اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه (١) وبين (٢) حمزة بن عبد المطلب فلما تزوج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية (٣) ، ونسخ التبني. واعلم أن الظهار كان في الجاهلية طلاقا حتى كان للزوج أن يتزوج بها من جديد.

قوله : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ) مبتدأ وخبر أي دعاؤكم الأدعياء أبناء مجرد قول لسان (٤) من غير حقيقة ، والأدعياء جمع دعيّ بمعنى مدعوّ فعيل بمعنى مفعول وأصله دعيو فأدغم (٥) ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس ؛ لأن «أفعلاء» إنما يكون جمعا لفعيل المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل نحو : تقيّ وأتقياء ، وغنيّ وأغنياء ، وهذا وإن كان فعيلا معتل اللام إلا أنه بمعنى مفعول فكان قياس جمعه على فعلى كقتيل وقتلى ، وجريح ، وجرحى ، ونظير هذه (الآية (٦) في) الشذوذ ، قولهم : أسير وأسراء ، والقياس: أسرى (٧) ، وقد سمع فيه الأصل (٨). واعلم أن الله تعالى قال ههنا (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) وقال في قوله : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) [التوبة : ٣٠] يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضا في قلب ، فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم.

قوله : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ) أي قوله الحق (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي يرشد إلى سبيل الحق وهذا إشارة إلى أنه ينبغي للعاقل أن يكون قوله إما من عقل أو شرع فإذا قال : فلان بن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو شرع بأن يكون ابنه شرعا وإن لم تعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدا وكانت (٩) الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول : إنه ابنه شرعا ، وفي الدّعيّ لم توجد (١٠) الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق ، لأن أباه مشهور ظاهر وأشار فيه من وجه آخر إلى أن قولهم هذه زوجة الابن فتحرم فقال الله هي لك حلال فقولهم لا اعتبار له لأنه بأفواههم كأصوات البهائم وقوله الحقّ فيجب اتباعه وهو يهدي السبيل فيجب اتباعه لكونه حقا ولكونه هاديا (١١).

__________________

(١) في «ب» بنته.

(٢) في «ب» من حمزة.

(٣) ذكره القرطبي في ١٤ / ١١٨ و ١٤ / ١٩٤ وقد روى الأئمة أن ابن عمر قال : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت : «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ».

(٤) في «ب» للسان.

(٥) بعد أن اجتمعت الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم كانت مرحلة الإدغام اليائيّ.

(٦) سقط من «ب».

(٧) ذكره أبو حيان في البحر ٧ / ٢١٢ والدر ٤ / ٣٦٥.

(٨) الدر ٤ / ٣٦٥ ويقصد أنه سمع دعوى جمعا «لدعيّ» ولم أعثر على جمع تلك الكلمة بهذا الوزن.

(٩) الفخر ٢٥ / ١٩٢.

(١٠) في «ب» لم توجب.

(١١) نقله الفخر في التفسير ٢٥ / ١٩٢.

٥٠١

قوله : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) (أي الذين ولدوهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي أعدل قال عبد الله بن عمران زيد بن حارثة مولى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند) (١) الله. واعلم أن قوله : هو أقسط أي دعاؤهم لآبائهم فهو مصدر قاصر لدلالة فعله عليه كقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] قال ابن الخطيب (٢) وهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون ترك الإضافة للعموم (٣) أي اعدلوا كل كلام كقولك الله أكبر.

الثاني : أن يكون ما تقدم منويّا كأنه (قال (٤)) : ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد فقال : (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي قولوا لهم إخواننا فإن كانوا مجرّدين فقولوا موالي فلان ثم قال : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي قبل النهي فنسبتموه إلى غيره.

قوله : (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) يجوز في «ما» وجهان :

أحدهما : أن تكون مجرورة المحل عطف على («ما (٥)») المجرورة قبلها بفي ، والتقدير : ولكن الجناح فيما تعمدته.

الثاني : أنها مرفوعة المحل بالابتداء والخبر محذوف ، تقديره تؤاخذون به أو عليكم فيه الجناح (٦) ونحوه.

قوله : «إن (كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) المغفرة هي أن يستر القادر قبيح من تحت قدرته حتى أنّ العبد إذا ستر عيب سيده مخافة عقابه لا يقال غفر له والرحمة هي أن يميل بالإحسان إلى المرحوم لعجز المرحوم لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه (٧) وكذلك من أحسن إلى غيره رجاء في خيره أو عوضا عما صدر منه آنفا من الإحسان لا يقال : رحمه إذا علم هذا فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلسا عاجزا فرحمه وأعطاه ، وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه (ولم (٨)) يقتصر عليه بل ستر ذنوبه (٩).

قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(٢) الفخر ٢٥ / ١٩٣.

(٣) هكذا في الرازي المرجع السابق وما في «ب» المعلوم وهو تحريف.

(٤) ساقط من «ب» وهي في تفسير الرازي.

(٥) ساقط من «ب».

(٦) ذكره في الدر المصون ٤ / ٣٦٥ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٦٤ والفراء في معانيه ٢ / ٣٣٥ والعكبري في التبيان ١٠٥١.

(٧) ذكره الإمام الفخر في تفسيره (٢٥ / ١٩٣).

(٨) ساقط من «ب».

(٩) نقله الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ١٩٣ و ١٩٤.

٥٠٢

بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً)(٨)

قوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه ووجوب طاعته عليهم وقال ابن عباس (وقتادة) (١) وعطاء يعني إذا دعاهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أولى بهم من طاعة أنفسهم. وقال ابن زيد : النبي (٢) أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى بينهم كما كنت (٣) أولى بعبدك فيما قضيت عليه ، وقيل : أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس (٤) دونه ، وقيل : كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يخرج إلى الجهاد فيقول قوم : نذهب فنستأذن(٥) من آبائنا وأمهاتنا. فنزلت (٦) (الآية (٧)) ، وروى أبو هريرة أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدّنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيّما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دنيا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» (٨). قوله: (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي مثل أمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن ، والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب قال الله تعالى : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الأحزاب : ٣٣] ولا يقال لبناتهن هن أخوات للمؤمنين ولا لإخوانهن (٩) وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم (١٠) وقال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وهي أخت أم المؤمنين ، واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات. قيل : كن أمهات المؤمنين (١١) جميعا وقيل : كن أمهات المؤمنين دون النساء(١٢).

روى الشعبيّ عن مسروق (١٣) أن امرأة قالت لعائشة يا أمه (١٤) فقالت : لست لك بأم

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من «أ» وانظر زاد المسير ٦ / ٣٥٢.

(٢) ذكره الشوكاني في فتح القدير ٤ / ٢٦١.

(٣) في «ب» كما أنت.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في «ب» نستأذن بدون فاء.

(٦) المرجع السابق.

(٧) ساقط من «ب».

(٨) الحديث أورده الإمام البخاري ٣ / ١٧٤.

(٩) في «ب» ولا لإخوتهن.

(١٠) في «ب» وخالاتهن.

(١١) في «ب» والمؤمنات جميعا.

