اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

أقيم مقام الجمع والأول (١) أحسن ؛ إذ المصدر يفرد مطلقا (٢).

فصل

قال ابن عباس وأبيّ بن كعب وقتادة : إنما يقولون هذا لأن الله يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة ، دعوا بالويل. وقال (أهل) (٣) المعاني : الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم فقالوا : من بعثنا من مرقدنا (٤).

فإن قيل : لو قيل : فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون يا ويلنا كان أليق قال ابن الخطيب : نقول : معاذ الله وذلك لأن قوله إذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون إشارة إلى أنه تعالى بأسرع زمان يجمع أجزاءهم ويؤلفها ويحييها ويحركها بحيث يقع نسلانهم في وقت النفخ مع أن ذلك لا بدّ له من الجمع والتأليف فلو قال يقولون لكان ذلك مثل الحال لينسلون أي ينسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك فإن قولهم : يا ويلنا قبل أن ينسلوا وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفائدة (٥).

فإن قيل : ما وجه تعلق (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) بقولهم (يا وَيْلَنا)؟

فالجواب : لما بعثوا تذكروا (٦) ما كانوا يسمعون من الرسل فقالوا : يا ويلنا أبعث الله البعث الموعود به أم كنا نياما هنا كما إذا كان إنسان موعودا بأن يأتيه عدو لا يطيقه ثم يرى رجلا هائلا يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول أهذا ذاك أم لا؟. ويدل على هذا قولهم : (مِنْ مَرْقَدِنا) حيث جعلوا القبور موضع الرّقاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نياما فنبهوا أو كانوا موتى فبعثوا وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين وقالوا من بعثنا إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به وقالوا من مرقدنا إشارة إلى توهمهم احتمال الانتباه (٧).

قوله : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) في «هذا» وجهان :

أظهرهما : أنه مبتدأ وما بعده خبره (٨). ويكون الوقف تامّا على قوله : (مِنْ مَرْقَدِنا) وهذه الجملة حينئذ فيها وجهان :

__________________

(١) أي المصدر.

(٢) بالمعنى من البحر ٧ / ٣٤١ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٥٢٤.

(٣) سقطت من أالأصل فالتصحيح من ب والمرجعين الآتيين.

(٤) قال بذلك الإمامان الخازن والبغويّ في تفسيرهما : لباب التأويل ومعالم التنزيل ٦ / ١١.

(٥) قاله في التفسير الكبير الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ٨٨.

(٦) في ب فذكروا وفي الرازي كما هنا أعلى.

(٧) انظر : تفسير الإمام الرازي ٢٦ / ٨٩.

(٨) في ب خبر بدون هاء الضمير. وانظر : التبيان ١٠٨٤ ، والبيان ٢ / ٢٩٨ ، ومعاني الزجاج ٤ / ٢٩١ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨٠ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٣٠ والدر المصون ٤ / ٥٢٤ والكشاف ٣ / ٣٢٦ وإعراب النّحّاس ٣ / ٤٠٠ والقرطبي ١٥ / ٤٢.

٢٤١

أحدهما : أنها مستأنفة إما من قول الله تعالى ، أو من قول الملائكة ، أو من قول المؤمنين للكفار(١).

الثاني : أنها من كلام الكفار فيكون في محلّ نصب بالقول (٢).

والثاني من الوجهين الأولين : (أن) (٣) «هذا» صفة «لمرقدنا» و (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) منقطع عما قبله (٤) ، ثم في «ما» وجهان :

أحدهما : أنها في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر أي الذي وعده الرحمن وصدق فيه المرسلون حق عليكم (٥). وإليه ذهب الزجاج والزمخشري (٦).

والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هذا وعد (٧) الرحمن ، وقد تقدم في أول الكهف أن حفصا يقف على «مرقدنا» وقفة لطيفة دون قطع نفس لئلا يتوهم أن اسم الإشارة تابع ل «مرقدنا». وهذان الوجهان يقويان ذلك المعنى المذكور الذي تعمد الوقف لأجله (٨) ، و «ما» يصحّ أن تكون موصولة اسمية أو حرفية كما تقدم (٩). ومفعولا الوعد والصدق محذوفان أي وعدناه الرّحمن وصدقناه المرسلون (١٠) ، والأصل «صدقنا فيه» ويجوز حذف الخافض وقد تقدم ذلك نحو : صدقني سنّ بكر (ه) (١١) أي في سنه (١٢).

قوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) تقدمت قراءتا : (صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٥٣] نصبا ورفعا أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة ، ويدل على النفخة قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ). ويحتمل أن يقال : إنها كانت الواقعة وقرئت الصيحة مرفوعة على أن «كان» هي التامة (١٣) بمعنى «ما وقعت إلا صيحة» قال الزمخشري : لو كان كذلك لكان الأحسن أن

__________________

(١) نقله مكي في المشكل ٢ / ٢٣٠ والسمين في الدر ٤ / ٥٢٤.

(٢) وهو قالوا من : «قالُوا يا وَيْلَنا».

(٣) زيادة للسياق وتنسيقه.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) ذهب أبو البقاء إليه في التبيان ١٠٨٤ أيضا ومكي في المشكل ٢ / ٢٣٠.

(٦) الكشاف ٣ / ٣٢٦ ومعاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٩١.

(٧) ذهب إليه مكي في المشكل ٢ / ٢٣٠ والفراء في المعاني ٢ / ٣٨٠ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٩٨ والتبيان ١٠٨٣ و ١٠٨٤ وذكره أيضا الزجاج في المعاني ٤ / ٢٩١ والكشاف ٣ / ٣٢٦ والقرطبي ١٥ / ٤٢.

(٨) المؤلف في الكهف كان يتحدث عن قوله :«وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً» وأشار إلى السكتة اللطيفة على ألف «عوجا» فذكر هناك «مرقدنا» فالشيء بالشيء ذكر. وانظر : اللباب ٣ / ٤٩٧ ب والإتحاف ٢٨٧.

(٩) المراجع السابقة.

(١٠) الدر المصون ٤ / ٥٢٤ و ٥٢٥.

(١١) سقطت من ب.

(١٢) المختار أن الجار لا يحذف ويبقى عمله اختيارا وإن وقع فضرورة كقوله : ... أشارت كليب بالأكفّ الأصابع إلا مع «كم ، أو «رب» بعد الفاء والواو العاطفة كثيرا. وقيل خلاف ذلك. انظر : الهمع ٢ / ٣٧ و ٣٦.

(١٣) وهي التي تكتفي بمرفوع على أنه فاعل أو نائبه كقوله عزوجلوَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ». وهذا رأي الإمام الرازي في أن «كان» هي التامة.

٢٤٢

يقال : إن كان ؛ لأن المعنى حينئذ ما وقع شيء إلا صيحة لكن التأنيث جائز إحالته على الظاهر (١). ويمكن أن يقول (٢) الذي قرأ بالرفع (٣) إن قوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الواقعة : ١] تأنيث تهويل ومبالغة بدليل قوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة : ٢] فإنها للمبالغة فكذلك ههنا قال : «إن كانت إلا موتتنا الأولى» تأنيث تهويل ، ولهذا جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحاقّة والصّاخّة إلى غيرها (٤).

والزمخشري يقول : كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة (٥) وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة. وقوله «محضرون» دليل على أنّ كونهم ينسلون إجباريّ لا اختياريّ (٦) ، ثم بين ما يكون في ذلك اليوم فقال : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) فاليوم منصوب «بلا تظلم» (٧) ، و «شيئا» إما مفعول ثان وإما مصدر (٨).

فقوله : (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ) ليأمن المؤمن (و) (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لييأس المجرم والكافر (٩).

