اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ)(٢٠٤)

قوله : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً). قرأ ابن عامر (١) «تكن» بالتاء من فوقه «آية» بالرفع. والباقون «يكن» بالياء من تحت «آية» بالنصب (٢). وابن عباس : «تكن» بالتاء من فوق «آية» بالنصب (٣). فأما قراءة ابن عامر فتكون يحتمل أن تكون تامة ، وأن تكون ناقصة. فإن كانت تامة جاز أن يكون «لهم» متعلقا بها ، و «آية» فاعلا بها ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) إما بدل من «آية» وإما خبر مبتدأ مضمر ، أي : أو لم تحدث لهم علامة علم علماء بني إسرائيل (٤). وإن كانت ناقصة جاز فيها أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون اسمها مضمرا فيها بمعنى (٥) القصة ، و (آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ) جملة قدم فيها الخبر واقعة موقع خبر «تكن» (٦).

الثاني : أن يكون اسمها ضمير القصة أيضا و «لهم» خبر مقدم ، و «آية» مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر «تكن» ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) إما بدل من «آية» (٧) وإما خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي أن يعلمه.

الثالث : أن يكون «لهم» خبر «تكن» مقدما على اسمها ، و «آية» اسمها ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) على الوجهين المتقدمين : البدلية ، وخبر ابتداء مضمر (٨).

الرابع : أن تكون «آية» اسمها ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) خبرها. وقد اعترض هذا بأنه يلزم جعل الاسم نكرة والخبر معرفة (٩) وقد نص بعضهم على أنه ضرورة (١٠) كقوله :

__________________

(١) في ب : ابن عباس. وهو تحريف.

(٢) السبعة (٤٧٣) ، الكشف ٢ / ١٥٢ ، النشر ٢ / ٣٣٦ ، الإتحاف (٣٣٤).

(٣) البحر المحيط ٧ / ٤١.

(٤) انظر التبيان ٢ / ١٠٠١.

(٥) في ب : يعني.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ١٢٧ ، البيان ٢ / ٢١٦ ، التبيان ٢ / ١٠٠١.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ١٢٧.

(٨) انظر التبيان ٢ / ١٠٠١.

(٩) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٠١ والكشاف ٣ / ١٢٧.

(١٠) أي : أن وقوع الاسم نكرة والخبر معرفة إنما هو ضرورة في الشعر ، قال المبرد : (واعلم أن الشعراء يضطرون فيجعلون الاسم نكرة والخبر معرفة ، وإنما حملهم على ذلك معرفتهم أن الاسم والخبر يرجعان إلى شيء واحد ، فمن ذلك قول حسان :

كأنّ سلافة من بيت راس

يكون مزاجها عسل وماء)

المقتضب ٤ / ٩١ ـ ٩٢.

٨١

٣٩٢٤ ـ ولا يك موقف منك الوداعا (١)

وقوله :

٣٩٢٥ ـ يكون مزاجها عسل وماء (٢)

وقد اعتذر عن ذلك بأنّ «آية» قد تخصصت بقوله : «لهم» (٣) فإنه حال منها ، والحال صفة ، وبأن تعريف الخبر ضعيف لعمومه. وهو اعتذار باطل ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا التخريج ، بل التخريج ما تقدم. وأما قراءة الباقين فواضحة جدا ، ف (٤) «آية» خبر مقدم ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) اسمها مؤخر ، و «لهم» متعلق ب «آية» حالا من «آية» (٥). وأما قراءة ابن عباس فكقراءة : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)(٦) [الأنعام : ٢٣] ، وكقول لبيد :

٣٩٢٦ ـ فمضى وقدّمها وكانت عادة

منه إذا هي عرّدت (٧) أقدامها (٨)

إما لتأنيث الاسم لتأنيث (٩) (الخبر) (١٠) ، وإما لأنه بمعنى المؤنث ، ألا ترى أنّ (أَنْ يَعْلَمَهُ) في قوة المعرفة ، و (إِلَّا أَنْ قالُوا) في قوة مقالتهم ، وإقدامها بإقدامتها (١١).

وقرأ الجحدريّ : «أن تعلمه» بالتاء من فوق (١٢) ، شبّه البنين بجمع التكسير في تغيّر واحده صورة ، فعامل (١٣) فعله المسند إليه معاملة فعله في لحاق علامة التأنيث ، وهذا كقوله :

٣٩٢٧ ـ قالت بنو عامر خالوا بني أسد

يا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام (١٤)

__________________

(١) عجز بيت من بحر الوافر ، قاله القطامي ، وصدره :

قفي قبل التّفرّق يا ضباعا

وقد تقدم.

(٢) عجز بيت من بحر الوافر قاله حسان بن ثابت ، وصدره :

كأنّ سبيئة من بيت رأس

رأس : موضع بالشام. والشاهد فيه نصب (مزاجها) على الخبر ، وهو معرف بإضافته إلى الضمير ، ورفع (عسل وماء) على أنه اسم (يكون) ، وهو نكرة ، وذلك على خلاف الأصل لضرورة الشعر. وقد تقدم.

(٣) انظر التبيان ٢ / ١٠٠١ ، المغني ٢ / ٤٥٤.

(٤) في ب : و.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٢٧ ، البيان ٢ / ٢١٦.

(٦) [الأنعام : ٢٣]. بتاء التأنيث في «تكن» ونصب «فتنتهم» وهي قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ، وروى خلف وغيره عن عبيد عن شبل عن ابن كثير كذلك. السبعة (٢٥٥) ، الكشف ١ / ٤٢٦ و «فتنتهم» خبر «تكن» مقدم ، و «إِلَّا أَنْ قالُوا» اسمها مؤخر.

(٧) في النسختين : عددت.

(٨) البيت من بحر الكامل ، قاله لبيد. وقد تقدم.

(٩) لتأنيث : سقط من ب.

(١٠) الخبر : زيادة من البحر المحيط.

(١١) انظر البحر المحيط ٧ / ٤١.

(١٢) المختصر (١٠٧) ، البحر المحيط ٧ / ٤١.

(١٣) في ب : فعامله.

(١٤) البيت من بحر البسيط ، قاله النابغة الذبياني. وقد تقدم.

٨٢

وكتبوا في الرسم الكريم : «علمواء» بواو بين الميم والألف (١). قيل : هو على لغة من يميل الألف نحو الواو ، وهذا كما فعل في «الصّلوة والزّكوة» (٢).

فصل

المعنى : أو لم يكن لهؤلاء المنكرين علم بني إسرائيل علامة ودلالة على نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنّ العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم ، كعبد الله بن سلام ، وابن يامين ، وثعلبة ، وأسد ، وأسيد (٣). قال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة فسألوهم عن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا : إنّ هذا لزمانه (٤) ، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته ، فكان ذلك آية على صدقه (٥).

قوله : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ). قال صاحب التحرير : الأعجمين : جمع أعجمي بالتخفيف ، ولو لا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة (٦).

قال شهاب الدين : وكأنّ سبب منع جمعه أنه من باب : أفعل فعلاء ، ك «أحمر حمراء». والبصريون لا يجيزون جمعه جمع سلامة إلّا ضرورة ، كقوله :

٣٩٢٨ ـ حلائل أسودين وأحمرينا (٧)

فلذلك (٨) قدره منسوبا مخفف الياء (٩). وقد جعله ابن عطية «أعجم» فقال : الأعجمون : جمع أعجم ، وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب يقال له : أعجم ، وذلك يقال للحيوانات ، ومنه قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «العجماء جبار» (١٠). وأسند الطّبريّ عن

__________________

(١) في ب : وألف.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ١٢٧ ، البحر المحيط ٧ / ٤١.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣٤٠ ، ٣٤١.

