اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

السدي (١) ، وابن زيد (٢) هذا (في) (٣) المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر.

واعلم أنه قال : (فِتْنَةَ النَّاسِ) ولم يقل : «عذاب الناس» ؛ لأن فعل العبد ابتلاه من الله ، والفتنة تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فبين منزلته ، كما جعل التكاليف ابتلاء وامتحانا ، وهذا إشارة (إلى) (٤) أن الصبر على البلية الصادرة (من الإنسان) (٥) كالصبر (على العبادات) (٦) فإن قيل : هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه ـ احترازا عن التعذيب العاجل ـ يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله.

فالجواب : ليس كذلك لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهرا وباطنا بل في باطنه الإيمان. قوله : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) أي فتح ودولة للمؤمنين «ليقولنّ» يعني هؤلاء المنافقين للمؤمنين (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) على عدوكم ، وقال : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) ولم يقل : «ولئن جاءكم» «ولئن جاءك» والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون إنا معكم ، وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين : «إنا معكم» إذا جاء النصر لكن النصر لا يجيء إلا للمؤمنين كما قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر ، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة ، بدليل أن أحد الجيشين إذا انهزم في الحال ثم ذكر المهزوم كرة أخرى وهزموا الغالبين لا يطلق اسم النصر إلا على من كان له العاقبة فكذلك المسلم وإن كسر (٧) في الحال فالعاقبة للمتقين ، والنصر لهم في الحقيقة. فإن قيل : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) ولم يقل : «من الله» مع أن ما تقدم كله يذكر الله كقوله : (أُوذِيَ فِي اللهِ) ، وقوله : (كَعَذابِ اللهِ) فما الحكمة في ذلك؟

فالجواب : لأن ـ «الرب» ـ اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة ، و «الله» اسم مدلوله الهيبة والعظمة ، فعند النصر ذكر الاسم الدال على الرحمة والشفقة ، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال (٨) على العظمة. قوله : «ليقولنّ» العامة (٩) على ضم اللام ، أسند الفعل

__________________

(١) السدّيّ : محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل السدي كوفي ، متهم بالكذب من الطبقة الثامنة ، وهو صاحب «التفسير» وروى عن يحيى بن عبيد الله ، والكلبي وعن هشام بن عبيد الله ، انظر : طبقات الداودي ٢ / ٢٥٥ ، ٢٥٦.

(٢) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي ، روى عن أبيه ، وابن المنكدر ، وعنه أصبغ ، وقتيبة ، له «التفسير» والناسخ والمنسوخ ، مات سنة ١٨٢ ه‍ ، طبقات الداودي ١ / ٢٧١.

(٣) ساقط من ب.

(٤) في ب على.

(٥) ساقط من ب.

(٦) ساقط من ب.

(٧) في «ب» أكره وما في «أ» موافق لما في تفسير الفخر الرازي.

(٨) انظر : الفخر الرازي ٢٥ / ٣٩.

(٩) نقلها في البحر المحيط ٧ / ١٤٣ بنسبة ، وفي الكشاف ٣ / ١٩٩ بدون نسبة وكذلك في مختصر ابن ـ

٣٢١

لضمير جماعة ، حملا على معنى «من» (١) بعد أن حمل على لفظها ، ونقل أبو معاذ (٢) النحوي أنه قرىء : ليقولنّ بالفتح (٣) ، جريا على مراعاة لفظها أيضا ، وقراءة العامة أحسن لقوله : (إِنَّا كُنَّا)(٤).

فصل

المعنى : إن المنافقين لما قالوا إنا كنا معكم ، أي على عدوكم وكنا مسلمين ، وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فكذبهم (الله) (٥) وقال : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) من الإيمان والنّفاق ولما بين أنه علم بما في قلوب العالمين بين أنه يعلم المؤمن المحق (٦) وإن لم يتكلم ، والمنافق وإن لم يتكلم فقال : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء ، (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) بترك الإسلام عند البلاء ، وتقدم الكلام على (نظير) (٧) ذلك. (قال عكرمة) (٨) عن ابن عباس إنها نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى «بدر» ، وهم الذين نزلت فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ)(٩) ، وقال مجاهد (١٠) : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس ، أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا (١١) ، وقال قتادة : نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة (١٢).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ

__________________

ـ خالويه فقال : «ليقولن» بفتح اللام ، ذكره أبو معاذ النحوي ، انظر : مختصر ابن خالويه ١١٤ ، وانظر : الدر المصون للسمين الحلبي ٤ / ٢٩٦.

(١) فإن معناها الجمع ولفظها الإفراد فهي من الموصولات المشتركة ، وانظر المرجع السابق.

(٢) أبو معاذ النحوي : الفضل بن خالد أبو معاذ النحويّ المروزيّ ، مولى باهلة ، روى عن : عبد الله بن المبارك ، وداود بن أبي هند ، وعنه محمد بن شقيق ، والأزهري ، صنف كتابا في القرآن ، مات سنة ٢١١ ه‍ ، انظر : طبقات الداودي ٢ / ٣٢.

(٣) الدر المصون ٤ / ٢٩٦ ، والبحر المحيط ٧ / ١٤٣.

(٤) المرجعان السابقان.

(٥) ساقط من ب.

(٦) في «ب» الحق.

(٧) ساقط من ب.

(٨) ساقطة من ب. وعكرمة هو عكرمة البربري مولى ابن عباس أبو عبد الله أحد الأئمة الأعلام ، حدث عن مولاه وعن عائشة ، وأبي هريرة ، وعنه : الشعبي ، والنخعي مات سنة ١٠٥ ه‍ ، انظر : خلاصة الكمال ٢٧٠.

(٩) [النساء : ٩٧] وانظر زاد المسير ١٦ / ٢٥٨.

(١٠) مجاهد هو مجاهد بن جبير أبو الحجاج المكي المقرىء المفسر ، الإمام ، روى عنه الأعمش ، روى عن ابن عباس كما روى عن عائشة وحدث عنه عكرمة وعطاء مات سنة ١٠٣ ه‍ ، انظر : طبقات المفسرين للداودي ٢ / ٣٠٨.

(١١) نقله في زاد المسير ٦ / ٢٥٩.

(١٢) نقله في القرطبي ١٣ / ٣٣٠ والبحر ٧ / ١٤٣.

٣٢٢

وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ)(١٣)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) قال مجاهد : هذا قول كفار مكة لمن آمن منهم وذلك أن الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل ، وعلى الإيذاء (١) لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا فيجيبه المؤمن بأن يقول خوفا من عذاب الله على خطيئة مذهبكم فقالوا : لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطيئة فعلينا (٢).

قوله : (وَلْنَحْمِلْ) أمر في معنى (٣) الجنس ، قال الزمخشري : وهو في معنى (٤) من يريد اجتماع أمرين في الوجهين فيقول : ليكن منك العطاء ، ومني الدعاء.

فقوله : (وَلْنَحْمِلْ) أي ليكن منا الحمل ، وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب وقرأ الحسن (٥) وعيسى بكسر لام الأمر (٦) ، وهو لغة الحجاز قال الزمخشري : «وهذا قول صناديد (٧) قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم لا نبعث نحن ، ولا أنتم ، فإن عسى كان ذلك فإنا نتحمل (عنكم الإثم) (٨). قال أبو حيان : «هذا تركيب (٩) عجمي من جهة إدخال حرف الشرط وهي جامدة واستعمالها من غير اسم ، ولا خبر ، وإيلائها كان». وقرأ العامة «خطاياكم» (١٠) ، وداود بن هند (١١) : «من خطيئاتهم» (١٢) جمع سلامة ، وعنه أيضا : «خطيئتهم» بالتوحيد (١٣) والمراد الجنس ، وهذا شبيه بقراءتي : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)(١٤) و «خطيئاته» وعنه أيضا : «خطئهم» (١٥) ـ بفتح الطاء وكسر الياء ، يعني بكسر الهمزة القريبة من الياء لأجل تمهيدها بين بين ، و (مِنْ شَيْءٍ) وهو مفعول بحاملين و (مِنْ خَطاياهُمْ) لما تقدم عليه انتصب حالا.