فإن قيل : ما الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم وترك الخطاب في الإشارة إلى أمان المؤمن؟

فالجواب : أن قوله : (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) يفيد العموم وهو كذلك فإنه لا يظلم أحدا وأما (لا تُجْزَوْنَ) فيختص بالكافر لأن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن لله فضلا مختصا بالمؤمن وعدلا عاما فيه. وفيه بشارة.

قوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)(٥٩)

ثمّ بيّن حال المحسن (١٠) فقال : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) فقوله : (فِي شُغُلٍ) يجوز أن يكون خبرا ل «إنّ» و «فاكهون» خبر ثان وأن يكون «فاكهون» هو

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٣٢٠.

(٢) هذا قول الرازي. انظر التفسير الكبير له ٢٦ / ٩٠.

(٣) في ب نافع تحريف وخطأ.

(٤) الرازي ٢٦ / ٩٠.

(٥) قاله في الكشاف ٤ / ٥١.

(٦) الرازي ٢٦ / ٩٠.

(٧) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٣٤١ والسمين في الدر ٤ / ٥٢٤ و ٥٢٥.

(٨) المرجع الأخير السابق. ويقصد بالمفعول الثاني أنه «لظلم». والمفعول الأول هو نائب الفاعل وهو «نفس» والأصل : لا يظلم الله نفسا شيئا. ويقصد بالمصدر المصدر المقام مقامه لكلمة شيئا وهي صفته وهي إحدى النائبات عن المفعول المطلق كقولنا : «أحبّ الله كثيرا» أي حبّا كثيرا.

(٩) الرازي المرجع السابق.

(١٠) السابق.

٢٤٣

الخبر و «في شغل» يتعلق به (١) ، وأن يكون (٢) حالا ، وقرأ الكوفيون وابن عامر «شغل» بضمتين. والباقون بضم وسكون (٣). وهما لغتان للحجازيين قاله الفراء (٤) ، ومجاهد وأبو السّمّال بفتحتين (٥). ويزيد النحويّ وابن هبيرة (٦) بفتح وسكون. وهما (لغتان) أيضا. والعامة على رفع «فاكهون» على ما تقدم. والأعمش وطلحة «فاكهين» (٧) نصبا على الحال ، والجار الخبر. والعامة أيضا على فاكهين (٨) بالألف بمعنى أصحاب فاكهة كلابن وتامر ولاحم (٩) ، والحسن وأبو جعفر وأبو حيوة وأبو رجاء وشيبة وقتادة ومجاهد «فكهون» بغير (١٠) ألف بمعنى طربون فرحون من الفكاهة بالضم. وقيل : الفاكه (١١) والفكة بمعنى المتلذذ والمتنعم لأن كلّا من الفاكهة والفكاهة مما يتلذّذ به ويتنعم كحاذر وحذر (١٢) ، وقرىء «فكهين» (١٣) بالقصر والياء على ما تقدم. وفكهون بالقصر وضم الكاف ، يقال : رجل فكه وفكه كرجل ندس وندس وحذر وحذر (١٤).

فصل

اختلفوا في الشغل فقال ابن عباس : في افتضاض الأبكار ، وقال وكيع بن الجراح : في السماع. وقال الكلبي : في شغل عن أهل النار وما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم. وقال ابن كيسان (١٥) : في زيارة بعضهم بعضا.

__________________

(١) التبيان ١٠٨٤ والبيان ٢ / ٢٩٨ والدر المصون ٤ / ٥٢٥.

(٢) الضمير على ما ذكر أبو البقاء في إعرابه يعود على «فاكهون». التبيان ١٠٨٤ فتكون فكهين كما سيأتي.

والظاهر أنه يعود على «شغل». السمين ٤ / ٥٢٥. والخبر فاكهون خبر إنّ.

(٣) من المتواتر. انظر : الإتحاف ٣٦٥ والتبيان ١٠٨٤ وإعراب النحاس ٤ / ٤٠١.

(٤) نقله عنه السمين المرجع السابق ولم أعثر عليه في المعاني.

(٥) من الشواذ انظر : مختصر ابن خالويه ١٢٥ والكشاف ٣ / ٣٢٧.

(٦) هو أحد وزراء بني العباس قرأ بالروايات على مسعود الحلي ثم على البطائحي. انظره في غاية النهاية لابن الجزري ٢ / ٢٩٥ أقول : وقد نسب ابن خالويه في شواذه هذه القراءة إلى أبي هريرة رضي الله عنه انظر : المختصر ١٢٥ والكشاف ٣ / ٣٢٧ والتبيان ١٠٨٤ وأجاز هذه القراءات الزجاج لغويا فقال : «ويقرأ : شغل وشغل وشغل وشغل يجوز في العربية». المعاني ٤ / ٢٩١.

(٧) معاني الفراء ٢ / ٣٨٠ ومختصر ابن خالويه ١٢٧ والتبيان ١٠٨٤ والقرطبي ١٥ / ٤٤.

(٨) هي وما قبلها بالواو في ب. والواو جائزة في الأخيرة على الحكاية. أما الأولى فلحن ظاهر غير مراد لأن النصب هو المراد.

(٩) أي صاحب لبن وتمر ولحم.

(١٠) المختصر السابق ومعاني الفراء ٢ / ٣٨٠ وأوردها الزمخشري في الكشاف «فكهين» نصبا بالياء بدون ألف.

(١١) في ب الفاكهة. لحن.

(١٢) وانظر : البحر ٧ / ٣٤٢ والسمين ٤ / ٥٢٦ والكشاف ٣ / ٣٢٧ واللسان (ف ك ه) ٣٤٥٣ و ٣٤٥٤.

(١٣) البحر والكشاف المرجعان السابقان.

(١٤) المراجع السابقة.

(١٥) هو عبد الرحمن بن كيسان المفسر له آراء في التفسير كثيرة وليس بابن كيسان النّحويّ المعروف انظر : طبقات المفسرين للسيوطي.

٢٤٤

وقيل : في ضيافة الله فاكهون. وقيل : في شغل عن هول اليوم بأخذ ما آتاهم الله من الثواب فما عندهم خير من عذاب ولا حساب (١). وقوله «فاكهون» متمّم لبيان سلامتهم فإنه لو قال : في شغل جاز أن يقال هم في شغل أعظم من التذكر في اليوم وأهواله فإن من يصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره أو يخبر بخسران وقع في ماله يقول أنا مشغول عن هذا بأهمّ منه فقال : فاكهون أي شغلوا عنه باللّذة والسّرور لا بالويل والثّبور. وقال ابن عباس : فاكهون فرحون (٢).

قوله : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) يجوز في «هم» أن يكون تأكيدا للضمير المستكنّ في : «فاكهون» و «أزواجهم» عطف على المستكن ، ويجوز أن يكون تأكيدا للضمير المستكنّ في «شغل» إذا جعلناه خبرا و «أزواجهم» عطف عليه (مستكن ويجوز أن أيضا) (٣). كذا ذكره (٤) أبو حيان (٥). وفيه نظر من حيث الفصل بين المؤكد والمؤكد بخبر «أن» ، ونظيره أن نقول : «إنّ زيدا في الدّار قائم هو وعمرو» على أن يجعل «هو» تأكيدا للضمير في قولك : «في الدار» ، وعلى هذين الوجهين يكون قوله : «متّكئون» خبرا آخر ل «إنّ» (٦) و (فِي ظِلالٍ) متعلق (٧) به أو حال (٨) ، و (عَلَى الْأَرائِكِ) متعلق به (٩) ، ويجوز أن يكون «هم» مبتدأ (١٠) ومتكئون خبره والجاران على ما تقدم (١١) ، وجوز أبو البقاء أن يكون (فِي ظِلالٍ) هو الخبر (١٢) قال (عَلَى الْأَرائِكِ) مستأنف (١٣). وهي عبارة موهمة غير الصواب ويريد بذلك أن «متّكئون» خبر مبتدأ مضمر و (عَلَى الْأَرائِكِ) متعلق به ، فهذا وجه استئنافه لا أنه خبر مقدم و «متكئون» مبتدأ مؤخر إذ لا معنى له (١٤). وقرأ عبد الله «متّكئين» نصبا على الحال (١٥). وقرأ الأخوان (فِي ظُلَلٍ) بضم الظاء (١٦) والقصر. وهو جمع ظلّة نحو غرفة وغرف ، وحلّة وحلل. وهي عبارة عن الفرش والستور والباقون

__________________

(١) انظر : زاد المسير ٧ / ٢٨ والبغوي ٦ / ١٢.