(١٢) وانظر : القرطبي ١٤ / ١٢٣.

(١٣) هو مسروق بن الأجدع الهمذانيّ أبو عائشة الكوفي الإمام القدوة عن أبي بكر وعمر ، وعلي ومعاذ وعنه زوجته ، والشعبي وغيرهما مات ٦٣ ه‍ انظر : الخلاصة ٣٧٤.

(١٤) في «ب» يا أماه ـ بألف ـ.

٥٠٣

إنما أنا أمّ رجالكم فدل هذا على أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن.

فصل

قال ابن الخطيب : هذا تقرير آخر ، وذلك لأن زوجة النبي ـ عليه‌السلام (١) ـ ما جعلها الله في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبي ـ عليه‌السلام (٢) ـ فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت زوجاته في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره.

فإن قيل : كيف قال : وأزواجه أمهاتهم وقال من قبل : (ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) فأشار إلى أن غير من ولدت لا تصير أمّا بوجه ، ولذلك قال في موضع آخر (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)؟.

فالجواب : أن قوله تعالى في الآية المتقدمة : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) جواب عن هذا والمعنى أن الشرع مثل الحقيقة ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة كما أن امرأتين (إذا (٣)) ادّعت كل واحدة ولدا (بعينه (٤)) ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع بل في بعض المواضع (على المندوب (٥)) تغلب الشريعة على الحقيقة فإن الزاني لا يجعل أبا لولد الزنا وإن كان ولده في الحقيقة وإذا كان كذلك فالشارع له الحكم فقول القائل : هذه أمي (٦) قول (يفهم (٧)) لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة وأما قول الشارع فهو حق فله أن يتصرف في الحقائق كيف يشاء ، ألا ترى أن الأم ما صارت أمّا إلا بخلق الله الولد في رحمها ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها فإذا كان الذي يجعل الأم الحقيقة أمّا فله أن يسمي أي امرأة أمّا ويعطيها حكم الأمومة. وأما من جهة المعقول في جعل أزواجه أمهاتنا هو أن الله تعالى جعل زوجة الأب محرمة على الابن لأن الزوجية تحصل (٨) الغيرة فإن تزوج (٩) بمن كانت تحت الأب يفضي إلى قطع الرحم والعقوق (١٠) ولكن النبي ـ عليه‌السلام (١١) ـ أشرف وأعلى درجة من الأب وأولى بالإرضاء فإن الأب يربي في الدنيا فحسب والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يربي في الدنيا والآخرة فوجب أن يكون زوجاته مثل زوجات الآباء.

__________________

(١) في «ب» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) في «ب» كذلك.

(٣ و ٤) سقطتا من «ب».

(٥) هي في التفسير الكبير للإمام الرازي بلفظ على المندور ولكنها ساقطة من «ب».

(٦) في «ب» هذه أمي يقول له نعم لا عن الحقيقة الخ.

(٧) تصحيح من الفخر الرازي في النسختين.

(٨) وفيه «محل» محل الغيرة.

(٩) في الفخر فإن تزوج الابن.

(١٠) في «ب» والشرف.

(١١) في «ب» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٠٤

فإن قيل : فلم لم يقل إن النبي أبوكم ويحصل هذا المعنى أو لم يقل أزواج أبيكم؟.

فالجواب : أن الحكمة فيه هو النبي (عليه‌السلام (١)) (مما بينا (٢)) أنه إذا أراد زوجة واحد من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبي ـ عليه (الصلاة (٣) و) السلام (٤) ـ فلو قال : أنت أبوهم (٥) لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد ، ولأنه لما جعل أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدمة على الأب لقوله (ـ عليه‌السلام ـ) (٦) : «ابدأ بنفسك ثمّ بمن تعول» (٧) ولذلك فإن (٨) المحتاج (إلى القوت (٩)) لا يجب عليه صرفه إلى (الأب ويجب عليه (١٠) صرفه إلى) النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم إن أزواجه لهم حكم أزواج الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقية والرضاعة.

قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) يعني في الميراث قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة (١١) قال الكلبي : إخاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بين الناس كان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته حتى (١٢) نزلت هذه الآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) في حكم الله من المؤمنين الذين آخى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بينهم والمهاجرين يعني ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة فصارت بالقرابة وبعضهم يجوز فيه وجهين :

أحدهما : أن يكون بدلا من أولو.

والثاني : أنه مبتدأ ، وما بعده خبر ، والجملة خبر (١٣) الأول.

قوله : (فِي كِتابِ اللهِ) يجوز أن يتعلق «بأولي» إلا أن أفعل التفضيل يعمل في الظرف ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في أولو والعامل فيها أولو لأنها شبيهة بالظرف ولا جائز أن يكون (١٤) حالا (من أولو (١٥)) للفصل بالخبر ولأنه لا عامل (١٦) فيها.

__________________

(١ و ٢ و ٣) سواقط من «ب».

(٤) انظر : الفخر الرازي ٢٥ / ١٩٥.

(٥) في «ب» فلو قال النبي أبوكم.

(٦) ساقط من «أ».

(٧) الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه باب الزكاة برقم ٤١.

(٨) في «ب» كان.

(٩) ساقط من «ب».

(١٠) ساقط من «ب».

(١١ و ١٢) حكاهما القرطبي في ١٤ / ١٢٤.

(١٣) قرره العكبري في التبيان ١٠٥٢ والدر المصون ٤ / ٣٦٦.

(١٤) المرجعان السابقان والبحر المحيط ٧ / ١٣.

(١٥) ساقط من «ب».

(١٦) وهذا رأي أبي حيّان المرجع السابق.

٥٠٥

قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنها «من» الجارة للمفضول كهي في «زيد أفضل من عمرو» والمعنى وأولو الأرحام أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين الأجانب.

والثاني : أنها للبيان جيء بها بيانا لأولي الأرحام فيتعلق بمحذوف أي (أعني) والمعنى وأولو الأرحام من المؤمنين أولى بالإرث من الأجانب (١).

قوله : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا) هذا استثناء من غير الجنس وهو مستثنى من معنى الكلام وفحواه إذ التقدير وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في الإرث وغيره لكن (٢) إذا فعلتم مع غيرهم من (٣) أوليائكم خيرا كان لكم ذلك وعدى تفعلوا (بإلى) لتضمنه معنى تدخلوا ، وأراد بالمعروف الوصية للذين يتولونه من المعاقدين (٤) يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى وإذا لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة وأباح أن يوصي (لمن يتولاه (٥)) بما أحب ثلث ماله. قال مجاهد : أراد بالمعروف المعرفة (٦) وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة يعني وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين أولى ببعض أي لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) أي إلا أن تعرضوا (٧) لذوي قراباتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة وهذا قول عطاء وقتادة وعكرمة (٨).

فإن قيل : أي تعلق للميراث والوصية بما تقدم.

