اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)(٢٦)

قوله تعالى (١) : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) قال ابن مسعود : قامتا على غير عمد بأمره. واعلم أنه ذكر من لوازم السماء والأرض قيامهما (٢) فإن الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها معجب (٣) من علوها وثباتها من غير عمد ، وهذا من اللوازم ، فإن الأرض لا تخرج عن مكانه الذي فيه.

(فإن (٤) قيل :) بأنها تتحرك في مكانها كالرّحاء ، ولكن اتفق العقلاء على أنها في مكانها (لا تخرج عنه (٥). وهذا آية ظاهرة لأن كونهما في الموضع الذي هما فيه ، وعلى الموضع الذي هما عليه) من الأمور الممكنة وكونهما في غير ذلك الموضع جائز فكان يمكن أن يخرجا منه ، فلمّا لم يخرجا كان ذلك ترجيحا للجائز على غيره وذلك لا يكون إلا بفاعل مختار ، وقالت الفلاسفة : كون الأرض في الكائن الذي هي فيه طبيعي لها لأنها أثقل الأشياء ، والثقيل يطلب المركز (٦) والخفيف يطلب المحيط وكون السماء في مكانها إن كانت ذات مكان فلذاتها ، فقيامها فيه لطبعها وأجيبوا بأنكم وافقتمونا بأن ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر لكن مقعّر الفلك لا يخالف محدبه (٧) في الطبع فيجوز حصول مقعره في موضع محدبه (٨) وذلك بالخروج والزوال فإذن تطرق الزوال إليه عن المكان ممكن لا سيما على السماء الدنيا فإنها ليست محدّدة للجهات على مذهبكم أيضا والأرض كانت يجوز عليها الحركة الدورية كما تقولون على السماء فعدمها وسكونها ليس إلا بفاعل مختار.

فصل

ذكر الله تعالى من كل باب أمرين : أما من الأنفس فقوله : ((خَلَقَكُمْ)(٩)) و (خَلَقَ لَكُمْ) واستدل بخلق (١٠) الزوجين ومن الآفاق السماء والأرض (فقال : (خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)) ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البرق والأمطار ومن لوازمها قيام السماء والأرض ؛ لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق ، والثاني يفيد الاستقرار ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين ، فإن قول أحدهما يفيد الظن ، وقول الآخر يفيد تأكيده ، ولهذا قال إبراهيم عليه (الصّلاة (١١) و) السلام : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٦٠].

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) في «ب» قيامها.

(٣) في «ب» يتعجب.

(٤) ما بين القوسين بياض وساقط من «ب».

(٥) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

(٦) في «ب» والثقيل لطلب المركب.

(٧) في «ب» تحديده.

(٨) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١١٤.

(٩) ساقط من «ب» وزائد من «أ».

(١٠) في «ب» على خلق.

(١١) ساقط من «ب».

٤٠١

فصل (١)

قوله : بأمره أي بقوله : «قوما» أو بإرادته قيامهما ؛ لأن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة وعندنا ليس كذلك ولكن النزاع في أمر التكليف ، لا في أمر التكوين فإنا لا ننازعهم في أن قوله : (كُنْ(٢) فَيَكُونُ) و «كوني (٣)» و «كونوا» (٤) موافق للإرادة.

فإن قيل : ما الفائدة في قوله «ههنا» : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ) وقال قبله (٥) : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ) (ولم (٦) يقل : أن يريكم) ليصير (كالمصدر (٧) «بأن»؟).

فالجواب : أن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية.

فإن قيل : ما الحكمة في أنه ذكر ست دلائل وذكر في أربعة منها : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) ولم يذكر الأولى وهو قوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) ولا في الآخر وهو قوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ)؟.

فالجواب : أما الأول فلأن قوله بعده : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) أيضا دليل الأنفس فخلق السماء والأرض وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير (٨) والتوكيد. فلما قال في الثانية : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) كان عائدا إليهما ، وأما في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية (٩) أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهورها فلما كان في أول الأمر ظاهرا ففي آخر الأمر بعد سرد الدلائل يكون أظهر (فلم يميز أحدا في ذلك عن (١٠) الآخر). ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة فقال : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) وجه العطف «بثم» و «بم تعلق» فمعناه أنه تعالى إذا بين لكم كمال قدرته بهذه الآيات بعد ذلك يخبركم ويعلمكم أنه إذا قال للعظام الرميمة اخرجوا من الأجداث يخرجون أحياء (١١).

قوله : (مِنَ الْأَرْضِ) فيه أوجه : أظهرها : أنه متعلق بمحذوف يدل عليه «يخرجون» أي خرجتم من الأرض (١٢) ، ولا جائز أن يتعلق «بتخرجون» لأن ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها.

__________________

(١) زيادة من «ب» عن «أ».

(٢) ساقط من «ب».

(٣) على إرادة الواحد.

(٤) على إرادة المؤنثة.

(٥) على إرادة الجماعة.

(٦) في «ب» وقال قبل.

(٧) ساقط من «ب».

(٨) ساقط من «ب».

(٩) انظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥ / ١١٥.

(١٠) في «ب» الثلاثة.

(١١) ساقط من «ب».

(١٢) انظر : الدر المصون ٤ / ٣٢١ والبيان ٢ / ٢٥٠ ويجوز أن يتعلق بمحذوف صفة لدعوة.

٤٠٢

فصل

قول القائل : «دعا فلان فلانا من الجبل» يحتمل أن يكون الدعاء من الجبل كما يقول القائل : يا فلان (اصعد (١)) إلى الجبل ، (فيقال : دعاه (٢) من الجبل ، ويحتمل أن يكون المدعوّ يدعى من الجبل كما يقول القائل : يا فلان انزل من الجبل فيقال دعاه من الجبل) ، ولا يخفى على العاقل أن الدعاء لا يكون من الأرض إذا كان الداعي هو الله ، والمدعوّ يدعى من الأرض ، يعني أنكم في الأرض فيدعوكم منها فتخرجون ، وإذا هي الفجائية ، قال أكثر العلماء معنى الآية : ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض.

فصل(٣)

قال ههنا : (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) وقال في خلق الإنسان أولا : (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) لأن هناك يكون خلق وتقدير وتدريج حتى يصير التراب قابلا للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر ، وأما في الإعادة فلا يكون تدريج وتراخ بل يكون نداء وخروج ، فلم يقل ههنا : «ثمّ» (٤).

قوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال ابن عباس : كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة (٥). وقال الكلبي : هذا خاص لمن كان منهم مطيعا (٦). ولما ذكر الآيات التي تدل على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأول أشار إليهما بقوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ونفس السموات والأرض له وملكه فكلّ (٧) له منقادون قانتون ، والشريك يكون منازعا ، فلا شريك له أصلا ، ثم ذكر المدلول الآخر فقال (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) يخلقهم أولا ، ثم يعيدهم بعد الموت للبعث.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٧)

قوله (٨) : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) في «أهون» قولان :

أحدهما : أنها للتفضيل على بابها وعلى هذا يقال : كيف يتصور التفضيل ، والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حد سواء (٩)؟ في ذلك أجوبة : أحدها : أن ذلك بالنسبة

__________________

(١) ساقط من «ب».

(٢) ساقط من «ب» كله.

(٣) في «ب» بدل فصل «فإن قيل».

