اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

[المنافقون : ٤] وإنما فعل به ذلك تشبيها بالمصادر نحو : «الولوع ، والقبول» (١) وقد يقال : أعداء ، وعدوة (٢) ، وقوله : (عَدُوٌّ لِي) على أصله من غير تقدير مضاف ولا قلب ، لأن العدو والصديق يجيئان في معنى الوحدة والكثرة (٣) ، قال الشاعر :

٣٩١٠ ـ وقوم على ذوي مئرة

أراهم عدوا وكانوا صديقا (٤)

وتقدم الكلام في نظيره عند قوله (٥) : (إِنَّا رَسُولُ)(٦).

وقيل : المعنى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) لو عبدتهم يوم القيامة ، كقوله : (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨٢]. (وقيل : الأصنام لا تعادى لأنها جماد ، والتقدير : فإن عبادهم عدو لي (٧)) (٨). وقيل : بل (٩) في الكلام قلب تقديره : فإنهم عدو لهم (١٠) وهذان مرجوحان لا ستقامة الكلام بدونهما. فإن قيل : لم قال : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) ولم يقل فإنها عدو لكم؟ فالجواب : أنه ـ عليه‌السلام (١١) ـ صور المسألة في نفسه ، بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها ، وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه ، فإذا تفكروا وقالوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون أدعى إلى القبول (١٢).

قوله : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه منقطع ، أي : لكن رب العالمين ليس بعدو لي (١٣). وقال الجرجاني : فيه تقديم وتأخير ، أي : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١١٧.

(٢) عدوا من الصفات التي يستوي فيها المذكر والمؤنث فعول بمعنى فاعل ، فلا تلحقها التاء للفصل بين المذكر والمؤنث غالبا لعدم الحاجة إليه ، كرجل صبور ، بمعنى : صابر ، وامرأة صبور ، بمعنى : صابرة وشذ امرأة عدوة ، لخروجه عن القاعدة ، ومع ذلك فإنه محمول على صديقة ، كما في عكسه ، وهو حمل صديق على عدوه في قوله لم أبخل وأنت صديق. والقياس صديقة ، وهم يحملون الضد على ضده ، كما يحملون النظير على نظيره. انظر شرح التصريح ٢ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ، الهمع ٢ / ١٧٠.

(٣) كالمصدر. انظر الكشاف ٣ / ١١٧.

(٤) البيت من بحر المتقارب ، لم أهتد إلى قائله ، وهو في الكشاف ٣ / ١١٧ ، والفخر الرازي ٢٤ / ١٣٤ ، شرح شواهد الكشاف (٨٥) المئرة : العداوة. وروي (مرة) وهي القوة وشدة الجدال.

(٥) في ب : قوله تعالى.

(٦) من قوله تعالى : «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» [الشعراء : ١٦].

(٧) حكاه أبو حيان. البحر المحيط ٧ / ٢٤.

(٨) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٩) ما بين القوسين في ب : وإن قيل : فلم لم يقل إن من يعبد الأصنام عدو لي فيكون. وهو تحريف.

(١٠) وهو قول الفراء. انظر معاني القرآن ٣ / ٣٨١.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٣.

(١٣) قال الفراء : (أي كل آلهة لكم فلا أعبدها إلا رب العالمين فإني أعبده) معاني القرآن ٢ / ٢٨١ ، وصرح به الزمخشري ، فإنه قال :(«إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» استثناء منقطع كأنه قال ولكن رب العالمين) الكشاف ٣ / ١١٧ ، وانظر التبيان ٢ / ٩٩٦.

٤١

العالمين (١) فإنهم عدو لي ، و «إلّا» بمعنى «دون ، وسوى» (٢).

والثاني : أنه متصل ، وهو قول الزجاج (٣) ، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، فقال إبراهيم : كل من تعبدون أعداء لي إلا رب العالمين.

وقال الحسن بن الفضل (٤) : معناه : إلا من عبد رب العالمين. وقيل : معناه : فإنهم غير معبود لي إلا رب العالمين. ثم وصف معبوده ، وهو قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي) يجوز فيه أوجه : النصب على النعت ل (رَبَّ الْعالَمِينَ) ، أو البدل ، أو عطف البيان ، أو على إضمار «أعني» (٥). والرفع على خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو الذي خلقني ، أو على الابتداء. و (فَهُوَ يَهْدِينِ)(٦) جملة اسمية في محل رفع خبرا له (٧).

قال الحوفي : ودخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط (٨). وهذا مردود ، لأن الموصول معيّن ليس عاما ، ولأن الصلة لا يمكن فيها التجدد ، فلم يشبه الشرط (٩) وتابع أبو البقاء(١٠) الحوفيّ ، ولكنه لم يتعرض للفاء ، فإن عنى ما عناه الحوفي فقد تقدم ما فيه ، وإن لم يعفه فيكون تابعا للأخفش في تجويزه (١١) زيادة الفاء في الخبر مطلقا نحو : «زيد فاضربه» (١٢) وقد تقدم تجويزه.

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٨٢)

واعلم أن إبراهيم ـ عليه‌السلام (١٣) ـ لما استثنى رب العالمين وصفه بما يستحق العبادة لأجله بأوصاف:

أحدها (١٤) : قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ)(١٥) ، وذلك لأن الله تعالى أثنى على

__________________

(١) في ب : إلا رب العالمين وقال الحسن بن الفضل فإنهم عدو لي.

(٢) انظر القرطبي ١٣ / ١١٠ ، البحر المحيط ٧ / ٢٤ ، وقال أبو حيان معقبا على قول الجرجاني : (فجعله مستثنى مما بعد «كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ» ولا حاجة إلى هذا التقدير ، لصحة أن يكون مستثنى من قوله : «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي»).

(٣) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٩٣.

(٤) لعله الحسن بن أبي الفضل. وقد تقدم.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٤.

(٦) في النسختين : يهديني.

(٧) انظر البيان ٢ / ٢١٥ ، التبيان ٢ / ٩٩٧ ، البحر المحيط ٧ / ٢٤.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٤.

(٩) هذا اعتراض أبي حيان على الحوفي. انظر البحر المحيط ٧ / ٢٤.

(١٠) قال أبو البقاء : (... «الذي» مبتدأ ، «فهو» مبتدأ ثان ، و «يهدين» خبره ، والجملة خبر «الذي») التبيان ٢ / ٩٩٧.

(١١) في ب : تجويز.

(١٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٤.

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) في ب : أهلها. وهو تحريف.

(١٥) في ب : يهديني.

٤٢

نفسه بهذين الأمرين في قوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى)(١) [الأعلى : ٢ ـ ٣].

وقال : (خَلَقَنِي) بلفظ الماضي ، لأن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا ، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم (٢).

