اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

شِيعَتِهِ) أي من أهل دينه وسنته وفي الضمير وجهان :

أظهرهما : أنه يعود على «نوح» أي ممن كان يشايعه أي يتبعه على دينه والتصلب في أمر الله(١).

الثاني : أنه يعود على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو قول الكلبي (٢). والشيعة قد تطلق على المتقدم كقوله:

٤٢١٨ ـ وما لي إلّا آل أحمد شيعة

وما لي إلّا مشعب الحقّ مشعب (٣)

فجعل (آل) أحمد (٤) وهم متقدمون عليه وهو تابع لهم شيعة له ، قاله الفراء (٥) ، والمعروف أن الشيعة تكون في المتأخر. قالوا كان بين نوح وإبراهيم (نبيان (٦) هود وصالح ، وروى الزمخشري أنه كان بين نوح وإبراهيم) ألفان وستمائة وأربعون سنة (٧).

قوله : (إِذْ جاءَ) في العامل فيه وجهان :

أحدهما : اذكر مقدرا. وهو المتعارف.

والثاني : قال الزمخشري : ما في الشيعة من معنى المشايعة يعني وإن ممّن شايعه على دينه وتقواه حين جاء (٨) ربّه ، قال أبو حيان : (لا يجوز (٩) لأن فيه) الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو «لإبراهيم» ؛ (لأنه أجنبي (١٠) من «شعته» ومن «إذ» وزاد المنع أن قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم) ؛ (لأنه قدر ممن (١١) شايعه فجعل العامل قبله صلة لموصول ، وفصل بينه وبين «إذ» بأجنبي وهو «لإبراهيم») ، وأيضا فلام الابتداء (١٢) تمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها لو قلت : إنّ ضاربا (١٣) لقادم علينا زيدا (١٤) تقديره : أن ضاربا زيدا قادم علينا. لم يجز (١٥).

__________________

(١) وهو قول الأكثريين.

(٢) واختاره الفراء في المعاني ٢ / ٣٨٨ وانظر : زاد المسير لابن الجوزي ٧ / ٦٦.

(٣) من الطويل وهو للكميت بن زيد مادح بيت أهل النبوة وجيء به ليدل على أن الشيعة من الإمكان أن تطلق على المتقدم من الناس وهذا بخلاف العادة والعرف وفيه شاهد نحوي آخر وهو أنه يجوز أن يتقدم المستثنى على المستثنى منه فالأصل : وما لي شيعة إلا آل أحمد. وكذا في الشطر الثاني.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) المعاني ٢ / ٣٨٨.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٧) الكشاف ٣ / ٣٤٤.

(٨) قال الزمخشري بالوجهين أيضا المرجع السابق وانظر : التبيان ١٠٩١.

(٩) سقط من ب فقط.

(١٠) ما بين القوسين أيضا ساقط من ب بسبب انتقال النظر أيضا.

(١١) ما بين القوسين زيادة من الشارح شرحا لكلام أبي حيان.

(١٢) في البحر لام التوكيد.

(١٣) في ب : ضارب رفعا غير مراد.

(١٤) وفيها زيد رفعا أيضا غير مراد.

(١٥) وانظر : البحر ٧ / ٢٦٥.

٣٢١

فصل

قال مقاتل والكلبيّ : المعنى أنه سليم من الشّرك ؛ لأنه أنكر على قومه الشّرك لقوله : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ). وقال الأصوليون : معناه أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل معصية (١).

قوله : (إِذْ قالَ) بدل من «إذ» الأولى ، أو ظرف لسليم أي سلم عليه في وقت قوله كيت وكيت ، أو ظرف لجاء ، ذكره أبو البقاء (٢) ، وقوله : (ما ذا تَعْبُدُونَ) استفهام توبيخ وتهجين لتلك الطريقة وتقبيحها (٣).

قوله : «أئفكا» فيه أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله ، أي أتريدون آلهة دون الله إفكا ، فآلهة مفعول به ، ودون ظرف «لتريدون» وقدمت معمولات الفعل اهتماما بها ، وحسّنه كون العامل رأس فاصلة ، وقدم المفعول من أجله على المفعول به اهتماما به لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري (٤).

الثاني : أن يكون مفعولا وتكون «آلهة» بدلا منه (٥) ، جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها عنه وفسره بها (٦). ولم يذكر ابن عطيّة غيره (٧).

الثالث : أنه حال من فاعل «تريدون» أي تريدون آلهة أفكين أو ذوي إفك ، وإليه نحا الزمخشري (٨).

قال أبو حيان : وجعل المصدر حالا لا يطرد إلا مع أمّا نحو : أمّا علما فعالم (٩) ، والإفك أسوأ الكذب.

قوله : (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أتظنون بربّ العالمين أنه جوز جعل هذه الجمادات مشاركة في المعبودية ، أو تظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى

__________________

(١) انظر الرازي ٢٦ / ١٤٦.

(٢) التبيان ١٠٩١ وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٥٩.

(٣) قاله الإمام الفخر الرّازي في تفسيره ٢٦ / ١٤٦.

(٤) انظر هذا في الزمخشري في كشافه ٣ / ٣٤٤ والتبيان لأبي البقاء ١٠٩١ والدّر للسمين ٤ / ٥٥٩ والبحر ٧ / ٣٦٥.

(٥) ذكره أبو حيان في البحر عن ابن عطية ٧ / ٣٦٥ والسمين في الدر وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٠٦ ومكي في مشكل الإعراب ٢ / ٢٣٨ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٤٣ ، ٣٤٤.

(٦) السمين ٤ / ٥٥٩ ، و ٥٦٠.

(٧) المرجع السابق وهو البحر المحيط.

(٨) الكشاف ٣ / ٣٤٤ وانظر : البحر أيضا المرجع السابق.

(٩) السابق.

٣٢٢

جعلتموها مساوية له في المعبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء. أو فما ظنكم برب العالمين إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره أنه يصنع بكم؟

قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم ، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خاليا في بيت الأصنام فيقدر على كسرها.

فإن قيل : النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أخبرهم بخلاف حاله؟

فالجواب : من وجوه.

الأول : أن نظره في النجوم أي في أوقات الليل والنهار ، وكانت تأتيه الحمّى في بعض ساعات الليل والنهار فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال : إني سقيم فجعله عذرا في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقا فيما قال ، لأن السّقم كان يأتيه في ذلك الوقت.

الثاني : أنهم كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على أمورهم فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علم النجوم كما تقول : «نظر فلان في الفقه» أي في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في علمهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال : إني سقيم سكنوا إلى قوله ، وأما قوله : إنّي سقيم فمعناه سأسقم كقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) أي ستموت.

الثالث : أن نظره في النجوم هو قوله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ) (الليل) (١)(رَأى كَوْكَباً) إلى آخر الآيات فكان نظره لتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي قديمة أو محدثة؟ وقوله : «إنّي سقيم أي سقيم القلب أي غير عارف بربّي ، وكان ذلك قبل البلوغ.

الرابع : قال ابن زيد : كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مرض إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال : إني سقيم أي هذا السّقم واقع لا محالة.

الخامس : أن قوله : إني سقيم أي مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الكهف : ٦].

السادس : أنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام ؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخاصّية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم لأن قوله : إني سقيم على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفكّ في أكثر حاله عن حصول حالة

__________________

(١) سقط من ب.

٣٢٣

مكروهة (١) إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم (٢).

السابع : قال ابن الخطيب : قال بعضهم ذلك القول عن إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ كذبا. وأوردوا فيه حديثا عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «ما كذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات» (٣).

