اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

التّرجيع (١) ، وقيل : التسبيح بلغة الحبشة (٢) ، وقال القتيبيّ (٣) : أصله من التأويب في السير وهو أن يسير النهار كلّه ، وينزل ليلا كأنه قال : ادأبي النّهار كلّه بالتسبيح معه (٤) ، وقال وهب : نوحي معه (٥) ، وقيل : سيري معه (٦) ، والتضعيف يحتمل أن يكون للتكثير ، واختار أبو حيان أن يكون للتعدي قال : لأنهم فسّروه برجع مع التسبيح (٧) ، ولا دليل فيه لأنه دليل معنى (٨).

وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق : أوبي بضم الهمزة أمرا من آب يؤوب أي ارجع معه بالتسبيح (٩).

قوله : «والطير» العامة على نصبه وفيه أوجه :

أحدها : أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديرا (١٠).

الثاني : أنه مفعول معه قاله الزجاج (١١). ورد عليه بأن قبله لفظ «معه» ولا يقتضي العامل أكثر من مفعول معه واحد إلا بالبدل أو العطف لا يقال : جاء زيد مع بكر مع عمرو (١٢). قال شهاب الدين : وخلافهم في تقصّيه (١٣) حالين يقتضي مجيئه هنا (١٤).

الثالث : أنه عطف على «فضلا» ، قاله الكسائي (١٥) ، ولا بدّ من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلا وتسبيح الطير.

__________________

(١) المراجع السابقة.

(٢) البحر ٧ / ٢٦٢ والجامع لأحكام القرآن ١٤ / ٢٦٥.

(٣) هو ابن قتيبة وقد عرفت به آنفا.

(٤) ٣٥٢ وقاله أيضا في تأويل المشكل ٨٤ واللسان آب.

(٥) القرطبي ١٤ / ٢٦٤.

(٦) معالم التنزيل ٥ / ٣٨٣.

(٧) البحر ٧ / ٢٦٢.

(٨) الدر المصون ١٤ / ٤١٦ والعبرة بالتعدي باللفظ.

(٩) مختصر ابن خالويه ١٢١ وبدون نسبة في معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٥٥ وانظر أيضا القرطبي ١٤ / ٢٦٥.

(١٠) قال بذلك أبو البقاء في التبيان ١٠٦٤ ومكي في مشكل الإعراب ٢ / ٢٠٣ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٧٥ والفراء في معاني القرآن ٢ / ٣٥٥ وأبو جعفر النحاس في إعراب القرآن ٣ / ٣٣٤ نقلا عن سيبويه وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٦٣ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٤٣ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٨١ والقرطبي في الجامع ١٤ / ٢٦٦.

(١١) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٤٣.

(١٢) هذا رأي واعتراض أبي حيان على أبي إسحاق الزجاج فيما نقله عنه المؤلف فقد قال في البحر ٧ / ٢٦٣ : وهذا لا يجوز لأن قبله «مَعَهُ» ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه الخ ...

(١٣) في «ب» نصبه وكلتا الكلمتين غير متباعدتين.

(١٤) اتفقوا على أنه إذا كان العامل يقتضي المشاركة بلفظ التفاعل فيجوز أن يعمل في الحالين كتخاصم زيد قائما وعمرو قاعدا وألا يدل على المشاركة ففيه خلاف فذهب أبو علي : إلى أنه معمول لما قبله الذي مثله ، وذهب أبو الفتح إلى أنه صفة له. وذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أن الثاني صفة للأول. وعلى ذلك فهو من تمام المعمول الأول فلم يعمل الفعل في الحالين. وقد عبر أبو حيان عن رأيه بأن العامل في المعمولين واحد وهو الفعل لأن مجموعهما معا هو الحال لا أحدهما. انظر : البحر ٧ / ٢٦٣ والهمع ١ / ٢٣٧ و ٢٣٨ وشرح الكافية للعلامة الرضي ١ / ٢٠٨ و ٢٠٩ وانظر رأي شهاب الدين في الدر ٤ / ٤١٦.

(١٥) إعراب القرآن للنحاس ٤ / ٣٣٤ والبحر ٧ / ٢٦٣ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٠٤ والقرطبي ١٤ / ٢٦٦.

٢١

الرابع : أنه منصوب بإضمار فعل أي سخّرنا له الطّير. قاله أبو عمرو (١) ، وقرأ السّلميّ والأعرج ويعقوب وأبو نوفل (٢) وأبو يحيى (٣) وعاصم ـ في رواية ـ والطّير (٤) بالرفع ، وفيه أوجه : النسق على لفظ «الجبال» (٥) وأنشد :

٤١١٤ ـ ألا يا زيد والضّحّاك سيرا

فقد جاوزتما خمر الطّريق (٦)

بالوجهين ، وفي عطف المعرف بأل على المنادى المضموم ثلاثة مذاهب (٧) ، الثاني : عطفه على الضمير المستكن في «أوّبي» (٨) وجاز ذلك ؛ للفصل بالظرف (٩) ، والثالث : الرفع على الابتداء والخبر مضمر أي والطير كذلك (١٠) أي مؤوبة.

فصل

لم يكن الموافقون له في التأويب منحصرا في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير للنفور وكلاهما مستبعد منه الموافقة ، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشدّ قسوة (١١). قال المفسرون كان داود إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير على من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال

__________________

(١) المراجع السابقة.

(٢) أحمد بن المبارك بن نوفل أبو العباس النصيبي إمام مجوّد صادق مات سنة ٦٦٤ ه‍ انظر : غاية النهاية ١ / ٩٩.

(٣) هو محمد بن عبد الرحمن أبو يحيى المكي أخذ عن إسحاق الخزاعي ، وأبي ربيعة روى عنه محمد بن أشتة مات سنة ٤٣ ه‍. انظر : الغاية ٢ / ١٦٣.

(٤) مختصر ابن خالويه ١٢١ والكتاب لسيبويه ٢ / ١٨٧ ، والقرطبي ١٤ / ٢١٦ والبحر ٧ / ٢٦٣ والكشاف ٣ / ٢٨١ والنشر ٢ / ٣٣٥.

(٥) ذكره النحاس في إعراب القراء ٤ / ٣٣٤ وأبو البقاء في التبيان ١٠٦٤ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٧٥ والفراء في معاني القرآن ٢ / ٣٥٥ ومكي في المشكل ٢ / ٢٠٤.

(٦) من تمام الوافر وهو مجهول القائل. وشاهده : عطف «الضحاك» على زيد عطفا نسقيّا على اللفظ ويجوز فيه النصب عطفا على محل المنادى فالمنادى في محل نصب لأنه أصلا مفعول به والخمر :

بالتحريك ما سترك من شجر ونحوه. وانظر : معاني الفراء ٢ / ٣٥٥ وشرح المفصل لابن يعيش ١ / ٢٩ والهمع ٢ / ١٤٢ والدر ٢ / ١٩٦ والطبري ٢٢ / ٤٦ بلفظ «ألا يا عمرو».

(٧) الأولان الرفع حملا على لفظ المنادى والثاني النصب حملا على محله والثالث : التفصيل ، ولكل رجاله ومؤيدوه ، فالرفع اختيار الخليل وسيبويه والمازني والثاني اختيار عيسى بن عمر وأبي عمرو والجرمي والثالث وهو التفصيل إن كان المنادى معرفة فالاختيار النصب وإن كان نكرة فالرفع وهو يعزى للمبرد. انظر : توضيح المقاصد ٣ / ٢٩٥ ، ومقتضب المبرد ٤ / ٢١٢ و ٢١٣.

(٨) البيان ٢ / ٢٧٦ والتبيان ١٠٦٤ ومعاني الفراء ٢ / ٣٥٥ ومشكل القرآن ٢ / ٢٠٤ ومعاني الزجاح ٤ / ٢٤٣ وإعراب النحاس ٣ / ٣٣٤.

(٩) البيان والمشكل والتبيان المراجع السابقة.

(١٠) قاله أبو حيان ٧ / ٢٦٣.

(١١) قاله الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٤٥.

٢٢

فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح. وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطا له (١).

قوله : «وألنّا» عطف على «آتينا» وهو من جملة الفضل ، قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يعطف على «قلنا» في قوله (يا جِبالُ أَوِّبِي ... وَأَلَنَّا)(٢).