(٤) في ب : الزمانه. وهو تحريف.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٢٤٠.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٤١.

(٧) عجز بيت من بحر الوافر ، قاله حكيم الأعور بن عياش الكلابي. وصدره :

فما وجدت بنات بني نزار

وهو في المقرب (٤٠٣) منسوبا إلى الكميت ، وديوان الكميت ٢ / ١١٦ ، ابن يعيش ٥ / ٦٠ ، الهمع ١ / ٤٥ ، الأشموني ١ / ٨١ ، الخزانة ١ / ١٧٨ ، ٨ / ١٨ ، شرح شواهد الشافية ٤ / ١٤٣ ، الدرر ١ / ١٩.

الحلائل : جمع حليل ـ بالحاء المهملة ـ : الزوج ، والحليلة : الزوجة. والشاهد فيه قوله : (أسودين وأحمرين) حيث جمع (أسود ، وأحمر) جمع المذكر السالم ، وذلك شاذ لضرورة الشعر ، فإن كل صفة لا تلحقها التاء فكأنها من قبيل الأسماء ، ولهذا لم يجمع على هذا الجمع (أفعل فعلاء) ، ولا (فعلان فعلى) ، وأجاز ابن كيسان : أحمرون وسكرانون ، واستدل بهذا البيت ، وهو عند غيره شاذ.

(٨) في ب : فكذلك. وهو تحريف.

(٩) الدر المصون ٥ / ١٦٩.

(١٠) في ب : (جرح العجماء جبار). أخرجه البخاري (الديات) ٤ / ١٩٣ ـ ١٩٤ ، مسلم (الحدود) ٣ / ١٣٣٤ ـ ١٣٣٥ ، أبو داود (الديات) ٤ / ٧١٥ ـ ٧١٦ ، الترمذي (الزكاة) ٢ / ٧٧ ، النسائي (الزكاة) ٥ / ٤٥ ، ابن ماجه (الديات) ٢ / ٨٩١ الموطأ (العقول) ٢ / ٨٦٩ ، أحمد ٢ / ٢٢٨ ، ٢٣٩ ، ٥ / ٣٢٦.

العجماء : البهيمة من الأنعام وغيرها ، الجبار : هو الهدر الذي لا يغرم. وانظر غريب الحديث لابن الأثير ٣ / ١٨٧.

٨٣

عبد الله بن مطيع (١) أنه كان واقفا بعرفة وتحته جمل ، فقال : جملي هذا أعجم ، ولو أنّه أنزل عليه ما كانوا يؤمنون (٢).

والعجميّ : هو الذي نسبته في العجم وإن كان أفصح الناس (٣).

وقال الزمخشري : الأعجم : الذي لا يفصح ، وفي لسانه عجمة واستعجام ، والأعجمي مثله إلا أنّ فيه زيادة ياء (٤) النسب توكيدا (٥). وتقدم نحو من هذا في سورة النحل (٦) وقد صرّح أبو البقاء بمنع أن يكون «الأعجمين» جمع أعجم ، وإنما هو جمع أعجمي (٧) مخففا من «أعجميّ» «كالأشعرون» في الأشعريّ. قال : «الأعجمين» الأعجميّين ، فحذف ياء النسب ، كما قالوا : (الأشعرون أي) (٨) : الأشعريّون ، وواحده (أعجمي) ولا يجوز أن يكون جمع (أعجم) لأنّ مؤنثه (عجماء) ، ومثل هذا لا يجمع جمع التصحيح (٩). قال شهاب الدين : وفيما قاله ابن عطية نظر (١٠) ، وأما الزمخشري فليس في كلامه أنه جمع (أعجم) مخففا أو غير مخفف ، وإن كان ظاهره أنه جمع (أعجم) من غير تخفيف ، ولكن الذي قاله ابن عطية تبع فيه الفراء فإنّه قال : الأعجمين : جمع (أعجم) أو (أعجمي) على حذف ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرين وواحدهم (أشعري) (١١) وأنشد للكميت :

٣٩٢٩ ـ ولو جهّزت قافية شرودا(١٢)

لقد دخلت بيوت الأشعرينا (١٣)

لكن الفراء لا يضره ذلك ، فإنه من الكوفيين ، وقد تقدم عنهم أنهم يجيزون جمع

__________________

(١) هو عبد الله بن مطيع بن الأسود ، من بني عويج بن عدي بن كعب رهط عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وكان أبوه مطيع بن الأسود يسمى العاص ، فسماه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مطيعا. المعارف ٣٩٥.

(٢) جامع البيان ١٩ / ٧٠.

(٣) تفسير ابن عطية ١١ / ١٥٠ ـ ١٥١.

(٤) ياء : سقط من ب.

(٥) الكشاف ٣ / ١٢٧. وفيه : إلا أن فيه لزيادة ياء النسب زيادة تأكيد.

(٦) عند قوله تعالى : ...«إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» من الآية (١٠٣).

(٧) في الأصل : أعجم.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) التبيان ٢ / ١٠٠١ ـ ١٠٠٢.

(١٠) في ب : نظر واضح.

(١١) تبع شهاب الدين أبا حيان في النقل عن الفراء ، فإنهما قد نقلا معنى كلامه وعبارة الفراء : (الأعجم في لسانه ، والأعجمي المنسوب إلى أصله إلى العجم وإن كان فصيحا. ومن قال : أعجم ، قال للمرأة عجماء إذا لم تحسن العربية ، ويجوز أن تقول : عجمي تريد أعجمي تنسبه إلى أصله) معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٨٣.

(١٢) في ب : سدودا.

(١٣) البيت من بحر الوافر قاله الكميت ، وهو في ديوانه ٢ / ١١٩ ، البحر المحيط ٧ / ٤٢. قوله : (قافية شرودا) أي : قافية سائرة في البلاد تشرد كما تشرد البعير والشاهد فيه قوله : «الأشعرينا» فإنه جمع (أشعري) مخفف (أشعريّ) والأصل : الأشعريينا. فخفف بحذف الياء الأولى.

٨٤

(أفعل فعلاء) (١). وقرأ الحسن وابن مقسم : «الأعجميّين» (٢) بياء (٣) النسب (٤) ـ وهي مؤيدة لتخفيفه منه في قراءة العامة.

فصل

قوله (٥)(وَلَوْ نَزَّلْناهُ) يعني : القرآن على رجل ليس بعربي (٦) اللسان (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) بغير لغة العرب (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) وقالوا ما نفقه قولك ، وجعلوه عذرا لجحودهم ، ونظيره : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) [فصلت : ٤٤].

وقيل : معناه : ولو أنزلناه (٧) على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة من اتباعه (٨).

قوله : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أي : قيل ذلك (٩) ، أو الأمر كذلك (١٠). والضمير في «سلكناه» عائد على القرآن ، وهو الظاهر (١١) ، أي : سلكناه في قلوب المجرمين (كما سلكناه في قلوب المؤمنين) (١٢) ، ومع ذلك لم ينجع (١٣) فيهم. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد : أدخلنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين (١٤).

وهذه الآية تدل على أنّ الكل بقضاء الله وخلقه. قال الزمخشري : أراد به أنه صار ذلك التكذيب متمكنا في قلوبهم أشدّ التمكن ، فصار ذلك كالشيء الجبلّي (١٥).

