اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

روي (١) ذلك عن عبد الله (٢) ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير (٣) ، ويروى مرفوعا عن موسى بن (٤) عقبة عن نافع عن ابن عمر (٥) عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال عطاء (٦) في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) من أن يبقى معه معصية (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) قال عطاء : لا يخفى (٧) عليه شيء.

قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ) (٤٩)

قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي لا تخاصموهم (٨) إلا بالتي هي أحسن أي بالدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه ، وأراد من قبل الجزية منهم لما بين طريقة إرشاد المشركين بين طريقة إرشاد أهل الكتاب.

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) استثناء متصل ، وفيه معنيان :

أحدهما : إلا الظلمة فلا تجادلوهم ألبتة بل جاهدوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (٩).

ومجاز الآية : إلا الذين ظلموكم لأن جميعهم ظالم بالكفر.

والثاني : جادلوهم بغير التي هي أحسن أي أغلظوا لهم كما أغلظوا عليكم ، قال سعيد بن جبير : أهل الحرب ، ومن لا عهد له (١٠) ، وقال قتادة ومقاتل : نسخت بقوله :

__________________

(١) في «ب» ويروى.

(٢) هو ابن مسعود وسبق التعريف به.

(٣) القرطبي ١٣ / ٣٤٩.

(٤) موسى بن عقبة الأسدي مولاهم المدني عن أم خالد ، وعلقمة بن وقاص ، وعنه يحيى الأنصاري وابن جريج مات سنة ١٤١ ه‍. انظر : خلاصة الكمال ٢٩٢.

(٥) ابن عمر : عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن المكي ، هاجر مع أبيه ، له ألف وستمائة حديث وثلاثون حديثا عنه بنون : سالم وحمزة ، وغيرهما ، مات سنة ٧٤ ه‍ ، انظر : خلاصة الكمال ٢٠٧.

(٦) عطاء ؛ هو عطاء بن أبي رباح القرشي مولاهم أبو محمد الجندي اليماني نزيل مكة ، وأحد الفقهاء والأئمة عن عثمان ، وعتاب بن أسيد وعنه أيوب وحبيب وثابت مات سنة ١١٤ ه‍ خلاصة الكمال ٢٦٦.

(٧) البحر ٧ / ١٥٣.

(٨) في «ب» تخاصموا.

(٩) في «ب» بالسيف إن أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب فجادلوهم بالسيف الخ ..

(١٠) القرطبي ١٣ / ٣٥١.

٣٦١

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ)(١) ، وقرأ ابن عباس (٢) «ألا» حرف تنبيه أي فجادلوهم.

قوله : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) وهذا تبيين لمجادلتهم (٣) بالتي هي أحسن يريد إذا أخبركم واحد منهم ممن قبل الجزية بشيء مما في كتبهم (٤) فلا تجادلوهم عليه ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ، روى أبو هريرة قال : «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهلالإسلام فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا ... الآية» (٥) وروى معمر (٦) عن الزهري أن أبا نملة الأنصاري (٧) أخبره أنه بينما (٨) هو جالس عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جاءه رجل من اليهود ومرّ بجنازة فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (الله) (٩) أعلم فقال اليهودي : إنها تتكلم فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه» (١٠).

قوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا) أي كما أنزلنا إليهم الكتاب أنزلنا إليك الكتاب (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني (مؤمني) (١١) أهل الكتاب عبد الله بن سلام ، (وأصحابه) (١٢)(وَمِنْ هؤُلاءِ) يعني أهل مكة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) وهم مؤمنو أهل مكة (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) وذلك أن اليهود عرفوا أن محمدا نبي ، والقرآن حق ، فجحدوا ، وقال قتادة : الجحود إنما يكون بعد المعرفة وهذا تنفير (١٣) لهم عما هم عليه يعني إنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة ، وبإنكارها تلتحقون بهم ، وتبطلون مزاياكم ، فإن الجاحد بآية يكون كافرا.

قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب.

قوله : (مِنْ كِتابٍ) مفعول «تتلو» و «من» زائدة و (مِنْ قَبْلِهِ) حال من «كتاب» أو

__________________

(١) [التوبة : ٢٩] ، وانظر في الاستثناء المفصل الذي في هذه الآية ، التبيان ١٠٣٤ والدر المصون ٤ / ٣٠٧.

(٢) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٥٥.

(٣) في «ب» لمجادلتهم.

(٤) في «ب» ما في كتبهم.

(٥) الحديث في القرطبي ١٣ / ٣٥١ ، وفتح القدير ٤ / ٢٠٦ ، والدر المنثور ٦ / ٤٦٩.

(٦) معمر بن راشد الأزدي مولاهم عبد السلام بن عبد القدوس أبو عروة البصري أحد الأعلام عن الزهري وقتادة وعنه أيوب والثوري وابن المبارك ، مات سنة ١٥٣ ه‍ ، انظر : خلاصة الكمال ٣٨٤.

(٧) أبو نملة الأنصاري : عمار بن معاذ بن زرارة بن عمرو بن الأوس الأنصاري شاهد أحدا مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمشاهد كلها وقتل له ابنان يوم الحرّة ، انظر : أسد الغابة ٥ / ٣١٣ و ٣١٤.

(٨) في «ب» بينا.

(٩) ساقط من «ب».

(١٠) الدر المنثور ٦ / ٤٦٩.

(١١) ساقط من «ب».

(١٢) ساقط من «ب».

(١٣) في «ب» تغيير.

٣٦٢

متعلق بنفس «تتلو» (١) و (تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي ولا تكتبه أي لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي قوله : (إِذاً لَارْتابَ) جواب وجزاء ، أي لو تلوت كتابا قبل القرآن أو كنت ممن يكتب لارتاب المبطلون ولشكّ (المشركون من) (٢) أهل مكة ، وقالوا : إنه يقرأه من كتب الأولين وينسخه منها ، وقال قتادة ومقاتل : المبطلون هم اليهود (٣) والمعنى : لشكوا فيك واتهموك ، وقالوا : إن الذي نجد نعته في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت (٤).

قوله : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) قرأ قتادة «آية» بالتوحيد (٥) ، قال الحسن : يعني القرآن(٦)((آياتٌ بَيِّناتٌ)(٧)(فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)(٨) ، يعني : «المؤمنين» (٩) الذين حملوا القرآن ، وقال ابن عباس وقتادة : («بل هو») (١٠) يعني : محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١١) ـ ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته وصفته في كتبهم (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ).

فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا : (الظَّالِمُونَ) ومن قبل قال : الكافرون؟

فالجواب : أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم : إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هناك أبلغ فمنعهم عن ذلك لاستنكافهم عن الكفر ، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآيات لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلحقوا في أول الأمر بالمشركين حكما ، وتلتحقون عند جحد هذه الآيات بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي مشركين ، كما قال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(١٢) فهذا اللفظ هنا أبلغ.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٥٢)

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ)(١٣) كما أنزل على الأنبياء من قبل.