فالجواب : قال ابن الخطيب وجوابه من وجهين :

أحدهما : أن غير النبي في حال حياته لا يصير إليه (٩) مال الغير وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته والنبي ـ عليه‌السلام ـ في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أراده ولا يصير ماله لورثته بعد وفاته فكأن الله تعالى عوض النبي عن قطع ميراثه بقدرته بأن له تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه النبي يرجع إليهم حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي (عليه (١٠) السلام) إذا أراد شيئا يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت (١١) عليهم ، ولا يرجع إليهم فقال الله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)

__________________

(١) التبيان ١٥٢ والدر المصون ٤ / ٦٦ والبحر المحيط ٧ / ٢١٣.

(٢) المرجعين السابقين.

(٣) في «ب» أي غير أوليائكم.

(٤) في «ب» المعاهدين.

(٥) سقط من «ب».

(٦) نقله في تفسير القرطبي ١٤ / ١٢٦.

(٧) في «ب» إلا أن توصوا.

(٨) انظر : المرجع السابق.

(٩) في «ب» لا يصير له وهو الموافق لما في تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١٩٦.

(١٠) ساقط من «ب».

(١١) هكذا هي هنا وفي تفسير الفخر وما في «ب» فيعود.

٥٠٦

يعني التوارث بينكم فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا وهو أنه أولى في حياته بما في أيديكم.

الثاني : أن الله تعالى ذكر دليلا على أن النبي عليه‌السلام أولى (١) فيصير أولى من قريبه فكأنه بالواقع قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا لمن أريده فكذلك جعل الله تعالى لنبيه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره ثم قال (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) مكتوبا. قال القرطبي (٢) : أراد بالكتاب القرآن وهو آية المواريث (٣) والوصية وقيل : اللوح المحفوظ.

قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) الآية وجه تعلق (٤) هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه‌السلام بالاتقاء وقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) وأكده بالحكاية التي خشي (فيها) (٥) منهم ، خفّف عنه لكي لا يخشى أحدا غيره وبين أنه لم يرتكب (٦) أمرا يوجب الخشية بقوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وأكده بوجه آخر فقال : (وَإِذْ أَخَذْنا) كأنه قال : اتق الله ولا تخف أحدا واذكر أن الله (أخذ ميثاق) (٧) النبيين في أنهم مبلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع والمراد من الميثاق العهد الذي بينه في إرسالهم وأمرهم بالتبليغ وأن يصدق بعضهم بعضا قال مقاتل : أخذنا ميثاقهم (٨) على أن يدعوا الناس إلى عبادته ، ويصدق بعضهم بعضا وينصحوا لقومهم.

قوله : (وَإِذْ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون منصوبا «باذكر» أي اذكر إذ أخذنا (٩).

والثاني : أن يكون معطوفا على محلّ : (فِي الْكِتابِ) فيعمل فيه «مسطورا» أي كان مسطورا في الكتاب (و (١٠)) وقت أخذنا.

قوله (١١) : (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) خص هؤلاء

__________________

(١) في «ب» (أولى بالمؤمنين وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ثم إذ أراد أحد برّا مع صديق فيوصي له بشيء فيصير أولى من قريبه الخ.

(٢) الأصح أنه القرطبي وقد تقدمت ترجمته وانظر : القرطبي ١٤ / ١٢٧.

(٣) تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١٩٦.

(٤) كذا قرره الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ١٩٦.

(٥) في «ب» فيه وهو خطأ لأن الضمير يعود على الحكاية.

(٦) هكذا هي أيضا في تفسير الفخر ، وما في «ب» لم يترك.

(٧) في «ب» واذكر إذ أخذنا.

(٨) كذا قرره الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير ٦ / ٣٥٤.

(٩) هذا قول أبي البقاء في التبيان ١٠٥٢.

(١٠) ساقط من «ب».

(١١) وهذا رأي الحوفي وابن عطية انظر : البحر المحيط ٧ / ٢١٢.

٥٠٧

الخمسة بالذكر لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم من الرّسل ، وقدم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه أولهم في كتاب الله ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كنت أوّل النبيّين في الخلق ، وآخرهم في البعث (١) قال قتادة وذلك قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ (٢) نُوحٍ) فبدأ به (٣) ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال ابن الخطيب (٤) : وخص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة فذكرهما احتجاجا على قومهما (٥) ، وإبراهيم (عليه الصلاة (٦) والسلام) يقولون بفضله (وكانوا (٧) يتبعونه في الشعائر ، ونوحا لأنه كان أصلا ثانيا للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان) ، وعلى هذا لو قال قائل : فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول (٨) : خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الأبوّة للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب ، وأما نوح فكان مخلوقا للنبوة وأرسل للإنزال ولما كذّبوه أهلك قومه وأغرقوا ، وأما ذكر عيسى بقوله : عيسى ابن مريم والمسيح ابن مريم ؛ فهو إشارة إلى أنه لا أب له ، إذ لو كان لوقع التعريف به (٩).

قوله : (مِيثاقاً غَلِيظاً) هو الأول ، وإنما كرر لزيادة صفته وإيذانا بتوكيده (١٠) ، قال المفسرون : عهدا شديدا على (١١) الوفاء بما حملوا.

قوله : «ليسأل» فيها وجهان :

أحدهما : أنها لام كي أي أخذنا ميثاقهم ليسأل المؤمنين عن صدقهم والكافرين عن تكذيبهم فاستغنى عن الثاني بذكر مسبّبه وهو قوله : (وَأَعَدَّ). ومفعول صدقهم محذوف أي صدقهم عهدهم ، ويجوز أن يكون «صدقهم» في معنى تصديقهم ومفعوله محذوف أيضا أي عن تصديقهم الأنبياء (١٢).

قوله : (وَأَعَدَّ) يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن يكون معطوفا على ما دل عليه (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) ؛ إذ التقدير : فأثاب الصادقين وأعد للكافرين.

__________________

(١) انظر : تفسير القرطبي ١٤ / ١٢٧.

(٢) زاد المسير ٦ / ٣٥٤.

(٣) في «ب» فبدأ بالنبيّ.

(٤) انظر تفسيره ص ١٩٧ ج ٢٥.

(٥) هكذا هي هنا وفي تفسيره وما في «ب» : قومهم بالجمع.

(٦) زيادة من «ب».

(٧) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(٨) في «ب» نقول بدون فاء.

(٩) ذكره الرازي في تفسيره ٢٥ / ١٩٧.

(١٠) قرره السمين في الدر ٤ / ٣٦٦.

(١١) قاله القرطبي في تفسيره ١٤ / ١٢٧.

(١٢) ذكره أبو حيان في بحره ٧ / ٢١٣ وكذا السمين ٤ / ٣٦٦ ولقد رجح أبو حيان أن تكون اللام للصيرورة وهذا هو الوجه الثاني فيها فقال : «يحتمل أن تكون لام الصيرورة أي أخذ الميثاق على الأنبياء ليصير الأمر إلى كذا» البحر ٧ / ٢١٣ ، وانظر : الكشاف أيضا ٣ / ٢٥٢.

