اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

فصل

الصلاة من الله رحمة ، ومن الملائكة استغفار ، فقيل : إن اللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معا وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز. قال ابن الخطيب (١) : وينسب هذا القول للشافعي رحمه‌الله ، وهو غير بعيد ؛ وذلك لأن الرحمة والاستغفار مشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة واحدة ، ثم قال : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان يعني (أنه) (٢) برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان. (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) وهذا بشارة لجميع المؤمنين وأشار بقوله : (يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) أن هذا غير مختص بالسامعين وقت الخطاب. قوله : «تحيّتهم» يجوز أن يكون مصدرا مضافا لمفعوله ، وأن يكون مضافا لفاعله ومفعوله على معنى أن بعضهم يحيّي بعضا ، فيصح أن يكون الضمير للفاعل والمفعول باعتبارين لا أنه يكون فاعلا ومفعولا من وجه واحد (٣) وهو قول من قال : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) [الأنبياء : ٧٨] أنه مضاف للفاعل والمفعول.

فصل

المعنى تحية المؤمنين يوم يلقونه أي يرون الله سلام أي يسلم الله عليهم ويسلمهم من جميع الآفات ، وروي عن البراء بن عازب (٤) قال : تحيتهم يوم يلقونه سلام يعني ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه. وعن ابن مسعود (٥) قال : إذا جاء ملك يقبض روح المؤمن قال : ربّك يقرئك السلام ، وقيل: تسلم عليهم الملائكة تبشرهم حين يخرجون (٦) من قبورهم ثم قال : (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) يعني الجنة.

فإن قيل : الإعداد إنما يكون ممّن (٧) لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه ، وأما الله تعالى فغير محتاج ولا عاجز فحيث يلقاه (و) (٨) يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الإعداد من قبل؟.

فالجواب : أن الأعداد للإكرام لا للحاجة (٩).

__________________

(١) قاله فخر الدين الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢١٥.

(٢) سقط من «ب».

(٣) قاله في البحر المحيط ٧ / ٢٣٨ والدر المصون ٤ / ٣٩٣.

(٤) تفسير البغوي ٥ / ٢٦٦ المسمى معالم التنزيل.

(٥) المرجع السابق.

(٦) المرجع السابق وانظر : القرطبي ١٤ / ١٩٩.

(٧) قاله الإمام الفخر الرازي في تفسيره التفسير الكبير ٢٥ / ٢١٦.

(٨) الواو ساقطة من الفخر الرازي ومن «ب».

(٩) كذا هي في تفسير الرازي و «أ» هنا. وما في «ب» لا لحاجة بدون ألف التعريف.

٥٦١

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي شاهدا للرسل بالتبليغ (وَمُبَشِّراً) لمن آمن بالجنة و «نذيرا» لمن كذب بالنار «فشاهدا» حال مقدرة ، أو مقارنة لقرب الزمان (١)(وَداعِياً إِلَى اللهِ) إلى توحيده وطاعته ، وقوله «بإذنه» حال أي ملتبسا بتسهيله ، ولا يريد حقيقة الإذن لأنه مستفاد من «أرسلناك» (٢).

قوله : «وسراجا» يجوز أن يكون عطفا على ما تقدم ، إما على التشبيه ، وإما على حذف مضاف أي ذا سراج (٣) ، وجوز الفرّاء أن يكون الأصل : وتاليا سراجا ، ويعني بالسّراج القرآن (٤) ، وعلى هذا فيكون من عطف الصفات وهي لذات واحدة ، لأن التالي هو المرسل. وجوز الزمخشري أن يعطف على (٥) مفعول «أرسلناك» وفيه نظر لأن السراج هو القرآن ولا يوصف بالإرسال بل بالإنزال إلّا أن يقال : إنه حمل على المعنى كقوله :

٤٠٩٦ ـ فعلفتها تبنا وماء باردا

[حتّى شتت همّالة عيناها](٦)

وأيضا فيغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، وقوله : «منيرا» لأنه يهتدى (٧) به كالسّراج يستضاء به في الظلمة. واعلم (٨) أنّ في قوله : «سراجا» ولم يقل : إنه شمس مع أن الشمس أشد إضاءة من السراج فائدة وهي أن نور الشمس لا يؤخذ منه شيء ، والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة إذا انطفى الأول يبقى الذي أخذ منه وكذلك إن غاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان كلّ صحابي كذلك سراجا يؤخذ منه نور الهداية كما قال عليه (الصلاة (٩) و) السلام : «أصحابي كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» (١٠) وفي هذا الخبر لطيفة وهي أن النبي عليه (الصلاة (١١) و) السلام لم يجعل أصحابه كالسراج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه (نور (١٢)) بل له في نفسه نور إذا غرب لا يبقى نور مستفاد منه فكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنور النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا يأخذ إلّا قول النبي ـ عليه (الصلاة (١٣) و) السلام ـ وعليه فأنوار المجتهدين كلهم من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولو جعلهم كالسّراج والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان سراجا كان للمجتهد أن يستنير بمن أراد منهم ، ويأخذ النور ممّن اختار وليس كذلك فإن مع

__________________

(١) قال بذلك أبو حيان في البحر ٧ / ٢٣٨ والسمين في الدر ٤ / ٣٩٣.

(٢) المرجعان السابقان.

(٣) السابقان.

(٤) نقل هذا الرأي للفراء أبو حيان في بحره ٧ / ٢٣٨ ولم أجده في كتابه معاني القرآن ولعله في كتاب آخر له.

(٥) قال : «ويجوز أن يعطف على كاف أرسلناك» انظر : الكشاف ٣ / ٢٦٦.

(٦) هذا بيت من الرجز ذكره الفراء في معانيه ١ / ١٤ ونسبه لبعض بني أسد ، وفي ٣ / ١٢٤ ونسبه لبعض بني دبير وقد نسبه ابن جني في الخصائص لذي الرمة. انظر : الخصائص ٢ / ٤٣١. وانظر : الدر المصون ٤ / ٩٠ و ٣٩٤ واللسان : «ع ل ف» ٣٠٧٠ ، والحجة للفارسي ١ / ٢٣٣ وأمالي المرتضى ٢ / ٢٥٩.

(٧) في «ب» مهتدى بالاسمية.

(٨) قرره الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢١٧.

(٩) ساقط من «ب».

(١٠) المرجع السابق.

(١١ و ١٢ و ١٣) سواقط من «أ» والفخر الرازي وزيادة من «ب».

٥٦٢

نص النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يعمل بقول الصّحابيّ بل يؤخذ النور من النبي ولا يؤخذ من الصحابي ، فلم يجعله سراجا.

قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على مفهوم تقديره : «إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا فاشهد وبشر» ولم يذكر «فاشهد» للاستغناء عنه ، وأما البشارة فذكرت إشارة للكرم ، ولأنها غير واجبة لولا الأمر (١). وقوله (بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) كقوله تعالى : (أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً) عظيماو العظيم والكبير متقاربان.

قوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) تقدم تفسيره أول السورة ، وهو إشارة إلى الإنذار يعني خالفهم وردّ عليهم.

قوله : (وَدَعْ أَذاهُمْ) يجوز أن يكون «أذاهم» مضافا لمفعوله أي اترك أذاك لهم ، أي عقابك إياهم (٢).

قال الزجاج : لا تجازهم (٣) عليه ، وهذا منسوخ بآية السيف ، ويجوز أن يكون مضافا لفاعله أي اترك ما (٤) أذوك به فلا تؤاخذهم حتى تؤمر أي دعه إلى الله فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار ، وبين هذا قوله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي حافظا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)(٥٢)

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ...) الآية وجه تعلق الآية (٥) بما

__________________

(١) قاله الرازي في تفسيره (٢٥ / ٢١٨) ، وفيه : إبانة للكرم ، وليس إشارة.

(٢) الدر المصون ٤ / ٣٩٤.

(٣) معاني القرآن وإعرابه له ٤ / ٢٣١.

(٤) الدر المصون المرجع السابق.

(٥) ذكره الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢١٨ و ٢١٩.

٥٦٣

قبلها هو أن الله تعالى ذكر في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما تقدم والله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه فكلما ذكر لنبيّه مكرمة ، وعلّمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، ولما بدأ الله تعالى في تأديب النبي ـ عليه الصلاة والسلام (١) ـ ذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه بقوله بعده (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) ثم كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ثلّث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٣] وبقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٥٦] فإن قيل (٢) : إذا كان هذا إرشادا إلى ما يتعلق بجانب من هو من خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس؟.

فالجواب : هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها ، وبيانه (٣) أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد ، ولهذا قال تعالى في حق الممسوسة : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [النساء : ٢١] ، فإذا أمر الله (تعالى) (٤) بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما ، وهذا كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) [الإسراء : ٢٣] لو قال : لا تضربهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص (٥) بالضرب أو الشتم ، فأما إذ قال : «لا (تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) علم من معان كثيرة فكذلك ههنا لما أمرنا بالإحسان مع من لا مودة معها علم منه الإحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق (٦) بعد ومن ولدت عنده منه.

قوله : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) إن قيل : ما الفائدة بالإتيان «بثمّ» وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك؟ فالجواب : أنه جرى على الغالب. وقال الزمخشري : نفى التوهم (٧) عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها قريبة العهد بالنكاح وبين أن يبعد عهدها بالنكاح وتتراخى بها المرأة (٨) في حبالة الزوج ثم طلّقها. قال أبو حيان (٩) :

__________________

(١) في «ب» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) المرجع السابق.

(٣) في «ب» وسيأتي وهو ما يخالف تفسير الرازي.

(٤) ساقط من «ب».

(٥) في «ب» يختص.

(٦) في «ب» يطلق.

(٧) انظر : الكشاف ٣ / ٢٦٧.

(٨) في «ب» وتتراخى بها المدة.

(٩) البحر المحيط ٧ / ٢٣٩.

٥٦٤

واستعمل «عسى» صلة لمن وهو لا يجوز. «قال شهاب الدين» يخرج (١) قوله على ما خرج عليه قول الآخر :

٤٠٩٧ ـ وإني لرام نظرة قبل الّتي

لعلّي ـ وإن شطّت نواها ـ أزورها (٢)

وهو إضمار القول ، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح ، لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح بكلمة «ثم» وهي للتراخي حتى (و) لو (٣) قال لأجنبية : إذا نكحتك فأنت طالق ، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح ، لا يقع الطلاق ، وهو قول عليّ ، وابن مسعود ، وجابر ، ومعاذ ، وعائشة. وبه قال سعيد بن المسيب ، وعروة ، وشريح ، وسعيد بن جبير ، والقاسم ، وطاوس والحسن ، وعكرمة ، وعطاء بن يسار ، والشّعبيّ ، وقتادة ، وأكثر أهل العلم. وبه قال الشافعيّ ، وأحمد (٤). وروي عن ابن مسعود أنه قال : يقع الطلاق وهو قول إبراهيم النّخعيّ وأصحاب الرأي (٥) ، وقال ربيعة ومالك والأوزاعيّ : إن عين امرأة يقع ، وإن عم فلا يقع ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : كذبوا على ابن مسعود إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول : إن تزوجت فلانة (٦) فهي طالق ، يقول الله تعالى : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) ولم يقل : «إذا طلّقتموهنّ ثمّ نكحتموهنّ» (٧) وروى عطاء عن جابر قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لا طلاق قبل النّكاح» (٨).

قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) تجامعوهن (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) أي تحصونها وتستوفونها بالأقراء والأشهر ، «فتعدونها» صفة «لعدة» وتعتدونها تفتعلونها إما من العدد ، وإما من الاعتداد أي تحتسبونها أو (٩) تستوفون عددها من قولك : عدّ الدّراهم فاعتدّها أي استوفى عددها ، نحو : كلته فاكتاله ، ووزنته فاتّزنه (١٠) ، وقرأ ابن

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٣٩٤.

(٢) البيت من بحر الطويل وهو للفرزدق. وانظر شرح الكافية ٢ / ٣٧ والدر المصون ٤ / ٣٩٤ والأشموني ١ / ١٦٣ والمغني ٣٨٨ و ٣٩١ و ٥٨٥ مكررا ، وشرح شواهده للسيوطي ٨١٠ والهمع ١ / ٨٥ وأمالي الشجري ١ / ٦ ، والخزانة ٥ / ٤٦٤ ـ ٤٦٩ وليس بديوانه وإنما بديوانه : وإن شقت على أنا لها. انظر ديوانه (١ / ١٠٦).

(٣) ساقط من «ب».

(٤) وانظر في ذلك معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٦٧ وتفسير الخازن ٥ / ٢٦٧ وتفسير ابن كثير ٣ / ٤٩٨ والقرطبي ١٤ / ٢٠٣ وقد قال : «وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام سمى البخاري منهم اثنين وعشرين».

(٥) المراجع السابقة.

(٦) في «ب» بفلانة.

(٧) المراجع السابقة.

(٨) الحديث رواه الإمام البخاري باب الطلاق ٣ / ٢٧١.

(٩) في «ب» وتستوفون.

(١٠) قاله شهاب الدين ابن السمين في كتابه الدر المصون ٤ / ٣٩٥.

٥٦٥

كثير ـ في رواية ـ وأهل مكة بتخفيف الدال (١) وفيها وجهان :

أحدهما : أنها من الاعتداد وإنما كرهوا تضعيفه فخفّفوه ؛ قاله الرازي (٢) ، قال : ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف ، لأن الاعتداء يتعدى (٣) «بعلى». قيل : ويجوز أن يكون من الاعتداء (٤) وحذف حرف الجر أي تعتدون عليها أي على العدة مجازا ، ثم تعتدونها كقوله :

٤٠٩٨ ـ تحنّ فتبدي ما بها من صبابة

وأخفي الّذي لولا الأسى لقضاني (٥)

أي لقضى عليّ ، وقال الزمخشري : وقرىء تعتدونها مخففا أي تعتدون فيها (٦) كقوله :

٤٠٩٩ ـ ويوم شهدناه سليمى وعامرا

قليل سوى الطّعن النّهال نوافله (٧)

وقيل : معنى تعتدونها أي تعتدون عليهن فيها (٨) ، وقد أنكر ابن عطية القراءة عن ابن كثير وقال: غلط ابن أبي بزة عنه (٩) ، وليس كما قال.