فصل

معنى الآية اتبعوا سبيلنا أي ديننا وملة آبائنا ، ونحن الكفلاء بكل تبعية من الله

__________________

(١) في ب : الأذى بالقصر.

(٢) بالمعنى من البحر المحيط ٧ / ١٤٣.

(٣) انظر الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٦١.

(٤) انظر : الكشاف ٣ / ١٩٩ بالمعنى.

(٥) الحسن : الحسن البصري بن أبي الحسن أبو سعيد مولى زيد بن ثابت ، روى عن عمران بن حصين ، وأبي موسى ، وابن عباس وعنه ابن عوف ، وأمم ، كان رأسا في العلم مات سنة ١١٠ ، انظر طبقات الداودي ١ / ١٥٠ ، ١٥١.

(٦) الإتحاف ٣٤٤ ، والبحر المحيط ٧ / ١٤٣ ، ومختصر ابن خالويه ١١٤ ، وانظر أيضا الدر المصون ٤ / ٢٩٧.

(٧) انظر : الكشاف ٣ / ١٩٩.

(٨) زيادة يقتضيها السياق من الكشاف المرجع السابق.

(٩) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٤٣.

(١٠) البحر المحيط ٧ / ١٤٣ والدر المصون ٤ / ٢٩٧.

(١١) لم أقف عليه.

(١٢) مختصر ابن خالويه ١١٤ ، والبحر ٧ / ١٤٤.

(١٣) البحر ٧ / ١٤٤.

(١٤) البقرة : ٨١.

(١٥) انظر : المراجع السابقة.

٣٢٣

تصيبكم وهو قوله : (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) ، نظير هذه الصيغة : (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ)(١) ثم (٢) أكذبهم الله تعالى فقال : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما قالوا.

فإن قيل : قال : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) وقال بعده : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) فنفى الحمل أولا ، وأثبت (٣) الحمل ثانيا فكيف الجمع بينهما؟ فالجواب : أن قول القائل في «حمل فلان وعن فلان» يريد : أن حمل فلان خف ، فإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل عنه شيئا ، فقوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) يعني (لا يرحمون) (٤) ولا يرفعون عنهم خطيئة ، بل يحملون أوزار أنفسهم ، وأوزارا بسبب إضلالهم (لهم) (٥) ، كقوله (عليه الصلاة) (٦) والسلام : «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» (٧) ، والمعنى : وليحملن أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم ، (أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي أوزارا مثل أوزار من أضلوا مع أوزارهم ، كقوله : «و (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(٨).

قوله : (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) سؤال توبيخ وتقريع ، وذلك الافتراء يحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : قولهم : (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) كان لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر ، ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك ، فيسألون عن ذلك الافتراء.

وثانيها : أن قولهم (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) كان لاعتقادهم أن لا حشر ، فإذا جاء يوم القيامة ظهر خلاف ذلك ، فيسألون ويقول لهم : أما قلتم : أن لا حشر.

وثالثها : أنهم لما قالوا : نحمل خطاياكم يوم القيامة ، يقال لهم : فاحملوا خطاياهم ، فلا يحملون ويسألون فيقال لهم : فلم افتريتم؟

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ)(١٥)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) لما بين التكليف ، وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم ، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم

__________________

(١) طه : ٣٩.

(٢) في ب : فأكذبهم.

(٣) في ب : «ثبت» ثلاثيّا.

(٤) زيادة من «ب».

(٥) زيادة من أ.

(٦) زيادة من ب.

(٧) هذا جزء من حديث طويل مروي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن جرير بن عبد الله ، وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه ٨ / ٦١ «باب العلم».

(٨) [النحل : ٢٥].

٣٢٤

فكأنه قال : هذا التكليف ليس مختصا بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم بل قبله كان كذلك كما قال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، فذكر من الذين كلفوا (١) قبله نوح عليه (الصلاة و) السلام وقومه ، وإبراهيم عليه (الصلاة و) (٢) السلام وغيرهما.

قوله : (أَلْفَ سَنَةٍ) منصوب على الظرف (إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) منصوب على الاستثناء. وفي وقوع الاستثناء من أسماء العدد خلاف. وللمانعين عنه (٣) جواب عن هذه الآية ، وقد روعيت هنا نكتة لطيفة ، وهو أن غاير بين تمييزي العدد فقال في الأول «سنة» ، وفي «الثاني» عاما ، لئلا يثقل اللفظ (٤) ، ثم إنه خص لفظ العام بالخمسين إيذانا بأن نبي الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما استراح (٥) منهم بقي في زمن حسن ، فالعرب تعبر عن الخصب بالعام ، وعن الجدب بالسنة (٦).

فصل

قال بعضهم : إن الاستثناء في العدد تكلم بالباقي (٧) ، فإذا قال القائل : لفلان عليّ عشرة إلا ثلاثة فكأنه قال : عليّ سبعة ، إذا علم هذا فقوله : (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) كقوله : تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها؟ فقال الزمخشري فيه فائدتان (٨) ، إحداهما : أنّ الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب ، فإن من قال : عاش فلان ألف سنة (يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة) (٩) تقريبا لا تخفيفا ، فإذا قال إلا شهرا أو إلا سنة يزول ذلك التوهم ، وقد يفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية : هي أن ذكر لبث نوح عليه (الصلاة و) السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيرا فالنبي عليه (الصلاة و) السلام أولى بالصبر مع قصر مدّة (دعائه).

قوله : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) فغرقوا (وَهُمْ ظالِمُونَ) قال ابن عباس : مشركون. وفيه إشارة إلى أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم ولا يعذب من ظلم وتاب بأن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم ، فقوله : (وَهُمْ ظالِمُونَ) يعني أهلكهم وهم ملتبسون بالظلم.

قوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) يعني من الغرق ، (وَجَعَلْناها) يعني السفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي عبرة ، وفي كونها آية وجوه :

__________________

(١) في «ب» فذكر الذين كلفوا قبل نوح.

(٢) زيادة من ب.

(٣) أثبتت في كلتا النسختين وفي نسخ كثيرة بهذا اللفظ «عنه» ، وقد أوردها السمين في الدر المصون ٤ / ٢٩٧ بلفظ «منه» وهو الصواب.

(٤) انظر : البحر ٧ / ١٤٥ والكشاف ٣ / ٢٠٠ قال : «فإن قلت : لم جاء المميز أولا بالسنة ، وثانيا بالعام؟

قلت : لأن تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة».

(٥) في «ب» أراح وهو تحريف.

(٦) تفسير الدر المصون للسمين ٤ / ٢٩٨.

(٧) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٤١.

(٨) نقله الفخر الرازي عن الزمخشري ولم أجده في الكشاف بلفظه المنقول. انظر : الكشاف ٣ / ٢٠٠.

(٩) ما بين المعقوفين ساقط من «ب».

٣٢٥

أحدها : كانت باقية على الجوديّ مدة مديدة.

وثانيها : أن نوحا أمر بأخذ قومه معه ، ورفع قدر من الزاد والبحر العظيم لا يتوقع أحد (نضوبه). ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ، ولو لا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة.

وثالثها : أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة والحيوانات المؤذية ، ولو لا ذلك لما حصل النجاة(١) ، وقيل : «الهاء» في «جعلناها» راجعة إلى الواقعة أو النجاة أو العقوبة بالغرق.