(٢) الرازي ٢٦ / ٩١.

(٣) زيادة من ألا معنى لها.

(٤) الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٢٧ قد ذكر هذين الوجهين البحر ٧ / ٣٤٢ والدر المصون ٤ / ٥٢٦.

(٥) المرجعين السابقين والتبيان ١٠٨٥.

(٦) البيان ٢ / ٢٩٩ والتبيان ١٠٨٥ والسمين ٤ / ٥٢٦.

(٧) قال بذلك ابن الأنباري ٢ / ٢٩٩ في بيانه.

(٨) السمين والتبيان السابقان والبحر ٧ / ٣٤٢.

(٩) السمين ٤ / ٥٢٦.

(١٠) الكشاف ٣ / ٣٢٧ والنحاس ٤ / ٤٠١ والبيان ٢ / ٢٩٩.

(١١) من تعلق «في ظلال» بالخبر «متكئون» ومن تعلق على الأرائك ب «في الظلال».

(١٢) خبر «هم». انظر : التبيان ١٠٨٥.

(١٣) السابق.

(١٤) انظر : الدر المصون لشهاب الدين السمين ٤ / ٥٢٦.

(١٥) من الشواذّ والتي لم ترو في المتواتر. انظر : ابن خالويه ١٢٧ والكشاف ٣ / ٣٢٧ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨٠.

(١٦) المرجع السابق وانظر : الإتحاف ٣٦٦ والسبعة ٥٤٢ والنشر ٢ / ٣٥٥ وحجة ابن خالويه ٢٩٩ وإبراز المعاني ٦٦٠ وهي من القراءات المتواترة.

٢٤٥

بكسر الظاء والألف جمع ظلّة أيضا كحلّة وحلال وبرمة وبرام أو جمع «فعلة» بالكسر إذ يقال : ظلّة وظلّة بالضم والكسر ، كلقحة ولقاح إلّا أن فعالا لا ينقاس فيها (١) أو جمع «فعل» نحو : ذئب وذئاب وريح ورياح (٢).

فصل

الأرائك هي السرر في الحجال واحدها أريكة. قال ثعلب : لا تكون أريكة (جمع) (٣) حتى يكون عليها حجلة. «متكئون» ذو (و) (٤) اتّكاء (٥). وهو إشارة إلى الفراغ. وقوله (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) إشارة إلى عدم الوحشة (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) إشارة إلى دفع جميع حوائجهم. وقوله : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) إشارة إلى أن لا جوع هناك لأن التفكه لا يكون لدفع ألم الجوع (٦).

قوله : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) في «ما» هذه ثلاثة أوجه : موصولة اسمية (أو) نكرة موصوفة والعائد على هذين محذوف (أو) مصدرية (٧). و «ويدّعون» مضارع ادّعى افتعل من دعا يدعو ؛ وأشرب (٨) التمني (٩). قال أبو عبيدة : العرب تقول : «ادّع عليّ ما شئت» أي تمنّ ، و «فلان في خير ما يدّعي» أي ما يتمنى (١٠) ، وقال الزجاج : هو من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم (١١) ، من : دعوت غلامي. فيكون (١٢) الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحل. وقيل : افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه كقولهم : ارتموا (١٣) وتراموا ، و «ما» مبتدأ (١٤) وفي خبرها وجهان :

__________________

(١) أي في فعلة.

(٢) انظر : البحر المحيط ٧ / ٣٤٢ والكشف لمكي ٢ / ٢١٩ ، والدر المصون ٤ / ٥٢٧ وحجة ابن خالويه ٢٩٩ الذي قال : «وحجة من قال بكسر الظاء أنه جعله جمع ظل وهو ما ستر من الشمس في أول النهار إلى وقت الزوال».

(٣) سقط من نسخة ب.

(٤) بالإفراد في ب.

(٥) وانظر : اللسان «أرك» ومعالم التنزيل للبغوي والفخر الرازي. اللسان ٦٥ ، والبغوي ٧ / ١٢ والرازي ٢٦ / ٩٣.

(٦) السابق أخيرا.

(٧) السمين في الدر ٤ / ٥٢٧ والتبيان ١٠٨٥ والبيان ٢ / ٣٠٠ والمشكل ٢ / ٢٣٠ وما بين الأقواس زيادات للسياق.

(٨) في ب وأثرت لحن ظاهر.

(٩) انظر : اللسان دعا ١٣٨٧.

(١٠) انظر : مجاز القرآن ٢ / ١٦٤.

(١١) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٩٢ ووافقه الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٢٧.

(١٢) قاله الرازي ٢٦ / ٩٣.

(١٣) هذا قول الزمخشري في كشافه ٣ / ٣٢٧.

(١٤) المشكل ٢ / ٢٣٠ والتبيان ١٠٨٥ والبيان ٢ / ٣٠٠.

٢٤٦

أظهرهما : أنه الجار قبلها (١).

والثاني : أنه «سلام» (٢) أي مسلم (٣) خالص أو ذو سلامة.

قوله : «سلام» العامة على رفعه وفيه أوجه :

أحدها : ما تقدم من كونه خبر (ما يَدَّعُونَ)(٤).

الثاني : أنه بدل منها. قاله الزمخشري (٥). قال أبو حيان : وإذا كان بدلا كان «ما يدّعون» خصوصا والظاهر أنه عموم في كل ما يدعونه وإذا كان عموما لم يكن بدلا منه (٦).

الثالث : أنه صفة (٧) «لما» وهذا إذا جعلتها نكرة موصوفة. أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخالفهما تعريفا (٨) وتنكيرا.

الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هو سلام (٩).

الخامس : أنه مبتدأ خبره الناصب ل (قوله) «قولا» أي سلام يقال لهم قولا. وقيل : تقديره سلام عليكم (١٠).

السادس : أنه مبتدأ وخبره (مِنْ رَبٍّ). و «قولا» مصدر مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر (١١) ، وقرأ أبيّ وعبد الله وعيسى سلاما بالنصب (١٢). وفيه وجهان :

أحدهما : أنه حال (١٣) ، قال الزمخشري : أي لهم مرادهم (١٤) خالصا.

والثاني : أنه مصدر (١٥) (أي) يسلمون سلاما إما من التحية وإما من السلامة.

__________________

(١) المراجع السابقة.

(٢) إعراب النحاس ٣ / ٤٠٢ وانظر هذا المرجع فيما سبق أيضا وانظر أيضا في هذا الوجه البيان ٢ / ٣٠١ ومشكل الإعراب ٢ / ٢٣١ والتبيان ١٠٨٥.

(٣) في ب سلم وهو غير مراد.

(٤) المراجع السابقة.

(٥) الكشاف ٣ / ٣٢٧.

(٦) البحر المحيط له ٧ / ٣٤٣.

(٧) البيان ٢ / ٢٠١ والمشكل ٢ / ٢٣١ والتبيان ١٠٨٥ والإعراب ٤ / ٤٠٢ وانظر في وجه البدلية مع الكشاف المراجع السابقة ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٩٢. وانظر في هذا كله السمين ٤ / ٥٢٧.