وقال : (فَهُوَ يَهْدِينِ)(٣) بلفظ المستقبل ، لأن الهداية مما تتكرر كل حين وأوان ، سواء كانت تلك الهداية من المنافع الدنياوية بتمييز النافع (٤) عن الضار ، أو من المنافع الدينية بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر (٥).

قوله : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ)(٦). يجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف (٧) وكذلك ما بعده ، ويجوز أن تكون (٨) أوصافا ل (الَّذِي خَلَقَنِي) ودخول الواو جائز (٩) ، وقد تقدم تحقيقه في أول البقرة (١٠) كقوله :

٣٩١١ ـ إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (١١)

وأثبت ابن أبي إسحاق ـ وتروى عن عاصم أيضا ـ ياء المتكلم في : «يسقين ، ويشفين ، ويحيين» (١٢).

فصل (١٣)

المعنى : يرزقني ويغذوني بالطعام والشراب ، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما.

قوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أضاف (١٤) المرض إلى نفسه ، وإن كان المرض والشفاء كله من الله استعمالا لحسن الأدب كما قال الخضر (١٥) : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها)

__________________

(١) [الأعلى : ٢ ، ٣]. انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٤.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٤.

(٣) في ب : يهديني.

(٤) في ب : المنافع.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٤.

(٦) في ب : ويسعين.

(٧) وقدره ابن الأنباري من جنس الأول ، أي : فهو يهدين. البيان ٢ / ٢١٥ ، وانظر التبيان ٢ / ٩٩٧.

(٨) في الأصل : أن تكونوا.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٧٧٩.

(١٠) عند قوله تعالى : «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» [البقرة : ٤]. انظر اللباب ١ / ٤٥.

(١١) البيت من بحر المتقارب مجهول القائل ، وهو في معاني القرآن ١ / ١٠٥ ، ٢ / ٥٨ ، ٢٤٦ ، الكشاف ١ / ٢٣ ، الإنصاف ٢ / ٤٦٩ ، الخزانة ١ / ٤٥١ ، ٥ / ١٠٧ ، ٦ / ٩١. القرم بفتح القاف : السيد. الهمام : الملك العظيم الهمة ، السيد الشجاع السخي. الكتيبة : الجيش. المزدحم : محل الازدحام ، وأراد به المعركة. والشاهد فيه عطف بعض الصفات على بعض ، فقد عطف قوله (وابن الهمام) على (القرم) ، ثم عطف عليه (وليث الكتيبة) وذلك جائز ، لأن الموصوف بها واحد.

(١٢) القرطبي ١٣ / ١١١ ، الإتحاف (٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(١٣) فصل : سقط من الأصل.

(١٤) في ب : وأضاف.

(١٥) في ب : الخضر عليه الصلاة والسلام.

٤٣

[الكهف : ٧٩] ، وقال : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) [الكهف : ٨٢].

وأجاب ابن الخطيب بأجوبة أخر ، منها : أن أكثر أسباب المرض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك ، ومن ثم قال الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم؟ لقالوا : التخم. ومنها : أن الشفاء محبوب ، وهو من أصول النعم ، والمرض مكروه وليس من النعم وكان مقصود إبراهيم ـ عليه‌السلام (١) ـ تعديد النعم ، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله ، فإن نقضته بالأمانة فجوابه : أن الموت ليس بضرر ، لأن شرط كونه ضررا وقوع الإحساس به ، وحال حصول الموت لا يحصل الإحساس به ، إنما الضرر في مقدماته ، وذلك هو عين المرض ، ولأن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر ، وخلاصتها عنها عين السعادة (بخلاف المرض (٢)) (٣).

قوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ). والمراد منه : الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها ، والمراد من الإحياء : المجازاة (٤) ، ولذلك أدخل «ثمّ» ههنا للتراخي ، أي : يميتني (٥) ويحيين في الآخرة.

قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) قرأ العامة : «خطيئتي» بالإفراد. والحسن : «خطاياي» (٦) جمع تكسير. فإن قيل : لم قال : (وَالَّذِي أَطْمَعُ) والطمع عبارة عن الظن والرجاء ، وهو عليه‌السلام (٧) كان قاطعا بذلك؟ فالجواب : هذا الكلام يستقيم على مذهب أهل السنة ، حيث قالوا : لا يجب على الله لأحد شيء ، وأنه يحسن منه كل شيء ، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله.

وأجاب الجبائي عنه من وجهين :

الأول : أن قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي) أراد به سائر المؤمنين ، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به.

والثاني : المراد (٨) من الطمع : اليقين ، وهو المروي عن الحسن (٩).

وأجاب الزمخشري بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليما لأمته كيفية الدعاء (١٠).

قال ابن الخطيب : وهذه وجوه ضعيفة ، أما الأول فإن الله تعالى حكى الثناء أولا

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٥.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٥.

(٥) في ب : يميتني في الدنيا.

(٦) المختصر (١٠٧) ، تفسير ابن عطية ١١ / ١٢٥ ، البحر المحيط ٧ / ٢٥ ، الإتحاف (٣٣٣).

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في ب : أن المراد.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٥.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ١١٨ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٥.

٤٤

والمدح ثانيا ، ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم ـ عليه‌السلام (١) ـ فجعل الشيء الواحد وهو كقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) كلام غيره ممّا يبطل نظم الكلام ويفسده.

وأما قوله : إن الطمع هو اليقين (فهذا) (٢) على خلاف اللغة.

وأما الثالث وهو أن المراد تعليم الأمة فباطل أيضا (٣) ، لأن (٤) حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة ، وإنه باطل أيضا (٥). فإن قيل : لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا؟ فالجواب (٦) من وجوه :

أحدها : قال مجاهد : هي قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٣] وقوله لسارة : «هذه أختي» (٧) وزاد الحسن قوله للكوكب : (هذا رَبِّي)(٨) [الأنعام : ٧٦].

قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأن نسبة الكذب إليه غير جائز (٩).

وثانيها : أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس.

قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأنه إن كان صادقا في هذا التواضع فقد لزم الإشكال ، وإن كان كاذبا فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به ، وهو منزه عن المعصية (١٠).

وقال : وثالثها ، وهو الجواب الصحيح : أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى ذلك خطأ ، فإن من ملك جوهرة أمكنه أن (١١) يبيعها بألف ألف دينار ، فباعها بدينار ، قيل : إنه أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز (١٢).

فإن قيل : ما فائدة قوله : (يَغْفِرَ لِي)؟

فالجواب من وجوه : الأول : أن الأب إذا عفا عن ولده ، والسيد عن عبده ، والزوج عن زوجته فإنما يكون ذلك طلبا للثواب ، أو لحسن الثناء والمحمدة ، أو (١٣) دفعا للألم الحاصل من الرقة الجنسية ، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية جانب نفسه ، إما لتحصيل ما ينبغي ، أو لدفع ما لا ينبغي ، وأما الإله سبحانه فإنه كامل بذاته فيستحيل أن

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) فهذا : تكملة من الفخر الرازي.

