كان منصوبا منونا فإنه يكون على تقدير فعل أي ألا ترونني رجلا ، ويروى هذا البيت بالجر على تقدير من الاستغراقية ألا من رجع فمثل هذا البيت يجوز فيه تقدير الفعل العامل لوجود المقتضي لذلك بخلاف ما عداه من أبيات مغايرة. وقد تقدم.

(٣) هذا مذهب الجرميّ والزّجاجي والسيرافي أيضا والرماني وهو مردود عليهم بأن حذفه من النكرة المطولة كان أولى وبأنه لم يعهد حذف التنوين إلا لمنع صرف أو إضافة أو وصف العلم بابن أو ملاقاة ساكن أو وقف أو بناء. وهذا ليس واحدا مما قبل البناء فتعين البناء وانظر : التسهيل ٦٧ والهمع ١ / ١٤٦ وهامش الكتاب (لرأي السيرافي) ٢ / ٢٧٥.

(٤) جاءت هذه الأبيات شاهدا على إبدال السين تاء ، كما أن لات هذه التي معنا ليست هي لا المزاد عليها التاء وإنما هي ليس ولكن أبدلت السين تاء وقلبت الياء ألفا حتى لا تلتبس بحرف التمني وهو ليت وهذا على أحد الآراء في «لات». والأكياس جمع كيّس وهو اللبيب العاقل ومنه حديث الرسول :لاالمؤمن كيّس فطن وتلك الأبيات من مشطور الرجز لعلباء بن أرقم اليشكري ووردت في الممتع غير أعفّاء ولا أكيات.

(٥) الآيات الثلاث من الست سورة الناس. ونقلها ابن خالويه في المختصر ١٨٣. وهي شاذة غير متواترة ـ

٣٧٠

الناس ولا أكياس فأبدل ، ولما أبدل السين تاء خاف من التباسها بحرف التمني فقلب الياء ألفا فبقيت تاء «لات» وهو من الاكتفاء بحرف العلة ، لأن حرف العلة لا يبدل ألفا إلّا بشرط منها أن يتحرك ، وأن ينفتح ما قبله فيكون «حين مناص» خبرها والاسم محذوف على ما تقدم والعمل هنا بحقّ الأصالة لا الفرعيّة (١).

وقرأ عيسى بن عمر : ولات حين مناص بكسر التاء (٢) وجر حين. وهي قراءة مشكلة جدا ، زعم الفراء أن لات يجر بها وأنشد :

٤٢٤٣ ـ ولتندمنّ ولات ساعة مندم (٣)

وأنشد غيره :

٤٢٤٤ ـ طلبوا صلحنا ولات أوان (٤)

وقال الزمخشري : ومثله قول أبي زبيد الطّائي :

٤٢٤٥ ـ طلبوا صلحنا ...

البيت. قال : فإن قلت : ما وجه الجر في أوان؟.

قلت : شبّه بإذ في قوله :

٤٢٤٦ ـ وأنت إذ صحيح (٥)

في أنه زمان قطع عنه (٦) المضاف إليه وعوض منه التنوين لأن الأصل : ولات أوان (٧) صلح. فإن قلت : فما تقول في «حين مناص» والمضاف إليه قائم؟ قلت : نزل قطع المضاف إليه من «مناص» لأن أصله حين مناصهم منزلة قطعه من «حين» لاتّحاد (٨)

__________________

ـ وزعم أبو عمرو أنها لغة قضاعة ، وقال السيوطي في الاقتراح : إنها كانت في أهل اليمن وتسمى الوتم انظر : الاقتراح (٢٠١).

(١) قاله صاحب الدر ٤ / ٨٦.

(٢) مختصر ابن خالويه ١٢٩ والكشاف ٣ / ٣٥٩ والدر المصون ٤ / ٥٨٦ وانظر : البحر ٧ / ٣٨٤ والقرطبي ١٥ / ١٤٨ وشواذ القرآن ٢٠٧.

(٣) قال الفراء ومن العرب من يضيف لات فيخفض وأنشد البيت ثم قال : ولا أحفظ صدره رغم أن له من أنشد له صدرا كالقرطبي وغيره. وقد سبق هذا البيت عن قريب وجاء هنا شاهدا على جر لات لما بعدها.