(٨) البحر المحيط ٧ / ٣٤٣ والسمين المرجع السابق.

(٩) التبيان السابق ومعاني الفراء ٢ / ٣٨١ والسمين ٤ / ٥٢٧.

(١٠) قاله أبو حيان في البحر ٧ / ٣٤٣ والسمين في الدر ٤ / ٥٢٧ و ٥٢٨.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٧ وابن جني في المحتسب ٢ / ٢١٥ والكشاف ٣ / ٣٢٧ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨٠ وهي من الشواذ.

(١٣) الكشاف ٣ / ٣٢٧ ومشكل الإعراب ٢ / ٢٣٠ والتبيان ١٠٨٥.

(١٤) الكشاف ٣ / ٣٢٧.

(١٥) البيان ٢ / ٣٠١ وانظر المراجع السابقة.

٢٤٧

و «قولا» إما مصدر مؤكد (١) ، وإما منصوب على الاختصاص (٢). قال الزمخشري : وهو الأوجه (٣) و (مِنْ رَبٍّ) إما صفة ل «قولا» وإما خبر «سلام» كما تقدم. وقرأ القرظيّ (٤) «سلم» بالكسر والسكون ، وتقدم الفرق بينهما في البقرة.

فصل

إذا قيل : بأن سلام بدل من (ما يَدَّعُونَ) فكأنه تعالى قال لهم ما يدعون ونبّه ببدله فقال : لهم سلام فيكون (٥) مبتدأ وخبره الجار والمجرور كما يقال : «في الدّار رجل ولزيد مال» وإن كان في النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة من المعرفة جائز (٦) ، فتكون «ما» بمعنى الذي معرفة ، وسلام نكرة. ويحتمل على هذا أن يقال : «ما» في قوله تعالى : (ما يَدَّعُونَ) لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شيء يدّعون ، ثم بين بذكر البدل فقال : «سلام». والأول أصحّ. وإن قيل : سلام خبر «ما» و «لهم» لبيان الجهة فتقديره ما يدعون سلام لهم أي خالص لهم. والسّلام بمعنى السالم والسليم ، يقال : عبد سلام أي سليم من العيوب كما يقال : لزيد الشّرف متوفر فالجارّ والمجرور يكون لبيان من له ذلك ، و «الشرف» هو المبتدأ «ومتوفر» خبره ، وإن قيل : «سلام» منقطع عما قبله وهو مبتدأ وخبره محذوف فتقديره : سلام عليهم ويكون ذلك إخبارا من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال : إنّ أصحاب الجنة في شغل ، ثمّ لمّا بين كمال حالهم قال : سلام عليهم كقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) و (سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين. أو يقال تقديره : سلام عليكم ويكون التفاتا حيث قال لهم كذا وكذا ، ثم قال : «سلام عليكم» (٧).

__________________

(١) التبيان والكشاف والإعراب للنّحّاس ٣ / ٤٠٢ والمشكل ٢ / ٢٣١.

(٢) وهو قول الزمخشري.

(٣) كشافه ٣ / ٣٢٧.

(٤) هو محمد بن كعب بن سليم أبو حمزة القرظيّ تابعيّ ، روى عن فضالة بن عبيد وغيره مات سنة ١٢٠ ه‍. انظر : غاية النهاية ١٣٣ / ٢. وقد ذكر قراءته ابن جني في المحتسب ٢ / ٢١٤ وهي من الشواذ وذكر المؤلف هناك في البقرة الفرق بين السّلم والسّلم عند الآية ٢٠٨ «ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» وبين هناك أن السّلم ـ بالكسر ـ هو السلام وبالفتح الصلح أو أنهما بمعنى. اللباب ١ / ٤٢٠.

(٥) أي سلام وخبره الجار والمجرور ويكون في المعنى.

(٦) هذا رأي الجمهور فقد قال السيوطي في الهمع : والجمهور لا تجب موافقة البدل لمتبوعه في التعريف والإظهار وضدهما فتبدل النكرة من المعرفة والمضمر من المظهر والمفرد من غيره وبالعكوس كقوله تعالى : «إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ». «لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ».

(٧) وهذا كلام الإمام فخر الدين الرازي كله في تفسيره الكبير ٢٦ / ٩٤ من كون رفع «سلام» واتصاله بما قبله وانقطاعه ومن كون إعراب «ما» ونوعيتها وقد أوضحته قبل قليل بالتفصيل من كلام المؤلف نفسه وغيره مما اعتمد عليهم في آرائهم. والآيتان «سَلامٌ عَلى نُوحٍ» «وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ» ، من الصافات الأولى ٧٩ ، والثانية ١٨١.

٢٤٨

فصل

إذا قيل : إنّ «قولا» منصوب على المصدر فتقديره على قولنا إن المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سلام يقوله الله قولا. أو تقول (١) الملائكة قولا ، وعلى قولنا ما يدعون (٢) سلام لهم فتقديره قال الله ذلك قولا ووعدهم أن لهم ما يدعون سلام وعدا ، وعلى قولنا : سلام عليهم (٣) فتقديره أقوله قولا ، وقوله (مِنْ رَبٍ (٤) رَحِيمٍ) يكون لبيان (أن) (٥) السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله (٦) قولا ، ويحتمل (٧) أن يقال على هذا بأنه تمييز (٨) ؛ لأن السلام قد يكون قولا وقد يكون فعلا فإن من يدخل على الملك يطأطىء رأسه يقال (٩) : سلمت على الملك فهو حينئذ كقول القائل : موجود حكما لا حسّا.

فصل

روى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرّبّ ـ عزوجل ـ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السّلام عليكم يا أهل الجنّة ؛ فذلك قوله ـ عزوجل ـ : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النّعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» (١٠). وقيل: تسلم عليهم الملائكة من ربهم كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] أي يقولون سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم ، وقيل : يعطيهم السلامة (١١).

قوله : (وَامْتازُوا) على إضمار قول مقابل لما قيل للمؤمنين أي ويقال للمجرمين امتازوا أي انعزلوا من مازه يميزه (١٢).

قال المفسرون : إن المجرم يرى منزلة المؤمن ورفعته (ويرى ذلّة نفسه) (١٣)

__________________

(١) كذا في النسختين وفي الرازي : تقوله بالهاء. وهذا على اعتبار أن «سلام» مبتدأ مؤخر.

(٢) وهذا على اعتبار أن «سلام» خبر ما.

(٣) وهذا على اعتبار أن سلام مبتدأ وخبره الناصب ل «قولا» كما أوضح هو وهذا رأي أبي حيان كما سبق.

(٤) وهو الجار والمجرور.

(٥) سقط ما بين القوسين من ب.

(٦) في ب أقول بدون عائد أو ضمير. وكلاهما صحيحان.

(٧) هذا رأي الإمام الفخر في تفسيره.

(٨) في النسختين مميز والتصحيح من الرازيّ والعرف اللّغويّ والسّياق.

(٩) في ب قال. وفي الرازي يقول.

(١٠) أخرجيه البغوي في تفسيره عن محمد بن المنكدر. انظره ٦ / ١٢.

(١١) السابق.

(١٢) الدر المصون ٤ / ٥٢٩.

(١٣) سقط من ب.

٢٤٩

فيتحسر فيقال : امتازوا اليوم. وقيل : المعنى ادخلوا مساكنكم من النار ، وقال أبو العالية تميزوا ، وقال السدي : كونوا على حدة (١). وقال الزجاج : انفردوا عن المؤمنين (٢) والمجرم هو الذي يأتي بالجريمة. وقيل: إن قوله وامتازوا أمر تكوين فحين يقول فيميزون بسيماهم ويظهر على جباههم أو في وجوههم سواد كما قال تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١].

قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)(٦٨)

قوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) العامة على فتح الهمزة على الأصل في حرف المضارعة ، وطلحة والهذيل بن شرحبيل (٣) الكوفي بكسرها (٤). وتقدم أن ذلك لغة في حروف المضارعة بشروط ذكرت في الفاتحة (٥) ، وقرأ ابن وثاب «أحّد» بحاء مشدّدة (٦) ، قال الزمخشري : وهي لغة تميم ومنه (٧) : «دحّا محّا» أي دعها معها فقلبت الهاء حاء ثم العين حاء حين أريد الإدغام ، والأحسن أن يقال : إن العين أبدلت حاء وهي لغة هذيل فلما أدغم قلب الثاني للأول وهو عكس باب الإدغام. وقد مضى تحقيقه آخر آل عمران ، وقال ابن خالويه وابن وثاب والهذيل : (أَلَمْ أَعْهَدْ) بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء (٨). وروي عن ابن وثاب «أعهد» بكسر الهاء

__________________

(١) معالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٢.

(٢) قاله في معاني القرآن وإعرابه له ٤ / ٢٩٢.

(٣) لم أقف عليه.

(٤) من القراءات الشاذة وقد نسبها ابن خالويه إلى ابن وثاب ١٢٥ وقد ذكرها الزمخشري بدون نسبة كمعظم أقواله. انظر الكشاف ٣ / ٣٢٧ وانظر الدر المصون ٤ / ٥٢٨ والبحر المحيط ٧ / ٣٤٣.

(٥) وهي أن لا يكون حرف المضارعة ياء لثقل ذلك رغم أن بعضهم قال : ييجل مضارع (وجل) وأن يكون المضارع من ماض مكسور العين نحو : عهد وسمع ، أو في أوله همزة وصل نحو : نستعين من استعان أو تاء مطاوعة نحو نتعلم من تعلّم. انظر : اللباب ١ / ٢٧ ب.

(٦) المراجع السابقة.

(٧) الكشاف ٣ / ٣٢٧. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣٤٣ والدر المصون ٤ / ٥٢٨.

(٨) مختصر ابن خالويه ١٢٥.

٢٥٠

يقال : عهد وعهد ، انتهى (١). يعني بكسر الميم (٢) والهمزة أن الأصل في هذه القراءة أن يكون كسر حرف المضارعة ثم نقل حركته إلى الميم فكسرت لا أن الكسر (٣) موجود في الميم وفي الهمزة لفظا إذ يلزم من ذلك قطع همزة الوصل وتحريك الميم من غير سبب ، وأما كسر الهاء فلما ذكر من أنه سمع في الماضي «عهد» بفتحها (٤). قوله : «سوى الياء» ـ وكذا قال الزمخشري (٥) ـ هو المشهور ، وقد نقل عن بعض كلب أنهم يكسرون الياء فيقولون : يعلم. وقال (٦) الزمخشري فيه : وقد جوز الزجاج أن يكون من باب : نعم ينعم وضرب يضرب (٧) يعني أن تخريجه (٨) على أحد وجهين إما بالشذوذ فيما اتّحد فيه فعل يفعل بالكسر فيهما كنعم ينعم وحسب يحسب ، ويئس ييئس. وهي ألفاظ معدودة في البقرة (٩). وإما (أنه) (١٠) سمع في ماضيه الفتح كضرب كما حكاه ابن خالويه (١١) ، وحكى الزمخشري أنه قرىء «أحهد» (١٢) بإبدال العين حاء. وقد تقدم أنها لغة هذيل. وهذه تقوي أن أصل أحد أحهد فأدغم كما تقدم. قوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا) و (وَأَنِ اعْبُدُونِي) يجوز في «أن» أن تكون مفسرة فسرت العهد بنهي وأمر وأن تكون مصدرية (أي) (١٣) ألم أعهد إليكم في عدم عبادة الشيطان وفي عبادتي (١٤).

__________________

(١) حكاه المؤلف عن السمين عن أبي حيان عن ابن عطية انظر : الدر المصون ٤ / ٥٢٩ ، والبحر المحيط ٧ / ٣٤٣ والذي في المختصر ـ مختصر ابن خالويه ـ : «ألم أعهد إليكم يحيى بن وثاب : ألم أحّد إليكم».

(٢) الواقع أن هذا كلام من كلام ابن عطية فيما رواه عنه أبو حيان في البحر المحيط فقد قال : «وقال ابن عطية وقرأ هذيل وابن وثاب ألم إعهد بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء». فما ذكره المؤلف أعلى كلام متصل بكلام قبله هو ما ذكرت وهو في الواقع مقولة ابن عطية فيما نقله عنه أبو حيان في البحر المحيط وهو شاذ في الرواية فلم أجده في كتب القراءات سوى البحر لأبي حيّان.

(٣) في ب الكسرة بالتأنيث.

(٤) بالمعنى من البحر المحيط لأبي حيان ٧ / ٣٤٣ وباللفظ من السّمين ٤ / ٥٢٩ ولما نقلت حركة الهمزة إلى الميم قبلها أصبحت همزة وصل ألم اعهد.

(٥) الكشاف ٣ / ٣٢٧.

(٦) السابق.

(٧) قال في معاني القرآن وإعرابه : «والكسر يجوز على ضربين على عهد يعهد وعلى عهد يعهد مثل حسب يحسب».

(٨) في ب يخرجه.

(٩) وهي نعم ينعم ويئس ييئس ويبس وييبس وعمد يعمد والفتح لغة تميم والكسر أهل الحجاز.

(١٠) سقط من ب.

(١١) البحر ٧ / ٣٤٣.

(١٢) الكشاف ٣ / ٣٢٧.

(١٣) سقط من ب.

(١٤) الدر المصون ٤ / ٥٢٩ و ٥٣٠ وجعلها مكيّ وابن الأنباري مصدرية. البيان ٢ / ٣٠١ ومشكل الإعراب ٢ / ٢٣١.

٢٥١

فصل

في معنى هذا العهد وجوه : أقواها (١) ألم أوص إليكم ، واختلفوا في هذا العهد فقيل : هو العهد الذي كان مع آدم في قوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) [طه : ١١٥] وقيل : هو الذي كان مع ذرية آدم حين أخرجهم وقال : ألست بربّكم قالوا بلى ، وقيل : مع كل قوم على لسان رسولهم. وهو الأظهر ، وقوله (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي لا تطيعوا الشيطان. والطاعة قد تطلق على العبادة ثم قال : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة ووجه عداوته أنه لما أكرم الله آدم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ عاداه إبليس.

فإن قيل : إذا كان الشيطان عدوا للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزّنا والشّرب ويكره ما يسخطه من المجاهدة والعبادة؟

فالجواب : استعانة الشيطان بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله فيستعين بشهوته التي خلقها الله فيه لمصالح بقائه وبقاء نوعه ويجعلها سببا لفساد حاله ويدعوه بها إلى مسالك المهالك وكذلك يستعين بغضبه الذي خلقه الله فيه لدفع المفاسد عنه ويجعلها سببا لوباله وفساد أحواله وميل الإنسان إلى المعاصي كميل المريض إلى (المصادر) (٢) ، وذلك حيث ينحرف المزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يزيد من مرضه ومن معدته فاسدة لا يهضم (٣) القليل من الغذاء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه.

قوله : (وَأَنِ اعْبُدُونِي) أطيعوني ووحّدوني (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لما منع من عبادة الشيطان بقوله : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي خلقا كثيرا (٤).

قوله : «جبلّا» قرأ نافع وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وأبو عمرو وابن عامر بضمة وسكون (٥) والباقون بضمتين واللام مخففة في كلتيهما (٦). وابن أبي

__________________

(١) قال بهذه الوجوه كلها في كتابه التفسير الكبير ٢٦ / ٩٦ وقال ابن الجوزي في زاد المسير بالأول انظر : زاد المسير ٧ / ٣٠ وانظر : معالم التنزيل ٦ / ١٣.