فصل

ألان الله تعالى له الحديد حتى كان في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة وذلك في قدرة الله يسير ، روي أنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان الله له الحديد وعلمه صنعة اللّبوس وهي الدرع (٣) وأنه أول من اتخذها. وإنما اختار الله له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وتحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل ، فالزّرّاد (٤) خير من القوّاس والسّيّاف وغيرهما ؛ لأن القوس (٥) والسيف وغيرهما من السلاح ربّما يستعمل في قتل النفس المحرمة ، بخلاف الدّرع قال عليه (الصلاة (٦) و) السلام : «كان داود لا يأكل إلّا من عمل يده» (٧).

قوله : «أن اعمل» فيه وجهان :

أظهرهما : أنها مصدرية على حذف الجر (٨) أي لأن (٩).

والثاني : قاله الحوفيّ وغيره إنها مفسرة لقوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ليعمل (١٠) سابغات» ورد هذا بأن شرطها تقدم بما هو بمعنى القول ولم يتقدم (١١) إلا «ألنّا» ، واعتذر بعضهم عن هذا بأن قدّر ما هو بمعنى القول أي وأمرناه أن اعمل. ولا ضرورة تدعو إلى ذلك (١٢) ، وقرىء : «صابغات» (١٣) لأجل الغين وتقدم تقديره في لقمان عند «وأسبغ عليكم نعمه»

__________________

(١) انظر كل هذه الآراء في معالم التنزيل والخازن ٥ / ٢٨٣ وزاد المسير ٦ / ٤٣٦.

(٢) انظر : التفسير الكبير للرازي المرجع السابق ٢٥ / ٢٤٥.

(٣) في «ب» الدروع بالجمع.

(٤) هو صانع الدروع قال ابن منظور : «والزراد صانعها» اللسان : «زرد» ١٨٢٤.

(٥) في «ب» لأن السيف والقوس بتقديم كليهما على الآخر.

(٦) بزيادة من «ب».

(٧) الحديث رواه المقدام رضي الله عنه فيما أورده البخاري في صحيحة ٢ / ٦ كتاب البيوع وانظر في هذا الإمام الرازي ٢٥ / ٢٤٦.

(٨) في «ب» حرف الجر.

(٩) مشكل الإعراب لمكّي ٢ / ٢٠٤ والتبيان ١٠٦٤ والبيان ٢ / ٢٧٦ ومعاني الزجاج ٤ / ٢٤٤.

(١٠) المراجع السابقة.

(١١) الدر المصون ٤ / ٤١٧.

(١٢) لعله أبو حيان فقد وجدت هذا الاعتذار في بحره ٧ / ٢٦٣.

(١٣) لم تنسب إلا في الشواذ للكرمانيّ فقد نسبها لزيد بن علي انظر : الشواذ ١٩٧ وانظر : القرطبي ٤ / ٢٦٧ والكشاف ٣ / ٢٨٢ والبحر ٧ / ٢٦٣.

٢٣

فصل

معنى «سابغات» أي كوامل واسعات طوالا تسحب في الأرض. وذكر الصفة ويعلم منها الموصوف (١).

قوله : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) والسرد : نسيج الدّروع يقال لصانعه : السّرّاد» الزّرّاد. والمعنى قدر المسامير في حلق الدروع أي لا تجعل المسامير غلاظا فتكسر (٢) الحلق ولا دقاقا فتغلغل فيها. ويقال السرد المسمار في الحلقة ، يقال : درع مسرودة أي مسمورة الحلق. وقدر في السّرد أي اجعله على القصد وقدر الحاجة ، ويحتمل أن يقال السّرد هو عمل الزرد (٣).

وقوله : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي إنك غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب (إنما) (٤) يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب. ويدل عليه قوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه والكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يريد بهذا داود وآله ، ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيبا آخر وهو سليمان كقوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) [ص : ٣٤] ذكر ما استفاد من الإنابة وهو قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) العامة على النصب بإضمار فعل ، أي سخّرنا لسليمان ، وأبو بكر بالرفع على الابتداء (٥) ، والخبر في الجار قبله أو محذوف (٦) ، وجوز أبو البقاء أن يكون فاعلا يعني (٧) بالجار ، وليس بقويّ (٨) لعدم اعتماده (٩) وكان قد وافقه في الأنبياء (١٠) غيره (١١) ،

__________________

(١) قاله ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٤٣٦.

(٢) في «ب» فتنكسر.

(٣) غريب القرآن ٣٥٤ والبحر ٧ / ٢٥٥ ، واللسان زرد وزرط ومجاز القرآن ٢ / ١٤٣ ، ومعاني الزجاج ٤ / ٢٤٤.

(٤) زيادة من «ب».

(٥) ذكره في الكشف ٢ / ٢٠٧ والنشر ٢ / ٣٣٥ والإتحاف ٣٥٨ والسبعة ٥٢٧.

(٦) ذكره ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٧٦ وأبو البقاء في التبيان ١٠٦٤ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٤٥ والفراء في معاني القرآن ٢ / ٣٥٦ ذكر الرفع قراءة ولم يحدد.

(٧) المرجع السابق وقد جعله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه فاعلا لفعل محذوف ٤ / ٢٤٥ قال : «والرفع على معنى ثبت له الريح».

(٨) الدر المصون ٤ / ٤١٨.

(٩) أي على نفي أو استفهام ، كقولنا : أقائم الزّيدان ، أو ما قائم الزّيدان ، أو يريد بعدم اعتماده يعني عدم معرفة اللغة والقياس به.

(١٠) يقصد قوله : «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ» وهي الآية ٨١ من الأنبياء.

(١١) لعله ابن هرمز في رواية عنه البحر المحيط ٦ / ٣٣٢.

٢٤

وقرأ العامة الرّيح بالإفراد. والحسن وأبو حيوة ، وخالد بن إلياس (١) الرّياح جمعا. وتقدم في الأنبياء أن الحسن يقرأ مع ذلك بالنصب وهنا لم ينقل له ذلك.

فإن قيل : الواو في قوله (وَلِسُلَيْمانَ) للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفا للجملة الاسمية على فعلية وهو لا يجوز أو لا يحسن؟

فالجواب : أنه لما بين حال داود فكأنه قال : لما ذكرنا لداود ولسليمان الريح وإما على النصب على قوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (كأنه قال وألنا لداود الحديد) (٢) وسخرنا لسليمان الريح (٣).

قوله : (غُدُوُّها شَهْرٌ) مبتدأ وخبر ولا بد من حذف مضاف أي غدوّها مسيرة شهر أو مقدار غدوّها شهر ، ولو نصب لجاز ، إلا أنه لم يقرأ بها (٤) فيما علمنا (٥) ، وقرأ ابن أبي عبلة غدوتها وروحتها على المرّة (٦) ، والجملة إما مستأنفة ، وإما في محلّ حال (٧).

فصل

المعنى غدوّ تلك الريح المستمرة له مسيرة شهر ، وسير (٨) رواحها شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين. قال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر (وبينهما مسيرة (٩) شهر ، ثم يروح من إصطخر فيبيت بكابل) وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع (١٠) ، وقيل : كان يتغذى بالرّيّ ويتعشى بسمرقند (١١).

فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الجبال مع داود الجبال وفي الأنبياء وفي هذه السورة فقال : يا جبال أوبي معه وقال في الريح هناك وههنا : لسليمان باللام؟

فالجواب : أن الجبال لما سبّحت شرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب والريح لم يذكر تسبيحها فجعلها كالمملوكة له (١٢).

__________________

(١) ويقال : إياس بن صخر بن أبي الجهم عبيد بن حذيفة أبو الهيثم العدوي المدني روى عن ربيعة ، وسعد المقّري. لم تذكر وفاته انظر : التهذيب ٣ / ٨٠ وانظر القراءة في مختصر ابن خالويه ١٢٣ والإتحاف ٣٥٨ وزاد المسير ٦ / ٤٣٨.

(٢) سقط من «ب».

(٣) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٥ / ٢٤٧.

(٤) في «ب» به بالتذكير وكلتاهما صحيحتان.

(٥) قاله أبو حيان والسمين في تفسيريهما الأول في البحر ٧ / ٢٦٤ ، والثاني في الدر ٤ / ٤١٨.

(٦) المرجعان السابقان وجاء بها صاحب الكشاف ولم يعزها إلى معين. انظر : الكشاف ٣ / ٢٨٢ ، بينما عزاها الكرماني في شواذ القرآن لابن أبي عبلة. الشواذ ١٢٩٦ ، وهي من القراءات الشاذة.