والجواب : أنه إما أن يكون قد فعل الله تعالى فيهم ما يقتضي الترجيح أم لا ، فإن كان الأول فقد دللنا (١٦) في سورة الأنعام على أنّ الترجيح لا يتحقق ما لم يثب (١٧) إلى حد الوجوب ، وحينئذ يحصل المقصود ، وإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح البتة امتنع قوله : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ)(١٨).

__________________

(١) الدر المصون ٥ / ١٦٩.

(٢) في ب : الأعجمين.

(٣) في ب : بياي.

(٤) المختصر (١٠٧) ، المحتسب ٢ / ١٣٢ ، البحر المحيط ٧ / ٤٢ ، الإتحاف (٣٣٤).

(٥) قوله : سقط من الأصل.

(٦) في ب : يعرف.

(٧) في الأصل : أنزلنا.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٢٤١.

(٩) فتكون الكاف صفة لمصدر محذوف ، أي : سلوكا مثل. التبيان ٢ / ٧٧٧.

(١٠) فتكون الكاف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف. المرجع السابق.

(١١) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٢.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) في اللسان (نجع) : نجع فيه القول والخطاب والوعظ : عمل فيه ودخل وأثر.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(١٥) نص عبارة الزمخشري : (فإن قلت : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته. قلت : أراد به الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا) الكشاف ٣ / ١٢٨ ، وابن عادل تبع ابن الخطيب في النقل عن الزمخشري ، فقد نقلا معنى كلامه.

(١٦) في ب : قدمنا.

(١٧) يثب : سقط من ب.

(١٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧٠.

٨٥

قوله : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) في الجملة وجهان :

أحدهما : الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبله.

والثاني : أنها حال من الضمير في «سلكناه» أي (١) : غير مؤمن به (٢).

ويجوز أن يكون حالا من «المجرمين» لأنّ المضاف جزء من المضاف إليه (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) يعني : الموت (٣).

قوله : «فيأتيهم» و (٤) «فيقولوا» عطف على «يروا» (٥).

وقرأ العامة بالياء من تحت. والحسن وعيسى بالتاء من فوق (٦).

أنّث ضمير العذاب. لأنه في معنى العقوبة (٧). وقال الزمخشري : أنّث على أن الفاعل ضمير (٨) الساعة (٩). قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى التعقيب في قوله : «فيأتيهم»؟ قلت : ليس المعنى التعقيب في الوجود ، بل المعنى ترتّبها في الشدة ، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب أشدّ منها ، ومثال ذلك أن تقول : إن أسأت مقتك الصّالحون فمقتك الله (١٠) فإنك لا تقصد أنّ مقت الله بعد مقت الصّالحين ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء (١١).

وقرأ الحسن : «بغتة» بفتح الغين (١٢).

فصل

المعنى : يأتيهم العذاب «بغتة» أي : فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) به في الدنيا ، (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي : لنؤمن ونصدق ، يتمنون الرجعة (١٣) والنظرة ، وإنما يقولون ذلك استراوحا عند تعذر الخلاص ، لأنهم يعلمون في الآخرة ألّا (١٤) ملجأ لهم (١٥). قال مقاتل : لما وعدهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالعذاب (١٦) قالوا : إلى متى توعدنا بالعذاب؟ ومتى هذا

__________________

(١) أي : سقط من الأصل.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ١٢٨.

(٣) في ب : عند الموت.

(٤) و : سقط من ب.

(٥) انظر التبيان ٢ / ١٠٠٢.

(٦) المختصر (١٠٨) ، المحتسب ٢ / ١٣٣ ، قال ابن جني : (الفاعل المضمر الساعة ، أي : فتأتيهم الساعة «بغتة» فأضمرها لدلالة العذاب الواقع فيها عليها ، ولكثرة ما تردد في القرآن من ذكر إتيانها) وانظر أيضا البحر المحيط ٧ / ٤٢.

(٧) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٢.

(٨) ضمير : سقط من ب.

(٩) وعبارة الزمخشري : (وقرأ الحسن : «فتأتيهم» بالتاء يعني : الساعة) الكشاف ٣ / ١٢٨.

(١٠) فمقتك الله : تكملة من الكشاف.

(١١) الكشاف ٣ / ١٢٨. بتصرف يسير.

(١٢) المختصر (١٠٨) ، الكشاف ٣ / ١٢٨ ، البحر المحيط ٧ / ٤٣.

(١٣) في ب : الرجفة.

(١٤) في ب : لا.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧٠.

(١٦) بالعذاب : سقط من ب.

٨٦

العذاب؟ قال الله تعالى : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ)(١).

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ)(٢٠٩)

قوله : «أفرأيت» تقدم تحقيقه (٢) وقد تنازع «أفرأيت» و «جاءهم» في قوله : (ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) فإن أعملت الثاني وهو «جاءهم» رفعت به (ما كانُوا) فاعلا به ، ومفعول «أرأيت» (٣) الأول ضميره ، ولكنه حذف ، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية في قوله (٤) : (ما أَغْنى عَنْهُمْ) ، ولا بدّ من رابط بين هذه الجملة وبين المفعول الأول المحذوف ، وهو مقدر تقديره : أفرأيت ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم تمتّعهم حين حلّ ، أي : الموعود به ، ودلّ على ذلك قوة الكلام.

وإن أعملت الأول نصبت به (ما كانُوا يُوعَدُونَ) وأضمرت في «جاءهم» ضميره فاعلا به ، والجملة الاستفهامية مفعول ثان أيضا ، والعائد مقدر على ما تقرر (٥) في الوجه قبله (٦) ، والشرط معترض ، وجوابه محذوف ، وهذا كله مفهوم مما تقدم في سورة الأنعام (٧) وإنما ذكرناه هنا لأنه تقدير (عسر يحتاج) (٨) إلى تأمل. وهذا كله إنما يتأتى على قولنا : «ما» (٩) استفهامية ، ولا يضير تفسيرهم لها بالنفي (١٠) ، فإن الاستفهام قد يرد بمعنى النفي. وأما إذا جعلتها نافية حرفا ، كما قاله أبو البقاء (١١) فلا يتأتى ذلك ، لأنّ مفعول «أرأيت» الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كما تقرر (١٢). قوله : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٢٤٢.

(٢) في سورة الأنعام ، عند قوله تعالى : «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» الآية (٤٠).

(٣) في ب : أفرأيت.

(٤) في ب : قولك. وهو تحريف.

(٥) في الأصل : ما تقدر.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٣.

(٧) عند قوله : «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» من الآية (٤٠). انظر اللباب ٣ / ٤١٣.

وذكر هناك في توجيه الإعراب مثلما ذكر هنا.

(٨) ما بين القوسين في ب : غير محتاج. وهو تحريف.

(٩) في ب : إن ما.

(١٠) في ب : بأن النافية.

(١١) فإنه قال : (قوله تعالى : «ما أَغْنى عَنْهُمْ» يجوز أن يكون استفهاما فتكون (ما) في موضع نصب ، وأن يكون نفيا ، أي : ما أغنى عنهم شيئا) التبيان ٢ / ١٠٠٢.

