اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٦

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٧٤

البقرة (١) والنحل (٢). والمعنى واضرب لأجلهم مثلا ، أو اضرب (٣) لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلا أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية. فعلى الأول لمّا قال تعالى : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) عا من الرسل بل (قبلي) (٤) بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة. وعلى الثاني لما قال تعالى : إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه (الصلاة و) السلام : فلا بأس واضرب لنفسك ولقومك (مثلا) (٥) أي مثّل لهم عند نفسك مثلا بأصحاب القرية ، حيث جاءهم ثلاثة رسل فلم يؤمنوا ، وصبر الرسل على القتل والإيذاء وأنت جئتهم واحدا وقومك أكثر من قوم الثلاثة ، فإنهم جاءوا قرية وأنت بعثت إلى العالم.

قوله : (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) أي واضرب لهم مثلا (مثل) (٦) أصحاب القرية ، فترك «المثل» وأقيم «الأصحاب» مقامه في الإعراب كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

قال الزمخشري (٧) : وقيل : لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلا أو مثل أصحاب القرية بهم (٨). قال المفسرون : المراد بالقرية أنطاكية.

قوله : (إِذْ جاءَهَا) بدل اشتمال. قال الزمخشري : «إذ» منصوبة لأنها بدل من أصحاب القرية كأنه تعالى قال : واضرب لهم وقت مجيء المرسلين ومثل ذلك الوقت بوقت محمّد (٩).

وقيل : منصوب بقوله : «اضرب» (١٠) أي اجعل الضرب كأنه حين مجيئهم وواقع

__________________

(١) عند قوله تعالى : «إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً» الآية ٢٦ من سورة «البقرة».

(٢) عند : «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً» «وضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ» الآيتين ٧٤ و ٧٥ من سورة «النحل».

(٣) الرازي ٢٦ / ٥٠ : ف «مثلا» مفعول أول و «أصحاب القرية» مفعول ثان ... ويجوز أن يكون «أصحاب القرية» بدلا من «مثلا» والتقدير واضرب لهم مثلا مثل أصحاب. انظر : البيان ٢ / ٩٢ والتبيان ١٠٧٩ والمشكل ٢ / ٢٣ والمختار الأول.

(٤) سقط من «ب».

(٥) كذلك.

(٦) سقط كذلك من «ب».

(٧) الكشاف ٣ / ٣١٧ ، فيكون الثاني بيانا أو بدلا من الأول. وهذا الرأي قاله مكي أيضا في مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٢٣ والأنباري في البيان ٢ / ٢٩٢ وأبو البقاء في التبيان ١٠٧٩ ومفهوم من كلام الزجاج في معاني القرآن ٤ / ٢٨١ كما ذكره أبو جعفر النحاس في الإعراب ٤ / ٣٨٧ وعلى هذا «ضرب» بمعنى ذكر.

(٨) رجحه مكي قال : هو الأحسن انظر : مشكل إعراب القرآن له ٢ / ٢٢٣ والدر المصون ٤ / ٤٩٩ والرازي ٢٦ / ٥٠ والبيان ٢ / ٢٩٢ والتبيان ١٠٧٩.

(٩) الكشاف ٣ / ٣١٧.

(١٠) هو قول الرازي في المرجع السابق ٢٦ / ٥٠.

١٨١

فيه. والمرسلون من قوم عيسى وهم أقرب مرسل أرسل إلى قوم إلى زمان محمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وهم ثلاثة.

قوله : (إِذْ أَرْسَلْنا) بدل من «إذ» الأولى (١) ، كأنه قال : اضرب لهم مثلا إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثنين. قال ابن الخطيب : والأصح الأوضح أن يكون «إذ» ظرفا والفعل الواقع فيه «جاءها» ، أي جاءها المرسلون حين أرسلناهم إليهم (٢).

وإنما جاءوهم حيث أمروا. وهذا فيه لطيفة أخرى وهي أن في القصة أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى ـ عليه (الصلاة (٣) و) السلام ـ أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى : إرسال عيسى (ـ عليه (٤) السلام ـ) هو إرسالنا رسول رسول الله بإذن الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رسل الرسل وإنما هم رسل الله ، فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله : (إِذْ أَرْسَلْنا). ويؤيد هذا مسألة فقهيّة وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكّل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل (الأول) (٥). وهذا على (٦) قولنا : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) ضرب المثل لأجل محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ظاهر وقوله : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) في بعثة (٧) الاثنين حكمة بالغة وهي أنهما (٨) كانا مبعوثين (٩) من جهة عيسى عليه (الصلاة (١٠) و) السلام ـ (بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى عليه الصلاة والسلام) (١١) فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى حجّة تامّة (١٢).

فصل

قال ابن كثير : وروى ابن إسحاق عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبّه وروي عن بريدة بن الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أن هذه القرية أنطاكية وكان اسم ملكها انطيخش ، وكان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صادق وصدوق وسلوم فكذبهم وهذا ظاهر (ه) (١٣) أنهم رسل الله ـ عزوجل ـ وزعم قتادة أنهم كانوا رسلا من عند المسيح وكان (١٤) اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنّا واسم الثالث

__________________

(١) التبيان ١٠٧٩ والرازي ٢٦ / ٥١ والسمين ٤ / ١٩.

(٢) فيه أي لم يكن مجيئهم من تلقاء أنفسهم وإنما ... الخ ... وانظر الرازي ٢٦ / ٥٠.

(٣) زيادة من «ب».

(٤) سقط من «ب».

(٥) سقط من «ب».

(٦) في «ب» وعلى هذا قولنا.

(٧) في «ب» بعثته.

(٨) وفيها : إنما.

(٩) وفيها : كانوا.

(١٠) زيادة من «ب».

(١١) ما بين القوسين كله على العكس ساقط من «ب».

(١٢) انظر : تفسير الرازي ٢٦ / ٥١.

(١٣) الهاء زيادة من «أ» الأصل.

(١٤) في «ب» وأنّ اسم الرسولين الأولين بلفظ «أن». وانظر : تفسير الحافظ ابن كثير ٣ / ٥٦٦ و ٥٦٧.

١٨٢

بولص (١) والقرية أنطاكية. وهذا القول ضعيف جدا ؛ لأن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت ، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها مباركة النصارى وهي أنطاكية والقدس واسكندرية رومية ، ثم بعدها قسطنطينية ، ولم يهلكوا (إذ) (٢) أهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا لقول الله تعالى : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) [يس : ٢٩] لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورة في القرآن بعثوا لأهل (٣) أنطاكية قديما فكذبوهم فأهلكهم الله ثم عمّرت بعد ذلك فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله فيجوز. والله أعلم.

قوله : «فعزّزنا» قرأ أبو بكر بتخفيف الزاي بمعنى غلبنا ، ومنه : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [ص : ٢٣] ومنه قولهم : عزّ وبزّ (٤) أي صا له بزّ.

والباقون بالتشديد بمعنى قوّينا (٥) ، يقال : عزّز المطر الأرض أي قواها ولبدها ، ويقال لتلك الأرض العزاء وكذا كل أرض صلبة. وتعزّز لحم النّاقة أي صلب وقوي (٦). وعلى كلتا القراءتين المفعول محذوف (٧) أي فقوّيناهما (أو فغلبناهما بثالث) (٨) ؛ لأن المقصود من البعثة نصرة الحق ، لا نصرتهما ، والكل كانوا مقوين للدين والبرهان.

وقرأ عبد الله (٩) «بالثّالث» بألف ولام (١٠).

قوله : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) جرد خبر «إنّ» هذه من لام التوكيد ، وأدخلها في خبر الثانية ، لأنهم في الأولى استكملوا مجرد الإنكار فقابلتهم الرسل بتوكيد واحد وهو الإتيان ب «إنّ» وفي الثانية بالغوا في الإنكار فقابلتهم (الرسل) بزيادة التأكيد ، فأتوا ب «إنّ» وب «اللّام».