(٧) ذكر وجه الاستئناف مكي في المشكل ٢ / ٢٠٤ ، بينما ذكر وجه الحالية أبو البقاء في التبيان ١٠٦٤ و ١٠٦٥ وإنما احتيج إلى تقدير مضاف لأن الغدو والرواح ليسا بالشهر وإنما يكونان فيه.

(٨) في «ب» مسيرة.

(٩) ما بين القوسين سقط من «ب».

(١٠) في «ب» المسرح.

(١١) تفسير البغوي ٦ / ٢٨٤.

(١٢) الفخر الرازي ٢٥ / ٢٤٧.

٢٥

قوله : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي أذبنا له عين النّحاس. والقطر : النحاس (١) ، قال المفسرون: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجري المياه ، وكان بأرض اليمن. وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان (٢).

قوله : (مَنْ يَعْمَلُ) يجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره في الجار قبله أي من الجنّ من يعمل وأن يكون في موضع نصب بفعل مقدر أي وسخّرنا له من يعمل (٣) و (مِنَ (٤) الْجِنِّ) يتعلق بهذا المقدر ، أو بمحذوف على أنه حال أو بيان ، و «بإذن» حال أي ميسّرا بإذن ربه (٤) ، والإذن مصدر مضاف لفاعله ، وقرىء : (وَمَنْ يَزِغْ) بضم الياء من أزاغ ومفعوله محذوف أي يزغ نفسه (٥) ، أي يميلها و (مِنْ عَذابِ) لابتداء الغاية أو للتبعيض.

فصل

قال ابن عباس : سخر الله الجنّ لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به ، ومن يزغ يعدل منهم من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان نذقه من عذاب السّعير في الآخرة (٦) ، وقيل : في الدنيا (٧) وذلك أن الله وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته.

قوله : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ) مفسر لقوله : (مَنْ يَعْمَلُ) و (مِنْ مَحارِيبَ) بيان ل (ما يَشاءُ)(٨). والمراد بالمحاريب : المساجد والأبنية المرتفعة ، وكان مما عملوا له بيت المقدس ، ابتدأه داود ورفعه قامة رجل فأوحى الله إليه أني لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده ، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسّم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرّخام والميمها الأبيض من معادنه وأمر ببناء المدينة بالرّخام والصّفاح وجعلها اثني عشر ربضا وأنزل على كل

__________________

(١) غريب القرآن ٣٥٤ ومجازه لأبي عبيدة ٢ / ١٤٣.

(٢) انظر : زاد المسير ٦ / ٤٣٨ والخازن والبغوي ٥ / ٢٨٤ والقرطبي ١٤ / ٢٧٠.

(٣) قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٦٥ ، وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٧٦ و ٢٧٧. والأخفش يجيز أن يكون «من يعمل» في موضع رفع بالجار والمجرور ، انظر : البيان المرجع السابق ، وقيل : إن «من» في موضع نصب على العطف على معمول «سخرنا له من الجن من يعمل». انظر مشكل الإعراب لمكي ٢ / ٢٠٥.

(٤) الدر المصون ٤ / ٤١٩.

(٥) قال عنهما ابن خالويه في المختصر ١٢١ : «وَمَنْ يَزِغْ» بعضهم. وأطلقت كلية في البحر ٧ / ٢٦٥ والكشاف ٣ / ٢٨٢ دون ضبط.

(٦) هذا رأي الضحاك.

(٧) هذا رأي مقاتل انظر : زاد المسير ٦ / ٤٣٩.

(٨) الدر المصون ٤١٩ ج ٤.

٢٦

ربض منها سبطا من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطا ، فلما فرغ من بناء المدينة ، ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقا فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدرّ الصّافي من البحر وفرقا يقلعون الجواهر من الحجارة من أماكنها وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطّيب من أماكنها فأتي من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله عزوجل. ثم أحضر الصّنّاع وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقّب الياقوت واللآلىء فبنى المسجد بالرّخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمّده بأساطين الميها الصّافي وسقّفه بألواح الجواهر الثمينة وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهر ولا أنور من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر ، فلما فرغ منه جمع أحبار بني إسرائيل وأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا ، روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربّه ثلاثا فأعطاه اثنتين وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثّالثة سأل حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه ، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه ، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلّي ركعتين إلّا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصّر فخرّب المدينة وهدمها ونقض المسجد وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار مملكته من أرض العراق وبنى الشيطان لسليمان باليمن حصونا كثيرة وعجيبة من الصخر (١).

قوله : (وَتَماثِيلَ) وهي النقوش التي تكون في الأبنية. وقيل : صور من نحاس وصفر وشبه (٢) وزجاج ورخام. قيل : كانوا يصوّرون السّباع والطيور. وقيل : كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة ولعلها كانت مباحة في شريعتهم كما أن عيسى كان يتخذ صورا من طين فينفخ فيها فيكون طيرا (٣).

قوله : «وجفان كالجواب». الجفان القصاع (٤) ، وقرأ ابن كثير بإثبات ياء «الجواب»

__________________

(١) ذكر هذه القصة البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٨٤ وكذلك الخازن ٥ / ٢٨٤.

(٢) الشبه ضرب من النحاس يلقى عليه دواء فيصفر سمي به لأنه إذا فعل به ذلك أشبه الذهب بلونه.

(٣) أورد هذه الأقوال ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٤٣٩ ، وكذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٤ / ٢٧٢.

(٤) زاد المسير ٦ / ٤٣٩ وقال في اللسان : «الجفنة معروفة أعظم ما يكون من القصاع والجمع جفان وجفن» وانظر : اللسان ٦٤٤ جفن.

٢٧

وصلا ووقفا وأبو عمرو وورش بإثباتها وصلا وحذفها وقفا. والباقون بحذفها في الحالين (١). و «كالجواب» صفة «لجفان». والجفان جمع جفنة ، والجوابي جمع جابية كضاربة وضوارب والجابية الحوض العظيم سميت بذلك لأنه يجبى إليها الماء ، أي يجمع (٢) وإسناد الفعل إليها مجاز لأنه يجبى فيها كما قيل : خابية ، لما يخبّأ فيها (٣) قال الشاعر :

٤١١٥ ـ بجفان تعتري نادينا

من سديف حين هاج الصّنّبر (٤)

كالجوابي لا تني مترعة

لقرى الأضياف أو للمحتضر

وقال الأعشى :

٤١١٦ ـ نفى الذّمّ عن آل المحلّق جفنة

كجابية الشّيخ العراقيّ تفهق (٥)

وقال الأفوه :

٤١١٧ ـ وقدور كالرّبا راسية

وجفان كالجوابي مترعه (٦)

قيل : كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.

__________________

(١) قاله ابن الجزريّ في النشر ٢ / ٣٤٩ ومكي في الكشف ٢ / ٢٠٣ وانظر الإتحاف ٣٥٨ والسبعة ٥٢٧ ، وزاد المسير ٦ / ٤٤٠.

(٢) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٤٦ ومعاني الفراء ٢ / ٣٥٦ ومجاز القرآن لأبي عبيدة ٢ / ١٤٤ وغريب القرآن لابن قتيبة ٣٥٤.

(٣) الدر المصون ٤ / ٤١٩.

(٤) البيت ورد مكررا في الخصائص لابن جني ولكن بتغيير طفيف فيه وهو لطرفة من الرمل فقد أنشد في الخصائص في ١ / ٢٨١ «بفي جفان» وفي ٢ / ٢٥٤ و ٣ / ٢٠٠ بالباء «بجفان». وأنشده ابن منظور في اللسان بالباء والصّنّبر : الريح الباردة ، والسّديف السّنام ومترعة مملوءة. وهو هنا يفتخر بأهل الكرم والعطاء وقرى الأضياف : إطعامهم. واستشهد بالبيت على أن الجفان هي القصاع العظيمة التي تشبه الجوابي والحياض الممتلئة ماء. وانظر : اللسان : «ص ن ب ر» ٢٥٠٦ والبحر المحيط ٧ / ٢٥٤ والمحتسب لابن جني ٢ / ٨٣ والممتع ٧١ ، والديوان ٥٦.