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٣٠٧.

(٢) ساقط من «ب».

(٣) القرطبي ١٣ / ٣٥٤.

(٤) السابق.

(٥) البحر المحيط ٧ / ١٥٥.

(٦) القرطبي ١٣ / ٣٥٤.

(٧) ساقط من «ب».

(٨) في «ب» الكتاب.

(٩) زائد في «ب».

(١٠) زائد في «أ».

(١١) القرطبي ١٣ / ٣٥٤.

(١٢) لقمان : ١٣.

(١٣) في «ب» آية بالإفراد وهو خطأ.

٣٦٣

وقرأ الأخوان وابن كثير ، وأبو بكر بالإفراد (١) ؛ لأن غالب ما جاء في القرآن كذلك والباقون «آيات» بالجمع لأن بعده (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ) بالجمع إجماعا ، والرسم يحتمله (٢).

فصل

اعلم أنهم قالوا : إنك تقول : إنك أنزل إليك الكتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى ، وليس كذلك ؛ لأن موسى أوتي تسع آيات بينات علم بها كون الكتاب من عند الله ، وأنت ما أوتيت شيئا منها ثم إنه تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها.

قوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) هذا جواب لقولهم : «و (لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) قل : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) ، ففاعل «يكفهم» هو قوله : (أَنَّا أَنْزَلْنا) والمعنى : إن كان إنزال الآيات شرطا في الرسالة فلا يشترط إلا إنزال «آية» وقد أنزل القرآن ، وهو آية معجزة ظاهرة كافية. وقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) عبارة تنبىء عن كون القرآن آية فوق الكفاية (٣) وبيانه أن القرآن أتم من كل معجزة لوجوه :

أحدها : أن تلك المعجزات وجدت وما دامت ، فإن قلب العصا ثعبانا ، وإحياء الميت لم يبق لنا منه (٤) أثر ، فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب ، وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فيقال له : فأت بآية من مثله.

الثاني : أن قلب العصا ثعبانا كان في آن واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان ، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل واحد ، وهنا لطيفة وهي أن آيات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان ، لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأن الخوف إذا وقع عم ، وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر. وغاص بحر (٥) «ساوة» في قطر ، وسقط إيوان كسرى في قطر (وانهدّت) (٦) الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاما بأنه يكون أمرا عاما.

الثالث : أن غير هذه المعجزة يقول الكافر المعاند هذا سحر (وعمل بدواء) (٧) والقرآن لا يمكن هذا القول فيه (٨). ثم قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً) أي في إنزال القرآن (لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي تذكير وعظة لمن آمن وعمل به.

قوله (تعالى) (٩) : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أني رسوله ، وهذا القرآن

__________________

(١) انظر : الإتحاف ٣٤٦ ، والسبعة ٥٠١ والكشف ٢ / ١٨٠ ، وقد قال مكي في الكشف : «لو كان بالتوحيد لكان بالهاء فقويت القراءة بالجمع وهو الاختيار».

(٢) في «ب» محتمل له.

(٣) في «ب» الكتابة وهو تحريف.

(٤) في «ب» لنا به.

(٥) في «ب» بحيرة بالتصغير.

(٦) ساقط من «ب».

(٧) ساقط من «ب».

(٨) انظر : التفسير للإمام الفخر الرازي ٢٥ / ٧٩.

(٩) زائد من «ب».

٣٦٤

كتابه ، وهذا كما يقول الصادق إذا كذب ، وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدقه المعاند : «الله يعلم صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينك» ، كل ذلك إنذار وتهديد ثم بين كونه كافيا ، بكونه عالما بجميع الأشياء ، فقال : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

فإن قيل : ما الحكمة في أنه أخر شهادة أهل الكتاب في آخر الوعد في قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ، قُلْ : كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(١) وهنا قدم شهادة أهل الكتاب ، فقال : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ (٢) بِهِ)) أي من أهل الكتاب؟

فالجواب : أن الكلام هناك (٣) مع المشركين فاستدل عليهم بشهادة غيرهم (ثم) (٤) إن شهادة الله أقوى (في (٥) إلزامهم) من شهادة غير الله ، وهاهنا الكلام مع أهل الكتاب فشهادة (٦) الله على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم ، ثم (إنه) (٧) تعالى لما بين الطريقتين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد الكلام الشامل لهما والإنكار العام فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) ، قال ابن عباس : بغير الله (وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

فإن قيل : قوله (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) يقتضي الحصر ، أي من أتى بالإيمان (بالباطل) (٨) والكفر (بالله) (٩) فهو الخاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسرا.

فالجواب : أنه يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتيا بالآخر لأن المؤمن بما سوى الله مشرك ، لأنه جعل غير الله مثله ، وغير الله عاجز ممكن باطل فيكون الله كذلك ، ومن كفر بالله وأنكره فيكون قائلا بأن العالم ليس له إله موجود فوجود العالم من نفسه فيكون قائلا : بأن العالم واجب الوجود ، والواجب إله (فيكون (١٠) قائلا) بأن غير الله إله فيكون إثباتا لغير الله وإيمانا به (١١).

فإن قيل : إذا كان الإيمان بما سواه كفرا (به) (١٢) فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة (غير التأكيد) (١٣) الذي في قول القائل (قم ولا تقعد و «واقترب مني ولا تبعد»؟

__________________

(١) الرعد : ٤٣.

(٢) ساقط من «ب».

(٣) في «ب» هنا.

(٤) ساقط من «ب».

(٥) ساقط من «ب».

(٦) في «ب» فشهادة المرء على نفسه هو أقوى إقراره.

(٧) ساقط من «ب».

(٨) ساقط من «ب».

(٩) ساقط من «ب».

(١٠) ساقط من «ب».

(١١) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٨٠.

(١٢) زيادة من «ب».

(١٣) ساقط من «ب».

٣٦٥

فالجواب : فيه فائدة) غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل : أتقول بالباطل وتترك الحلق لشأن أن القول بالباطل قبيح.

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٥٥)

قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) نزلت في النضر بن الحارث (١) حين قال : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ)(٢)(وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) قال ابن عباس : ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة كما قال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)(٣) وقيل : يوم بدر. ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) يعني العذاب. وقيل : الأجل بغتة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه ، وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : معنى تأكيد (٤) قوله : «بغتة» ، كما يقول القائل : أتيته على غفلة منه بحيث لم يدر.

فقوله : «بحيث لم يدر» أكد معنى الغفلة.

والثاني : أنه يفيد فائدة مستقلة وهي أن العذاب يأتيهم بغتة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) هذا الأمر ، ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلا.

قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ذكر هذا للتعجب (٥) ، لأن من توعد (٦) بأمر فيه ضرر يسير كلطمة أو لكمة فيرى في نفسه الجلد ويقول : بسم الله هات ، وأما من توعد بإغراق أو إحراق ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد لا يخطر ببال العاقل أن يقول له: هات ما توعدني (٧) به فقال هاهنا (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) والعذاب بنار جهنم المحيطة (بهم) (٨) فقوله ((يَسْتَعْجِلُونَكَ (٩) بِالْعَذابِ)) أولا : إخبارا عنهم ، وثانيا : تعجبا منهم.

وقيل : أعادة تأكيدا ، ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم فقال : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).

فإن قيل : لم يخص (١٠) الجانبين ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدّام؟

__________________

(١) القرطبي ١٣ / ٣٥٦.

(٢) الأنفال : ٣٢.

(٣) القمر : ٤٦.

(٤) الأصح : تأكيد معنى قوله «بغتة».

(٥) في «ب» التعجب.

(٦) في «ب» أوعد.

(٧) في «ب» توعدت به.

(٨) ساقط من «ب».

(٩) ما بين القوسين ساقط من «ب».

(١٠) في «ب» اختص الجانبين.

٣٦٦

فالجواب : أن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ، (ونار) (١) الدنيا تحيط بالجوانب الأربعة فإن من دخلها تكون الشعلة قدامه وخلفه ويمينه ويساره (٢) ، فأمّا النار من فوق لا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة وتحت الأقدام ، ولا تبقى الشعلة بل تنطفىء الشعلة التي تحت القدم ، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفىء بالدوس موضع القدم (٣).

فإن قيل : ما الحكمة في قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ولم يقل : من فوق رؤوسهم ولا قال من فوقه م (ولا من (٤) تحتهم) بل ذكر المضاف إليه عند ذكر «تحت» ولم يذكره عند ذكر «فوق»؟

فالجواب : أن نزول النار من «فوق» سواء كان من (سمت) (٥) الرأس أو موضع آخر عجيب(٦) فلهذا لم يخصه بالرؤوس وأما بقاء النار تحت القدم فهو عجيب ، وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا تكون الشعلة فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدّوس. وأما «فوق» فعلى الإطلاق.

قوله : (وَيَقُولُ ذُوقُوا) قرأ نافع وأهل الكوفة «ويقول» بياء الغيبة أي الله تعالى ، أو الملك الموكل بعذابهم ، وباقي السبعة بالنون أي جماعة الملائكة ، أو نون العظمة لله تعالى (٧) ، وأبو البرهشم (٨) بالتاء من فوق أي جهنم كقوله : (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق : ٣٠] وعبد الله (٩) وابن أبي (١٠) عبلة : «ويقال» مبنيا للمفعول (١١) ، وقوله : (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء ما كنتم تعملون لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) جعل ذلك عين ما كانوا يعملون مبالغة بطريق إطلاق اسم المسبّب على السّبب ، فإن عملهم كان سببا لعذابهم وهذا كثير في الاستعمال.

قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً

__________________

(١) ساقط من «ب».

(٢) في «ب» وشماله.

(٣) انظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٨١ و ٨٢.

(٤) ساقط من «ب».

(٥) ساقط من «ب».

(٦) هكذا في عبارة «أ» والفخر الرازي وفي «ب» لأن طبع النار الصعود إلى فوق فلهذا لم يخصه الخ.

(٧) الإتحاف ٦ / ٣٤ ، والسبعة ٥٠١ ، والكشف ٢ / ١٨٠.

(٨) أبو البرهشم : عمران بن عثمان أبو البرهشم الزبيدي الشامي ، صاحب القراءة الشاذة ، روى الحروف عن يزيد بن قطيب السكوني وروى الحروف عنه شريح بن يزيد. انظر : غاية النهاية ١ / ٦٠٤ و ٦٠٥.

(٩) هو ابن مسعود ونقلته «ب» خطأ فهو فيها «عبيد الله».

(١٠) تقدم.

(١١) انظر : تفسير البحر المحيط لأبي حيان ٧ / ١٥٦.

٣٦٧

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٦٠)

قوله (تعالى) (١) : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) لما ذكر حال المشركين على حدة ، وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار ، وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم ، وزاد فسادهم ، وسعوا في إيذاء المؤمنين ، ومنعهم من العبادة ، قال مقاتل والكلبي : (نزلت في ضعفاء) (٢) مسلمي مكة يقول : إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى (٣) أرض واسعة ، آمنة ، قال مجاهد (٤) : إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها ، وقال سعيد بن جبير : إذا عمل (٥) في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة ، وقال عطاء : إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا (فإن) (٦) أرضي واسعة وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تهيّأ له العبادة ، وقيل : نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة ، فأنزل الله (٧) هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج ، وقال مطرف بن عبد الله (٨) : أرضي واسعة : رزقي لكم واسع فاخرجوا.

فصل

قوله : (يا عِبادِيَ) لا يدخل فيه الكافر لوجوه :

أحدها : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)(٩) والكافر يحب (١٠) سلطنة الشيطان فلا يدخل في قوله : (يا عِبادِيَ).

وثانيها : قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣].

وثالثها : أن العباد مأخوذ من العبادة والكافر لا يعبد الله فلا يدخل في قوله : «عبادي» وإنما يختص بالمؤمنين الذين يعبدونه.

ورابعها : الإضافة بين الله والعبد بقول العبد إلهي ، وقول (١١) الله عبدي.

__________________

(١) زائد من «ب».

(٢) ساقط من «ب».

(٣) انظر : القرطبي ١٣ / ٣٥٦ و ٣٥٧.

(٤) السابق.

(٥) السابق وقد قاله مالك.

(٦) السابق وفي «ب» إنّ بدون فاء.

(٧) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٥٧.

(٨) انظر ؛ القرطبي السابق والبحر المحيط ٧ / ١٥٧ وفي «ب» عبد الله بن مطرف وهو تحريف. وهو مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري أبو عبد الله البصري أحد سادة التابعين عن أبيه وعثمان وعلي وعنه أخوه أبو العلاء وخلق وكان ثقة له فضل وورع مات سنة ٩٥ ه‍ ، انظر : خلاصة الكمال ٣٧٩.

(٩) [الحجر : ٤٢].

(١٠) في «ب» تحت.

(١١) في «ب» يقول الله.

٣٦٨

فإن قيل : إذا كانت (١) «عباده» لا تتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال : يا أيها المكلفون المؤمنون ، يا أيها الرجلاء العقلاء تتمييزا بين الكافر والجاهل؟

فالجواب : أن الوصف يذكر لا لتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال : الأنبياء المكرّمون (٢) والملائكة المطهّرون ، مع أن كل نبي مكرم ، وكل ملك مطهر ، فإنما يقال (٣) لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة ، ومثله قولنا : الله الله العظيم فهاهنا (٤) ذكر لبيان أنهم مؤمنون.