(١٢) قال سيبويه : (وتقول : أرأيتك زيدا أبو من هو ، وأرأيتك عمرا عندك هو أم عند فلان ، لا يحسن فيه إلا النصب في زيد ، ألا ترى أنك لو قلت : أريت أبو من أنت ، أو أرأيت أزيد ثم أم فلان ، لم يحسن ، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد ، وهو الفعل الذي لا يستغنى السكوت على مفعوله الأول ، فدخول هذا المعنى فيه لم يجعله بمنزلة (أخبرني) في الاستغناء ، فعلى هذا أجري وصار الاستفهام في ـ

٨٧

مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) كثيرة في الدنيا ، يعني كفار مكة ، ولم نهلكهم (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) يعني : العذاب (ما (١) أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) في تلك السنين ، أي : إنهم وإن طال تمتعهم بنعم الدنيا ، فإذا أتاهم العذاب لم يغن طول التمتع عنهم شيئا ، ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط.

قوله : (ما أَغْنى عَنْهُمْ)(٢) يجوز أن تكون «ما» استفهامية في محل نصب مفعولا مقدما ، و (ما كانُوا) هو الفاعل (٣) ، و «ما» مصدرية بمعنى : أيّ شيء أغنى عنهم كونهم متمتعين. وأن تكون نافية (٤) ، والمفعول محذوف ، أي : لم يغن عنهم تمتعهم شيئا.

وقرىء «يمتعون» بإسكان الميم وتخفيف التاء (٥) من : أمتع الله زيدا بكذا.

قوله : (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) يجوز أن تكون الجملة صفة ل «قرية» (٦) وأن تكون حالا منها. وسوغ (٧) ذلك سبق النفي (٨). وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عزلت الواو عن الجملة بعد «إلّا» ولم تعزل عنها في قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤]؟ قلت : الأصل عزل الواو ، لأنّ الجملة صفة ل «قرية» وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة (٩) بالموصوف ، كما في قوله (١٠) : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)(١١) [الكهف : ٢٢]. قال أبو حيان : ولو قدرنا «لها منذرون» جملة لم يجز أن تجيء صفة بعد (إلّا) ، ومذهب الجمهور أنه لا تجيء الصفة بعد «إلّا» معتمدة على أداة الاستثناء (١٢) ، نحو : ما جاءني أحد إلّا راكب. وإذا سمع مثل هذا خرّجوه على البدل ، أي : إلّا رجل راكب ، ويدل على صحة هذا المذهب أنّ العرب تقول : ما مررت بأحد إلّا قائما ولا يحفظ عنهم «إلّا قائم» يعني : بالجر ، فلو كانت الجملة صفة بعد «إلّا» (لسمع الجرّ) (١٣) في هذا(١٤). وأيضا (١٥) فلو كانت الجملة صفة للنكرة لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد «إلّا». يعني نحو : ما مررت بزيد إلّا العاقل.

__________________

ـ موضع المفعول الثاني) الكتاب ١ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠. وقال أبو حيان : (وتقرر في علم العربية أن أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني تعدت إلى مفعولين أحدهما منصوب والآخر جملة استفهامية في الغالب ، تقول العرب : أرأيت زيدا ما صنع وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أوّل) البحر المحيط ٧ / ٤٣ ، وانظر الهمع ١ / ١٥٥.

(١) في ب : فما.

(٢) عنهم : سقط من ب.

(٣) انظر البيان ٢ / ٢١٧.

(٤) انظر البيان ٢ / ٢١٧ ، التبيان ٢ / ١٠٠٢.

(٥) المختصر (١٠٨) ، الكشاف ٣ / ١٢٨ ، البحر المحيط ٧ / ٤٤ ، ولم يعزها أحد إلى قارىء.

(٦) انظر نص الزمخشري الآتي.

(٧) في ب : ومسوغ.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٤.

(٩) في الأصل : الصلة.

(١٠) قوله : سقط من ب.

(١١) [الكهف : ٢٢] ، الكشاف ٣ / ١٢٨ ـ ١٢٩.

(١٢) أي : مقصودا بها وصف ما قبل (إلا).

(١٣) ما بين القوسين في ب : سمع الجر أيضا.

(١٤) يعني في المفرد ، وهو قولهم : ما مررت بأحد إلا قائما ، فكان يقال : قائم أيضا.

(١٥) وأيضا : سقط من ب.

٨٨

ثم قال : فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة (١) جاءت الصفة بعد «إلّا» نحو : ما جاءني أحد إلّا زيد خير من عمرو ، والتقدير : ما جاءني أحد خير من عمرو إلّا زيد.

وأمّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف فغير معهود في عبارة النحويين ، لو قلت : جاءني رجل وعاقل. لم يجز ، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازا إذا عطف (٢) بعضها على بعض وتغاير مدلولها ، نحو : «مررت بزيد الشجاع والشاعر» (٣). وأما (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] فتقدم الكلام عليه (٤).

قال شهاب الدين : أما كون الصفة لا تقع بعد (إلّا) معتمدة فالزمخشري يختار غير هذا ، فإنّها مسألة خلافية (٥) ، وأما كونه لم يقل (إلّا قائما) بالنصب دون «قائم» بالجر فذلك (٦) على أحد الجائزين ، وليس فيه دليل على المنع من قسيمه. وأما قوله : فغير معهود في كلام النحويين. فممنوع ، هذا ابن جنّي نصّ عليه في بعض كتبه (٧) ، وأما (٨) إلزامه أنها لو كانت الجملة صفة بعد (إلّا) للنكرة ، لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد (إلّا) فغير لازم ، لأنّ ذلك مختص بكون الصفة جملة ، وإذا كانت جملة تعذر كونها صفة للمعرفة ، وإنّما اختص ذلك بكون الصفة جملة ، لأنها لتأكيد وصل الصفة والتأكيد لائق بالجمل.

وأمّا قوله : لو قلت : جاءني رجل وعاقل. لم يجز ، فمسلّم ، ولكن إنما امتنع ذلك في الصفة المفردة لئلا يلبس أن الجائي اثنان : رجل وآخر عاقل ، بخلاف كونها جملة فإنّ اللبس منتف ، وقد تقدم (الكلام في) (٩)(سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ)(١٠) [الكهف : ٢٢].

قوله : «ذكرى» يجوز فيها أوجه :

أحدها : أنها مفعول من أجله ، وإذا كانت مفعولا من أجله ففي العامل فيها وجهان : أحدهما : «منذرون» على أنّ المعنى : منذرون لأجل الموعظة والتذكرة (١١).

الثاني : «أهلكنا».

قال الزمخشري : والمعنى : وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلّا بعد ما ألزمناهم الحجّة بإرسال المنذرين إليهم ، ليكون تذكرة وعبرة لغيرهم ، فلا يعصون (١٢) مثل

__________________

(١) في ب : الإعادة. وهو تحريف.

(٢) في ب : عطفت.

(٣) في ب : وبالشاعر. وهو تحريف.

(٤) البحر المحيط ٧ / ٤٤ بتصرف يسير وانظر أيضا ٦ / ١١٤ ـ ١١٥.

(٥) انظر شرح المفصل ٢ / ٩٣.

(٦) في ب : فذاك.

(٧) لم أهتد إليه في الخصائص أو في سر صناعة الإعراب.

(٨) في ب : فأما.

(٩) الكلام في : تكملة من الدر المصون.

(١٠) [الكهف : ٢٢]. الدر المصون ٥ / ١٧١.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٢٨.

(١٢) في الأصل : فلا يعصوا.