(٥) البيت له من قصيدة في ديوانه ١٢١ وهو من تمام الطويل وقد ورد البيت في اللسان جبى ٥٤٢ برواية «تروح على آل المحلق». وشاهده كسابقه حيث إن الجابية هي الحوض العظيم وحيث قد شبه الجفنة بها وهنا يتحقق قول الله من تشبيه : «وجفان كالجواب». وانظر غريب القرآن لابن قتيبة ٣٥٤ بنفس رواية اللسان ١٤ / ٢٧٥ والبحر المحيط ٧ / ٢٥٥ وابن جرير ٢٢ / ٤٩ كما ورد مكررا أيضا في اللسان : «ف ه ق» ٣٤٨ والفهق الامتلاء ، وخص العراقي ؛ لجهله بالمياه لأنه حضري.

(٦) من الرمل. وشاهده كسابقيه. ويروى «راسيات» بدل راسية. والبيت ليس بديوانه. وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٥٥ وما في الديوان :

ثمّ فينا للقرى نار ترى

عندها للضّيف رحب وسعه

الديوان (٢٠).

٢٨

فصل

وقدور راسيات ثابتات لها قوائم لا يحرّكن عن أماكنها ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد إليها بالسلاليم (١) وكانت باليمن (٢).

قوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) في «شكرا» أوجه :

أحدها : أنه مفعول به أي اعملوا الطّاعة (٣) سميت الصلاة (٤) ونحوها شكرا لسدّها مسدّه.

الثاني : أنه مصدر من معنى «اعملوا» كأنه قيل : اشكروا (٥) شكرا بعملكم (٦) أو اعملوا(٧) عمل شكر.

الثالث : أنه مفعول من (٨) أجله أي لأجل الشكر كقولك : جئتك طمعا ، وعبدت الله رجاء غفرانه.

الرابع : أنه مصدر واقع موقع الحال أي شاكرين (٩)

الخامس : أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره واشكروا (١٠) شكرا.

السّادس : أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره اعملوا عملا شكرا أي ذا شكر (١١). قال المفسرون : معناه اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرا له على نعمه ، واعلم أنه كما قال عقيب قوله (تعالى) : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) (اعْمَلُوا صالِحاً) قال عقيب ما تعمله الجن له اعملوا آل داود شكرا إشارة إلى ما تقدم من أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة في هذه الأشياء ، وإنما يجب الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شكرا (١٢).

قوله : (وَقَلِيلٌ) خبر مقدم (مِنْ عِبادِيَ) صفة له ، (الشَّكُورُ) مبتدأ (١٣). والمعنى أن العامل بطاعتي شكرا لنعمتي (١٤) قليل. قيل : المراد من آل داود هو داود نفسه ، وقيل : داود وسليمان وأهل بيته (١٥).

__________________

(١) في «ب» السلالم.

(٢) وقال ابن قتيبة في الغريب : «يقال رسا إذا ثبت فهو يرسو ومنه قيل للجبال رواس». الغريب ٣٥٤.

(٣) البحر المحيط ٧ / ٢٦٤ والدر المصون ٤ / ٤٢٠.

(٤) في «ب» الطاعة بدل الصلاة.

(٥) المرجعان السابقان.

(٦) في «ب» لعملكم.

(٧) في «ب» (و) بدل (أو).

(٨) المرجعان السابقان وينظر أيضا التبيان ١٠٦٥ والبيان لابن الأنباري ٢ / ٢٧٧.

(٩) البحر والدر المرجعان السابقان.

(١٠) التبيان ١٠٦٥ مع البحر والدر.

(١١) السابق وانظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢٤٩.

(١٢) السابق.

(١٣) الدر المصون ٤ / ٤٢٠.

(١٤) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٨٥.

(١٥) السابق.

٢٩

فصل

قال جعفر بن سليمان (١) : سمعت ثابتا (٢) يقول : كان داود نبي الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلّي(٣).

قوله : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي على سليمان ، قال أهل العلم : كان سليمان ـ عليه‌السلام ـ يتحرز (٤) ببيت المقدس السّنة والسّنتين والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوما إلا نبتت (٥) في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها ما اسمك؟ فتقول اسمي كذا فيقول : لأن شيء أنت؟ فتقول : لكذا وكذا فيأمرها فتقطع فإن كانت تنبت (٦) لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتبه حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت؟ قالت الخرّوبة قال : لأي شيء نبتت (٧)؟ قالت : لخراب مسجدك فقال سليمان : ما كان الله ليجزيه وأنا حي أنت الذي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : اللهمّ عمّ على الجنّ موتي حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من العيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات قائما وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه فكانت الجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته وينظرون إلى سليمان فيرونه قائما متكئا على عصاه فيحسبونه حيا فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان فخرّ ميتا فعلموا بموته (٨) ، قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله : (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) وهي الأرضة (٩)(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أي عصاه (١٠).

قوله : «تأكل» إما حال ، أو مستأنفة (١١) ، وقرأ ابن ذكوان منسأته ـ بهمزة (١٢) ساكنة

__________________

(١) هو جعفر بن سليمان الضّبعيّ أبو سليمان البصريّ عن ثابت والجعد مات سنة ١٧٨ ه‍ انظر : خلاصة الكمال ٦٣.

(٢) ثابت بن أسلم البنانيّ أحد الأعلام مولاهم أبو محمد البصريّ عن ابن عمر ، وعبد الله بن مغفل له مائتين وخمسين حديثا مات سنة ١٢٧ انظر : خلاصة الكمال ٥٦.

(٣) البغوي والخازن ٥ / ٢٨٥.

(٤) كذا هي هنا وفي «ب» يتحرر وما في البغوي يتجرد وهو الأصح.

(٥) في «ب» ثبت.

(٦) تثبت في «ب» أيضا.

(٧) في «ب» والبغوي والخازن تنبت.

(٨ و ٩) انظر : تفسيري البغوي والخازن ٥ / ٢٨٥ و ٢٨٦.

(١٠) ذكره ابن قتيبة في غريب القرآن ٢٥٤ و ٣٥٥ وأبو عبيدة في المجاز ٢ / ١٤٥.

(١١) الدر المصون ٤ / ٤٢١.

(١٢) ذكرها ابن خالويه في المختصر ص ١٢١ عن ابن عامر في رواية.

٣٠

ـ ونافع وأبو عمرو بألف محضة (١) ، والباقون بهمزة مفتوحة (٢) ، والمنسأة اسم آلة من نسأه أي أخّره كالمكسحة والمكنسة من نسأت الغنم أي زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله (٣) أي أخّره وفيها الهمزة وهو لغة تميم وأنشد :

٤١١٨ ـ أمن أجل حبل لا أباك ضربته

بمنسأة قد جرّ حبلك أحبلا (٤)

(والألف) (٥) وهو لغة الحجاز وأنشد :

٤١١٩ ـ إذا دببت على المنسأة من كبر

فقد تباعد عنك اللهو والغزل (٦)

فأما بالهمزة المفتوحة فهي الأصل لأن الاشتقاق يشهد له والفتح لأجل بناء مفعلة كمكنسة وأما سكونها ففيه وجهان :

أحدهما : أنه أبدل الهمزة ألفا كما أبدلها نافع وأبو عمرو وسيأتي ، ثم أبدل هذه الألف همزة على لغة من يقول العألم والخأتم وقوله :

٤١٢٠ ـ ..........

وخندف هامة هذا العألم (٧)

ذكره ابن مالك (٨) ، قال شهاب الدين وهذا لا أدري ما حمله عليه كيف نعتقد أنه

__________________

(١) السبعة ٥٢٩ والنشر ٢ / ٣٤٩ وحجة ابن خالويه ٢ / ٢٩٣ والإتحاف ٣٥٨.

(٢) المراجع السابقة وانظر : معاني الفراء ٢ / ٣٥٦.

(٣) المرجع الأخير السابق وانظر : اللسان : «ن س أ» ٤٤٠٤.

(٤) من الطويل ونسبه صاحب اللسان في مادة : «ح ب ل» إلى أبي طالب عم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو ليس في ديوانه. وشاهده فيه استعمال «المنسأة» بتحقيق الهمز ، وهذا لغة التميميين انظر : معاني الفراء ٢ / ٣٥٦ و ٣٥٧ واللسان : «ح ب ل» ونسأ في الصّحاح للجوهري ومجاز القراء ٢ / ١٤٥ واللسان نسأ أيضا ٤٤٠٤ والقرطبي ١٤ / ٢٧٩ ، والمنصف ٢ / ٥٩.

(٥) سقط من «ب».