فصل

قال ابن عباس بعث نوح لأربعين سنة ، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطّوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا ، وكان عمره ألفا وخمسين سنة (٢) ، وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة ، وعاش بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة (٣) ، فإذا كان هذا محفوظا عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة ، وأما قبره عليه (الصلاة و) (٤) السلام فروى ابن جرير (٥) ، والأزرقي (٦) حديثا مرسلا أن قبر نوح عليه (الصلاة و) (٧) السلام بالمسجد الحرام (٨). وقيل : ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح وهناك جامع قد بني بسبب ذلك (٩) ، والأول أقوى وأثبت.

قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(١٨)

قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ) أي «وأرسلنا إبراهيم» (١٠) ، والعامة على نصبه (١١) عطفا

__________________

(١) انظر : الفخر الرازي ٢٥ / ٤١.

(٢) رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس ، انظر : زاد المسير ٦ / ٢٦١.

(٣) لم أعثر على هذه الرواية في الكتب المعتمدة ، وقد قال ابن كثير : «وقول ابن عباس أقرب والله أعلم» ، انظر : تفسير ابن كثير ٣ / ٤٠٧.

(٤) زيادة من «ب».

(٥) ابن جرير هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الآملي الطبري أبو جعفر ، الإمام ، صاحب التصانيف المشهورة له تفسير القرآن وكتاب تهذيب الآثار ، مات سنة ٣١٠ ه‍ ، انظر : طبقات المفسرين للداودي ٢ / ١١٠ ، ١١٧.

(٦) الأزرقي : لم أعثر عليه.

(٧) زيادة من «ب».

(٨) معالم التنزيل للبغوي.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) ذكره الزجاج في إعرابه ٤ / ١٦٤ وإعراب النحاس ٢٥٢ ج ٣ وانظر : البيان لابن الأنباري ٢ / ٢٤١ والمشكل ٢ / ١٦٨ ، والتبيان للعكبري ٢ / ١٠٣٠.

(١١) أي نصب إبراهيم ، انظر : المراجع السابقة.

٣٢٦

على «نوحا» (١) ، أو بإضمار «اذكر» (٢) ، أو عطفا على «هاء» (٣) «أنجيناه» ، والنخعي (٤) ، وأبو جعفر (٥) ، وأبو حنيفة (٦) : «وإبراهيم» رفعا على الابتداء ، والخبر مقدر أي ومن المرسلين إبراهيم (٧) ، وقوله : (إِذْ قالَ) بدل من «إبراهيم» بدل اشتمال (٨) ، فإن قلنا : هو ظرف «أرسلنا» أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه ، ففيه إشكال ، لأن قوله لقومه (اعْبُدُوا اللهَ) دعوة ، والإرسال يكون قبل الدعوة ، فكيف يفهم من قوله : وأرسلنا إبراهيم حين قال لقومه مع أنه يكون مرسلا قبل ذلك؟

فالجواب : هذا كقول القائل : «وقفت للأمير إذ خرج من الدّار» ، وقد يكون الوقوف قبل الخروج لكن لما كان الوقوف يمتد إلى ذلك الوقت صح ذلك.

فصل

معنى (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أطيعوا الله وخافوه ، وقيل : (اعْبُدُوا اللهَ) إشارة إلى الإتيان بالواجبات (وَاتَّقُوهُ) إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ، (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي عباد الله وتقواه خير ، لأن خلاف عبادة الله تعطيل (٩) ، وخلاف تقواه شرك ، وكلاهما شر ، (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) أصناما ، فلا تستحق العبادة لكونها أصناما منحوتة لا شرف لها.

قوله : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) العامة على فتح التاء ، وسكون الخاء ، ورفع اللام مضارع «خلق» و «إفكا» بكسر الهمزة وسكون الفاء ، أي وتختلقون كذبا ، أو تنحتون أصناما ، وعلي بن أبي طالب (١٠) ، وزيد بن علي (١١) والسّليميّ (١٢) ، وقتادة بفتح الحاء واللام مشددة (١٣) ، وهو مضارع «تخلّق» والأصل : «تتخلقون» بتاءين فحذفت إحداهما «كتنزّل» ،

__________________

(١) المراجع السابقة.

(٢) المراجع السابقة.

(٣) المراجع السابقة.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

(٧) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٤٥ ، ومختصر ابن خالويه ١١٥ ، والكشاف ٣ / ٢٠١ ، وهي من الشواذ رواية ولكنها قوية في العربية.

(٨) المراجع السابقة ، وانظر : الدر المصون ٤ / ٢٩٨ وقد قال في الكشاف ٣ / ٣٠١ «لأن الأحيان تشتمل على ما فيها».

(٩) في «ب» تعليل وهو خطأ وتحريف.

(١٠) تقدم.

(١١) زيد بن علي بن أحمد أبو القاسم العجلي شيخ العراق ، إمام حاذق ، وعادل ثقة ، قرأ على أحمد بن فرج وغيره وقرأ عليه ابن مهران ، مات سنة ٣٥٨ ، الغاية ٢٩٨ و ٢٩٩ / ١.

(١٢) السلمي : عبد الله بن حبيب بن ربيعة أبو عبد الرحمن السلمي الضرير ، مقرىء الكوفة ، إليه انتهت القراءة تجويدا ، وضبطا ، أخذ عن عثمان ، وعلي ، وعنه عاصم ، وابن السائب كان كبير القدر ، مات سنة ٧٤ ه‍ ، انظر : غاية النهاية ١ / ٤١٣ ، ٤١٤.

(١٣) نقلها في المحتسب ٢ / ٦٠ والشواذ لابن خالويه ١١٥ ، ١١٤ ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣١٥ ، والبحر المحيط ٧ / ١٤٥ وهي من القراءات غير المتواترة ، وانظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٦٥.

٣٢٧

ونحوه ، روي عن «زيد بن علي» أيضا تخلّقون بضم التاء وتشديد اللام مكسورة (١) مضارع «خلّق» مضعفا ، وقرأ ابن الزبير (٢) ، وفضيل بن (٣) زرقان أفكا (٤) ـ بفتح الهمزة وكسرها ـ وهو مصدر كالكذب معنى ووزنا ، وجوز الزمخشري (٥) في الإفك ـ بالكسر والسكون ـ وجهين :

أحدهما : أن يكون مخففا من الأفك بالفتح والكسر كالكذب واللّعب ، وأصلها : (الكذب (٦) واللّعب) وأن يكون صفة على «فعل» أي خلقا إفكا أي «ذا إفك».

قال شهاب الدين : وتقديره (٧) مضافا قبل «إفك» مع جعله له صفة غير محتاج إليه (وإنما كان (٨) يحتاج إليه) لو جعله مصدرا.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) لا يقدرون أن يرزقوكم ، وهذا إشارة إلى عدم المنفعة في الحال والمآل. قوله : «رزقا» يجوز أن يكون منصوبا على المصدر ، وناصبه (لا يَمْلِكُونَ) ؛ لأنه في معناه ، وعلى أصول الكوفيين يجوز أن يكون الأصل : لا يملكون أن يرزقوكم رزقا ، فإن «يرزقوكم» هو مفعول «يملكون» ، ويجوز أن يكون بمعنى «المرزوق» (٩) فينتصب مفعولا به ، «فابتغوا» فاطلبوا (عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) (و) هذا إشارة إلى استحقاق عبوديته (١٠) لذاته. فإن قيل : قال : (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) نكّر الرزق وقال : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) فعرفه ، فما الفائدة؟ قال الزمخشري نكره في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلا ، وعرفه عند الإثبات عند الله تعالى أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه (١١). وفيه وجه آخر (١٢) وهو أن الرزق من الله معروف بقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها)(١٣) والرزق من الأوثان غير معلوم ، فقال : «لا يملكون رزقا» لعدم حصول العلم به ، وقال : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أي الموعود به ، ثم قال : (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) اعبدوه لكونه مستحقا للعبادة لذاته ، فاشكروا له لكونه

__________________

(١) نقلها أيضا في معاني الزجاج ٤ / ١٦٥ والبحر المحيط ٧ / ١٤٥ والدر المصون ٤ / ٢٩٨.