والثاني : أنها من العدوان (والاعتداء) (١٠) وقد تقدم شرحه ، واعتراض أبي الفضل عليه بأنه كان ينبغي أن يتعدى «بعلى» وتقدم جوابه ، وقرأ الحسن «تعتدونها» ـ بسكون العين وتشديد الدال (١١) ـ وهو جمع بين ساكنين على (غير) (١٢) حديهما.

__________________

(١) ذكره ابن خالويه في المختصر ١٢٠ وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٤٠ وانظر : السبعة ٥٢٢ وهي من القراءات المتواترة.

(٢) هو أبو الفضل الرازي صاحب كتاب لوامح القرآن وقد سبقت ترجمته.

(٣) انظر : تفسير البحر المحيط لأبي حيان ٧ / ٢٤٠.

(٤) نقل أبو حيان في البحر ٧ / ٢٤٠ هذا التوجيه عن أبي الفضل الرازي أيضا.

(٥) البيت من بحر الطويل وقد نسب لعروة بن خذام ولم يوجد بديوانه ، والشاهد فيه «لقضاني» حيث حذف حرف الجر (على) والأصل : لقضى على ، فلما حذف حرف الجر اتصل الفعل بالضمير ويمكن القول : إن الفعل «قضى» تضمن معنى «أهلك» أو «قتل» فتعدى بنفسه دون وساطة حرف الجر وعلى هذا فإن معنى «تعتدونها» أي تعتدون عليها وهذا رأي الرازي ومن حذا حذوه. وقد تقدم.

(٦) نقله في الكشاف ٣ / ٢٦٧.

(٧) من الطويل لأحد العامريّين ، وسليم وعامر حيان من قيس بن عيلان ، والطعن جمع طعنة وهي الشكة بالرمح ونحوه ، والنّهال جمع ناهل ، وهي الرماح المرتوية بالدم ، والنوافل جمع نافلة ، وهي ما زاد عن الأصل ، ويقصد الشاعر بها هنا الغنائم والشاعر يريد أن يقول : لا يرضى في ذلك اليوم سوى الطعن والغنائم ، والشاهد : «شهدناه» حيث نصب الفعل الضمير وهو الهاء للاتساع في ذلك والأصل : شهدنا فيه. وقد تقدم.

(٨) البحر ٧ / ٢٤٠.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) زيادة من «ب».

(١١) ذكره أبو حيان في المرجع السابق.

(١٢) ساقطة من «أ» وزيادة من «ب».

٥٦٦

فصل(١)

دلت هذه الآية على أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يسقط بإسقاطه ؛ لما فيه من حق الله تعالى. ثم قال : «فمتّعوهنّ» أي أعطوهنّ ما يستمتعن به قال ابن عباس (٢) : هذا إذا لم يكن سمى لها صداقا فلها المتعة ، وإن كان فرض لها صداقا فلها نصف الصداق ولا متعة لها ، وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [البقرة : ٢٣٧] ، قيل : إنه عام وعلى هذا فهل هو أمر وجوب أو أمر استحباب؟ فقيل : للوجوب فتجب المتعة مع نصف المهر ، وقيل : للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء (٣) ، ثم قال : (وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار ، وقيل : السراح الجميل : أن لا يطالبها بما آتاها.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) وقوله : (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك ، وهذا بيان لما ملكت ، وليس هذا قيدا بل لو ملكت يمينه بالشراء كان الحكم كذا ، وإنّما خرج مخرج الغالب (٤). واعلم أنه ذكر (٥) للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما هو أولى فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلبا من التي لم تؤت والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنه لا يدري كيف حالها ، ومن هاجرت من أقارب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معه أشرف ممن لم تهاجر ، وقال بعضهم : إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالا لنا وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئا حرم الامتناع على المطلوب؟ والظاهر أن الطالب في المرة الأولى إنما هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا ويؤكد هذا قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ) يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها.

واعلم أن اللاتي (٦) ملكت يمينه مثل صفية ، وجويرية ، ومارية (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) يعني نساء قريش (وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) يعني نساء بني زهرة (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) إلى المدينة فمن لم تهاجر معه منهم لم يجز له نكاحها ، روى أبو صالح عن أم هانىء أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له

__________________

(١) ساقطة من «أ» وزيادة من «ب».

(٢) ذكره القرطبي في الجامع ١٤ / ٢٠٥ والبغوي والخازن في تفسيريهما ٥ / ٢٦٧ وابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٤٠٢.

(٣) البغوي والخازن ٥ / ٢٦٧.

(٤) المرجعان السابقان.

(٥) ذكره الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٢٠.

(٦) في «ب» اللائي بالهمزة وكلاهما صحيح.

٥٦٧

لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من المطلقات (١) ، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.

قوله «وامرأة» العامة على النصب وفيه وجهان :

أحدهما : أنها عطف على مفعول «أحللنا» أي وأحللنا لك امرأة موصوفة (٢) بهذين الشرطين ، قال أبو البقاء وقد رد هذا قوم ، وقالوا : «أحللنا» ماض ، و (إِنْ وَهَبَتْ) ـ وهو صفة للمرأة ـ مستقبل ، «فأحللنا» في موضع جوابه ، وجواب الشرط لا يكون ماضيا في المعنى ، قال : وهذا ليس بصحيح لأم معنى الإحلال ههنا الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك كما تقول : «أبحت لك أن تكلم فلانا إن سلم عليك» (٣).

والثاني : أنه ينتصب بمقدر تقديره : «ويحل لك امرأة» (٤).

قوله : «إن وهبت ، إن أراد» هذا من اعتراض الشرط على الشرط ، والثاني هو قيد في الأول ولذلك نعربه حالا ، لأن الحال قيد ، ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود. فلو قال : إن أكلت إن ركبت فأنت طالق ، فلا بد أن يتقدم الركوب على الأكل ، وهذا له تحقق الحالية والتقييد كما ذكرنا ، إذ لو لم يتقدم لخلا جزء من الأكل غير مقيد بركوب فلهذا اشترطنا تقدم الثاني وقد مضى تحقيق هذا وأنه يشترط أن لا تكون ثمّ قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقوله : «إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حر» (لأنه) (٥) لا يتصور هنا تقديم الطلاق على التّزويج (٦).