(٣) أيضا : سقط من ب.

(٤) في ب : لأنه. وهو تحريف.

(٥) الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٥ ـ ١٤٦.

(٦) في ب : والجواب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٦ ، القرطبي ١٣ / ١١٢.

(٨) [الأنعام : ٧٦] ، (٧٧ ، ٧٨). وانظر القرطبي ١٣ / ١١٢.

(٩) الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٦.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) في الأصل : بأن.

(١٢) الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٦.

(١٣) في ب : و.

٤٥

تحدث له صفات كمال لم تكن ، أو يزول عنه نقصان كان ، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه.

فقوله : (يَغْفِرَ لِي) معناه : أن غفرانه لي ولأجلي ، لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة (١).

وثانيها : كأنه قال : خلقتني لا لي ، فإنك حين خلقتني لم أكن موجودا ، فإذا عفوت كان ذلك العفو لأجلي (٢) ، فلما خلقتني أولا مع أني ما كنت (٣) محتاجا إلى ذلك الخلق ، فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد (٤) الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى.

وثالثها : أن إبراهيم ـ عليه‌السلام (٥) ـ كان مع شدة استغراقه في المعرفة شديد الفرار عن الوسائط ، ولذلك (٦) لما قال له جبريل : «ألك حاجة؟» قال : «أما إليك فلا» فهاهنا قال: (أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) أي : بمجرد عبوديتي واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي ، لا أن تغفرها بواسطة شفاعة شافع (٧). فإن قيل (٨) : لم علق غفران الخطيئة بيوم الدين وإنما تغفر في الدنيا؟

فالجواب : لأن أثرها يظهر يوم الدين ، وهو الآن خفي لا يعلم (٩).

قوله تعالى : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٩)

قوله تعالى (١٠) : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). لما حكى عن إبراهيم ـ عليه‌السلام (١١) ـ ثناءه على الله ـ تعالى ـ ذكر (١٢) بعد ذلك دعاءه ومسألته ، وذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات (١٣). فإن قيل : لم لم يقتصر إبراهيم على الثناء ولا سيما يروى عنه أنه قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي؟

فالجواب : أنه عليه‌السلام (١٤) إنما ذكر ذلك حين اشتغاله بدعوة الخلق إلى الحق ، لأنه قال : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٧٧] ثم ذكر الثناء ، ثم ذكر الدعاء ، لأن (١٥) الشارع لا بد له من تعليم الشرع ، فأما حين (ما) (١٦) خلا بنفسه ولم يكن غرضه

__________________

(١) في ب : البتة إليه.

(٢) في ب : لأجل.

(٣) في الفخر الرازي : مع أني كنت.

(٤) في ب : شدة.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في ب : وكذلك. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٦.

(٨) في الأصل : علق. وهو تحريف.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١١٨ ، والفخر الرازي ٢٤ / ١٤٦.

(١٠) تعالى : سقط من ب.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) في ب : ذكره.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٧.

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) في النسختين : لما أن. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٦) ما : تكملة من الفخر الرازي.

٤٦

تعلم الشرع اقتصر على قوله : «حسبي من سؤالي علمه بحالي» (١) واعلم أن قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أجابه الله تعالى بقوله (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٢).

والمراد ب «الحكم» : إدراك الحق والعلم ، لأن النبوة كانت حاصلة له ، وتحصيل الحاصل محال ، وهذا قول مقاتل (٣). وقال ابن عباس : معرفة حدود الله وأحكامه.

وقال الكلبي : النبوّة (٤)(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من قبلي من النبيين في المنزلة والدرجة.

قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ). أي : ثناء حسنا ، وذكرا جميلا ، وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي. قال ابن عباس : أعطاه الله بقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(٥) [الصافات : ١٠٨] فأهل الأديان يتولونه ويثنون عليه.

قال القتيبي : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة ، لأن القول يكون به (٦). وقيل : المراد منه : أن يجعل في ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الله تعالى وذلك هو محمد ـ عليه‌السلام (٧) ـ فالمراد من قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) بعثة محمد (٨) ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٩) ـ.

قوله : (وَاجْعَلْنِي (مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ)) (١٠) «من ورثة» إما أن يكون مفعولا ثانيا ، أي : مستقرا أو كائنا من ورثة. وإما أن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني ، أي : وارثا من ورثة (١١). واعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وشبهها بما يورث لأنه (١٢) الذي يغتنم في الدنيا ، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا (١٣).

قوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ). لما فرغ من طلب السعادات (١٤) الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقا به ، وهو أبوه ، وفيه وجهان :

الأول : أن المغفرة مشروطة بالإسلام ، وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط ، فقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي) كأنه دعاء له بالإسلام.

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٧.

(٢) [البقرة : ١٣٠] ، [النحل : ١٢٢] ، [العنكبوت : ٢٧]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٧.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٧.

(٤) في ب : والنبوة.

(٥) [الصافات : ١٠٨] ، وتكررت في نفس السورة الآية (٧٨ ، ١٢٩) وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٩.

(٦) انظر القرطبي ١٣ / ١١٣.

(٧) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٨) في ب : محمدا. وهو تحريف.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٩.

(١٠) ما بين القوسين مكرر في ب.

(١١) ذكر هذا الوجه أبو البقاء. انظر التبيان ٢ / ٩٩٧.

(١٢) في ب : لأنه هو.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

(١٤) في النسختين : السؤالات. والتصويب من الفخر الرازي.

٤٧

الثاني : أن أباه وعده بالإسلام لقوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤] فدعا له قبل أن يتبين له (أنه عدو لله) (١) ، كما سبق في سورة التوبة. وقيل : إن أباه قال له : إنه على دينه باطنا وعلى دين نمروذ ظاهرا تقاة وخوفا ، فدعا له لا عتقاده أن الأمر كذلك ، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ولذلك قال في دعائه : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) فلو لا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك (٢).

قوله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ). (قال الزمخشري) (٣) : الإخزاء من الخزي ، وهو الهوان ، ومن الخزآية ، وهي الحياء (٤). وهذه الآية تدل على أنه لا يجب على الله شيء كما تقدم في قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ). فإن قيل : لما قال أولا : (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) كان كافيا عن قوله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ). وأيضا فقد قال الله تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) [النحل : ٢٧] فما كان نصيب الكفار فقط كيف يخافه المعصوم؟

فالجواب : أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فكذا درجات الأبرار خزي المقربين ، وخزي كل واحد بما يليق به (٥).

قال الزمخشري : في (يبعثون) ضمير العباد لأنه معلوم ، أو ضمير الضالين (٦).

قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) ... الآية». (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدل من «يوم» قبله (٧) وجعل ابن عطية هذا من كلام الله تعالى إلى آخر الآيات مع إعرابه (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدلا من (يَوْمَ يُبْعَثُونَ)(٨). ورده أبو حيان بأن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه أو آخر مثله مقدر. وعلى كلا هذين القولين لا يصح لا ختلاف المتكلمين (٩). واعلم أن الله تعالى قد أكرمه بهذا الوصف حيث قال : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات : ٨٣ ـ ٨٤].

قوله : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ) فيه أوجه :

أحدها : أنه منقطع ، أي (مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فإنه ينفعه ذلك.

وقال الزمخشري : ولا بد مع ذلك من تقدير المضاف ، وهو الحال المراد بها سلامة

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٠.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) الكشاف ٣ / ١١٨.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٠.

(٦) الكشاف ٣ / ١١٨.

(٧) من الآية التي قبلها. انظر التبيان ٢ / ٩٩٧.

(٨) قال ابن عطية :(«يوم» بدل من الأول في قوله تعالى : «يَوْمَ يُبْعَثُونَ والمعنى» : يوم لا تنفع أعلاق الدنيا ومحاسنها) تفسير ابن عطية ١١ / ١٢٦.

(٩) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٨.

٤٨

القلب (١) ، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤل المعنى إلى أن البنين والمال لا ينفعان ، وإنما ينفع سلامة القلب ، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى (٢).

قال أبو حيان : ولا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف كما ذكر (٣).

قال شهاب الدين (٤) : إنما قدر المضاف ليتوهم دخول المستثنى في المستثنى منه لأنه متى لم يتوهم ذلك لم يقع الاستثناء ، ولهذا منعوا : صهلت الخيل إلا الإبل. إلا بتأويل (٥).

الثاني : أنه مفعول به لقوله : (لا يَنْفَعُ) أي : لا ينفع المال والبنون إلا هذا الشخص فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر وبنوه الصلحاء ، لأنه علمهم وأحسن إليهم (٦).

الثالث : أنه بدل من المفعول المحذوف ، أو مستثنى منه ، (إذ التقدير : لا ينفع مال ولا بنون أحدا من الناس إلا من كانت هذه صفته (٧) ، والمستثنى منه) (٨) يحذف كقوله :

٣٩١٢ ـ ولم (٩) ينج إلا جفن سيف ومئزرا (١٠)

أي : ولم ينج بشيء.

الرابع : أنه بدل من فاعل «ينفع» فيكون مرفوعا. قال أبو البقاء : وغلب من يعقل فيكون التقدير : إلا مال من ، أو بنون من فإنه ينفع نفسه وغيره بالشفاعة (١١).

قال شهاب الدين : وأبو البقاء خلط وجها بوجه ، وذلك أنه إذا أردنا أن نجعله بدلا من فاعل «ينفع» قلنا : فيه طريقتان (١٢) :

إحداهما (١٣) : طريقة التغليب ، أي : غلبنا البنين على المال ، فاستثنى من البنين

__________________

(١) في النسختين : السلامة. وما أثبته من الفخر الرازي.

(٢) الكشاف ٣ / ١١٨.

(٣) البحر المحيط ٧ / ٢٦.

(٤) الدر المصون ٥ / ١٥٩.

(٥) شرط الاستثناء المنقطع أن يناسب المستثنى منه ، فلا يجوز قام القوم إلا ثعبانا ، وأن لا يسبق ما هو نص في خروجه ، فلا يجوز صهلت الخيل إلا الإبل ، بخلاف صوتت الخيل إلا الإبل ، فالمثال الذي ذكره شهاب الدين على ظاهره لا يجوز ، لأنه قد سبق ما هو نص في خروج ما بعد (إلا) ، فيصبح (إلا) لغوا لا فائدة منها ، لأن الصهيل خاص بالخيل ، وكأن شهاب الدين يقصد بالتأويل هنا أن يضمن (صهلت) معنى (صوتت). انظر حاشية الصبان على الأشموني ٢ / ١٤٣.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ١١٨.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٩٨.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) في الأصل : ولا.

(١٠) عجز بيت من بحر الطويل ، وصدره :

نجا سالم والنفس منه بشدقه

وقد تقدم تخريجه.

(١١) التبيان ٢ / ٩٩٨.

(١٢) في النسختين : طريقان. والصواب ما أثبته.

(١٣) في الأصل : أحدهما.

٤٩

فكأنه قيل : لا ينفع البنون إلا من أتى من البنين بقلب سليم فإنه ينفع نفسه بصلاحه وغيره بالشفاعة.

والطريقة الثانية : أن نقدر مضافا محذوفا قيل «من» أي : إلا مال من ، أو بنو من ، فصارت الأوجه خمسة (١). ووجه الزمخشري اتصال الاستثناء بوجهين :

أحدهما : إلا حالة (٢)(مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وهو من قوله :

٣٩١٣ ـ تحية بينهم ضرب وجيع (٣)

وما ثوابه إلا السيف ، ومثاله أن يقال : هل لزيد مال وبنون؟ فيقال : ماله وبنوه سلامة (٤) قلبه ، يريد نفي المال والبنين عنه ، وإثبات سلامة قلبه بدلا عن ذلك (٥).

والثاني : قال : وإن (٦) شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا من أتى الله ، لأن غنى الرجل في دينه بسلامه قلبه ، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه (٧).

فصل

وفي «السليم» ثلاثة أوجه :

قال ابن الخطيب : أصحها : أن المراد منه سلامه النفس (٨) عن الجهل والأخلاق الرذيلة (٩). وقيل : السليم : الخالص من الشرك والشك ، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد ، وهذا قول أكثر المفسرين (١٠). وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو الصحيح ، وهو قلب المؤمن ، لأن قلب الكافر والمنافق مريض ، قال الله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)(١١)(١٢). وقيل : السليم : هو (١٣) اللديغ من خشية الله (١٤). وقيل : السليم : هو الذي سلم وأسلم وسالم واستسلم (١٥).

قوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما

__________________

(١) الدرر المصون ٥ / ١٥٩.

(٢) في الكشاف : حال.

(٣) عجز بيت من بحر الوافر ، قاله عمرو بن معديكرب ، وصدره :

وخيل قد دلفت لها بخيل

وقد تقدم.

(٤) في ب : وسلامة.

(٥) الكشاف ٣ / ١١٨.

(٦) في ب : إن.

(٧) الكشاف ٣ / ١١٨.

(٨) في الفخر الرازي : القلب.

(٩) الفخر الرازي ٢٤ / ١٥١.

(١٠) انظر القرطبي ١٣ / ١١٤.

(١١) ورد في القرآن إحدى عشرة مرة ، أولها [البقرة : ١٠]. انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن (٦٦٤).

(١٢) انظر القرطبي ١٣ / ١١٤.

(١٣) هو : سقط من ب.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥١.

