اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

فصل (١)

قال القاضي : هذه الآية تدل على بطلان قول الجبرية ، لأن فعلهم لو كان خلقا من الله ويجب وقوعه بالقدرة والإرادة لما عميت عليهم الأنباء ولقالوا إنّما كذّبنا الرسل من جهة خلقك فينا بتكذيبهم والقدرة الموجبة لذلك فكانت حجتهم على الله تعالى ظاهرة وكذلك القول فيما تقدم ، لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك (٢) فيّ الغواية ، والجواب : أنّ علم الله بعدم الإيمان مع وجود الإيمان متنافيان لذاتهما ، فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمرنا بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمرنا بالجمع بين الضّدين ، واعلم أنّ القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والعقاب إلا يعيد استدلاله بها ، كما أن وجه (٣) استدلاله في الكل هذا الحرف ، فكذا وجه جوابنا حرف واحد ، وهو كما ذكرنا.

قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٧٠)

قوله : (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) لمّا بيّن حال المعذبين أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيبا في التوبة (٤) ، وزجرا عن الثبات على (٥) الكفر ، وفي «عسى» وجوه :

أحدها : أنه من الكرام حقيق ، والله أكرم الأكرمين.

وثانيها : أنّها للترجي للتائب وطمعه (٦) ، كأنه قال : فليطمع في الفلاح.

وثالثها : عسى أن يكونوا كذلك إذا داموا على التوبة والإيمان ، لجواز أن لا يدوموا (٧).

قوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) نزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، يعني الوليد بن المغيرة ، أو عروة بن مسعود الثقفي ، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم (٨).

__________________

(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٥ / ١٠.

(٢) في ب : خلقك.

(٣) وجه : سقط من ب.

(٤) في ب : في بالتوبة. وهو تحريف.

(٥) في ب : في.

(٦) في ب : وطعمه. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٠.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٠ ، أسباب النزول للواحدي (٢٥٢).

٢٨١

قوله : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) فيه وجوه :

أحدها : أنّ ما نافية ، فالوقف على «يختار» (١).

والثاني : ما مصدرية أي يختار اختيارهم ، والمصدر (٢) واقع موقع المفعول ، أي مختارهم (٣).

الثالث : أن يكون بمعنى «الذي» والعائد محذوف ، أي ما كان لهم الخيرة فيه (٤) كقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى : ٤٣] أي منه (٥) ، وجوّز ابن عطية أن تكون كان تامة ، ولهم الخيرة جملة مستأنفة ، قال : ويتجه عندي أن يكون ما مفعول إذا قدّرنا كان(٦) التامة ، أي : إن الله يختار كلّ كائن ، ولهم الخيرة مستأنف معناه : تعديد النعم عليهم في اختيار الله لهم لو قبلوا (٧). وجعل بعضهم (٨) في كان ضمير الشأن ، وأنشد :

٤٠١٤ ـ أمن سميّة دمع العين تذريف

لو كان ذا منك قبل اليوم معروف (٩)

ولو كان ذا اسمها لقال معروفا ، وابن عطية منع ذلك في الآية ، قال : لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف (١٠) ، كأنه يريد أن الجار متعلق بمحذوف وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها (١١) إلا أنّ في هذا نظرا (١٢) إن أراده ، لأن هذا الجار قائم مقام الخبر ولا أظن أحدا يمنع : هو السلطان في البلد ، وهي الدار ، والخيرة : من التخير كالطيرة من التطير فيستعملان استعمال المصدر (١٣) ، وقال الزمخشري (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بيان لقوله «ويختار» ، لأن معناه : ويختار ما يشاء ولهذا

__________________

(١) ورجحه مكي قال : (لأن كونها للنفي يوجب عموم جميع الأشياء في الخير والشر ، أنها حدثت بقدر الله واختياره ، وليس لمخلوق فيها اختيار غير اكتسابه بقدر من الله له) مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٦٤ ، والوقف على «يختار» تام. انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٥١ ـ ١٥٢ ، إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٢٤١ ، منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (٢٩٣).

(٢) في ب : والمصدر فيه.

(٣) حكاه أبو البقاء. التبيان ٢ / ١٠٢٤.

(٤) قاله الطبري. انظر جامع البيان ٢٠ / ٦٣.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٧٧.

(٦) في ب : كانت.

(٧) تفسير ابن عطية ١١ / ٣٢٥.

(٨) نقله الطبري عن الفراء ، وليس في معاني القرآن للفراء ، انظر جامع البيان ٢٠ / ٦٣ ـ ٦٤.

(٩) البيت من بحر البسيط ، وهو مطلع قصيدة لعنترة يقولها في امرأة أبيه ، وهو في الديوان (٥٣) ، جامع البيان ٢٠ / ٦٤ ، تفسير ابن عطية ١ ـ / ٣٢٤ ، والسبع الطوال لابن الأنباري (٣٥٣) ، البحر المحيط ٧ / ١٢٩ ، وفي الديوان (سهية) بدل (سمية) وهو اسمها. تذريف : من ذرفت عليه عينه تذرف تذريفا ، وهو الدمع الذي يكاد يتصل في نزوله. والشاهد فيه أن في (كان) على هذه الرواية ـ وهي من إنشاء القاسم بن معن ـ ضمير شأن اسمها ، و (ذا) خبرها ، و (معروف) مبتدأ مؤخر ، وما قبله خبر ، تنزيلا ل (كان) منزلة (إن). ورواية الديوان : (لو أنّ ذا منك) ، وعليها فلا شاهد في البيت.

(١٠) تفسير ابن عطية ١١ / ٣٢٥.

(١١) يجزئيها : سقط من ب.

(١٢) في ب : نظر.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ١٧٦.

٢٨٢

لم يدخل العاطف ، والمعنى أن الخيرة لله في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة (١) فيها ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه (٢).

قال شهاب الدين : لم يزل الناس يقولون : إن الوقف على «يختار» والابتداء بما (٣) على أنها نافية هو مذهب أهل السنة (٤) ، ونقل ذلك عن جماعة كأبيّ وغيره (٥) ، وأن كونها موصولة متصلة «يختار» غير موقوف عليه هو مذهب المعتزلة ، وهذا الزمخشري قد قرر كونها نافية وحصل غرضه في كلامه وهو موافق لكلام أهل السنة ظاهرا وإن كان لا يريده ، وهذا الطبري من كبار أهل السنة منع أن تكون نافية ، قال : لئلا يكون المعنى : أنه إن لم يكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل ، وأيضا فلم يتقدم نفي (٦) ، وهذا الذي قاله ابن جرير (٧) مرويّ عن ابن عباس (٨) ، وقال بعضهم : ويختار لهم ما يشاؤه من الرسل ف «ما» على هذا واقعة على العقلاء (٩).