٥٠٨

والثاني : أنه معطوف على «أخذنا» ؛ لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين وأعد للكافرين ، وقيل : إنه حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول ، ومن الأول ما أثبت مقابله في الثاني والتقدير : ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما أجابوا رسلهم«و (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١).

فصل

قال المفسرون : المعنى أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الصادقين عن صدقهم يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم (٢) مع علمه أنهم صادقون بتبكيت من أرسلوا إليهم. وقيل : ليسأل الصادقين عن علمهم بالله عزوجل ، وقيل : ليسأل الصادقين بأفواههم (٣) عن صدقهم بقلوبهم (٤).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(١٧)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) الآية وهذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أيام الخندق ، واجتمع الأحزاب واشتد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم ، ونزلوا على المدينة وعمل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الخندق وكان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغا إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمنهم من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبد غير ربه فإنه القادر (٥)

__________________

(١) المرجعان السابقان وانظر : الدر المصون ٤ / ٣٦٧.

(٢) في «ب» والحكمة في سؤاله.

(٣) في «ب» عن أفواههم.

(٤) ذكر هذه الأوجه كلها الإمام القرطبي في تفسيره لأحكام القرآن ١٤ / ١٢٨.

(٥) في «ب» فإنه قادر بدون (ألف ولام).

٥٠٩

على كل الممكنات فكان قادرا على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم ضعفاء كما قهر الكافرين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم.

قوله : (إِذْ جاءَتْكُمْ) يجوز أن يكون منصوبا «بنعمة» أي النعمة الواقعة في ذلك الوقت ، ويجوز أن يكون منصوبا باذكروا على أن يكون بدلا من «نعمة» بدل اشتمال (١) ، والمراد بالجنود الأحزاب وهم قريش وغطفان ، ويهود قريظة والنّضير (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً)(٢) وهي الصّبا ، قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي بنصر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالت الشمال إن الحرّة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا وروى مجاهد عن ابن عباس عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» (٣).

قوله : (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) قرأ الحسن بفتح الجيم ، والعامة بضمها (٤) ، و «جنودا» عطفا على «ريحا» و «لم تروها» صفة لهم ، وروي عن أبي عمرو ، وأبي بكر «لم يروها» (٥) بياء الغيبة ، وهم الملائكة ولم تقاتل الملائكة يومئذ فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحا باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط (٦) وأطفأت النيران وأكفأت القدور (٧) ، وجالت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هلّم إليّ فإذا اجتمعوا عنده قال : النّجا النّجا أتيتم لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال (٨). (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) وهذا إشارة إلى أن الله علم التجاءكم إليه وجاءكم (٩) فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداد والقصة المشهورة.

قوله : (إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من «إذ» الأولى (١٠) ، والحناجر جمع «حنجرة» وهي رأس الغلصمة والغلصمة منتهى الحلقوم ، والحلقوم مجرى الطعام والشراب ، وقيل : الحلقوم

__________________

(١) ذكره العكبري في التبيان ٥٢. والدر المصون ٤ / ٣٦٧.

(٢) لم أعثر على هذا الرأي وهذا الأثر بصيغته تلك وإنما ما عثرت عليه أن الريح التي نزلت عليهم ربح الصبا ، انظر : زاد المسير ٦ / ٣٥٧.

(٣) الحديث رواه الإمام البخاري في الاستسقاء ١ / ١٨٣.

(٤) من القراءات الشاذة ذكرها أبو حيان في البحر ٧ / ٢١٦ وانظر شواذ القرآن (١٩٣).

(٥) زاد المسير ٦ / ٣٥٧ وهي قراءة النخعي والجحدري ، والجوني وابن السّميفع ، وانظر كذلك مختصر ابن خالويه ١١٨ والقرطبي ١٤ / ١٤٤ بدون نسبة.

(٦) أي عروق الشعر.

(٧) أي كبت يقال : كفأت الإناء أي كببته ، وأكفأت الشّيء أي أملته انظر : اللسان : «ك ف أ» ٣٨٩٣.

(٨) انظر : زاد السير ٦ / ٣٥٧.

(٩) في «ب» ورجاكم.

(١٠) ذكره في الدر المصون ٤ / ٣٦٧. والتبيان ١٠٥٣.

٥١٠

مجرى النفس والمريء الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم (١) وقال الرّاغب (٢) : رأس الغلصمة من خارج(٣).

قوله : «الظّنونا» قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بإثبات ألف بعد نون «الظّنون» ولام الرسول في قوله : (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب : ٦٦] ولام السبيل في قوله : (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] وصلا ووقفا موافقة للرسم (٤) ؛ لأنهن رسمن في المصحف كذلك وأيضا فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة ، وهاء السكت تثبت وقفا للحاجة إليها وقد ثبتت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف كما تقدم في البقرة والأنعام فكذلك هذه الألف ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بحذفها في الحالين (٥) ؛ لأنها لا أصل لها وقولهم : أجريت الفواصل مجرى القوافي غير معتدّ به لأن القوافي (٦) يلتزم الوقف عليها غالبا ، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تشبّه بها ، والباقون بإثباتها وقفا وحذفها وصلا إجراء للفواصل مجرى القوافي في ثبوت ألف الإطلاق (٧) كقوله :

٤٠٦٩ ـ استأثر الله بالوفاء وبالعدل

وولّى الملامة الرّجلا (٨)

وقوله :

٤٠٧٠ ـ أقلّي اللّوم عاذل والعتابا

وقولي إن أصبت لقد أصابا (٩)

ولأنها كهاء السكت وهي تثبت وقفا وتحذف وصلا ، قال شهاب الدين : «كذا يقولون تشبيها للفواصل بالقوافي وأنا لا أحب هذه العبارة فإنها منكرة (١٠) لفظا». ولا خلاف في قوله (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أنه بغير ألف في الحالين.

__________________

(١) ذكره أيضا في الدر المصون ٤ / ٣٦٧ والقرطبي ١٤ / ١٤٥.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المفردات ١٣٣.

(٤) انظر الإتحاف ٣٥٣ والسبعة ٥١٩ و ٩٢٠ وإبراز المعاني ٦٤٥ و ٦٤٦ والنشر ٢ / ٣٤٧ وحجة ابن خالوية ٢٨٩.

(٥) المراجع السابقة.

(٦) في «ب» يلزم.

(٧) ذكره في الدر المصون ٤ / ٣٧٨.

(٨) البيت من المنسرح وهو للأعشى وهو فيه يخبرنا أن الكمال لله وحده بينما النقص صفة من صفات الإنسان تعالى الله عنه علوا كبيرا. والبيت شاهد على ألف الإطلاق في «الرّجلا» فكان بالإمكان أن يقول : «الرجل» ولكنه أطلق وهنا يصحّ وكثير في كلامهم الشّعريّ وانظر : إبراز المعاني ٦٤٦ وديوانه ١٧٠.