(٤) سبق أيضا هذا البيت عن قريب وجاء به هنا شاهدا على جر لات لما بعدها.

(٥) جزء من بيت من بحر الوافر لأبي ذؤيب الهذلي تمامه :

هيتك عن طلابك أمّ عمرو

بعافية ...

وشاهده : قطع «إذ» عن الإضافة وتعويضها بالتنوين. وانظر شرح ابن يعيش ٨ / ٣١ والأشموني ١ / ٣٦ والخصائص ٢ / ٣٧٦ وحاشية يس ٢ / ٣٩ والكشاف ٣ / ٣٥٩ وشرح شواهده ٤ / ٣٦٣ والخزانة ٦ / ٥٣٩.

(٦) في ب : منه.

(٧) في ب : حين.

(٨) في ب : لإعلال.

٣٧١

المضاف والمضاف إليه وجعل تنوينه عوضا عن المضاف المحذوف ، ثم بين الجهة لكونه مضافا إلى غير متمكن انتهى (١).

وخرجها أبو حيان على إضمار «من» (٢) والأصل ولات من حين مناص فحذفت «من» وبقي عملها نحو قولهم : «على كم جذع بنيت بيتك» أي من جذع في أصحّ القولين (٣). وفيه قول آخر : أنّ الجر (٤) بالإضافة مثل قوله :

٤٢٤٧ ـ ألا رجل جزاه الله خيرا (٥)

أنشدوه بجرّ رجل أي ألا من رجل.

وقد يتأيد بظهورها في قوله :

٤٢٤٨ ـ ..........

وقال ألا لا من سبيل إلى هند (٦)

قال : ويكون موضع (من حين مناص) رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقول : ليس من رجل قائما والخبر محذوف ، وهذا على قول سيبويه ، (و) (٧) على أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول الأخفش (٨). وخرج الأخفش «ولات أوان» على حذف مضاف يعني أن (ه) (٩) حذف المضاف وبقي المضاف إليه مجرورا على ما كان والأصل ولات حين أوان (١٠).

وقدر هذا الوجه مكي بأنه كان ينبغي أن يقوم المضاف إليه مقامه في الإعراب فيرفع (١١).

__________________

(١) وانظر : الكشاف ٣ / ٣٥٩.

(٢) التي تفيد الاستغراق.

(٣) انظر : البحر المحيط ٧ / ٣٨٤.

(٤) ليس في كلام أبي حيان ما يفيد الجر بالإضافة وكيف تجيء الإضافة التي في مثل قولنا : على كم جذع بيتك فهل يقصد المؤلف الإضافة أي إضافة لات لما بعدها ولا يعرف حرف أضيف لاسم فالمؤلف قد وهم في هذا كما وهم من قبل السمين في الدر ٤ / ٥٨٧.

(٥) وقد سبق هذا البيت عن قريب برواية ألا رجلا على أن رجلا معمول لمحذوف وهنا جاءت بخفض رجل على أنها ـ أي رجل ـ مخفوضة بمن على زعم أبي حيان. وانظر : البحر ٧ / ٣٨٤ والدر المصون ٤ / ٥٨٨.

(٦) عجز بيت من الطويل صدره :

فقام يذود النّاس عنها بسيفه

 ..........

وهو مجهول القائل ، وجيء بالبيت على تأكيد من بظهورها غير مقدرة وهي «من» الزائدة حيث وقعت بعد استفهام ونفي ودخلت على نكرة والأصل لا سبيل. وقد تقدم.

(٧) الواو سقطت من ب.

(٨) انظر : البحر المحيط ٧ / ٣٨٤.

(٩) الهاء زيادة من أ.

(١٠) وقد سبق أن النحاس في الإعراب رد هذا الوجه كما رده مكي وانظر : معاني الأخفش ٦٧٠.

(١١) قاله في مشكل الإعراب ٢ / ٢٤٨.