فصل

إن قيل : «ما» للإثبات فمعناه : ويختار الله ما كان لهم الخيرة ، أي : يختار ما هو الأصلح والخير ، وإن قيل : ما للنفي أي : ليس إليهم الاختيار ، أو ليس لهم أن يختاروا على الله كقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(١٠) [الأحزاب: ٣٦] ثم قال منزّها نفسه سبحانه وتعالى (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : إن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه (يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) من عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما يُعْلِنُونَ) من مطاعنهم فيه ، وقولهم : هلا اختير غيره في النبوة (١١). ولما بيّن علمه بما هم (١٢) عليه من الغل والحسد والسفاهة قال : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) ، وهذا تنبيه على كونه قادرا على كل الممكنات عالما بكل المعلومات منزها عن النقائص والآفات (١٣)(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة لأن الثواب غير واجب عليه بل يعطيه فضلا وإحسانا ، و (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) ويؤكد قول أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤]. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر :

__________________

(١) في ب : الجملة. وهو تحريف.

(٢) الكشاف ٣ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٣) في ب : بما كان.

(٤) انظر القرطبي ١٣ / ٣٠٥.

(٥) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٢٤١.

(٦) انظر جامع البيان ٢٠ / ٦٣ ـ ٦٤.

(٧) في ب : ابن جريج.

(٨) انظر القرطبي ١٣ / ٣٠٦ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٩.

(٩) الدر المصون ٥ / ٢٢٦ ، وانظر أيضا القرطبي ١٣ / ٣٠٦.

(١٠) [الأحزاب : ٣٦]. وانظر البغوي ٦ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١١.

(١٢) في ب : كونهم. وهو تحريف.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١١.

٢٨٣

٧٤] (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) [يونس : ١٠] (وَلَهُ الْحُكْمُ) وفصل القضاء بين الخلق ، قال ابن عباس : حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء (٢)(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي : إلى حكمه وقضائه.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٧٥)

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) الآية ، لما بيّن (٣) بقوله : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فصل عقيب ذلك ببعض (٤) ما يجب أن يحمد عليه بما (٥) لا يقدر عليه سواه ، فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) ، نبّه بذلك على كون الليل والنهار نعمتان متعاقبتان على الزمان ، ووجهه أن المرء في الدنيا مضطرّ إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ولا يتم ذلك إلا براحة وسكون بالليل ولا بد منها والحالة هذه ، فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب (٦) ولا حاجة بهم إلى الليل ، ولذلك يدوم لهم الضياء واللذات ، فبيّن بذلك أن القادر على ذلك ليس إلّا الله (٧) فقال : (قُلْ (٨) أَرَأَيْتُمْ) أخبروني يا أهل مكة (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لا نهار معه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) بنهار تطلبون فيه المعيشة (أَفَلا تَسْمَعُونَ) سماع فهم وقبول؟

قوله (٩) : أرأيتم ، وجعل تنازعا في «اللّيل» وأعمل الثاني ومفعول «أرأيتم» هي جملة الاستفهام بعده والعائد منها على الليل محذوف تقديره : بضياء بعده (١٠) ، وجواب الشرط محذوف ، وتقدم تحرير هذا في الأنعام (١١) ، وسرمدا مفعول ثان إن كان

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١١.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٣٥٩.

(٣) في الفخر الرازي : لما بيّن من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال.

(٤) في ب : بعض.

(٥) في ب : ما.

(٦) في ب : فلا تعب ولا نصب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٢.

(٨) في ب : هل. وهو تحريف.

(٩) في ب : فصل قوله.

(١٠) انظر البحر المحيط ٧ / ١٣٠.

(١١) يشير إلى قوله تعالى : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ ...» [الأنعام : ٤٦]. انظر اللباب ٣ / ٤١٣ ، ٤١٧.

٢٨٤

الجعل (١) تصييرا ، أو حال إن كان خلقا وإنشاء (٢) ، والسّرمد : الدائم الذي لا ينقطع (٣) قال طرفة(٤):

٤٠١٥ ـ لعمرك ما أمري عليّ بغمّة

نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد (٥)

والظاهر أن ميمه أصلية ، ووزنه فعلل كجعفر (٦) ، وقيل : هي زائدة واشتقاقه من السّرد ، وهو تتابع الشيء على الشيء (٧) ، إلا أنّ زيادة الميم وسطا وآخرا لا تنقاس نحو : دلامص (٨) ، وزرقم (٩) ، من الدلاص والزّرقة.

قوله : (إِلى يَوْمِ) متعلق ب «يجعل» أو ب «سرمدا» أو بمحذوف على أنه صفة ل «سرمدا» (١٠) وإنما قال : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) ، (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ، لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر ، فلما لم ينتفعوا أنزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر (١١) ، قال المفسّرون : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) سماع فهم (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ما أنتم عليه من الخطأ والضلال(١٢).

وقال الزمخشري : فإن قيل (١٣) هلّا قيل بنهار يتصرّفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه ، قلنا(١٣): ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق بها متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده(١٤) والظلام ليس بتلك المنزلة ، وإنما قرن بالضياء (أَفَلا تَسْمَعُونَ) لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل (أَفَلا تُبْصِرُونَ) لأن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره (١٥) أنت من السكون ونحوه (١٦).

__________________

(١) في ب : جعل.

(٢) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٥.

(٣) لأنه من السرد ، وهو المتابعة. انظر الكشاف ٣ / ١٧٧ ، اللسان (سرد).

(٤) تقدم.

(٥) البيت من بحر الطويل ، وقد تقدم.

(٦) هذا معنى كلام أبي حيان فإنه قال :(«سرمد» قيل : من السرمد ، فميمه زائدة ووزنه فعمل ، ولا يزاد وسطا ولا آخرا بقياس ، وإنما هي ألفاظ تحفظ) البحر المحيط ٧ / ١٣٠.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ١٧٧.

(٨) الدلامص : الدّرع البراقة اللينة ، بمعنى الدّليص والدّلاص وقد دلصت الدرع ، أي : لانت. اللسان (دلص ـ دلمص).

(٩) الزرقم : الأزرق الشديد الزرق ، والمرأة زرقم أيضا ، والذكر والأنثى في ذلك سواء ، وقال اللحياني : رجل أزرق وزرقم ، وامرأة زرقاء بينة الزرق ، وزرقمة. اللسان زرق.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٥.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٢ ـ ١٣.

(١٢) انظر البغوي : ٦ / ٣٦٠.

(١٣) في الكشاف : فإن قلت : ... قلت.

(١٤) في ب : فيه.

(١٥) في ب : ما تبصرون.

(١٦) الكشاف ٣ / ١٧٧.

٢٨٥

قوله : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي : في النهار وهذا من باب اللف والنشر (١) ومنه :

٤٠١٦ ـ كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (٢)

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : نعم الله ، وقيل : أراد الشكر على المنفعتين معا ، واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكنا (وابتغاء فضل الله بالليل ممكنا) (٣) إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره الله تعالى ، فلهذا خصه به (٤) ، وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) كرّر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ.

قوله : (وَنَزَعْنا) أخرجنا (٥)(مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يعني رسولهم الذي أرسل إليهم ، كما قال : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)(٦) [النساء : ٤١] أي : يشهد عليهم بأنهم بلغوا القوم الدلائل ، وأوضحوها لهم ليعلم أن التقصير منهم ، فيزيد ذلك في غمهم ، وقيل المراد الشهداء الذين يشهدون على الناس ، ويدخل في جملتهم الأنبياء (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم بأن معي شريكا «فعلموا» حينئذ (أَنَّ الْحَقَّ) التوحيد «لله» ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ) غاب عنهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الباطل والكذب.