(٢) سقطت من ب.

(٣) في ب تهضم أي المعدة وهي في الرازي بالياء ومن به فساد المعدة فلا يهضم القليل من الغذاء.

(٤) وانظر : الرازي ٢٦ / ٩٦.

(٥) من القراءات السبعية المتواترة هي وما قبلها. انظر النشر لابن الجزري ٢ / ٣٥٥ وحجة ابن خالويه ٢٩٨ والسبعة ٥٤٢ والإتحاف ٣٦٦ وإبراز المعاني ٦٦٠ والدر المصون ٤ / ٥٣٠.

(٦) إحدى القراءات السبع المتواترة أيضا. انظر : النشر ٢ / ٣٥٥ وحجة ابن خالويه ٢٩٨ والسبعة ٥٢٢ والإتحاف ٣٦٦ والسمين ٤ / ٥٣٠ وذكر القراءات الثلاثة الإمام ابن الجوزي في زاد المسير ٧ / ٣٠.

٢٥٢

إسحاق والزّهريّ وابن هرمز بضمتين وتشديد اللام (١) والأعمش بكسرتين (٢) وتخفيف اللام (٣) والأشهب العقيلي (٤) واليمانيّ وحماد بن سلمة (٥) بكسرة (٦) وسكون وهذه لغات في هذه اللفظة وتقدم معناها آخر الشعراء (٧). وقرىء جبلا بكسر الجيم وفتح الباء جمع جبلة ، كفطر جمع فطرة (٨) ، وقرأ عليّ بن أبي طالب بالياء من أسفل (ثنتان) (٩). وهي واضحة.

قال ابن الخطيب : الجيم (١٠) والباء لا تخلو عن معنى الاجتماع (و) الجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب ، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعة اللبن الكثير ، ولا يقال : البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبىء عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنّا نقول : هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات فإن البلجة والبلدة بمعنى. والبلد سمي بلدا للاجتماع ، لا لتفرق (١١) الجمع (العظيم) (١٢) حتى قيل : إن دون العشرة آلاف لا يكون بلدا وإن لم يكن صحيحا. قوله : (أَفَلَمْ تَكُونُوا) قرأ العامة بالخطاب لبني آدم. وطلحة (١٣) وعيسى (١٤) بياء الغيبة (١٥) والضمير للجبل ، ومن حقهما أن يقرءا : التي كانوا يوعدون لو لا أن يعتذروا بالالتفات (١٦).

فصل

في كيفية هذا الإضلال وجهان :

__________________

(١) من الأربع فوق العشرة وهي قراءة روح أيضا. انظر : المحتسب ٢ / ٢١٦ والإتحاف ٣٦٦ والكشاف ٣ / ٣٢٨.

(٢) في أوتحقيق بالقاف والحاء وهو غير المراد فالتصحيح من ب والكتب المعتمدة.

(٣) من الشواذ غير المتواترة انظر : مختصر ابن خالويه ١٢٥ والكشاف ٣ / ٣٢٨ والسمين ٤ / ٥٣٠ والبحر ٧ / ٣٤٤.

(٤) لم أقف عليه.

(٥) ابن دينار أبو سلمة البصري الإمام الكبير روى القراءة عرضا عن عاصم وابن كثير روى عنه حرمي بن عمارة وحجاج بن المنهال مات سنة ١٦٧ ه‍. انظر : الغاية ١ / ٢٥٨.

(٦) مختصر ابن خالويه ١٢٥ والمحتسب ٢ / ٢١٦.

(٧) عند قوله : «وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ» الآية ١٨٤ وكلها لغات بمعنى الخلق. انظر : اللباب ٦ / ٣٥٠ ب وانظر : الكشاف ٣ / ٣٢٨ والرازي ٢٦ / ١٠٠.

(٨) من الشواذ. المراجع السابقة.

(٩) كذا في النسختين. ولم أعرف قصده. وانظر البحر ٧ / ٣٤٤ وبقية المراجع السابقة.

(١٠) الرازي ٢٦ / ١٠٠ وانظر : اللسان «ج ب ل» ٥٣٧ ، وبلد ٣٤٠.

(١١) في ب لتفريق.

(١٢) سقط من ب.

(١٣) إذا أطلق فهو ابن مصرف.

(١٤) الثقفي كما هو معروف.

(١٥) ذكرها أبو حيان في البحر ٧ / ٣٤٤ والسمين في الدر ٤ / ٣٥٠.

(١٦) الأخير السابق.

٢٥٣

الأول : تولّيه عن المقصد وخديعته (١) فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو توليه فإن لم يقدر يحيد (٢) بأمر غير ذلك من رياسة وجاه وغيرهما وهو يفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل (٣) التولية. ثم قال : (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس. ويقال لهم لما دنوا من النار : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها في الدنيا (٤)(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) أي ادخلوها (٥) اليوم (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ). وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه :

أحدها : قوله تعالى : (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) أمر تنكيل وإهانة كقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩].

الثاني : قوله : «اليوم» يعني العذاب حاضر ولذاتك قد مضت وبقي اليوم العذاب.

الثالث : قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) فإن الكفر والكفران ينبىء عن نعمة كانت فكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشدّ الآلام كما قيل : أليس الله بكاف لذي همّة حياء المسيء من المحسن(٦).

قوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ) اليوم ظرف لما بعده. وقرىء يختم (٧) مبنيا للمفعول. والجار بعده قائم مقام فاعله. وقرىء : «وتتكلم» (٨) بتاءين من فوق. وقرىء ولتتكلّم ولتشهد بلام الأمر. وقرأ (٩) طلحة ولتكلّمنا ولتشهد بلام كي ناصبة للفعل ومتعلقها محذوف أي للتكلم وللشهادة ختمنا (١٠). و (بِما كانُوا) أي بالذي كانوا أو بكونهم كاسبين (١١).

__________________

(١) كذا في النسختين. وفي الرازي : وصد عنه.

(٢) كذا في النسختين. وفي الرازي : فإن لم يقدر يأمره بعبادة الله لأمر غير الله.

(٣) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٦ / ١٠٠.

(٤) قاله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ١٢.

(٥) السابق.

(٦) الرازي ٢٦ / ١٠١ وفي الرازي لذي نعمة ، وانظر هذه الحكمة من خلال هذا البيت الشعري في السراج المنير للخطيب الشربيني ٣ / ٣٥٩.

(٧) لم يذكر أبو حيان من قرأ بها وكذلك تلميذه شهاب الدين السمين انظر : البحر ٧ / ٣٤٤ والدر المصون ٤ / ٥٣٠ وانظر الكشاف ٣ / ٣٢٨.

(٨) المراجع السابقة

(٩) المراجع السابقة البحر والسمين والدر والكشاف وانظر : شواذ القرآن ٢٠٤.

(١٠) البحر والدر المرجعان السابقان.

(١١) الدر المصون ٤ / ٥٣١.

٢٥٤

فصل

في الترتيب (١) وجهان :

الأول : أنهم حين يسمعون قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) يريدون ينكرون كفرهم كما قال عنهم : (ما أَشْرَكْنا) (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله جوارحهم غير لسانهم فيعترفون بذنوبهم.

الثاني : لما أن قال الله تعالى لهم : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان. وفي الختم على الأفواه وجوه أقواها : أن الله تعالى يسكت ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهدون عليهم وأنه في قدرة الله يسير (و) (٢) أما الإسكان فلا خفاء فيه وأما الإنطلاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة كما جاز تحرك غيره بمثلها والله قادر على كل الممكنات. والوجه الآخر : أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي (٣) الرّؤوس لا يجدون عذرا فيعتذرون ولا مجال (٤) توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمور بحيث لا يسمع معه الإنكار كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن والصحيح (٥) الأول لما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال : فيختم على فيه ، فيقال لأركانه انطقي قال : فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعد لكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل (٦) وقال عليه (الصلاة و) السلام : «أول ما يسأل من أحدكم فخذه ولفه» (٧).