(٩) من مشهور الأبيات الشعرية وهو من تمام الوافر ، لجرير وقوله : «عاذل» مرخم «عاذلة» علما ، والشاهد : «أصابا ، والعتابا» بألف أطلقت ناشئة عن إشباع فتحة الباء ، وذلك ـ كما قلت ـ كثير في الشعر ويروى : العتابن ، وأصابن ، وعليه فلا شاهد فيه حينئذ. فالألف قد أبدلت نونا وهو المسمى التنوين الغالي. وانظر : الكتاب ٤ / ٢٠٥ و ٢٠٨ والمقتضب ١ / ٣٧٥ والخصائص ١ / ١٧١ و ٢ / ٩٦ والإنصاف ٦٥٥ وابن يعيش ٤ / ١١٥ و ١٤٥ و ٩ / ٢٩ ، والخزانة ١ / ٦٩ ، ٧٤ ، وديوانه ٨٩.

(١٠) انظر : الدر المصون ٤ / ٣٦٨.

٥١١

فصل

المعنى إذ جاؤوكم من فوقكم أي من فوق الوادي من قبل المشرق (١) وهم «أسد» ، وغطفان عليهم مالك بن عوف النّضريّ ، وعيينة بن حصن الفزاريّ في (٢) ألف من غطفان ومنهم طلحة بن خويلد الأسديّ في بني أسد ، وحييّ بن أخطب في يهود بني قريظة (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي من بطن الوادي من قبل المغرب وهم قريش وكنانة عليهم أبو سفيان بن حرب ومن معه وأبو الأعور بن سفيان السّلمي من قبل الخندق ، وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بني النّضير من ديارهم (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) مالت وشخصت (٣) من الرعب ، وقيل : مالت (٤) عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع ، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف (٥). قال الفراء معناه أنهم جبنوا (٦) ، وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره ؛ لأن القلب (٧) عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة (٨) وقد يفضي إلى أن يسدّ مخرج النفس فلا يقدر المرء (أن) يتنفس ويموت من الخوف. (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) وهو اختلاف الظنون ، فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم.

فإن قيل : المصدر لا يجمع فما الفائدة من جمع الظنون؟.

فالجواب : لا شك أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل (٩) مصدرا كما يقال : «ضربته سياطا» و «أدبته مرارا» فكأنه قال : ظننتم ظنّا (١٠) جاز أن يكونوا مصيبين فإذا قال : ظنونا بين أن فيهم من كان ظنه كاذبا لأن الظنون قد تكذب كلها ، وقد تكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد كما إذا رأى جمع جسما من بعيد فظنه بعضهم أنه زيد ، وآخرون أنه عمرو ، وآخرون أنه بكر ، ثم ظهر لهم الحق قد يكونون

__________________

(١) انظر : القرطبي ١٤ / ١٤٤.

(٢) في «ب» من.

(٣) قال ابن قتيبة في غريب القرآن ٣٤٨ : «عدلت» وانظر : القرطبي ١٤ / ١٤٤ و ١٤٥.

(٤) المرجع السابق.

(٥) وقيل : هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار «كاد» قال :

إذا غضبنا غضبة مضربّة

هتكنا حجاب الشّمس أو قطرت دما

أي كادت تقطر كذا قرره القرطبي في تفسيره الجامع ١٤ / ١٤٥.

(٦) في المعاني ٢ / ٣٣٦ ذكر أن الرجل منهم كانت تنتفخ رئته حتى ترفع قلبه إلى حنجرته من الفزع.

(٧) نقله الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ١٩٨.

(٨) في الفخر فيتقلص فيلتصق.

(٩) في «ب» يحصل.

(١٠) في تفسير الرازي : ظننتم ظنا بعد ظن أي ما ثبتم على ظن فالفائدة هي أن الله تعالى لو قال : تظنون ظنا جاز ....

٥١٢

كلهم مخطئين والمرئي شجر أو حجر ، وقد يكون أحدهم مصيبا ولا يمكن أن يكونوا كلهم مصيبين في ظنونهم ، فقوله : «الظّنون» أفادنا أن فيهم من أخطأ الظن ، ولو قال : «تظنون بالله ظنا» ما كان يفيد (١) هذا ، والألف واللام في «الظنون» يمكن أن تكون للاستغراق مبالغة بمعنى تظنون كل ظن ، لأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئا ، ويمكن أن تكون الألف واللام للعهد أي ظنونهم المعهودة ؛ لأن المعهود من المؤمن ظن الخير (٢) بالله كما قال عليه (الصلاة (٣) و) السلام : «ظنوا بالله خيرا» (٤) ومن الكافر الظن السوء كقوله تعالى : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧] وقوله : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [الأنعام : ١٤٨].

قوله : «هنالك» منصوب «بابتلي» (٥). وقيل : «بتظنّون» واستضعفه ابن عطية (٦) وفيه وجهان :

أحدهما : أنه ظرف مكان بعيد أي في ذلك المكان الدحض وهو الخندق.

والثاني : أنه ظرف زمان (٧) ، وأنشد بعضهم على ذلك :

٤٠٧١ ـ وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت

فهناك يعترفون أين المفزع (٨)

(وَزُلْزِلُوا) قرأ العامة بضم الزاي الأولى ، (وكسر (٩) الثانية على أصل ما لم يسم فاعله (١٠) ، وروى غير واحد عن «أبي عمرو» كسر الأولى (١١)) ، وروى الزمخشري عنه إشمامها كسرا (١٢) ، ووجه هذه القراءة أن يكون أتبع الزاي الأولى للثانية في الكسر ولم يعتد بالساكن لكونه غير حصين كقولهم : مبين ـ بكسر الميم ـ والأصل ضمها.

قوله : «زلزالا» مصدر مبيّن للنوع بالوصف والعامة على كسر الزاي ، وعيسى ، والجحدري فتحاها (١٣) وهما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على «فعلال»

__________________

(١) انظر : تفسير الرازي ٢٥ / ١٩٨ ، ١٩٩.

(٢) السابق.

(٣) زيادة من «ب».

(٤) لم أعثر عليه بصيغته هذه في الكتب المعتمدة للحديث وقد نقله الفخر الرازي ٢٥ / ١٩٨.

(٥) ذكره أبو حيان في بحره ٧ / ٢١٧ والسمين في الدر ٤ / ٣٦٨.

(٦) المرجعان السابقان.

(٧) الدر المصون ٤ / ٣٦٨.

(٨) البيت من الكامل ، وهو من تمامه للأفوه الأودي وشاهده في قوله : «وهناك» فهو اسم إشارة للزمان ، وهو ظرف للفعل كالآية تماما أي يعترفون في ذلك الوقت المكان الذي يلجأون إليه. وقد تقدم.

(٩) ما بين القوسين كله سقط من نسخة «ب».

(١٠) انظر : البحر المحيط ٧ / ٢١٧ والدر المصون ٤ / ٣٦٩.

(١١) قال في البحر : «وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤيّ عن أبي عمرو بكسر الزاي قاله ابن خالويه». انظر : بحر أبي حيان ٧ / ٢١٧ وانظر : مختصر ابن خالويه ١١٨.

(١٢) انظر الكشاف ٣ / ٢٥٤.

(١٣) مختصر ابن خالويه ١١٨ والبحر ٧ / ١١٧ وهي من الشواذ.