٣٧٢

قال شهاب الدين : قد جاء (١) بقاء المضاف إليه على جرّه وهو قسمان قليل وكثير : فالكثير أن يكون في اللفظ مثل المضاف نحو قوله :

٤٢٤٩ ـ أكلّ امرىء تحسبين امرءا

ونار توقّد باللّيل نارا (٢)

أي وكل نار ، والقليل أن لا يكون كقراءة من قرأ : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) بجر الآخرة فليكن هذا منه. على أن المبرد رواه بالرفع على إقامته (٣) مقام المضاف ، وقال الزجاج : الأصل (٤) ولات أواننا ، فحذف المضاف إليه فوجب أن لا يعرف وكسره لالتقاء الساكنين.

وقال أبو حيان : وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري أخذه من أبي إسحاق (٥) يعني الوجه الأول وهو قوله ولات أوان صلح. هذا ما يتعلق بجر «حين» وأما كسرة لات فعلى أصل التقاء الساكنين كحين (٦) إلا أنه لا يعرف تاء تأنيث (٧) إلّا مفتوحة (٨). وقرأ عيسى أيضا بكسر التاء فقط ونصب حين كالعامة (٩). وقرأ أيضا ولات حين بالرفع (١٠). مناص بالفتح (١١). وهذه قراءة مشكلة جدا لا تبعد عن الغلط من راويها عن عيسى فإنه بمكان (١٢) من العلم المانع له من مثل هذه القراءة (١٣). وقد خرجها أبو الفضل الرازي في لوامحه على التقديم والتأخير وأن «حين» أجري مجرى «قبل وبعد» في بنائه على الضم عند قطعه عن الإضافة بجامع ما بينه وبينها من الظرفية الزمانية و «مناص» اسمها مبني على الفتح فصل بينه وبينها بحين المقطوع عن الإضافة والأصل : ولات مناص حين كذا ، ثم حذف المضاف إليه حين وبني على الضم وقدم فاصلا بين لات واسمها قال : وقد

__________________

(١) قاله في الدر المصون ٤ / ٥٨٨ ، ٥٨٩.

(٢) البيت من بحر المتقارب ، وهو لأبي دؤاد الإيادي وهو بيت مشهور في النحو. وشاهده حذف المضاف وبقاء المضاف إليه فلم يأخذ مكانه في الإعراب ـ وهو النصب هنا ـ لأن الشرط هنا أن المحذوف وهو المضاف في اللفظ مثل ما عطف عليه وهو المضاف الأول. وقد تقدم.

(٣) لم أجد هذا في المقتضب ولا في الكامل وقد نقل هذا الرأي عن المبرد الإمام أبو جعفر النحاس في الإعراب ٣ / ٤٥٤ ومكي في المشكل ٢ / ٢٤٨ والسمين في الدر ٤ / ٩ والقرطبي في الجامع ١٥ / ١٤٩.

(٤) قاله في معاني القرآن وإعرابه له ٤ / ٣٢١.

(٥) البحر المحيط ٧ / ٣٨٤.

(٦) فكان الأصل حين بسكون النون فحركت النون للتخفيف لالتقاء الساكنين.

(٧) في ب : التأنيث بأل.

(٨) وما تقرأه من لعبت وسمعت ومثل هذا فجاءوا بالتسكين حتى لا يتوالى أربع حركات في الكلمة.

(٩) مختصر ابن خالويه ١٢٩ وإعراب النحاس ٣ / ٤٥٢ والبحر ٧ / ٣٨٤.

(١٠) المختصر السابق والدر المصون ٤ / ٥٨٩.

(١١) المرجع الأخير السابق.

(١٢) في ب : بمكانة أي عيسى ببعد عن هذه الأشياء.

(١٣) انظر : الدر المصون ٤ / ٥٨٩.

٣٧٣

يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه (١). وقد روي (٢) في تاء لات الفتح والكسر والضمّ (٣).

(قوله) (٤) : «فنادوا» لا مفعول له لأن الأصل فعلوا النداء من غير قصد منادى (٥). وقال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطربوا نادى بعضهم لبعض مناص أي عليكم بالفرار فلما أتاهم العذاب قالوا مناص فقال الله لهم : ولات حين مناص (٦). قال القشيري (٧) فعلى هذا يكون التقدير فنادوا فحذف لدلالة ما بعده (عليه) (٨)(٩).