فإن قيل : ما الحكمة في إسناده (٨) الختم إلى نفسه وقال «نختم» وأسند الكلام والشهادة إلى الأرجل والأيدي؟

فالجواب : أنه لو قال : نختم على أفواههم وتنطق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبرا منه وقهرا والإقرار والإجبار غير مقبول فقال : تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم أي باختيارها يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.

فإن قيل : ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي وجعل الشهادة للأرجل؟

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي ٢٦ / ١٠١.

(٢) زيادة الواو من النسختين لا معنى لها.

(٣) تصحيح من الرازي ومن السياق اللغوي ففي النسختين ناكسو.

(٤) في ب محال بالحاء وما في أيوافق الرازي.

(٥) السابق ٢٦ / ١٠١.

(٦) أخرجه البغوي في تفسيره عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

(٧) أورده ابن كثير في تفسيره عن الرازي انظر : تفسيره ٣ / ٥٧٧.

(٨) انظر في كل هذا تفسير الرازي ٢٦ / ١٠١ و ١٠٢.

٢٥٥

فالجواب : لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) [يس : ٣٥] أي ما عملوه وقال (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] أي لا تلقوا بأنفسكم ، فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل (١) الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهم.

فإن قيل : إن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة وإن كان عدلا وغير الصدّيقين من الكفار والفساق لا تقبل شهادتهم والأيدي والأرجل صدرت الذنوب (منها) (٢) فهي فاسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها.

فالجواب : أن الأيدي والأرجل ليسوا من أهل التكليف ولا ينسب إليها عدالة ولا فسق (٣) ، إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه ، ولا يقال : إن العين تزني وإن الفرج يزني. وأيضا فإنا نقول : في رد شهادتها (قبول (٤) شهادتها) لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لا بدّ أن يكون مذنبا في الدنيا وإن صدقت في مثل ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا وهذا كمن قال لفاسق : «إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حرّ» فقال الفاسق : كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد (٥) ؛ لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار ذلك اليوم فوجد الشرط (٦) أيضا بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذا فيه.

قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) أي أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شقّ وهو معنى الطّمس (٧) ، كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) [البقرة: ٢٠] يقول : إذا (٨) أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة (٩).

قوله : «فاستبقوا» عطف على «لطمسنا» وهذا على سبيل الفرض والتقدير (١٠). وقرأ عيسى فاستبقوا أمرا (١١). وهو على إضمار القول أي فيقال لهم استبقوا (١٢) والصّراط ظرف مكان مختص عند الجمهور فلذلك تأولوا وصول الفعل إليه إما بأنه مفعول (به) (١٣)

__________________

(١) في ب فتجعل الأرض والأرض لحن غير مراد.

(٢) سقط من ب.

(٣) في ب ضيق.

(٤) سقط من ب فقط.

(٥) كذا في الرازي وب. وأ الأب.

(٦) الأصح كما في الرازي : فقد وجد الشرط ووجب الجزاء وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار اليوم فوجد الشرط الخ ...

(٧) غريب القرآن ٣٦٧ واللسان طمس والقرطبي ١٥ / ٤٧.

(٨) في البغوي كما.

(٩) البغوي ٦ / ١٤.

(١٠) البحر المحيط ٧ / ٣٤٤ والدر المصون ٤ / ٥٣١.

(١١) من الشواذ ذكرها البحر والدر المرجعان السابقان ومختصر ابن خالويه ١٢٦.

(١٢) البحر ٧ / ٣٤٤ والدر المصون ٤ / ٥٣١.

(١٣) سقط من ب.

٢٥٦

مجازا جعله مستبقا لا مستبقا إليه ويضمن استبقوا معنى بادروا وإما على حذف الجار أي إلى الصراط (١). وقال الزمخشري : منصوب على الظرف (٢) ، وهو ماش على قول ابن الطراوة (٣) فإن الصراط والطريق ونحوهما ليست عنده مختصة (٤) إلا أن سيبويه على أن قوله :

٤١٨٤ ـ لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (٥)

ضرورة لنصبه الطريق.

وقرأ أبو بكر مكاناتهم (٦) جمعا ، وتقدم في (٧) الأنعام. والعامة على «مضيّا» بضم الميم وهو مصدر على فعول أصله مضوي (٨) فأدغم وكسر ما قبل الياء ليصبح نحو : «لقيّا» (٩). وقرأ أبو حيوة ورويت عن الكسائيّ مضيّا (أي) (١٠) بكسر الميم إتباعا لحركة العين (١١) نحو (عتياوصليا) [مريم : ٦٩ ـ ٧٠] ، وقرىء بفتحها وهو من المصادر التي وردت على فعيل كالرّسيم والزّميل (١٢).

__________________

(١) ذكر هذه الأقوال الكشاف ٣ / ٣٢٨ والبحر ٧ / ٣٤٤ والسمين في الدر المصون ٤ / ٥٣١ وذكر القول الأول النحاس في الإعراب ٤ / ٤٠٣.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٢٨.

(٣) أبو الحسن سليمان بن محمد سمع من الأعلم الكتاب كانت له آراء وانفرد بمسائل مخالفة عن العلماء انظر : نشأة النحو للمرحوم الشيخ الطنطاوي ١٩٦.

(٤) نقلها عنه أبو حيان في البحر ٧ / ٣٤٤.

(٥) من تمام الكامل وهو لساعدة بن جؤيّة ويروى «لذّ» بدل لدن واللدن اللّين الناعم والعسلان : سير سريع في اضطراب وهو يشبّه نفسه في السرعة والمهارة في استخدام الرمح بسير الثعلب والشاهد : «عسل الطريق» فإنه منصوب على نزع الخافض لا على الظرف عند سيبويه. قال سيبويه : «وقد قال بعضهم ذهبت الشام يشبهه بالمبهم. وهو شاذ لأنه ليس في مذهبه دليل على الشام». قال : «ومثل ذلك قول ساعدة» وأنشد البيت انظر : الكتاب ١ / ٣٥ و ٣٦ و ٢١٤ والهذليّين ١ / ١٩٠ ، والكامل ١ / ٣٦٩ ، واللسان عسل والبحر ٧ / ٣٤٤ والخصائص ٣ / ٣١٩ والتصريح ١ / ٣١٢ والمغني ١١ و ٥٢٥ و ٥٧٦ ، والهمع ١ / ٢٠٠ و ٢ / ٨١ والأشموني ٢ / ٩١ و ٩٧ والشجري ١ / ٤٢ و ٢ / ٢٤٨ وشرح شواهد المغني للسيوطي ١٧ و ٨٨٥.

(٦) من المتواتر وهي رواية أبي بكر عن عاصم. انظر : إتحاف فضلاء البشر ٣٦٦ والسبعة ٥٤٢ والدر المصون ٤ / ٥٣٢ والكشاف ٣ / ٣٢٩. والمكانة والمكان بمعنى.

(٧) يقصد قوله : «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» الآية ٢٣٥ منها. فقرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم وكذلك قرأ الحسن جمعا. وقال هناك : إن الميم من «مكانة» إما أن تكون أصلية وإما أن تكون زائدة أصلية في مكن يمكن وزائدة من الكون. انظر : اللباب ٣ / ٢١٧.

(٨) فقد اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون الأصلي فقلبت الواو ياء ثم أدغمتا في بعضهما.

(٩) كانت لقوي.

(١٠) زيادة لا معنى لها من أ.