(٢) ابن الزبير.

(٣) هكذا في كل ما توصلت إليه من مراجع «زرقان» وما في المحتسب «فضيل بن مرزوق» والقراءة نفسها منسوبة لهذه التسمية هذه وهو فضيل بن مرزوق الكوفي ، روى عن أبي حازم وعدي بن ثابت ، وعنه : يحيى بن آدم ، وبزيد بن هارون ، انظر : هامش المحتسب لابن جني ٢ / ١٦٠ والقراءة في المحتسب ٢ / ١٦٠.

(٤) المرجع السابق.

(٥) الكشاف ٣ / ٢٠١.

(٦) ساقط من ب وهي في الكشاف.

(٧) الدر المصون ٤ / ٢٩٩.

(٨) ساقط من ب وموجودة بالمرجع السابق ، انظر : الدر المصون ٤ / ٢٩٩.

(٩) في ب : الرزق.

(١٠) في ب : العبودية بالتعريف.

(١١) قال الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٠١ ، «فإن قلت : لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت : لأنه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق فابتغوا عند الله الرزق كله ، فإن الله هو الرازق وحده لا يرزق غيره».

(١٢) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٤٤.

(١٣) هود : ٦.

٣٢٨

سائق النعم إلى الخلق «و (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي اعبدوه لكونه مرجعا منه يتوقع الخير لا من غيره. قوله : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) في المخاطب بهذه الآية وجهان :

الأول : أنه قوم إبراهيم ؛ لأن القصة لإبراهيم ، فكأن إبراهيم قال لقومه : إن تكذبوا فقد كذّب أمم من قبلكم وأنا أتيت بما عليّ من التبليغ ، فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان. فإن قيل : إن إبراهيم لم يسبقه إلا قوم نوح ، وهم أمة واحدة.

فالجواب : أن قبل نوح أيضا كان أقوام كقوم «إدريس» ، وقوم «شيت» ، وآدم ، وأيضا فإن نوحا عاش أكثر من ألف سنة ، وكان القرن يموت ، ويحيا أولاده ، والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الأتباع ، فكفى بقوم نوح أمما.

الثاني : أن الآية خطاب مع قوم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ لأن هذه القصص أكثرها المقصود معه تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا عن التكذيب ، ويرتدعوا خوفا من التعذيب ، فقال في أثناء حكاياتهم : يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام هلكوا ، فإن كذبتم فإني أخاف عليكم أن يقع بكم ما وقع بغيركم (١).

وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأن الرسول إذا بلغ شيئا ولم يبينه فلم يأت بالبلاغ المبين.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٠)

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ) قرأ الأخوان (٢) وأبو بكر (٣) بالخطاب (٤) ، على خطاب «إبراهيم» لقومه بذلك ، والباقون بالغيبة ، ردّا على الأمم المكذبة.

قوله : (كَيْفَ يُبْدِئُ) ، العامة على ضم الياء من «أبدأ» والزّبيريّ (٥) ، وعيسى ، وأبو

__________________

(١) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٤٤.

(٢) الأخوان حمزة ، والكسائي ، فحمزة هو حمزة بن حبيب بن إسماعيل الإمام الحبر أبو عمارة الكوفي الزيات ، أخذ القراءة عن سليمان الأعمش وأبي إسحاق السبيعي ، مات سنة ١٥٦ ه‍ وقيل غير ذلك انظر : طبقات القراء ١ / ٢٦١ : ٢٦٣.

والكسائي : علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي أبو الحسن الإمام الذي انتهت إليه رئاسة الإقراء في الكوفة بعد حمزة الزيات ، أخذ عن حمزة ، مات سنة ١٨٩ ه‍ ، انظر : طبقات القراء ١ / ٥٣٥ : ٥٤٠.

(٣) تقدم.

(٤) انظر : الاتحاف ٣٤٤ ، وحجة ابن خالويه ٢٧٩ ، وقد قال ابن خالويه في الحجة : «فالحجة لمن قرأه بالتاء أنه أراد معنى المواجهة بالخطاب لما أنكروا البعث والنشور».

وانظر : السبعة ٤٩٨ ، وإبراز المعاني ٦٣٦ ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٦٥.

(٥) في البحر المحيط «الزبير» وإذا كان هذا فهو الزبير بن العوام ، وفي الدر المصون الزبيري كما تشير إليه ـ

٣٢٩

عمرو بخلاف عنه يبدأ مضارع بدأ. وقد صرح بماضيه هنا (١) حيث قال : (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)(٢) ، وقرأ الزهري : «كيف يبدأ» بألف (صريحة (٣) وهو تخفيف على غير قياس ، وقياسه بين بين وهو في الشذوذ كقوله :

٤٠٢٧ ـ ...........

فارعي فزارة لا هناك المرتع (٤)

فصل

المعنى : أو لم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة ثم علقه ، ثم مضغة.

فإن قيل : متى رأى الإنسان بدء الخلق ، حتى يقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ)؟

فالجواب : أن المراد بالرؤية العلم الواضح الذي كالرؤية ، والعاقل يعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق ، وإلا لما كان الخلق الأول خلقا أول ، فهو من الله ، هذا إن قلنا : إن المراد إتيان نفس الخلق وإن قلنا : إن المراد بالمبدأ خلق الآدمي أولا ، وبالإعادة خلقه ثانيا ، فنقول : العاقل لا يخفى عليه أن خالق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام ، والخلقة من نظفة في غاية الإتقان والإحكام فذاك الذي خلق أولا معلوم ظاهر ، فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية ، وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أو لم يعلموا علما ظاهرا واضحا كيف يبدأ الله الخلق وهو من غذاء هو من ماء وتراب يجمعه فكذلك يجمع أجزاءه من التراب وينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسبة إليكم فإن من نحت حجارة حتى صارت أصناما ثم كسرها وفرقها فإن وضعه شيئا بجنب شيء (٥) في هذه النوبة أسهل ، لأن الحجارة منحوتة معلومة.

فإن قيل : علق الرؤية بالكيفية (٦) لا بالخلق ، ولم يقل : أو لم يروا أن الله خلق أو بدأ الخلق والكيفية غير معلومة.

فالجواب : هذا القدر من الكيفية معلوم وهو أنه خلقه ولم يك شيئا مذكورا ، وأنه خلقه من نطفة من غذاء هو من ماء وتراب ، وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة.

__________________

ـ النسخة الأصل هذه ، وفي ب : الزهري وما في مختصر ابن خالويه «كيف بدأ الله الخلق ثم يعيده» بالفتح فيهما ، يعني الياء والدال ونسبهما للزهري ، انظر : المختصر ١١٤ ، والحجة له أيضا بدون نسبة ٢٧٩ ، والبحر المحيط ٧ / ١٤٦.

(١) أي في [العنكبوت : ٢٠].

(٢) انظر : المحتسب ٢ / ١٦١ وهي من القراءات غير المتواترة واحتمال بعد هذا أن يكون «الزبيري» الذي ذكر احتمال أن يكون تصحيفا لكلمة «الزهري» على أساس أنه قرأ بتحقيق الهمز وتسهيله فالله أعلم.

(٣) ما بين المعقوفين ساقط من ب.

(٤) من الكامل للفرزدق وقد تقدم.