(٤) انظر : تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٥ / ١١٦.

(٥) انظر : القرطبي ١٤ / ٢٠ وفيه أن ابن عباس يقول : مصلون وانظر معاني الزجاج ٤ / ١٨٣.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في «ب» الكل ينقادون.

(٨) ساقط من «ب».

(٩) في «ب» سوى.

٤٠٣

إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أن إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالبا ، وإن كان هذا (منتفيا) (١) عن (٢) البارىء تعالى فخوطبوا بحسب ما ألفوه.

الثاني : أن الضمير في «عليه» ليس عائدا على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي والعود أهون على الخلق أي أسرع لأن البداء فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن صارت إنسانا والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل : وهو أقصر عليه وأيسر وأقل انتقالا والمعنى يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء ـ وهي رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (٣).

الثالث : أن الضمير في «عليه» يعود على (المخلوق (٤) بمعنى) والإعادة أهون على المخلوق أي إعادته شيئا بعد ما أنشأه هذا في عرف المخلوقين ، فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى ، والثاني: أن «أهون» ليست للتفضيل بل هي صفة بمعنى «هيّن» كقولهم «الله أكبر» أي الكبير وهي رواية العوفيّ عن (٥) ابن عباس (٦).

وقد يجيء «أفعل» بمعنى الفاعل كقول الفرزدق :

٤٠٤٠ ـ إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول (٧)

أي عزيزة طويلة. والظاهر عود الضمير في «عليه» على الباري تعالى ليوافق الضمير في قوله : (وله (٨) المثل الأعلى. قال الزمخشريّ : «فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وقدمت في قوله) : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم : ٩] قلت : هنالك قصد الاختصاص وهو (محزة) (٩) فقيل : هو على هين وإن كان مستصعبا عندك (١٠) أن يولد (١١) بين همّ وعاقر فذلك عليّ هين لا على غيري ، وأما هنا فلا معنى (١٢) للاختصاص كيف

__________________

(١) ساقط من «ب».

(٢) في «ب» على.

(٣) نقله القرطبي ١٤ / ٢٢.

(٤) ساقط من «ب».

(٥) العوفي هو : عطية بن سعد بن خبارة العوفي الجدلي أبو الحسن الكوفي عن أبي هريرة ، وأبي سعيد ، وابن عباس وعنه ابناه عمر ، والحسن وخلق مات سنة ١١١ ه‍ ، انظر : خلاصة الكمال ٢٦٧ ، ٢٦٨.

(٦) القرطبي ١٤ / ٢١.

(٧) البيت له ، وهو مطلع قصيدة له في النقائص رقم ٣٩ وهو من الكامل وموجود بديوانه ٤١٧ الصاوي والقرطبي ١٤ / ٢١ والطبري ٢١ / ٢٥ والمجاز لأبي عبيدة ٢ / ١٢١ ، وابن يعيش ٦ / ٩٧ ، ٩٩ والأشموني ٣ / ٥١ ومعاهد التنصيص ٢ / ٣٧. والشاهد فيه : «أعز وأطول» حيث قصد منهما عدم التفضيل وإنما هما بمعنى الفاعلية أي عزيزة وطويلة كما أوضح أعلى وهذا رأى أبي عبيدة ومن نهج نهجه كالفراء.

(٨) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

(٩) ساقط من «ب» ولكنها في الكشاف كما في «أ».

(١٠) في الكشاف «عندكم».

(١١) في «ب» أن لم يولد وهو ما عليه الكشاف.

(١٢) انظر : الكشاف ٣ / ٢٢٠.

٤٠٤

والأمر مبيّن على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. قال أبو حيان : ومبنى (١) كلامه على أن التقديم يفيد الاختصاص وقد تقدم منعه.

قال شهاب الدين : الصحيح أنه يفيده (٢). وتقدم جميع ذلك.

قوله : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) يجوز أن يكون مرتبطا بما قبله وهو قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي قد ضربه لكم مثلا فيما يسهل ويصعب. وإليه نحا الزجاج (٣). أو بما بعده من قوله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) وقيل المثل : الوصف أي الصفة العليا (٤). قال ابن عباس : هي أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٥) وقال قتادة : هي أنه لا إله إلا هو (٦).

قوله : (فِي السَّماواتِ) يجوز أن يتعلق «بالأعلى» أي أنه أعلى في هاتين الجهتين ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الأعلى» أو من «المثل» أو من الضمير في «الأعلى» فإنه يعود على المثل (٧) ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه «الحكيم» في خلقه.

قوله تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٢٨)

قوله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي بين لكم شبها بحالكم ذلك المثل من أنفسكم ، و «من» لابتداء (٨) الغاية في موضع الصفة «لمثلا» ، أي أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهو «أنفسكم» (٩) ثم بين المثل فقال : (هَلْ لَكُمْ) مما (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) من المال ، والمعنى أن من يكون مملوكا لا يكون شريكا له في ماله فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة الله تعالى حتى يعبدوا؟.

قوله : (مِنْ شُرَكاءَ) مبتدأ و «من» مزيدة (١٠) فيه لوجود شرطي الزيادة (١١) ، وفي

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ١٧٠.

(٢) الدر المصون ٤ / ٣٢٢.

(٣) انظر : معاني الزجاج ٤ / ١٨٤ قال : وجعله مثلا لهم فقال : «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» أي قوله : «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل وانظر أيضا : البحر المحيط ٧ / ١٧٠ و ١٧١ والقرطبي ١٤ / ٢٢ والكشاف ٣ / ٢٢١.

(٤) وهو قول الخليل ، وانظر : إعراب القرآن للنحاس ٤ / ٢٧٠.

(٥) انظر : القرطبي ١٤ / ٢٢.

(٦) السابق.

(٧) الدر المصون ٤ / ٢٢٢.

(٨) المرجع السابق والقرطبي ١٤ / ٢٣.

(٩) المرجعان السابقان والكشاف ٣ / ٢٢١ ، والبحر ٧ / ١٧٠.

(١٠) المراجع السابقة.

(١١) شرطا الزيادة المجرور نكرة ، وكون الاستفهام المضمن معنى النفي سابقا على المجرور ، وقد تزاد في الإيجاب عند الأخفش.

٤٠٥

خبره وجهان : أحدهما : الجار الأول وهو «لكم» و (مِمَّا مَلَكَتْ) يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «شركاء» ؛ لأنه في الأصل نعت نكرة قدم عليها ، والعامل فيه العامل في هذا الجار الواقع خيرا ، أو الخبر مقدر بعد المبتدأ (١) ، و (فِي ما رَزَقْناكُمْ) متعلق «بشركاء» و «ما» في «مما» بمعنى النوع ، تقدير ذلك كله : هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النّوع (٢) الذي ملكته أيمانكم مستقرون لكم؟ «فكائنون» هو الوصف المتعلق به (مِمَّا مَلَكَتْ) ولما تقدم صار حالا و «مستقرون» هو الخبر الذي تعلق به «لكم».

والثاني : أن الخبر (مِمَّا مَلَكَتْ) و «لكم» متعلق بما تعلق به الخبر ، أو بمحذوف على أنه حال من «شركاء» أو بنفس «شركاء» كقولك : لك في الدنيا محب «فلك» متعلق (بمحبّ) وفي الدنيا (٣) هو الخبر. قوله : «وأنتم (فِيهِ سَواءٌ) هذه الجملة جواب للاستفهام (٤) الذي بمعنى النفي «وفيه» متعلق «بسواء».