٨٩

عصيانهم. ثم قال : وهذا الوجه عليه المعوّل (١). قال أبو حيان : وهذا لا معوّل عليه ، فإنّ مذهب الجمهور أنّ ما قبل إلّا لا يعمل فيما بعدها إلّا أن يكون (٢) مستثنى أو مستثنى منه ، أو تابعا له غير معتمد على الأداة نحو : ما مررت بأحد إلّا زيد خير من عمرو. والمفعول له (٣) ليس واحدا من هذه.

ويتخرّج مذهبه على مذهب الكسائي والأخفش (٤) ، وإن كانا لم ينصّا على المفعول له بخصوصيته (٥). قال شهاب الدين : والجواب ما تقدم قبل ذلك من أنه يختار مذهب الأخفش (٦).

الثاني من الأوجه الأول (٧) : أنها في محل رفع خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : هذه ذكرى ، وتكون الجملة اعتراضية (٨).

الثالث : أنها صفة ل «منذرون» إمّا على المبالغة ، وإمّا على الحذف ، أي : منذرون ذوو (٩) ذكرى (١٠) ، أو على وقوع المصدر وقوع اسم الفاعل. أي : منذرون مذكّرون. وتقدم تقريره.

الرابع : أنها في محل نصب على الحال ، أي : مذكّرين ، أو ذوي ذكرى ، أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة (١١).

الخامس : أنها منصوبة على المصدر المؤكد ، وفي العامل فيها حينئذ وجهان :

أحدهما : لفظ «منذرون» لأنه (١٢) من معناها ، فهما ك (قعدت جلوسا) (١٣).

والثاني : أنه محذوف من لفظها ، أي : يذكّرون ذكرى (١٤) ، وذلك المحذوف صفة ل «منذرون».

قوله : (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) في تعذيبهم ، حيث قدمنا الحجة عليهم ، وأعذرنا إليهم ، أو : ما كنا ظالمين فنهلك قوما غير ظالمين (١٥).

__________________

(١) الكشاف ٣ / ١٢٨.

(٢) يكون : سقط من ب.

(٣) له : سقط من ب.

(٤) وذلك أن الكسائي جوز تأخير معمول ما قبل (إلا) عنها مرفوعا كان ، أو منصوبا ، أو مجرورا ، نحو ما ضرب إلا زيد عمرا وما مر إلا زيد بعمرو. ووافقه الأخفش في الظرف المجرور ، والحال ، نحو ما جلس إلا زيد عندك وما مر إلا عمرو بك ، وما جاء إلا زيد راكبا. قال أبو حيان : وهو المختار ، لأنه يتسامح في المذكورات ما لا يتسامح في غيرها. الهمع ١ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٥) البحر المحيط ٧ / ٤٥.

(٦) الدر المصون ٥ / ١٧٢.

(٧) يعني الأوجه في (ذكرى).

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١٢٨.

(٩) في ب : و. وهو تحريف.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ١٢٨.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٢٨ ، البيان ٢ / ٢١٧ ، ونسبه ابن الأنباري للكسائي. البحر المحيط ٧ / ٤٤.

(١٢) في ب : لأن.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ١٢٨ ، البحر المحيط ٧ / ٤٤.

(١٤) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٠٢ ، البيان ٢ / ٢١٧.

(١٥) انظر الكشاف ٣ / ١٢٨ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٧١.

٩٠

قوله تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)(٢١٣)

قوله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ). العامة على الياء ورفع النون ، وهو جمع تكسير.

وقرأ الحسن البصري وابن السميفع والأعمش بالواو مكان الياء والنون مفتوحة (١) ، إجراء له مجرى جمع السلامة. وهذه القراءة (قد ردّها) (٢) جمع كثير من النحويين.

قال الفراء : غلط الشّيخ ، ظنّ أنّها النون التي على هجائين (٣). فقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتجّ بقول العجاج ورؤبة فهلا (٤) جاز أن يحتجّ بقول الحسن وصاحبه ـ يعني : محمد بن السميفع ـ مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به إلّا وقد سمعا فيه (٥). وقال النحاس : هو غلط عند جميع النحويين (٦).

وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية (٧). وقال أبو حاتم : هي غلط منه أو عليه (٨). وقد أثبت هذه القراءة جماعة من أهل العلم ودفعوا عنها الغلط ، فإنّ القارىء بها من العلم بمكان مكين. وأجابوا عنها بأجوبة صالحة.

فقال النضر بن شميل : قال يونس بن حبيب : سمعت أعرابيا يقول : دخلت بساتين من ورائها بساتون. فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن (٩).

وخرّجها بعضهم على أنها جمع (شيّاط) بالتشديد ، مثال مبالغة. مثل : (ضرّاب وقتّال) على أن يكن مشتقا من : شاط يشيط ، أي : أحرق ، ثم جمع جمع سلامة مع تخفيف الياء ، فوزنه (١٠) : (فعالون) مخففا من (فعّالين) بتشديد العين.

ويدل على ذلك أنّهما وغيرهما قرءوا بذلك ، أعني : بتشديد الياء (١١) ، وهذا منقول عن مؤرج السّدوسيّ (١٢). ووجّهها آخرون بأنّ (آخره لما) (١٣) كان يشبه يبرين (١٤) ، وفلسطين ، أجري إعرابه تارة على النون ، وتارة بالحرف ، كما قالوا : هذه يبرين وفلسطين ويبرون وفلسطون (١٥) ، وتقدم القول في ذلك في البقرة (١٦). والهاء في «به» تعود على

__________________

(١) المختصر (١٠٨) ، المحتسب ٢ / ١٣٣ ، البحر المحيط ٧ / ٤٦.

(٢) ما بين القوسين في الأصل : قدرها.

(٣) معاني القرآن ٢ / ٢٨٥.

(٤) في ب : فهل.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٢٩ ، القرطبي ١٣ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٧ / ٤٦.

(٦) إعراب القرآن ٣ / ١٩٤.

(٧) انظر القرطبي ١٣ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٧ / ٤٦.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٦.

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ١٢٥٥ ، القرطبي ١٣ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٧ / ٤٦.

(١٠) في ب : بوزنه. وهو تحريف.

(١١) انظر القرطبي ١٣ / ١٤٢ ، البحر المحيط ٧ / ٤٦.

(١٢) تقدم.

(١٣) ما بين القوسين في ب : آخرها.

(١٤) في ب : ميرين.

(١٥) انظر الكشاف ٣ / ١٢٩ ، البحر المحيط ٧ / ٤٦.

(١٦) عند قوله تعالى : «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» من الآية (١٠٢).

٩١

القرآن. وجاءت هذه الجمل الثلاثة منفية على أحسن ترتيب ، نفى أوّلا تنزيل الشياطين به ، لأنّ النفي في الغالب يكون في الممكن ، وإن كان الإمكان هنا منتفيا ثم نفى ثانيا ابتغاء ذلك ، أي : ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلا له (١). ثم نفى ثالثا (٢) الاستطاعة والقدرة ، ثم ذكر علة ذلك وهي انعزالهم عن السماع من الملأ الأعلى ، لأنهم يرجمون بالشهب لو (تسمّعوا (٣)) (٤).

فصل

لما احتج على صدق محمد ـ عليه‌السلام (٥) ـ بكون القرآن تنزيل رب العالمين ، لوقوعه في الفصاحة القصوى ، ولاشتماله على قصص المتقدمين من غير تفاوت ، مع أنه ـ عليه‌السلام ـ لم يتعلم من أحد ، وكان الكفار يقولون : هذا من إلقاء الجنّ والشياطين كسائر ما ينزل به على الكهنة ، فأجاب الله تعالى بأنّ ذلك لا يتسهل للشياطين ، لأنهم معزولون عن استماع كلام أهل السماء برجمهم بالشهب. فإن قيل : العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بخبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد ـ عليه‌السلام (٦) ـ صادقا بفصاحة القرآن ، وإخباره عن الغيب ، ولا يثبت كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزا إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك. (فلزم الدور.