٥١٣

نحو : «زلزال ، وقلقال وصلصال (١) ، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو : صلصال بمعنى مصلصل وزلزال بمعنى «مزلزل» (٢).

فصل

قال المفسرون : معنى ابتلي المؤمنون اختبر المؤمنون بالحصر والقتال ليبين المخلص من المنافق ، والابتلاء من الله ليس لإبانة الأمر له بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة عزم على معاقبته على مخالفته ، وعنده غيره من العبيد أو غيرهم فيأمره بأمر عالما بأنه مخالف لكي يتبين الأمر عند الغير فيقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنه يظلم ، وقوله : (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أي أزعجوا وحركوا حركة شديدة فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله (٣) وجلت قلوبهم.

ثم قال : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) معتب بن قشير ، وقيل : عبد الله بن أبي وأصحابه(٤)(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك وضعف اعتقاد (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) وهذا تفسير الظنون وبيان لها ، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زورا ووعدهما كان غرورا حيث ظنوا بأن الغلبة واقعة لهم يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا والله الغرور (٥).

قوله : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي من المنافقين «وهم أوس بن قيظي وأصحابه» (٦) «يا أهل يثرب» يعني المدينة ، قال أبو عبيد (ة (٧)) : يثرب : اسم أرض ومدينة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٨) ـ في ناحية منها ، وفي بعض الأخبار : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نهى أن تسمى المدينة يثرب (٩) ، وقال : هي طابة كأنه كره هذه اللفظة ، وقال أهل اللغة (١٠) : يثرب اسم المدينة ، وقيل : اسم البقعة التي فيها المدينة ، وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن (١١) أو للعلمية والتأنيث ، وأما

__________________

(١) والقصد من ذلك التخفيف كما قرره الرضيّ في شرح الشافية ١ / ١٧٨ ٧ / ١١٧ قال : «وإنما جاز ذلك في المضاعف كالقلقال والزّلزال والخلخال قصدا للتخفيف ، لثقل التضعيف». وانظر : الدر المصون ٤ / ٣٦٩.

(٢) المرجع الأخير السابق.

(٣) كذا قرره الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير ٢٥ / ١٩٨ ، ١٩٩.

(٤) ذكره القرطبي في تفسيره ١٤ / ١٤٧ ، وابن الجوزي في تفسيره ٦ / ٣٥٩.

(٥) المرجعان السابقان.

(٦) المرجعان السابقان.

(٧) زيادة وتصحيح عن النسختين فهو أبو عبيدة : صاحب مجاز القرآن معمر بن المثنّى وقد عرفت به.

(٨) انظر : مجاز القرآن ٢ / ١٣٤ والقرطبي ١٤ / ١٤٨.

(٩) ذكره اللسان : «ث ر ب» ٤٧٥ قال : وروي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نهى أن يقال للمدينة يثرب ، وسماها طيبة كأنه كره الثرب لأنه فساد في كلام العرب.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) الدر المصون ٤ / ٣٦٩.

٥١٤

يترب ـ بالتاء المثناة وفتح الراء فموضع ضع آخر باليمن (١) ، قال الشاعر :

٤٠٧٢ ـ وعدت وكان الخلف منك سجيّة

مواعيد عرقوب أخاء بيترب (٢)

وقال :

٤٠٧٣ ـ وقد وعدتك موعدا لوقت

مواعيد عرقوب أخاه بيترب (٣)

(لا مُقامَ لَكُمْ) قرأ حفص ، وأبو عبد الرحمن السّلميّ بضم الميم ، ونافع وابن عامر بضم ميمه أيضا في الدخان (٤) في قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ)(٥) ولم يختلف في الأولى أنه بالفتح وهو (مَقامٍ كَرِيمٍ) والباقون بفتح الميم في الموضعين (٦) ، والضم والفتح مفهومان من سورة مريم عند قوله : (خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : ٧٣] فمعنى الفتح لا مكان لكم تنزلون به وتقيمون فيه. ومعنى الضم لا إقامة لكم فارجعوا إلى منازلكم عن اتباع محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧) ـ. وقيل : عن القتال إلى منازلكم (٨). (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ) وهم بنو حارثة وبنو سلمة (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي خالية ضائعة (٩) ، وهي مما يلي العدو ويخشى عليها السّراق (١٠).

قوله : «عورة» أي ذات عورة ، وقيل : منكشفة أي قصيرة (١١) الجدران للسارق وقال الشاعر:

٤٠٧٤ ـ له الشدّة الأولى إذا القرن أعورا (١٢)

__________________

(١) يقال : إنه موضع قريب من اليمامة اللسان : «ت ر ب» ٤٢٥.

(٢) من الطويل وهو لجبهاء الأشجعي والبيت هذا له عجز مشترك لبيت آخر للشماخ وموضع الشاهد : «بيترب» حيث إنها بالتاء لا بالثاء وهو موضع قريب من اليمن. انظر : ملحقات ديوان الشماح ٤٣٠ و ٤٣٢ وابن يعيش ٤٣٠ و ٤٣٢ والخصائص ٢ / ٣٠٧ واللسان مكررا وعد ٤٨٧١ و «ترب» ٤٢٥ والكتاب ١ / ٢٧٢ والهمع ٢ / ٩٢ ومجمع الأمثال للميداني ٢ / ٣١١ والسراج المنير ٣ / ٢٢٩ والدر المصون ٤ / ٣٦٩.

(٣) قيل : إنه للشماخ وصدره :

أوعدتني ما لا أحاول نفعه

 ...........

كما في ملحق ديوانه (٤٣٠) وعجزه مشترك مع صدر البيت السابق وانظر المراجع السابقة.

(٤) السبعة ٥٢٠ والإتحاف ٣٥٣ ومعاني الفراء ٢ / ٣٣٧.

(٥) الدخان الآية ٥١.

(٦) الإتحاف ٣٥٣ والسبعة ٥٢. والمعاني ٣ / ٣٣٧ والنشر ٢ / ٣٤٨ وحجة ابن خالويه ٢٨٩.

(٧) ذكره الفراء في معانيه ٢ / ٣٣٧ والقرطبي في ١٤ / ١٤٨.

(٨) وهذا رأى الكلبي والسابق رأي الحسن ذكرهما ابن الجوزي في زاد المسير ٦ / ٣٦٠.

(٩) انظر : غريب القرآن لابن قتيبة ٣٤٨.

(١٠) وهذا رأي الحسن ومجاهد انظر : زاد المسير ٦ / ٢٦١.

(١١) ذكره السمين في الدر ٤ / ٣٧٠.