فإن قيل : قوله : (يا عِبادِيَ) يفهم منه (٥) كونهم عابدين فما الفائدة بالأمر بالعبادة بقوله : (فَاعْبُدُونِ)؟

فالجواب : فيه فائدتان :

إحداهما : المداومة أي يا من عبدتموني (٦) في الماضي فاعبدوني (٧) في المستقبل.

والثانية : الإخلاص أي يا من يعبدني أخلص العمل ولا تقبل غيري.

فإن قيل : الفاء (٨) في قوله : «فإيّاي» يدل على أنه جواب لشرط فما ذاك؟

فالجواب : قوله : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال : إذا كان لا مانع من عبادتي فإياي فاعبدون فهو لترتيب المقتضى على المقتضي كما يقال : هذا عالم فأكرموه. فكذلك هاهنا لما أعلم نفسه بقوله : «فإيّاي» وهو لنفسه مستحق العبادة ، فقال : «فاعبدون». قال الزمخشري : «هذا جواب شرط مقدر ، وجعل تقديم المفعول عوضا من حذفه (٩) مع إفادته للاختصاص». وقد تقدم منازعة أبي حيان (١٠) له في نظيره.

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) قرأه بالغيبة (١١) أبو بكر ، وكذا في الروم (١٢) في قوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وافقه أبو عمرو في الروم فقط

__________________

(١) في «ب» وكان.

(٢) في «ب» الأكرمون.

(٣) في «ب» وإنما قالوا.

(٤) في «ب» ها هنا.

(٥) في «ب» من.

(٦) في «ب» عبدوني.

(٧) في «ب» أعيدوني.

(٨) في «ب» الثاني وهو تحريف قطعا.

(٩) انظر : الكشاف ٣ / ٢١٠.

(١٠) يقصد قول الله «فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» [النحل : ٥١] وقد جعل أبو حيان هذه الجملة «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» من باب الاشتغال أي فإياي أعبدوا فاعبدون. وعقب على كلام الزمخشري بقوله : «ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل» انظر : البحر المحيط ٧ / ١٥٧.

(١١) انظر الإتحاف ٣٤٦ ، والسبعة ٥٠٢ ، وإبراز المعاني ٣٧.

(١٢) الروم : ١١.

٣٦٩

والباقون بالخطاب (١) فيها. وقرىء يرجعون (٢) مبنيا للفاعل.

فصل

لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان فخوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة أي كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت فإن كل نفس ذائقة الموت فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه ، فإن إلى الله مرجعكم فيجزيكم (٣) بأعمالكم ، وفيه وجه دقيق آخر وهو أن قوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي إذا كانت (معلقة) (٤) بغيرها فهو للموت ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) [الدخان : ٥٦] وإذا كان كذلك فمن يريد أن لا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره ، وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت لقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) و (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فإذن التعلق بالله (٥) (يريح من الموت) (٦) فقال تعالى : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي تعلقوا بي ، ولا تتبعوا النفس ، فإنها ذائقة الموت (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت لقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩] ، وقال عليه (الصلاة و) (٧) السلام : «المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار».

قوله (تعالى) (٨) : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يجوز في «الذين» الوجهان المشهوران الابتداء (٩) ، والاشتغال ، وقوله : «لنبوّئنّهم» ، قرأ الأخوان بتاء مثلثة ساكنة بعد النون ، وياء مفتوحة (١٠) بعد الواو من الثّواء (١١) وهو الإقامة ، يقال : ثوى الرجل إذا أقام ، وأثويته إذا أنزلته منزلا يقيم فيه والباقون بباء موحدة (١٢) مفتوحة بعد النون ، وهمزة مفتوحة بعد الواو من المباءة وهي (١٣) الإنزال أي لنبوئنهم من (١٤) الجنة غرفا.

__________________

(١) المراجع السابقة.

(٢) وهي قراءة عليّ كرم الله وجهه ، انظر : مختصر ابن خالويه ١١٥.

(٣) قي «ب» فيجازيكم.

(٤) ساقط من «ب».

(٥) انظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥ / ٨٤.

(٦) زيادة يقتضيها السياق من الفخر الرازي.

(٧) ساقط من «ب».

(٨) ساقط من «ب».

(٩) انظر : الدر المصون ٤ / ٣٠٨ والتبيان ١٠٣٤ ، والبحر ٧ / ١٥٨.

(١٠) وهي قراءة ابن وثاب ، وابن مسعود ، والأعمش أيضا ، انظر : البحر ٧ / ١٥٨ ، والقرطبي ١٣ / ٣٥٩ ، والإتحاف ٣٤٦ ، والسبعة ٥٠٢ ، ومعاني القرآن للزجاج ٤ / ١٧٣ ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣١٨.

(١١) معاني الزجاج ٤ / ١٧٣.

(١٢) المراجع السابقة.

(١٣) في «ب» وهو.

(١٤) في «ب» لننزلهم في الجنة.

٣٧٠

قوله : «غرفا» على القراءة الأولى إما مفعول به على تضمين «أثوى» أنزل فيتعدى لاثنين ؛ لأن «ثوى» قاصر ، وأكسبته الهمزة التعدي لواحد ، وإما (على) (١) تشبيه الظرف المختص بالمبهم (٢) كقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) وإما على إسقاط الخافض اتساعا أي في غرف (٣). وأما في القراءة الثانية فمفعول ثان ؛ لأن «بوأ» يتعدى لاثنين (٤) قال تعالى : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ)(٥) ، ويتعدى باللام ، قال تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ)(٦). وقرىء «لنثوينّهم» (٧) بالتشديد مع الثاء المثلثة ، عدّي بالتصعيف كما عدّي بالهمزة (٨) ، و «تجري» صفة «لغرفا» (خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) وهذا في مقابلة قوله للكفار : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

قوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا) يجوز فيه الجر والنصب والرفع (٩) كنظائر له تقدمت ، والمعنى : الذين صبروا على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يعتمدون. قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) جوز أبو البقاء في «كأين» (١٠) وجهين :

أحدهما : أنها مبتدأ و «لا تحمل» صفتها و (اللهُ يَرْزُقُها) خبره و «من دابة» تبيين.

والثاني : أن تكون في موع نصب بإضمار فعل يفسره «يرزقها» ويقدر بعد «كأين» يعني لأن لها صدر الكلام ، وفي الثاني نظر ؛ لأن من شرط المفسر العمل ، وهذا المفسر لا يعمل لأنه لو (١١) عمل لحل محل المفعول لكن لا يحل محله ، لأن الخبر (متى (١٢)

__________________

(١) ساقط من «ب».