قلت (٤) لبعضهم : هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل لأن فيه نسبة الكذب (إلى إبراهيم (٥) فقال ذلك الرجل فكيف نحكم بكذب الرّاوي العدل؟) فقلت : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل عليه (الصلاة و) السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى. ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أي في نجوم كلامهم ومتفرّقات أقوالهم ، فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال : إنها منجّمة (٦) أي متفرقة. ومنه : نجمت (٧) الكتابة ، والمعنى : أنه لما جمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم ، فلم يجد عذرا أحسن من قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ؛ (والمراد : أنه لا بدّ (٨) من أن أصير سقيما كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر : إنك مسافر ، ولما قال : إني سقيم) تولّوا عنه مدبرين وتركوه ، وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.

قوله : «فراغ» أي مال في خفية ، وأصله من روغان الثعلب ، وهو تردده وعدم ثبوته بمكان ، ولا يقال : راغ (٩) حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه ومجيئه ، فقال استهزاء بها : (أَلا تَأْكُلُونَ) يعني الطعام الذي كان بين أيديهم (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) قاله أيضا استهزاء ، فراغ عليهم مال عليهم مستخفيا (١٠).

قوله : «ضربا» مصدر واقع موقع الحال أي فراغ عليهم ضاربا ، أو مصدر لفعل ذلك الفعل حال تقديره فراغ يضرب ضربا (١١) ، أو ضمن راغ معنى «يضرب» وهو بعيد (١٢) ،

__________________

(١) كذا في الرازي وفي ب وفي أمكررة.

(٢ و ٣) وانظر الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ٢٦ / ١٤٧ ، ١٤٨.

(٤) هذا قول الرازي في تفسيره ٢٦ / ١٤٨.

(٥) ما بين القوسين ساقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٦) كذا هي في الرازي وفي أأما في ب فهي نجمة.

(٧) في الرازي وب نجوم وهو الأصح.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٩) في ب : أراغ بهزة التعدية وهو غير المراد. وانظر : اللسان ١٧٧٩ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨٨.

(١٠) وانظر كل هذا في الرازي ٢٦ / ١٤٨.

(١١ و ١٢) قال بالقول الأول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٠٩ وبالأقوال الثلاثة أبو حيان في البحر ٧ / ٣٦٦ والسمين في الدر ٤ / ٥٦٠ ، وكذا الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٤٥ بينما قال بالثاني والثالث أبو البقاء في التبيان ١٠٩١ وبالثالث فقط مكي في المشكل ٢ / ٢٣٨.

(١١ و ١٢) قال بالقول الأول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣٠٩ وبالأقوال الثلاثة أبو حيان في البحر ٧ / ٣٦٦ والسمين في الدر ٤ / ٥٦٠ ، وكذا الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٤٥ بينما قال بالثاني والثالث أبو البقاء في التبيان ١٠٩١ وبالثالث فقط مكي في المشكل ٢ / ٢٣٨.

٣٢٤

و «باليمين» متعلق «بضربا» إن لم تجعله مؤكدا وإلا فلعامله (١) ، واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر وأن يراد بها القوة (٢) ، فالباء (٣) على هذا للحال أي ملبسا (٤) بالقوة ، وأن يراد بها الحلف وفاء ، بقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ)(٥) [الأنبياء : ٥٧] والباء على هذا للسبب (٦) ، وعدي «راغ» الثاني «بعلى» لما كان مع الضرب المستولي عليهم من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم ، وأتى بضمير العقلاء في قوله : «عليهم» جريا على ظن عبدتها أنها كالعقلاء(٧).

قوله (تعالى) : (يَزِفُّونَ) حال من فاعل «أقبلوا». و «إليه» يجوز تعلقه بما قبله أو بما بعده (٨) ، وقرأ حمزة يزفّون. بضم الياء (٩) من أزفّ. وله معنيان :

أحدهما : أنه من أزف يزفّ أي دخل في الزفيف (١٠). وهو الإسراع ، أو زفاف العروس ، وهو المشى على هيئة ؛ لأن القوم كانوا في طمأنينة من أمرهم ، كذا قيل. وهذا الثاني ليس بشيء ، إذ المعنى أنهم لما سمعوا بذلك بادروا مسرعين ، فالهمزة على هذا ليست للتعدية (١١).

والثاني : أنه من أزفّ غيره أي حمله على الزفيف وهو الإسراع ، أو على الزّفاف (١٢) ، وقد تقدم ما فيه ، وباقي السبعة بفتح الياء من زفّ الظليم (١٣) يزفّ أي عدا بسرعة (١٤). وأصل الزفيف للنعام. وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد (١٥) والضحاك وابن أبي عبلة : يزفون من وزف يزف أي أسرع إلا أنّ الكسائيّ والفراء قالا لا نعرفها بمعنى زفّ (١٦). وقد عرفها غيرهما ، قال مجاهد ـ وهو بعض من قرأ بها ـ : الوزيف

__________________

(١) السمين ٤ / ٥٦٠.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٤٥ والقرطبي ١٥ / ٩٤.

(٣) في ب : غالبا. وهو تحريف.

(٤) كذا في أوفي ب ملتبسا وهما قريبان.

(٥) أصنامكم سقط من ب.

(٦) بالمعنى من الكشاف ٣ / ٣٤٥ واللفظ من السمين ٤ / ٥٦٠.

(٧) السابق.

(٨) السابق أيضا.

(٩) من المتواتر انظرها في السبعة ٥٤٨ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨٨ والكشاف ٣ / ٣٤٥ وحجة ابن خالويه ٣٠٢ والنشر ٢ / ٣٥٧.

(١٠) وأزف عن ابن الأعرابي وقال اللحياني : أزف بعد اللغتين اللسان ١٨٤٢.

(١١) البحر ٧ / ٣٦٦ والسمين ٤ / ٥٦١.

(١٢) الكشف ٢ / ٢٢٥ والكشاف ٣ / ٣٤٥ وقد تعرض للأول أيضا.

(١٣) ذكر النعام.

(١٤) وانظر السبعة ٥٤٨.

(١٥) هو عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن القرشي المقرىء البصري ثم المكي إمام كبير في الحديث ومشهور في القراءات ثقة روى الحروف عن عاصم ، وله اختيار في القراءة ينسب إليه. مات سنة ٢١٣ ه‍. انظر : طبقات القراء ١ / ٤٦٣ وانظر قراءته هو ومن تبعه في المختصر لابن خالويه ١٢٨ والمحتسب لابن جني ٢ / ٢٢١ والكشاف ٣ / ٣٤٥ والدر المصون ٤ / ٥٦١.

(١٦) قال في المعاني : «وقد قرأ بعض القراء يزفون بالتخفيف كأنه من وزف يزف ، وزعم الكسائي أنه لا ـ

٣٢٥

النسلان (١) ، وقرىء : يزفّون مبنيا للمفعول ويزفون كيرمون من زفاه بمعنى حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه (٢) ، وبين قوله : «فأقبلوا» وقوله (فَراغَ عَلَيْهِمْ) جمل محذوفة يدل عليها الفحوى أي فبلغهم الخبر ، فرجعوا من عيدهم ونحو هذا (٣).

قال ابن عرفة (٤) : من قرأ بالنصب (٥) فهو من زفّ يزفّ (ومن (٦) قرأ بالضم فهو من : أزفّ يزف) (٧). قال الزجاج : يزفون يسرعون ، وأصله من زفيف النعامة وهو من أشدّ (٨) عدوها.

قوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) لما عاتبوا إبراهيم على كسر الأصنام ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها فقال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ووجه الاستدلال : أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبودا البتة فإذا نحته وشكله على الوجه المخصوص لم يحدث فيه الآثار تصرفه فلو صار معبودا عند ذلك لكان معناه أن الشيء الذي لم يكن معبودا إذا حصلت آثار تصرّفاته (٩) فيه صار معبودا (إلى (١٠) (ذلك)) ، وفساد ذلك معلوم ببديهة العقل.

قوله : (وَما تَعْمَلُونَ) في «ما» هذه أربعة أوجه :

أجودها : أنها بمعنى الذي أي وخلق الذي تصنعونه (١١) ، فالعمل هنا التصوير والنحت نحو : عمل الصانع السّوار الذي صاغه. ويرجح كونها بمعنى الذي تقدم «ما» قبلها فإنها بمعنى الذي أي أتعبدون الذي تنحتون والله خلقكم وخلق الذي تعملون (ه) (١٢) بالنحت (١٣).

__________________

ـ يعرفها. وقال الفراء : لا أعرفها أيضا إلا أن تكون لم تقع إلينا». المعاني ٢ / ٣٨٩.

(١) انظر : البحر المحيط ٧ / ٣٦٦ والدر المصون ٤ / ٥٦١ وانظر أيضا اللسان : «وزف» ٤٨٢٦.

(٢) لم ينسب أبو حيان ولا الزمخشري هاتين القراءتين في البحر ٧ / ٣٦٦ والكشاف ٣ / ٣٤٥ ونسب ابن منظور الأولى للأعمش ونسبها صاحب الشواذ لابن مقسم ونسب الثانية لابن أبي عبلة الشواذ ٢٠٦ ، وانظر معنى الثانية في الكشاف.

(٣) وهو ما يسمى بإيجاز الحذف. انظر : الدر المصون ٤ / ٥٦٢ ، ٥٦٣.

(٤) أبو عبد الله إبراهيم بن محمد الواسطي كان عالما بالحديث والعربية أخذ عن ثعلب والمبرد وغيرهما مات سنة ٣٣٣ انظر : نزهة الألباء ١٧٥ : ١٧٧.

(٥) يقصد نصب الياء.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) وانظر : الرازي ٢٦ / ١٤٨.

(٨) في المعاني : ابتداء. وانظر : المعاني ٤ / ٣٠٩.

(٩) تصحيح من الرازي ففي النسختين تصرفاتي.

(١٠) ما بين القوسين الكبيرين سقط من ب وما بين القوسين الصغيرين سقط من أ. وانظر : الرازي ٢٦ / ١٤٩.

(١١) في ب : يصنعونه. وقال بموصولية ما الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٤٥ وأبو البقاء في التبيان ١٠٩١ ونقلها مكي في المشكل ٢ / ٢٣٩ ورجحه أبو حيان في البحر ٧ / ٣٦١ والسمين في الدر ٤ / ٥٦٣.

(١٢) الهاء سقطت من ب.

(١٣) وانظر المرجع الأخير السابق.

٣٢٦

والثاني : أنها مصدرية أي خلقكم وأعمالكم (١) ، وجعلها الأشعريّة دليلا على خلق أفعال العباد لله تعالى وهو الحق ، إلا أن دليل ذلك من هنا غير قوي لما تقدم من ظهور كونها بمعنى الذي (٢) ، وقال مكي : يجب أن تكون ما والفعل مصدرا جيء به ليفيد أن الله خالق الأشياء كلها. وقال أيضا : وهذا أليق لقوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) [الفلق : ٢] أجمع القراء على الإضافة فدل على أنه خالق الشر. وقد فارق عمرو بن عبيد (٣) الناس فقرأ من شرّ بالتنوين (٤) ليثبت مع الله خالقين (٥) ، وشنع الزمخشري على القائل هنا بكونها مصدرية.

والثالث : أنها استفهامية (٦) ، وهو استفهام توبيخ ، أي : (و) أيّ شيء تعملون؟

الرابع : أنها نافية (٧) ، أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم (لا) (٨) تعملون شيئا ، والجملة من قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) حال. ومعناها حسن أي أتعبدون الأصنام على حالة تنافي ذلك وهي أن الله خالقكم وخالقهم جميعها ، ويجوز (٩) أن تكون مستأنفة.

فصل

دلت الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ (ما) مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله (١٠) : (وَما تَعْمَلُونَ) معناه وعملكم ، وعلى هذا فيصير معنى الآية : والله خلقكم وخلق عملكم.

فإن قيل : هذه الآية حجة عليكم من وجوه :

الأول : أنه تعالى قال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة

__________________

(١) مشكل الإعراب ٢ / ٢٣٩. وهو اختياره ورجحه على غيره. وانظر أيضا البيان ٢ / ٣٠٦ والإعراب ٣ / ٤٣٠ والتبيان ١٠٩١ والسمين ٤ / ٥٦٢.

(٢) السابق وانظر : مشكل الإعراب ٢ / ٢٣٩.

(٣) هو عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري وردت عنها الرواية في حروف القرآن روى عن الحسن وسمع منه وعنه بشار بن أيوب مات سنة ١٤٤ ه‍ انظر : غاية النهاية ٢ / ٦٠٢.

(٤) نقلها أبو حيان في بحره عن ابن عطية البحر ٨ / ٥٣٠ وكذلك صاحب مشكل الإعراب ٢ / ٢٣٩ ونسبها ابن خالويه إلى عمرو بن فائد ص ١٨٢.

(٥) انظر : مشكل الإعراب لمكي المرجع السابق.

(٦) المرجع السابق وانظر : التبيان ١٠٩١ والبيان ٢ / ٣٠٦ والإعراب ٣ / ٤٣٠ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٤٠ والبحر المحيط ٧ / ٣٦٧ والدر المصون ٤ / ٥٦٢.

(٧) المرجعان الأخيران.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) قاله السمين أيضا في الدر ٤ / ٥٦٢ فإن كانت حالا فهي في محل نصب ، وإن كانت مستأنفة فلا محلّ لها من الإعراب كما هو العهد والعرف.

(١٠) تصحيح من السياق والرازي ففي النسختين (بقوله).

٣٢٧

الفعل إلى الفاعل ولو كان ذلك دافعا بتخليق الله لاستحال كونه فعلا (للعبد) (١).

الثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخا لهم على عبادة الأصنام ؛ لأنه تعالى لما ذكر هذه الآية بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام ، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق ، فلما تركوا عبادته ـ سبحانه وتعالى ـ وهو خالقهم وعبدوا الأصنام لا جرم أنه سبحانه وبّخهم على هذا الخطأ العظيم فقال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ولو لم يكونوا فاعلين لأعمالهم لما جاز توبيخهم عليها سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم ولكن لا نسلم أنها حجة لكم فقولكم : لفظ ما مع ما بعدها في تقدير المصدر قلنا : ممنوع لأن سيبويه والأخفش اختلفا هل يجوز أن يقال : أعجبني ما قمت أي قيامك ، فجوزه سيبويه (٢) ومنعه الأخفش ، وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي وذلك يدل على أن ما مع ما بعده في تقدير المفعول (٣) عند الأخفش سلّمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر لكنه أيضا قد يكون بمعنى المفعول. ويدل عليه وجوه (٤) :

الأول : قوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) والمراد بقوله : (ما تَنْحِتُونَ) المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت فوجب أن يكون المراد بقوله : (وَما تَعْمَلُونَ) المعمول لا العمل حتى يكون كلّ واحد من هذين اللفظين على وفق الآخر.