قال شهاب الدين : وقد عرض لي إشكال على (٧) ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني هنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم الخاص بالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا أنه لا يمكن عقلا ، وذلك أن المفسرين فسروا قوله تعالى : (إِنْ أَرادَ) بمعنى قبل الهبة (٨) لأن بالقبول منه عليه (الصلاة (٩) و) السلام يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة إذ القبول متأخر ، وأيضا فإن القصة كانت على ما ذكرته من تأخر إرادته من هبتها وهو مذكور في التفسير (١٠) ، وأبو حيان لما جاء إلى ههنا جعل الشرط الثاني متقدما على

__________________

(١) في «ب» والبغوي الطلقاء وانظر : معالم التنزيل للإمام البغوي ٥ / ٢٦٨ وتفسير الخازن ٥ / ٢٦٨ أيضا.

(٢) قاله الفراء في معانيه ٢ / ٣٤٥ ومكي في مشكل الإعراب ٢ / ١٩٩ وأبو البقاء في التبيان ١٠٥٨ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٧١ والسمين في الدر ٤ / ٣٩٦.

(٣) التبيان ١٠٥٨.

(٤) انظر : البيان والتبيان والدر المصون المراجع السابقة.

(٥) زيادة يقتضيها السياق.

(٦) انظر تلك الفقرة بأكملها فقرة «إن وهبت» في الدر المصون للسمين ٤ / ٣٩٦ وانظر : حاشية الجمل على الجلالين فيما نقله عن السمين ٣ / ٣٧٠.

(٧) ذكره في الدر المصون ٤ / ٣٩٦ و ٣٩٧ وفيه : «إلا أنه قد عرض لي إشكال».

(٨) في الدر «الهدية».

(٩) زيادة من «ب» عن الدر المصون و «أ».

(١٠) ممن قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٦٨ والقرطبي في الجامع ١٤ / ٢٠٩.

٥٦٨

الأول على القاعدة العامة ، ولم (١) يستشكل شيئا مما ذكرته ، وقد عرضت هذا الإشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عن جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفا ، وقرأ أبو حيوة «وامرأة» بالرفع على الابتداء ، والخبر مقدر ، أي أحللناها لك أيضا (٢). وفي قوله : (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ) التفات من الخطاب إلى الغيبة بلفظ الظاهر تنبيها على أن سبب ذلك النبوة ، ثم رجع إلى الخطاب فقال : (خالِصَةً لَكَ) ، وقرأ أبي والحسن وعيسى «أن» بالفتح (٣) ، وفيه وجهان :

أحدها : أنه بدل من «امرأة» بدل اشتمال قاله أبو البقاء (٤) ، كأنه قيل : وأحللنا لك هبة المرأة نفسها لك.

والثاني : أنها على حذف لام العلة (٥) (أي) (٦) لأن وهبت ، وزيد بن عل ي «إذ وهبت»(٧) وفيه معنى العلّيّة.

قوله : «خالصة» العامة على النصب وفيه أوجه :

أحدها : أنه منصوب على الحال من فاعل «وهبت» أي حال كونها خالصة لك دون غيرك(٨).

الثاني : أنها حال من «امرأة» لأنها وصفت فتخصصت ، وهو بمعنى الأول ، وإليه ذهب (٩) الزجاج.

الثالث : أنها نعت مصدر مقدر أي هبة خالصة فنصبها «بوهبت» (١٠).

الرابع : أنها مصدر مؤك د «كوعد الله» (١١) ، قال الزمخشري : والفاعل والفاعلة في

__________________

(١) قال أبو حيان في البحر ٧ / ٢٤٢ : «وإذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ متقدم في الوقوع ما لم تدل قرينة على الترتيب نحو : إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حر».

(٢) ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٢٠. وهي من الشواذ وانظر : أبا حيان في بحره ٧ / ٢٤٢.

(٣) المحتسب ٢ / ١٨٢ ومختصر ابن خالويه ١٢٠ ومعاني الفراء ٢ / ٣٤٥ وهي من القراءات من الأربعة فوق العشرة المتواترة الإتحاف ٣٥٦ والكشاف ٣ / ٢٦٨ بنسبتها للحسن فقط والقرطبي ١٤ / ٢٠٩ والبحر ٧ / ٢٤٢ بزيادة الشعبي وسلام.

(٤) قاله في التبيان ١٠٥٩.

(٥) المرجع السابق وانظر : الكشاف ٣ / ٢٦٨ والبيان ٢ / ٢٧١.

(٦) ساقطة من «ب».

(٧) ذكرها أبو حيان في بحره ٧ / ٢٤٢.

(٨) التبيان ١٠٥٩ ومشكل الإعراب لمكي ٢ / ١٩٩ وقد جعلها حالا مطلقة ولم يحدد صاحبها ، الدر المصون ٤ / ٣٩٧ أيضا.

(٩) قال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : «وخالصة منصوب على الحال المعنى : أنا أحللنا لك هؤلاء ، وأحللنا لك من وهبت نفسها لك» وانظر : البحر المحيط ٧ / ٢٤٢.

(١٠) قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٥٩ والسمين في الدر ٤ / ٣٩٧.

(١١) ذكره أبو البقاء في المرجع السابق وأبو حيان في البحر ٧ / ٢٤٢ والسمين في الدر ٤ / ٣٩٧ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٦٨.

٥٦٩

المصادر غير عزيزين كالخارج والقاعد ، والكاذبة والعافية (١) يريد بالخارج ما في قول الفرزدق :

٤١٠٠ ـ ............

ولا خارجا من فيّ زور كلام (٢)

وبالقاعد ما في قولهم : «أقاعدا وقد سار الركب» ، وبالكاذبة ما في قوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة : ٢] ، وقد أنكر أبو حيان عليه قوله : «غير عزيزين» وقال : بل هما عزيزان ، وما ورد متأول (٣) ، وقرىء : «خالصة» بالرفع (٤) ، فإن كانت «خالصة» حالا قدر المبتدأ «هي» أي المرأة الواهبة ، وإن كانت مصدرا قدر فتلك الحالة خالصة ، و «لك» على البيان أي أعني لك نحو : «سقيا لك» (٥).

فصل

المعنى : أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق ، فأما غير المؤمنة فلا تحلّ له إذا وهبت نفسها منه ، واختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نكاح اليهودية والنصرانية ، فذهب أكثرهم إلى أنه كان لا يحل له ذلك لقوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) وأول بعضهم الهجرة في قوله : (هاجَرْنَ مَعَكَ) يعني على الإسلام أي أسلمن معك ، فيدل ذلك على أنه لا يحل نكاح غير (٦) المسلمة. وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر ، وكان ذلك من خصائصه عليه (الصلاة(٧) و) السلام ـ لقوله تعالى : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) كالزيادة على الأدب ووجوب تخيير النساء من خصائصه لا مشاركة لأحد معه ، واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة ، فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء : لا ينعقد إلا بلفظ النكاح (٨) أو

__________________

(١) المرجع السابق وفيه : «والعافية ـ والكاذبة».

(٢) عجز بيت من بحر الطويل صدره :

على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما

 .............