(١١) أوردها أبو حيان في البحر ٧ / ٣٤٤ والسمين في الدر ٤ / ٥٣٢.

(١٢) المرجعان السابقان فتكون «مضيّا» فيها لغات وقراءات ثلاث مضيّا ومضيّا ومضيّا.

٢٥٧

فصل (١)

المعنى كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة فاستبقوا الصراط فتبادروا إلى الطريق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) كيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم يعني لو نشاء لأضللناهم عن الهدى وتركناهم عميا يترددون فكيف يبصرون الطريق حينئذ؟ هذا قول الحسن ، وقتادة ، والسدي. وقال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة : معناه لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم. (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) أي مكانهم أي لو نشاء جعلناهم قردة وخنازير في منازلهم لا أزواج لهم (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) إلى ما كانوا عليه. وقيل : لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع.

قوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) قرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة من نكّسه مبالغة (٢) ، والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف (٣) ، خفيفة من نكسه. وهي محتملة للمبالغة وعدمها. وقد تقدم في الأنعام أن نافعا وابن ذكوان قرءا «تعقلون» والباقون بالغيبة (٤).

فصل (٥)

معنى ننكسه نردّه إلى أرذل العمر شبه الصّبيّ في أول الخلق ، وقيل : ننكسه في الخلق أي ضعف جوارحه بعد قوتها ونقصانها بعد زيادتها (أَفَلا يَعْقِلُونَ) فيعتبرون (٦) ، ويعلمون أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت.

قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)(٧٠)

قوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا : إن محمدا شاعر ، وما يقوله شعر فأنزل الله تكذيبا لهم وما علمناه الشعر وما ينبغي له أي ما يتسهل له ذلك وما كان يتّزن له بيت شعر حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه

__________________

(١) انظر هذا الفصل في معالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٤.

(٢) من القراءات المتواترة السبعية انظر : النشر ٢ / ٣٥٥ وتقريبه ٨٦٥ وحجة ابن خالويه ٣٩٩ والسبعة ٥٤٣ ومعاني الفراء ٢ / ٣٨١ والسمين ٤ / ٥٣٢. والمبالغة تجيء من التضعيف فقد قالوا : زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

(٣) انظر ما سبق من مراجع.

(٤) من الآية ٣٢ من الأنعام : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

(٥) معالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٤ و ١٥.

(٦) في ب أفلا تعقلون فتعتبرون وتعلمون بالتاء.

٢٥٨

منكسرا. روى (١) الحسن أن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يتمثل بهذا البيت :

كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا (٢)

فقال أبو بكر : يا نبي الله إنما قال الشاعر : كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا. فقال عمر : أشهد أنك رسول بقول الله ـ عزوجل ـ : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) وعن أبي شريح قال : قلت لعائشة : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يتمثل من الشعر قالت : كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت : وربما قال :

٤١٨٥ ـ ويأتيك بالأخبار من لم تزود (٣)

وفي رواية (قالت) (٤) : كان الشعر أبغض الحديث إليه ، قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس طرفة :

٤١٨٦ ـ ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

فجعل يقول : ويأتيك من لم تزود بالأخبار. فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله فقال : إني لست بشاعر ولا ينبغي لي (٥). وقيل : معناه ما كان (٦) يتأتى له. قاله ابن الخطيب. وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة (٧) اللفظ والوزن والشارع يكون اللفظ منه تبعا للمعنى والشاعر يكون المعنى منه تبعا للفظ لأنه يقصد لفظا به يصح وزن الشعر (أ) و (٨) قافيته فيحتاج إلى التخيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ. وعلى هذا فنقول : الشعر هو الكلام الموزون الذي قصد إلى وزنه قصدا أوليا وأما من يقصد المعنى فيصدر موزونا لا يكون شاعرا ألا ترى أن قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] ليس بشعر والشاعر إذا صدر منه هذا الكلام فيه متحركات وساكنات بعدد ما في الآية تقطيعه (٩) بفاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن يكون شعرا لأنه قصد الإتيان بألفاظ حروفها متحركة وساكنة كذلك. والمعنى (١٠) تبعه. والحكيم قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ وعلى هذا يحصل

__________________

(١) المراجع السابقة.

(٢) من الطويل وهو لعبد بني الحسحاس سحيم. وقد تقدم.

(٣) البيت من الطويل وهو لطرفة بن العبد. وأورده أبو حيان في البحر ٧ / ٣٤٥ وانظر : تفسير ابن كثير ٣ / ٥٧٩ ومجمع البيان للطبرسي ٧ / ٦٧٥ والدر المنثور للسيوطي ٧ / ٧١ وفتح القدير للشوكاني ٤ / ٣١٩ ولباب التأويل للخازن ٦ / ١٥ ومعالم التنزيل للبغوي ٦ / ١٥ وتفسير العلامة القرطبي ١٥ / ٥١.

(٤) سقطت من ب.

(٥) البغوي والخازن السابقان.

(٦) نقله الرازي في ٢٦ / ١٠٤.

(٧) في ب لمراعاته.

(٨) الهمزة سقطت من ب.

(٩) في ب مقطعة.

(١٠) وفيها : فالمعنى.

٢٥٩

الجواب عن قول من يقول : إنّ النبي ذكر بيت شعر وهو قوله :

٤١٨٧ ـ أنا النّبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب (١)

أو بيتين لأنا نقول : ذلك ليس بشعر لعدم قصده إلى الوزن والقافية وعلى هذا لو صدر من النبي ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ كلام كثير موزون مقفّى لا يكون شعرا لعدم قصده اللفظ قصدا أوليّا ، ويؤيد ما ذكرنا أنك إذا تتبعت كلام الناس في الأسواق تجد فيه ما يكون موزونا واقعا في بحر من بحور الشعر ولا يسمى المتكلم به شاعرا ولا الكلام شعرا لفقد القصد إلى اللفظ أولا.

فصل

وجه الترتيب ما تقدم من أنه تعالى في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة وهي الوحدانية والرسالة والحشر ذكر الأصل الثالث منها وههنا ذكر أصلين الوحدانية والحشر. أما الوحدانية ففي قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) وفي قوله : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) وأما الحشر ففي قوله تعالى : (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) وبقوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ (عَلى أَفْواهِهِمْ) إلى غير ذلك فلما ذكرهما وبينهما (٢) ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).

فقوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يعلّمه ما لم يرد.

فإن قيل : لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أشياء من جملتها السحر ، والكهانة ولم يقل : وما علمناه السّحر وما علمناه الكهانة؟

فالجواب : أما الكهانة فكانوا ينسبون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إليها عند ما كان يخبر عن الغيوب ويكون كما يقول. وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عند ما كان يفعل ما لا يقدر عليه (٣) الغير كشقّ القمر ، وتكلم الحجر ، والجذع وغير ذلك ، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عند ما كان يتلو القرآن عليهم لكنه ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ ما كان يتحدّى إلا بالقرآن كما قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] إلى غير ذلك ولم يقل : إن كنتم في شك من رسالتي فاقطعوا (٤) الجذوع أو أشبعوا الخلق العظيم أو أخبروا الغيوب فلما كان تحديه عليه (الصلاة و) السلام بالكلام وكانوا

__________________

(١) انظر : تفسير الرازي ٢٦ / ١٠٥ و ١٠٤.

(٢) في ب ذكرهما وبينه.

(٣) وانظر هذا كله في تفسير العلامة الفخر الرازي ٢٦ / ١٠٥ و ١٠٤ وانظر : القرطبي ١٥ / ٥١ و ٥٢ ومعالم التنزيل ٦ / ١٥ ولباب التأويل ٦ / ١٥ أيضا.

(٤) كذا في النسختين. وفي تفسير الرازي : بدل «فاقطعوا» فأنطقوا.

٢٦٠