(٦) البيت من البسيط ومجهول قائله فلم ينسبه صاحب اللسان ولا ابن جني وغيرهما وشاهده : عدم تحقيق الهمز في المنسأة وهذا على المذهب الحجازيّ ، ودبّ الشّيخ : مشى مشيا وئيدا. وروي البيت «من هرم» بدل : من كبر انظر : البحر المحيط ٧ / ٢٥٥ وابن جرير ٢٢ / ٥١ والقرطبي ١٤ / ٢٧٩ ، والبيان والتبيين ٣ / ٣١ والمنصف ٢ / ٥٩ والمحتسب ٢ / ١٨٧ ، واللسان : «ن س أ» ، ومجاز القرآن ٢ / ١٤٥ ، وفتح القدير ٤ / ٣١٧ ومجمع البيان ٧ / ٥٩٥.

(٧) هذا عجز بيت من الرجز للعجاج صدره :

يا دار سلمى يا اسلمي ثمّ اسلمي

 ...

ديوانه ٢٨٩. وقد روي : فخندف بدل من وخندف وهي أم جدّة مدركة بن إلياس بن مضر. وهامة كل شيء رأسه والشاهد : همز الألف في «العالم» على لغة من يرى الهمز ، وذلك قليل جدا لا ينقاس عليه لندرته استعمالا وانظر : شرح الشافيه لابن الحاجب ٣ / ٣٠٥ وشرح شواهدها ٣٠٤ و ٣٠٨ ، واللسان «ع ل م» ٣٠٨٥ وشرح المفصل لابن يعيش ١٠ / ١٣ شرح الكافية الشافية ٦٦٣ ، و ٦٦٤ الممتع لابن عصفور ٣٢٤.

(٨) شرح الكافية الشافية له ٦٦٣ و ٦٦٤.

٣١

هرب من شيء ثم يعود إليه وأيضا فإنهم نصّوا على أنه إذا أبدل من الألف همزة فإن كان لتلك الألف أصل حركت هذه الهمزة بحركة أصل الألف (١).

وأنشد ابن عصفور على ذلك :

٤١٢١ ـ ولّى نعام بني صفوان زوزأة

 ..........(٢)

قال : الأصل زوزاة وأصل هذا : زوزوة ، فلما أبدل من الألف همزة حركها بحركة الواو ، إذا عرف هذا فكان ينبغي أن تبدل هذه الألف همزة مفتوحة لأنها عن أصل متحرك وهو الهمزة المفتوحة فتعود إلى الأول وهذا لا يقال (٣).

الثاني : أنه سكن الفتحة تخفيفا والفتحة قد سكنت في مواضع تقدم التنبيه عليها وشواهدها ، ويحسنه هنا أن الهمزة تشبه حروف العلة ، وحرف العلة يستثقل عليه (٤) الحركة من حيث الجملة وإن كان لا تستثقل الفتحة لخفتها ، وأنشدوا على تسكين همزتها :

٤١٢٢ ـ ضريع خمر قام من وكأته

كقومة الشّيخ إلى منسأته (٥)

وقد طعن قوم على هذه القراءة ونسبوا راويها إلى الغلط قالوا : لأن قياس تخفيفها (٦) إنما هو تسهيلها بين بين (٧) وبه قرأ ابن عامر وصاحباه (٨) فظن الراوي أنهم

__________________

(١) الدر المصون في علوم الكتاب المكنون له ٤ / ٤٢١ ، وهو المفهوم أيضا من كلام ابن عصفور في الممتع ١ / ٣٢٤ و ٣٢٥ حيث قال : «وتكون الهمزة ساكنة إلا أن تكون الألف في النية متحركة فإن الهمزة إذ ذاك تكون متحركة بالحركة التي للألف في الأصل».

(٢) هذا صدر بيت من بحر البسيط وعجزه :

 ..........

لمّا رأى أسدا في الغاب قد وثبا

وهو لابن كثوة ، والزّوزأة من قولنا : زوّزى إذا نصب ظهره وأسرع وهو على التشبيه أي أن هؤلاء الأعداء جبناء فقد هربوا وجدوا فيه كما يصنع من قلب النّعام عند ما يغرس في الأرض ويغور هاربا.

واستشهد بالبيت في كلمة «زوزأة» من قلب الألف ـ المنقلبة أصلا من الواو ـ همزة والهمزة هذه قد أخذت حركة الواو والأصل هي الفتح. وقد تقدم.

(٣) الدر المصون ٤ / ٤٢١.

(٤) في «ب» عليها بها التأنيثية.

(٥) من الرجز لبعض الأعراب كما في إبراز المعاني ٦٥٢. والشاهد : «منسأته» حيث سكن الهمزة قبل تاء التأنيث ولا يكون الساكن قبلها إلا ألفا وهذا يؤيد قراءة من قرأ : «منسأته» وهو ابن ذكوان وقد روى الإمام القرطبي البيت :

وقائم قد قام تكأته

 ..........

البيت. القرطبي ١٤ / ٢٧٩ والبحر المحيط ٧ / ٢٦٧ والنشر لابن الجزري ٣٥٠ والدر المصون ٤ / ٤٢١.

(٦) كذا هي هنا : «تخفيفها» وفي «ب» تحقيقها بالقاف.

(٧) القرطبي ١٤ / ٢٧٩ وإبراز المعاني ٥٦٢ وبحر أبي حيان ٧ / ٢٦٧.

(٨) هما هشام بن عمّار مقرىء دمشق ت ٢٤٥ وابن ذكوان مقرىء الشام ت ٢٤٢ وانظر : المختصر لابن خالويه ١٢١ والنشر ٣٥٠ والإتحاف ٣٥٨.

٣٢

سكنوا وضعفها أيضا بعضهم بأنه يلزم سكون ما قبل تاء التأنيث وما قبلها واجب الفتح إلا الألف (١). وأما قراءة الإبدال فقيل : هي غير قياسية يعنون أنها ليست على قياس تخفيفها (٢) إلا أن هذا مردود بأنها لغة الحجاز ثابتة (٣) فلا يلتفت لمن طعن ، وقد قال أبو عمرو وكفى به : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا ، فإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز (٤) ، وهذا الذي ذكره أبو عمرو أحسن ما يقال في هذا ونظائره. وقرىء منسأته بفتح الميم مع تحقيق الهمز (٥) ، وإبدالها ألفا وحذفها تخفيفا (٦) ، وقرىء منساءته بزنة منعالته (٧) كقولهم : ميضأة وميضاءة (٨). وكلها لغات ، وقرأ ابن جبير (٩) من ساته فصل «من» ، وجعلها حرف جر وجعل «ساته» مجرورة بها (١٠) ، والسّاة والسّية هنا العصا وأصلها يد القوس العليا والسفلى يقال : ساة القوس مثل شاة وسئتها (١١) ، فسمّيت العصا بذلك على وجه الاستعارة والمعنى تأكل من طرف عصاه. ووجه بذلك ـ كما جاء في التفسير ـ أنه اتّكأ على عصا خضراء من خروب والعصا الخضراء متى اتّكىء عليها تصير كالقوس في الاعوجاج غالبا. و «سأة» فعلة وسئة فعلة نحو قحة وقحة والمحذوف لا مهما (١٢). وقال ابن جني : سمي العصا منسأة لأنها تسوء وهي فلة والعين محذوفة (١٣). قال شهاب الدين : وهذا يقتضي أن تكون القراءة بهمزة ساكنة والمنقول أن هذه القراءة بألف صريحة ولأبي الفتح أن يقول أصلها الهمزة ولكن أبدلت(١٤).

__________________

(١) القرطبي ١٤ / ٢٧٩.

(٢) في «ب» تحقيقها.

(٣) قال في «ب» : ثانية.

(٤) البحر المحيط ٧ / ٢٦٧. وجاءت بعبارات متفرقة ومختلفة في المعاني للفراء ٢ / ٣٥٧ والمحتسب لابن جني ٢ / ١٨٧ والقرطبي ١٤ / ٢٨٠.

(٥) في «ب» الهمزة.

(٦) البحر لأبي حيان ٧ / ٢٦٧ والكشاف للزمخشري ٣ / ٢٨٣ وكل منهما لم يعزها إلى من قرأ بها.

(٧) السابقان.

(٨) ما يتوضأ منه أو فيه الرجل. وانظر اللسان : «وض أ» ٤٨٥٥.

(٩) هو سعيد بن جبير.