(٥) في ب : تحت.

(٦) في ب : في الكيفية لا بالخلق أو لم يقل.

٣٣٠

فإن (١) قيل : قال : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أبرز اسمه مرة أخرى ولم يقل : إن ذلك عليه يسير كما قال : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) من غير إبراز.

فالجواب : أنه مع إقامة البرهان على أنه يسير أكده بإظهار اسمه ، فإنه يوجب المعرفة أيضا بكون ذلك يسيرا فإن الإنسان إذا سمع لفظ «الله» وفهم معناه أنه الحيّ القادر بقدرة كاملة لا يعجزه شيء محيط بذرات كل (٢) جسم نافذ الإرادة يقطع بجواز الإعادة (٣).

قوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ بخلقهم.

فإن قيل : أبرز (٤) اسم «الله» في الآية الأولى عند البدء ، فقال : (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ) وأضمره عند الإعادة ، وهاهنا أضمره عند البداء (٥) ، وأبرزه عند الإعادة ، فقال : «ثم الله ينشىء النشأة الآخرة».

فالجواب : أنه في الآية الأولى : لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البداء فقال : (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، كقولك : ضرب زيد عمرا ثم ضرب بكرا ، ولا يحتاج إلى إظهار اسم «زيد» اكتفاء بالأول.

وفي الثانية : كان ذكر البداء مسندا إلى الله فاكتفى به ، ولم يبرزه ، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانيا ، فقال : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ) مع أنه كان يكفي أن يقول : «ثم ينشىء» النشأة الآخرة لحكمة بالغة وهي أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه ، حتى يفهم المسمى (٦) به صفات كماله ، ونعوت جلاله ، فيقطع بجواز الإعادة فقال : (ثُمَّ اللهُ) مظهرا لينفع في ذهن الإنسان جلّ اسمه كمال قدرته ، وشمول علمه ، ونفوذ إرادته ، فيعترف بوقوع بدئه ، وجواز إعادته ، فإن قيل : فلم لم يقل : «ثم الله يعيده» بعين ما ذكرت من الحكمة فنقول : لوجهين.

أحدهما : أن الله كان مظهرا مبرزا بقرب منه وهو في قوله : (يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) ، ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق ، وأما هنا فلم يذكر غير البدء فأظهره.

وثانيهما : أن الدليل هنا تم على جواز الإعادة لأن الدليل منحصر في الآفاق وفي الأنفس ، كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣] ففي الآية الأولى أشار (٧) إلى الدليل الحاصل للإنسان من نفسه ، وفي الثانية أشار (٨) إلى الدليل

__________________

(١) في ب : بدلا من فإن قيل : فصل «فإن قيل» : فالجواب.

(٢) ساقط من ب : لفظ «كل».

(٣) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٤٦.

(٤) في ب : فصل ذكر اسم الله في الآية الأولى ظاهرا عند البدء.

(٥) في ب : البدء.

(٦) في ب : المنشىء. وهو تحريف.

(٧) في ب : إشارة بالاسمية.

(٨) في ب : كذلك.

٣٣١

الحاصل من الآفاق ، لقوله : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) وعندها تم الدليلان فأكده بإظهار نفسه ، وأما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني فلم يقل : «ثم الله يعيده» فإن قيل : قال في الأولى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) بلفظ المستقبل وهاهنا قال : (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ) بلفظ الماضي ، فما الحكمة؟

فالجواب : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم ، وهو يوجب العلم ببدء الخلق (وأما(١) الدليل الثاني فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق) فانظروا إلى الأشياء المخلوقة (٢) ، فيحصل لكم العلم بأن الله بدأ خلقا ، وتحصل من هذا القدر بأنه «ينشىء» فإن قيل : قال في هذه الآية : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وقال في الأولى : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (فما فائدته) (٣).

فالجواب : فيه فائدتان :

إحداهما : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي وهو وإن كان موجبا للعلم التام ، ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إليه يحصل العلم التام لأنه بالنظر في نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده (منه) (٤) فتم علمه (ب) (٥) أن الله على كل شيء قدير ، أن كل شيء من الله ، فقال عند تمام الدليل : إن الله على كل شيء قدير ، وقال عند الدليل الواحد إن ذلك على الله يسير وهو الإعادة.

الفائدة الثانية : أن العلم الأول أتم ، وإن (كان) (٦) الثاني أعم ، وكون (٧) الأعم يسيرا على الفاعل أتم من كونه مقدورا به ، بدليل قولك لمن يحمل مائة منّ أنه قادر عليه ، ولا يقول : إنه سهل عليه فإذا سئلت عن حمله عشرة (أمنات) (٨) يقول ذلك سهل يسير (٩) ، فنقول كان التقدير إن لم يحصل (١٠) لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض ليعلموا أنه مقدور ، ونفس كونه مقدورا كاف في إمكان الإعادة.

قوله : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ) ، قرأ ابن كثير (١١) وأبو عمرو النّشاءة ، بالمد (١٢) هنا ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين ساقط من «ب».

(٢) انظر : التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٥ / ٤٧ ، ٤٨.

(٣) ما بين المعقوفين ساقط من «أ» وتكملة من «ب».

(٤) ساقط من «ب».

(٥) ساقط من «ب».

(٦) ساقط من «ب».

(٧) في ب : وإن كان الأعم يسيرا.

(٨) تصحيح من النسختين يقتضيه السياق من الفخر الرازي.

(٩) في ب : تمييز. وهو تحريف.

(١٠) في ب : يجعل.

(١١) تقدم.

(١٢) انظر : السبعة ٤٩٨ ، والإتحاف ٣٤٥ ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣١٥ ، وانظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٦٥ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٠ ، والبحر المحيط ٧ / ١٤٦ ، والنشر ٢ / ٣٤٢ وتقريبه ١٥٨ ، وانظر حجة ابن خالوية بدون نسبة ٢٧٩.

٣٣٢

والنجم (١) ، والواقعة (٢) والباقون بالقصر ، وهما لغتان كالرأفة (٣) ، والرآفة ، وانتصابهما على المصدر (٤) المحذوف الزوائد والأصل : الإنشاءة ، أو على حذف (٥) العامل ، أي ينشىء فتنشّئون النّشأة ، وهي مرسومة (٦) بالألف وهو يقوي قراءة (٧) المد والمعنى ثم الله الذي خلقها ينشئها (٨) نشأة ثانية بعد الموت ، فكما لم يتعذر عليه إحداثها مبتدئا لا يتعذر عليه إنشاؤها معيدا.

وقوله : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ) مستأنفات من إخبار الله تعالى ، فليس الأول داخلا في حيز (٩) الرؤية ، ولا الثاني في حيز (١٠) النظر ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

قوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٢٢)

قوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) ، قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه (الصلاة و) (١١) السلام عنه تعالى (١٢) : «سبقت رحمتي غضبي» (١٣) ؛ لأن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب يسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد ، وعقبه بالرحمة فذكر الرحمة وقع تبعا لئلا يكون العذاب مذكورا وحده ، وهذا يحقق قوله عليه (الصلاة و) (١٤) السلام عنه : «سبقت رحمتي غضبي» ، وذلك أن الله تعالى حيث كان المقصود ذكر العذاب ، لم يخصه بالذكر ، بل ذكر الرحمة معه ، فإن قيل : إن كان ذكر هذه الآية لتخويف العاصي ، وتفريح المؤمن ، فلو قال : يعذب الكافر ويرحم المؤمن لكان أدخل في تحصيل المقصود.

وقوله : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لا يرهب الكافر ، لجواز أن يقول : لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابي.

فالجواب : هذا أبلغ في التخويف لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته ، وأنه إذا أراد

__________________

(١) يقصد قوله تعالى : «وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى» [النجم : ٤٧].