(١٢) هذا شطر بيت من الطويل لم أعثر على تتمة له سابقة كانت أو لاحقة. وقال الفراء في معانيه ٢ / ٣٣٧ : ـ

٥١٥

وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء وأبو حيوة وآخرون : عورة بكسر الواو وكذلك (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ)(١) ، وهما اسم فاعل (٢) ، يقال : عور المنزل : يعور عورا وعورة فهو عور ، وبيوت عورة ، قال ابن جني : تصحيح الواو شاذ ، يعني حيث تحركت وانفتح ما قبلها ولم تقلب ألفا (٣) ، وفيه نظر لأن شرط ذاك في الاسم الجاري على الفعل أن يعتل فعله نحو مقام ومقال ، وأما هذا ففعله صحيح نحو عور(٤) ، وإنما صح الفعل وإن كان فيه مقتضى الإعلال لمدرك آخر وهو أنه في معنى ما لا يعل (٥) وهو «أعور» ولذلك لم نتعجب من «عور» وبابه ، وأعورّ المنزل : بدت عورته ، واعورّ الفارس بدا منه خلله (٦) للضّرب قال الشاعر :

٤٠٧٥ ـ متى تلقهم لم تلق في البيت معورا

ولا الصّيف مسجورا ولا الجار مرسلا (٧)

ثم كذبهم الله تعالى فقال : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً).

قوله : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) ولو دخل عليهم المدينة أو البيوت يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحزاب (مِنْ أَقْطارِها) جوانبها. وفيه لغة وتروى : أقتار ـ بالتاء(٨) ـ. والقطر : الجانب أيضا ومنه قطرته أي ألقيته على قطره فتقطّر أي وقع عليه قال :

٤٠٧٦ ـ قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلّا أنا (٩)

وفي المثل : «الانفضاض يقطّر الجلب» (١٠) تفسيره أن القوم إذا انفضوا أي فني زادهم احتاجوا إلى جلب الإبل ، وسمي القطر (١١) قطرا لسقوطه.

__________________

ـ «وأنشدني أبو ثروان : البيت يعني لأسد» ولم ينسبه كذلك في اللسان «ع ور» وشاهده : «القرن أعورا» بمعنى انكشف وظهر للعدو للمنال. وانظر : اللسان «ع ور» ٣١٦٧ والبحر ٧ / ٢١٨.

(١) من القراءات الشاذة غير المتواترة انظر : المحتسب ٢ / ١٧٦ ومختصر ابن خالويه ١١٨.

(٢) ذكره في التبيان ١٠٥٣ والدر المصون ٤ / ٢٧٠.

(٣) ذكره في المحتسب ٢ / ١٧٦ ووجهة نظره أنها من المواضع التي تقلب فيها الواو ياء.

(٤) ذكره السمين أيضا في الدر المصون ٤ / ٣٧٠.

(٥) نقله في الدر المصون ٤ / ٣٧٠.

(٦) في «ب» خلل الضرب.

(٧) هو من بحر الطويل ورواه القرطبي : «مفجوعا» بدلا من «مسجورا» وانظر البحر المحيط ٧ / ٢١٨ والقرطبي ١٤ / ٤٨ والدر المصون ٤ / ٣٧٠.

(٨) انظر الإبدال لابن السّكّيت باب الطاء والتاء ١٢٩ ، والأمالي لأبي علي القالي ٢ / ١٥٦.

(٩) البيت مختلف في نسبته فمن نسبه إلى عمرو بن معد يكرب وهو من بحر السريع ، ومن ناسب له لأبي بجيلة ومن ناسب له لبعض اللصوص. والمشهور الأول. وشاهده : «قطر» أي ما صرعه فألقاه وأوقعه إلا هو. وقد تقدم.

(١٠) ذكره في اللسان ٣٦٧٢ ومجمع الأمثال ٣ / ٣٨١.

(١١) وهو المطر.

٥١٦

قوله : (ثُمَّ سُئِلُوا) قرأ مجاهد «سويلوا» بواو ساكنة ثم ياء مكسورة «كقوتلوا» (١). حكى أبو زيد : هما يتساولان بالواو (٢) ، والحسن : سولوا (٣) بواو ساكنة فقط فاحتملت وجهين :

أحدهما : أن يكون أصلها : سيلوا كالعامة ، ثم خففت الكسرة فسكنت كقولهم في ضرب ـ بالكسر ـ ضرب بالسكون فسكنت الهمزة بعد ضمة فقلبت واوا نحو : بوس في بؤس.

والثاني : أن يكون من لغة الواو (٤) ، ونقل عن أبي عمرو أنه قرأ سيلوا بياء ساكنة بعد كسرة نحو : قيلوا (٥).

قوله : «لأتوها» قرأ نافع وابن كثير بالقصر بمعنى لجاؤوها وغشوها (٦) ، والباقون بالمد بمعنى لأعطوها ومفعوله الثاني محذوف تقديره : لآتوها السائلين. والمعنى ولو دخلت البيوت أو المدينة من جميع نواحيها ثم سئل أهلها الفتنة لم يمتنعوا من إعطائها ، وقراءة المد يستلزم قراءة القصر من غير عكس بهذا المعنى الخاص (٧).

قوله : (إِلَّا يَسِيراً) أي إلا تلبّثا أو إلا زمانا يسيرا (٨). وكذلك قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) [الأحزاب : ١٦ ـ ١٨] أي إلا تمتّعا أو إلا زمانا قليلا.

فصل

دلت الآية على أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلا لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله فقال تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضا فليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة وهي الشرك. (وَما تَلَبَّثُوا بِها) أي ما تلبثوا بالمدينة أو البيوت (إِلَّا يَسِيراً) وأن المؤمنين يخرجونهم قاله الحسن (٩) ، وقيل : ما تلبثوا أي(١٠) ما احتبسوا عن الفتنة ـ

__________________

(١) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١١٨ وفيه «سوئلوا» بالهمزة.

(٢) نقله عنه ابن جني في المحتسب ٢ / ١٧٧ ولم أجده في النوادر.

(٣) في المحتسب أنها : «سولوا» بضم السين قال : «ومن ذلك قراءة الحسن : «ثم سولوا الفتنة» مرفوعة السين ، ولا يجعل فيها ياء ولا يمدها» انظر : ٣٦٥ / ١٧٧ وانظر : شواذ القرآن للكرماني ١٩٣.

(٤) الدر المصون ٤ / ٣٧١.

(٥) وجدت في مختصر ابن خالويه : أن هذه القراءة بضم السين وكسر الياء «سيلوا» قال : «من غير همز عبد الوارث عن أبي عمرو والأعمش» المختصر ص ١١٨ ومن المحتمل أن تكون قراءة أخرى وتنسب إلى أبي عمرو وينظر أيضا شواذ القرآن ١٩٣.

(٦) السبعة لابن مجاهد ٥٢٠ والإتحاف للبناء ٣٥٤ ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣٣٧.

(٧) نقله السمين في الدر المصون ٤ / ٣٧١.

(٨) انظر : التبيان ١٠٥٣ والدر المصون ٤ / ٣٧١ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ١٩٥.

(٩) وهو قول السدي أيضا نقله في زاد المسير ٦ / ٣٦٢.

(١٠) وهو رأي قتادة. انظر : المرجع السابق.

٥١٧

وهي الشرك ـ إلا يسيرا ولأسرعوا للإجابة إلى الشرك طيّبة به أنفسهم وهذا قول أكثر المفسّرين.