الثاني : أنه تعالى قال : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف : ١١٧] وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العصيّ والحبال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا ههنا.

الثالث : إن العرب تسمي محلّ العمل عملا ، يقال في الباب والخاتم : هذا عمل فلان والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه أن لفظ (ما) (٥) مع ما بعده كما يجيء بمعنى المصدر قد يجيء أيضا بمعنى المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى ؛ لأن المقصود في الآية تزييف مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) قال في الكتاب ١ / ٣٦٧ : «ومثل ذلك أيضا من الكلام فيما حدثنا أبو الخطاب : ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضرّ ، فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان ، والضر كما بعد إلا في ذا الموضع» وقال في ١ / ٤١٠ : «ومن ذلك قولهم : ائتني بعد ما تفرغ مما وتفرغ بمنزلة الفراغ وتفرغ صلة». وقال في ص ٣٧٧ وتقول : أتاني القوم ما عدا زيدا ، وأتوني ما خلا زيدا ، فما هنا اسم.

(٣) يقول أبو العباس المبرد في المقتضب ٣ / ٢٠٠ : «فأما اختلاف الأخفش وسيبويه في (ما) إذا كانت والفعل مصدرا فإن سيبويه كان يقول : أعجبني ما صنعت فهو بمنزلة قولك : أعجبني أن قمت ... والأخفش يقول : أعجبني ما صنعت أي ما صنعته كما تقول : أعجبني الذي صنعته ولا يجيز : أعجبني ما قمت لأنه لا يتعدى ، وقد خلط أي الأخفش فأجاز مثله ، والقياس والصواب رأي سيبويه» انظر : المقتضب ٣ / ٢٠٠.

(٤) فجيء ما بمعنى المفعول مع ما بعده رأي الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٦ / ١٥٠. وانظر مقولته تلك في نفس المرجع.

(٥) سقط من ب.

٣٢٨

لأن الذي جرى ذكره من أول الآية إلى هذا الموضع فهو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال (١). قال ابن الخطيب : و (اعلم (٢) أن) هذه (ال) سّؤالات قوية فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية.

قوله : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) لما أورد عليهم الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء (فقالوا : ابنوا (له) بنيانا) ، قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملأوه نارا وطرحوه فيها وذلك هو قوله : (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وهي النار العظيمة (٣). قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم (٤) ، والألف واللام في الجحيم يدل على النهاية (٥) (والمعنى (٦) في جحيمه أي في جحيم ذلك البنيان. ثم قال تعالى : (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)) والمعنى أن في وقت المحاجة (٧) حصلت الغلبة له وعند ما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار فصار هو الغالب عليهم (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أي شواء وهو أن يحرقوه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) المقهورين من حيث سلم الله إبراهيم ورد كيدهم ، ولمّا انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [العنكبوت : ٢٦] والمعنى أهجر دار الكفر أي أذهب إلى موضع دين ربي ، وقوله: «سيهدين» أي إلى حيث أمرني بالمصير إليه وهو الشام ، وهذا يدل على أن الهداية لا تحصل إلّا من الله تعالى. ولا يمكن حمله على وضع الأدلّة وإزاحة الأعذار لأن ذلك كان حاصلا في الزمان والماضي ، قال مقاتل : فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي هب لي ولدا صالحا ، لأن لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣].

قوله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١١١)

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) في كبره ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سنّ يوسف

__________________

(١) الرازي المرجع السابق.

(٢) ما بين الأقواس زيادة من تفسير الرازي المشار إليه أعلى.

(٣) انظر : القرطبي ١٥ / ٩٧.

(٤) قاله في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣١٠.

(٥) في ب : الكفاية.

(٦) ما بين القوسين كله سقط من ب بسبب انتقال النظر.

(٧) في ب : الحاجة.

٣٢٩

بالحلم ، وأيّ حلم أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح فقال (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)؟!.

قوله : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ) (معه) (١) متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قائلا قال : مع (من) (٢) بلغ السعي؟ فقيل : مع أبيه ولا يجوز تعلقه «ببلغ» ؛ لأنه يقتضي بلوغهما معا حدّ السعي ، ولا يجوز تعلقه بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه ، فتعين ما تقدم. قال معناه الزمخشري (٣) ومن يتسع في الظرف يجوز تعلقه بالسّعي (٤).

فصل

قال ابن عباس وقتادة : معنى بلغ السعي أي المشي معه إلى الجبل (٥) ، قال مجاهد عن ابن عباس: لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم (٦) والمعنى أن ينصرف معه ويعينه في عمله (٧) ، قال الكلبي: يعني العمل لله. وهو قول الحسن (٨) ؛ ومقاتل وابن حبان وابن زيد قالوا : هو العبادة (٩) ، واختلفوا في سنه ، فقيل : كان ابن ثلاث عشرة سنة (١٠) ، وقيل : كان ابن سبع سنين.

قوله : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) قال المفسرون : لما بشّر إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بالولد قبل أن يولد له فقال : هو إذن لله ذبيح ، فقيل لإبراهيم : قد نذرت نذرا فأوف بنذرك فلما أصبح قال يا بنيّ : إن أرى في المنام أنّي أذبحك ، وقيل : رأى في ليلة التروية في منامه كأن قائلا يقول : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرّواح ، أمن الله أو من الشيطان؟ فلذا سمي يوم التروية ، فلما رأى ذلك أيضا عرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمّ بالنحر فسمي يوم النحر. وهو قول أكثر المفسرين. وهذا يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة ، وعلى هذا فتقدير اللفظ أرى في المنام ما يوجب أنّي أذبحك(١١).

فصل

اختلفوا في الذبيح ، فقيل : إسحاق. وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ،

__________________

(١ و ٢) ما بين الأقواس سقط من ب.

(٣) قاله في الكشاف ٣ / ٣٤٧ وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣٦٩ والدر المصون ٤ / ٥٦٢ ، و ٥٦٣.

(٤) المرجع الأخير السابق.

(٥) زاد المسير ٧ / ٧٢.

(٦) القرطبي ١٥ / ٩٩.

(٧) غريب القرآن ٣٧٣ وتأويل المشكل ٣٩٠ والقرطبي المرجع السابق.

(٨) البغوي ٦ / ٢٦ ، ٢٧.

(٩) زاد المسير ٧ / ٧٢.

(١٠) وهو قول الكلبي المرجع السابق والفراء في المعاني ٢ / ٣٨٩.

(١١) انظر : البحر المحيط ٧ / ٣٦٩ والقرطبي ١٥ / ١٠٢ وهذا الرأي نسب للسدي وغيره.