(١٥) المرجع السابق.

٥٠

كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٠٤)

قوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي : أن (١) الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها (٢). (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أي : أظهرت (٣).

وقرأ مالك بن دينار (٤) : «وبرزت» بفتح الباء والراء (٥) خفيفة مبنيا للفاعل مسندا ل «الجحيم» ، فلذلك رفع (٦) ، والمراد ب «الغاوين» الكافرون (٧).

(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) : يمنعونكم من العذاب بنصرتهم ، أو ينفعون أنفسهم بانتصارهم.

قوله : «فكبكبوا» أي : ألقوا وقلب بعضهم على بعض. قال الزمخشري : الكبكبة : تكرير الكب ، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى (٨).

وقال ابن عطية نحوا منه (٩) ، قال : وهو الصحيح ، لأن تكرير الفعل (١٠) بين نحو : صر وصرصر (١١) ، وهذا هو مذهب الزجاج (١٢).

وفي مثل هذا البناء ثلاثة مذاهب :

أحدها : هذا.

والثاني : وهو مذهب البصريين أن الحروف كلها أصول.

والثالث : وهو قول الكوفيين : أن الثالث مبدل من مثل الثاني. فأصل «كبكب» : كبب ، بثلاث باءات ، ومثله «لملم ، وكفكف» ، هذا إذا صح المعنى بسقوط الثالث ،

__________________

(١) أن : سقط من الأصل.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٢.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٢٢٤.

(٤) تقدم.

(٥) في الأصل : الراء والباء.

(٦) تفسير ابن عطية ١١ / ١٢٧ ، البحر المحيط ٧ / ٢٧.

(٧) انظر القرطبي ١٣ / ١١٥ ـ ١١٦.

(٨) الكشاف ٣ / ١١٩.

(٩) قال ابن عطية : (و «كبكب» مضاعف من «كب» هذا قول الجمهور) تفسير ابن عطية ١١ / ١٢٨.

(١٠) في تفسير ابن عطية : لأن معناهما واحد والتضعيف.

(١١) تفسير ابن عطية ١١ / ١٢٨.

(١٢) قال الزجاج : (ومعنى كبكبوا طرح بعضهم على بعض ، وقال أهل اللغة معناه : هوروا. وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب كأنه إذا ألقي ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر فيها يستجير بالله منها) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٩٤.

٥١

فأما (١) إذا لم يصح المعنى بسقوطه كانت كلها أصولا من غير خلاف (٢) نحو : «سمسم ،وخمخم» (٣). وو او «كبكبوا» قيل : للأصنام ، إجراء لها مجرى العقلاء. وقيل (٤) : (لعابديها) (٥)(٦).

فصل

قال ابن عباس : جمعوا (٧). وقال مجاهد : دهوروا (٨). وقال مقاتل : قذفوا (٩) وقال الزجاج : طرح بعضهم على (بعض) (١٠)(١١). وقال القتيبي : ألقوا على رؤسهم (هُمْ وَالْغاوُونَ) يعني : الشياطين ، قاله قتادة ومقاتل. وقال الكلبي : كفرة الجن. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) أتباعه من الجن والإنس. وقيل : ذريته (١٢).

قوله : (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) جملة حالية (١٣) معترضة بين القول ومعمولاه ومعمول الجملة القسمية (١٤).

قوله : (إِنْ كُنَّا لَفِي). مذهب البصريين : أن «إن» مخففة ، واللام فارقة. ومذهب الكوفيين : أن «إن» (١٥) نافية ، واللام بمعنى «إلا» (١٦).

فصل

المعنى : قال الغاوون للشياطين والمعبودين (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) مع المعبودين ، ويجادل بعضهم بعضا : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يذكرون ذلك حين يروا صورها على وجه الاعتراف (بالخطأ العظيم وعلى) (١٧) وجه الندامة لا على وجه المخاطبة ، لأنها جماد لا تخاطب ، وأيضا فلا ذنب لها بأن عبدها غيرها. ومما يدل على أن ذلك ليس

__________________

(١) انظر شرح الشافية ١ / ٦١ ـ ٦٢ ، البحر المحيط ٧ / ٣ ـ ٤.

(٢) أما : سقط من ب.

(٣) الخمخم : بالكسر ، نبات تعلف حبه الإبل. اللسان (خمم).

(٤) في الأصل : وهي.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٧.

(٦) ما بين القوسين في ب : العائد بها. وهو تحريف.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٢٢٤.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٢٢٥. دهور الشيء فتدهور : قذفه ودفعه فسقط في مهواة ، يقال : دهور الكلام ، أي : قحم بعضه في أثر بعض ، ويقال: دهور اللقم أي أدارها والتهمها. اللسان (دهر).

(٩) المرجع السابق.

(١٠) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٩٤.

(١١) ما بين القوسين في ب : بعضهم. وهو تحريف.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٢٢٥.

(١٣) حالية : سقط من الأصل.

(١٤) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٧.

(١٥) في ب : نا. وهو تحريف.

(١٦) انظر الإنصاف المسألة (٩٠) ٢ / ٦٤٠ ـ ٦٤٣ ، البحر المحيط ٧ / ٢٧ ، ائتلاف النصرة (١٥٥ ـ ١٥٦).

(١٧) ما بين القوسين في النسختين : والخطأ العظيم على. والتصويب من الفخر الرازي.

٥٢

بخطاب لها في الحقيقة قولهم : (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ)(١) قوله : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ). «إذ» منصوب إما ب «مبين» (٢) ، وإما بمحذوف ، أي : ضللنا في وقت تسويتنا لكم بالله في العبادة (٣). ويجوز على ضعف أن يكون معمولا ل «ضلال» ، والمعنى عليه إلا أن ضعفه صناعي وهو أن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه (٤).

فصل

«نسويكم» نعدلكم (بِرَبِّ الْعالَمِينَ) فنعبدكم ، (وَما أَضَلَّنا) : دعانا (٥) إلى الضلال (إِلَّا الْمُجْرِمُونَ). قال مقاتل : يعني : الشياطين (٦).

وقال الكلبي : إلا أولونا الذين اقتدينا (بهم) (٧)(٨).

قوله : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) أي : من يشفع لنا؟ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين والمؤمنين ، (وَلا صَدِيقٍ) وهو الصادق في المودة بشرط الدين. قال جابر بن عبد الله : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «إن الرجل ليقول في الجنة : ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم ، فيقول الله تعالى : أخرجوا له صديقه إلى (٩) الجنة. فيقول من بقي : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)(١٠).

قال الحسن : «استكثروا من الأصدقاء المؤمنين ، فإن لهم شفاعة يوم القيامة» (١١) والحميم : القريب ، من قولهم : حامة فلان ، أي : خاصته (١٢).