قوله : (تَخافُونَهُمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أنها خبر ثان «لأنتم» تقديره «فأنتم» مستوون معهم فيما رزقناكم خائفوهم كخوف بعضهم بعضا أيها السادة ، والمراد نفي الأشياء الثلاثة أعني الشركة والاستواء مع العبيد وخوفهم إياهم ، وليس المراد ثبوت الشركة ، ونفي الاستواء والخوف كما هو أحد الوجهين في قولك : ما تأتينا فتحدّثنا بمعنى ما تأتينا محدّثا بل تأتينا ولا تحدثنا بل المراد نفي الجميع كما تقدم. وقال أبو البقاء : (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) الجملة في موضع نصب على جواب الاستفهام أي هل لكم فتستووا (٥) أنتم. وفيه نظر كيف(٦) يجعل جملة اسمية حالة محل جملة فعلية ويحكم على موضع الاسمية بالنصب بإضمار ناصب ، هذا مما لا يجوز ولو أنه فسر المعنى وقال : إن الفعل لو حل بعد الفاء لكان منصوبا بإضمار «أن» لكان صحيحا ، ولا بد أيضا أن يبين أن النصب على المعنى الذي قدمته من نفي الأشياء الثلاثة.

والوجه الثاني : أن «تخافونهم» في محل نصب (٧) على الحال من ضمير الفاعل في «سواء». أي فساووا خائفا بعضكم من بعض مشاركته له في المال أي إذا لم ترضوا أن يشارككم عبيدكم في المال فكيف تشركون بالله من هو مصنوع له؟ قاله أبو البقاء (٨).

وقال ابن الخطيب (٩) معنى حسنا وهو أن بين المثل والممثّل به مشابهة ومخالفة ، فالمشابهة معلومة والمخالفة من وجوه :

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٣٢٢.

(٢) المرجع السابق والبحر المحيط ٧ / ١٧١.

(٣) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٧١ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٢.

(٤) التبيان ١٠٤٠ والمراجع السابقة.

(٥) انظر : التبيان ٢ / ١٠٤٠.

(٦) البحر ٧ / ١٧١ والدر المصون ٤ / ٣٢٢.

(٧) التبيان ١٠٤٠ والمراجع السابقة.

(٨) المرجع السابق.

(٩) سبق القول بأن ابن الخطيب هو الإمام الفخر الرازي وقد عرّفت به.

٤٠٦

أحدها : قوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من نسلكم مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها ، وقاس نفسه عليكم مع جلالتها وعظمتها وقدرتها وكمالها.

وثانيها : قوله : (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي عبيدكم لكم عليهم ملك اليمين والملك لها طار (ىء) قابل للنقل والزوال ، أما النقل فالبيع وغيره ، وأما الزوال فبالعتق ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكا لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه بل هو في الحال مثلكم في الآدميّة حالة الرق حتى أنكم ليس لكم تصرف في روحه وآدميته بقطع وقتل وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه وهو مباين له بالكلية شريكا له؟!

وثالثها : قوله : (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) يعني : الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو لله ومن رزقه حقيقة فإذا لم يجز أن يكون لكم شريك فيما هو لكم من حيث الاسم فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما هو له من حيث الحقيقة.

ورابعها : قوله : (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون أنتم سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء ؛ لأن كل شيء فهو لله وما تدعون إلهيّته لا يملكون شيئا أصلا ، ولا مثقال ذرة خردل فلا يعبد لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم (منهم (١)) منه ، وأيضا فأنتم ومماليككم سواء ليس كذلك لأن المملوك ليس له عندكم حرمة الأحرار ، وإذا لم يكن المملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من الوجوه ، وإلى هذا إشار بقوله : (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) انتهى (٢). وإنما ذكرت هذا المعنى مبسوطا لأنه مبين لما ذكرته من وجوه الإعراب. «كخيفتكم» أي كخيفة مثل خيفتكم (٣). والعامة على نصب «أنفسكم» ، لأن المصدر مضاف لفاعله (٤).

وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافة المصدر لمفعوله (٥). واستقبح بعضهم هذا إذا وجد الفاعل. وقال بعضهم : ليس بقبيح بل يجوز إضافته إلى كل منهما إذا وجدا (٦) وأنشد :

__________________

(١) زيادة عن الفخر الرازي.

(٢) انظر : التفسير الكبير للإمام الرازي ٢٥ / ١١٨ و ١١٩.

(٣) الدر المصون ٤ / ٣٢٤.

(٤) وأجاز الفراء أن يضاف المصدر إلى المفعول فترفع الأنفس قال : «ولو نويت به أي بالكاف والميم أن يكون في تأويل نصب رفعت ما بعدها» انظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٢٤.

(٥) كما أجازه الفراء كما سبق ، وانظر هذه القراءة في : البحر المحيط ٧ / ١٧١.

(٦) ومن المجيزين له ولم يستقبحوه أبو حيان حيث قال في بحره : «وهما وجهان حسنان ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل» انظر : البحر المحيط ٧ / ١٧١ ، وقال السيوطي في الهمع ٢ / ٩٤ : ويجوز إبقاؤه أي الفاعل مع الإضافة إلى المفعول في الأصح نحو قوله تعالى في قراءة ـ

٤٠٧

٤٠٤١ ـ أفنى تلادي وما جمّعت من نشب

قرع القوارير أفواه الأباريق (١)

بنصب «الأفواه» و «رفعها».

قوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي مثل ذلك التفصيل البين نفصل. وقرأ أبو عمرو ـ في رواية يفصّل ـ بياء الغيبة ردا على قوله : (ضَرَبَ لَكُمْ) ، والباقون بالتكلم ردا على قوله «رزقناكم»(٢) والمعنى يبين بالآيات والدلائل والبراهين القطعية والأمثلة : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم ، والأمر لا يخفى بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل.

قوله تعالى : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(٣٢)

قوله : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ) أي لا يجوز أن يشرك مالك مملوكه ولكن الذين ظلموا أي أشركوا اتبعوا أهواءهم في الشرك : «من غير علم» أي من غير دليل جهلا بما يجب عليهم ، ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله : (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي هؤلاء أضلّهم الله فلا هادي لهم فلا يحزنك قولهم (٣) ثم قال : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مانعين يمنعونهم من عذاب الله ـ عزوجل ـ.

__________________

ـ يحيى بن الحارث الذماري عن ابن عامر : «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» ، وقول الشاعر:

فرع القوارير أفواه الأباريق

وقيل : لا يجوز إلا في الشعر.

(١) من البسيط ، وهو للأقيشر الأسديّ ، وقوله : «تلادي» التلاد جمع «تليد» وهو المال الموروث ، و «النشب» المال ، والقوارير : مفردها قارورة وهي معروفة ، ويروى «القواقيز» مفردها : قاقوزة ، وهي الكأس الصغيرة ، والأباريق كل ما له عروة أو خرطوم من الآنية. وهو يخبرنا أنه مسرف ولم يرثه وارث فقد أفنى ثروته في شرب الخمر والبيت يروى برفع «أفواه» ، ونصبها. فمن رفع ـ وهو شاهدنا ـ فقد أضاف المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل وهو «الأفواه» وعنده لا قبح حيث وجد شاهد دال على ذلك ، ومن نصب فقد أضاف المصدر إلى الفاعل وعليه فلا مشكلة.