قال أهل البيان : الأخبار ثلاثة أقسام : ابتداء وطلبيّ وإنكاريّ.

__________________

(١) وفي «ب» يونس وانظر : زاد المسير لابن الجوزي ٧ / ١٠. وصادق وصدوق قول ابن عباس وكعب.

ويوحنا وبولس قول وهب وتومان وبولس قول مقاتل. انظر : المرجع السابق وجامع البيان ٢٢ / ١٠١.

(٢) سقط من «ب».

(٣) في «ب» إلى أنطاكية.

(٤) ذكر هذا المثال الميداني في مجمع أمثاله ٤ / ٢٨٢ أي من غلب سلب وانظر أيضا حجة ابن خالويه ٢٩٨ واللسان «عزز وبزز» ومعاني الزجاج ٤ / ٢٨٢.

(٥) في «ب» قريبا وهو تحريف.

(٦) اللسان : «ع ز ز» ومجاز القرآن ٢ / ١٥٨.

(٧) هذا قول أبي البقاء في التبيان ١٠٧٩ ومكي في الكشف ٢ / ٢١٥٤.

(٨) ما بين القوسين زيادة من «أ».

(٩) ابن مسعود رضي الله عنه وقد مرّ التعريف به.

(١٠) أوّل الفراء في «معاني القرآن» «ثالث» بالثّالث ورجحها. انظر : معانيه ٢ / ٢٧٣ ومختصر ابن خالويه ١٢٤ و ١٢٥ وهي شاذة.

١٨٣

فالأول : (يقال) (١) لمن لم يتردد في نسبة أحد الطرفين إلى الآخر نحو : زيد عارف.

والثاني : لمن هو متردد في ذلك طالب له منكر له بعض إنكار فيقال له : إنّ زيدا عارف.

والثالث : لمن يبالغ في إنكاره فيقال له : إنّ زيدا لعارف (٢). ومن أحسن ما يحكى أن رجلا جاء إلى أبي العباس (٣) الكنديّ فقال : يا أبا العباس : إني لأجد في كلام العرب حشوا. قال : وما ذاك؟ قال: يقولون زيد قائم ، وإنّ زيدا لقائم ، فقال : كلّا ، بل المعاني مختلفة ، «فعبد الله قائم» إخبار بقيامه ، و «إنّ عبد الله قائم» جواب لسؤال سائل و «إنّ عبد الله لقائم» جواب عن إنكار منكر(٤) وهذا هو الكندي الذي سئل أن يعارض القرآن ففتح المصحف فرأى سورة المائدة (٥). وقال أبو حيان : وجاء أولا «مرسلون» بغير لام ، لأنه ابتداء إخبار ، فلا يحتاج إلى توكيد ، وبعد المجاورة «لمرسلون» بلام التوكيد ، لأنه جواب عن إنكار (٦).

قال شهاب الدين : «وهذا قصور عن فهم ما قاله أهل البيان ، فإنه جعل المقام الثاني ـ وهو الطلبي ـ مقام المقام الأول وهو الابتدائي» (٧).

قوله : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) جعلوا كونهم بشرا مثلهم دليلا على عدم الإرسال. وهذا عام في المشركين قالوا في حق محمد عليه (الصلاة و) السلام : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] وإنما ظنّوه دليلا بناء على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار وإنما قالوا : إنه موجب بالذات وقد استوينا (٨) في البشرية فلا يمكن (الرجحان) (٩) ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ، وبقوله : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى :

__________________

(١) سقط من «ب».

(٢) قال السكاكي : «فكون التركيب تارة غير مكرر مجردا عن لام الابتداء وإن المشبهة والقسم ولامه ونوني التوكيد كنحو : زيد عارف وأخرى مكررا أو غير مجرد نحو عرفت عرفت ولزيد عارف ، وإنّ زيدا عارف ، وإنّ زيدا لعارف ، والله لقد عرفت أو لأعرفنّ». انظر : مفتاح العلوم ٨٠ وإيضاح القزويني ١٦ ودلائل الإعجاز ٣٠٣ و ٣٠٤.

(٣) هو يعقوب بن إسحاق بن الصّباح ينتهي نسبه إلى كندة من قبائل العرب مات سنة ٢٥٢ ه‍ انظر : أعلام العرب ١٦ و ٤٢.

(٤) في دلائل الإعجاز وإيضاح القزويني أن المتكلم بهذا هو المبرد عند ما سأله الكندي المتفلسف فأجاب المبرّد بما ذكره المؤلف أعلى. وانظر : دلائل الإعجاز والإيضاح السابقين.

(٥) الدر المصون ٤ / ٥٠٠.

(٦) البحر المحيط ٧ / ٣٢.

(٧) الدر المصون ٤ / ٥٠٠.

(٨) في «ب» استويا وما هو أعلى يوافق ما في الرازي.

(٩) سقط من «ب».

١٨٤

١٣] إلى غير ذلك. ثم قالوا : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) وهذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون متمّما لما ذكرو (ه) (١) فيكون الكل شبهة واحدة ، والمعنى وما أنزل الله إليكم أحدا فكيف صرتم رسلا؟!

والثاني : أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة وهي أنهم لما قالوا : أنتم بشر مثلنا ، فلا يجوز رجحانكم علينا. ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المرسلين ثم قالوا شبهة أخرى من جهة المرسل (٢) وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئا في هذا العالم ، فإن تصرفه في العالم العلوي فالله لم ينزل شيئا من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم؟!.

وقوله تعالى : (الرَّحْمنُ) إشارة إلى الرد عليهم ، لأن الله تعالى لما كان رحمن الدّنيا ، والإرسال رحمة فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن؟! ثم قال : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون (٣). (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) قال وهب : اسمهما يحيى (٤) وبولس (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا) برسول «ثالث» وهو شمعون. وقال كعب : الرسولان صادق وصدوق والثالث سلوم. وإنما أضاف الله الإرسال إليه ، لأن عيسى ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ إنما بعثهم بأمره ـ عزوجل ـ.

قوله : (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) وهذا إشارة إلى أنهم بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا بل أعادوا ذلك لهم ، وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين. (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) وأكدوه باللام لأن علم الله يجري مجرى القسم ، كقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أي هو عالم بالأمور (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ، وذلك تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا عن عهدة ما علينا وهو البلاغ (٥). وقوله «المبين» أي المبين الحق عن الباطل وهو الفارق بالمعجزة والبرهان (٦) ؛ إذ البلاغ المظهر لما أرسلنا إلى الكل أي لا يكفي أن يبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين. أو المظهر للحق بكل ما يمكن فإذا لم يقبلوا الحق فهنالك الهلاك فما كان جوابهم بعد ذلك إلا قولهم : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاء منا بكم وذلك أن المطر حبس عنهم فقالوا أصابنا هذا بشؤمكم (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) لنقتلنّكم (٧). قاله قتادة.

وقيل : لنشتمنّكم (٨). (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) فإن فسرنا الرجم بالحجارة فيكون

__________________

(١) الهاء زيادة من «أ».

(٢) في «ب» الرسل.

(٣) في «ب» تزعمونه. وانظر : تفسير العلامة الرازي ٢٦ / ٥٢.

(٤) رواه النقاش فيما نقله عنه القرطبي في الجامع ١٥ / ١٤ وانظر أيضا زاد المسير ٧ / ١٠.

(٥) في «ب» الإبلاغ وكلاهما صحيحان.

(٦) في «ب» والبلاغ.

(٧) قاله الزجاج والفراء في معانيهما. الأول في ٤ / ٨٢ والثاني في ٢ / ٣٧٤.

(٨) هذا قول الرازي في تفسيره ٢٦ / ٥٣.

١٨٥

قولهم : (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) كأنهم قالوا : لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم أو يكون المراد : وليمسّنّكم بسبب الرجم منّا عذاب أليم أي مؤلم.