٣٣٠

والعباد بن عبد المطلب ، وكعب الأحبار ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، ومسروق ، وعكرمة والزهري ، والسدي ، ومقاتل ، وهي رواية عكرمة ، وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس. وقالوا : وكانت هذه القصة بالشام (١) ، وقيل : إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، والشعبي ، ومجاهد ، والكلبي ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح ويوسف بن (مهران) (٢) عن ابن عباس (٣) ، وكذا القولين رويا عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واحتجّ القائلون بأنه إسماعيل بقوله عليه (الصلاة و) السلام : «أنا ابن الذّبيحين» (٤) وقال له أعرابي : يا ابن الذّبيحين فتبسم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فسئل عن ذلك فقال : «إنّ عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر إن سهل الله أمرها ليذبحن أحد ولده ، فخرج السّهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل» (٥). والذبيح الثاني إسماعيل ونقل الأصمعيّ أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال يا أصمعي : أين (٦) عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة وقد وصف الله إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الأنبياء : ٨٥] وهو صبره على الذبح ، ووصفه أيضا بصدق الوعد فقال : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤] لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). وقال قتادة : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فكيف تقع البشارة المتقدمة؟! وقال الإمام أحمد : الصحيح أن الذبيح هو إسماعيل وعليه جمهور العلماء من السّلف والخلف ، قال ابن عباس : وذهبت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود ، وروى ابن عباس أنه هبط عليه الكبش من بشير فذبح وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه فذبحه بمنى وقيل بالمقام ، وروي : أنه كان وعلا. وقيل : كان تيسا من الأروى ، قال سفيان : لم يزل قرنا الكبش في البيت حتى أحرق فاحترقا. وروى ابن عباس : أن الكبش لم يزل معلقا عند ميزاب الكعبة حتى وحش وأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عثمان بن طلحة فقالت امرأة عثمان لم دعاك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ؟ قال : إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن أريك أين نحرها فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي ، وهذا يدل على أن الذبيح كان إسماعيل لأنه الذي كان مقيما بمكة ، وإسحاق لا يعلم أنه

__________________

(١) انظر : زاد المسير ٧ / ٧٢ وهو نفس قول أبو موسى الأشعري وأبي هريرة ووهب بن منبه وعبيد بن عمير واختاره ابن جرير وانظر أيضا القرطبي ١٥ / ٩٩ والكشاف ٣ / ٣٥٠.

(٢) سقط من ب.

(٣) وهو قول ابن سلام والحسن البصري وأبي صالح وعبد الرحمن بن سابط وانظر المراجع السابقة.

(٤) الحديث في المقاصد الحسنة ١٤ وانظر : الكشاف ٣ / ٣٥٠.

(٥) المرجع السابق.

(٦) في القرطبي : عزب عقلك.

٣٣١

كان قدمها في صغره وهذا ظاهر القرآن لأنه ذكر قصة الذبيح ، ثم قال بعده : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)(١) قال ابن كثير : من قال : إنه إسحاق فإنما أخذه ـ والله أعلم ـ من كعب الأحبار أو من صحف أهل الكتاب وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى ينزل لأجله ظاهر الكتاب العزيز (٢).

قوله : (ما ذا تَرى) يجوز أن تكون «ماذا» مركبة مغلّبا فيها الاستفهام فتكون منصوبة وهي وما بعدها في محل نصب «بانظر» لأنها معلّقة له (٣) ، وأن تكون «ما» استفهامية و «ذا» موصولة فتكون مبتدأ وخبرا. والجملة معلقة أيضا (٤) ، وأن تكون ماذا بمعنى الذي فيكون معمولا (٥) لانظر. وقرأ الأخوان تري بالضم والكسر (٦) ، والمفعولان محذوفان أي تريني إيّاه من صبرك واحتمالك (٧). وباقي السبعة ترى ـ بفتحتين ـ من الرّأي. وقرأ الأعمش والضحاك ترى بالضّمّ والفتح (٨) ، بمعنى : ما يخيّل إليك ويسنح لخاطرك (٩).

قوله : (ما تُؤْمَرُ) يجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي (١٠) ، والعائد مقدر ، أي تؤمره والأصل: تؤمر به ، ولكن حذف الجار مطرد فلم يحذف العائد إلا وهو منصوب المحل ، فليس حذفه هنا كحذفه (في) (١١) قولك : جاء الذي مررت (١٢) وأن تكون مصدرية (١٣) ، قال الزمخشري : أو أمرك على إضافة المصدر للمفعول وتسمية المأمور به أمرا (١٤). يعني بقوله المفعول أي الذي لم يسمّ فاعله ، إلّا أن في تقدير المصدرية (بفعل) مبني للمفعول خلافا مشهورا (١٥).

__________________

(١) وانظر هذا كله في معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٢٦ ، ٢٧ ولباب التأويل للخازن ٦ / ٢٦ ، ٢٧ وابن كثير ٤ / ١٣.

(٢) المرجع السابق.

(٣) انظر : مشكل الإعراب ٢ / ٢٤١ ، والبحر المحيط ٧ / ٣٧٠ والتبيان ١٠٩٢ والدر المصون ٤ / ٥٦٣ والبيان ٢ / ٣٠٧.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) المراجع السابقة.

(٦) من القراءات السبعية المتواترة انظر : السبعة ٥٤٨ والكشف ٢ / ٢٢٧ ، ٢٢٨ وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٣٤٨ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨٩ ، ٣٩٠.

(٧) قاله الفراء في المرجع السابق وخالفه الزّجّاج فجعلها : «ماذا تشير» انظر : معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣١٠.

(٨) المحتسب ٢ / ٢٢٢ والكشاف ٣ / ٣٤٨ وضبطها الفراء تري ولعلها خطأ من الناسخ أو الطباعة.

(٩) المحتسب المرجع السابق.

(١٠) قال بهذا الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٤٨ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٧٠ والسمين في الدر ٤ / ٥٦٣.

(١١) سقط من ب.

(١٢) الواقع أن هذا تجاوز في التعبير من المؤلف فالعائد عامة يحذف ولا خلاف أن حذف المنصوب قوي فكذلك ما في معناه. والعائد المجرور يجوز حذفه في صور وكذلك المرفوع يحذف في مواضع انظر ذلك بتفصيل في الهمع ١ / ٨٩ ، ٩٠.

(١٣) المراجع السابقة البحر والكشاف والدّرّ.

(١٤) الكشاف السابق.

(١٥) انظر الهمع ٢ / ٩٤ والدر المصون ٤ / ٥٦٣.

٣٣٢

قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) لما تؤمر. إنما علق المشيئة لله تعالى على سبيل التبرك والتيمن فإنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلّا بتوفيق الله.

فصل

اختلف (١) الناس في أنّ إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ كان مأمورا بهذا. وهذا الاختلاف يتفرع عليه مسألة أصولية وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور وقت الامتثال ، فقال بعضهم : إنه يجوز ، وقالت المعتزلة وبعض الشافعية والحنفية : إنه لا يجوز فعلى الأول أنّ الله تعالى أمره بالذبح ، ثم إن الله تعالى فسخ هذا التكليف قبل حضور وقته (٢) ، وعلى الثاني أن الله تعالى ما أمره بالذبح وإنما أمره بمقدمات الذبح ، واحتج الأوّلون بقصة إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وقول الولد لأبيه : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ). وقالت المعتزلة لا نسلم أنه أمر بذبح ولده بل إنما أمر بمقدّمات الذبح وهي إضجاعه ، ووضع السكين على حلقه ، والعزم الصحيح في الإتيان بذلك الفعل ، ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به لقوله : (يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) فدل على أنه تعالى إنما أمره بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح. وأيضا فإن الذبح عبارة عن قطع الحلقوم ، فلعل إبراهيم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ قطع الحلقوم إلا أنه كلما قطع جزءا أعاد الله تأليفه ولهذا السبب لم يحصل الموت. وأيضا فإنه تعالى لو أمر شخصا معينا بإيقاع فعل معين في وقت معين فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن فلو حصل النهي في عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين إما أن يكون عالما بحال ذلك الفعل فيلزم أن يقال : إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن ، وإن لم يكن عالما به لزم جهل الله (تعالى) وأنه محال ، والجواب عن الأول أنه تعالى إنما أمره بالذّبح لظاهر الآية وأما قولهم كلما قطع إبراهيم عليه (الصلاة و) السلام جزءا أعاد الله تأليفه فهذا باطل لأن إبراهيم عليه (الصلاة و) السلام لو أتى بكل ما أمر به لما (٣) احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بكل ما أمر به ، وأما قولهم : يلزم إما الأمر بالقبيح وإما الجهل فنقول : هذا بناء على أن الله لا يأمر إلا بما يكون حسنا في ذاته ولا ينهى إلا عما يكون قبيحا في ذاته فذلك مبني على تحسين العقل وتقبيحه. وهو باطل فإن سلّمنا ذلك فلم (لا) (٤) يجوز أن يكون الأمر بالشيء تارة حسنا لكون المأمور به حسنا في ذلك الوقت لمصلحة من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسنا كما إذا أراد السيد اختبار طاعة العبد فيقول له : افعل الفعل الفلانيّ في يوم الجمعة ويكون ذلك الفعل شاقّا ويكون مقصود السيد ليس أن يأتي العبد بذلك الفعل بل أن يوطن العبد نفسه على الانقياد

__________________

(١) انظر هذه الآراء في الرازي ٢٦ / ١٥٥.