قوله تعالى : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)(٧٨)

قوله تعالى : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) الآية ، قال المفسرون كان ابن عمه ،

__________________

(١) اللف والنشر هو ذكر متعدد على جهة التفصيل أو الإجمال ، ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين ثقة بأن السامع يرده إليه. الإيضاح (٣٦٦).

(٢) البيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس ، والشاهد فيه أنه شبّه شيئا واحدا في حالتين مختلفتين بشيئين مختلفين ، فالعنّاب وهو نوع من الثمار رائق المنظر راجع إلى القلوب الرطبة ، والحشف وهو أردأ التمر راجع إلى القلوب اليابسة وهو ما يسميه علماء البيان باللف والنشر.

وفيه شاهد آخر وهو أن (رطبا ويابسا) حالان العامل فيهما حرف التشبيه ، وهو (كأن) فلذا وجب تأخيرهما. البالي : العتيق. وقد تقدم.

(٣) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٣.

(٥) في ب : وأخرجنا.

(٦) [النساء : ٤١]. وانظر البغوي ٦ / ٣٦٠.

٢٨٦

لأنه قارون بن يصهر (١) بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى ابن عمران بن قاهث (٢) وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى كان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السّامري (٣) وكان يسمى المنوّر (٤) لحسن صورته (٥).

وقال (٦) ابن عباس : إنه كان ابن خالته (٧) ، فبغى عليهم ، وقيل : كان عاملا (٨) لفرعون على بني إسرائيل ، وكان يبغي عليهم ويظلمهم (٩) ، وقال قتادة : «بغى عليهم» بكثرة المال (١٠) (ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء) (١١).

وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك (١٢) ، وقال القفال : طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده (١٣) ، وقال ابن عباس : تكبّر عليهم وتجبر (١٣) ، وقال الكلبي : حسد هارون على الحبورة (١٣) ، وروي أن موسى عليه‌السلام (١٤) لما قطع الله له البحر ، وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة والحبورة وكان له القربان والمذبح وكان لموسى الرسالة ، فوجد قارون لذلك في نفسه ، وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ، ولست في شيء ، لا أصبر أنا على هذا ، فقال موسى : والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله فقال قارون له : فوالله لا أصدّقك أبدا حتى تأتيني بآية (١٥) يعرف بها أن جعل ذلك لهارون ، قال : فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كلّ رجل منهم بعصاه فجاءوا بها ، فألقاها موسى عليه‌السلام (١٦) في قبة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى ربه أن يريهم بيان ذلك ، فباتوا يحرسون عصيهم ، فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر (١٧) وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى لقارون : ألا ترى ما صنع الله لهارون ، فقال : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، فاعتزل قارون ومعه ناس كثير وولي هارون الحبورة والمذبح والقربان ، وكانت بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هارون (١٨) فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها ، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتّبع من بني إسرائيل ، فما كان يأتي موسى ولا يجالسه.

__________________

(١) في ب : بصرم.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٣٦٠ ـ ٣٦١ ، الفخر الرازي ٢٥ / ١٤.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣٦١.

(٤) في النسختين : النور.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٤.

(٦) في ب : وعن.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٤.

(٨) في ب : غلاما.

(٩) وهو قول يحيى بن سلّام وابن المسيب. انظر القرطبي ١٣ / ٣١٠.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٣٦١.

(١١) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٣٦١.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٥.

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) في ب : بحجة.

(١٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٧) أخضر : تكملة من الفخر الرازي.

(١٨) في ب : قارون.

٢٨٧

وروي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إنّ قارون كان من السّبعين المختارة الّذين سمعوا كلام الله» (١).

قوله : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) ما موصولة بمعنى الذي صلتها (إنّ) وما في حيّزها ولهذا كسرت (٢) ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع الوصل بإنّ وكان يستقبح ذلك عنهم ، يعني لوجوده في القرآن (٣) ، والمفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الذي يفتح به الباب قاله قتادة ومجاهد وجماعة (٤) ، وقيل : مفاتحه خزائنه كقوله (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩] أي : خزائنه.

قوله : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) فيها وجهان :

أحدهما : بأن الباء للتعدية ، كالهمزة ولا قلب في الكلام ، والمعنى : لتنيء المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول : أجأته وجئت به ، وأذهبته وذهبت به (٥) ، ومعنى ناء بكذا : نهض به بثقل ، قال :

٤٠١٧ ـ تنوء بأخراها فلأيا قيامها

وتمشي الهوينا (٦) عن قريب فتبهر (٧)

وقال أبو زيد : نؤت بالعمل أي : نهضت به (٨) ، قال :

٤٠١٨ ـ إذا وجدنا خلفا بئس الخلف

عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف (٩)

وفسره الزمخشري بالأثقال ، قال : يقال : ناء به الحمل حتى أثقله (١٠)

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٥.

(٢) انظر البيان ٢ / ٢٣٦ ، التبيان ٢ / ١٠٢٥.

(٣) قال النحاس : (وسمعت عليّ بن سليمان يقول : ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلات إنه لا يجوز أن يكون صلة الذي وإخوته (أنّ) ، وما علمت فيه وفي القرآن «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ») إعراب القرآن ٣ / ٢٤٢.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٣٦١.

(٥) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٢٤٢ ، التبيان ٢ / ١٠٢٥ ، البحر المحيط ٧ / ١٣٢.

(٦) الهوينا : سقط من النسختين.

(٧) البيت من بحر الطويل قاله ذو الرّمة في وصف الناقة وهو في ديوانه ٢ / ٦٢٤ القرطبي ١٣ / ٣١٢ ، اللسان (نوأ) ، البحر المحيط ٧ / ١٣٢ ، المفضليات (٣٤٢) ، تنوء : يقال : ناء بالحمل ، إذا نهض به مثقلا ، وناء به الحمل ، إذا أثقله. لأيا ، يقال : ألأى يلأى لأيا ، والتأى يلتأي إذا أبطأ. ومعناه : إن آخرها وهي عجيزتها ، تنيئها إلى الأرض لضخمها وكثرة لحمها في أردافها.

(٨) لم أعثر عليه في النوادر ، وهو في القرطبي ١٣ / ٣١٢ ، البحر المحيط ٧ / ١٣٢.

(٩) بيتان من الرجز لم أهتد إلى قائلهما ، وهما في الكامل ٣ / ١٣١١ ، أساس البلاغة (خصف) والرواية فيهما : أنشدني الرياشي لأعرابي يذم رجلا اتخذ وليمة :

إنّا وجدنا خلفا بئس الخلف

أغلق عنّا بابه ثمّ حلف

لا يدخل البوّاب إلّا من عرف

عبدا إذا ما ناء بالحمل خضف

والقرطبي ١٣ / ٣١٢ ، البحر المحيط ٧ / ١٣٢. والشاهد فيه قوله : (ناء بالحمل) أي : نهض به.

(١٠) في ب : حين أفعله. وهو تحريف.

٢٨٨

وأماله (١) ، وعليه ينطبق المعنى أي : لتثقل (٢) المفاتح العصبة.