فالجواب : لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك) (٧) لا يستفاد إلا من قول النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنا نعلم بالضرورة أن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يلعن الشياطين ، ويأمر الناس بلعنهم ، فلو كان ذلك إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم ، فيجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى. ولما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون ، لأنهم معزولون عن تعرف الغيوب (٨). ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب خاطب الرسول ـ عليه‌السلام (٩) ـ فقال : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ). قال ابن عباس : يحذر به غيره ، يقول : أنت أكرم الخلق عليّ ولو اتخذت إلها غيري لعذبتك (١٠). وقوله : «فتكون» منصوب في جواب النهي.

قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢٢٠)

قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ). روى عبد الله بن عباس عن علي بن أبي

__________________

(١) له : سقط من ب.

(٢) في الأصل : ثالثا نفى.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٦.

(٤) ما بين القوسين في الأصل : قسموا.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) عليه‌السلام : سقط من ب.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧١ ـ ١٧٢.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٢٤٤.

٩٢

طالب ـ رضي الله عنه (١) ـ قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعاني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «يا عليّ ، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وضقت بذلك ذرعا ، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال : يا محمد ، إلّا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك ، فاصنع لنا صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسّا (٢) من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به». ففعلت ما أمرني به ، ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا ، يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب ، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت ، فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جذبة (٣) من اللحم ، فشقها بأسنانه ، ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال: خذوا باسم الله ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة ، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم ، ثم قال : اسق القوم. فجئت بذلك العسّ فشربوا حتى رووا جميعا ، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلما أراد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يكلمهم بدره (٤) أبو لهب فقال : سحركم صاحبكم. فتفرق القوم ، ولم يكلمهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : الغد يا علي ، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فأعدّ لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم اجمعهم ففعلت ، ثم دعاني بالطعام فقدمته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا ، ثم تكلم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا بني عبد المطلب : إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني (٥) على أمري ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم (٦) القوم عنها جميعها ، فقلت وأنا أحدثهم سنّا : أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه ، قال : فأخذ برقبتي ثم قال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع (٧).

__________________

(١) في ب : كرم الله وجهه.

(٢) العسّ : القدح الضخم ، وقيل : هو أكبر من الغمر ، وهو إلى الطول ، يروي الثلاثة والأربعة والعدّة ، والرّفد أكبر منه والجمع عساس وعسسة. اللسان (عسس).

(٣) الجذبة : القطعة. ففي اللسان (جذب) : يقال : بيني وبين المنزل جذبة أي : قطعة ، يعني : بعد ، ويقال : جذبة من غزل ، للمجذوب منه مرة.

(٤) بدرت إلى الشيء أبدر بدورا : أسرعت ، وكذلك بادرت إليه ، وتبادر القوم أسرعوا ، وابتدروا السلاح : تبادروا إلى أخذه ، وبادر الشيء مبادرة وبدارا وابتدره وبدر غيره إليه يبدره : عاجله ، وبدرني الأمر وبدر إليّ : عجل إليّ واستبق. اللسان (بدر).

(٥) وازره على الأمر : أعانه وقواه. اللسان (وزر).

(٦) أحجم عن الأمر : كف أو نكص هيبة. اللسان (حجم).

(٧) أخرجه ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي. انظر البغوي ٦ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، الدر المنثور ٥ / ٩٧.

٩٣

وعن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) خرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صباحاه ، فقالوا : من هذا؟ فاجتمعوا (١) إليه ، فقال : «أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ»؟ قالوا : ما جرّبنا عليك كذبا. قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبّا لك (٢) ما جمعتنا إلا لهذا ، ثم قام ، فنزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ)(٣) [المسد : ١].

قوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) : ألن جانبك (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط كسر جناحه وخفضه ، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه ، فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب (٤).

قوله : (فَإِنْ عَصَوْكَ) : في هذه الواو وجهان :

أحدهما : أنها ضمير الكفار ، أي : فإن عصاك الكفار في أمرك لهم بالتوحيد.

والثاني : أنها ضمير المؤمنين ، أي : فإن عصاك المؤمنون في فروع الإسلام وبعض الأحكام بعد تصديقك والإيمان برسالتك ، وهذا في غاية البعد (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (من الكفر وعبادة غير الله) (٥)(٦).

فصل

قال الجبّائيّ : هذا يدل على أنه ـ عليه‌السلام (٧) ـ كان بريئا من معاصيهم ، وذلك يوجب أن الله تعالى أيضا بريء من عملهم كالرسول ، وإلا كان مخالفة لله ، كما لو رضي عن شخص فإن الله راض عنه ، وإذا كان تعالى بريئا من عملهم فلا يكون فاعلا له. والجواب (٨) : أنه تعالى بريء من المعاصي ، بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها ، فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم ، بدليل أنه علم وقوعها ، وكل ما كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع ، وإلّا لانقلب علمه جهلا ، وهو محال ، والمفضي إلى المحال محال ، وعلم ما هو واجب الوقوع لا يراد عدم وقوعه ، فثبت قولنا (٩).

قوله : (وَتَوَكَّلْ). قرأ نافع وابن عامر بالفاء. والباقون بالواو (١٠).

__________________

(١) في ب : واجتمعوا.

(٢) التّبّ : الخسار ، والتّباب : الخسران والهلاك ، وتبّا له على الدعاء ، نصب ، لأنه مصدر محمول على فعله ، كما تقول : سقيا لفلان ، معناه سقي فلان سقيا. اللسان (تبب).

(٣) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٧١ ، ١٧٩ ، ٢٢٢ الترمذي (تفسير) ٥ / ١٢١ ، أحمد ١ / ٢٨١ ، ٣٠٧.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ١٢٩ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٧٣.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٧.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في ب : فالجواب.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧٣.

(١٠) السبعة (٤٧٣) ، الكشف ٢ / ١٥٣ ، النشر ٢ / ٣٣٦ ، الإتحاف (٣٣٤).

٩٤

فأما قراءة الفاء فإنه جعل فيها ما بعد الفاء كالجزاء لما قبلها مترتبا عليه. وقراءة الواو لمجرد عطف جملة على أخرى. والتوكل : عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يكل أمره ويقدر على نفعه وضره (١). ثم قال : (عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ليكفيك كيد (٢) الأعداء بعزته وينصرك عليهم برحمته.

قوله : (الَّذِي يَراكَ) يجوز أن يكون مرفوع المحل خبرا لمبتدأ محذوف (٣) ، أو منصوبه على المدح (٤) ، أو مجروره على النعت أو البدل أو البيان (٥).

قال أكثر المفسرين : معناه : يراك حين تقوم إلى صلاتك (٦). وقال مجاهد : يراك أينما كنت (٧). وقيل : حين تقوم لدعائهم.

قوله : (وَتَقَلُّبَكَ). عطف على مفعول «يراك» أي : ويرى تقلّبك ، وهذه قراءة (٨) العامة. وقرأ (٩) جناح بن حبيش بالياء من تحت مضمومة ، وكسر اللام ، ورفع الباء (١٠) ، جعله فعلا ، مضارع (قلّب) بالتشديد ، وعطفه على المضارع قبله ، وهو «يراك» أي : الذي يقلّبك.