ويروى : «على قسم» بدل «على حلفة» و «سوء كلام» بدل «زور كلام» والشاهد : «ولا خارجا» حيث نصب «خارجا» على المصدر النائب عن فعله قال في الكتاب ١ / ٣٤٦ كأنه قال : ولا يخرج خروجا ألا تراه ذكر «عاهدت» في البيت قبله. وانظر : ديوانه ٢ / ٢١٢ والكتاب ١ / ٣٤٦ والبحر المحيط ٧ / ٢٤٢ والمقتضب ٣ / ٢٦٩ و ٤ / ٣١٣ وأمالي المرتضى ١ / ٤٦ وشرح شواهد الشافية ٧٢ ـ ٧٩ ، والإفصاح ١٨٢ و ٢٢٤ و ٣٣٦ وكامل المبرد ١ / ١٢٠.

(٣) ذكر ذلك أبو حيان في بحره ٧ / ٢٤٢.

(٤) في البحر المرجع السابق ولم ينسبها لمعين وقد نسبها صاحب شواذ القرآن (١٩٥) لابن أبي عبلة.

(٥) الدر المصون ٤ / ٣٩٨.

(٦) نقل ذلك القرطبي في الجامع عن ابن العربي ١٤ / ٢١٠ والبغوي ٥ / ٢٦٨.

(٧) سقط من «أ».

(٨) في «ب» الإنكاح.

٥٧٠

التزويج ، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي (١) ، ومعنى الآية أنّ إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه عليه‌السلام. وقال النخعيّ وأبو حنيفة وأهل الكوفة ينعقد بلفظ الهبة (٢) والتمليك وأن معنى الآية أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة من أمهات المؤمنين ولا تحل لغيرك أبدا بالتزويج وأجيب بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له ، وما ذكرناه (يتبين) (٣) للتخصيص فائدة.

فصل

اختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هل كانت عنده امرأة منهن فقال عبد الله بن عباس ومجاهد : لم يكن عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين (٤) ، وقوله : (وَهَبَتْ نَفْسَها) على طريق الشرط والجزاء ، وقيل : بل كانت موهوبة واختلفوا فيها ، فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية (٥) يقال لها : أم المساكين (٦) ، وقال قتادة (٧) : هي ميمونة بنت الحارث (٨) ، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل (٩) : أمّ شريك بنت جابر من بني أسد (١٠) ، وقال عروة بن الزبير (١١) : هي خولة بنت حكيم من بني (١٢) سليم.

قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا) أوجبنا على المؤمنين (فِي أَزْواجِهِمْ) من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ، وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان النبي عليه‌السلام فإن له في النكاح خصائص ليست لغيره ، وكذلك في السّراري.

قوله : «لكيلا» يتعلق «بخالصة» (١٣) وما بينهما اعتراض و (مِنْ دُونِ) متعلق «بخالصة» كما تقول : خلص (١٤) من كذا.

__________________

(١) انظر : معالم التنزيل ٥ / ٢٦٨ وتفسير الخازن ٥ / ٢٦٨.

(٢) المرجعان السابقان.

(٣) زيادة للسياق.

(٤) القرطبي ١٤ / ٢٠٨.

(٥) السابق.

(٦) لكثرة إطعامها المساكين ، انظر : أسد الغابة ٤٦٦ / ٥.

(٧) السابق.

(٨) ماتت سنة ٤٩ ه‍ ، أعلام النساء ٥ / ١٣٨ و ١٣٩.

(٩) البغوي ٥ / ٢٦٨ والقرطبي ١٤ / ٢٠٩.

(١٠) الأنصارية واسمها غزية أو غزيلة. انظر : القرطبي السابق وأسد الغابة ٥ / ٥٩٤.

(١١) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٦٨.

(١٢) لها خمسة عشر حديثا وروى عنها عمر بن عبد العزيز وعروة ، انظر : خلاصة الكمال ٤٩٠.

(١٣) هذا قول الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٦٩ والسمين في الدر ٤ / ٣٩٨.

(١٤) المرجع الأخير السابق وقد جعل أبو البقاء وابن الأنباري ومكي «أحللنا» هو المتعلق «لكيلا». انظر : التبيان ١٠٥٩ والبيان ٢ / ٢٧١ ومشكل الإعراب ٢ / ١٩٩.

٥٧١

فصل

قال المفسرون : هذا يرجع إلى أول الآية أي أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر الذنوب جميعا ويرحم العبيد.

قوله : «ترجي» أي تؤخر (١)(مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ) أي تضم (٢) إليك (مَنْ تَشاءُ) واختلف المفسرون في معنى الآية فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجبا عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن. قال أبو رزين (٣) وابن زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وطلب بعضهن زيادة النفقة وهجرهن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شهرا حتى نزلت آية التخيير فأمره الله ـ عزوجل ـ أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ، ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الأخرة على أنهن أمهات المؤمنين فلا ينكحن أبدا وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعض دون بعض أو فضل بعضهن على بعض في النفقة والقسمة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط (٤) وذلك لأن النبي (٥) عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى أمته نسبة السّيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبيا فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها فكيف زوجات النبي بالنسبة إليه فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات. والإرجاء التأخير والإيواء الضم ، واختلفوا في أنه هل أخرج أحدا منهن عن القسم فقيل : لم يخرج أحدا بل كان رسول (٦) الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع ما جعل الله من ذلك يسوي بينهن في القسم إلا سودة (٧) فإنها رضيت بترك حقها من القسم وجعلت نوبتها لعائشة ، وقيل : أخرج بعضهن (٨) ، روى جرير (٩) عن منصور (١٠) عن أبي رزين قال : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلّقهنّ ،

__________________

(١ و ٢) انظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة ٢ / ١٣٩.

(٣) أبو رزين : مسعود بن مالك ويقال : ابن عبد الله أبو رزين الكوفي وردت عنه الرواية في حروف القرآن روى عن ابن مسعود وعليّ والأعمش ، انظر : غاية النهاية ٢ / ٢٩٦ وانظر أسباب النزول في القرطبي ١٤ / ٢١٥ وتفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل ٥ / ٢٦٩.

(٤) المرجع الأخير السابق.

(٥) قاله الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ٢٢١.

(٦) قاله ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٤٠٨.

(٧) هي سودة بنت زمعة روى لها أبو داود والنسائي ماتت سنة ٥٤ ه‍. انظر : أعلام النساء ٢ / ٢٦٩.

(٨) المرجع السابق.

(٩) هو جرير بن حازم الأزدي أبو النضر أحد الأعلام عن الحسن وابن سيرين وطاوس ، وابن أبي مليكة وعنه أيوب ، وابن عون وابنه وهب بن جرير مات سنة ١٧٠ ه‍. وانظر : خلاصة الكمال ٦١.