وقال الزمخشري : الحميم : من الاحتمام ، وهو الاهتمام أو من الحامة (١٣) وهي الخاصة ، وهو الصديق الخالص (١٤) والنفي هنا يحتمل نفي الصديق من أصله ، أو نفي صفته فقط (١٥) ، فهو من باب:

٣٩١٤ ـ على لاحب لا يهتدى بمناره (١٦)

و «الصديق» يحتمل أن يكون مفردا وأن يكون مستعملا للجمع ، كما يستعمل

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٢.

(٢) في الآية التي تسبقها من السورة نفسها.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٩٨.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في ب : ادعانا.

(٦) انظر البغوي ٦ / ٢٢٥.

(٧) المرجع السابق.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) في الأصل : في.

(١٠) ذكره البغوي بسنده ٦ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٢٢٦.

(١٢) انظر اللسان (حمم).

(١٣) في ب : الحمامة. وهو تحريف.

(١٤) الكشاف ٣ / ١١٩.

(١٥) لأنه إذا انتفت صفه الصديق فلا فائدة فيه ، فيصير كأنه معدوم. البحر المحيط ٧ / ٢٨.

(١٦) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس ، وعجزه :

إذا سافه العود النباطيّ جرجرا

وقد تقدم.

٥٣

العدو له ، فيقال (١) : هم صديق ، وهم عدو ، وقد تقدم (٢). وإنما جمع «الشافعين» ووحّد «الصديق» لكثرة الشفعاء في العادة وقله الصديق (٣).

قوله : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً). لو (٤) يجوز أن تكون المشربة معنى (٥) التمني ، فلا جواب لها على المشهور ، ويكون نصب «فنكون» جوابا للتمني الذي أفهمته «لو» (٦) ويجوز أن تكون على بابها ، وجوابها محذوف ، أي : لوجدنا شفعاء وأصدقاء ، أو لعملنا صالحا (٧) وعلى هذا فنصب الفعل ب «أن» مضمرة عطفا على «كرة» أي : لو أنّ لنا كرّة (فكونا) (٨) كقولها :

٣٩١٥ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني (٩)

فصل

قال الجبائي : قولهم : (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ليس بخبر عن إيمانهم ، لكنه خبر عن عزمهم ، لأنه لو كان خبرا عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقا ، لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة ، وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ)(١٠) [الأنعام : ٢٨] وقد تقدم في سورة الأنعام بيان فساد هذا الكلام (١١).

قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي : فيما ذكره من قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام (١٢) ـ لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) حمله أكثر المفسرين على

__________________

(١) في ب : يقال.

(٢) انظر المذكر والمؤنث لابن الأنباري ١ / ٢٨٨ ـ ٢٩٠ ، الكشاف ٣ / ١٢٠.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١١٨.

(٤) لو : سقط من ب.

(٥) في ب : معنى.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ١٢٠ ، البيان ٢ / ٢١٥ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٢٨٠ ، البحر المحيط ٧ / ٢٠.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ١٢٠ ، التبيان ٢ / ٩٩٨ ، البحر المحيط ٧ / ٢٠.

(٨) فكونا : تكملة ليست في المخطوط.

(٩) صدر بيت من الوافر قالته ميسون بنت بحدل زوج معاوية بن أبي سفيان وعجزه :

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف

وهو في الكتاب ٣ / ٤٥ ، المقتضب ٢ / ٢٦ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٢٨٠ ، ابن يعيش ٧ / ٢٥ ، المغني ١ / ٢٦٧ ، ٢٨٣ ، ٢ / ٣٦١ ، ٤٧٩ ، ٥٥١ ، التصريح ٢ / ٢٤٤ ، الهمع ٢ / ١٧ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٦٥٣ ، ٧٧٨ ، الأشموني ٣ / ٣١٣ ، الخزانة ٨ / ٥٩٣ ، الدرر ٢ / ١٠. العباءة : جبة الصوف. قرّت عينه :بردت ، كناية عن السرور والرضا. الشفوف : جمع شف ـ بكسر السين وفتحها ـ وهو الثوب الرقيق يصف البدن. والشاهد فيه نصب (تقر) بإضمار (أن) بعد الواو ، ليعطف على اللبس ، لأنه اسم و (تقر) فعل ، فلا يمكن عطفه عليه ، فحمل على إضمار (أن) ، لأن (أن) وما بعدها اسم ، فعطف اسما على اسم وجعل الخبر عنهما واحدا ، وهو (أحب).

(١٠) [الأنعام : ٢٨]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٣.

(١١) انظر اللباب ٣ / ٣٩٨ ـ ٣٩٩.

(١٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

٥٤

(قوم إبراهيم ، ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به ، فيكون هذا تسلية للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يجده) (١) من تكذيب (٢) قومه (٣). (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي : أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا (٤).

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٢٢)

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) الآيات. لما قصّ على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خبر موسى وإبراهيم ـ عليهما‌السلام (٥) ـ تسلية له مما يلقاه من قومه قص عليه أيضا نبأ نوح ، فقد كان نبؤه (٦) أعظم من نبأ غيره ، لأنه دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ومع ذلك كذبه قومه (٧).

قوله : (كَذَّبَتْ) إنما أنث فعل القوم لأنه مؤنث بدليل تصغير «القوم» على (قويمة) (٨) وقيل : لأن القوم بمعنى أمّة ، ولما كانت آحاده عقلاء ذكورا وإناثا عاد (٩) الضمير عليه باعتبار تغليب الذكور ، فقيل : لهم أخوهم (١٠). وحكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين :

أحدهما : أنهم (١١) وإن كذبوا نوحا لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره ، لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف من حيث المعنى ؛ لأن كل واحد من المرسلين جاء بما جاء به الآخر ، فلذلك (١٢) حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين.

وثانيهما : أن قوم نوح كذبوا جميع رسل الله ، إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة (١٣).

__________________

(١) ما بين القوسين بياض في الأصل ، وسقط من ب ، وهو من الفخر الرازي.

(٢) في ب : من كذب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٣.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في ب : عليهما الصلاة والسلام.

(٦) نبؤه : سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٤.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١٢٠ ، البحر المحيط ٧ / ٣٠.

(٩) في ب : أعاد.

(١٠) انظر البحر المحيط ٧ / ٣٠.

(١١) أنهم : سقط من ب.

(١٢) في ب : فكذلك. وهو تحريف.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٤.

٥٥

قوله : «أخوهم» لأنه كان منهم ، من قول العرب : يا أخا بني تميم. يريدون يا (١) واحدا منهم(٢) ، فهو أخوهم في النسب لا في الدين (أَلا تَتَّقُونَ) أي : عقاب الله ، فحذف مفعول (تتّقون) (٣).