والثاني : قال أبو عبيدة (٣) إنّ في الكلام قلبا ، والأصل : لتنوء العصبة بالمفاتح أي : لتنهض بها (٤) لقولهم : عرضت الناقة على الحوض (٥) ، وتقدم الكلام في القلب وأن فيه ثلاثة مذاهب ، وقرأ بديل بن ميسرة (٦) : لينوء بالياء من تحت والتذكير (٧) ، لأنه راعى المضاف المحذوف ، إذ التقدير حملها أو ثقلها (٨) ، وقيل الضمير في «مفاتحه» ل «قارون» فاكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير ، كقولهم : ذهبت أهل اليمامة ، قاله الزمخشري (٩) ؛ يعني كما اكتسب «أهل» التأنيث اكتسب هذا التذكير ، و «العصبة» : الجماعة الكثيرة ، والعصابة مثلها ، قال مجاهد : ما بين العشرة إلى الأربعين(١٠) ؛ لقول إخوة يوسف (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) [يوسف : ٨] وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم وقيل : أربعون رجلا (١١) وقيل سبعون (١٢) روي عن ابن عباس : كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال (١٣) ، وروى جرير (١٤) عن منصور (١٥) عن خيثمة (١٦) قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا ما يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح منها كنز (١٧) ، وطعن بعضهم في هذا القول من وجهين الأول : أنّ مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكان لها أعداد قليل من المفاتيح ، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح؟ الثاني: أن المكنوز هي الأموال (١٨) المدخرة في الأرض فلا يجوز أن يكون لها مفاتح.

__________________

(١) والعبارة في الكشاف : (ويقال : ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله) الكشاف ٣ / ١٧٨.

(٢) في ب : اشتغل. وهو تحريف.

(٣) قال أبو عبيدة : سقط من الأصل.

(٤) وعبارة أبي عبيدة : (ما إنّ العصبة ذوي القوة لتنوء بمفاتح نعمه ...) مجاز القرآن ٢ / ١١١.

(٥) انظر مجاز القرآن ٢ / ١١١.

(٦) لم أقف له على ترجمة.

(٧) المحتسب ٢ / ١٥٣ ، الكشاف ٣ / ١٧٨ ، البحر المحيط ٧ / ١٣٢.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ١٣٢.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٧٨. بتصرف.

(١٠) وهو قول قتادة. انظر البغوي ٦ / ٣٦١.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٣٦١.

(١٢) المرجع السابق.

(١٣) المرجع السابق.

(١٤) هو جرير بن حازم الأزدي ، أبو النصر البصري ، أحد الأعلام ، أخذ عن الحسن ، وابن سيرين ، وطاووس ، وغيرهم ، وأخذ عنه أيوب ، وابن عون ، وابنه وهب بن جرير ، وغيرهم ، مات سنة ١٧٠ ه‍. تهذيب التهذيب ٢ / ٦٩ ـ ٧٢.

(١٥) هو منصور بن زاذان الثقفي مولاهم أبو المغيرة الواسطي ، أخذ عن أنس وأبي العالية ، وجماعة ، وأخذ عنه جرير بن حازم ، وخلف بن خليفة وطائفة ، مات سنة ١٣١ ه‍. تهذيب التهذيب ١٠ / ٣٠٦.

(١٦) هو خيثمة بن أبي خيثمة البصري ، أبو نصر ، أخذ عن أنس ، والحسن البصري ، وأخذ عنه الأعمش ، ومنصور ، وجابر الجعفي. تهذيب التهذيب ٣ / ١٧٨.

(١٧) أخرجه سعيد بن منصور وابن منذر عن خيثمة ـ رضي الله عنه ـ انظر الدر المنثور ٥ / ١٣٦.

(١٨) في ب : هذه الأمور. وهو تحريف.

٢٨٩

وأجيب عن الأول أن المال إذا كان من جنس (العروض لا من جنس النقد) (١) جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد ، وأيضا أن قولهم تلك المفاتح بلغت ستين حملا ليس مذكورا في القرآن ، فلا تقبل هذه الرواية ، وعن الثاني أن الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق (٢) وحمل ابن عباس والحسن المفاتح على نفس (٣) المال وهذا أبين ، قال ابن عباس كانت خزائنه يحملها أربعون رجلا أقوياء (٤) ، وقال أبو مسلم المراد من المفاتح العلم والإحاطة ، كقوله تعالى (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] والمراد : آتيناه من الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ما يتعب القائمين أن يحفظوها (٥).

قوله : (إِذْ قالَ) فيه أوجه : أن يكون معمولا ل «تنوء» قاله (٦) الزمخشري (٧) ، أو ل «بغى» قاله ابن عطية (٨) ، وردّه أبو حيان بأن المعنى ليس على التقييد بهذا الوقت (٩) أو ل «آتيناه» قاله أبو البقاء (١٠) وردّه أبو حيان بأن الإيتاء لم يكن ذلك الوقت (١١). أو لمحذوف ، فقدّره (١٢) أبو البقاء : بغى عليهم (١٣) وهذا ينبغي أن يردّ بما ردّ به قول ابن عطية. وقدّره الطبري : اذكر (١٤) وقدره أبو حيان أظهر الفرح (١٥) وهو مناسب ، واعلم أنه كان في قومه من وعظه بأمور :

أحدها : قوله : لا تفرح إنّ الله لا يحبّ الفرحين ، وقرى الفارحين ـ حكاها عيسى الحجازي(١٦) ـ والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة ، قال

__________________

(١) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٦ ـ ١٧.

(٣) في ب : تفسير. وهو تحريف.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٧.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٧.

(٦) في ب : قال.

(٧) قال الزمخشري : (ومحل «إذ» منصوب ب «تنوء») الكشاف ٣ / ١٧٨.

(٨) قال ابن عطية : (وقوله تعالى : «إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ» متعلق بقوله : «فبغى») تفسير ابن عطية ١١ / ٣٣٥.

(٩) يعني وقت قوله له : «لا تفرح» ، فإنه قال ردّا على الزمخشري : (وهذا ضعيف جدا ، لأن أثقال المفاتح ليس مقيدا بوقت قول قومه له : لا تفرح) ، وقال ردا على ابن عطية : (وهو ضعيف أيضا ، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيدا بذلك). البحر المحيط ٧ / ١٣٢.

(١٠) قال أبو البقاء : (و «إِذْ قالَ لَهُ» ظرف ل «آتيناه») التبيان ٢ / ١٠٢٥.

(١١) البحر المحيط ٧ / ١٣٢.

(١٢) في ب : أو بمحذوف قدره.

(١٣) وعبارته : (ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف دل عليه الكلام ، أي : بغى إذ قال له قومه) التبيان ٢ / ١٠٢٥.

(١٤) لم يذكر الطبري هذا ، وإنما هو قول الحوفي نقله عنه أبو حيان. البحر المحيط ٧ / ١٣٢.

(١٥) قال أبو حيان : (ويظهر أن يكون تقديره : فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز إذ قال له قومه لا تفرح) البحر المحيط ٧ / ١٣٢.

(١٦) المختصر (١١٤) ، البحر المحيط ٧ / ١٣٣.

٢٩٠

بعضهم : إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها ، وأمّا من يعلم أنّه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح. وما أحسن قول المتنبي :

٤٠١٩ ـ أشدّ الغمّ عندي في سرور

تيقّن عنه صاحبه انتقالا (١)

(وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى) (٢)(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣] قال ابن عباس : كان فرحه ذلك شركا ، لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى (٣).