انظر : البحر المحيط ٧ / ١٧١ ، والمقتضب ١ / ١٥٩ ، والإنصاف ٢٣٣ ، والتصريح ٢ / ٦٤ ، والمغني ٥٣٦ ، والأشموني ٢ / ٢٨٩ ، والهمع ٢ / ٩٤ ، وأوضح المسالك لابن هشام ١٥٥ ، واللسان : «ق ق ز» ، وشذور الذهب ٤٥٨.

(٢) برواية عياش ، انظر : السبعة لابن مجاهد ٥٠٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٢٤ ، والبحر ٧ / ١٧١.

(٣) وفي هذا رد على القدرية وانظر : القرطبي ١٤ / ٢٣.

٤٠٨

قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي أخلص دينك لله قال سعيد بن جبير : وإقامة الوجه إقامة الدين. وقال غيره : سدّد عملك. والوجه ما يتوجه إليه ، وقيل : أقبل بكلّك على (١) الدين. عبر عن الذات بالوجه كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي ذاته بصفاته.

قوله : «حنيفا» حال من فاعل «أقم» أو من مفعوله ، أو من «الدّين» (٢) ومعنى حنيفا مائلا إليه مستقيما عليه (٣) ، ومل عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر ، وهذا قريب من معنى قوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

قوله : (فِطْرَتَ اللهِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة : ١٣٨] و (صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨].

والثاني : أنه منصوب بإضمار فعل (٤). قال الزمخشري : وإنما أضمره على خطاب الجماعة لقوله: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) وهو حال من الضمير في «الزموا» (٥).

وقوله : (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا ... وَلا تَكُونُوا) معطوف على هذا المضمر ، ثم قال : «أو عليكم فطرت الله» (٦) ورد أبو حيان بأن كلمة الإغراء لا تضمر ، إذ هي عوض عن الفعل فلو حذفها لزم حذف العوض والمعوّض عنه وهو إجحاف (٧). قال شهاب الدين : هذا رأي البصريين وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك (٨).

فصل

ومعنى فطرة الله : دين الله وهو التوحيد (٩) فإن الله فطر الناس عليه حيث أخرجهم من ظهر آدم وسألهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وقال عليه‌السلام «ما من مولود إلّا وهو يولد على الفطرة وإنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه» (١٠) ، فقوله :

__________________

(١) انظر : الطبري ٢١ / ٢٦.

(٢) الكشاف ٣ / ٢٢٢ ، والبحر المحيط ٧ / ١٧١ ، والدر المصون ٤ / ٣٣٢.

(٣) القرطبي ١٤ / ٢٤.

(٤) أي الزموا فطرة الله أو عليكم فطرة الله ، وانظر هذين الإعرابين في البحر المحيط ٧ / ١٧١ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٢ ، ومعاني القرآن ٤ / ١٨٤ ، والتبيان ١٠٤٠ ، والكشاف ٣ / ٢٢٢ ، وإعراب القرآن للنحاس ٤ / ٢٧١.

(٥) انظر : الكشاف ٣ / ٢٢٢ وقد قال الزمخشري عند «فطرة» إن التقدير : الزموا فطرة الله أو عليكم فطرة الله.

(٦) هذا بقية كلام الزمخشري. انظر : الكشاف ٣ / ٢٢٢.

(٧) البحر المحيط ٧ / ١٧٢ مع تصرف طفيف في عبارته.

(٨) الدر المصون ٤ / ٣٢٥.

(٩) معاني الفراء ٢ / ٣٢٤.

(١٠) الحديث في الكشاف ٣ / ٢٢٢ والقرطبي ١٤ / ٢٤ برواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.

٤٠٩

«على الفطرة» ، يعني على العهد الذي أخذه عليهم بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الفطرة التي وقع الخلق عليها وإن عبد غيره قال الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ولكن لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا ، وإنما يعتبر الإيمان الشرع المأمور به ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين (١). وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله على الإسلام ، روي عن عبد الله بن المبارك قال معنى الحديث : إن كل مولود يولد على فطرته أي على خلقته التي جبل عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاء أن يولد بين يهوديّين أو نصرانيّين فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما ، وقيل : معنى الحديث أن كل مولود في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلّة السليمة والطبع المنهيّ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ؛ لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول ، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من النّشوء والتقليد فمن يسلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره ، ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخطّابيّ في كتابه.

قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) فمن حمل الفطرة على الدين قال معناه : لا تبديل لدين الله ، فهو خبر بمعنى النهي ، أي لا تبدّلوا دين الله ، قاله مجاهد (٢) وإبراهيم (٣) والمعنى الزموا فطرة الله أي دين الله فاتبعوه ، ولا تبدلوا التوحيد بالشرك. وقيل : هذا تسلية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الحزن حيث لم يؤمن قومه فقال : هم خلقوا للشقاوة ، ومن كتب شقيا لا يسعد ، وقال عكرمة ومجاهد : معناه (٤) تحريم إخصاء البهائم ، ثم قال : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم الذي لا عوج فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك هو الدين المستقيم (٥).

قوله : «منيبين» حال من فاعل «الزموا» (٦) المضمر كما تقدم ، أو من فاعل (٧) «أقم» على المعنى لأنه ليس يراد به واحد بعينه ، وإنما المراد الجميع ، وقيل : حال من

__________________

(١) وهو قول ابن زيد أيضا ، انظر : الطبري ٢١ / ٢٦ ، والقرطبي ١٤ / ٢٤ و ٢٥ / ٢٦.

(٢) انظر : القرطبي ١٤ / ٣١.

(٣) السابق وإبراهيم هو : إبراهيم بن سويد النخعيّ الكوفيّ الأعور عن علقمة والأسود ، وعنه سلمة بن كهيل وزيد اليامي. انظر : خلاصة الكمال ١٨.

(٤) انظر : القرطبي أيضا ١٤ / ٣١ وهذا عن ابن عبّاس وعمر بن الخطّاب.

(٥) نقله في القرطبي ١٤ / ٣١.

(٦) نقله في البحر المحيط ٧ / ١٧٢ والدر المصون ٤ / ٣٢٥ والتبيان ١٠٤٠ ، وانظر : إعراب النحاس ٣ / ٢٧٢ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج كما سيأتي أيضا ٤ / ١٨٥ فضلا عن الكشاف للزمخشري ٣ / ٢٢٢.

(٧) البيان ٢ / ٢٥٩ والمراجع السابقة.

٤١٠

«النّاس (١)» إذا أريد بهم المؤمنون ، وقال الزجاج بعد قوله : «وجهك» معطوف تقديره «فأقم وجهك وأمتك» فالحال من الجميع ، وجاز حذل المعطوف لدلالة «منيبين» عليه ، كما جاز حذفه في قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) أي والناس لدلالة : (إِذا طَلَّقْتُمُ) عليه ، كذا زعم الزجاج (٢) ، في (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) [الطلاق : ١] وقيل : على خبر كان ، أي كونوا منيبين ، لدلالة قوله : (وَلا تَكُونُوا)(٣).