وإن قلنا : الرجم الشتم فكأنهم قالوا ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحسّيّ. وإذا فسرنا «أليم» بمعنى مؤلم فالفعيل (١) بمعنى مفعل قليل (٢).

ويحتمل أن يقال : هو من باب قوله : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي ذات رضا أي (٣) عذاب ذو ألم(٤) ، فيكون فعيل بمعنى فاعل وهو كثير (٥).

ثم أجابهم المرسلون فقالوا (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي شؤمكم معكم ، أي كفركم.

قوله : «طائركم» العامة على «طائر» اسم فاعل أي ما طار لكم من الخير والشر ، فعبر به عن الحظ والنصيب وقرأ الحسن ـ فيما روى عنه الزمخشري (٦) ـ «اطّيّركم» مصدر اطّيّر الذي أصله تطيّر ، فلما أريد إدغامه أبدلت الفاء (٧) طاء وسكنت واجتلبت همزة الوصل وصار اطّيّر ، فيكون مصدره «اطّيّارا».

ولما ذكر أبو حيان هذا لم يرد عليه وكان (هو) (٨) في بعض ما رد به على ابن مالك

__________________

(١) في «ب» فالفعل تحريف.

(٢) وفيها دليل بدل قليل وهو تحريف.

(٣) في «ب» «أو» تحريف.

(٤) «أليم» هنا صفة مشبهة على زنة فعيل ، فإذا قصد النص على حدوث الصفة فإن كانت من الثلاثي أتى بها على فاعل فنقول في حسن وفرح حاسن وفارح ، وإن كانت من الثلاثي على فاعل في الأصل كطاهر وفاره أو كانت من غير الثلاثي اكتفي في دلالتها على الحدوث بتقييدها بأحد الأزمنة ، فنقول : طاهر الآن ، ومبتهج أمس. ومن مجيء الصفة على فاعل قول الشاعر :

وما أنا من رزء وإن جلّ جازع

ولا بسرور بعد موتك فارح

(٥) إذا كان الفعل على وزن فعل ـ بكسر العين ـ فاسم الفاعل منه قياسا على وزن فاعل إن كان الفعل متعديا فإن كان لازما أو كان الفعل على فعل ـ بضم العين فلا يجيء اسم الفاعل على فاعل إلا سماعا. أما إذا كان على وزن فعل بفتح العين ـ فيجيء من الثلاثي هذا على وزن فاعل سواء أكان متعديا أم لازما. وألم فعل لازم كما قال ابن منظور في اللسان : «أل م» وقد ألم الرجل يألم ألما فهو ألم ، قال : والعذاب الأليم الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ وإذا قلت : عذاب أليم فهو بمعنى مؤلم «مفعل». انظر : التبيان في تصريف الأسماء ٧٧. وشرح ابن عقيل ٣١٨ و ٣١٩ واللسان : «أل م» بتصرف.

(٦) الكشاف ٣ / ٣١٨.

(٧) أي فاء الكلمة ميزانا طاؤها موزونا. وفي «ب» التاء على أصل المبدل.

(٨) سقط من «ب».

وقد قال أبو حيان في البحر : «مصدر اطير الذي أصله تطيّر فأدغمت التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر». البحر ٧ / ٣٢٧.

١٨٦

في شرح التسهيل في باب المصادر (١) أن مصدر «تطيّر وتدارأ» إذا أدغما وصار «اطّيّر وادّارأ» لا يجيء مصدرهما عليهما ، بل على أصلهما ، فيقال : اطّيّر تطيّرا ، وادّارأ تدارءا. ولكن هذه القراءة تردّه إن صحت. وهو بعيد (٢).

وقد روى غيره طيركم بياء ساكنة (٣). ويغلب على الظن أنها هذه. وإنما تصحفت على الراوي فحسبها مصدرا وظن أن ألف «قالوا» همزة وصل.

قوله : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) قرأ السبعة (٤) بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية وهم على أصولهم من التسهيل والتحقيق ، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه في سورة (البقرة) (٥). واختلف سيبويه ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيّها يجاب؟ فذهب سيبويه إلى إجابة الاستفهام ، ويونس إلى إجابة الشرط(٦).

فالتقدير عند سيبويه أئن ذكّرتم تتطيّرون وعند يونس تطيّروا (٧) مجزوما.

__________________

(١) قال : يصاغ المصدر من كل ماض أوله همزة وصل بكسر ثالثه وزيادة ألف قبل آخره ومن كل ماض أوله تاء المطاوعة أو شبهها بضم ما قبل آخره إن صح آخره وإلا خلف الضم الكسر. انظر : التسهيل باب مصادر غير الثلاثي ٢٠٦ وعبارته هنا مطلقة.

(٢) قال في شرحه على التسهيل : «أطلق في مكان التقييد ، لأنه ليس كل ماض أوله همزة وصل بكسر ثالثه مصدره وتزاد ألف قبل آخره ألا ترى أن تفاعل وتفعل إذا أدغمت فاؤهما في الطاء نحو تطيّر وتطاير فقيل : اطّيّر واطّاير يصدق على هذين أنهما فعلان أولهما همزة وصل ومع ذلك مصدرهما لا يكسر ثالثه ولا تزاد ألف قبل آخره بل يقال : اطّير يطّاير اطّايرا واطّيّر اطّيرا فكان ينبغي أن يقيد فيقول من كل ماض أوله همزة وصل ليس أصله تفاعل ولا تفعّل انظر : التّذييل ٦ / ١١٩.

(٣) ذكرها كثانية الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣١٨ كما ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٢٥. وأجازه الإمام الفراء لغويّا في المعاني ٢ / ٣٧٤ ، بينما قال الزجاج : «ويجوز طيركم معكم» ، لأنه يقال : طائر وطير في معنى واحد. ولا أعلم أحدا قرأ ههنا طيركم بغير ألف. انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٨٢.

(٤) الواقع أن فيها سبعة أوجه من القراءات ، فقرأ أهل المدينة أين ذكرتم بتخفيف الهمزة الثانية. وقرأ أهل الكوفة أأن بتحقيق الهمزتين. والثالث : آان بهمزتين بينهما ألف أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين الرابع : أاان بهمزة بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة. والخامس : بهمزتين إلا أن الثانية همزة مخففة والسادس : أأن بهمزتين مفتوحتين. والسابع : أين ذكرتم بمعنى حيث. وانظر : إعراب النحاس ٣ / ٨٨ ومعاني الزجاج ٤ / ٢٨٢ والسبعة ٥٤٠ ومختصر ابن خالويه ١٢٥ ومعاني الفراء ٢ / ٣٧٤ والكشاف ٣ / ٣١٨ والنشر ٢ / ٣٥٣ والإتحاف ٣٦٤.

(٥) سقط من «ب» وهو يشير إلى قوله : «أَأَنْذَرْتَهُمْ» من الآية ٦ منها ؛ وانظر : اللباب ١ / ٢٧ ب.

(٦) عبارة الكتاب توحي بخلاف ما قاله المؤلف فقد قال : «وذلك نحو أإن تأتني آتك ولا تكتفي بمن لأنها حرف جزاء ومتى مثلها فمن ثم أدخل عليه الألف تقول : «أمتى تشتمني أشتمك» و «أمن يفعل ذلك أزره» وذلك لأنك أدخلت الألف على كلام قد عمل بعضه في بعض فلم يغيره. وأما يونس فيقول : «أئن تأتني آتيك» وهذا قبيح يكره في الجزاء وإن كان في الاستفهام» الكتاب ٣ / ٨٢ و ٨٣.

(٧) في «ب» تتطيروا بتاءين.

١٨٧

فالجواب للشرط على القولين محذوف.

وقد تقدم هذا في سورة الأنبياء (١). وقرأ أبو جعفر وطلحة وزرّ بهمزتين مفتوحتين (٢) ، إلّا أنّ زرّا لم يسهل الثانية ، كقوله (٣) :

٤١٧٢ ـ أإن كنت داود بن أحوى مرحّلا

فلست براع لابن عمّك محرما (٤)

وروي عن أبي عمرو وزرّ أيضا كذلك ، إلا أنهما فصلا بألف بين الهمزتين (٥). وقرأ الماجشون (٦) (بهمزة (٧)) واحدة مفتوحة (٨).