قوله : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل غزوة الخندق (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) عدوهم أي لا ينهزمون قال يزيد بن رومان (١) : هم بنو حارثة هموا يوم الخندق أن يقتتلوا مع بني سلمة ، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها ، وقال قتادة : هم ناس كانوا (٢) قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة وقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ فساق الله إليهم ذلك وقال مقاتل (٣) والكلبي : هم سبعون رجلا جاءوا بايعوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة العقبة وقالوا اشترط لنفسك ولربك ما شئت فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ـ اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا : وإذا فعلنا ذلك (فما لنا (٥) يا رسول الله؟ قال : لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، قالوا : قد فعلنا فذلك) عهدهم ، وهذا القول ليس بمرضيّ ؛ لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين لم يكن فيهم شاكّ ولا من يقول مثل هذا القول وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يفرّوا فنقضوا العهد. وهذا بيان لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذرا وندما ثم هددهم بقوله : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) أي مسؤولا عنه.

قوله : (لا يُوَلُّونَ) جواب لقوله : (عاهَدُوا) لأنه في معنى : «أقسموا» (٦) وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة ولو جاء على حكاية المعنى لقيل : لا يولّي ، والمفعول الأول محذوف أي يولون العدو الأدبار (٧). وقال أبو البقاء : ويقرأ بالتشديد تشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم (٨). قال شهاب الدين : ولا (٩) أظن هذا إلا غلطا منه وذلك أنه إما أن يقرأ مع ذلك بلا النافية أو بلام التأكيد (١٠) ، والأول لا يجوز لأن

__________________

(١) القرطبي ١٤ / ١٥٠.

(٢) السابق.

(٣) السابق وانظر : زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ٦ / ٣٦٢ و ٣٦٣.

(٤) انظر : القرطبي ١٤ / ١٥٠.

(٥) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

(٦) ذكره في التبيان ١٠٥٣ والبيان ٢ / ٢٦٥ والدر المصون ٤ / ٣٧٢.

(٧) ذكره في البحر ٧ / ٢١٩ والدر المصون ٤ / ٣٧٢.

(٨) ذكره في التبيان ١٠٥٣.

(٩) ذكره في الدر المصون ٤ / ٣٧٢.

(١٠) قال ابن يعيش في شرح المفصل ٢١ / ج ٩ : «وأما الداخلة على الفعل فهي تدخل على الماضي والمستقبل فإذا دخلت على المستقبل فلا بد من النون الثقيلة أو الخفيفة ؛ فاللام للتأكيد وتفصل بين النفي والإيجاب». انظره في ٩ / ٢١ بتفصيل.

٥١٨

المضارع المنفي بلا لا يؤكد بالنون إلا ما ندر مما لا يقاس عليه والثاني فاسد المعنى.

قوله : (إِنْ فَرَرْتُمْ) جوابه محذوف لدلالة النفي قبله عليه أو متقدم عند من يرى (١) ذلك.

قوله : (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ) إذن جواب وجزاء ، ولما وقعت بعد عاطف جاءت على الأكثر وهو عدم إعمالها ولم يشذّ (٢) هنا ما شذّ في الإسراء ، فلم يقرأ بالنصب (٣) ، والعامة بالخطاب (٤) في «تمتّعون». وقرىء بالغيبة (٥).

فصل

المعنى : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي لا تمتعون بعد الفرار إلا مدة آجالكم وهي قليل. وهذا إشارة إلى أن الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما قدره الله لأنه كائن لا محالة فلو فررتم لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلا وهو ما بقي من آجالكم فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئا كثيرا (٦).

قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي) تقدم في البقرة ، قال الزمخشري : فإن (٧) قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر (٨) الكلام وأجري مجرى قوله :

متقلّدا سيفا ورمحا (٩)

__________________

(١) وسيبويه ممن قال بالتقديم فقد قال : (وقد تقول : إن أتيتني آتيك» أي آتيك إن أتيتني) انظر : الكتاب ٣ / ٦٦. وعلى ذلك فالجواب هو : «لن ينفعكم الفرار» النفي بينما رأي المبرد من البصريين والكوفيين غير ذلك ، انظر : الهمع ٢ / ٦٠.

(٢) يشير إلى الآية ١٧٦ : «وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً» فقد قرىء بنصب : «يلبثوا» على إعمال «إذا» ونصب الفعل «بأن» مضمرة وجوبا وهي قراءة أبي بن كعب ذكره أبو حيان في البحر ٦ / ٦٦ والفراء في معانيه ٢ / ٣٣٧ و ٣٣٨.

(٣) وقد عرف أنها قراءة أبي وانظر : المراجع السابق.

(٤) في «ب» على الخطاب.

(٥) ذكرها في البحر المحيط ٧ / ٢١٩ والدر المصون ٤ / ٢٧٢ والقرطبي ١٤ / ١٥١ ولقد ذكر القرطبي قراءة ثالثة وهي «وإذا لا تمتّعوا» نصب «بإذا». وانظر : إعراب القرآن للنحاس ٤ / ٣٠٧.

(٦) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٠٠.

(٧) الكشاف ٣ / ٢٥٥.

(٨) هكذا هي في الكشاف وما في «ب» فاختص وهو تحريف وبعد عن المعنى المراد.

(٩) هذا عجز بيت من الكامل وصدره :

يا ليت زوجك قد غدا

 ............

وشاهده في قوله : «متقلدا سيفا ورمحا» فإن الظاهر أن التقليد يقع على المعطوف عليه ولكن الأصح : ـ

٥١٩

أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع قال أبو حيان : أما الوجه الأول فيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها ، والثاني هو الوجه لا سيما إذا قدر مضاف محذوف أي يمنعكم من مراد الله (١) ، قال شهاب الدين : وأين الثاني من الأول ولو كان معه حذف جمل (٢)؟.

فصل

المعنى من ذا الذي يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءا هزيمة أو أراد بكم رحمة نصرة ، وهذا بيان لما تقدم من قوله : (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) وقوله : (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) تقرير لقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) أي ليس لكم شفيع أي قريب ينفعكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم (٣).

قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ

__________________

ـ أن هنا محذوف تقديره : متقلدا سيفا ومعتقلا رمحا لأن علماء اللغة قالوا إنه يقال : تقلّد فلان سيفه ولا يقال : رمحه. وانظر : الكشاف ٣ / ٢٥٥ والبحر المحيط ٧ / ٢١٩ ، والإنصاف ٦١٢ ، والكامل ١ / ٣٣٤ ، والمقتضب ٥١ والخصائص ٢ / ٤٣١ وشرح ابن يعيش ٢ / ٥٠ وأمالي المرتضى ١ / ٥٤ و ٢ / ٢٦٠ و ٣٧٥ والهمع ٢ / ٥١ والأشموني ٢ / ١٧٢ والبيضاوي ٢ / ١٢٩.

(١) البحر ٧ / ٢١٩.

(٢) في الدّرّ : «حمل» كما هنا وفي النسختين جملة وانظر : الدر المصون ٤ / ٣٧٣.

(٣) قاله الإمام الفخر الرازي ٢٥ / ٢٠١ و ٢٠٠.

٥٢٠