وثانيها : قوله : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ). يجوز أن يتعلق (فِيما آتاكَ) ب «ابتغ» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال ، أي : متقلبا (فِيما آتاكَ). و «ما» مصدرية أو بمعنى الذي (٤). والمراد (٥) أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة ، والظاهر أنه كان مقرّا بالآخرة (٦).

وثالثها : قوله : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) قال مجاهد وابن زيد لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة (٧) وقال السّدّي : بالصدقة وصلة الرحم (٨) وقال علي ألّا تنسى صحتك وقوة شبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة ، قال عليه‌السلام (٩) لرجل وهو يعظه : «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك ، وصحّتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك» (١٠).

قوله : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) : أي : إحسانا (١١) كإحسانه إليك ، أي : أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته (١٢) ، وقيل : أحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك (١٣) ، وقيل (١٤) إنه لما أمره بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقا ، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء (١٥).

__________________

(١) البيت من بحر الوافر ، قاله المتنبي ، وهو في ديوانه ٣ / ٢٢٤ ، الكشاف ٣ / ١٧٨ ، الفخر الرازي ٢٥ / ٢٦ ، البحر المحيط ٧ / ١٣٢ ، شرح شواهد الكشاف (١٠٠). يقول : أشدّ الغم عندي وقف السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه وهكذا سرور الدنيا كله.

(٢) كذا في الفخر الرازي ، وفي النسختين : وقال.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٦.

(٤) قاله أبو البقاء. التبيان ٢ / ١٠٢٦.

(٥) في الأصل : والمعنى.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٦.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٣٦٢.

(٨) المرجع السابق.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) أخرجه البغوي بسنده عن عمرو بن ميمون الأزدي. انظر البغوي ٦ / ٣٦٢.

(١١) إحسانا : سقط من ب.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٣٦٢. فتكون الكاف للتشبيه ، وهو أن يكون في بعض الأوصاف ، لأن مماثلة إحسان العبد لإحسان الله من جميع الصفات يمتنع أن تكون ، فالتشبيه وقع في مطلق الإحسان. البحر المحيط ٧ / ١٣٣.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ٣٦٢. فتكون الكاف للتعليل. البحر المحيط ٧ / ١٣٣.

(١٤) في ب : واعلم.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٦ ـ ١٧.

٢٩١

قوله : (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) ولا تطلب الفساد في الأرض (١) ، وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض (٢) ، وقيل المراد ما كان عليه من الظلم والبغي (٣) ، و (فِي الْأَرْضِ) يجوز أن يتعلق ب «تبغ» أو ب «الفساد» أو بمحذوف على أنه حال وهو بعيد. ثم قال : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ، قيل : إن هذا القائل هو موسى (٤) عليه‌السلام (٥) ؛ وقيل : بل مؤمنو قومه (٦).

وقوله : «عندي» إما ظرف ل «أوتيته» ، وإما صفة (٧) للعلم (٨).

فصل

قال قارون : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي : على فضل وخير علمه الله عندي فرآني(٩) أهلا لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره (١٠) ، وقال سعيد بن المسيب والضحاك : كان موسى عليه‌السلام (١١) يعلم علم الكيمياء (أنزل الله عليه علمه من السماء) (١٢) فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقناء ثلثه وعلم قارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه(١٣). وكان ذلك سبب أمواله.

وقيل : (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب (١٤) ثم أجاب الله عن كلامه بقوله : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) الكافرة (مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) للأموال أو أكثر جماعة وعددا. فقوله (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) يجوز أن يكون هذا إثباتا (١٥) لعلمه بأن الله قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قرأه في التوراة وأخبر به موسى وسمعه من حفاظ التواريخ ؛ كأنه قيل : أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. ويجوز أن يكون نفيا لعلمه بذلك لأنه لما قال : (أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فتصلف (١٦) بالعلم وتعظم به قيل مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع (١٧) حتى يقي به نفسه. والمعنى أنه تعالى إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما (١٨) يزيد عليه أضعافا (١٩).

__________________

(١) في الأرض : سقط من ب.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٣٦٢.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٧.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ١٧٨ ، الفخر الرازي ٢٥ / ١٧.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٧.

(٧) صفة : سقط من ب.

(٨) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٦.

(٩) في ب : وإني.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٣٦٣.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ١٧٨ ، الفخر الرازي ٢٥ / ١٧.

(١٤) المرجعان السابقان.

(١٥) في ب : استئنافا.

(١٦) الصلف : مجاوزة القدر في الظّرف والبراعة والادّعاء فوق ذلك تكبرا. اللسان (صلف).

(١٧) في ب : الباقي.

(١٨) ما : سقط من ب.

(١٩) انظر الكشاف ٣ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ، الفخر الرازي ٢٥ / ١٧.

٢٩٢

قوله : (مَنْ هُوَ أَشَدُّ) من موصولة أو نكرة موصوفة وهو في موضع المفعول ب «أهلك» ، و (مِنْ قَبْلِهِ) متعلق به ، و (مِنَ الْقُرُونِ) يجوز فيه ذلك ويجوز أن يكون حالا من (مَنْ هُوَ أَشَدُّ)(١).

قوله : (وَلا يُسْئَلُ) هذه قراءة العامة على البناء للمفعول وبالياء من تحت ، ورفع الفعل ، وقرأ أبو جعفر «ولا تسأل» بالتاء من فوق والجزم (٢) وابن سيرين وأبو العالية كذلك إلا أنه مبني للفاعل وهو المخاطب ، قال ابن أبي إسحاق : لا يجوز ذلك حتى ينصب «المجرمين» (٣) ، قال صاحب اللوامح : هذا هو الظاهر إلّا أنّه لم يبلغني فيه شيء ، فإن تركاه مرفوعا فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون «المجرمون» خبر مبتدأ محذوف أي هم المجرمون.

الثاني : أن يكون بدلا من أصل الهاء والميم في «ذنوبهم» لأنهما مرفوعا المحل ، يعني أن «ذنوبا» مصدر مضاف لفاعله ، قال فحمل المجرمون (٤) على الأصل كما تقدم في قراءة (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) بجر بعوضة ، وكان قد خرجها على أن الأصل : يضرب مثل بعوضة ، وهذا تعسف كثير فلا ينبغي أن يقرأ ابن سيرين وأبو العالية إلا «المجرمين» بالياء فقط وإنما ترك نقلها (٥) لظهوره (٦).

قوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) قال قتادة : يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال (٧) ، وقال مجاهد يعني لا تسأل الملائكة عنهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم (٨) ، وقال الحسن : لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ (٩) ، وقيل : إن المراد أن الله تعالى (١٠) إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم (١١) عن كيفية ذنوبهم وكنيتها (١٢) ، لأن الله تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى السؤال (١٣) ، فإن قيل : كيف الجمع بينه وبين قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٦.

(٢) قال أبو حيان : (وقرأ أبو جعفر في روايته «ولا تسأل» بالتاء والجزم ، «المجرمين» نصب) البحر المحيط ٧ / ١٣٤.