قال شهاب الدين : فيكون قد حذف المنادى وهو بعضا وما ينادون به وهو «مناص» أي نادوا بعضهم بهذا اللفظ (١٠) وقال الجرجانيّ (١١) : أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا منجى ولا فوت ، فلما قدم «لا» وأخر «حين» اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا مثل ما تقول : جاء زيد راكبا ، ثم تقول : جاء وهو راكب ، «فحين» ظرف لقوله : «فنادوا» (١٢) (وقال أبو حيان (١٣) : وكون أصل هذه الجملة فنادوا حين لا مناص وأن حين ظرف لقوله) : فنادوا دعوى أعجمية (١٤) في نظم القرآن والمعنى على نظمه في غاية الوضوح (١٥). قال شهاب الدين : الجرجانيّ لا يعني أن «حين» ظرف «لنادوا» في التركيب الذي عليه القرآن الآن إنما يعني بذلك في أصل المعنى والتركيب كما شبه ذلك بقوله : «جاء زيد راكبا ، ثم جاء زيد وهو راكب» «فراكبا» في التركيب الأول

__________________

(١) انظر هذا في البحر المحيط لأبي حيان أثير الدين ٧ / ٣٨٤ والدر المصون ٤ / ٥٨٩.

(٢) في ب : وقد قرىء بدل روي وكلا اللفظين صحيحان.

(٣) فلات بالفتح هي قراءة العامة وروي لات عن عيسى ولات عن أبي السّمّال انظر : مختصر ابن خالويه ١٢٩.

(٤) سقط من نسخة ب.

(٥) الدر المصون ٤ / ٥٩٠.

(٦) السابق وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣٨٤ والقرطبي ١٥ / ١٤٥ بلفظ «فاضطروا».

(٧) هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد الإمام الكبير أبو القاسم القشيري النيسابوري الزاهد الصوفي صنّف من المصنفات الكثير منها التفسير الكبير وهو من أجود التفاسير مات سنة ٤٦٥ ه‍ انظر : طبقات المفسرين للداودي ١ / ٣٤٤ ، ٣٥٢ وطبقات السيوطي ٧٣ ، ٧٤ وإنباه الرواة للقفطيّ ٢ / ١٩٣ وخلاصة الكمال ٣٣٦.

(٨) سقط من ب.

(٩) وانظر : الدر والبحر والقرطبي المراجع السابقة.

(١٠) الدر المصون ٤ / ٥٩٠.

(١١) لعله أبو علي الجرجاني صاحب نظم القرآن الحسن بن علي بن نصر بن منصور الطّوسي عن محمد بن رافع والزبير بن بكار مات سنة ٣٠٨ ه‍. انظر : طبقات المفسرين للداودي ١ / ١٤١ ، ١٤٢. وانظر أيضا طبقات الحفاظ للذهبي ٣ / ٧٨٧.

(١٢) نقله الإمام القرطبي في الجامع ١٥ / ١٤٦ وأبو حيان في البحر ٧ / ٨٤ والسمين في الدر ٤ / ٥٩٠.

(١٣) ما بين القوسين كله سقط من ب.

(١٤) وفي البحر : المخالفة لنظم القرآن.

(١٥) انظر : البحر المحيط ٧ / ٣٨٤.

٣٧٤

حال وفي الثاني خبر مبتدأ كذلك حين كان (في (١) الأصل) ظرف للنداء ، ثم صار خبر «لات» أو اسمها على حسب الخلاف المتقدم (٢).

و «المناص» مفعل من ناص ينوص أي هرب فهو مصدر (٣). يقال ناصه ينوصه إذا فاته فهو متعدّ ، وناص ينوص أي تأخر (٤) ، ومنه ناص عن قرنه أي تأخر عنه جبنا. قاله الفراء (٥). وأنشد قول امرىء القيس : [من الطويل]

٤٢٥٠ ـ أمن ذكر سلمى إن نأتك تنوص

فتقصر عنها حقبة وتنوص (٦)

قال أبو جعفر النحاس : ناص ينوص إذا تقدم (٧) فيكون من الأضداد ، واستناص طلب المناص(٨) ، قال حارثة بن بدر :

٤٢٥١ ـ غمر الجراء إذا قصرت عنانه

بيدي استناص ورام جري المسحل (٩)

ويقال : ناص إلى كذا ينوص نوصا إذا التجأ إليه. قال بعضهم المناص المنجى والغوث ، يقال ناصه ينوصه إذا أغاثه (١٠) ، قال ابن عباس : كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطربوا في الحرب قال بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخذوا حذركم ، فلما نزل بهم العذاب ببدر ، وقالوا مناص فأنزل الله تعالى : ولات حين مناص أي ليس حين هذا القول (١١).