فصل

معنى (١١) تقلبه أي : تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك ، قال عكرمة وعطية عن ابن عباس : (فِي السَّاجِدِينَ) أي : في المصلين (١٢).

وقال مقاتل والكلبي : أي : مع المصلين في الجماعة ، أي : يراك حين تقوم وحدك للصلاة ، ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة (١٣).

وقال مجاهد : يرى تقلب بصرك في المصلين ، فإنّه كان يبصر من خلفه كما يبصر من أمامه (١٤). قال عليه‌السلام (١٥) : «والله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم (١٦) ، وإني لأراكم من وراء ظهري» (١٧). وقال الحسن : (تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي : تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين (١٨). وقال سعيد بن جبير : يعني : وتصرّفك في

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٢٩ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٧٣.

(٢) في ب : ليد. وهو تحريف.

(٣) أي : هو الذي.

(٤) فيكون مقطوعا عما قبله.

(٥) من قوله تعالى : «الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ».

(٦) انظر القرطبي ١٣ / ١٤٤.

(٧) المرجع السابق.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٧.

(٩) في ب : فصل وقرأ.

(١٠) المختصر (١٠٨) ، البحر المحيط ٧ / ٤٧.

(١١) في ب : منى. وهو تحريف.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٢٤٩.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ٢٥٠.

(١٤) المرجع السابق.

(١٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٦) في ب : ركوعكم ولا خشوعكم.

(١٧) أخرجه البخاري (صلاة) ١ / ٨٤ ، (أذان) ١ / ١٣٦ ، مسلم (صلاة) ١ / ٣١٩ ، الموطأ (سفر) ١ / ١٦٧ ، أحمد ٢ / ٣٠٣ ، ٣٦٥ ، ٣٧٥.

(١٨) انظر البغوي ٦ / ٢٥٠.

٩٥

أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك. والسّاجدون : هم الأنبياء (١).

وقال عطاء عن ابن عباس : أراد : وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة (٢). (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) السميع لما تقوله ، العليم بما تنويه.

قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ)(٢٢٣)

قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) الآية. أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين :

الأول : قوله : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) كما تقدم من أنّ الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان ، ومحمد يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة منه.

والثاني : قوله : (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) ومعناه : أنهم كانوا يقيسون حال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على حال الكهنة (فكأنه قيل : إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب ، فيجب أن تكون حال الرسول كذلك ، فلما لم يظهر في إخبار الرسول عن المغيبات إلا الصدق علمنا أنّ حاله بخلاف حال الكهنة) (٣)(٤).

قوله : (عَلى مَنْ) متعلق ب «تنزّل» بعده. وإنما قدّم ، لأنّ له صدر الكلام ، وهو معلق لما قبله من فعل التّنبئة ، لأنها بمعنى العلم.

ويجوز أن تكون هنا متعدية لاثنين ، فتسد الجملة المشتملة على الاستفهام مسدّ الثاني ، لأنّ الأول (٥) ضمير المخاطبين. وأن تكون متعدية لثلاثة فتسد مسدّ اثنين (٦).

وقرأ البزّيّ : «على من تنزل الشياطين تنزل» بتشديد التاء من «تنزل» في الموضعين (٧) والأصل (٨) : «تتنزّل» بتاءين فأدغم ، والإدغام في الثاني سهل ، لتحرك ما قبل المدغم ، وفي الأول صعوبة لسكون ما قبله وهو نون «من». وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ).

قوله : «يلقون». يجوز أن يعود الضمير على «الشّياطين» فيجوز أن تكون الجملة من «يلقون» حالا ، وأن تكون مستأنفة (٩). ومعنى إلقائهم السمع : إنصاتهم إلى الملأ الأعلى ليسترقوا شيئا ، أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة (١٠).

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٢٥١.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧٤.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) في ب : الأولين. وهو تحريف.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٨.

(٧) انظر الإتحاف (٣٣٤).

(٨) في ب : وإلا. وهو تحريف.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٣٠.

(١٠) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٨.

٩٦

ويجوز أن يعود على (كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) من حيث إنه جمع في المعنى ، فتكون الجملة إما مستأنفة ، وأما صفة ل (كُلِّ أَفَّاكٍ)(١). ومعنى الإلقاء ما تقدم.

وقال أبو حيان : حال عود الضمير على «الشّياطين» ، وبعد ما ذكر المعنيين المتقدمين في إلقاء السمع قال : فعلى معنى الإنصات يكون «يلقون» استئناف إخبار ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة يحتمل الاستئناف ، واحتمل الحال من «الشّياطين» أي : تنزّل على كلّ أفّاك أثيم ملقين ما سمعوا (٢). انتهى.

وفي تخصيصه الاستئناف بالمعنى الأول وتجويزه الوجهين في المعنى الثاني نظر ، لأنّ جواز الوجهين جار في المعنيين فيحتاج في ذلك إلى دليل. فإن قيل : كيف قال : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) بعد ما حكم عليهم أنّ كل واحد منهم أفّاك؟

فالجواب : أنّ الأفاكين هم الذين يكثرون الكذب ، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب ، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني ، وأكثرهم يفتري عليه (٣).

قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(٢٢٧)

قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ). قد تقدم أن نافعا يقرأ بتخفيف التاء ساكنة وفتح الباء في سورة الأعراف عند قوله : (لا يَتَّبِعُوكُمْ)(٤) والفرق بين المخفف والمثقل (٥). وسكن الحسن العين (٦) ، ورويت عن أبي عمرو ، وليست ببعيدة عنه ك «ينصركم» (٧) وبابه (٨) وروى هارون(٩) عن بعضهم (١٠) نصب العين ، وهي غلط (١١) ،

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) المرجع السابق بتصرف يسير.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٣٠ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٧٥.

(٤) من قوله تعالى : «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ» [الأعراف : ١٩٣].

(٥) وذكر هناك أن نافعا قرأ بالتخفيف «يتبعوكم» وكذا هنا «يتبعهم» والباقون بالتشديد «يتّبعهم» قيل : هما لغتان. وقيل : تبع بمعنى اقتفى أثره واتبعه بالتشديد اقتدى به ، والأول أظهر. انظر اللباب ٤ / ١٣٤.

(٦) المختصر (١٠٨) ، الكشاف ٣ / ١٣١ ، البحر المحيط ٧ / ٤٨.

(٧) من قوله تعالى :«إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ»[آل عمران : ١٦٠].

(٨) أي تخفيف الضم بالإسكان. انظر السبعة (١٥٦) ، المختصر (١٠٨) الكشف ١ / ٢٤٠ ، البحر المحيط ٧ / ٤٨.

(٩) في ب : أبو هارون.

(١٠) هو يعقوب كما في المختصر (١٠٨).

(١١) قال أبو حيان : (وروى هارون نصبها عن بعضهم ، وهو مشكل) البحر المحيط ٧ / ٤٨ ـ ٤٩.

٩٧

والقول بأن الفتحة للإتباع خطأ. والعامة على رفع «الشّعراء» بالابتداء ، والجملة بعده الخبر (١). وقرأ عيسى بالنصب على الاشتغال (٢).