(١٠) ذكرها الفراء في معانيه ٢ / ٣٥٦ و ٣٥٧ وابن جني في المحتسب ٢ / ١٨٦ و ١٨٧ وابن خالويه في المختصر ١٢١.

(١١) في اللسان : وسؤتها. اللسان سأى ١٩٠٧.

(١٢) انظر : الدر المصون ٤ / ٤٢٢ و ٤٢٣ ومعاني الفراء ٢ / ٣٥٧.

(١٣) لم أجد رأي أبي الفتح هذا في المحتسب وإنما وجدته : «وبعد فالتفسير إنما هو العصا لا سئة القوس وهي من «ن س أ» فإن كانت «الساة» من نسأت فهي «علة» والفاء محذوفة وهذا الحذف إنما هو من الضرب في المصادر نحو العزة والزنة وذلك ممّا فاؤه واو لا نون ولم يمرر بنا ما حذفت نونه وهي فاء وسئة القوس فعة واللام محذوفة كما ترى». المحتسب ٢ / ١٨٧.

(١٤) الدر المصون ٤ / ٤٢٣.

٣٣

قوله : (دَابَّةُ الْأَرْضِ) فيه وجهان :

أظهرهما : أن الأرض هذه المعروفة والمراد بدابة الأرض الأرضة دويبّة تأكل الخشب.

والثاني : أن الأرض مصدر لقولك أرضت الدابّة الخشبة تأرضها أرضا أي أكلتها فكأنه قيل : دابة الأكل يقال : أرضت الدّابّة الخشبة تأرضها أرضا فأرضت بالكسر تأرض هي بالفتح أيضا وأكلت الفوازج الأسنان تأكلها أكلا فأكلت هي بالكسر تأكل أكلا بالفتح. ونحوه أيضا : جدعت أنفه جدعا فجدع هو جدعا (١) بفتح عين المصدر ، وقرأ ابن عباس والعباس (٢) بن الفضل بفتح الراء وهي مقوية المصدرية في القراءة المشهورة وقيل : الأرض بالفتح ليس مصدرا بل هو جمع أرضة وهذا يكون من باب إضافة العام إلى الخاص لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدوّابّ (٣).

قوله : (فَلَمَّا خَرَّ) أي سقط الظاهر أن فاعله ضمير سليمان عليه (الصلاة (٤) و) السلام ، وقيل : عائد على الباب لأن الدابة أكلته فوقع وقيل : بل أكلت عتبة الباب وهي الخارّة وينبغي أن لا يصحّ ؛ إذ كان يكون التركيب خرّت بتاء التأنيث و : أبقل إبقالها (٥) ضرورة ، أو نادر (٦) وتأويلها بمعنى العود (٧) أندر منه.

قوله : (تَبَيَّنَتِ) العامة على نيابته للفاعل مسندا للجنّ وفيه تأويلات.

أحدها : أنه على حذف مضاف تقديره تبيّن أمر الجنّ أي ظهر وبان (٨) ، و «تبيّن» يأتي بمعنى «بان» لازما كقوله :

٤١٢٣ ـ تبيّن لي أنّ القماءة ذلّة

وأنّ أعزّاء الرّجال طيالها (٩)

__________________

(١) انظر لسان العرب لابن منظور أرض ٦٢ والبحر المحيط ٧ / ٢٦٦ وكشاف الزمخشري ٣ / ٢٨٣ والحيوان للجاحظ ١ / ٣٠ و ٣ / ٣٧١ و ٧ / ١٤٥ والدر المصون ٤ / ٤٢٣.

(٢) العباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد أبو الفضل الأنصاريّ البصريّ قاضي الموصل أستاذ حاذق ثقة كان من أصحاب أبي عمرو بن العلاء في القراءة مات سنة ١٨٦ ه‍ ، انظر : غاية النهاية ١ / ٣٥٣ ، وانظر : قراءة العباس وغيره في البحر المحيط ٧ / ٢٦٦ والكشاف ٣ / ٢٨٣ ، ومختصر ابن خالويه ١٢١ وهي من القراءات الشواذ غير المتواترة.

(٣) البحر المحيط والدر المصون ٧ / ٢٦٦ و ٤ / ٤٢٤.

(٤) زيادة من «ب».

(٥) مضى قريبا ، وهو هنا يشير إليه بشاهد تأنيث الفعل أو عدم تأنيثه.

(٦) المرجعان السابقان.

(٧) الظاهر ـ كما في الدر المصون وكما هو مقتضى السّياق ـ «العتبة».

(٨) قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٦٥ والفراء في معانيه ٢ / ٣٥٧.

(٩) من الطويل وهو لأنيف بن زبان النبهاني من طيىء وفكرة الشاعر خطأ حيث يرى أن العزة في ضخامة الجسم طولا وعرضا. وجيء بالبيت استشهادا على أن «تبين» بمعنى بان وظهر والقماءة هي الصّغر. ـ

٣٤

فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وكان مما يجوز تأنيث فعله ألحقت علامة التأنيث (به) (١).

وقوله : (أَنْ لَوْ كانُوا) بتأويل المصدر مرفوعا بدلا من الجنّ والمعنى ظهر كونهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظهر جهلهم (٢).

الثاني : أن تبين بمعنى بان وظهر أيضا والجنّ فاعل. ولا حاجة إلى حذف مضاف و (أَنْ لَوْ كانُوا) بدل كما تقدم والمعنى ظهر الجن جهلهم للناس لأنهم كانوا يوهمون الناس بذلك كقولك: بان زيد جهله (٣).

الثالث : أن تبيّن هنا متعدّ بمعنى أدرك وعلم وحينئذ يكون المراد «بالجنّ» ضعفتهم وبالضمير في «كانوا» كبارهم ومردتهم و (أَنْ لَوْ كانُوا) مفعول به ، وذلك أن المردة (و) الرؤساء من الجن كانوا يوهمون ضعفاءهم أنهم يعلمون الغيب فلما خرّ سليمان ميتا ومكثوا بعده عاما في العمل تبينت السفلة من الجن أن المراد منهم لو كانوا يعلمون الغيب كما ادعوا ما مكثوا في العذاب (٤) ، ومن مجيء «تبيّن» متعديا بمعنى أدرك قوله :

٤١٢٤ ـ أفاطم إنّي ميّت فتبيّني

ولا تجزعي كلّ الأنام يموت (٥)

وفي كتاب أبي جعفر (٦) ما يقتضي أن بعضهم قرأ : «الجنّ» بالنصب (٧). وهي واضحة أي تبينت الإنس الجنّ ، و (أَنْ لَوْ كانُوا) بدل أيضا من «الجنّ» ، قال البغوي : قرأ ابن مسعود وابن عباس تبينت الإنس أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي علمت الإنس وأيقنت ذلك (٨). وقرأ ابن عباس ويعقوب تبيّنت الجنّ على

__________________

ـ وتبيّن هنا فعل لازم كما هو واضح. وفي البيت شاهد صرفيّ مشهور وهو جمعه «طويل» على طيال وليس طوال وذلك فما ليس نحن فيه. انظر: شرح شواهد الشافية ٤ / ٢٨٥ و ٣٨٦ وشرح المفصل ١٠ / ٨٧ و ٨٨ و ٤ / ٤٥ والشافية ٣٨٥ والتصريح ٢ / ٣٧٩ والأشموني ٤ / ٣٠٤ والبحر المحيط ٧ / ٢٦٧ والمنصف ١ / ٢٤٢ والمحتسب ١ / ١٨٤ وتوضيح المقاصد ٦ / ٣٥ وديوان الحماسة البصرية ١ / ١١٩ واللسان : «طال» «طول» ٢٧٢٦.

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) قاله أبو البقاء العكبري في التبيان ١٠٦٥ ومكي في مشكل الإعراب ٢ / ٢٠٦ والفراء في معاني القرآن ٢ / ٣٥٧ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٧٧ وهو بدل اشتمال كقولهم : أعجبني زيد عقله ، وظهر عمرو جهله ويجوز أن يكون «أَنْ لَوْ كانُوا» في موضع نصب انظر : المراجع السابقة.

(٣) الدر المصون ٤ / ٤٢٤.

(٤) انظر أبا حيان في البحر المحيط ٧ / ٢٦٧ والسمين في الدر ٤ / ٤٢٤.

(٥) من الطويل وهو مجهول القائل وجيء به استشهادا على أن «تبين» قد تعدى للمفعول وهو الياء وهو بمعنى أدركيني. وانظر البحر المحيط والدر المصون المرجعين السّابقين.