(٢) الظرف المختص : قسمان معدود وهو ما له مقدار من الزمان معلوم كسنة وشهر ويومين ، وغير معدود وهو أسماء الأيام كالسبت وغيره وما يخصص بالإضافة كيوم الجمل ، أو بأل كاليوم ، والليلة ، أو بالصفة : كقعدت عندك يوما قعد عندك فيه زيد ، وما أضافت إليه العرب لفظ شهر من أعلام الشهور وهو رمضان ، وربيع الأول ، وربيع الآخر خاصة ، أما الظرف المبهم فهو ما وقع على قدر من الزمان غير معين ، كوقت ، وحين وزمان ، وينصب على جهة التأكيد المعنوي لأنه لا يزيد على دلالة الفعل ومنه «أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً» انظر : الهمع ١ / ١٩٥ و ١٩٦.

(٣) البحر المحيط ٧ / ١٥٧.

(٤) السابق.

(٥) آل عمران : ١٢١.

(٦) [الحج : ٢٦]. ويرى ابن الأنباري أن اللام في هذه الآية زائدة ، والفعل تعدى إلى مفعولين.

(٧) انظر : البيان ٢ / ٢٤٦. لم ينسبها في البحر ٧ / ١٥٧ إلى معيّن.

(٨) انظر : السابق والدر المصون ٤ / ٣٠٩.

(٩) الدر المصون ٤ / ٣٠٩.

(١٠) التبيان ١٠٣٤.

(١١) فلا يقال : «قام زيد» على أن «زيدا» مبتدأ مؤخر ، و «قام» جملة فعلية خبر مقدم ، وذلك لئلا يلتبس المبتدأ بالفاعل فيجب حينئذ التزام الأصل هذا من جهة اللفظ ، وأما من جهة المعنى فالمبتدأ محكوم عليه فيجب أن يتقدم ما لم يمنع من ذلك مانع كأن يكون الخبر اسم استفهام له صدر الكلام.

(١٢) ساقط من «ب».

٣٧١

كان) فعلا رافعا لضمير مفرد امتنع تقديمه على المبتدأ. وإذا أردت معرفة هذه القاعدة فعليك بسورة (١) «هود» عند قوله : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨].

فصل

لما ذكر الله (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئا لغد ، ويأتيها رزقها كل يوم.

واعلم أن (في) (٢) كأين (أربع لغات (٣) غير هذه كائن على (٤) وزن راع ، وكأى على وزن رعى (٥) «وكيء» (٦) على وزن «ريع» و «كا» (٧) على وزن «رع» ولم يقرأ إلا كائن و «كا» قراءة ابن كثير (٨).

فصل

«كأين» كلمة) مركبة من «كاف التشبيه» و «أن» التي تستعمل استعمال «من» و «ما» ركبتا ، وجعل المركّب بمعنى «كم» ثم لم يكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأن «كأيّ» مستعمل غير مركب كما يقول القائل : «رأيت رجلا لا كأيّ رجل يكون» (فقد حذف (٩) المضاف إليه ، ويقال : رأيت رجلا لا كأي رجل) وحينئذ لا يكون «كأي» مركبا. فإذا كان «كأي» ههنا مركبا كتبت بالنون للتمييز ، (كما تكتب معد يكرب (١٠) وبعلبكّ) موصولا للفرق وكما تكتب ثمّة بالهاء تمييزا بينها وبين (ثمّت) (١١).

فصل

روي أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة (١٢) وآذاهم المشركون هاجروا إلى المدينة. فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال؟ فمن يطعمنا بها

__________________

(١) في «ب» سورة.

(٢) سقط من «ب».

(٣) ما بين المعقوفين كله سقط من «ب».

(٤) فتكون اسم فاعل من «كان» ساكنة النون وبذلك قرأ ابن كثير كما سيأتي الآن.

(٥) قال في الهمع ٢ / ٦٧ : وبذلك قرأ ابن محيصن.

(٦) يكون ذلك بتقديم الياء على الهمزة.

(٧) يكون ذلك بالقصر.

(٨) لم أجد هذه القراءة في كتب القراءات المعتمدة لا في المتواتر ، ولا في الشاذ إلا في كتاب الهمع للسيوطي ٢ / ٧٦ ، وتفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٨٦.

(٩) زيادة يقتضيها المعنى والسياق ، انظر : الفخر الرازي ٢٥ / ٨٦.

(١٠) زيادة يقتضيها السياق من المرجع السابق أيضا.

(١١) تصحيح من النسختين اللتين نقلت «ثمة». هذا وقد قال أبو حيان : هذه اللغات التي وردت في «كأين» نقلها النحويون ولم ينشدوا فيها شعرا كما علمت ، وهي في الآية هنا تفيد خبرا فغالبا ما تفيد الخبر بمعنى الكثرة ، وقلما تفيد الاستفهام ، انظر : همع الهوامع ٢ / ٧٦.

(١٢) انظر : القرطبي ١٣ / ٣٦٠ وقد رواه ابن عباس.

٣٧٢

ويسقينا؟ فأنزل الله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) أي وكم من دابة ذات حاجة إلى غذاء و (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لضعفها ، كالقمل والبرغوث والدود (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) حيث ما كنتم (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم : ما نجد ما ننفق بالمدينة ، «العليم بما في قلوبكم». قال سفيان (١) : ليس شيء مما خلق الله نجبا إلا الإنسان والفأرة والنّملة روى ابن عمر قال : دخلت مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حائطا من حوائط الأنصار فجعل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يلقط الرّطب بيده ويأكل ، فقال : كل يا ابن عمر ، (قلت : لا أشتهيها (٢) يا رسول الله قال : لكني أشتهيه ، وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاما ولم أجده) فقلت : إنا لله الله المستعان قال يا ابن عمر : لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ولكني أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمّرت وبقيت في أمر الناس يخبّئون رزق سنة ويضعف اليقين (٣) فنزلت : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) الآية ، وقال عليه (الصلاة و) (٤) السلا م «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا ، وتروح بطانا» (٥).

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٦٤)

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) يعني كفار مكة (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي هم يعتقدون هذا فكيف يصدفون عن عبادة الله مع أن من علم عظمته وجب خدمته ولا عظم فوق السماوات والأرض ، ولا حقارة فوق حقارة الجماد ؛ لأن الجماد دون الحيوان والحيوان دون الإنسان ، والإنسان دون سكان السماوات فكيف يتركون عبادة أعظم الموجودات ويشتغلون بعبادة أخسّ الموجودات؟

فصل

لما بين أمر المشرك مخاطبا معه ، (ولم ينتفع به ، وأعرض (٦) عنه ، وخاطب

__________________

(١) تقدم.

(٢) ساقط من «ب».