(٢) يقصد قوله تعالى : «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ» [الطور : ٦٢].

(٣) انظر : الدر للسمين الحلبي ٤ / ٣٠٠ ، والتبيان ١٠٣٠ والكشف ٢ / ١٧٨ ، وقد قال الفراء في معانيه : «القراء مجتمعون على قصر الشين وجزمها ، إلا الحسن البصري فإنه مدها في كل القرآن فقال (النشاءة) ومثلها مما تقوله العرب الرأفة ، والرآفة» انظر : المعاني ٢ / ٣١٥.

(٤) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٤٦ والدر المصون ٤ / ٢٠٠.

(٥) المرجعان السابقان.

(٦) في ب : موسومة للألف.

(٧) في ب : وهو نفيرا.

(٨) انظر : فتح القدير للشوكاني ٤ / ١٩٧.

(٩) في ب : في جزاء الرواية.

(١٠) في ب : خبر.

(١١) في أ: السلام فقط وما بين القوسين تكملة من «ب».

(١٢) في ب : عن ربه تعالى.

(١٣) ذكره الرازي دون إسناد في تفسيره ٢٥ / ٤٩.

(١٤) زيادة وتكملة من ب.

٣٣٣

تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه إذا شاء تعذيب الكافر فلزم منه الخوف العام بخلاف ما لو قال : يعذب العاصي ، فإنه لا يدل على كمال مشيئته لأنه لا يبعد (١) أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه ، وإذا لم يبعد (٢) هذا فنقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن (لا) (٣) يحصل في صورة أخرى (٤).

ومثاله إذا قيل : إن الملك يقدر على ضرب المخالفين ، ولا يقدر على ضرب المطيع فإذا قال : من خالفني أضربه يقع في وهم المخاطب أنه لا يقدر على ضرب المطيع ، فلا يقدر (٥) أيضا عليّ (لكوني مثله) (٦) ، وفيه فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصيا.

قوله : (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي تردّون (٧) ، (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) والخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء ، قال الفراء (٨) معناه : ولا من في السماء بمعجز (إن عصى) (٩) كقول حسّان :

٤٠٢٨ ـ فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء (١٠)

أراد : ومن يمدحه وينصره ، فأضمر «من» يريد لا يعجز أهل الأرض في الأرض ، ولا أهل السماء في السماء يعني (على) (١١) أن (مَنْ فِي السَّماواتِ) عطف على «أنتم» بتقدير : أن يعصي ، قال الفراء : وهو من غوامض العربية (١٢). قال شهاب الدين : وهذا على أصله ، حيث يجوز حذف الموصول الاسميّ ، ويبقى صفته (١٣).

__________________

(١) في كتاب الفخر الرازي يفيد وهو الأصحّ والصواب.

(٢) في كتاب الفخر الرازي يفيد وهو الأصح والصواب.

(٣) سقط النفي هذا من تفسير الفخر الرازي.

(٤) انظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥ / ٤٩.

(٥) في ب : ولا يقدر ـ بالواو.

(٦) ساقط من ب. والعبارة في تفسير الفخر الرازي ، انظره ٢٥ / ٤٩.

(٧) انظر : غريب القرآن لابن قتيبة ٣٣٧ ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ٢ / ١١٤ «ترجعون».

(٨) انظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٣١٥.

(٩) ما بين القوسين ساقط من كتاب الفراء نفسه ومثبت في كلتا النسختين وفي البحر والدر المصون ، انظر البحر المحيط ٧ / ١٤٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٠.

(١٠) البيت لحسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ يرد به على الزّبعرى وغيره من شعراء قريش ، وهو من تمام الوافر وشاهده في قوله : «ويمدحه» حيث حذف الموصول الاسمي من «يمدحه» وأبقى صلته على رأي الفراء والكوفيين. وبرواية : «أمن» وقد تقدم.

(١١) زيادة من ب.

(١٢) انظر : معاني الفراء ٢ / ٣١٥.

(١٣) انظر الدر المصون ٤ / ٣٠٠.

٣٣٤

قال قطرب (١) : ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم (٢) فيها ، كقول القائل : (لا) يفوتني فلان هاهنا ولا في البصرة أي ولا بالبصرة لو كان بها كقوله تعالى : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٣) ، أي على تقدير أن يكونوا فيها ، وأبعد من ذلك من قدره موصولين (٤) محذوفين ؛ أي) (٥) وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الجن والإنس ، ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقها (و) على قول الجمهور يكون المفعول محذوفا أي وما أنتم بمعجزين أي فائتين ما يريد (٦) الله بكم.

فصل

اعلم أن إعجاز المعذّب عن التعذيب إما بالهرب منه ، أو بالثبات ومدافعته فذكر الله تعالى القسمين فقال : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، يعني بالهرب لو صعدتم إلى السماء ، أو هربتم إلى تخوم الأرض (لم) (٧) تخرجوا من قبضة قدرة الله ـ عزوجل ـ ، فلا مطمع في الإعجاز بالهرب ، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز بالثبات إما أن يكون بالاستناد (٨) إلى ركن شديد يشفع ، ولا يمكن المعذب مخالفته فيفوته المعذب ، ويعجز عنه أو بالانتصار بقويّ يدافعه ، وكلاهما محال فلهذا قال : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ) يشفع (وَلا نَصِيرٍ) يدفع. فإن قيل : ما الحكمة في قوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ولم يقل : «ولا تعجزون» بصيغة الفعل؟

فالجواب : لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية فإن من قال : إن فلانا لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه أنه ليس بخائط ، وقدم «الأرض» على «السماء» ، و «الولي» على «النصير» ؛ لأن هربهم الممكن في الأرض ، فإن كان يقع منهم هرب فإنه يكون في الأرض ، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيصعدون في السماء وأما الدفع فإن العاقل متى أمكنه الدفع فأجمل الطرق فيه الشفاعة (٩) ، لأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك ، وليس لكل أحد ناصر يعادي الملك فلذلك (١٠) قدم الأرض على السماء ، والولي على النّصير (١١).

__________________

(١) قطرب : محمد بن علي بن المستنير ، أبو علي النحوي المعروف ، لازم سيبويه ، وكان يدلج الليل أخذ عن عيسى بن عمر ، له من التصانيف المثلث ، النوادر ، الصفات ، مات سنة ٢٠٦ ه‍ ، انظر : بغية الوعاة ١ / ٢٤٢.

(٢) انظر : تفسير القرطبي ١٣ / ٣٣٧.

(٣) [الرحمن سبحانه وتعالى : ٣٣].

(٤) انظر : البحر المحيط ٧ / ٤٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٠١.

(٥) زيادة يقتضيها السياق من ب.

(٦) في ب : مما يريد الله بكم.

(٧) زيادة يقتضيها السياق من ب.

(٨) في ب : بالإسناد.

(٩) في ب : فإن حمل الطرق فيه بالشفاعة.

(١٠) في ب : فكذلك.

(١١) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٤٩.

٣٣٥

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٥)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ) أي بالقرآن (١) وبالبعث (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) (جنّتي (٢)) (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يوم القيامة فإن قيل : هلا اكتفي بقوله : «أولئك» مرة واحدة؟

فالجواب : أن ذلك لفائدة وهو أنه لو قال أولئك يئسوا وهم في عذاب أليم ذهب (ذاهب) (٣) إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم ، فلا يوجد المجموع إلا فيهم. (و) (٤) أضاف الرحمة إلى نفسه في قوله تعالى : (يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) وأضاف اليأس إليهم بقوله : «يئسوا» إعلاما لعباده بعموم رحمته.

قوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) العامة على نصبه والحسن وسالم الأفطس (٥) برفعه وتقدم تحقيق هذا. هذه الآيات في تذكير أهل إبراهيم وتحذيرهم وهي معترضة في قصة «إبراهيم» صلوات الله عليه ، ثم عاد إلى قصة «إبراهيم» فقال تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ). لما أقام إبراهيم صلوات (٦) الله عليه البرهان على الأصول الثلاثة لم يجيبوه إلا بقولهم (اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) فإن قيل : كيف سمى قولهم : اقتلوه جوابا مع أنه ليس بجواب؟

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أنه خرج مخرج كلام (٧) متكبر ، كما يقول الملك لرسول خصمه : جوابكم السيف ، مع أن السيف ليس بجوابه وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل (٨) بالسيف.

وثانيهما : أن الله تعالى أراد بيان (ضلالتهم) (٩) وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في

__________________

(١) انظر : فتح القدير للشوكاني ٤ / ١٩٨.

(٢) ناقص من ب.

(٣) زيادة من ب.

(٤) زيادة من ب.

(٥) سالم الأفطس : سالم بن عجلان مولى محمد بن مروان بن الحكم أبو محمد الكوفي الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، وعنه الثوري ، له نحو ستين حديثا ، وثقه أحمد ، وقال أبو حاتم : صدوق ، مات مقتولا سنة ١٣٢ ه‍. انظر : خلاصة الكمال ١٣٢.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ب : مخرج التكبر.

(٨) في ب : وما أقابل إلا بالسيف.

(٩) ساقط من ب.

٣٣٦

معرض الجواب فبيّن أنهم لم يكن لهم جواب أصلا ، وذلك أن من لا يجيب غيره ويسكت لا يعلم (أنه لا يقدر (١) أم لا) لجواز (٢) أن يكون سكوته لعدم الالتفات ، وأما إذا أجاب بجواب فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه.

فصل (٣)

«أو» تذكر لأمرين الثاني منهما لا ينفك عن الأول ، كما يقال : «زوج أو فرد» ، ويقال : هذا إنسان أو حيوان ، يعني إن لم يكن إنسانا فهو حيوان ، ولا يصح أن يقال : «هذا حيوان أو إنسان» إذ يفهم منه أن يقول : هذا حيوان ، فإن لم يكن حيوانا فهو إنسان ، وهذا فاسد ، وإذا كان كذلك فالتحريق مشتمل (٤) على القتل ، فقوله : (اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) كقولك : هذا إنسان أو حيوان.

فالجواب عن (٥) هذا من وجهين :

أحدهما : أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع كقولك : أعطه دينارا أو دينارين.

قال تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل : ٢ ـ ٤] فكذا (٦) هاهنا قال : اقتلوه أو زيدوا على القتل لأن التحريق قتل وزيادة.

الثاني : سلمنا ما ذكرتم ، والأمر هنا كذلك لأن التحريق فعل مفض (٧) إلى القتل ، وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقي في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حيا يصح (٨) أن يقال : احترق فلان ، وأحرق وما مات. فكذلك هاهنا قال : اقتلوه ولا تعجلوا قتله وعذّبوه بالنار ، فإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصرّ فاتركوه في النار.

قوله تعالى : (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) ، قيل : بردت النار وقيل : خلق في إبراهيم صلوات الله (وسلامه) (٩) عليه كيفية استبردت النار. وقيل : ترك إبراهيم (على) (١٠) ما كان عليه (والنار على(١١) ما كانت عليه) ومنع أذى النار عنه ، والكلّ ممكن والله قادر عليه.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك (آيَةً لِلْعالَمِينَ) في إنجاء نوح صلوات الله (وسلامه) (١٢) عليه وأصحاب السفينة جعلناها آية وقال هاهنا آيات بالجمع ، فما الحكمة؟

__________________

(١) في ب : أنه قد يقدر على الجواب أم لا وفي تفسير الفخر : «لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب».

(٢) في ب : ويجوز أن يكون.

(٣) سقط لفظ «فصل» من ب.

(٤) في ب : يشتمل بالفعلية.

(٥) في ب : على هذا.

(٦) في ب : وهكذا.

(٧) في ب : يفضي.

(٨) في ب : فصح.

(٩) ما بين القوسين زيادة من ب.

(١٠) زيادة يقتضيها السياق من الفخر الرازي.

(١١) ساقط من ب.

(١٢) زيادة من ب.

٣٣٧

فالجواب : أن إنجاء السفينة شيء يتسع له (١) العقول ، فلم يكن فيه من الآية إلا إعلام الله تعالى إياه بالإنجاء وقت الحاجة بسبب أن الله تعالى صان (٢) السفينة عن المهلكات كالرياح ، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه لآيات فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هناك : (آيَةً لِلْعالَمِينَ) وقال هنا (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فخص الآيات بالمؤمنين؟

فالجواب : أن السفينة بقيت أعواما حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد ، وأما تبريد النار فلم يبق فلم يظهر (لمن بعده) إلا بطريق الإيمان والتصديق ، وفيه لطيفة (وهو) (٣) أن الله تعالى لما برّد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه ، وقد قال الله تعالى للمؤمنين بأن لهم أسوة في إبراهيم ، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله تبارك وتعالى يبرد عنه النار يوم القيامة ، فقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، فإن قيل : لم قال هناك : (جَعَلْناها) ، (وقال هنا جعلناه) (٤)؟

فالجواب : لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ، ولو لا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح (سفها) (٥) فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية ، وأما تبريد النار فهو في نفسه (آية) (٦) إذا وجدت لا تحتاج إلى شيء آخر كخلق الطوفان حتى يصير آية.

قوله : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ) في «ما» هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون موصولة (٧) بمعنى الذي ، والعائد محذوف وهو المفعول الأول ، و «أوثانا» مفعول ثان ، والخبر «مودّة» في قراءة (٨) من رفع كما سيأتي ، والتقدير : إنّ الذي اتّخذتموه أوثانا مودة أي ذو مودة أو جعل نفس المودة محذوف على قراءة من نصب (٩) «مودّة» أي الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة لا تنفعكم ، أو يكون «عليكم» لدلالة قوله : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ).

والثاني : أن تجعل «ما» كافة (١٠) ، و «أوثانا» مفعول به ، والاتخاذ هنا يتعدى لواحد

__________________

(١) في ب : تسعة.

(٢) في ب : أصاب. وهو تحريف.

(٣) ساقط من ب.

(٤) ساقط من ب.

(٥) ساقط من ب.

(٦) ساقط من ب.

(٧) إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٢٥٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٠١ ، والبيان لابن الأنباري ٢ / ٢٤٢ ، وإعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٤ / ١٦٧ ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣١٦ ، والتبيان لأبي البقاء ٢ / ١٠٣١ ، ومشكل إعراب القرآن ٢ / ١٦٨ ، ١٦٩.

(٨) الكشف ٢ / ١٢٨. وهي قراءة أبي عمرو ، وابن كثير ، والكسائي «غير منون» وخفض «بينكم ، مودة بينكم» أي على الإضافة. وانظر: التبيان ٢ / ١٠٣١ ، والنشر ٣ / ٣٤٣ ، وتقريب النشر ١٥٨ ، وانظر : السبعة لابن مجاهد ٤٩٨ ، والإتحاف ٣٤٥ ، والحجة لابن خالويه ٢٧٩ ، بدون نسبة كما في التبيان.

(٩) وهي قراءة نافع وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر منونا بالنصب ، وقرأ حفص وحمزة وعاصم في رواية حفص «مودة بينكم» بنصب مودة مع الإضافة ، السبعة ٤٩٩ ، وانظر : النشر ٢ / ٢٤٣ ، وتقريب النشر ١٥٨ والإتحاف ٣٤٥ ، وحجة ابن خالويه ٢٧٩.