وتخرج هذه القراءات الثلاث على حذف لام العلة أي (أ) لأن ذكّرتم تطيّرتم ف «تطيرتم» هو المعلول ، وأن ذكرتم عليته. والاستفهام منسحب عليهما في قراءة الاستفهام. وفي غيرها يكون إخبارا بذلك. وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسورة (٩) وهي شرط من غير استفهام ، وجوابه محذوف أيضا. وقرأ الأعمش والهمدانيّ أين (١٠) بصيغة الظرف. وهي أين الشرطية وجوابها محذوف عند جمهور البصريين (١١) أي أين ذكرتم فطائركم معكم أو صحبتكم طائركم ، لدلالة ما تقدم من قوله : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ومن يجوز تقديم الجواب لا يحتاج إلى حذف (١٢).

__________________

(١) عند قوله : «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» ٣٤ منها. وقد نقل أبو حيان نفس المعنى في البحر المحيط حيث ذهب إلى أن إجابة الاستفهام مذهب سيبويه وإجابة الشرط مذهب يونس. انظر البحر ٧ / ٣٢٧.

(٢) من القراءات الشاذة ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٥ والفراء في معانيه ٢ / ٣٧٤.

(٣) في «ب» لقوله.

(٤) من الطويل ، ولم أعرف قائله. وداود بن أحوى اسم رجل. والمرحل : نوع من الثياب والمحرم الحرمة يتنكر منه إساءته إليه. وفي البحر : «بداع» لا براع. وفي السمين : «مراع» واستبعدها للحن النحوي فيه وإن كانت الضرورة تبيح ذلك وعلى كلّ فلا تباعد بين الروايات فيه. والشاهد «أإن» حيث حقق الهمزتين معا وتحقق التنظير بالآية. انظر : البحر المحيط ٧ / ٣٢٧ والدر المصون ٤ / ٥٠٢.

(٥) من الشواذ أيضا انظر : البحر ٧ / ٣٢٧ ومختصر ابن خالويه ١٢٥.

(٦) يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وردت عنه الرواية في حروف القرآن مات سنة ١٨٥ ه‍ انظر : طبقات القراء ٢ / ٣٢٧.

(٧) سقطت من «أ».

(٨) شاذة انظر : المحتسب ٢ / ٢٠٥ والبحر ٧ / ٣٢٧ والكشاف ٣ / ٣١٨.

(٩) شاذة أيضا انظر : الكشاف والبحر ومختصر ابن خالويه السابقين.

(١٠) شاذة أيضا وانظر المراجع السابقة والمحتسب ٢ / ٢٠٥.

(١١) وهذا ما قال به ابن جني حيث قال «أين هنا شرط وجوابها محذوف لدلالة «طائركم» عليه فكأنه : قال : أين ذكرتم أو أين وجدتم وجد شؤمكم معكم وهذا كقولك : سيفك معك أين حللت ، وكقولك : أنت ظالم إن فعلت» انظر : المحتسب ٢ / ٢٠٦.

(١٢) وهذا رأي الكوفيين والمبرد. انظر المقتضب لأبي العباس المبرد ٢ / ٦٦ ـ ٦٩.

١٨٨

وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصمعيّ (١) عن نافع ذكرتم بتخفيف الكاف (٢).

فصل

قوله : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) جواب عن قوله : (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي أتفعلون بنا ذلك وإن ذكرتم أي وعظتم بالله وبين لكم الأمر بالمعجز والبرهان (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) مشركون مجاوزون (٣) حيث تجعلون ما يتبرّك به يتشاءم به وتقصدون إيلام من يجب إكرامه ، أو مسرفون حيث تكفرون ثم تصرّون (٤) بعد ظهور الحق بالمعجزة والبرهان.

فإن قيل : (بل) (٥) للإضراب فما (الأمر) المضروب عنه؟.

فالجواب : يحتمل أن يقال قوله : أئن ذكّرتم وارد على تكذيبهم فإنهم قالوا : نحن كاذبون وإن جئتنا بالبرهان لا بل قوم مسرفون. ويحتمل أن يقال : أنحن مشؤومون وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه لا بل أنتم قوم مسرفون. ويحتمل أن يقال : أنحن (٦) مستحقون الرجم والإيلام وإن بينا صحّة ما أتينا به لا بل أنتم قوم مسرفون (٧).

فصل

ذكر المفسرون أن عيسى ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ بعث رجلين إلى أهل أنطاكية فدعوا إلى توحيد الله وأظهرا المعجزة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فحبسهم الملك فأرسل (٨) بعدهما شمعون ، فأتى الملك ، ولم يدع الرسالة وقرب نفسه من الملك بحسن التدبير ، ثم قال : إني أسمع (أنّ) (٩) في الحبس رجلين يدّعيا (ن) (١٠) أمرا بديعا أفلا يحضران نسمع كلامهما؟ فقال الملك : بلى فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقّة فقال شمعون : وهل لكما بيّنة؟ قالا : نعم فأبرءا الأكمه والأبرص وأحييا(١١) الموتى. فقال شمعون : يا أيها الملك : إن شئت أن تغلبهم فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئا من ذلك فقال له الملك أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فقال شمعون : فإذن (١٢) ظهر لي الحق من جانبهم فآمن الملك (وقوم) (١٣) وكفر آخرون. وكانت الغلبة للمكذبين (١٤).

__________________

(١) تقدم.

(٢) الدر المصون ٤ / ٥٠٢.

(٣) نقل القرطبي لها في الجامع عدة معان من ضمن هذه المعاني ما ذكره أعلى انظر : القرطبي ١٥ / ١٧ والرازي ٢٦ / ٥٤.

(٤) في (ب) تصرفون.

(٥) ما بين الأقواس ساقط من «ب».

(٦) في «ب» إنكم تحريف.

(٧) الرازي ٢٦ / ٥٣ و ٥٤.

(٨) في «ب» وأرسل.

(٩) ساقط من «ب».

(١٠) النون ساقطة من «ب».

(١١) في «ب» وأحيا بياء واحدة. تحريف.

(١٢) رسمت في «ب» فإذا.

(١٣) سقطت من «ب».

(١٤) الرازي ٢٦ / ٥٣ و ٥٤.

١٨٩

قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(٢٧)

قوله : «وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى» في تعلقه بما قبله وجهان :

أحدهما : أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث أمن بهم الرجل الساعي. وعلى هذا فقوله : (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) فيه بلاغة باهرة لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل و (هو) قد آمن دل على (أن) (١) إنذارهم وإبلاغهم بلغ إلى أقصى المدينة.

والثاني : أن ضرب المثل لما كان لتسلية قلب (٢) محمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعي المؤمنين في تصديق أنبيائهم ، وصبرهم (٣) على ما أوذوا ، ووصول الجزاء (٤) الأوفر إليهم ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ (٥).

قوله : (رَجُلٌ يَسْعى) في تنكير «الرجل» مع أنه كان معروفا معلوما عند الله فائدتان :

الأولى : أن يكون تعظيما (لشأنه) (٦) أي رجل كامل في الرجولية.

الثانية : أن يكون مفيدا ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به ، فلا يقال : إنهم تواطئوا. والرجل هو حبيب النّجار كان ينحت الأصنام. وقال السدي : كان قصارا. وقال وهب : كان يعمل الحرير وكان سقيما قد أسرع فيه الجذام. وكان منزله عند أقصى باب المدينة (٧) وكان مؤمنا آمن بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٨) قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب (٩) الله ، ورأى فيه نعت (١٠) محمد وبعثته وقوله : «يسعى» تبصير للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جهدهم في النّصح.