(٦) يقصد أبا جعفر النحاس صاحب إعراب القرآن وقد مرّ ترجمته.

(٧) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٣٣٨.

(٨) معالم التنزيل له ٥ / ٢٨٦.

٣٥

البناء للمفعول (١). وهي مؤيدة لما نقله النّحّاس وفي الآية قراءات كثيرة أضربت علها لمخالفتها الشواذ (٢) وأن» في «أن لو» الظاهر أنها مصدرية مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و «لو» فاصلة بينها وبين خبرها الفعليّ (٣). وتقدم تحقيق ذلك كقوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) [الجن: ١٦] و (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) [الأعراف : ١٠٠] وقال ابن عطية : وذهب سيبويه إلى أنّ (٤) «أن» لا موضع لها من الإعراب إنما هي مؤذنة بجواب ما ينزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين (٥) ؛ لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحلّ محلّ القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب «لو» (٦) وعلى الأقوال الأول يكون جوابها. قال شهاب الدين : وظاهر (٧) هذا أنها زائدة لأنهم نصوا على اطّراد زيادتها قبل لو في حيّز القسم (٨).

وللناس خلاف هل الجواب للو أو للقسم. والذي يقتضيه القياس أن يجاب أسبقهما (٩) كما في اجتماعه مع الشرط الصريح ما لم يتقدمهما ذو خبر كما تقدم بيانه.

وتقدم الكلام والقراءات في سبأ في سورة (١٠) النمل.

فصل (١١)

المعنى أن سليمان لما سقط ميتا تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي في التّعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حيا أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب

__________________

(١) المرجع السابق وانظر : مختصر ابن خالويه ١٢١ والبحر المحيط ٧ / ٢٦٨ وهي عشرية متواترة. انظر : شرح طيبة النّشر ٣٧٨ ، والإتحاف ٣٥٨ ، والنشر ٢ / ٣٥٠ ، وتقريب النشر ١٦٢.

(٢) ومن ذلك ما قاله الزمخشري في الكشاف عن الضحاك «تباينت الإنس بمعنى تعارفت وتعاملت وقراءة ابن مسعود تبيّنت الإنس أنّ الجنّ». انظر : الكشاف ٣ / ٢٨٣ و ٢٨٤.

(٣) قاله السمين في الدر المصون ٤ / ٤٢٥.

(٤) الكتاب ٣ / ١٠٩ و ١١٠.

(٥) في «ب» والنفي. والتصحيح من «أ».

(٦) ذكر رأيه البحر ٧ / ٢٦٧ و ٢٦٨.

(٧) الدر المصون ٤ / ٤٢٦.

(٨) مذكورا أو متروكا وهذا قول سيبويه وغيره. وفي معرب ابن عصفور أنها في ذلك حرف جيء به لربط الجواب بالقسم ويبعده أن الأكثر تركها والحروف الرابطة ليست كذلك. انظر : المغني ٣٣.

(٩) قال العلامة الرضي في شرح الكافية ٢ / ٢٩١ : «اعلم أن القسم إذا تقدم على الشرط فإما أن يتقدم على القسم ما يطلب الخبر نحو : «زيد والله إن أتيته يأتك ، وإنّ زيدا والله إن أكرمته يجازيك» أو لا يتقدم فإذا تقدم القسم أوّل الكلام ظاهرا أو مقدرا وبعده كلمة الشرط سواء كانت إن أو لو أو لو لا أو أسماء الشرط فالأكثر والأولى اعتبار القسم دون الشرط فيجعل الجواب للقسم ويستغنى عن جواب الشرط لقيام جواب القسم مقامه». انظر : شرح الكافية للعلامة رضي الدين ٢ / ٣٩١ و ٣٩٢.

(١٠) انظر : اللباب الجزء السادس ميكرو فيلم وسيجيء.

(١١) سقط من «أ».

٣٦

لغلبة (١) الجهل عليهم وذكر الزّهريّ (٢) أن معنى تبيّنت الجنّ أي ظهرت وانكشفت الجن للإنس أي ظهر لهم أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وابن عباس المتقدمة ، وقوله : (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) يدل على أن المؤمنين من الجنّ لم يكونوا في التسخير ، لأن المؤمن لا يكون في زمان النّبيّ في العذاب المهين.

فصل (٣)

روي أن سليمان كان عمره ثلاثا وخمسين سنة ومدة ملكه أربعون سنة وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه (٤).

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(١٩)

(قوله) (٥) تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) قرأ حمزة وحفص مسكنهم بفتح الكاف مفردا ، والكسائي كذلك إلا أنه كسر الكاف والباقون مساكنهم جمعا (٦) فأما الإفراد فلعدم اللبس لأن المراد الجمع كقوله :

٤١٢٥ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

 ..........(٧)

__________________

(١) معالم التنزيل ٥ / ٢٨٦.

(٢) السابق.

(٣) سقط من «أ».

(٤) الخازن والبغوي ٥ / ٢٨٦.

(٥) سقط من «ب».

(٦) حجة ابن خالويه ٢٩٣ والكشف لمكي ٢ / ٢٠٤ ، والنشر ٢ / ٣٥٠ وتقريبه ١٦٢ والقرطبي ١٤ / ٢٨٣ والآية التي تشير إلى أنها تقدمت في النمل هي قوله تعالى : «وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ» وهي الآية ٢٢ منها ، فقد قرأ نافع وغيره بالصرف والتنوين على أنه اسم حي وهو في الأصل اسم رجل وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سبأ» بغير صرف وجعله اسما للقبيلة.

(٧) هذا صدر بيت من الوافر عجزه :

 ..........

فإنّ زمانكم زمن خميص

والخميص الجائع. وهو مجهول القائل. والشاهد : «بطنكم» حيث اللفظ على الإفراد. والمراد المعنى ـ

٣٧

والفتح هو القياس لأن الفعل متى ضمت عين مضارعه أو فتحت جاء المفعل منه زمانا أو مكانا أو مصدرا بالفتح والكسر مسموع على غير قياس (١) ، وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشية وهي لغة الناس اليوم والكسر لغة الحجاز وهي قليلة (٢) وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة(٣).

و «مسكنهم» يحتمل أن يراد به المكان ، وأن يراد به المصدر أي السّكنى (٤) ، ورجح بعضهم الثاني ، قال : لأن المصدر يشمل الكل ، فليس فيه وضع مفرد موضع جمع بخلاف الأول فإن فيه وضع المفرد موضع الجمع ، كما تقرر (٥) ، لكن سيبويه يأباه إلّا ضرورة (٦) كقوله :

٤١٢٦ ـ ..........

قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس (٧)

أي جلود ، وأما الجمع فهو الظاهر لأن كل واحد مسكن ، ورسم في المصاحف دون ألف بعد الكاف فلذلك احتمل القراءات المذكورة.

فصل

لما بين حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان بيّن حال الكافرين بأنعمه (٨) ، بحكاية أهل «سبأ» (٩) وقرىء سبأ بالفتح على أنه اسم بقعة ، وبالجر مع التنوين على أنه

__________________

ـ وهو الجمع وساغ ذلك الإفراد لعدم اللبس. وانظر : الكتاب ١ / ٢١٠ والبحر ٧ / ٢٦٩ ، والمحتسب ٢ / ٨٧ وابن يعيش ٥ / ٨ و ٦ / ٢١ و ٢٢ وهمع الهوامع ١ / ٥٠ ومعاني الفراء ١ / ٣٠٧ ومجمع البيان ١ / ٥٩ والصاحبي ٣٤٨ والمقتضب ٢ / ١٧٠ والخزانة ٧ / ٥٥٩ و ٥٦٤ والدّرّ المصون ٤ / ٤٢٦ والمقتصد ٦٩٦ ومعاني الفراء ٢ / ١٠٢.

(١) الدر المصون ٤ / ٤٢٦.

(٢) السابق.

(٣) معاني الفراء ٢ / ٣٥٧.

(٤) قال بذلك مكي في الكشف ٢ / ٢٠٤ وأبو البقاء في التبيان ١٠٥٦ ومكي في المشكل ٢ / ٢٠٦ والفراء في المعاني ٢ / ٣٥٧.

(٥) لعله مكي في الكشف فقد قال : وحجة من وحد أنه بمعنى السكنى فهو مصدر يدل على القليل والكثير من جنسه فاستغني به عن الجمع مع خفة الواحد.