(١٠) منصور بن المعتمر السلمي أبو عتاب الكوفي أحد الأعلام المشاهير عن إبراهيم ، وأبي وائل وعنه : ـ

٥٧٢

فقلن يا رسول الله : اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئت ودعنا على حالنا فنزلت هذه الآية فأرجأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعضهن وآوى إليه بعضهن فكان ممن آوى عائشة وحفصة وزينب وأمّ سلمة وكان يقسم بينهن سواء ، وأرجأ منهن خمسا : أمّ حبيبة (١) ، وميمونة ، وسودة ، وصفية (٢) ، وجويرية (٣) فكان يقسم لهن ما شاء (٤). وقال مجاهد : ترجي من تشاء منهن يعني تعزل من تشاء منهنّ بغير طلاق وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد (٥) ، وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء (٦) وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من تشاء من أمتك (٧) وقال : كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله (٨) ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقيل : تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها (٩) ، روى هشام عن أبيه قال : كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالت عائشة : أما تستحيي المرأة أنت تهب نفسها للرجل فلما نزلت (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ) قالت : يا رسول الله : ما أرى ربّك إلّا يسارع في هواك (١٠).

قوله : (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) يجوز في «من» وجهان :

أحدهما : أنها شرطية في محل نصب بما بعدها وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) جوابها ، والمعنى من طلبتها من النسوة اللاتي عزلتهن فليس عليك في ذلك جناح (١١).

والثاني : أن تكون مبتدأة ، والعائد محذوف (١٢) وعلى هذا فيجوز في «من» أن تكون «موصولة» وأن تكون شرطية ، و (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) خبر ، أو جواب أي التي ابتغيتها. ولا بد حينئذ من ضمير راجع إلى اسم الشرط من الجواب أي في ابتغائها وطلبها (١٣) ، وقيل : في الكلام حذف معطوف تقديره : ومن ابتغيت ممّن عزلت وممن لم

__________________

ـ أيوب وشعبة ، متقن لا يخلط ولا يدلس ثقة ثبت له ألفا حديث مات سنة ١٣٢ ه‍ انظر : خلاصة الكمال ٣٨٨.

(١) بنت أبي سفيان كانت تحت عبد الله بن جحش وهلك بأرض الحبشة فتزوجها رسول الله ، انظر : المعارف لابن قتيبة ١٣٦.

(٢) بنت حيي بن أخطب الخيبريّة لها أحاديث ماتت سنة ٥٠ ه‍ ، انظر : خلاصة الكمال ٤٩٣.

(٣) بنت الحارث المصطلقية لها أحاديث في البخاري ومسلم ماتت سنة ٥٦ ه‍ انظر أعلام النساء ١ / ٢٢٧.

(٤) القرطبي ١٤ / ٢١٥.

(٤) القرطبي ١٤ / ٢١٥.

(٥) انظر : تفسير ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٤٠٧.

(٦) السابق.

(٧) السابق.

(٨) انظر : تفسير البغوي ٥ / ٢٦٩.

(٩) وهو قول الشعبي وعكرمة انظر : زاد المسير المرجع السابق ومعالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٦٩.

(١٠) المرجع الأخير السابق وانظر القرطبي ١٤ / ٢١٥.

(١١) قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٥٩ والسمين في الدر ٤ / ٣٩٨.

(١٢) المرجعان السابقان.

(١٣) المرجع الأخير السابق.

٥٧٣

تعزل سواء ، لا جناح عليك كما تقول : «من لقيك ممن لم يلقك جميعهم لك شاكر» يريد من لقيك ومن لم يلقك وهذا فيه إلغاز (١).

قوله : «ذلك» أي التفويض إلى مشيئتك (أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ) أي أقرب إلى قرة أعينهن ، والعامة «تقرّ» مبنيا للفاعل مسندا «لأعينهن» وابن محيصن» «تقرّ» من «أقر» ـ رباعيا ـ وفاعله ضمير المخاطب (٢) (و) (٣) «أعينهنّ» ، نصب على المفعول به وقرىء «تقرّ» مبنيا للمفعول (٤) (و) «أعينهنّ» رفع لقيامه مقام الفاعل وتقدم معنى «قرة العين» (٥) في مريم.

قوله : «كلّهن» العامة على رفعه توكيدا لفاعل «يرضين» ، وأبو إياس (٦) بالنصب توكيدا لمفعول «آتيتهنّ» (٧).

فصل

قال المفسرون لا جناح عليك لا إثم عليك ، أباح له ترك القسم لهن حتى إنه ليرجي من يشاء في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلا له على سائر الرجال (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ) أي ذلك التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عزوجل ، (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ) أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من أمر النساء والميل إلى بعضهن (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي إن أضمرت خلاف ما أظهرت فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم وإن لم يعاقبهن (٨) في الحال فلا يغتررن (٩) ، فإنه حليم لا يعجل.

قوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ) قرأ أبو عمرو «لا تحل» بالتأنيث اعتبارا باللفظ والباقون

__________________

(١) السابق والبحر المحيط ٧ / ٢٤٣ وقد رجح أبو حيان الرأيين السابقين الجائزين في «من» فقد قال : «ويجوز أن يكون ذلك توكيدا لما قبله أي ومن ابتغيت ممن عزلت (ومن لم تعزل) سواء لا جناح عليك ...» ثم قال : «والراجح القول الأول».

(٢) قراءة من القراءات الشاذة فوق العشرة المتواترة فقد ذكرت في الإتحاف ٣٥٦ وانظر : البحر ٧ / ٢٤٣ وهي في الكشاف بلا نسبة الكشاف ٣ / ٢٦٩. وقد نسبها ابن خالويه في المختصر له ص ١٢٠.

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

(٤) لم تعز في كل من البحر ٧ / ٢٤٣ والكشاف ٣ / ٢٦٩ والجامع لأحكام القرآن ١٤ / ٢١٦.

(٥) قرت عينه تقر : بردت وانقطع بكاؤها واستحرارها بالدمع اللسان : «ق ر ر» ٣٥٨٠.

(٦) هو جؤبة بن عائذ كما ذكره ابن جني في المحتسب.

(٧) من القراءات الشاذة وقد ذكرها ابن جني في المحتسب ٢ / ١٨٢ و ١٨٣ وابن خالويه في المختصر ١٢٠ ، وقد قال ابن جني : «فالمعنيان إذا واحد ، إلا أن الرفع أقوى معنى ، وذلك أن فيه إصراحا من اللفظ بأن يرضين كلهن».

(٨) في «ب» يعاتبهن.

(٩) وفيها يغترون بإسناد الفعل إلى واو الجماعة.

٥٧٤

بالياء لأنه جنس والمفصل أيضا (١) ، وقوله «من بعد» أي من (بعد) (٢) اللائي نصصنا لك على إحلالهنّ كما تقدم (٣) ، وقيل : من بعد إباحة النساء المسلمات دون الكتابيّات (٤).