قوله : (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) تقدم الكلام في فائدة قوله : (يا قَوْمِ)(١١) عند

__________________

(١) ما بين الأقواس زيادة من «أ» وسقوط من «ب».

(٢) في «ب» ملة بدل قلب.

(٣) في «ب» وصبروا.

(٤) في «ب» الخبر دون الجزاء وهو تحريف.

(٥) في «ب» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٦) سقطت من «ب».

(٧) في «ب» في المدينة.

(٨) في «ب» عليه الصلاة والسلام.

(٩) في «ب» لكتاب الله باللام.

(١٠) في «ب» قلب بدل نعت.

(١١) قال هناك في الفائدة بقوله : «يا قوم» أنه ينبىء عن إشفاق عليهم وشفقة فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله : «يا قوم» يفيد أنه لا يريد بهم إلّا خيرا. وانظر اللباب ١ / ٦٠ «ب».

١٩٠

قوله موسى : (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤].

فإن قيل : هذا مثل مؤمن آل فرعون (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) [غافر : ٣٨] وهذا قال : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) فما الفرق؟.

فالجواب : هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السّبيل وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مرارا فقال : «اتّبعوني في الإيمان بموسى وهارون ـ عليهما (الصلاة و) السلام ـ واعلموا أنه لو لم يكن خيرا لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته» ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول : أنتم تعلمون اتّباعي لهم. واعلم أنه جمع بين إظهار النصيحة وإظهار إيمانه فقوله (١) : «اتبعوا» نصيحة (٢) وقوله : «المرسلين» إظهار إيمانه وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعيا في النصيحة وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله : «يسعى» يدل على إرادته النصح (٣).

قوله : (مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) بدل من «المرسلين» بإعادة العامل (٤) إلا أن أبا حيان قال: النحاة لا يقولون ذلك إلا إذا كان العامل حرف (جر) (٥) وإلا فلا يسمونه بدلا بل تابعا وكأنه يريد التوكيد اللفظيّ بالنسبة إلى العامل.

فصل

هذا الكلام في غاية الحسن لأن لما قال اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة الاستقامة والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه والامتناع (٦) من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين إما لطالب الدليل الأجرة وإما عدم (٧) الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريق المستقيم الموصلة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين أليسوا (٨) بمهتدين فاتبعوهم.

قوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أصل الكلام وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عليهم ليكون الكلام أسرع قبولا ولذلك جاء قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) دون «وإليه أرجع» وقوله «أأتّخذ» مبني على كلام (٩) الأول وهذه الطريقة أحسن من ادّعاء

__________________

(١) في «ب» بقوله.

(٢) في «ب» نصيحته.

(٣) وانظر هذا كله في تفسير الإمام الرازي ٢٦ / ٥٥.

(٤) قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٥٠٣.

(٥) سقط من «ب».

(٦) كذا هي في الرازي وفي «ب» الاتساع خطأ.

(٧) في «ب» عند الاعتماد والأصح كما في الرازي عند عدم الاعتماد.

(٨) في «ب» ليسوا بدون همزة.

(٩) في «ب» كلامه وانظر : الكشاف ٣ / ٣١٩.

١٩١

الالتفات (١) ، وقرأ حمزة ويعقوب ما لي بإسكان الياء والآخرون بفتحها (٢). واعلم أن قوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) أي أيّ (٣) مانع من جانبي وهذا إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه فمن يمنع (٤) من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جرم عبدته وفي العدول من مخاصمة (٥) القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى وهي أنه لو قال : ما لكم لا تعبدون الذي فطركم» لم يكن في البيان مثل قوله : (وَما لِيَ) لأنه لو قال : (وَما لِيَ) وأحد لا يخفى عليه (حال) (٦) نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو بين عدم المانع وأما لو قال : (وَما لَكُمْ) جاز أن يفهم (منه) (٧) أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه. وقوله : (الَّذِي فَطَرَنِي) إشارة إلى وجود المقتضي ، فإن قوله : (وَما لِيَ) إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل (٨) ما لم يوجد المقتضي فقوله : (الَّذِي فَطَرَنِي) دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته. وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم المقتضي (٩) لأن المقتضي لظهوره كأن مستغنيا عن البيان فلا أقلّ من تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه واختار من الآيات فطرة نفسه لأن خالق عمرو يجب على زيد عبادته لأن من خلق عمرا (لا يكون (١٠) إلا) كامل القدرة واجب الوجود فهو مستحق العبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على «زيد» بخلق «زيد» أظهر إيجابا (١١).

فصل

أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم كأن (١٢) الفطرة أثر النعمة وكان عليه أظهر وفي الرجوع معنى الشكر وكان بهم أليق. روي أنه لما قال : اتبعوا المرسلين أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له : «أفأنت تتبعهم»؟ فقال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(١٣)) أي أي شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم. ومعنى فطرني : خلقني اختراعا ابتداء. وقيل : جعلني على الفطرة

__________________

(١) وانظر : البحر ٧ / ٣٢٨ والدر المصون ٤ / ٥٠٣.

(٢) الإتحاف ٣٦٤ وهي من الأربع فوق العشرة المتواترة.

(٣) في الرازي : «ما لي مانع من جانبي».

(٤) في «ب» يمتنع.

(٥) في الرازي : عن مخاطبة.

(٦ و ٧) ساقطان من «ب».

(٨) في «ب» العقل. خطأ.

(٩) وانظر في هذا كله تفسير الإمام الفخر ٢٦ / ٥٥ و ٥٦.

(١٠) ما بين القوسين سقط من «ب» وفي «ب» : لأن من خلق عمرو كامل. بالإثبات.

(١١) انظر : المرجع السابق ٢٦ / ٥٦.

(١٢) في «ب» : لأن الفطرة.

(١٣) سقط من «ب» وانظر : القرطبي ١٥ / ١٩ وزاد المسير ٧ / ١٣.

١٩٢

كما قال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠].

قوله : «أأتّخذ» استفهام بمعنى الإنكار ، أي لا أتخذ من دونه آلهة و «من دونه» يجوز أن يتعلق «بأتّخذ» على أنها متعدية لواحد وهو «آلهة» ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «آلهة» (١) وأن يكون مفعولا ثانيا (٢) قدم على أنها المتعدية لاثنين (٣).

فصل

في قوله : (مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) لطيفة وهي أنه لما بين أنه يعبد الذي فطره بين أن من دونه لا يجوز عبادته لأن الكل محتاج مفتقر حادث وقوله : «أأتّخذ» إشارة إلى أن غيره ليس بإله لأن المتخذ لا يكون إلها (٤) قوله : (إِنْ يُرِدْنِ) شرط جوابه (لا تُغْنِ عَنِّي)(٥) والجملة الشرطية في محل نصب صفة «لآلهة» (٦). وفتح طلحة السّلماني (٧) ـ وقيل : طلحة بن مصرف (٨) ـ ياء المتكلم (٩). وقال الزمخشري وقرىء : إن يردني الرّحمن بضر بمعنى إن يوردني (١٠) ضرّا أي يجعله (١١) موردا للضر (١٢). قال أبو حيان : وهذا والله أعلم رأى في كتب القراءات بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعديا بالياء المعدية (١٣) كالهمزة (١٤) فلذلك أدخل همزة التعدية فنصب به اثنين والذي في كتب القراءات الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطّا ونطقا لالتقاء الساكنين (١٥) قال

__________________

(١) أي كائنة أو موجودة.

(٢) أي أأتخذ آلهة موجودة من دونه. «فمن دونه» تكميل «لموجودة» التي هي المفعول الثاني أصلا.

(٣) وبعضهم أنكر أن تنصب «تخذ واتّخذ وترك» مفعولين وقال : إنما يتعدى إلى واحد والمنصوب الثاني حال ومن أمثلتها «لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» و «اتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً». وانظر : الدر المصون ٤ / ٥٠٩ وهمع السيوطي ١ / ١٥٠.

(٤) قاله الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ٥٧.