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي : على الوحي ، وكان مشهورا فيهم بالأمانة كمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قريش ، فكأنه قال : كنت أمينا من قبل ، فكيف تتهمونني اليوم (٤)؟ ثم قال : (فَاتَّقُوا (٥) اللهَ) بطاعته وعبادته (وَأَطِيعُونِ) فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد ، (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي (٦) : على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة. لئلا يظن به أنه دعاهم رغبة في الدنيا ، ثم قال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ). فإن قيل : فلماذا كرر الأمر بالتقوى؟ فالجواب : لأنه في الأول أراد : ألا تتقون (٧) مخالفتي ، وأنا رسول الله ، وفي الثاني : ألا تتقون (٧) مخالفتي ولست (٨) آخذا منكم أجرا ، فهو في المعنى مختلف ، ولا تكرار فيه ، وقد يقول الرجل لغيره : ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا ، ألا تتقي الله وقد علمتك كبيرا. وإنما قدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته ، لأن تقوى الله (٩) علة لطاعته ، فقدم العلة على المعلول (١٠).

قوله : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (وَاتَّبَعَكَ) جملة حالية من كاف «لك».

قال الزمخشري : والواو للحال ، وحقها أن يضمر بعدها (قد) (١١) وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة : «وأتباعك» مرفوعا (١٢) جمع تابع «كصاحب وأصحاب» أو تبيع ك «شريف وأشراف» ، أو «تبع» ك (برم (١٣) وأبرام) (١٤) وفي رفعه وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ ، و «الأرذلون» خبره (١٥) ، والجملة حالية أيضا (١٦).

والثاني : أنه عطف على الضمير المرفوع في «نؤمن» ، وحسّن ذلك الفصل بالجار ، و «الأرذلون» صفته (١٧).

__________________

(١) يا : سقط من ب.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ١٢٠.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٣٠.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٤.

(٥) في ب : واتقوا.

(٦) أي : سقط من ب.

(٧) في الأصل : ألا تتقوا.

(٨) في ب : وليست. وهو تحريف.

(٩) لفظ الجلالة : سقط من ب.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٢٠.

(١٢) قال الفراء : (وذكر أن بعض القراء قرأ : «وأتباعك الأرذلون» ولكني لم أجده عن القراء المعروفين ، وهو وجه حسن) معاني القرآن ٢ / ٢٨١. وانظر المحتسب ٢ / ١٣١ ، تفسير ابن عطية ١١ / ١٣٢ ـ ١٣٣ ، البحر المحيط ٧ / ٣١ ، الإتحاف (٣٣٣).

(١٣) البرم : الذي لا يدخل مع القوم في الميسر ، والجمع أبرام ، وهو اللئيم. اللسان (برم).

(١٤) انظر البحر المحيط ٧ / ٣١.

(١٥) انظر المحتسب ٢ / ١٣٢ ، التبيان ٢ / ٩٩٨.

(١٦) انظر التبيان ٢ / ٩٩٨.

(١٧) انظر المحتسب ٢ / ١٣١ ، التبيان ٢ / ٩٩٨.

٥٦

وقرأ اليمانيّ : «وأتباعك» بالجر (١) عطفا على الكاف في «ذلك» ، وهو ضعيف أو ممنوع عند البصريين (٢) ، وعلى هذا فيرتفع «الأرذلون» على خبر ابتداء مضمر ، أي : هم الأرذلون (٣) وقد تقدم مادّة «الأرذل» (٤) في هود (٥).

فصل

الرذالة : الخسّة والذّلة ، وإنما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا.

وقيل : كانوا من (٦) أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة (٧) والحجامة (٨).

وهذه الشبهة في غاية الركاكة ، لأن نوحا ـ عليه‌السلام (٩) ـ بعث إلى الخلق كافة ، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها ، فأجابهم نوح عنه بالجواب الحق ، وهو قوله : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٠) أي : ما أعلم أعمالهم وصنائعهم ، وليس عليّ من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء ، إنما كلّفت أن أدعوهم إلى الله ولي منهم ظاهر أمرهم (١١).

قوله : (وَما عِلْمِي) يجوز في «ما» (١٢) وجهان :

أظهرهما : أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء ، و «علمي» خبرها (١٣) ، والباء متعلقة به.

والثاني : أنها نافية ، والباء متعلقة ب «علمي» أيضا ، قاله الحوفي (١٤). ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلام به (جملة) (١٥)(١٦).

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ٣١.

(٢) ووجه ضعفه عند البصريين أو امتناعه أنه لا بد من إعادة حرف الجر مع المعطوف وحجتهم في ذلك أن الجار مع المجرور بمنزلة شيء واحد ، فإذا عطفت على الضمير المجرور ـ والضمير إذا كان مجرورا اتصل بالجار ، ولم ينفصل منه ، ولهذا لا يكون إلا متصلا ، بخلاف ضمير المرفوع والمنصوب ـ فكأنك قد عطفت الاسم على الحرف الجار ، وعطف الاسم على الحرف لا يجوز. وأجاز ذلك الكوفيون محتجين بقراءة حمزة في أول سورة النساء : «وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ» بجر «الأرحام» عطفا على الهاء في «به». انظر الإنصاف المسألة (٦٥) ٢ / ٤٦٣ ـ ٤٧٤.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٣١.

(٤) في ب : الأرذلون.

(٥) عند قوله تعالى : «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» [٢٧].

(٦) من : سقط من ب.

(٧) حاك الثوب يحوكه حوكا وحياكا وحياكة : نسجه. اللسان (حوك).

(٨) الحجامة : حرفة الحجام ، والحجّام : محترف الحجامة. المعجم الوسيط (حجم) وانظر الكشاف ٣ / ١٢٠ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٥.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٥.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٢٢٧.

(١٢) في ب : فيه.

(١٣) قال الزمخشري :(«وما علمي» أيّ شيء علمي) الكشاف ٣ / ١٢٠.

(١٤) انظر البحر المحيط ٧ / ٣١.

(١٥) المرجع السابق ، وهو اعتراض أبي حيان.

(١٦) ما بين القوسين في ب : جملة اسمية.

٥٧

قوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) «إن» نافية ، أي : ما حسابهم إلا على ربي ، ومعناه: لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى (١).

قوله : (لَوْ تَشْعُرُونَ) جوابها محذوف (٢) ، ومفعول «تشعرون» (٣) أيضا (٤) ، والمعنى (لَوْ تَشْعُرُونَ) تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم (٥).

قال الزجاج : الصناعات (٦) لا تضرّ في الدّيانات (٧). وقيل : معناه : إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ، ويوفقهم ويخذلكم (٨).

وقرأ الأعرج وأبو زرعة : «لو يشعرون» بياء الغيبة (٩) ، وهو التفات ، ولا يحسن عوده على المؤمنين (١٠).

قوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم فبيّن أن الدين يمنعه عن طردهم ، وقد آمنوا به ، وبيّن أن الغرض من تحمل الرسالة كونه نذيرا ، فقال : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : إني أخوّف من كذبني ولم يقبل مني ، فمن قبل فهو القريب ، ومن رد فهو البعيد ، فلما أجابهم بهذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد ، فقالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)(١١).