فصل

معنى منيبين إليه أي (٤) مقبلين عليه بالتوبة والطاعة ، «واتّقوه» أي إذا أقبلتم عليه ، وتركتم الدنيا ، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه ودواموا على العبادة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ولا تكونوا من المشركين (٥) ؛ بإعادة العامل. وتقدم قراءتا «فرّقوا ، وفارقوا» وتفسير «الشّيع» أيضا (٦). قوله : «فرحون» الظاهر أنه خبر عن «كل حزب» ؛ وجوز الزمخشري (٧) أن يرتفع صفة «لكلّ» قال : ويجوز أن يكون «من الذين» منقطعا مما قبله ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب فرحين بما لديهم ، ولكنه رفع «فرحين» وصفا لكل كقوله :

٤٠٤٢ ـ وكلّ خليل غير هاضم نفسه

 ............. (٨)

قال أبو حيان : قدر أولا «فرحين» مجرورا صفة «لرجل» وهو الأكثر (٩) كقوله :

__________________

(١) المراجع السابقة.

(٢) قال في معاني القرآن : زعم جميع النحويين أن هذا فأقيموا وجوهكم منيبين إليه لأن مخاطبة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدخل معه فيها الأمة والدليل على ذلك قوله «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ».

(٣) ذكر هذا أبو حيان في البحر المحيط ٧ / ١٧٣.

(٤) نقله القرطبي ١٤ / ٣٢.

(٥) في معظم المراجع (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا ـ بدل من المشركين) الكشاف ٣ / ٢٢٢ والبحر المحيط ٧ / ١٧٣ والدر المصون ٤ / ٣٢٥.

(٦) في الأنعام عند الآية ١٥٩ عند قوله «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً» وقد قيل هناك : إن حمزة والكسائي قرءا «فارقوا» بالألف والباقون بالتشديد وانظر : اللباب (ميكروفيلم). والإتحاف ٤٣٨ والسبعة ٢٧٤. وقيل : إن الشيعة أتباع الرجل وأنصاره وجمعها : شيع ، والشيعة : الذين يتبع بعضهم بعضا وليس كلهم متفقين.

(٧) انظر : الكشاف ٣ / ٢٢٢.

(٨) من الطويل وهو للشماخ بن ضرار الذبياني ، وعجزه :

بوصل خليل صارم أو معارز

والهضم : الظلم ، والصّارم : القاطع ، والمعارز : المنقبض. يقول : كل خليل لا يظلم نفسه لخليله فهو ظالم له قاطع ومنقبض عنه. والاستشهاد بالبيت في كلمة «غير» فيجوز رفعها مراعاة «لكلّ» ويجوز جرها مراعاة «لخليل» والبيت استشهد به الزمخشري على الوجه الأول الذي أجيز لأن «كلّ» مضاف إلى نكرة. وقد تقدم.

(٩) انظر البحر ٧ / ١٧٢.

٤١١

٤٠٤٣ ـ جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم (١)

وجاز الرفع نعتا «لكلّ» كقوله :

٤٠٤٤ ـ ولهت عليه كلّ معصفة

هوجاء ليس للبّها زبر (٢)

وهو تقدير حسن.

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)(٣٥)

قوله : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) قحط وشدّة ، (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) بالدعاء ، لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل بين أن لهم حالة يعترفون به (٣) ، وإن كانوا ينكرونه (٤) في وقت ما وهي حالة الشدة ، (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) ، خصب أو نعمة ، يعني إذا خلصناهم من تلك الشدة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ، وقوله : «منه» أي من الضر ؛ لأن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي على ذلك الضر وحده ، وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة ويحتمل أن يكون الضمير في «منه» عائد إلى الله تعالى ، والتقدير ثم إذا أذاقهم الله من فضله رحمة خلصهم بها من ذلك الضر.

قوله : (إِذا فَرِيقٌ) هذه «إذا» الفجائيّة ، وقعت جواب الشرط ؛ لأنها كالفاء في أنها للتعقيب ولا يقع أول كلام ، وقد تجامعها الفاء زائدة (٥).

__________________

(١) هذا بيت من تمام الكامل وهو لعنترة العبسي ، و «جادت عليه» من الجود أي المطر. و «ثرّة» غنيّة بالمطر دائمته ، والعين مطر أيام لا ينقطع خمسة أو ستة أيام. والحدائق : الحيطان التي فيها النخل و «كالدرهم» في الاستدارة بالماء. وقد تقدم.

(٢) هذا بيت من تمام الكامل أيضا لابن أحمر في وصف ريح تجيء على منازل أصحابه ولا تستقيم في هبوبها على حال واحدة فهي كالناقة الهوجاء ، واللبّ : العقل ، والزّبر : الإحكام ، وولهت : حفّت والشاهد : في كلمة «هوجاء» رفعها وصفا «لكل» ، ويجوز فيه ـ على الأكثر ـ الجر ـ بالفتح حيث لا ينصرف ـ وصفا ل «معصفة». وانظر : الكتاب ٣ / ٢٢٢ واللسان : «ز ب ر ، ه وج» وحاشية يس ٢ / ٣٢ ، ومعاني القرآن للزجاج ٢ / ١٤٥ ، والبحر المحيط ٧ / ١٧٢ وانظر هذه الأبيات السابقة في الدر المصون ٤ / ٣٢٦.

(٣) في تفسير الفخر الرازي : حالة يعترفون بها.

(٤) وفيه : ينكرونها.

(٥) قال في الكتاب ٣ / ٦٣ و ٦٤ «واعلم أنه لا يكون جواب الجزاء إلا بفعل أو بالفاء ... وسألت الخليل عن قوله ـ عزوجل ـ : «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» فقال : هذا كلام معلق بالكلام الأول كما كانت الفاء معلقة بالكلام الأول وهذا ها هنا في موضع قنطوا وما يجعلها في منزلة أنها لا تجيء مبتدأة. وزعم الخليل أن إدخال الفاء على «إذا» قبيح».

وقال السّيوطيّ في الهمع ٢ / ٦٠ : «وينوب عنها في الأصح إذا الفجائية في جملة اسمية غير طالبة ولا ـ

٤١٢

فإن قيل (١) : ما الحكمة في قوله ههنا : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ، وقال في موضع : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) ولم يقل : فريق.

فالجواب : أن المذكور هناك غير معين ، وهو ما يكون من هول البحر ، والتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل ، والذي لا يشرك منهم بعد الخلاص فرقة منهم فهم في غاية القلة ، فلم يجعل المشركين فريقا لقلة من خرج من الشرك وأما المذكور ههنا الضر مطلقا فيتناول ضرّ البحر والأمراض والأهوال ، والمتخلص من أنواع الضر خلق كثير بل جميع الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما فتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركا من جميع الأنواع إذا جمع فهو خلق عظيم وهم جميع المسلمين فإنهم تخلصوا من ضرّ ولم يبقوا مشركين ، وأما المسلمون فلم يتخلصوا من ضرّ البحر بأجمعهم فلما كان الناجي من الضر المؤمن جمعا كثيرا سمى الباقي فريقا.

قوله : «ليكفروا» يجوز أن تكون لام «كي» وأن تكون لام الأمر ومعناه التهديد (٢) كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(٣) ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد فقال : «فتمتّعوا».