(٥) قال في التبيان ١٠٨٠ والإعراب للنحاس ٣ / ٣٨٩ والدر للسمين ٤ / ٥٠٩.

(٦) الدر المصون السابق.

(٧) تصحيحه كما في كتب تراجم القراء : السمان. وهو طلحة بن سليمان مقرىء متصدر أخذ القراءة عن فياض بن غزوان عن طلحة بن مصرف وله شواذّ تروى عنه. روى عنه القراءة إسحاق بن سليمان أخوه. انظر : غاية النهاية ١ / ٣٤١.

(٨) كما في كتاب الشواذ لابن خالويه ١٢٥.

(٩) المرجع السابق والبحر ٧ / ٣٢٩ والدر المصون ٤ / ٥٠٤ وفي شواذ القرآن ٢٠٢ : «إِنْ يُرِدْنِ» بفتح الياء وإثباته في الوقف طلحة وعيسى وأبو جعفر.

(١٠) في (ب) يردني تحريف.

(١١) في الكشاف : أي يجعلني موردا للضر.

(١٢) الكشاف ٣ / ٣١٩.

(١٣) في المضارع.

(١٤) في الماضي أورد.

(١٥) البحر ٧ / ٣٢٩.

١٩٣

شهاب الدين : وهذا رجل ثقة قد نقل هذا القراءة فتقبل منه (١).

فإن قيل : ما الحكمة في قوله (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) ولم يقل : إن يرد الرّحمن بي ضرّا وكذلك قوله تعالى : (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) [الزمر : ٣٨] ولم يقل : إن أراد الله بي ضرّا؟.

فالجواب : أن الفعل إذا كان متعديا إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بالحرف كالأمر (٢) تعدى بالحرف (٣) في قولهم : ذهب به وخرج به. ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولا بحرف فإذا قال القائل مثلا : كيف حال (٤) فلان؟ يقول : اختصه الملك بالكرامة والنعمة. فإذا قال : كيف كرامة الملك؟ يقول : اختصها بزيد فيقول (٥) المسؤول مفعولا (٦) بغير حرف ؛ لأنه هو المقصود. وإذا تقرر هذا فالمقصود فيما نحن فيه : بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البؤس والرّخاء (٧) وليس الضر مقصود بيانه كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله. ويؤيّد هذا قوله من قبل : (الَّذِي فَطَرَنِي) حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فلذلك جعلها مفعول الإرادة ووقع الضر (٨) تبعا. وكذلك القول في قوله : (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ) المقصود بيان أنه يكون كما يريده (٩) الله (وليس (١٠) الضر) لخصوصيته مقصودا بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال الله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] يعني هو تحت إرادته.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله هنا : (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ) بصيغة المضارع وقال في الزمر : (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ) بصيغة الماضي وذكر المريد هنا باسم الرحمن وذكر المريد هناك باسم الله؟.

فالجواب أن الماضي والمستقبل مع الشرط يصير الماضي مستقبلا لأن المذكور هنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله : «أأتّخذ» وقوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ) [الزمر : ٣٨].

__________________

(١) دافع عن الزمخشري وانظر الدر المصون ٤ / ٥٠٤ وأنا لا أرى مبررا لقبول هذه القراءة فالتكلف فيها واضح وفيها مساواة بين ورد وأورد ثلاثيا ورباعيّا وهو في غاية الشذوذ.

(٢) كذا في النسختين. والصحيح كاللازم.

(٣) في «ب» بحرف. وانظر : تفسير الرازي ٢٦ / ٥٨.

(٤) في «أ» قال والتصحيح من «ب» والفخر.

(٥) الأصح : فيجعل كما في الرازي.

(٦) في «ب» مفعول.

(٧) في «أ» والرجاء وكذلك هي كما هي أعلى في الفخر.

(٨) في «ب» الصفة.

(٩) في «ب» يرده. وكلاهما تحريف.

(١٠) سقط من «ب».

١٩٤

قوله : (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) [يس : ٢٣] أي إن يمسسني الله بضرّ أي بسوء ومكروه لا تغن شفاعتهم شيئا أي لا شفاعة لها فتغني (وَلا يُنْقِذُونِ) من ذلك المكروه أو لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن فعلت ذلك. قوله تعالى : (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي خطأ ظاهر إن فعلت ذلك فأنا ضالّ ضلالا بينا. و «المبين» مفعل بمعنى «فعيل» وعكسه «فعيل» بمعنى مفعل في قوله «أليم» بمعنى مؤلم.

قوله : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) فيه وجوه :

أحدها : أنه خاطب المرسلين. قال المفسرون : أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل هو للمرسلين وقال : إنّي آمنت بربّكم فاسمعوا قولي واشهدوا لي.

والثاني : هم الكفار لمّا نصحهم وما نفعهم قال آمنت فاسمعون.

الثالث : بربكم أيها السامعون فاسمعوني على العموم كقول الواعظ : يا مسكين ما أكثر أملك (وما أترر (١) عملك) يريد كل سامع يسمعه وفي قوله «فاسمعون» فوائد منها : أنه كلام متفكر حيث قال : اسمعوا فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين يتفكر ، ومنها أن ينبه القوم ويقول : إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا يقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرته لآمنا معك.

فإن قيل : قال من قبل : ما لي لا أعبد الّذي فطرني ، وقال ههنا : آمنت بربكم ولم يقل : آمنت بربي!؟ فالجواب : إن قلنا : الخطاب مع الرسل فالأمر ظاهر لأنه لما قال : آمنت بربّكم ظهر عند الرسل (٢) أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه وقال «بربّكم». وإن قلنا : الخطاب مع الكفار ففيه (وجوه) (٣) بيان للتوحيد لأنه لما قال : (أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ثم قال : (آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) فهم أنه يقول : ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم بخلاف ما لو قال : آمنت بربي فيقول الكافر : وأنا أيضا آمنت بربي (٤).

قوله : «فاسمعون» العامة على كسر النون وهي نون الوقاية حذفت بعدها ياء الإضافة (٥) مجتزءا عنها بكسرة النون وهي اللغة الغالبة. وقرأ عصمة (٦) عن عاصم

__________________

(١) زيادة من الفخر الرازي.

(٢) في (ب) الرجل. تحريف.

(٣) زيادة من «ب» عن «أ» والفخر الرازي.

(٤) وانظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٦ / ٥٩ و ٦٠.

(٥) حيث كان الأصل : «اسمعوني» بالنون والياء ولكنه حذف الياء واكتفى عنها بالنون مشيا على الفاصلة كقول الله تعالى :«وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى».

(٦) هو عصمة بن عروة أبو نجيح البصري روى القراءة عن أبي عمرو وعاصم بن أبي النجود. وروى عنه الحروف يعقوب الحضرميّ وغيره. انظر : غاية النهاية ١ / ٥١٢.

١٩٥

بفتحها (١). وليست إلا غلطا (على عاصم) (٢) ، إذ لا وجه (لها) (٣) ، وقد وقع لابن عطية وهم فاحش في ذلك فقال : وقرأ الجمهور بفتح النون (٤). وقال أبو حاتم : هذا خطأ فلا يجوز لأنه أمر فإما حذف النون وإما كسرها على جهة الياء (٥) ، يعني ياء المتكلم ، وقد يكون قوله : «الجمهور» سبق قلم منه أو من النساخ وكان الأصل : وقرأ غير الجمهور فسقط (٦) لفظة «غيره». (و) (٧) قال ابن عطية حذف من الكلام ما تواترت الأخبار والروايات به وهو أنهم قتلوه فقيل له عند موته : ادخل الجنّة (٨) بعد القتل وقيل : قوله : (قيل) (٩) ادخل الجنة عطف على قوله : (آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) فعلى الأول يكون قوله : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) بعد موته والله أخبر بقوله ، وعلى الثاني قال ذلك في حياته (١٠) وكان يسمع (١١) الرسل يقولون إنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقطع به. قوله : ((قالَ (١٢) يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) كما علمت فيؤمنون كما آمنت. وقال الحسن (١٣) : خرقوا خرقا في حلقه وعلقوه في سور المدينة وقبره بأنطاكية فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق ، فذلك قوله عزوجل : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ). فلما أفضى إلى الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي أي بغفران ربي لي وجعلني من المكرمين. قوله : (بِما غَفَرَ لِي) يجوز في (ما) هذه ثلاثة أوجه : المصدرية كما تقدم. والثاني : أنها بمعنى الذي والعائد محذوف أي بالذي غفره لي ربي (١٤). واستضعف هذا من حيث إنه يبقى معناه أنه تمنى أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة. وليس المعنى على ذلك إنما المعنى على تمنّي علمهم بغفران ربّه ذنوبه (١٥). والثالث : (١٦) أنها استفهامية وإليه ذهب الفرّاء (١٧). ورده الكسائي بأنه كان

__________________

(١) ذكرها أبو حيان في بحره ٧ / ٣٢٩ ومن بعد شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٥٠٤ وهي من القراءات غير المتواترة فلم أجدها فيها.