(٦) قال : «وليس يمستنكر في كلامهم أن يكون اللفظ واحدا والمعنى جميع حتى قال بعضهم في الشعر من ذلك ما لا يستعمل في الكلام». الكتاب ١ / ٢٠٩ و ٢١٠.

(٧) هذا عجز بيت من البسيط صدره :

تدعوك تيم وتيم في قرى سبأ

 ..........

وهو في الديوان ديوان جرير ٢٥ دار صادر و ٣٢٥ الصاوي وعجزه فقط في الأمالي الشجرية ٢ / ٣٨.

و ٣٤٣ والشاهد : جلد الجواميس ، حيث أطلق المفرد وأريد الجمع : جلود ، ضرورة على زعم سيبويه.

وانظر : إيضاح الشعر ٥٦٩ ومعاني الفراء ١ / ٣٠٨ و ٢ / ١٠٢ و ٢٩٠ و ٣٥٨ والكشاف ٣ / ١٤٤ ، وشرح شواهده ٤٣١ والبحر المحيط ٧ / ٢٦٩.

(٨) في «ب» لأنعمه.

(٩) قاله الفخر الرازي ٢٥ / ٢٥٠.

٣٨

اسم قبيلة (١) ، وهو الأظهر لأن الله جعل الآية لسبأ والظاهر هو العاقل لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار الأهل (٢) ، وقوله «آية» أي من فضل ربهم دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن واسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان (٣) وسمي (سبأ) (٤) لأنه أول من سبأ من العرب.

قال السّهيليّ (٥) : ويقال : إنه أول من تبرج (٦) ، وذكر بعضهم أنه كان مسلما وكان له شعر يشير فيه بوجود رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٧) قال (يعني سليمان (٨) عليه الصلاة والسلام) :

٤١٢٧ ـ سيملك بعدنا ملكا عظيما

نبيّ لا يرخّص في الحرام

ويملك بعد منهم ملوك

يدينون العباد بغير دام

ويملك بعده منهم ملوك

يصير الملك فينا باقتسام

ويملك بعد قحطان نبيّ

نفى جنته خير الأنام

يسمى أحمد يا ليت أنّي

أعمّر بعد مبعثه بعام

فأعضده وأحبوه بنصري

بكلّ مدجّج وبكلّ رامي

متى يظهر فكونوا ناصريه

ومن يلقاه يبلغه سلامي (٩)

روى ابن عباس (١٠) قال سأل فروة بن مسيك الغطيفي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن سبأ ما هو؟ أكان رجلا أو امرأة أو أرضا؟ قال : بل هو رجل من العرب ولد عشرة من الولد فسكن اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة فأما الذين تيامنوا (١١) فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير فقال رجل وما أنمار؟ قال : الذين منهم خثعم وبجيلة ، وأما الذين تشاموا (١٢) فلخم وجذام وعاملة وغسان ، ولما هلكت أموالهم وخربت بلادهم تفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدي سبا شذر مذر ، فلذلك قيل لكلّ متفرقين بعد اجتماع :

__________________

(١) سبق.

(٢) دالمرجع السابق.

(٣) قاله في معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٨٧ ، وزاد المسير لابن الجوزي ٦ / ٤٤٣.

(٤) سقط من «ب».

(٥) هو : عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن سعدون الإمام أبو زيد وأبو القاسم السّهيلي كان عالما بالعربية واللغة والقراءات بارعا في ذلك جامعا بين الرّواية والدّراية وغير ذلك مات سنة ٥٨١ ه‍.

(٦) هو في «ب» تتوج.

(٧) انظر : ابن كثير ٣ / ٥٣١.

(٨) سقط من «ب».

(٩) أبيات من تمام الوافر نقلها الحافظ ابن كثير في تفسيره ٣ / ٥٣١ نقلا عن الهمذاني في كتاب الإكليل.

وقد ورد «ملك» بالرفع و «يدينوه» بدل العباد ومخبت و «حسنه» بدل «جنته» ، ومخبت أي متق عالم.

(١٠) رواه البغويّ في تفسيره معالم التنزيل وكذلك الخازن في لباب التأويل ٥ / ٢٨٦ و ٢٨٧.

(١١) في البغوي تيمنوا.

(١٢) وفيه : تشاءموا من الشؤم فيجوز همز الهمزة أي الألف.

٣٩

«تفرقوا أيادي سبا» (١) فنزلت طوائف منهم الحجاز فمنهم خزاعة نزلوا بظاهر مكة ومنهم الأوس والخزرج نزلوا بيثرب فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو قريظة والنّضير فخالفوا الأوس والخزرج وأقاموا عندهم ونزلت طوائف أخر منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غسّان وعاملة ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم ، و «سبأ» يجمع هذه القبائل كلها. والجمهور على أن جميع العرب ينقسمون (٢) إلى قسمين قحطانية وعدنانيّة ، فالقحطانية شعبان سبأ وحضرموت والعدنانيّة شعبان ربيعة ومضر وأما قضاعة فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قحطان وبعضهم إلى عدنان ، قيل : إن قحطان أول من قيل له : أنعم صباحا ، وأبيت اللّعن قال بعضهم : إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما (الصلاة و) (٣) السلام وليس بصحيح فإن إسماعيل نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عربا. والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأهم وجرهم والعماليق يقال : إن «أهم» كان ملكا يقال إنه أول من سقّف البيوت بالخشب المنشور وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة ، يقال لها : وبار هلكوا بالرمل انثال عليهم فأهلكهم وطمّ (مناهلهم) (٤) وفي ذلك يقول بعض الشعراء :

٤١٢٨ ـ وكرّ دهر على وبار

فهلكت عنوة وبار (٥)

__________________

(١) قال في اللسان : «وقالوا تفرّقوا أيادي سبا. فبنوه وليس بتخفيف عن «سبأ» لأن صورة تحقيقه ليست على ذلك وإنما هو بدل وذلك لكثرته في كلامهم ، قال : من صادر أو وارد أيدي سبا ، وقال كثير :

أيادي سبا يا عزّ ما كنت بعدكم

فلم يحل للعينين بعدك منزل

وضربت العرب بهم المثل في الفرقة ، لأنه لما أذهب الله عنهم جنتهم وغرق مكانهم تبدّدوا في البلاد».

اللسان : «س ب أ» ١٩٠٨ و ١٩٠٩ وانظر كذلك التهذيب سبأ. ومعنى شذر مذر : تفرقوا وذهبوا أي ذهبوا في كل وجه. ولا يقال ذلك في الإقبال ، وذهبت غنمك شذر مذر وشذر ومذر كذلك ، وفي حديث عائشة : أن عمر ـ رضي الله عنه ـ شرّد الشرك شذر مذر أي فرقه وبذّره في كل وجه ، ويروى بكسر الشين والميم وفتحهما. اللسان : «ش ذ ر» ٢٢٢٠.

(٢) في «ب» يقسمون.

(٣) زيادة من «ب».

(٤) سقط من «ب» كذلك.

(٥) البيت من مخلع البسيط للأعشى ميمون بن قيس. وجيء به تدليلا على أن قبيلة تدعى «وبار» قد هلكت بفعل الطبيعة وتلك القبيلة هي بنو «أهم» وأتباعه. والبيت في معجم ما استعجم للبكري ٣ / ١٣٦٦ و «وبار» كلمة مبنية على الكسر ومنهم من يعربه وهي لغة تميم وهذا البيت يشبه تماما قوله :

إذا قالت حذام فصدّقوها

فإنّ القول ما قالت حذام

وقد ورد البيت مضبوط القافية بالرفع غير أن الكلمة التي في آخر السطر الأول مضبوطة بالكسر بناء وانظر : المقضب ٣ / ٥٠ والتصريح ٢ / ٢٢٥ ، والهمع ١ / ٢٦ والأشموني ٣ / ٢٦٩ ، وشذور الذهب ١٣٥ ، والكتاب ٣ / ٢٧٩ وابن الشجري ٢ / ١١٥ وشرح المفصل لابن يعيش ٤ / ٦٤ واللسان : «وب ر» ٤٧٥٣ وديوانه (٥٣) مؤسسة الرسالة / محمد محمد حسين بلفظ «ومرّ دهر» بدون : وكرّ. وقبل البيت :

ألم تروا إرما وعادا

أودى بها اللّيل والنّهار

٤٠