(٣) قال أبو حيان : (وقرأ ابن سيرين وأبو العالية كذلك في «ولا تسأل» على النهي للمخاطب ، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوز ذلك إلا أن يكون «المجرمين» بالياء في محل النصب بوقوع الفعل عليه) البحر المحيط ٧ / ١٣٤.

(٤) في ب : المجرمين.

(٥) نقلها : سقط من ب.

(٦) انظر البحر المحيط ٧ / ١٣٤. بتصرف.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٣٦٤.

(٨) المرجع السابق.

(٩) المرجع السابق.

(١٠) تعالى : سقط من ب.

(١١) في ب : يسأل.

(١٢) في ب : ويكنيتها.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٧.

٢٩٣

يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ، ٩٣] فالجواب : يحمل ذلك على وقتين كما قررناه (١).

وقال أبو مسلم : السؤال قد يكون للمحاسبة ، وقد يكون للتقريع والتوبيخ ، وقد يكون للاستعتاب ، وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوطله (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [النحل : ٨٤] (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ، ٣٦].

قوله : (فِي زِينَتِهِ) إما متعلق ب «خرج» ، وإما بمحذوف على أنه حال من فاعل خرج(٢).

فصل

قوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ)(٨١)

دلت الآية على أنه خرج بأظهر زينة وأكملها ، وليس في القرآن إلا هذا القدر والناس ذكروا وجوها مختلفة ، والأولى ترك هذه التقديرات لأنها متاعارضة ، ثم إن الناس لما رأوه على تلك الزينة قال من كان منهم (٣) يرغب في الدنيا : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الحال ، وهؤلاء الراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار ، وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا ، فأما الذين أوتوا العلم ـ وهم أهل الدين ـ قال ابن عباس : يعني الأحبار من بني إسرائيل (٤) ، وقال مقاتل : أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة (٥). فقالوا للذين تمنوا : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ) من هذه النعم ، أي: ما عند الله من الجزاء والثواب (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ) وصدق بتوحيد الله وعمل صالحا ، لأن للثواب منافع عظيمة خالصة عن شوائب المضار دائمة ، وهذه النعم على الضد في هذه الصفات (٦).

قوله (٧) : «ويلكم» : منصوب بمحذوف ، أي : «ألزمكم الله ويلكم» (٨) ، قال الزمخشري : ويلك أصله الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما يضر (٩).

قوله : (وَلا يُلَقَّاها) أي : هذه الخصلة وهي الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله. وقيل : الضمير يعود إلى ما دل عليه قوله : (آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) يعني هذه الأعمال لا يؤتاها إلا الصابرون(١٠) (وقال الزجاج : ولا يلقى هذه الكلمة وهي قولهم : (ثَوابُ اللهِ

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٧.

(٢) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٦.

(٣) في ب : قال منهم من كان.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٣٦٤.

(٥) المرجع السابق.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٨.

(٧) في الأصل : فصل.

(٨) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٦.

(٩) في الكشاف : على ترك ما لا يرضى. الكشاف ٣ / ١٧٩.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٨.

٢٩٤

خَيْرٌ) إلا الصابرون (١)) (٢) على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرمات ، وعلى الرضا بقضاء الله في(٣) كل ما قسم من المنافع والمضار (٤).

قوله : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) المشهور كسر هاء الكناية في به وبداره لأجل كسر ما قبلها. وقرى بضمها (٥) وقد تقدم أنها الأصل ، وهي لغة الحجاز.

فصل

قيل : لما أشر (٦) وبطر وعتا خسف الله به وبداره الأرض جزاء على عتوه وبطره ، والفاء تدل على ذلك ، لأن الفاء تشعر بالعلية. وقيل : إن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه‌السلام (٧) كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما ، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، فحسبه (٨) فاستكثره (٩) فشحت به نفسه ، فجمع بني إسرائيل وقال إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال : ائتوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلا حتى تقذف موسى بنفسها ، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعوها فجعل لها قارون طشتا من ذهب مملوءا ذهبا (١٠) ، وقال لها : إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل ، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ، ثم أتى موسى فقال إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم ، فخرج إليهم (١١) موسى وهم في براح(١٢) من الأرض ، فقام فيهم فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة ، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة ، (ومن زنى وله) (١٣) امرأة رجمناه حتى يموت ، فقال له قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت ، فلما جاءت قال لها موسى : يا فلا نة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وناشدها بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله فقالت في نفسها : أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله ، فقالت : لا ، كذبوا بل جعل (١٤) لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجدا يبكي ، وقال : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله (١٥) إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك ، قال : يا بني

__________________

(١) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٥٦.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في ب : و.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ١٨.

(٥) انظر الحجة لأبي على ١ / ١٣٢.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٥ / ١٩.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) فحسبه : سقط من ب.

(٩) في ب : فاستكثر.

(١٠) في ب : من ذهب.

(١١) في الأصل : إليه.

(١٢) في ب : وهي في مراح.

(١٣) ما بين القوسين في ب : أوله.

(١٤) في ب : جعلا.

(١٥) لفظ الجلالة : سقط من ب.

٢٩٥

إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون. فمن كان معه (١) فليلزم مكانه ، ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا جميعا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ، ثم (٢) قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وهو لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ، ثم قال خذيهم فانطبقت عليهم فأوحى الله إلى موسى (٣) : ما أفظك استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم ، أما وعزتي لو دعوني مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا (٤) ، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله حتى خسف الله بداره وأمواله الأرض ، ثم إن قارون يخسف به كل يوم قائمة (٥).

قال القاضي : إذا هلك بالخسف فسواء نزل عن ظاهر الأرض إلى الأرض السابعة أو دون ذلك ، وإن كان لا يمتنع على وجه المبالغة في الزجر ، وأما قولهم (٦) : إنه ـ تعالى ـ قال (٧) : لو استغاثوا بي لأغثتهم ، فإن صح حمل على استغاثة (٨) مقرونة بالتوبة ، فأما وهو ثابت على ما هو عليه مع أنه تعالى هو الذي حكم بذلك الخسف ، لأن (٩) موسى ما فعله إلا عن إذن فبعيد ، وقولهم إنهم يتجلجلون في الأرض فبعيد ، لأنه لا بد له من نهاية ، وكذا القول فيما ذكر من عدو القائمات (١٠) والذي عنده في أمثال (١١) هذه الحكايات أنها قليلة الفائدة ، لأنها من باب أخبار الآحاد فلا تفيد اليقين وليست المسألة عملية حتى يكفي فيها الظن ثم إنها في أكثر الأمر متاعارضة مضطربة فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب (١٢).

قوله : (مِنْ فِئَةٍ) يجوز أن يكون اسم كان إن كانت ناقصة ، و «له» الخبر أو «ينصرونه» وأن تكون فاعلة إن كانت تامة و «ينصرونه» صفة ل «فئة» فيحكم على موضعها بالجر لفظا وبالرفع معنى ، لأن «من» مزيدة فيها ، ثم قال (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي الممتنعين مما نزل من الخسف ، يقال : نصره من عدوه فانتصر أي : منعه فامتنع (١٣).

قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ

__________________

(١) معه : سقط من ب.

(٢) ثم : سقط من ب.