(٢) سقط من نسخة «ب» ما بين القوسين.

(٣) زيادة لتوضيح المعنى وتكميله.

(٤) نقله عنه البحر ٧ / ٣٢٩.

(٥) المرجع السابق. وفيه : على جهة البناء وهو صحيح الأصل فاسمعونني فحذفت الأولى المفتوحة لأجل البناء ولذلك نقول مبني على حذف النون والأوضح الأول بدليل قوله بعد «ياء المتكلم» فأبدلها من الياء.

(٦) في «ب» بسقط.

(٧) سقط من «ب».

(٨) البحر ٧ / ٣٢٩.

(٩) سقط من «ب».

(١٠) في «ب» حيوته.

(١١) في «ب» مسمع وهذا رأي الرازي ٢٦ / ٦٠.

(١٢) سقط من «ب».

(١٣) البحر ٧ / ٣٢٩.

(١٤) قال ابن الأنباري بالثلاثة في البيان ٢ / ٢٩٣ وكذلك النحاس ٤ / ٣٩٠ ومكي في المشكل ٢ / ٢٢٣ و ٢٢٤ وكذلك الزجاج في المعاني ٤ / ٢٨٣ والتبيان ١٠٨٠.

(١٥) قال بذلك التوجيه أبو حيان في البحر ٧ / ٣٢٩.

(١٦) في «ب» الثاني تحريف وخطأ.

(١٧) أجازها الفراء وانتقض نفسه مرة أخرى فقال في المعاني ٢ / ٣٧٤ و ٣٧٥ : ولو جعلت «ما» في معنى «أي» كان صوابا يكون المعنى ليتهم يعلمون بأي شيء غفر لي ربي ولو كان كذلك لجاز له فيه : «بِما غَفَرَ لِي رَبِّي» بنقصان الألف كما تقول : سل عمّ شئت وكما قال : «فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» وقد ـ

١٩٦

ينبغي حذف ألفها لكونها مجرورة (١). وهو رد صحيح. وقال الزمخشري الأجود طرح الألف (٢) والمشهور من مذهب البصريين وجوب حذف ألفها (٣) كقوله :

٤١٧٣ ـ (علام (٤) يقول الرّمح يثقل عاتقي

إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرّت (٥)

إلّا في ضرورة كقول الشاعر) :

٤١٧٤ ـ على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في رماد (٦)

وقرىء من المكرمين بتشديد الراء (٧).

قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣٢)

قوله (تعالى) (٨) : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) لما تمنى أن

__________________

ـ أتمها الشاعر وهي استفهام فقال ... أهل اللواء ففيما يكثر القيل. فهو يخبرنا أن الإتمام والنقص من الألف جائز وسيّان. (وهذا خلاف ما عليه جنهور البصرة).

(١) نقله عنه أبو حيان في البحر ٧ / ٣٢٩ والسمين في الدر ٤ / ٥٠٥.

(٢) الكشاف ٣ / ٣٢٠ ولكنه أجازها كالفراء نثرا وشعرا.

(٣) وإبقاء الفتحة دليلا عليها نحو : فيم وعلام وبم وإلام وعلام وربما تبعت الفتحة الألف في الحذف وهو مخصوص بالشعر. وعلة حذف الألف الفرق بين الاستفهام والخبر ولهذا حذفت في نحو : «فيم أنت من ذكراها» ونحوها وثبتت في : «لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ» وقد تقدم رأي الزمخشري والفراء في «ما» هذه منذ قليل. وانظر : المغني ٢٩٨ و ٢٩٩.

(٤) ما بين القوسين كله سقط من «أ» الأصل.

(٥) من الطويل وهو لعمرو بن معد يكرب يصف قوته في لقاء غرمائه. والشاهد هنا حذف الألف من «ما» الاستفهامية على مذهب أهل البصرة. وفيه شاهد آخر لا مقام لنا به وهو إجراء القول مجرى الظن واحتياجه للمفعولين. وهذا لغة بني تميم. وانظر : الأصمعيات ١٢٢ والأشموني ٢ / ٣٦ و ٢٢٢ والتصريح ١ / ٢٦٣ والهمع ١ / ١٥٧ والمغني ١٤٣ والحماسة البصرية ١ / ١١ والدر المصون ٤ / ٥٠٥.

(٦) من الوافر وهو لحسان بن ثابت رضي الله عنه من قصيدة في هجاء بني عابد بن عبد الله بن مخزوم ويروى : في دمان وينسب لحسان بن المنذر. والشاهد : إثبات ألف «ما» المجرورة وهي استفهامية وهذا ضرورة وانظر : البيان ٢ / ٢٩٣ وشرح المفصل لابن يعيش ٤ / ٩ والمغني ٢٩٩ والتصريح ٢ / ٣٤٥ وشواهد الشافية ٢٢٤ والخزانة ٦ / ٩٠ و ١٠٧ وشواهد التصحيح والتوضيح ١٦١ والبحر ٧ / ٣٣٠ وفتح القدير ٤ / ٣٦٦ والهمع ٢ / ٢١٧ وابن الشجري ٢ / ٢٣٣ برواية دمان والأشموني ٤ / ٢١٦ وليس في ديوان حسان.

(٧) وهي قراءة الضحاك ، انظر : شواذ القرآن ٢٠٢ والبحر ٧ / ٣٣٠ والكشاف ٣ / ٣٢٠ والقرطبي ١٥ / ٢٠ والدر المصون ٤ / ٥٠٦.

(٨) زيادة من «ب».

١٩٧

يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل فلما قتل (١) حبيب غضب الله وعجل لهم النّقمة وأمر جبريل ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم فذلك قوله : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) يعني الملائكة.

قوله : (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) في (ما) هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها نافية (٢) كالتي قبلها فتكون الجملة الثانية جارية مجرى التأكيد للأولى.

والثاني : أنها مزيدة (٣) قال أبو البقاء : أي وقد كنا منزلين. وهذا لا يجوز البتة لفساده لفظا ومعنى(٤).

الثالث : أنها اسم معطوف على «جند» (٥) قال ابن عطية : أي من جند من الذين كنّا منزلين(٦) وردّه أبو حيان (٧) بأن «من» مزيدة ، وهذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب جارة لمعرفة ومذهب البصريين غير الأخفش أن يكون الكلام غير موجب وأن يكون المجرور نكرة ، قال شهاب الدين: فالذي ينبغي عند من يقول بذلك (أن) (٨) يقدرها بنكرة أي : ومن عذاب كنّا منزليه والجملة بعضها صفة لها. وأما قوله إن هذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب فليس بصحيح البتة وتعجّبت كيف يلزم ذلك (٩) (٩)؟!.