(٣) الحديث رواه الإمام السيوطي في الدر النثور مع اختلاف طفيف في العبارة بسند ضعيف إلى ابن عمر ، انظر : الدر المنثور ٦ / ٤٧٥ والقرطبي ١٣ / ٣٥٩.

(٤) ساقط من (ب).

(٥) الحديث أخرجه ابن ماجة في باب الزهد مروي عن عمر بن الخطاب ، انظر ٢ / ٩٤.

(٦) ما بين المعقوفين ساقط من «ب» كله.

٣٧٣

المؤمنين بقوله : (يا عِبادِيَ) وأتم الكلام معه ذكر معه) ما يكون إرشادا للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن ، فإن السيد إذا كان له عبدان أو الوالد إذا كان ولدان ، وأحدهما رشيد ، والآخر مفسد ينصح (١) أولا المفسد فإن لم يسمع يلتفت إلى الرشيد ويعرض عن المفسد ، ويقول : إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع (٢) أنت ولا يكن منك هذا المفسد فيتضمن (٣) هذا الكلام نصيحة الرشيد ، وزجر المفسد ، فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب الموجب نكاية في قلبه ، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه إنّ هذا أخاك العجب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف فيه الفساد من الصلاح ، وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده يكون هذا الكلام أيضا داعيا إلى الرشاد ومانعا له من الفساد فكذلك قال الله للمؤمن العجب منهم إنهم إن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولون الله ثم لا يؤمنون.

فصل

ذكر في السماوات والأرض الخلق ، وفي الشمس والقمر التسخير ، لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل (٤) الليل ولا النهار ، ولا الصيف ولا الشتاء فإذن الحكمة في تحريكهما (وتسخيرهما) (٥). واعلم أن في لفظ التسخير دون التحريك فائدة وهي أن التحريك يدل على مجرد الحركة ، وليست مجرد الحركة كافية ؛ لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك في ألوف من السنين ، فالحكمة في تسخيرها تحريكها في قدر ما ينتقل الإنسان آلافا من الفراسخ ، ثم لم يجعل لها حركة واحدة ، بل حركات :

إحداها : حركة من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة ، والأخرى : حركتها من المغرب إلى المشرق ويدل عليها أن الهلال يرى في جانب (المغرب) (٦) على بعد مخصوص من الشمس ثم يبعد منها إلى جانب المشرق حتى يرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشّمس ، والشمس على أفق المغرب ، والقمر على أفق المشرق وأيضا حركة الأوج ، وحركة المائل والتدوير في القمر ، ولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول (٧).

واعلم أن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس مركوزة في الفلك ، والفلك يديرها بدوران (٨). وأنكره المفسرون الظّاهريّون. واعلم أنه لا بعد في ذلك (إن) (٩) لم يقولوا

__________________

(١) في «ب» «فينصح» بالفاء.

(٢) في «ب» واسمع أنت ولا يكن مثل هذا المفسد.

(٣) في «ب» يتضمن بدون الفاء.

(٤) في «ب» ما جعل.

(٥) ساقط من «ب».

(٦) ساقط من «ب».

(٧) انظر : التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٥ / ٨٨ و ٨٩.

(٨) في «ب» بدورانه.

(٩) كلمة «إن» ساقطة من «ب».

٣٧٤

بالطبيعة ؛ فإن الله تعالى فاعل مختار إن أراد أن يحركهما (في الفلك وبالفلك ساكن يجوز ، وإن أراد أن يحركهما) بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطع أو ظاهر. واعلم أنه تعالى ذكر إيجاد الذوات بقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وذكر إيجاد الصفات بقوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ثم قال : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) لما ذكر الخلق ذكر الرزق ؛ لأن بقاء الخلق ببقائه ، وبقاء الإنسان بالرزق ، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاق (١) العبادة والأصنام ليست كذلك والله مستحقها وإما لكونه عظيم الشأن والله الذي خلق السماوات عظيم الشأن فله العبادة ، وإما لكونه يأمر (٢) الإحسان ، والله يرزق (٣) الخلق فله الفضل والإحسان ، والامتنان فله العبادة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم مقادير الحاجات والأرزاق ، ولما قال : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) ذكر اعترافهم بذلك فقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) يعني سبب الرزق ، وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله.

قوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما أقروا به ، ولزوم الحجة عليهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (ينكرون التوحيد (٤) مع إقرارهم بأنه خالق لهذه الأشياء فقل الحمد لله على ظهور تناقضهم وأكثرهم لا يعقلون) هذا التناقض ، وقيل : هذا كلام معترض في أثناء كلام ، فإنه قال (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا) يعلمون» (٥) فذكر في أثناء هذا الكلام الحمد لذكر النعمة كقوله :

٤٠٣١ ـ إنّ الثّمانين ـ وبلّغتها ـ

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان (٦)

قوله (تعالى) (٧) : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) «اللهو» هو : الاستمتاع بلذّات الدنيا ، و «اللعب» (العبث) (٨) ، سميت بها ، لأنها فانية ، وقيل : «اللهو» الإعراض عن الحق ، و «اللعب» في الإقبال على الباطل.

فإن (٩) قيل : قال في الأنعام : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) (ولم يقل : (وَما هذِهِ (١٠) الْحَياةُ)) وقال ههنا : (وَما هذِهِ الْحَياةُ) فما فائدته؟

__________________

(١) في «ب» لاستحقاقه.

(٢) في «ب» ولي الإحسان.

(٣) في «ب» وأنه يرزق الخلق.

(٤) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».

(٥) الأصح : يعقلون كما في الآية.

(٦) هذا بيت من السريع لعوف بن محلم ، وجيء به استشهادا على الاعتراض فإن جمل ة «وبلغتها» قد اعترض بين اسم إن «الثمانين» وخبره ا «قد أحوجت سمعي» وانظر : الأمالي للقالي ١ / ٥٠ وأمالي الشجري ٢ / ٢١٥ ، والمغني ٣٨٨ و ٣٩٦ وشرح شواهده للسيوطي ٨٢١ ، وشذور الذهب ٦٤ ، والهمع ١ / ٤٨ والدرر اللوامع ١ / ٢٠٧ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٢٤ ، والفخر الرازي ٢٥ / ٩٠.

(٧) ساقط من «أ».

(٨) ساقط من «ب».

(٩) ساقط من «ب» وانظر : [الأنعام : ٣٢].

(١٠) ساقط من «ب».

٣٧٥

فالجواب : أن المذكور (من (١) قبل ههنا أمر الدنيا ، حيث قال : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) فقال : هذه ، والمذكور قبلها) هناك الآخرة حيث قال : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ)(٢) فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا).

فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه هناك «اللعب» على «اللهو» وههنا أخر «اللعب» عن «اللهو».