(٢) في ب : دفعه.

(٣) في ب : «فما» بدل «لما».

(٤) كلمة «لا» سقطت من نسخة ب.

٣٣٣

والطاعة ثم إن السيد إذا علم منه توطين نفسه على الطاعة فقد يزيل (الألم عنه) (١) بذلك التكليف فكذا ههنا.

فصل

احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه ، لأنه تعالى لو أراد وقوعه لوقع الذبح لا محالة.

فصل في الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقظة (٢)

وذلك من وجوه :

الأول : أن هذا التكليف في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح فورد أولا في النوم حتي يصير ذلك كالمفيد (٣) لورود هذا التكليف الشاقّ ، ثم يتأكد ذلك بأحوال اليقظة لكيلا يهجم هذا التكليف الشاقّ على النفس دفعة واحدة بل على التدريج.

الثاني : أن الله تعالى جعل رؤيا الأنبياء ـ عليهم (الصلاة و) السلام ـ حقا ، قال تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) [الفتح : ٢٧] وقال عن يوسف : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] وقول إبراهيم : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ). والمقصود من هذا تقوية الدلالة على كونهم صادقين فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق دل ذلك على نهاية كونهم محقين في كل الأحوال (٤).

فصل

والحكمة في مشاورة الابن في هذا الأمر ليظهر له صبره في طاعة الله فيكون فيه قوة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحكمة إلى هذا الحدّ العظيم في الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدّنيا (٥).

قوله : (فَلَمَّا أَسْلَما) في جوابها ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه محذوف أي ذادته الملائكة أو ظهر صبرهما ، أو أجزلنا لهما أجرهما (٦) ، وقدره بعضهم : بعد الرؤيا ؛ أي كان ما كان مما ينطق به الحال والوصف مما لا يدرك كنهه (٧) ، ونقل ابن عطية: أن التقدير فلما أسلما أسلما (٨) وتلّه كقوله :

__________________

(١) تكملة من الرازي فقد سقطت من ب.

(٢) انظر كل هذا في التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٦ / ١٥٥ ، ١٥٦.

(٣) في الرازي كالمنبه.

(٤) الرازي ٢٦ / ١٥٦.

(٥) المرجع السابق.

(٦) قاله مكي في مشكله ٢ / ٢٤٠ وصاحب التبيان ١٠٩٢ والبيان ٢ / ٣٠٧ والسمين ٤ / ٥٦٣.

(٧) هذا هو تقدير الزمخشري في الكشاف من كلام قاله فيه هذا معظمه. الكشاف ٣ / ٣٤٨.

(٨) البحر ٧ / ٣٧٠.

٣٣٤

٤٢١٩ ـ فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل (١)

أي فلما أجزنا أجزنا وانتحى (٢) ويعزى هذا لسيبويه وشيخه الخليل (٣). وفيه نظر من حيث اتخاذ الفعلين الجاريين مجرى الشّرط والجواب ، إلا أن يقال : جعل التغاير في الآية بالعطف على الفعل وفي البيت بعمل الثاني في «ساحة» وبالعطف عليه أيضا ، والظاهر أن مثل هذا لا يكفي في التغاير(٤).

الثاني : أنه «وتلّه للجبين» والواو زائدة وهو قول الكوفيين والأخفش (٥).

والثالث : أنه : (وَنادَيْناهُ) والواو زائدة (٦) أيضا كقوله : (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ)(٧) [يوسف : ١٥] فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا. تمّ الكلام هنا. ثم ابتدأ : إنّ كذلك (نجزي المحسنين) وقرأ عليّ وعبد الله وابن عباس سلّما (٨) ، وقرىء : استسلما(٩). «وتله» أي صرعه وأضجعه على شقّه ، وقيل : هو الرمي بقوة وأصله من رمى به على التلّ وهو المكان المرتفع أو من التّليل وهو العنق ، أي رماه على عنقه ، ثم قيل لكلّ إسقاط وإن لم يكن على تلّ ولا عنق. والتّلّ الرّيح الذي يتلّ به ،

__________________

(١) من الطويل من المعلقة المعهودة ويروى الشطر الثاني هكذا :

 ..........

بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل

وأجزنا : قطعنا ، والسّاحة : الفناء ، وانتحى : اعترض ، والخبت : بطن من الأرض غامض. والقفاف مفرده قف ما غلظ من الأرض وارتفع والعقنقل : المنعقد المتداخل بعضه في بعض وهو يخبرنا بحاله معها. وشاهده : أن جواب لما مقدر من لفظ فعل الشرط كما قاله ابن عطية و «انتحى» عطف على «أجزنا» المقدر. وهو الجواب وانظر : البحر ٧ / ٣٧٠ والإنصاف ٤٥٧ ومعاني الفراء ٢ / ٢٥٠ ، ٢٦١ والسبع الطوال ٥٤ ، ٥٥ والجامع للقرطبي ١٥ / ١٠٤ والمنصف ٣ / ٤١ واللسان : «ج وز» وتمهيد القواعد ٢ / ٨٤٥ وديوانه ١٥ / بلفظ : «ذي ركام».

(٢) في ب : انتهى. وهو غير مراد.

(٣) وفيها : الجليل بالجيم. وقد قال في الكتاب : «وسألت الخليل عن قوله : «حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها» أين جوابها وعن قوله ... فقال : إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر في كلامهم لعلم المخبر لأي شيء وضع هذا الكلام». فلم يقدر سيبويه ولا شيخه الجواب بلفظ الشرط ولعله في مكان آخر لم نقع عليه.

(٤) قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٥٦٤.

(٥) نقله البيان ٢ / ٣٠٧ ، والتبيان ١٠٩٢ ومشكل الإعراب ٢ / ٢٤٠ لبعض الكوفيين.

(٦) ونسبه مكيّ للكسائي ٢ / ٢٤٠ وانظر : البيان ٢ / ٣٠٧ والفراء ٢ / ٣٩٠ ، والتبيان ١٠٩٢ وانظر هذا في السمين ٤ / ٥٦٤ والبحر ٧ / ٣٧٠.

(٧) وأوضح المبرد في المقتضب رأي البصريين في عدم زيادة الواو وقال : «وزيادة الواو غير جائزة عند البصريين». المقتضب ٢ / ٧٨.

(٨) انظر : الإتحاف ٣٧٠ وابن خالويه ١٢٨ والمحتسب ٢ / ٢٢٢.