فصل

لمّا قال الكفار : لم لا يجوز أن يقال : الشياطين تنزل بالقرآن على محمد ، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة ، وعلى الشعراء بالشعر؟ ثم إنه تعالى فرق بين محمد ـ عليه‌السلام (٣) ـ وبين الكهنة ، ذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه وبين الشعراء : بأن الشعراء يتبعهم الغاوون ، وهم : الضالون. ثم بيّن أنّ ذلك لا يمكن القول به لأمرين :

الأول : (أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) والمراد منه : الطرق المختلفة ، كقولك : أنا في واد وأنت في واد ، وذلك بأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه ، وبالعكس ، وقد يعظمونه (٤) بعد ما يستحقرونه (٥) وبالعكس وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق ، بخلاف أمر محمد ـ عليه‌السلام (٦) ـ فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد ، وهو الدعوة إلى الله ، والترغيب في الآخرة ، والإعراض عن الدنيا.

والثاني : (أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ).

وذلك أيضا من علامات الغواية ، فإنهم يرغّبون في الجود ، ويرغبون عنه ، وينفرون عن البخل ويصيرون إليه ، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عنهم وعن واحد من أسلافهم. ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش ، وذلك يدل على الغواية والضلالة. وأما محمد ـ عليه‌السلام (٧) ـ فإنه بدأ بنفسه (فَلا (٨) تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء : ٢١٣] ثم بالأقرب فالأقرب فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤]. وكل ذلك خلاف طريقة الشعراء ، فظهر بهذا البيان أنّ حال محمد ـ عليه‌السلام (٩) ـ لم يشبه حال الشعراء (١٠).

قوله : «يهيمون». يجوز أن تكون هذه الجملة خبر «أنّ» وهذا هو الظاهر ، لأنه محط الفائدة ، و (فِي كُلِّ وادٍ) متعلق به. ويجوز أن يكون (فِي كُلِّ وادٍ) هو الخبر ، و «يهيمون» حال من الضمير في الخبر ، والعامل ما تعلق به هذا الخبر ، أو نفس الجار (١١) كما تقدم في نظيره. ويجوز أن تكون الجملة خبرا بعد خبر عند من يرى تعدّد

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٣٠ ، البحر المحيط ٧ / ٤٨.

(٢) المختصر (١٠٨) ، الكشاف ٣ / ١٣١ ، البحر المحيط ٧ / ٤٨.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب : يعظموه.

(٥) في ب : يستحقروه.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في النسختين : ولا.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧٥ ـ ١٧٦.

(١١) انظر التبيان ٢ / ١٠٠٢.

٩٨

الخبر مطلقا. وهذا من باب الاستعارة البليغة والتمثيل الرائع ، شبّه جولانهم في أفانين (١) القول ، وطرائق المدح والذم ، والتشبيب ، وأنواع الشعر بهيم الهائم في كل وجه وطريق (٢). وقيل : أراد ب «كلّ واد» أي : على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون (القوافي) (٣)(٤).

والهائم : الذي : يخبط في سيره ولا يقصد موضعا معينا ، يقال (٥) هام على وجهه ، أي : ذهب والهائم : العاشق من ذلك ، والهيمان : العطشان والهيام داء يأخذ الإبل من العطش ، وجمل أهيم وناقة هيماء والجمع فيهما هيم قال تعالى : (شُرْبَ الْهِيمِ)(٦) والهيام من الرمل : اليابس ، فإنهم يخيلون فيه معنى العطش (٧).

فصل

قال المفسرون : أراد شعراء الكفار ، وكانوا يهجون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكر مقاتل أسماءهم فقال : منهم عبد الله بن الزّبعرى السهمي ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ، ومسافع بن عبد مناف (٨) ، وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي ، وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل ، وقالوا : نحن نقول كما قال محمد ، وقالوا الشعر ، واجتمع إليهم غواة من قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه ، ويروون عنهم ذلك فذلك قوله : (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) وهم الرواة الذين يريدون هجاء المسلمين. وقال قتادة : هم الشياطين (٩).

ثم إنه تعالى لما وصف شعراء الكفار بهذه الأوصاف استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجيبون شعراء الجاهلية ، ويهجون الكفار ويكافحون عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه منهم حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، فقال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)(١٠).

روي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنّ الله قد أنزل في الشعراء ما أنزل ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» وفي رواية قال له : «اهجهم فوالذي نفسي بيده هو أشد عليهم من النبل» (١١).

وكان يقول لحسان : «قل فإنّ روح القدس معك» (١٢).

__________________

(١) في ب : أذانين. وهو تحريف.

(٢) وطريق : سقط من ب.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٢٥٢.

(٤) ما بين القوسين في ب : قافية.

(٥) يقال : سقط من الأصل.

(٦) من قوله تعالى : «فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ»[الواقعة : ٥٥].

(٧) انظر اللسان (هيم).

(٨) في ب : المناف.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٢٥٢.

(١١) أخرجه أحمد ٣ / ٤٥٦ ، ٤٦ ، ٦ / ٣٨٧.

(١٢) أخرجه أحمد ٤ / ٢٩٨ ، ٣٠١.

٩٩

واعلم أن الله تعالى وصفهم بأمور :

الأول : الإيمان ، وهو قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).

وثانيها : العمل الصالح ، وهو قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

وثالثها : أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ، ودعوة الحق ، وهو قوله : (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً).

ورابعها : أن لا يذكروا هجوا إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم وهو](١)(وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا)(٢) قال الله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨]. وروي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «إنّ من الشّعر حكمة» (٣) وقالت عائشة (٤) : الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح. وقال الشعبي : كان أبو بكر يقول الشعر ، [وكان عمر يقول الشعر](٥) وكان عليّ أشعر الثلاثة. وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده (٦).

وقوله : (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) أي (٧) : لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ، (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي : انتصروا من المشركين ، لأنهم بدأوا بالهجاء ، ثم أوعد شعراء المشركين فقال : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أشركوا وهجوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أيّ مرجع يرجعون بعد الموت.

قال ابن عباس : إلى جهنم والسعير (٨).

قوله : (أَيَّ مُنْقَلَبٍ) منصوب على المصدر ، والناصب له «ينقلبون» وقدّم ، لتضمنه معنى الاستفهام ، وهو معلق ل «سيعلم» سادّا مسدّ مفعوليها (٩).

وقال أبو البقاء : (أَيَّ مُنْقَلَبٍ) صفة لمصدر محذوف ، أي : ينقلبون انقلابا أي منقلب ، ولا يعمل فيه «سيعلم» لأنّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله (١٠).

وهذا مردود بأن أيّا الواقعة صفة لا تكون الاستفهامية ، وكذلك الاستفهامية لا تكون صفة لشيء بل كل منهما قسم برأسه.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من الأصل ، والانتصار في ب : الاقتصار. وما ذكرته أصوب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧٦.

(٣) أخرجه البخاري (أدب) ٤ / ٧٣ ، أبو داود (أدب) ٥ / ٢٧٧ ، الترمذي (أدب) ٤ / ٢١٦ ، ابن ماجه (أدب) ٢ / ١٢٣٥ ، والدارمي (استئذان) ٢ / ٢٩٧ ، أحمد ٣ / ٤٥٦ ، ٥ / ١٢٥.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٨) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦ / ٢٤٧ ـ ٢٥٨.

(٩) انظر البيان ٢ / ٢١٧ ، البحر المحيط ٧ / ٤٩ ـ ٥٠.

(١٠) التبيان ٢ / ١٠٠٢.

١٠٠