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) الدر المصون ٤ / ٥٩٠ وهو يدافع عن رأي أبي علي الجرجاني وهو رأي ظريف له وجهة نظر ويقصد بالخلاف المتقدم آراء سيبويه والأخفش وكل الآراء السابقة.

(٣) ميمي من الثلاثي المضموم العين والأجوف الواوي فيجيء على «مفعل» كما رأينا.

(٤) فهو لازم.

(٥) قال والنوص التأخر في كلام العرب ، والبوص التقدم وقد بصته. انظر : المعاني له ٢ / ٣٩٧ واللسان : «ن وص» ٤٥٧٦ وغريب القرآن ٣٧٦ والمجاز ٢ / ١٧٦.

(٦) البيت له كما في ديوانه ١٧٧ وأنشد شاهدا على أن النّوص هو التأخر. وصدره في تفسير القرطبي ١٥ / ١٤٦ برواية إذا الظرفية. وانظر اللسان «ن وص» ٤٥٧٦ وغريب القرآن ٣٧٦ وتأويل المشكل ٢٥٥ وجامع البيان للطبري ٢٣ / ٧٦ والدر المصون ٤ / ٥٩٠ ، ٥٩١ وروي في الديوان خطوة بدل حقبة. وانظر أيضا فتح القدير ٤ / ٤٢٠ والبحر ٧ / ٣٨٤ واللسان : «ب وص» ٣٨٦. وزاد المسير ٧ / ١٠١.

(٧) قاله في الإعراب ٣ / ٤٥٠.

(٨) كذا في السمين ٤ / ٥٩١ وفي اللسان : استناص أي تأخّر. اللسان ٤٥٧٦.

(٩) من الكامل التام وهو لحارثة بن بدر. وهو يصف فرسا له وغمر : واسع كثير والجراء مصدر جرى وهو للفرس خاصة والمسحل حمار الوحش سمي بذلك لكثرة سحاله أي شهيقه. وهو يصفه بالسرعة الشديدة وعدم الكسل وبالمهارة المطلوبة وأتى به ليبين أن استناص بمعنى طلب المهرب. وانظر اللسان ٤٥٧٦ : «ن وص» وجرى ٦١٠ والبحر ٧ / ٣٨١ والكشاف ٣ / ٣٥٩ وشرح شواهده ٥٠٠.

(١٠) نقله الرازي في تفسيره ٢٦ / ١٧٦.

(١١) نقله البغوي والخازن في تفسيريهما معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ٤١.

٣٧٥

قوله تعالى : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ)(١١)

قوله : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ) أي من أن ، ففيها الخلاف المشهور. (وَقالَ الْكافِرُونَ) من باب وضع الظاهر موضع المضمر شهادة عليهم بهذا الوصف القبيح (١).

فصل

لما حكى عن الكفار في كونهم في عزّة وشقاق أتبعه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) وفي قوله : «منهم» وجهان :

الأول : أنهم قالوا : إن محمدا مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة فكيف يعقل أن يختصّ من بيننا بهذا المنصب العالي؟!.

والثاني : أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهلهم (لأنهم (٢) جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا ثم إن هذا الرجل) من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيدا عن الكذب والتهمة وكان ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إنهم لحماقتهم يتعجبون له من قوله. ونظيره قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [المؤمنون : ٦٩] (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) مبالغة في «عجب» كقولهم : رجل طوال (٣) ، وأمر سراع ، هما أبلغ من طويل وسريع (٤) ، وقرأ عليّ والسّلمي وعيسى وابن مقسم : عجّاب (٥) بتشديد الجيم. وهي أبلغ مما قبلها فهي مثل رجل كريم وكرام بالتخفيف وكرّام بالتشديد.