فصل

قال المفسرون : من بعد أي من بعدهن. قال ابن الخطيب : والأولى أن يقال لا تحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما تؤتيهن من الوصل والهجران (٥) ، وقال ابن عباس وقتادة : من بعد هؤلاء التسعة (٦) خيرتهن فاخترنك ، وذلك أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما خيرهن فاخترن الله ورسوله شكر الله لهن ، وحرّم عليه النساء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن ، واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء من بعد ، قالت عائشة : ما مات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى أحل له النساء. وقال أنس : مات على التحريم ، وقال عكرمة : معنى الآية لا تحل لك النساء إلا اللاتي أحللنا لك أزواجك ، الآية ثم قال: لا تحل لك النساء من بعد اللاتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم (٧) ذكرها. وقيل لأبي بن كعب : لو مات نساء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يحل له أن يتزوج ، قال : (و) (٨) ما يمنعه من ذلك؟ قيل : قوله عزوجل : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) قال : إنّما أحلّ الله ضربا من النساء فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) قال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) (و) (٩) قال أبو صالح : أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غريبة ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال مجاهد: معناه لا تحل لك اليهوديّات بعد المسلمات (١٠)(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ) بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى يقول : لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أحلّ له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يتسرى بهنّ ؛ وروي عن الضحاك معنى (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ) ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هن في حبالك أزواجا غيرهن بأن تطلق فتنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده وجعلهن أمهات المؤمنين وحرمهن على غيره حين (١١) اخترنه ، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه(١٢). وقال ابن زيد في قوله : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ

__________________

(١) الإتحاف للبناء ٣٥٦ ، والسبعة لا بن مجاهد ٥٢٣ وحجة ابن خالويه ٢٩١ والتيسير في القراءات ١٧٩ والنشر ٢ / ٣٤٩ وقد قال فيه : «فقرأ البصريان بالتاء على التأنيث» والدر المصون ٤ / ٣٩٩.

(٢) ما بين القوسين ساقط من «أ» وزيادة من «ب».

(٣) يشير إلى الآية ٥٠ من نفس السورة.

(٤) هذا قول مجاهد وغيره وانظر : بحر أبي حيان ٧ / ٢٤٣ و ٢٤٤.

(٥) انظر : تفسيره ٢٥ / ٢٢٢.

(٦) في «ب» التسع وهو الصواب نحويا وانظر : زاد المسير ٦ / ٤٠٩.

(٧) انظر هذه الأقوال في تفسير البغوي ٥ / ٢٧٠.

(٨ و ٩) زيادتان عن «أ» و «ب».

(١٠) ذكره الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير ٦ / ٤١٠.

(١١) في «ب» إذ.

(١٢) المرجع السابق.

٥٧٥

مِنْ أَزْواجٍ) كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم يقول (١) الرجل : بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي ، تنزل لي عن امرأتك وانزل لك عن امرأتي (٢) ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) يعني تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت ، فأما الحرائر فلا ، روى عطاء بن (٣) يسار عن أبي هريرة قال : دخل عيينة بن حصن على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بغير إذن وعنده عائشة فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يا عيينة أين الاستئذان؟ قال يا رسول الله : ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الحميراء التي (٤) جنبك؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين فقال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق (٥)؟ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إن الله قد حرم ذلك فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله؟ قال: هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه. قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) كقوله : «أعطوا السائل ولو على فرس» أي في كل حال ولو على هذه الحال المنافية قال الزمخشري (٦) : قوله «حسنهن» في معنى الحال.

فصل

معنى (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) أي ليس لك أن تطلق أحدا من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها. قال ابن عباس (٧) يعني أسماء بنت عميس الخثعميّة (٨) امرأة جعفر بن أبي طالب فلما استشهد جعفر أراد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يخطبها فنهي عن ذلك. وقال بعض المفسرين (٩) ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه (الصلاة (١٠) و) السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه موقعا كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها. وهذه مسألة حكمية وهي أن النبي عليه (الصلاة و (١١)) السلام وسائر الأنبياء (١٢) في أول النبوة يشتد عليهم برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم متحدّثون (١٣)

__________________

(١) في «ب» يقول الرجل للرجل.

(٢) وهو نفس رأي أبي هريرة رضي الله عنه ، انظر : المرجع السابق ومعالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٧١ وتفسير الخازن ٥ / ٢٧١.

(٣) المرجعان السابقان الأخيران.

(٤) في «ب» إلى جنبك وكذلك في المرجعين الأخيرين.

(٥) وفيهما : وتنزل لي عن هذه.

(٦) قال في الكشاف ٣ / ٢٧١ : ولو أعجبك في موضع الحال من الفاعل وهو الضمير في «تبدّل» لا من المفعول الذي هو «من أزواج» لأنه موغل في التنكير وتقديره : «مفروضا إعجابك بهن».

(٧) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٧١.

(٨) هي الخثعمية من المهاجرات الأول وأخت ميمونة لأمها لها ستون حديثا ، انظر : الخلاصة ٤٨٨ وفي «ب» الحنفية وهو تحريف.

(٩) وهو الفخر الرازي.

(١٠ و ١١) زيادتان من «ب».

(١٢) انظر : التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٥ / ٢٢٢.

(١٣) في الفخر : «يتحدثون».

٥٧٦

مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع ، ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغا لقلبه ، وتوسعا لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله ، ثم لما استأنس بالوحي نسخ ذلك إما لقوله عليه (الصلاة (١) و) السلام الجمع بين الأمرين ، وإما لأنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوف من أمور الدنيا فلم يبق له التفات إلى غير الله فلم يبق له حاجة إلى إخلاء (٢) المتزوّج بمن وقع بصره عليها.

قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ) فيه أوجه :

أحدها : أنه مستثنى من النساء فيجوز فيه وجهان : النصب على أصل الاستثناء والرفع على البدل وهو المختار (٣) ، والثالث : أنه مستثنى من «أزواج» قاله أبو البقاء (٤) ، فيجوز أن يكون في موضع نصب على أصل الاستثناء ، وأن يكون في موضع جر بدلا من «هنّ» (على (٥)) اللفظ ، وأن يكون في موضع نصب بدلا من «هنّ» على المحل (٦) ، وقال ابن عطية إن كانت (ما (٧)) مصدرية فهي في موضع نصب لأنه من غير الجنس (٨) وليس بجيد ؛ لأنه قال بعد ذلك (٩) والتقدير : إلا ملك اليمين ، و «ملك» بمعنى مملوك انتهى. وإذا كان بمعنى مملوك صار من الجنس وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعا على أنه على تقدير انقطاعه لا يتحتم نصبه ، بل يجوز عند تميم الرفع بدلا والنصب على الأصل كالمتصل بشرط صحة توجه العامل إليه (١٠) كما تقدم تحقيقه (١١) ، وهذا يمكن توجه العامل إليه ، ولكن اللغة المشهورة لغة الحجاز وهو لزوم النصب في المنقطع مطلقا ، كما ذكره أبو محمد آنفا (١٢).

فصل

قال ابن عباس ملك بعد هؤلاء مارية (١٣) ، و (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) حافظا عالما بكل شيء قادرا عليه ، وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من

__________________

(١) زيادة من «ب» على «أ» والفخر.

(٢) في تفسير الفخر : «إحلال التزوج».

(٣) ذكره ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٧٢ ومشكل الإعراب لمكي ٢ / ٢٠٠ وإعراب القرآن للنحاس ٣ / ٣٢٢ والتبيان ١٠٥٩.