فالجواب : لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة ، وإظهارهم للحسرة ففي ذلك الوقت ببعد الاستغراق في الدنيا ، بل نفس الاشتغال بها فأخذ (٣) الأبعد ، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها ، اللهم إلا لمانع يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق (بها) (٤) ، أو لعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلا ، فكان : (ههنا) (٥) الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) وقال ههنا (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ)؟

فالجواب : لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازع قويّ فقال : الآخرة خير ولما كان الحال هنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال : لا حياة إلا حياة الآخرة (٦).

قوله : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) قدر أبو البقاء وغيره قبل المبتدأ مضافا أي وإنّ حياة الدار الآخرة (٧) وإنما قدر ذلك ليتطابق (٨) المبتدأ والخبر والمبالغة أحسن و «واو» الحيوان (عن (٩) ياء) عند سيبويه وأتباعه (١٠) ، وإنما أبدلت واوا شذوذا ، وكذلك في «حياة» علما وقال أبو البقاء لئلا يلتبس بالتثنية (١١) يعني لو قيل : حييان ـ قال : ولم

__________________

(١) ساقط كله من «ب» وهو ما بين القوسين.

(٢) الآية ٣١ من الأنعام.

(٣) في «ب» وأخذ ـ بالواو.

(٤) ساقط من «ب».

(٥) ساقط من «ب».

(٦) انظر : التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٥ / ٩١.

(٧) انظر : التبيان ١٠٣٥.

(٨) في «ب» لتطابق.

(٩) ساقط من «ب».

(١٠) كأبي البقاء هذا وابن الأنباري وغيرهما ، انظر : البيان ٢ / ٢٤٦ وقد قال سيبويه في الكتاب ٤ / ٣٩٧ «والمضاعف من الياء قليل ، لأن الياء قد تثقل وحدها لاما ، فإذا كان قبلها ياء كان أثقل لها» ثم يقول في ٤ / ٤٠٩ «وأما قولهم «حيوان» فإنهم كرهوا أن تكون الياء الأولى ساكنة ولم يكونوا ليلزموها الحركة ههنا ، والأخرى غير معتلة من موضعها ، فأبدلوا الواو ليختلف الحرفان كما أبدلوها في «رحوي» حيث كرهوا الياءات ، فصارت الأولى على الأصل ، كما صارت اللام الأولى في «ممل» ونحوه على الأصل حيث أبدلت الياء من آخره».

(١١) التبيان ٢ / ١٠٣٥.

٣٧٦

تقلب ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ؛ لئلا يحذف إحدى الألفين وغير سيبويه (١) حمل ذلك على ظاهره ، فالحياة عنده لامها «واو». ولا دليل لسيبويه في «حيي» ؛ لأن الواو متى انكسر ما قبلها قلبت ياء نحو : «عدي ، ودعي ، ورضي». ومعنى الآية (٢) : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي الحياة الدائمة الباقية ، والحيوان بمعنى الحياة أي فيها الحياة الدائمة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون أنها الحيوان لما آثروا عليها الدنيا.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله : في الأنعام (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنعام : ٣٢] وقال هنا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)؟

فالجواب : أن المثبت هناك كون الآخرة خيرا ، ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة. وهذا دقيق لا يعلم إلا بعلم نافع.

قوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(٦٩)

قوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) قال الزمخشري : «فإن قلت» (٣) : بم اتصل قوله فإذا ركبوا في الفلك؟

قلت : بمحذوف دل عليه ما وصفهم (به) (٤) وشرح من أمرهم معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والغفلة فإذا ركبوا.

قوله : (دَعَوُا اللهَ) معناه : فإذا خافوا (من) (٥) الغرق دعوا الله مخلصين له الدين ، وتركوا الأصنام ، وهذا إشارة إلى تحقيق أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا ؛ لأنهم إذا انقطع رجاؤهم عن (٦) عن الدنيا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا ، وإذا (٧) نجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا ، وأشركوا لقوله : (فَلَمَّا) أنجاهم (إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) وهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد يقرون أن القادر على كشفها هو الله ـ عزوجل ـ وحده ، وإذا زالت عادوا إلى كفرهم ، قال عكرمة : كان أهل الجاهلية (٨) إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت(٩) عليهم الريح ألقوها في البحر ، وقالوا : يا رب يا رب.

__________________

(١) وهو قول أبي عثمان المازني ، انظر : شرح الشافية ٣ / ١٤٢ ، واللسان جبي ١٠٨٧.

(٢) انظر : القرطبي ١٣ / ٣٦٢.

(٣) ساقط من «ب».

(٤) الكشاف ٣ / ٢١٢.

(٥) ساقط من «ب».

(٦) في «ب» من الدنيا.

(٧) في «ب» وإن أنجاهم.

(٨) انظر : تفسير ابن كثير ٣ / ٤٢١.

(٩) في «ب» اشتد.

٣٧٧

قوله : «ليكفروا» فيه وجهان :

أظهرهما (١) : أن اللام لام «كي» أي سيشركون ليكون إشراكهم كفرا بنعمة الإنجاء (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بسبب الشرك (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وبال عملهم.

والثاني : أن تكون لام الأمر ، ومعناه التهديد والتوعيد (٢) ، كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] أي ليجحدوا نعمة (٣) الله في إنجائه إياهم فسيعلمون فساد ما يعملون.

قوله : (وَلِيَتَمَتَّعُوا) ، قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم وورش (٤) بكسرها ، وهي محتملة (٥) للأمرين المتقدمين ، والباقون (٦) بسكونها ، (وهي) ظاهرة في الأمر ، فإن كانت الأولى للأمر فقد عطف أمرا على مثله ، وإن كانت للعلة فيكون عطف كلاما على كلام ، فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب (٧) في الآخرة وقرأ عبد الله فتمتّعوا فسوف(٨) تعلمون ، وأبو العالية (٩) «فيمتعوا» بالياء من تحت مبنيا للمفعول (١٠).

قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) وجه تعلقه بما قبله أن الإنسان يكون في البحر على أخوف (١١) ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله حال المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذكّرهم حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم ، وفيها سكناهم ومولدهم وهي حصين بحصن الله حيث من (١٢) دخلها يمتنع من حصل فيها ، والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس يعني : إنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي أتم ما حصلتم (١٣) عليه كفرتم بالله ، وهذا متناقض ، لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي

__________________

(١) في «ب» أحدهما.

(٢) في «ب» الوعيد.

(٣) في «ب» بنعمة.

(٤) هو عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو أبو سعيد مولاهم القرشي القبطي المصري الملقب «بورش» شيخ القراء المحققين ، وإمام أهل الأداء المرتلين رحل إلى نافع فعرض عليه القراءات ، مات سنة ١٩٧ ه‍. انظر : طبقات القراء ١ / ٥٠٣.

(٥) الإتحاف ٣٤٦ ، والسبعة ٥٠٢ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣١٩ ، والكشاف ٣ / ٢١٣ ، ٢١٢ ، ومعاني الزجاج.