(١٠) التبيان ١٠٣٠ ، والدر المصون ٤ / ٣٠١ ، والبيان ٢ / ٢٤٢ ، والبحر المحيط ٧ / ١٤٨ ، ٤٩.

٣٣٨

أو لاثنين والثاني هو (مِنْ دُونِ اللهِ) فمن رفع «مودة» كانت خبر مبتدأ مضمر أي هي مودة أي ذات مودة ، أو جعلت نفس المودة مبالغة والجملة حينئذ صفة «لأوثانا» (١) ، أو مستأنفة (٢) ، ومن نصب كانت مفعولا به (٣) ، أو بإضمار «أعني».

الثالث : أن تجعل «ما» مصدرية ، وحينئذ يجوز أن تقدر مضافا من الأول أي أن سبب اتخاذكم أوثانا من دون الله (مودة (٤) فيمن رفع مودة ، ويجوز أن لا يقدر بل يجعل نفس الاتحاد) (٥) هو المودة مبالغة (٦) (و) (٧) في قراءة من نصب يكون الخبر محذوفا على ما مرّ في الوجه الأوّل.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع «مودّة» غير منونة ، وجر «بينكم» (٨) ، ونافع (٩) وابن (١٠) عامر وأبو بكر (١١) بنصب «مودّة» (منونة (١٢) ونصب «بينكم» وحمزة وحفص (١٣) بنصب «مودة») غير منونة وجر بينكم ، فالرفع قد تقدم ، والنصب أيضا تقدم فيه وجهان. ويجوز وجه ثالث وهو أن يجعل مفعولا ثانيا على المبالغة والإضافة للاتساع في الظرف (١٤) كقولهم : «يا سارق الليلة أهل الدار» من نصبه فعلى أصله (١٥) ، ونقل عن عاصم (١٦) أنه رفع «مودة» غير منونة ، ونصب بينكم وخرجت إضافة «مودة» للظرف ،

__________________

(١) التبيان ٢ / ١٠٣٠ ، والدر المصون ٤ / ٣٠١.

(٢) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٤٨ ، ومعاني القرآن ٢ / ٣١٦ ، والدر المصون ٤ / ٣٠١.

(٣) التبيان ٢ / ١٠٣٠ ، والكشف ٢ / ١٧٨ والمشكل ٢ / ١٦٨.

(٤) التبيان ٢ / ١٠٣٠.

(٥) ما بين المعقوفين ساقط من ب.

(٦) انظر : البحر المحيط ٧ / ١٤٨.

(٧) ساقط من أ.

(٨) انظر : المراجع السابقة.

(٩) نافع : نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أبو عبد الرحمن الليثي مولاهم أحد القراء السبعة والأعلام ، ثقة ، صالح ، أخذ عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، وأبي جعفر القارىء وغيرهما ، مات سنة ١٦٩ ، انظر : غاية النهاية ٢ / ٣٣٠.

(١٠) ابن عامر : عبد الله بن عامر بن يزيد بن عمران اليحصبي ، إمام أهل الشام في القراءة ، وإليه انتهت مشيخة الإقراء بها مات سنة ١١٨ ه‍ ، انظر : غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٤٢٤.

(١١) أبو بكر بن سالم الأسدي الكوفي الإمام أحد الأعلام مولى واصل الأحدب ، وكان ضابطا ، اختلف في اسمه ، قرأ على عاصم ، وروى عن إسماعيل السدي ، وأبي حصين ، مات سنة ١٩٣ ه‍. انظر : غاية النهاية ١ / ٣٢٥ ، ومعرفة القراء الكبار للذهبي ١ / ١٣٤ و ١٣٨ ، وخلاصة الكمال للخزرجي ٤٤٥.

(١٢) ما بين المعقوفين ساقط من النسخة ب.

(١٣) حفص : هو حفص بن سليمان أبو عمرو البزاز ، أخذ عن عاصم مرتفعا إلى علي بن أبي طالب من رواية أبي عبد الرحمن السلمي ، مات حفص قبل الطاعون سنة ١٣١ ه‍. انظر : الفهرست لابن النديم ٤٣.

(١٤) انظر : حجة ابن خالويه ٢٨٠.

(١٥) لأنه ظرف والأصل فيه النصب ، على أن مكي أجاز نصبه على أنه صفة لمودة ، الكشف ٢ / ٢٧٨.

(١٦) عاصم بن بهدلة بن أبي النجود أبو بكر الأسدي مولاهم الكوفي شيخ الإقراء بالكوفة وأحد القراء ـ

٣٣٩

وإنما بني لإضافته إلى غير متمكن كقراءة : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)(١) بالفتح إذا جعلنا (بينكم) فاعلا ، وأما (فِي الْحَياةِ) ففيه أوجه :

أحدها : أنه هو وبينكم متعلقان «بمودة» إذا نونت جاز تعلقها بعامل واحد لاختلافهما (٢).

الثاني : أن يتعلقا بمحذوف على أنهما صفتان (٣) ل «المودة».

الثالث : أن يتعلق «بينكم» «بمودة» و (فِي الْحَياةِ) صفة لمودة ، ولا يجوز العكس لئلا يلزم إعمال المصدر الموصوف (٤) ، والفرق بينه وبين الأول أن الأول عمل فيه المصدر قبل أن يوصف ، وهذا عمل فيه بعد أن وصف ، على أن ابن عطية جوز ذلك هو وغيره (٥) ، وكأنهم اتسعوا في الظرف ، فهذا وجه رابع.

الخامس : أن يتعلق (فِي الْحَياةِ) بنفس «بينكم» لأنه بمعنى الفعل ، (إذ) (٦) التقدير : اجتماعكم ووصلكم (٧).

السادس : أن يكون حالا من نفس «دينكم» (٨).

السابع : أن يكون «بينكم» صفة المودة (٩) و (فِي الْحَياةِ) ، حال من الضمير المستكن فيه.

الثامن : أن يتعلق (فِي الْحَياةِ) «باتخذتم» (١٠) على أن يكون «ما» كافة و «مودة» منصوبة ، قال أبو البقاء : لئلا يؤذي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة (بالخبر) (١١).

قوله (١٢) : «وقال» يعني إبراهيم (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) ، فعلى قراءة رفع «مودة» وخفض «بينكم» بالإضافة يكون المعنى : اتخذتم من دون الله أوثانا وهي مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة ، ومن خفض «مودة» من غير تنوين على الإضافة لوقوع الاتخاذ عليها ، ومن نصب «مودة» ونونها ونصب «بينكم»

__________________

ـ السبعة أخذ القراءة عرضا عن زر بن حبيش ، والسلمي وروى عنه أبان بن تغلب ، وحفص ، مات سنة ١٢٠ ه‍. انظر : خلاصة الكمال ٣٤٧ و ٣٤٩ ، وغاية النهاية ١ / ٣٤٧.

(١) [الأنعام : ٩٤] ، وانظر : السبعة ٢٦٣.

(٢) انظر : البيان ٢ / ٢٤٢ و ٢٤٣.

(٣) قال أبو حيان في البحر : «ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين فيكونان في موضع الصفة» البحر ٧ / ١٤٨.

(٤) البيان ٢ / ٢٤٣.

(٥) انظر : شرح المفصل لابن يعيش ١ / ٤٥ ، والبحر ٧ / ١٤٩.

(٦) ساقط من ب.

(٧) انظر : التبيان ٢ / ١٠٣٢ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٣.

(٨) المرجع السابق.

(٩) انظر : البيان ٢ / ٢٤٣.

(١٠) انظر : التبيان ٢ / ١٠٣٢ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٣ وانظر في كل ما سبق المشكل ٢ / ٦٨ ، ١٧٢.

(١١) ساقط من ب.

(١٢) في ب : فصل بدل قوله.

٣٤٠