(٣) في ب : موسى عليه الصلاة والسلام.

(٤) مجيبا : سقط من ب.

(٥) في الفخر الرازي : مائة قائمة.

(٦) في ب : قوله.

(٧) قال : سقط من ب.

(٨) في الأصل : الاستغاثة.

(٩) في ب : أن.

(١٠) في ب : الغايات.

(١١) في ب : في إنفاذ.

(١٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٥ / ١٩.

(١٣) المرجعان السابقان.

٢٩٦

الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(٨٣)

قوله : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) أي : صار (١) أولئك الذين تمنوا (٢) ما رزق من (٣) المال والزينة يتندمون على ذلك التمني (٤) ، والعرب تعبر عن (٥) الصيرورة بأصبح وأمسى وأضحى ، تقول : أصبح فلان عالما ، وأضحى معدما ، وأمسى حزينا ، والمعنى صار ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى وداعيا إلى الرضا بقضاء الله وقسمته (٦).

قوله : (وَيْكَأَنَّ اللهَ ... وَيْكَأَنَّهُ) فيه مذاهب منها : أن وي كلمة برأسها وهي اسم فعل معناها أعجب (٧) أي أنا والكاف للتعليل ، و «أن» وما في حيزها مجرورة بها ، أي : أعجب لأنه لا يفلح الكافرون ، وسمع كما أنه لا يعلم غفر الله له (٨) ، وقياس هذا القول أن يوقف على «وي» وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائي ، إلا أنه ينقل عنه أنه يعتقد في الكلمة أن أصلها «ويلك» كما سيأتي ، وهذا ينافي وقفه ، وأنشد سيبويه (٩) :

٤٠٢٠ ـ وي كأن من يكن له نشب يح

بب ومن يفتقر يعش عيش ضر (١٠)

الثاني : قال بعضهم «كأن» هنا للتشبيه إلا أنه ذهب منها معناه ، وصارت للخبر والتيقن (١١) ، وأنشد :

__________________

(١) في ب : صاروا.

(٢) في ب : الذين تمنوا مكانه بالأمس.

(٣) في ب : ب.

(٤) في ب : الغنى. وهو تحريف.

(٥) في ب : عن ذلك.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢٠.

(٧) في ب : معناه وأعجب. وهو تحريف.

(٨) هذا قول الخليل ، قاله سيبويه : (وسألت الخليل ـ رحمه‌الله تعالى ـ عن قوله : «وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ» وعن قوله تعالى جده : «وَيْكَأَنَّ اللهَ» فزعم أنها «وي» مفصولة من «كأن» ، والمعنى : وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم : أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا. والله تعالى أعلم) الكتاب ٢ / ١٥٤. وانظر الكشاف ٣ / ١٨٠ ، البيان ٢ / ٢٣٧ ، التبيان ٢ / ١٠٢٧ ، البحر المحيط ٧ / ١٣٥.

(٩) الكتاب ٢ / ١٥٥.

(١٠) البيت من بحر الخفيف قاله زيد بن عمرو بن نفيل ، أو نبيه بن الحجاج ، وهو في الكتاب ٢ / ١٥٥ ، معاني القرآن للفراء ٢ / ٣١٢ ، مجالس ثعلب ١ / ٣٢٢ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٥٧ ، المحتسب ٢ / ١٥٥ ، الخصائص ٢ / ٤١ ، ١٦٩ ، الكشاف ٣ / ١٨٠. تفسير ابن عطية ١١ / ٣٤٤ ، البيان ٢ / ٢٣٧ ، ابن يعيش ٤ / ٧٦ ، اللسان (ويا) ، البحر المحيط ٧ / ١٣٥ ، المغني ٢ / ٣٦٩ ، شرح شواهده ٢ / ٧٨٦ ، الهمع ٢ / ١٠٦ ، الأشموني ٣ / ١٩٩ ، الخزانة ٦ / ٤٠٥. النشب : المال. والشاهد فيه (ويكأن) فهي عند الخليل وسيبويه مركبة من (وي) للتنبيه ، و (كأن) للتشبيه.

(١١) قال ابن جني : (وهو أن (وي) على قياس مذهبهما (الخليل وسيبويه) اسم سمي به الفعل في الخبر ، فكأنه اسم أعجب ، ثم ابتدأ فقال: «كأنه لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» و «وي كأنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من ـ

٢٩٧

٤٠٢١ ـ كأنّني حين أمسي لا يكلّمني

متيّم يشتهي ما ليس موجودا (١)

وهذه أيضا يناسبه الوقف على «وي».

الثالث : أن «ويك» كلمة برأسها والكاف حرف خطاب ، وأنّ معمولة لمحذوف ، أي : اعلم أنّه لا يفلح ، قاله الأخفش (٢) ، وعليه قوله :

٤٠٢٢ ـ ألا ويك المسرّة لا تدوم

ولا يبقى على البؤس النّعيم (٣)

وقوله عنترة (٤) :

٤٠٢٣ ـ ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم (٥)

وحقه أن تقف على «ويك» وقد فعله أبو عمرو بن العلاء (٦).

الرابع : أن أصلها «ويلك» فحذف (٧) ، وإليه ذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم (٨) ،

__________________

ـ عباده» ، ف (كأنّ) إخبار عار من معنى التشبيه ، ومعناه إنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء) المحتسب ٢ / ١٥٥. وردّ هذا بأن (وي) للتنبيه ، وليست بمعنى : أعجب ، وأما قوله : (إن كأنّ عارية من معنى التشبيه) ، فقول سيبويه : (أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا) انظر الخزانة ٦ / ٤٠٤ ـ ٤٠٨.

(١) البيت من بحر البسيط قاله عمر بن أبي ربيعة ، وهو في ديوانه (٥٣) ، الخصائص ٣ / ٧٠ ، المحتسب ٢ / ١٥٥ ، البيان ٢ / ٢٣٧ ، ابن يعيش ٤ / ٧٧ ، اللسان (عود) ونسب فيه إلى يزيد بن الحكم يمدح سليمان بن عبد الملك ، المغني ٢ / ٣٦٩ ، شرح شواهده ٢ / ٧٨٨. والشاهد فيه أنّ (كأنّ) هنا ليست للتشبيه فكأنها زائدة قال ابن جني في المحتسب : (وممّا جاءت فيه (كأنّ) عارية من معنى التشبيه ما أنشدناه أبو علي : ... البيت. أي : أنا حين أمسي (متيّم) من حالي كذا وكذا) المحتسب ٢ / ١٥٥.

(٢) كذا نقل عنه ابن جني في الخصائص ٣ / ٤٠ ـ ٤١ ، ١٧٠ ، وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٣٧ ، وكلام الأخفش في المعاني لا يفهم منه ذلك ، فإنّه قال في معرض حديثه عن هذه الآية : (المفسرون يفسرونها : ألم تر أنم الله ، وقال : (ويكأنّه لا يفلح الكافرون) وفي الشعر :

سالتاني الطّلاق أن رأتا ما

لي قليلا قد جئتماني بنكر

ويكأنّ من يكن له نشب يح

بب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ

المعاني ٢ / ٦٥٤ ـ ٦٥٥.