فصل

قال ههنا (وَما أَنْزَلْنا) بإسناد الفعل إلى النفس ، وقال في بيان حال المؤمن : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) بإسناد القول إلى غير مذكور لأن العذاب من الهيئة (١٠) فقال بلفظ التعظيم وأما إدخال الجنة فقال : قيل : (ليكون كالمهنأ (١١) بقول الملائكة وبقول كل صالح يراه ادخل الجنة خالدا كالتهنئة له ، وكثيرا ما ورد) في القرآن قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلُوا) إشارة إلى أن الدخول يكون دخولا بإكرام. فإن قيل : لم أضاف القوم إليه مع أن الرسل أولى بكون الجمع قوما لهم لأن الرسول لكونه مرسلا يكون جميع الخلق أو جميع من أرسل إليهم قوما لهم؟.

__________________

(١) في «ب» قبل.

(٢) قاله الزجاج في المعاني ٤ / ٢٨٣ وأبو البقاء في التبيان ١٠٨٠ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٢٠ ورجح ذلك أبو حيان في البحر ٧ / ٣٣١ وانظر كذلك النحاس في الإعراب ٣ / ٣٩٠.

(٣) التبيان ١٠٨٠ وابن الأنباري ٢ / ٢٩٤ ومشكل الإعراب ٢ / ٢٢٤ والبحر ٧ / ٣٣١.

(٤) المرجع السابق ولفظا لأن زيادتها غير مشهورة في هذا المكان ومعنى لأن الله أهلكهم بصيحة بدون إنزال الملائكة.

(٥) البحر ٧ / ٣٣١ و ٣٣٢ والمشكل ٢ / ٢٢٤ والتبيان ٢ / ٢٩٤ والبيان ١٠٨٠ والسمين ٤ / ٥٠٦.

(٦) البحر ٧ / ٣٣١ و ٣٣٢.

(٧) السابق.

(٨) ساقط من «ب».

(٩) الدر المصون ٤ / ٥٠٦.

(٩) الدر المصون ٤ / ٥٠٦.

(١٠) في «ب» التهيئة.

(١١) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

١٩٨

فالجواب : تبيين (١) الفرق بينه وبينهم لأنهما من قبيلة واحدة وأيضا فالعذاب كان مختصا بهم أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب (٢) الإيمان وأهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر ونسبهما من قبيلة واحدة (٣) وأيضا فالعذاب كان مختصا بهم وهم أقاربه لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يصبهم العذاب.

فإن قيل : لم خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جندا قبله أيضا فما فائدة التخصيص؟.

فالجواب : أن استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الإهلاك.

فإن قيل : قال : (مِنَ السَّماءِ) وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جندا من الأرض فما فائدة التقييد؟.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد ما أنزلنا عليهم جندا بأمر من السماء فتكون للعموم.

والثاني : أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جندا وإنما كان بصيحة أخذتهم وخربت ديارهم.

فإن قيل : أي فائدة في قوله : (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) مع قوله : (وَما أَنْزَلْنا) وهو يستلزم أن لا يكون من المنزلين؟.

فالجواب : أن قوله : (وَما كُنَّا) أي ما كان ينبغي أن ينزل (٤) ، لأن الأمر كان يتم بدون ذلك والمعنى وما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى الإنزال أو وما أنزلنا وما كنا منزلين في مثل تلك الواقعة جندا في غير تلك الواقعة أي وما أنزلنا على قومه من بعده أي على قوم حبيب من بعد قتله (٥) من جنده (٦) وما كنا منزلين ما ننزله على الأمم إذا أهلكناهم كالطّوفان والصّاعقة والرّيح.

فإن قيل : فكيف أنزل الله جنودا في يوم «بدر» وفي غير ذلك حيث قال تعالى : (رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [الأحزاب : ٩].

فالجواب : أن ذلك تعظيما لمحمد ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وإلّا لكان تحريك ريشة من جناح ملك كافيا في استئصالهم ولم تكن رسل (عيسى) (٧) ـ عليه الصلاة

__________________

(١) في «ب» ليبين.

(٢) في «ب» لسبب.

(٣) وانظر في هذا الفخر الرازي ٢٦ / ٦١.

(٤) في «ب» ينزل بالياء.

(٥) كذا هي هنا وفي البغوي. انظر : البغوي ٦ / ٧ وفي «ب» فقل تحريف.

(٦) في «ب» جند وهو الموافق للبغوي المرجع السابق.

(٧) سقط من «ب».

١٩٩

والسلام ـ في درجة محمد ـ عليه‌السلام (١) ـ ثم بين الله تعالى عقوبتهم فقال : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً).

قوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً) العامة على النصب على أنّ «كان» ناقصة واسمها ضمير الأخذ لدلالة السّياق عليها و «صيحة» خبرها. وقرأ أبو جعفر وشيبة ومعاذ القارىء (٢) برفعها (٣) على أنها التامة أي إن وقع وحدث وكان ينبغي أن لا يلحق تاء التأنيث للفصل «بإلا» بل الواجب في غير ندور واضطرار حذف التاء (٤) نحو : ما قام إلّا هند (٥). وقد شذ الحسن وجماعة فقرأوا : لا ترى إلا مساكنهم (٦) [الأحقاف : ٢٥] كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقوله :

٤١٧٥ ـ ..........

وما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع (٧)

وقوله :

٤١٧٦ ـ ما برئت من ريبة وذمّ

في حربنا إلّا بنات العمّ (٨)

قال الزمخشري : أصله إن كان (٩) شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر لكنه تعالى أنّث لما بعده من المفسر وهو الصيحة وقوله : «واحدة» تأكيد لكون الأمر هيّنا (١٠) عنده وقوله : (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة في وقتها لم يتأخر ووصفهم بالخمود في غاية الحسن لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية (١١) أتم وهم كانوا كذلك أما الغضب

__________________

(١) انظر : تفسير الرازي ٢٦ / ٦١ و ٦٢.

(٢) هو معاذ بن الحارث ويقال أبو حليمة الأنصاري المدني المعروف بالقارىء روى عن نافع وابن سيرين وحدّث عن نافع مولى ابن عمر توفي سنة ٦٣ ه‍. انظر : غاية النهاية ٢ / ٣٠١ و ٣٠٢.

(٣) ذكرها في المحتسب ٢ / ٢٠٦ ومعاني الفراء ٢ / ٣٧٥ ومختصر ابن خالويه ١٢٥ وهي من القراءات العشر المتواترة انظر النشر ٢ / ٣٥٣ والإتحاف ٣٦٤.

(٤) حيث إنّ من وجوب تأنيث الفعل أن لا يفصل بينه وبين الفاعل أو نائبه بفاصل.

(٥) المحتسب ٢ / ٢٠٧.

(٦) وهي قراءة مالك بن دينار وأبي رجاء والجحدريّ وغيرهم. وهي من الشواذ من الأربعة فوق العشرة وستأتي بالتفصيل. انظر : البحر ٧ / ٣٣٢ والإتحاف ٣٩٢.

(٧) عجز بيت من الطويل لذي الرمة صدره : طوى النحز والأجواز ما في غروضها. والنحز : ضرب الأعقاب والاستحثاث في السير. والأجواز : الأمحال. والغروض حزام الرمل. والجراشع المنتفخ الجنبين. وشاهده : فصل ما بين الفعل والفاء ب «إلّا» المانعة من التأنيث. وإذا كان هذا لم تجىء التاء إلا في الشّعر كما رأينا في «بقيت».

(٨) رجز مجهول القائل يصف قومه بالمنعة وحماية الأعراض. والشاهد : تأنيث الفعل مع طول الفصل بإلّا. والأكثر التذكير وضرورة الشعر تبيح ذلك. وانظر : البحر ٧ / ٣٣٢ والتصريح ١ / ٢٧٩ والهمع ٢ / ١٧١ والأشموني ٢ / ٥٢ والدر المصون ٤ / ٥٠٧.

(٩) الكشاف ٣ / ٣٢٠.

(١٠ و ١١) قالهما الفخر الرازي في تفسيره الكبير ٢٦ / ٦٢.

٢٠٠