__________________

(١) معنى كلام الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٥٩ ، ٣٦٠.

(٢) ما بين القوسين كله قد سقط من ب.

(٣) ومن هنا سمي النحوي المعروف بالطوال فتلك صفة ولقب.

(٤) قاله أبو عبيدة في المجاز ٢ / ١٧٦ ، ١٧٧ وابن قتيبة في الغريب ٣٧٦ والفراء في المعاني ٢ / ٣٩٨ والزجاج في المعاني ٤ / ٣٢١.

(٥) أجيزت لغويا من الزجاج والفراء في المرجعين السابقين وهي من الشواذ وقد نقلها الكشاف ٣ / ٣٦٠ وابن جني في المحتسب ٢ / ٢٣٠ وابن خالويه في المختصر ١٢٩.

٣٧٦

قال مقاتل : وعجاب ـ يعني بالتخفيف ـ لغة أزد شنوءة (١) ، وهذه القراءة أعني بالتشديد كقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) [نوح : ٢٢]. وهو أبلغ من كبار وكبار أبلغ من كبير ، وقوله : «أجعل» أي أصيّرها إلها واحدا في قوله وزعمه.

قوله : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) الملأ : هم القوم الذين إذا حضروا امتلأت العيون والقلوب من مهابتهم (٢) ، وقوله «منهم» أي من قريش انطلقوا عن مجلس أبي طالب بعد ما بكّتهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالجواب العنيد قائلين بعضهم لبعض : (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) ، وذلك أن عمر بن الخطاب أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنّا الوليد بن المغيرة قال لهم : امشوا إلى أبي طالب فأتوا أبا طالب وقالوا له : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا قد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فأرسل أبو طالب إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فدعا به فقال يا ابن أخي : هؤلاء قومك يسألونك السّواء فلا تمل كلّ الميل على قومك ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ماذا تسألون؟» فقالوا : ارفض ذكر آلهتنا وندعك وآلهتك فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال أبو جهل لله أبوك لنعطيكها وعشرا أمثالها فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يسع الخلق كلهم إله واحد؟! (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي عجيب (٣).

قوله : (أَنِ امْشُوا) يجوز أن تكون «أن» مصدرية أي انطلقوا بقولهم أن امشوا (٤) ، وأن تكون مفسّرة إما «لانطلق» لأنه ضمن معنى القول (٥) ، قال الزمخشري : لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم أن يتكلموا ويتعارضوا فيما جرى لهم انتهى (٦).

وقيل : بل هي مفسرة لجملة محذوفة في محل حال تقديره وانطلقوا يتحاورون أن امشوا (٧).

ويجوز أن تكون مصدرية معمولة لهذا المقدر (٨). وقيل : الانطلاق هنا الاندفاع في

__________________

(١) البحر ٧ / ٣٨٥ والدر المصون ٤ / ٥٩١ والقرطبي ١٥ / ١٥٠.

(٢) الرازي ٢٦ / ١٧٨.

(٣) نقله البغوي والخازن في تفسيريهما معالم التنزيل ولباب التأويل ٦ / ٤١ ، ٤٢ وانظر كذلك الكشاف ٣ / ٣٦٠ وزاد المسير ٧ / ١٠٣.

(٤) نقله أبو البقاء في كتابه التبيان ١٠٩٧ كما نقله السمين في الدر ٤ / ٥٩٢.

(٥) وهو مفهوم كلام النحاس في الإعراب ٤ / ٤٥٤ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣١٣ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٦٠.

(٦) السابق.

(٧) البحر ٧ / ٣٨٥ والسمين ٤ / ٥٩٢.

(٨) السابقان.