(٩) لم تنسب في كل من الكشاف ٣ / ٣٤٨ والبحر ٧ / ٣٧٠.

٣٣٥

و «الجبين» ما انكشف من الجبهة من هنا ومن هنا ، وشذ جمعه على أجبن ، وقياسه في القلة أجبنة كأرغفة وفي الكثرة جبن وجبنان كرغيف ورغف ورغفان (١).

فصل

المعنى سلم لأمر الله ، وأسلم واستسلم بمعنى واحد أي انقاد وخضع. والمعنى أخلص نفسه لله وجعلها سالمة خالصة وكذلك استسلم استخلص نفسه لله ، وعن قتادة في أسلما : أسلم هذا ابنه ، وهذا نفسه (٢) ، وقوله : «وتلّه للجبين» أي صرعه على شقّه فوقع أحد جبينيه للأرض وللوجه جبينان والجبهة بينهما. قال ابن الأعرابي : التّليل والمتلول المصروع والمتلّ الذي يتلّ به أي يصرع (٣) ، والمعنى أنه صرعه على جبينه. وقال مقاتل : كبه على جبهته وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا).

فإن قيل : لم قال : صدّقت الرؤيا وكان قد رأى الذي لم يذبح؟ قيل : جعله مصدقا لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب إسلامهما لأمر الله وقد فعلا. وقيل : قد كان رأى في النوم مصالحة ولم ير إراقة دم وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم ولذلك قال : قد صدقت الرؤيا ، قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله فلما كلّفه هذا التكليف الشاقّ الشديد وظهر منه كمال الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) ، وقوله : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ابتداء إخبار من الله تعالى والمعنى إنا كما عفونا عن ذبح ولده كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا (٤) قال مقاتل : جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الاختبار (٥) البيّن الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها ، وقال مقاتل (٦) : البلاء ههنا النّعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش ، وقوله : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الذّبح مصدر ذبحت والذّبح أيضا ما يذبح. وهو المراد في هذه الآية (٧). وسمي عظيما لسمنه (٨) وعظمه ، وقال سعيد بن جبير : حق

__________________

(١) وانظر في هذا غريب القرآن ٣٧٣ ومجازه ٢ / ١٧١ ومعاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣١١ للزجاج ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣٩٠ ، وانظر أيضا اللسان : «ت ل ل» و «ج ب ن».

(٢) وانظر : القرطبي ١٥ / ١٠٤ والدر المصون ٤ / ٥٦٣ ، ٥٦٤.

(٣) اللسان : «ت ل ل» ٤٤١ والرازي ٢٦ / ١٥٧ ونوادر ابن الأعرابيّ «ت ل ل».

(٤) انظر : تفسير إمامنا فخر الدين الرازي ٢٦ / ١٥٧ ، ١٥٨.

(٥) المرجع السابق.

(٦) قاله أبو الفرج ابن الجوزي في زاد المسير ٧ / ٧٧.

(٧) السابق. وانظر أيضا القرطبي ١٥ / ١٠٧ ، وبكسر الذال اسم ما ذبح. وانظر : غريب القرآن ٣٧٤ والمجاز ٢ / ١٧٣.

(٨) قاله الماوردي.

٣٣٦

له أن يكون عظيما لعظم قدره حيث قبله الله فداء ولد إبراهيم (١). وتقدم الكلام على نظير بقيّة القصة.

قوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)(١١٣)

قوله : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ). «نبيا» نصب على الحال. وهي حال مقدرة(٢). قال أبو البقاء : إن كان الذّبيح إسحاق فيظهر كونها مقدرة وإن كان إسماعيل هو الذبيح وكانت هذه البشارة بشارة بولادة إسحاق فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال (٣) قال : فإن قلت : فرق بين هذا وبين قوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) وذلك أن الدخول موجود مع وجود الدّخول والخلود (غير) موجود معهما فقدرت الخلود فكان مستقيما وليس كذلك المبشر به فإنه معدوم وقت وجود البشارة وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لأن الحال حلية (٤) لا يقوم إلا في المحلى. وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوة أيضا بوجوده بل تراخت عنه مدة طويلة فكيف نجعل «نبيا» حالا مقدرة والحال صفة للفاعل (٥) والمفعول عند وجود الفعل منه أو به؟! فالخلود وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة فنقدرها صفتهم لأن المعنى مقدرين الخلود وليس كذلك النبوة فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدرة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق قلت : هذا سؤال دقيق المسلك (٦). والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف وذلك قوله : وبشّرناه بوجود إسحاق نبيا أي بأن يوجد مقدّرة نبوته ، والعالم في الحال الوجود لا فعل البشارة ، وذلك يرجع نظير قوله تعالى : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) انتهى (٧). وهو كلام حسن.

قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) يجوز أن يكون صفة «لنبيّا» وأن يكون حالا من الضمير في «نبيّا» فتكون حالا متداخلة (٨) ، ويجوز أن تكون حالا ثانية ، قال الزمخشري : وورودها على سبيل الثّناء والتّقريظ لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصّالحين (٩).

قوله : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ) يعني على إبراهيم في أولاده «وعلى إسحاق» بأن أخرج جميع بني إسرائيل من صلبه (١٠).

__________________

(١) وهو رأي مجاهد أيضا وانظر زاد المسير ٧ / ٧٨.

(٢) التبيان ١٠٩٢ والسمين ٤ / ٥٦٥.

(٣) قال في البحر ٧ / ٣٧١ ، ٣٧٢ «ومن جعل الذبيح إسحاق جعل هذه البشارة بشارة بنبوته ، ومن جعله إسماعيل جعل البشارة بولده إسحاق إلخ ...».

(٤) في الكشاف : لا محالة لأن الحال حلية والحلية لا تقوم.

(٥) وفيه : صفة الفاعل أو المفعول.

(٦) فيه : دقيق المسلك ضيق.

(٧) وانظر : الكشاف ٣ / ٣٥١ والبحر ٧ / ٣٧١ ، ٣٧٢ والآية في : «فَادْخُلُوها» [الزمر : ٧٣].

(٨) الدر المصون ٤ / ٥٦٥.

(٩) الكشاف ٣ / ٣٥١ وانظر المرجع السابق.

(١٠) الرازي ٢٦ / ١٥٩.

٣٣٧

وقيل : هو الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى يوم القيامة. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) مؤمن (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي كافر «مبين» ظاهر وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن لئلا تصير هذه الشبهة سببا لمفاخرة اليهود (١) ، ودخل تحت قوله : «محسن» الأنبياء والمؤمنون ، وتحت قوله : (وَظالِمٌ) الكافر والفاسق.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٢٢)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أنعمنا عليهما بالنبوة (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم.

(قوله (٢) : (وَنَصَرْناهُمْ)) قيل : الضمير يعود على «موسى وهارون وقومهما» ، وقيل : عائد على الاثنين بلفظ الجمع تعظيما كقوله (٣) :

٤٢٢٠ ـ فإن شئت حرّمت النّساء سواكم

 ..........(٤)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ).

قوله : (فَكانُوا هُمُ) يجوز في «هم» أن تكون تأكيدا ، وأن تكون بدلا ، وأن تكون فصلا ، وهو الأظهر (٥).

فصل

المعنى : فكانوا هم الغالبين على القبط في كلّ الأحوال ، أما في أول الأمر فبظهور الحجة ، وأما في آخر الأمر فبالدولة والرفعة (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) المستنير المشتمل على جميع العلوم المحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا (٦) كما قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤]. (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) دللناهما

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) ما بين القوسين ساقط من ب.