(٦) المراجع السابقة.

(٧) في «ب» تثبيت.

(٨) البحر ٧ / ١٥٩.

(٩) أبو العالية هو رفيع بن مهران أبو العالية الرياحي البصري المقرىء الفقيه ، مولى امرأة من بني رياح قرأ على أبيّ وغيره سمع من عمر ، وابن مسعود ، وعليّ ، وسمع منه قتادة ، والربيع بن أنس ، مات سنة ٩٣ ه‍ انظر : طبقات المفسرين للداودي ١ / ١٧٨ : ١٧٩.

(١٠) وهي قراءة شاذة ، انظر : مختصر ابن خالويه ١١٥.

(١١) في «ب» خوف بالإفراد.

(١٢) في «ب» حيث كل من دخل.

(١٣) في «ب» وفي أمن ما جعلتم عليه.

٣٧٨

حصلت (١) ، وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها ، والأصنام التي قد (قطعتم) (٢) في حال الخوف أن لا أمن منها لها كيف أمنتم بها في حال الأمن؟ ثم قال : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) (قرأ العامة) (٣) يؤمنون ويكفرون بياء الغيبة ، والحسن ، والسلمي بتاء الخطاب فيهما (٤) ، والمعنى : أفبالأصنام والشياطين يؤمنون وبنعمة الله محمد والإسلام يكفرون؟

قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فزعم أن له شريكا ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه فإذا وضعه في موضع لا يمكن ذلك موضعه يكون أظلم ، لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول.

قوله : (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) أي بمحمد ، والقرآن لما جاءه (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ) وهذا استفهام تقرير ، كقوله :

٤٠٣٢ ـ ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (٥)

والمعنى : أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم؟

قوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا) (يجوز) (٦) فيه ما جاز في (الَّذِينَ آمَنُوا) أول السورة (٧) وفيه رد على ثعلب (٨) حيث زعم أنّ جملة القسم لا تقع خبرا للمبتدأ (٩) ، والمعنى : والذين (١٠) جاهدوا المشركين لنصرة ديننا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) لنثبتنّهم على ما قاتلوا عليه وقيل : لنزيدنهم هدى (١١) ، كما قال : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦] وقيل : لنهدينّهم (١٢) لإصابة الطرق المستقيمة ، والطرق المستقيمة هي التي توصل إلى

__________________

(١) في «ب» جعلت.

(٢) تصحيح يقتضيه السياق فالسياق كان «قلتم».

(٣) ساقط من «أ» وانظر : الإتحاف ٣٤٦ ، والسبعة ٥٠٢ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣١٩ ، والكشاف ٣ / ٢١٢.

(٤) انظر : مختصر ابن خالويه ١١٥ ، وهذه قراءة شاذة غير متواترة.

(٥) هو من الوافر وهو لجرير بن عطية الخطفى في مدح عبد الملك بن مروان. وقد تقدم.

(٦) ساقط من (ب).

(٧) حيث يجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء ، والخبر جملة القسم ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر منصوبا على الاشتغال.

(٨) ثعلب : أحمد بن يحيى بن يزيد بن سيار ، سمع إبراهيم بن المنذر ومحمد بن سلام الجمحي وروى عنه محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان وأبو بكر الأنباري وغيرهم له المصون ، والفصيح وغير ذلك. انظر : إنباه الرواة ١ / ١٣٨ : ١٥١.

(٩) ووجه الامتناع عنده أحد وجهين الأول : إما كون جملة القسم لا ضمير فيها فلا تكون خبرا ، وإما كون الجملة الثانية وهي جملة القسم إنشائية والواقعة خبرا لا بد من احتمالها للصدق والكذب ، وكلا الأمرين ملغى ، انظر الهمع ١ / ٩٦ ، والبحر ٧ / ١٥٩.

(١٠) القرطبي ١٣ / ٣٦٤.

(١١) مريم : ٧٦.

(١٢) القرطبي ١٣ / ٣٦٤.

٣٧٩

رضى الله ـ عزوجل ـ قال سفيان بن عيينة (١) : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور ، فإن الله قال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(٢) وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعات قال الحسن (٣) : أفصل الجهاد مخالفة الهوى ، وقال الفضيل بن عياض (٤) «والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبيل الجنة».

قوله : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) من إقامة الظاهر مقام المضمر ، إظهارا لشرفهم ، والمعنى لمع المحسنين بالنصر والمعونة في دنياهم ، وبالثواب والمغفرة في عقباهم.

روى أبو أمامة (٥) عن أبي بن كعب (٦) قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين» (٧).

__________________

(١) سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي مولاهم أبو محمد الأعور الكوفي أحد الأئمة عن عمرو بن دينار وعنه شعبة وابن المبارك ، مات سنة ١٩٨ ه‍. انظر : خلاصة الكمال ١٤٥ ، ١٤٦.

(٢) القرطبي ١٣ / ٣٦٥.

(٣) المراجع السابقة.

(٤) الفضيل بن عياض : الإمام القدوة شيخ الإسلام أبو علي التميمي اليربوعيّ ، حدث عن منصور ، وأبان بن أبي عياش ، وروى عنه ابن المبارك ويحيى القطان ، مات سنة ١٨٧ ه‍.

انظر : خلاصة الكمال وتذكرة الحفاظ ١ / ٢٤٥ و ٢٤٦ ، وانظر رأيه في القرطبي ١٣ / ٣٦٥.

(٥) أبو إمامة : صدي بن عجلان الباهلي أبو أمامة صحابي مشهور له مائتا حديث وخمسون حديثا ، روى له خمسة أحاديث البخاري ، وثلاثة مسلم ، وعنه : شهر بن حوشب وخالد بن معدان ، وسالم بن الجعد ، ومحمد بن زياد الألهاني. مات سنة ٨١ ه‍ بحمص انظر : خلاصة الكمال ١٧٦.

(٦) أبي بن كعب : قيس بن عبيد بن يزيد بن معاوية بن عمرو بن مالك الأنصاري الخزرجي أبو المنذر المدني ، سيد القراء ، كتب الوحي ، له مائة وأربعون حديثا ، وعنه ابن عباس وأنس ، وسهل وسويد بن علقمة ومسروق وخلق كثير ، مات سنة ٣٢ ه‍. انظر : خلاصة الكمال ٢٤.

(٧) الحديث اعتبره صاحب السراج المنير من الموضوعات ، فقال : «وأما ما نقله البيضاوي عن الزمخشري (الحديث) فهو موضوع.

انظر : السراج المنير ٣ / ١٥٥ ، ومجمع البيان ٨ / ٤٢٥ ، والكشاف ٣ / ٢١٣ ، بصيغة «كل المؤمنين والمنافقين» ، والبيضاوي ٢ / ١١٣.

٣٨٠