(٤) التبيان المرجع السابق ١٠٦٠.

(٥) ما بين المعقوفين ساقط من «ب».

(٦) هذا شرح لعبارة أبي البقاء قاله السمين في الدر المصون ٤ / ٣٩٩.

(٧) سقطت من «ب».

(٨) نقله عنه أبو حيان في بحره ٧ / ٢٤٥.

(٩) هذا هو اعتراض أبي حيان عليه في البحر ٧ / ٢٤٥.

(١٠) بقية معنى كلام أبي حيان في البحر ٧ / ٢٤٥ على ابن عطية.

(١١) لعله يقصد قول الله ـ عزوجل ـ : «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ» وهي الآية «٩٨» من نفس السورة «يونس».

(١٢) وأبو محمد هنا هو ابن عطية فتلك كنيته.

(١٣) زاد المسير ٦ / ٤١٠.

٥٧٧

النساء ، روي عن جابر قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» (١).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)(٦٨)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) الآية قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن (٢) وليمة زينب حين بنى بها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما روى ابن شهاب (٣) قال : أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين فقدم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

__________________

(١) ذكره الخازن والبغوي في تفسيرهما ٥ / ٢٧١.

(٢) في «ب» بيان.

(٣) المرجعان السابقان.

٥٧٨

المدينة قال : فكانت أم هانىء تواظبني على خدمة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فخدمته عشر سنين وتوفي وأنا ابن عشرين فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بزينب بنت جحش أصبح النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بها عروسا فدعا القوم وأصابوا من الطّعام ثم خرجوا وبقي رهط منهم عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأطالوا المكث فقام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فمشيت حتى جاء عتبة حجرة عائشة ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع فرجعت معهم حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا فرجع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة فظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بيني وبينه بالسّتر ـ فأنزل الله الحجاب (١) ، (و) قال أبو عثمان واسمه الجعد (٢) عن أنس (قال) فدخل ـ يعني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) إلى قوله : (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)(٣) وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحيّنون طعام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يتأذّى بهم فنزلت الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ)(٤). وروى ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن أزواج (٥) النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كنّ يخرجن باللّيل إذا تبرّزن إلى المناصع (٦) وهو صعيد (٧) أفيح فكان عمر يقول للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ احجب نساءك فلم يكن رسول الله يفعل فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر : قد عرفناك يا سودة حرصا على أن تنزل آية الحجاب فأنزل الله الحجاب ، وعن أنس قال (٨) : قال عمر : وافقني ربي في ثلاثة ، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥] ، وقلت يا رسول الله : إنه يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات

__________________

(١) نقله القرطبي في الجامع مع تغيير في بعض الألفاظ ١٤ / ٢٢٤.

(٢) الجعد بن دينار اليشكريّ أبو عثمان البصري الصّيرفيّ صاحب الحلى عن أنس ، وأبي رجاء وعنه الحمادان وثقه ابن معين انظر : الخلاصة ٦٢.

(٣) انظر : معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٧٢.

(٤) زاد المسير ٦ / ٤١٣.

(٥) تفسير الخازن ٥ / ٢٧٢ وانظر : المرجع السابق ٥ / ٢٧٣.

(٦) قال ابن منظور في اللسان : والمناصع المواضع التي يتخلّى فيها لبول أو غائط أو حاجة الواحد «منصع» لأنه يبرز إليها ويظهر وفي حديث الإفك : «كان متبرّز النساء في المدينة قبل أن تسوى الكنف في الدور المناصع» اللسان : «ن ص ع» ٤٤٤٣.

(٧) وقد ورد حديث عن ذلك : «أن المناصع صعيد أفيح خارج المدينة» المرجع السابق.

(٨) القرطبي ١٤ / ٢٢٤.

٥٧٩

المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب قال : بلغني ما آذين (١) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نساؤه قال : فدخلت عليهن فجعلت استقربهن واحدة واحدة قلت : والله لتنتبهن أو ليبدّلنّه الله أزواجا خيرا منكنّ حت أتيت على زينب فقالت : يا عمر : ما كان في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت قال : فخرجت فأنزل الله : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ)(٢) الآية.

قوله : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) فيه أوجه :

أحدها : أنها في موضع نصب على الحال تقديره إلّا مصحوبين بالإذن (٣).

الثاني : أنها على إسقاط باء السبب تقديره : «إلا بسبب الإذن لكم» كقوله «فأخرج به» (٤) أي بسببه (٥).

الثالث : أنه منصوب على الظرف قال الزمخشري : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ) في معنى الظرف تقديره : إلا وقت أن يؤذن لكم و (غَيْرَ ناظِرِينَ) حال من (لا تَدْخُلُوا) وقع الاستثناء على الحال والوقت معا كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوا إلّا غير ناظرين إناه (٦) ، ورد أبو حيان (٧) الأول بأن النحاة نصوا على أن «أن» المصدرية لا تقع موقع الظرف ، لا يجوز : «آتيك أن يصيح الديك» وإن جاز ذلك في المصدر الصريح نحو : «آتيك صياح الديك» ، ورد الثاني بأنه لا يقع بعد «إلا» في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفته ولا يجوز فيما عدا هذا عند الجمهور (٨) ، وأجاز ذلك الكسائي والأخفش أجاز ا «ما قام القوم إلا يوم الجمعة ضاحكين» (٩) و «إلى طعام» متعلق ب «يؤذن» لأنه بمعنى إلّا أن يدعو إلى طعام (١٠) ، وقرأ العامة غير ناظرين ـ بالنصب على الحال ـ كما تقدم ، فعند الزمخشري ومن تابعه العامل فيه «يؤذن» وعند غيرهم العامل فيه مقدر تقديره ادخلوا غير ناظرين (١١) ، وقرأ

__________________

(١) في تفسير البغوي «بعض ما آذى».

(٢) انظر المرجع السابق وقد قال الإمام القرطبي عن هذا الرأي : «هذا واه لا يقوم على ساق». انظر : الجامع ١٤ / ٢٢٤.

(٣) قاله أبو البقاء قال : «أي لا تدخلوا إلا مأذنونا لكم» التبيان ١٠٦٠ وانظر : السمين في الدر ٤ / ٤٠٠.

(٤) بعض آية من البقرة ٢٢ «فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ».

(٥) وهذا رأي أبي إسحاق الزجاج في معاني القرآن ٤ / ٢٣٤ والنحاس في إعراب القرآن ٤ / ٣٢٢ وأبي حيان في البحر ٧ / ٢٤٦.

(٦) الكشاف ٣ / ٢٧٠.

(٧) مع تصرف في عبارته انظر : البحر المحيط ٧ / ٢٤٦.

(٨) انظر الهمع ١ / ٢٠٤.

(٩) انظر الهمع ١ / ٢٣٠.

(١٠) التبيان ١٠٦٠.

(١١) هو قول ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٧٢ وإن كان قد قال : غير منصوب على الحال من الواو في «لا تدخلوا» الظاهر.

٥٨٠