(٣) وانظر القرطبي ١٥ / ١١٤ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٩٠ ، والدر المصون ٤ / ٥٦٦.

(٤) مضى أن هذا صدر بيت لعمر بن أبي ربيعة وعجزه :

 ..........

وإن شئت لم أطعم نقاحا ولا بردا

وشاهده هنا : مخاطبة المفرد مخاطبة الجمع تعظيما وإكبارا فالأصل : سواك أو سواكنّ.

(٥) قال بهذه الأوجه الثلاثة أبو حيان في البحر ٧ / ٣٧٢ ، وشهاب الدين السمين ٤ / ٥٦٦.

(٦) القرطبي / ١١٤.

٣٣٨

على طريق الحق عقلا وسمعا. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) تقدم الكلام عليه في آخر القصة.

قوله تعالى : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٣٢)

قوله : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قرأ العامة إلياس بهمزة مكسورة همزة قطع ، وابن ذكوان بوصلها ، ولم ينقلها عنه أبو حيان بل نقلها عن جماعة غيره (١) ، ووجه القراءتين أنه اسم أعجمي تلاعبت به العرب فقطعت همزته تارة ووصلتها أخرى ، وقالوا فيه إلياسين كجبرائين ، وقيل : تحتمل (٢) قراءة الوصل أن يكون اسمه ياسين ثم دخلت عليه «أل» المعرفة كما دخلت على «يسع» (٣) ؛ وقد تقدم. وإلياس هذا قيل : ابن (إل) (٤) ياسين المذكور بعد ولد هارون أخي موسى (٥) ، وقال ابن عباس هو ابن عم اليسع (٦) ، وقال ابن إسحاق : هو الياس بن بشير بن فنحاص بن العيران بن هارون بن عمران ، وروي عن عبد الله بن مسعود قال : إلياس هو إدريس (٧) وفي مصحفه «وإن إدريس لمن المرسلين» وبها قرأ عبد الله والأعمش وابن وثاب (٨) ، وهذا قول عكرمة ، وقرىء إدراس (يل) (٩) وإبراهيم وإبراهام ، وفي مصحف أبي قراءته وإن أيليس بهمزة مكسورة ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت ثم لام مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت ساكنة ثم سين مفتوحة مهملة (١٠).

قوله : (إِذْ قالَ) ظرف لقوله (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) والتقدير : اذكر يا محمد لقومك إذ قال

__________________

(١) قال : وقرأ الأعرج وأبو رجاء وابن عامر وابن محيصن وعكرمة والحسن بخلاف عنهما بوصل الألف فاحتمل أن يكون وصل همزة القطع. انظر : البحر ٧ / ٣٧٣ وانظر : الإتحاف ٣٧٠ وهي من السبعة المتواترة.

(٢) نقل هذين الوجهين شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤ / ٥٦٦ وما في المحتسب والبحر أن اسمه باس كباب ودار ثم لحقه لام التعريف فصار الياس بمنزلة الباب والدار. المحتسب ٢ / ٢٢٣ والبحر ٧ / ٣٧٣.

(٣) قرأ الجمهور بلام واحدة وفتح الياء بعدها.

(٤) سقط من ب : (ال.

(٥) وانظر : الكشاف ٣ / ٣٥٣.

(٦) قال القرطبي في الجامع ١٥ / ١٥ عم اليسع.

(٧) الرازي ٢٦ / ١٦١ والكشاف ٣ / ٣٥٢.

(٨) السابقة وانظر : مختصر ابن خالويه ٢٨.

(٩) الياء واللام زائدتان من «ب» فهي إدراس وانظر : المحتسب ٢ / ٢٢٠.

(١٠) حكاه أبو حاتم عن أبيّ. انظر : المرجع السابق وانظر في هذا كله السمين ٤ / ٥٦٦ و ٥٦٧.

٣٣٩

لقومه : ألا تتّقون (١) أي لا تخافون الله. ولما خوفهم على سبيل الاحتمال ذكر ما هو السبب لذلك التخويف فقال : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ).

قوله : «بعلا» القراء على تنوينه منصوبا وهو الربّ بلغة اليمن سمع ابن عباس رجلا منهم ينشد ضالّة فقال آخر : أنا بعلها ، فقال : الله أكبر وتلا الآية. ويقال : من بعل هذه الدار؟ أي من ربّها؟ وسمي الزوج بعلا لهذا المعنى ، قال تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] ، وقال : وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] فعلى هذا التقدير : المعنى أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله تعالى وقيل : هو علم لصنم بعينه ، وقيل : هو علم لامرأة بعينها أتتهم بضلال فاتبعوها (٢) ، ويؤيده قراءة من قرأ : «بعلاء» بزنة حمراء (٣).

قوله : (وَتَذَرُونَ) يجوز أن يكون حالا ، على إضمار مبتدأ ، وأن يكون عطفا على «تدعون» فيكون داخلا في حيّز الإنكار (٤).

قوله : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ) قرأ الأخوان بنصب الثلاثة (٥) من ثلاثة أوجه : النصب على المدح(٦) أو البدل (٧) أو البيان إن قلنا : إنّ إضافة «أفعل» إضافة محضة (٨) ، والباقون بالرفع إمّا على أنه خبر ابتداء مضمر أي هو الله (٩) ، أو على أن الجلالة مبتدأ وما بعده الخبر (١٠) ، روي عن حمزة أنه كان إذا وصل نصب ، وإذا وقف رفع. وهو حسن جدا.

وفيه جمع بين الرّوايتين.

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٥٦٧ ، والتبيان ١٠٩٢. وقيل : بإضمار أعني. المرجع السابق.

(٢) انظر هذه المعاني والآراء كلها في البحر ٧ / ٣٧٣ ، والكشاف ٣ / ٣٥٢ ، والرازي ٢٦ / ١٦١ ، وزاد المسير لأبي الفرج ابن الجوزي ٧ / ٨٠ ، والقرطبي ١٥ / ١١٧ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٩٢ و ٣٩٣ ، وانظر أيضا في معنى البعل : الغريب لابن قتيبة ٣٧٤ ، والمجاز لأبي عبيدة ٢ / ١٧٢ واللسان : «ب ع ل» ٣١٦ ومعاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج ٤ / ٣١٢.

(٣) ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر ٧ / ٣٧٣ وشهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٥٦٧ وابن خالويه في المختصر ١٢٨ وهي من القراءة الشاذة وانظرها أيضا في شواذ القرآن «٢٠٧».

(٤) الدر المصون ٤ / ٥٦٧.

(٥) من القراءات المتواترة. السبعة ٥٤٩ وإبراز المعاني ٦٦٦ وحجة ابن خالويه ٣٠٤ والنشر ٢ / ٣٦٠ ، والكشف ٢ / ٢٢٨.

(٦) قاله أبو البقاء ١٠٩٣ أي أعني.

(٧) السابق والبيان ٢ / ٣٠٧ ومشكل الإعراب لمكي ٢ / ٢٤٢ وانظر كل هذا في الدر المصون ٤ / ٥٦٧.

(٨) هذا قول أبي حيان والسمين في البحر والدر ، البحر ٧ / ٣٧٣ والدر ٤ / ٥٦٧.

(٩) المرجع الأخير السابق وانظر : القرطبي ١٥ / ١١٧ ونقله عن أبي حاتم.

(١٠) الدر المصون السابق ومشكل الإعراب ٢ / ٢٤٣ وإعراب النحاس ٣ / ٤٣٦ والبيان ٢ / ٣٠٧ ومعاني الزجاج ٤ / ٣١٣.

٣٤٠