قال مقاتل والكلبي : من المقتولين بالحجارة (١٢).

وقال الضحاك : من المشئومين (١٣). فعند ذلك حصل اليأس لنوح من فلاحهم ، وقال : (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ). وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة ، ولكنه أراد : لا أدعوك عليهم لما آذوني ، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) أي : فاحكم بيني وبينهم (١٤). و «فتحا» يجوز أن يكون مفعولا به بمعنى المفتوح ، وأن يكون مصدرا مؤكدا (١٥). والفتاحة : الحكومة. والفتّاح : الحكم ، لأنه يفتح المستغلق (١٦). والمراد : إنزال العقوبة عليهم لقوله عقيبه : «ونجّني» ، ولو لا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى (١٧).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٥.

(٢) انظر القرطبي ١٣ / ١٢١.

(٣) في الأصل : تحشرون. وهو تحريف.

(٤) وقدره أبو حيان : بأن المعاد حق والحساب حق. البحر المحيط ٧ / ٣١.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٢٢٧.

(٦) في ب : الصانع. وهو تحريف.

(٧) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٩٥.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٢٢٧.

(٩) المختصر (١٠٧) ، البحر المحيط ٧ / ٣١.

(١٠) انظر القرطبي ١٣ / ١٢١.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٥.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٢٢٧.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٥.

(١٥) انظر التبيان ٢ / ٩٩٩.

(١٦) انظر الكشاف ٣ / ١٢١.

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٥.

٥٨

قوله : (وَنَجِّنِي) المنجّى منه محذوف لفهم المعنى ، أي : مما يحلّ بقومي (١) ، و (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بيان لقوله : (مَنْ (٢) مَعِيَ).

قوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ).

قال الزمخشري : الفلك : السفينة ، واحدها : فلك ، قال الله تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) [النحل : ١٤] فالواحد بوزن (قفل) (٣) والجمع بوزن (أسد) (٤) والمشحون : «المملوء الموقر» ، يقال : شحنها عليهم خيلا ورجالا أي ملأها (٥) والشّحناء : العداوة لأنهما تملأ الصدور إحنا(٦). والفلك هنا مفرد بدليل وصفه بالمفرد ، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة (٧).

فصل

دلّت الآية على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة ، وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم من الحيوانات ، ثم إنه تعالى بعد أن نجاهم أغرق الباقين فقال : (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٨).

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٤٠)

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) الآيات. الكلام في فاتحة هذه القصة كالكلام في فاتحة قصة نوح. وقوله : (تَعْبَثُونَ) جملة حالية من فاعل «تبنون» (٩). والرّيع ـ بكسر الراء وفتحها ـ : جمع «ريعة» وهو في اللغة : المكان المرتفع (١٠) ، قال ذو الرمّة :

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٣٢.

(٢) في ب : ومن.

(٣) في النسختين : فعل. والتصويب من الكشاف.

(٤) الكشاف ٣ / ١٢١.

(٥) ما بين القوسين زيادة يظهر بها المعنى.

(٦) انظر اللسان (شحن).

(٧) عند قوله تعالى : ... «وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» [البقرة : ١٦٤].

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٩٩.

(١٠) انظر اللسان (ريع).

٥٩

٣٩١٦ ـ طراق الخوافي مشرق فوق ريعة

ندى ليله في ريشه يترقرق (١)

وقال أبو عبيدة : وهو (٢) الطريق (٣) ، وأنشد للمسيّب بن علس (٤) يصف ظعنا :

٣٩١٧ ـ في الآل يخفضها ويرفعها

ريع يلوح كأنّه سحل (٥)

والرّيع ـ بالفتح ـ : ما يحصل من الخراج.

فصل

قال الوالبي عن ابن عباس : الرّيع : كل شرف (٦). وقال الضحاك ومقاتل : بكل طريق (٦) وهو رواية العوفي عن ابن عباس (٧). وعن مجاهد قال : هو الفج بين جبلين (٨) وعنه أيضا أنه المنظر (٨). و «الآية» : العلم.

قال ابن عباس : كانوا يبنون بكل ريع علما يعبثون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود (٩) ـ عليه‌السلام (١٠) ـ. وقيل : كانوا يبنون في (١١) الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم ، فنهوا عنه ، ونسبوا إلى العبث(١٢). وقال سعيد بن جبير ومجاهد : هي بروج الحمام ، لأنهم كانوا يلعبون بالحمام (١٣).

قوله (١٤) : (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) قال مجاهد : قصورا مشيّدة (١٥).

وقال الكلبي : هي الحصون (١٦). وقال قتادة : مآخذ الماء يعني : الحياض ، واحدتها مصنعة (١٧). (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ). العامة على تخفيفه مبنيا للفاعل. وقتادة : بالتشديد مبنيا للمفعول (١٨) ، ومنه قول امرىء القيس :

٣٩١٨ ـ وهل ينعمن إلّا سعيد مخلّد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال (١٩)

__________________

(١) البيت من بحر الطويل ، قاله ذو الرمة. وقد تقدم.

(٢) في ب : هو.

(٣) مجاز القرآن ٢ / ٨٨.

(٤) هو زهير بن علس بن مالك ، والمسيّب لقب لقّب به ببيت ، وهو من شعراء بكر بن وائل المعدودين وخال الأعشى. الخزانة ٣ / ٢٤٠.

(٥) البيت من بحر الكامل قاله المسيب بن علس ، وهو في تفسير ابن عطية ١١ / ١٣٥ ، القرطبي ١٣ / ١٢٢ ، اللسان (ريع) ، البحر المحيط ٧ / ٢٩ ـ ٣٠ ، شرح شواهد الكشاف (١٠٠) الآل : السراب.

الرّيع : الطريق. وهو موطن الشاهد. يلوح : يتراءى. السحل : الثوب الأبيض.

(٦) انظر البغوي ٦ / ٢٢٩.

(٧) في ب : رضي الله عنهما.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٢٢٩.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٧.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) في : تكملة من الفخر الرازي.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥٧.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ٢٢٩.

(١٤) قوله : سقط من الأصل.

(١٥) انظر البغوي ٦ / ٢٢٩.

(١٦) المرجع السابق.

(١٧) المرجع السابق.

(١٨) قال ابن خالويه :(«لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» قتادة ، «تخلّدون» بالتشديد أبو العالية) المختصر (١٠٧). وكذا في البحر المحيط ٧ / ٣٢ ، وقال ابن جني (ومن ذلك قراءة قتادة : «لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ») المحتسب ٢ / ١٣٠.

(١٩) البيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس ، وهو في ديوانه (٢٧) ، المحتسب ٢ / ١٣٠ ، الحماسة ـ

٦٠