قرأ العامة بالخطاب فيه ، وفي «تعلمون» ، وأبو العالية بالياء فيهما ، والأول مبني للمفعول. وعنه أيضا «فيتمتّعوا» (٤) بياء قبل التاء ، وعن عبد الله (٥) «فليتمتعوا» بلام الأمر (٦) ، والمعنى : فسوف تعلمون حالكم في الآخرة.

قوله : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أي برهانا وحجّة ، فإن جعلناه حقيقة كان يتكلم مجازا (٧) ، وإن جعلناه على حذف مضاف أي ذا سلطان كان يتكلم حقيقة ، وقال أبو البقاء هنا : وقيل : هو جمع سليط كرغيف ورغفان انتهى (٨).

__________________

ـ منفية ، قال أبو حيان النصوص متضافرة في الكتب على الإطلاق في الربط «بإذا» وإن السّماع إنما ورد في إن قال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) فيحتاج في إثبات ذلك في غير «إن» من الأدوات إلى سماع».

وللأخفش رأي هنا في هذه الآية يقول في المعاني : (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) هو الجواب ؛ لأنّ «إذا» معلقة بالكلام الأول بمنزلة الفاء. انظر : معاني القرآن للأخفش ٢ / ٦٥٧.

(١) انظر : التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٥ / ١٢٢.

(٢) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٧٣ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٧.

(٣) من الآية ٤٠ من سورة «فصلت» والاستشهاد أن اللام إذا كانت للأمر فإن المعنى يكون على التهديد والوعيد كما قرره في البحر المرجع السابق.

(٤) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٧٣ والمحتسب لابن جني ٢ / ١٦٤.

(٥) هو ابن مسعود وقد عرفت به.

(٦) الكشاف ٣ / ٢٢٢ ، والقرطبي ١٤ / ٣٣ والبحر المحيط ٧ / ١٧٣ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٧.

(٧) الكشاف ٣ / ٢٢٢ و ٢٢٣.

(٨) انظر : التبيان ١٠٤٠١ و ١٠٤٠.

٤١٣

قال شهاب الدين : وهذا لا يجوز لأنه كان ينبغي أن يقال (١) فهم يتكلمون. و (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) جواب الاستفهام الذي تضمنته «أم» المنقطعة (٢) ، وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي ما أنزلنا بما يقولون سلطانا ، قال ابن عباس : حجة وعذرا (٣) ، وقال قتادة : كتابا يتكلم بما كانوا به (٤) يشركو ن «أي ينطق بشركهم».

قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣٨)

قوله : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أي الخصب وكثرة المطر (٥)(فَرِحُوا بِها) يعني فرح البطر لما بين حال الشرك الظاهر شركه ، بين حال الشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته للدنيا ، فإذا أعطاه رضي ، وإذا منعه سخط وقنط ، ولا ينبغي أن يكون كذلك بل ينبغي أن يعبد الله في الشدة والرخاء.

فإن قيل : الفرح بالرحمة مأمور به قال : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] وههنا ذمهم على الفرح بالرحمة.

فالجواب : هناك قال افرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله ، وههنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم إذا كان من الله (٦).

قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي الجدب وقلّة المطر (٧) ، وقيل : الخوف (٨) والبلاء (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من السيئات (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ييأسون من رحمة الله (٩) ، وهذا خلاف وصف المؤمنين فإنهم يشكرونه عند النعمة ، ويرجونه عند الشدة.

قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ألم يعلموا أن الكل من الله فالمحق ينبغي أن لا يكون نظره إلى (١٠) ما يوجد بل إلى من يوجد وهو الله ، فلا يكون له تبدل حال وإنما يكون عنده الفرح الدائم ولذلك قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

__________________

(١) انظر : الدر المصون ٤ / ٣٢٧.

(٢) المرجع السابق والبحر المحيط ٧ / ١٧٣.

(٣) انظر : القرطبي ١٤ / ٣٤.

(٤) السابق ١٤ / ٣٣.

(٥) قاله يحيى بن سلام والنقاش ، انظر : القرطبي ١٤ / ٣٤.

(٦) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١٢٣.

(٧) قاله السدي القرطبي ١٤ / ٣٤.

(٨) قاله مجاهد المرجع السابق.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١٢٤ وفي تفسير الفخر هذا : «المحقق» وليس «المحق».

٤١٤

قوله : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) من البرّ والصلة ، و «المسكين» بأن يتصدّق عليه ، و (ابْنَ السَّبِيلِ) يعني المسافر ، وقيل : الضيف (١). وخص هذه الأصناف الثلاثة بالذكر دون بقية الأصناف الثمانية المذكورة في الصدقات (٢) ، لأنه أراد ههنا (٣) بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال ، سواه كان زكويّا أو لم يكن وسواء كان قبل الحول أم بعده ؛ لأن المقصود هنا الشفقة العامة وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للإنسان مال زائد أما القريب فتجب نفقته عليه إذا كان له مال وإن لم يحل عليه الحول والمسكين كذلك ، فإن من لا شيء له إذا وقع في الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على القادر دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة ، والفقير داخل في المسكين لأن من أوصى للمساكين بشيء يصرف إلى الفقير أيضا وإذا نظرت إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وجبت الزكاة عليهم وقدم القريب لأن دفع حاجته واجب سواء كان في مخمصة أو لم يكن فلذلك قدّم على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة ، وأما المسكين فحاجته ليست مختصة بموضع ، فقدم على من حاجته مختصة بموضع دون موضع.

قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ) يحتمل أن يراد : «خير من غيره» ، وأن يكون ذلك خير في نفسه (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي يطلبون ثواب الله مما يعملون (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

فإن قيل : كيف قال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)؟ مع أن للإفلاح شرائط أخرى مذكورة في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)؟!.

فالجواب : كل وصف مذكور هنا (٤) يفيد الإفلاح ، وكذا الذي آتى المال لوجه الله يفيد الإفلاح اللهمّ إلا إذا وجد مانع من ارتكاب محظور أو ترك واجب.

فإن قيل : لم لم يذكر غيره من الأفعال كالصلاة وغيره؟.

فالجواب : الصلاة مذكورة من قبل وكذا غيرها في قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) ، وقوله : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

فإن قيل : قوله في البقرة : «فأولئك (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) إشارة إلى من أقام الصلاة وآتى الزكاة ، وآمن بما أنزل على الرسول وبما أنزل من قبل (٥) وبالآخرين فهو المفلح ، وإذا كان المفلح منحصرا في «أولئك» فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحا؟!.

فالجواب : هذا هو ذاك لأن قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أمر بذلك ، فإذا أتى

__________________

(١) القرطبي ١٤ / ٣٥.

(٢) وهي قول الله : «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ» وهي الآية ٦٠ من التوبة.

(٣) انظر هذا كله في تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١٢٤ و ١٢٥.

(٤) الأصح هناك أي في المؤمنون.

(٥) في تفسير الفخر : من قبله.

٤١٥

بالصلاة ، وآتى المال ، وأراد وجه الله ثبت أنه من مقيمي الصلاة ومؤتي الزكاة ومعترف بالآخرة (١).

قوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٤٠)

قوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) ، قرأ ابن كثير أتيتم مقصورا ، وقرأ الآخرون (٢) بالمد أي أعطيتم ومن قصر فمعناه جئتم من ربا ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء كما تقول : أتيت خطأ ، وأتيت صوابا(٣) وهو يؤول (٤) في المعنى إلى قول من مدّ.

قوله : «ليربو» العامة على الياء (٥) تحت مفتوحة ، أسند الفعل لضمير «الرّبا» أي ليزداد ، ونافع ويعقوب بتاء من فوق مضمومة خطابا للجماعة ، قالوا وعلى الأول لام الكلمة ، وعلى الثاني كلمة ، ضمير الغائبين (٦).

فصل

ذكر هذا تحريضا يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين (تر (٧)) غبون فيه وتوثرونه ، وذلك لا يربو عند الله فاختطاف (٨) أموال الناس والزكاة تنمو عند الله كما أخبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إنّ الصّدقة تقع في يد الرّحمن فتربو حتّى تصير مثل الجبل» (٩) فينبغي أن يكون إقدامكم على الزكاة أكثر واختلفوا في معنى الآية قال سعيد بن جبير ، ومجاهد وطاوس (١٠) وقتادة والضحاك (١١) وأكثر المفسرين : هو الرجل يعطي عبده

__________________

(١) انظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥ / ١٢٦.

(٢) القرطبي ١٤ / ٣٦ والبحر المحيط ٧ / ١٧٤ وبدون نسبة في الكشاف ٣ / ٢٢٣.

(٣) القرطبي ١٤ / ٣٦.

(٤) في «ب» مئول.

(٥) مختصر ابن خالويه ١١٦ والسبعة ٤٠٧ والإتحاف ٣٤٨ وانظر في توجيه ذلك الكشف ٢ / ١٨٤ و ١٨٥ ومعاني الفراء ٢ / ٣٢٥ والبحر ٧ / ١٧٤.

(٦) المراجع السابقة والدر المصون ٤ / ٣٢٧.

(٧) هذا الجزء من الكلمة ساقط من «ب».

(٨) في «ب» في اختطاف.

(٩) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ١٢٦.

(١٠) طاوس : هو ابن كيسان اليماني الجندي عن أبي هريرة ، وعائشة وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم وغيرهم وعنه : مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، والزهريّ مات سنة ١٠٦ ، انظر : خلاصة الكمال ١٨١.

(١١) الضحاك بن مزاحم الهلاليّ أبو القاسم الخراسانيّ المفسّر يروى تفسيره عن عبيد بن سليمان ، صدوق ، كثير الإرسال من الطبقة الخامسة مات بعد المائة ، انظر : طبقات المفسرين للداودي ١ / ٢٢٢.

٤١٦

العطيّة ليثيب أكثر (١) منها ، فهذا جائز حلالا ، ولكن لا يثاب عليه في الفقه (٢) فهو (٣) معنى قوله تعالى : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) وكان هذا حراما على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خاصة لقوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٩] أي لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت ، وقال النخعي : هو الرجل يعطي صديقه وقريبه ليكثر ماله ، ولا يريد به وجه الله (٤). وقال الشعبي : هو الرجل يلتزق بالرجل (٥) فيجزيه (٦) ويسافر معه فيحصل له ربح ماله التماس عونه لا لوجه الله فلا يربو عند الله ؛ لأنه لم يرد به وجه الله (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أعطيتم من صدقة تريدون وجه الله.

قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي أصحاب الأضعاف ، قال الفراء : نحو مسمن(٧)ومعطش أي ذي إبل سمان وعطاش ، وتقول العرب : القوم مهزلون ومسمنون ، إذا هزلت وسمنت (٨) ، فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات وقرأ «أبيّ» بفتح العين (٩) ، وجعله اسم مفعول. وقوله : ((فَأُولئِكَ)(١٠)(هُمُ) قال الزمخشري : «التفات حسن كأنه قال لملائكته وخواص خلقه) فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) والمعنى هم المضعفون به لأنه من ضمير يرجع إلى («ما انتهى (١١)) يعني أن اسم الشرط متى كان غير ظرف وجب عود ضمير من الجواب عليه. وقد تقدم ذلك في البقرة عند : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)(١٢) ثم قال : «ووجه آخر : وهو أن يكون تقديره فمؤتوه فأولئك هم المضعفون ، والحذف لباقي الكلام من الدليل عليه» ، وهذا أسهل مأخذا ، والأول أملأ بالفائدة.

قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) يجوز في خبر الجلالة وجهان :

أظهرهما : أنه الموصول بعدها (١٣).

والثاني : أنه الجملة (١٤) من قوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ) والموصول

__________________

(١) القرطبي ١٤ / ٣٦.

(٢) في «ب» الغنيمة.

(٣) في «ب» فهذا معنى.

(٤) المرجع السابق.

(٥) السابق.

(٦) في «ب» فيخدمه.

(٧) انظر : معاني القرآن له ٢ / ٣٢٥.

(٨) في «ب» يهزلون ويسمنون وعبارة الفراء كما في المعاني ٢ / ٣٢٥ «كما تقول العرب : أصبحتم مسمنين معطشين إذا عطشت إبلهم أو سمنت».

(٩) وهي من القراءات الشاذة ، وانظر : مختصر ابن خالويه ١١٦.

(١٠) ما بين القوسين كله ساقط من «ب» وموجود بالكشاف و «أ».

(١١) ما بين القوسين ساقط من «ب» وموجود بالكشاف وانظر : الكشاف ٣ / ٢٢٤.

(١٢) الآية ٩٧ من البقرة فلا يجوز : «من يقم فمحمد مكافىء».

(١٣) في «ب» بعده.

(١٤) انظر : الكشاف ٣ / ٢٢٤ والقرطبي ١٤ / ٤٠ والبحر المحيط ٧ / ١٧٥ والدر المصون ٤ / ٣٢٨.

٤١٧

(صفة) (١) للجلالة. وقدر الزمخشري الرابط المبتدأ ، والجملة الرافعة (خبرا) فقال : (مِنْ ذلِكُمْ) هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ ، لأن معناه من أفعاله. قال أبو حيان : والذي ذكره (٢) النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطا إذا أشير (٣) به إلى المبتدأ ، وأما ذلك (٤) هنا فليس بإشارة إلى المبتدأ لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الرّبط بالمعنى (٥) وذلك في قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٣٤] قال : التقدير يتربّصن أزواجهم ، فقدر الرابط (٦) بمضاف إلى ضمير «الذين» فحصل به الربط كذلك قدر الزمخشري (مِنْ ذلِكُمْ) من أفعاله بمضاف إلى (٧) الضمير العائد إلى المبتدأ.

قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أوجدكم «و (رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ) جمع في هذه الآية بين الحشر والتوحيد ، أما الحشر فقوله : «يحييكم» ، وأما الدليل فقدرته على الخلق ابتداء وأما التوحيد ، فقوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) ثم قال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي سبحوه تسبيحا ونزهوه ولا تصفوه بالإشراك»(٨). وقوله : «تعالى» أي لا يجوز ذلك عليه.