(٣) البيت من بحر الوافر ، لم أهتد إلى قائله ، وهو في البحر المحيط ٧ / ١٣٥. والشاهد فيه قوله : (ويك) فإن الكاف فيه حرف خطاب لا محل له من الإعراب ، ومعناه : اعلم أن المسرّة.

(٤) تقدم.

(٥) البيت من بحر الكامل ، وهو من معلقته ، وهو في المحتسب ١ / ١٦ ، ٢ / ١٥٦ د أمالي ابن الشجري ٢ / ٥ ، ٦ ، السبع الطوال لابن الأنباري ٣٥٩ ، ٣٦٠ ، ابن يعيش ٤ / ٧٧ ، المغني ٢ / ٣٦٩ ، شرح التصريح ٢ / ١٩٧ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٧٨٧ ، الأشموني ٣ / ١٩٨ ، الخزانة ٦ / ٤٢١. عنتر : منادى مرخم. والشاهد فيه قوله : (ويك) فهي كلمة برأسها غير مركبة من كلمتين ، ومعناها هنا التعجب ، والكاف حرف خطاب.

(٦) نسب الأشموني هذا القول لأبي عمرو بن العلاء. انظر الأشموني ٣ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٧) في ب : محذوف.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ١٣٥.

٢٩٨

وحقهم (١) أن يقفوا على الكاف كما فعل أبو عمرو ، ومن قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين ، فإنه يحتمل أن يكون الأصل فيهما «ويلك» فحذف ولم يرسم في القرآن إلا (وَيْكَأَنَّ) (وَيْكَأَنَّهُ) (٢) متصلة في الموضعين (٣). فعامّة القرّاء اتبعوا الرسم ، والكسائي وقف على «وي» وأبو عمرو على «ويك» (٤) وهذا كله في وقف الاختيار دون الاختبار كنظائر تقدمت (٥).

الخامس : أنّ ويكأنّ كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها «ألم تر» (٦) وربّما نقل ذلك عن ابن عباس (٧) ، ونقل الكسائي والفراء أنها بمعنى : أما ترى إلى صنع الله ، قال الفراء : هي كلمة تقرير ، وذكر أنه أخبره (٨) من سمع أعرابيه تقول لزوجها : أين ابنك؟ قال : وي كأنّه وراء البيت ، يعني : أما ترينه وراء البيت (٩) ، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى : رحمة لك في لغة حمير (١٠).

قوله : (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ) قرأ الأعمش «لو لا من» بحذف «أن» وهي مرادة ، لأن لولا هذه لا يليها إلا المبتدأ (١١) ، وعنه «منّ» برفع النون وجر الجلالة ، وهي واضحة (١٢).

قوله : «لخسف» قرأ حفص : «لخسف» مبنيا للفاعل أي الله تعالى ، والباقون ببنائه للمفعول (١٣) ، و «بنا» هو القائم مقام الفاعل ، وعبد الله وطلحة لانخسف بنا (١٤) أي : المكان ، وقيل : «بنا» هو القائم مقام الفاعل كقولك : انقطع بنا (١٥) ، وهي عبارة رديئة وقيل : الفاعل (١٦) ضمير المصدر أي : لانخسف الانخساف (١٧) وهي عنه أيضا ، وعن

__________________

(١) في ب : فحذف اللام ، وإنما جاز هذا الحذف لكثرتها في الكلام ، وجعل (أن) مفتوحة بفعل مضارع مضمر كأنه قال : ويلك اعلم ، وحقهم.

(٢) في ب : إلا ويكأن مكانه. وهو تحريف.

(٣) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٣١٢.

(٤) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٣٤٥.

(٥) في ب : وهذا كله في وقف الاختيار كنظائره وتقدمت.

(٦) عزاه ابن خالويه إلى أبي زيد فإنه قال : (وقال أبو زيد : «ويكأنّ» حرف واحد) المختصر (١١٤).

(٧) انظر البحر المحيط ٧ / ١٣٥.

(٨) في ب : أخبر.

(٩) معاني القرآن ٢ / ٣١٢.

(١٠) انظر تأويل مشكل إعراب القرآن (٥٢٧).

(١١) في ب : بالمبتدأ.

(١٢) المختصر (١١٤) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٤٤ ، البحر المحيط ٧ / ١٣٥.

(١٣) السبعة (٤٩٥) ، الكشف ٢ / ١٧٥ ـ ١٧٦ ، النشر ٢ / ٣٤٢ ، الإتحاف ٣٤٤.

(١٤) المختصر (١١٤) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٤٥ ، البحر المحيط ٧ / ١٣٥.

(١٥) قال أبو حيان : (وابن مسعود ، وطلحة ، والأعمش : «لا نخسف بنا» كقولك : انقطع بنا ، كأنّه فعل مطاوع ، والمقام مقام الفاعل هو «بنا») البحر المحيط ٧ / ١٣٥.

(١٦) الفاعل : سقط من ب.

(١٧) قال أبو حيان : (ويجوز أن يكون المصدر ، أي : لا نخسف الانخساف ، ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به ، فلذلك بني إما ل «بنا» ، وإما للمصدر) البحر المحيط ٧ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

٢٩٩

عبد الله «لتخسّف» بتاء من فوق وتشديد السين مبنيا للمفعول ، وبنا قائم مقامه (١).

قوله : (وَيْكَأَنَّ) كلمة مستعملة عند التنبيه للخطاب وإظهار التندم (٢) ، فلما قالوا : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) [القصص : ٧٩] ثم شاهدوا الخسف تنبهوا لخطئهم ، ثم قالوا : كأنه (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه ، ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيّق عليه ، بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة (٣) ، قال سيبويه : سألت الخليل عن هذا الحرف ، فقال : «وي» مفصولة (٤) من «كأنّ» وأن القوم تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم(٥).

قوله تعالى (٦) : (تِلْكَ الدَّارُ) مبتدأ وصفته ، و «نجعلها» هو الخبر ، ويجوز أن يكون «الدّار» هو الخبر «ونجعلها» خبرا آخر ، وحال (٧) والأولى أحسن ، وهذا تعظيم (٨) لها وتفخيم لشأنها ، يعني : تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها (٩)(لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) كرّر «لا» ليفيد أن كلا منهما مستقل في بابه لا مجموعهما ، (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٨)

قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ، لمّا بيّن أن الدار الآخرة ليست إلا للمتقين بيّن(١٠) بعد ذلك ما يحصل لهم فقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ، والمعنى : أنهم يزادون على ثوابهم ، وقوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وظاهره أنهم لا يزادون على ما يستحقون (١١).

فقوله : (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ) من إقامة الظاهر مقام المضمر تشنيعا عليهم ، وقوله : (إِلَّا ما كانُوا) أي : إلّا مثل ما كانوا ، قال الزمخشري : إنما كرر ذكر السيئات ، لأن في

__________________

(١) المختصر (١١٤) ، البحر المحيط ٧ / ١٣٦.

(٢) في ب : الندم.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢٠.

(٤) في ب : مفعول. وهو تحريف.

(٥) انظر الكتاب ٢ / ١٥٤.

(٦) تعالى : سقط من ب.

(٧) انظر البيان ٢ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

(٨) في ب : عظيم.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٨٠ ، الفخر الرازي ٢٥ / ٢٠.

(١٠) في ب : وبيّن.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢١.

٣٠٠