٣٧٧

القول والكلام نحو : انطلق لسانه (١) فأن مفسرة له من غير تضمين ولا حذف. والمشي الظاهر أنّه هو المتعارف. وقيل : (بل) (٢) هو دعاء بكثرة الماشية. وهذا فاسد لفظا ومعنى ، أما اللفظ فلأنه إنما يقال من هذه المعنى : أمشى الرّجل إذا كثرت ماشيته ، بالألف ؛ أي صار ذا ماشية فكان ينبغي على هذا أن يقرأ أمشوا بقطع الهمزة مفتوحة (٣). وأما المعنى فليس مرادا البتة وأي معنى على ذلك (٤) ، إلا أن الزمخشري ذكر وجها صحيحا من حيث الصناعة وأقرب معنى ممّا تقدم (فقال (٥)) : ويجوز أنهم قالوا امشوا أي اكثروا واجتمعوا من : مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ، ومنه : الماشية للتفاؤل انتهى (٦) وإذا وقف على «أن» وابتدىء (٧) بما بعدها فليبتدأ (٨) بكسر الهمزة لا بضمّها ، لأن الثالث (٩) مكسور تقديرا إذ الأصل : امشيوا ، ثم أعلّ بالحذف (١٠) ، وهذا كما يبتدأ بضم الهمزة في قولك : أغزي يا امرأة ، وإن كانت الزاي مكسورة لأنها مضمومة ، إذا الأصل اغزوي كاخرجي فأعلّ بالحذف (١١).

فصل

لما أسلم عمر وحصل للمسلمين قوة لمكانه (١٢) قال المشركون : إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لشيء يراد بنا ، وقيل : يراد بأهل الأرض ، وقيل : يراد بمحمد (أن) (١٣) يملك علينا (١٤) ، وقيل : إن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ عنكم (١٥).

قوله : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ) أي ما سمعنا بهذا الذي يقول (ه) (١٦) محمد من التوحيد في الملة الآخرة ، قال ابن عباس والكلبي ومقاتل : يعنون في النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون : ثالث ثلاثة ، وقال مجاهد وقتادة : يعنون ملّة قريش دينهم الذي هم عليه (١٧).

__________________

(١) هذا معنى كلام الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٦٠ قال : «يجوز أن يراد بالانطلاق الاندفاع في القول وأنهم قالوا امشوا أي اكثروا واجتمعوا».

(٢) سقط من ب.

(٣) قال بهذين الوجهين صاحب الدر المصون ٤ / ٥٩٢ والبحر ٧ / ٣٨٥.

(٤) السابق.

(٥) سقط من ب.

(٦) الكشاف ٣ / ٣٦٠.

(٧) في ب : ابتدأ بالبناء للفاعل غير مراد.

(٨) كذلك في ب : فليبتدىء بالبناء للفاعل أيضا. وهو غير مراد أيضا.

(٩) أي الحرف الثالث وهو الشين.

(١٠) بأن تطرفت الواو وحذفت فاستثقل الضم على الياء فنقل إلى الشين وحذفت الواو بعد ما اجتمع ساكنان هي والياء.

(١١) الدر ٤ / ٥٩٢.

(١٢) في ب : بمكانه.

(١٣) سقط من ب.

(١٤) البغوي ٢٦ / ٤٢.

(١٥) الرازي ٢٦ / ١٧٨.

(١٦) الهاء ساقطة من ب.

(١٧) معالم التنزيل المرجع السابق.

٣٧٨

قوله : «في الملّة» وفيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق «بسمعنا» أي (لم نسمع في الملة الآخرة بهذا الذي جئت به.

والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من هذا أي ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة) (١) أي لم نسمع من الكهّان ولا من أهل الكتب أنه يحدث توحيد الله في الملة الآخرة. وهذا من فرط كذبهم.

قوله : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي افتعال وكذب.

(قوله) (٢) : أأنزل عليه الذّكر (من بيننا) ، قد تقدم حكم هاتين الهمزتين في أوائل آل عمران(٣) ، وأن الوارد منه في القرآن ثلاثة أماكن (٤) ، والإضرابات في هذه الآية واضحة و «أم» منقطعة (٥).

فصل

المعنى أأنزل عليه الذكر أي القرآن من بيننا وليس بأكبرنا ولا أشرفنا ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار فأجابهم الله تعالى بقوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) (أي وحيي (٦) وما أنزلت) ، (وقيل : بل هم في شك (٧) من ذكري) أي من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول ، وقيل : معنى (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) هو أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يخوفهم من عذاب الله لو أصروا على الكفر. ثم إنهم أصروا على الكفر ولم ينزل عليهم العذاب فصار (٨) ذلك سببا لشكهم في صدقه و (قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) [الأنفال : ٣٢] (من السّماء) (٩).

قوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) يعني مفاتيح نعمة ربك وهي النبوة يعطونها

__________________

(١) انظر في هذا البحر لأبي حيان ٧ / ٣٨٥ والكشاف للزمخشري ٣ / ٣٦١ والدر المصون للسمين ٤ / ٥٩٣ وما بين القوسين كله سقط من ب.

(٢) سقط من النسختين فهي زيادة تكميلية.

(٣) عند قوله تعالى :«قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ» من الآية ١٥ منها.

(٤) يقصد بالأماكن الثلاثة هذه الآية التي نحن بصددها من «ص» والآية التي حققت الآن من سورة «آل عمران» والآية ٢٥ من سورة «القمر» «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» فتلك ثلاث آيات في ثلاثة أماكن مختلفة.

(٥) يقصد بالإضراب (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ) و (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ). ومعنى انقطاع أم عدم مفارقة الإضراب لها والإضراب هنا متضمن استفهاما إنكاريا. (بتصرف من المغني ٤٤).

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) سقط أيضا من ب.

(٨) في ب : فجاز وهو مخالف لما في الرازي.

(٩) من السماء زيادة من ب.

٣٧٩

من شاءوا ، ونظيره : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] أي نبوة ربك العزيز في ملكه الكامل القدر الوهاب أي وهب النبوة لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

قوله : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) لما قال : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) فخزائن الله تعالى غير متناهية كما قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [الحجر : ٢١] ومن جملة تلك الخزائن السموات والأرض ، فلما ذكر الخزائن أولا على العموم أردفها بذكر السموات والأرض وما بينهما يعني أن هذه الأشياء أحد أنواع خزائن الله فإذا كانوا عاجزين عن هذا القسم فبأن يكونوا عاجزين عن كل خزائن الله أولى (١).

قوله : «فليرتقوا» قال أبو البقاء : هذا كلام محمول على المعنى أي إن زعموا ذلك فليرتقوا ، فجعلها جوابا لشرط مقدر (٢).

وكثيرا ما يفعل الزمخشري ذلك ، ومعنى الكلام إن ادّعوا شيئا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون.

قال مجاهد : أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه ، وهذا أمر توبيخ وتعجيز (٣). واستدل حكماء الإسلام بقوله : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات أسبابا ، وذلك يدل على ما ذكرنا (٤).

قوله : «جند» يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم جند (٥) و «ما» فيها وجهان :

أحدهما : أنها مزيدة (٦).

والثاني : أنها صفة لجند (٧) على سبيل التعظيم للهزء بهم أو للتحقير ومثله قول امرىء القيس :

__________________

(١) وانظر : تفسير الرازي ٢٦ / ١٧٩ ، ١٨٠ وتفسير البغوي ٦ / ٤٢.

(٢) قاله في التبيان ١٠٩٧.

(٣) انظر فيما سبق معالم التنزيل للبغوي ولباب التأويل للخازن ٦ / ٤٢.

(٤) قاله الإمام الرازي في التفسير الكبير ٢٦ / ١٨٠.

(٥) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٣٨٦ والدر المصون للسمين ٤ / ٥٩٣ ، والوجه الثاني ـ وهو ما قالت به معظم المراجع ـ أن جند مبتدأ والخبر الظرف أو «مهزوم» وانظر : التبيان ١٠٩٨ والبيان ٢ / ٣١٣ ، ومشكل الإعراب ٢ / ٢٤٨.

(٦) إعراب النحاس ٣ / ٤٥٦ والبيان والتبيان السابقان وكذلك المشكل وكذلك الفراء في المعاني ٢ / ٣٩٩ والزجاج في المعاني ٤ / ٣٢٢ وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٩٣ والبحر ٧ / ٣٨٦.

(٧) هذا رأي الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٦٢ وأبي حيان في البحر ٧ / ٣٨٦ رغم أن الزمخشري أقر بزيادتها.

٣٨٠