قوله : (مِنْ شُرَكائِكُمْ) خبر مقدم و «من» للتّبعيض و «من يفعل» هو المبتدأ ، و «ذلكم» متعلق بمحذوف ، لأنه حال من «شيء» بعده فإنه في الأصل صفة له و «من» الثانية مزيدة في المفعول به ؛ لأنه في حيّز النفي المستفاد من الاستفهام والتقدير : ما الذي يفعل شيئا من ذلكم من شركائكم (٩)؟.

وقال الزمخشري : «ومن الأولى والثانية كل واحدة مستقلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم» (١٠).

وقال أبو حيان : ولا (١١) أدري ما أراد بهذا الكلام؟ وقرأ الأعمش «تشركون» بتاء الخطاب(١٢).

قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ

__________________

(١) ساقط من «ب».

(٢) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٧٥.

(٣) فيه : إذا كان أشير به.

(٤) وفيه : «ذلكم» بالجمع.

(٥) وفيه : وخالفه الناس وذلك الخ ...

(٦) فيه : فقدر الضمير بمضاف.

(٧) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٧٥.

(٨) انظر : تفسير الإمام الفخر ٢٥ / ٢٧.

(٩) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٧٥ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٩.

(١٠) عبارته في الكشاف ٣ / ٢٢٤ : «ومن الأولى والثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم».

(١١) لم ألمح هذا التعجب وهذا التعقيب من أبي حيان للزمخشري في البحر المرجع السابق.

(١٢) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٧٦.

٤١٨

كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)(٤٤)

قوله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وجه تعلق الآية بما قبلها أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثا لظهور الفساد ولو فعل (بهم (١)) ما يقتضيه قولهم لفسدت السموات والأرض ، كما قال تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ، ٩١] ولهذا أشار بقوله : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) ، واختلفوا في قوله : (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، فقيل : المراد خوف الطوفان في البحر والبر ، وقيل : عدم إنبات بعض الأرض وملوحة مياه البحار. وقيل : المراد قحط المطر وقلة النبات ، وأراد بالبرّ البوادي والمفاوز وبالبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية.

قال عكرمة : العرب تسمي المصر (٢) بحرا تقول : أجدب البر وانقطعت مادة البحر.

قوله : (بِما كَسَبَتْ) أي بسبب كسبهم ، والباء متعلقة «بظهر» أو بنفس (٣) الفساد. وفيه بعد (والمعنى بشؤم ذنوبهم) وقال (ابن (٤)) عطيّة : البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها ، والبحر هو البحر المعروف ، والفساد قلة المطر يؤثر في البر والبحر أما تأثيره في البر فهو القحط وأما تأثيره في البحر فيخلو أجواف الأصداف ؛ لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع (٥) فيه من المطر صار (٦) لؤلؤا. قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : الفساد في البرّ قتل أحد ابني آدم أخاه وفي البحر غصب الملك الجائر السفينة (٧). وقال الضحاك : كانت الأرض (٨) خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم بشجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ما في البحر عذبا وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم فلما قتل قابيل هابيل اقشعرّت الأرض وشاكت الأشجار ، وصار ماء البحر ملحا زعاقا وقصد الحيوان بعضه بعضا. وقال قتادة (٩) : هذا قبل مبعث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ امتلأت الأرض ظلما وضلالة فلما بعث الله محمدا ـ عليه الصلاة والسلام (١٠) ـ رجع الراجعون من الناس (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) من المعاصي «يعني كفار مكة».

قوله : «ليذيقهم» اللام للعلة متعلق «بظهر» (١١) ؛ وقيل : بمحذوف (١٢) ، أي عاقبهم

__________________

(١) ساقط من «ب».

(٢) انظر هذه الآراء كلها في تفسير القرطبي ١٤ / ٤٠ و ٤١.

(٣) الكشاف ٣ / ٢٢٤.

(٤) ساقط من «أ» وهي الأصح فهو العوفي.

(٥) في «ب» : فما وقع فيه.

(٦) في «ب» فهو لؤلؤ.

(٧) انظر : تفسير ابن كثير ٣٠ / ٤٣٥.

(٨) المرجع السابق.

(٩) القرطبي ١٤ / ٤٠ و ٤١.

(١٠) في «ب» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١١) انظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٢٥ والدر المصون ٤ / ٣٣٠ والتبيان ١٠٤١.

(١٢) المراجع السابقة.

٤١٩

بذلك ليذيقهم وقيل : اللام للصيرورة (١). وقرأ قنبل (٢) : «لنذيقهم» بنون (٣) العظمة ، والباقون بياء الغيبة والمعنى : لنذيقهم عقوبة بعض الذي عملوا من الذنوب (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن الكفر وأعمالهم الخبيثة ، قوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم ضلال أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) أي قوم نوح وعاد وثمود ليروا منازلهم ومساكنهم خاوية (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فأهلكوا بكفرهم.

قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) لما (نهى (٤)) الكافرين (٥) عما هم عليه ، أمر المؤمنين بما هم عليه وخاطب النبي ـ عليه الصلاة والسلام (٦) ـ ليعلم المؤمن فضيلة ما هو (٧) مكلّف به فإنه أمر بما شرف الأنبياء الدّين القيم أي المستقيم وهو دين الإسلام.

قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) المرد مصدر «ردّ» و (مِنَ اللهِ) يجوز أن يتعلق ب «يأتي» أو بمحذوف يدل عليه المصدر أي لا يرده من الله أحد (٨) ، ولا يجوز أن يعمل فيه «مرد» لأنه كان ينبغي أن ينوّن ؛ إذ هو من قبيل المطوّلات (٩) ، والمراد يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الله وغيره عاجز عن رده ، فلا بد من وقوعه. (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يتفرقون فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، ثم أشار إلى التفرق بقوله : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي وبال كفره (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي يوطئون المضاجع ويسوّونها في القبور. قوله : (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) و (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) تقديم الجارين يفيد الاختصاص (١٠) يعني أنّ ضرر كفر هذا ، ومنفعة عمل هذا لا يتعداه ، ووحد الكناية في قوله : «فعليه» وجمعها في قوله : (فَلِأَنْفُسِهِمْ) إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته ، وأما الغضب فمسبوق بالرحمة لازم لمن أساء وقال : (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٢٢٤.

(٢) قنبل : محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن سعيد أبو عمر المخزومي مولاهم المكي المقب بقنبل شيخ القراء بالحجاز أخذ القراءة عن أحمد بن عوف وروى القراءة عنه البزّي وغيره مات سنة ٢٩١.

انظر غاية النهاية ١٦٥ و ١٦٦ / ٢.

(٣) انظر : الكشاف ٣ / ٢٢٤ والبحر المحيط ٧ / ١٧٦ والإتحاف ٣٤٨ والقرطبي ١٤ / ٤١ وهي قراءة السّلميّ ويعقوب وابن عباس أيضا.

(٤) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(٥) في «ب» الكافر بدلا من الكافرين.

(٦) في «ب» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٧) نقله الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٥ / ١٢٩.

(٨) ذكره الزمخشري في كشافه ٣ / ٢٢٥ وفيه «حد» بدل أحد.

(٩) يريد أنه شبيه بالمضاف لأنه لما كان غير منون وتعلق به ما بعده وهو قوله : «له» اكتفي به لأن المضاف لا يضاف إلى شيئين منفصلين في وقت واحد.

(١٠) هذا هو المفهوم من كتاب الكشاف للزمخشري ٣ / ٢٢٤.

٤٢٠