اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشعراء

مكية إلا قوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) [الشعراء : ٢٢٤ ـ ٢٢٧] إلى آخرها فإنها مدنية (١) وهي مائتان وسبع وعشرون آية ، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة ، وخمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(٤)

قوله تعالى : (طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ).

أظهر حمزة نون «سين» قبل الميم ، كأنه ناو الوقف ، وإلا فإدغام مثله واجب والباقون يدغمون(٢). وتقدم إعراب الحروف المقطعة. وفي مصحف عبد الله : «ط س م» مقطوعة من بعضها. قيل : وهي قراءة أبي جعفر ، يعنون أنه يقف على كل حرف وقفة يميز بها كل حرف ، وإلا لم يتصور أن يلفظ بها على صورتها في هذا الرسم (٣) وقرأ عيسى ـ وتروى عن نافع ـ بكسر الميم هنا وفي القصص (٤) على البناء. وأمال (٥) الطاء الأخوان وأبو بكر (٦) ، وقد تقدم. روى عكرمة عن ابن عباس قال : (طسم) عجزت العلماء عن علم تفسيرها (٧). وروى علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أنه قسم ، وهو من أسماء الله تعالى (٧). وقال قتادة : اسم من أسماء القرآن (٧). وقال مجاهد : اسم للسورة (٧). وقال محمد بن كعب القرظي : قسم بطوله وسناه وملكه (٧). (تِلْكَ آياتُ) أي : هذه الآيات آيات (الْكِتابِ الْمُبِينِ) قوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٠٧ ، والقرطبي ١٣ / ٨٧ ، والبحر المحيط ٧ / ٥.

(٢) السبعة (٤٧٠) ، الكشف ٢ / ١٥٠ ، الإتحاف (٣٣١).

(٣) وتروى عن نافع. انظر المختصر (١٠٦) ، السبعة (٤٧٠) تفسير ابن عطية ١١ / ٨٦ ـ ٨٧ ، البحر المحيط ٧ / ٥.

(٤) البحر المحيط ٧ / ٥.

(٥) في ب : وأما. وهو تحريف.

(٦) السبعة (٤٧٠) ، الإتحاف (٣٣١).

(٧) انظر البغوي ٦ / ٢٠٥.

٣

نَفْسَكَ). قرأ قتادة : «باخع نفسك» على الإضافة (١). والمعنى قاتل نفسك (أَلَّا (٢) يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : إن لم يؤمنوا ، وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك ، وكان يحرص على إيمانهم ، فأنزل الله هذه الآية (٣) ، وهذا تسلية للرسول ، أي : لا تبالغ في الحزن والأسف ، فصبره وعزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا ينفع ، كما أن وجود الكتاب وو ضوحه لا ينفع.

قوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ). العامة على نون العظمة فيهما. وروي عن أبي عمرو بالياء فيهما ، أي : إن يشأ الله ينزل (٤). و «إن» أصلها أن تدخل على المشكوك فيه (٥) أو المحقق المبهم زمانه ، والآية من هذا الثاني.

قوله : «فظلت» عطف على «ننزل» فهو في محل جزم (٦). ويجوز أن يكون مستأنفا غير معطوف على الجزاء (٧). ويؤيد الأول قراءة طلحة : «فتظلل» (٨) بالمضارع مفكوكا (٩). قوله : «خاضعين». فيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر عن «أعناقهم» (١٠). واستشكل جمعه جمع سلامة ؛ لأنه مختص بالعقلاء. وأجيب عنه بأوجه :

أحدها : أن المراد بالأعناق : الرؤساء كما قيل : لهم وجوه وصدور (١١) ، قال :

٣٨٩٤ ـ في محفل من نواصي الخيل مشهود (١٢)

الثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : فظل أصحاب الأعناق ، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل حذف المخبر عنه مراعاة للمحذوف (١٣) ، وتقدم ذلك قريبا عند قراءة : (وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : ٦١].

الثالث : أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم (١٤) ، كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله :

__________________

(١) المختصر (١٠٦) ، الكشاف ٣ / ١٠٧ ، البحر المحيط ٧ / ٥.

(٢) في ب : قوله : «ألا ...».

(٣) انظر البغوي ٦ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٤) تفسير ابن عطية ١١ / ٧٨٨ ، البحر المحيط ٧ / ٥.

(٥) (فيه) : تكملة ليست في المخطوط.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ١٠٧ ، البيان ٢ / ٢١١ ، التبيان ٢ / ٩٩٣.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٩٣.

(٨) في النسختين : فتظال.

(٩) البحر المحيط ٧ / ٥.

(١٠) انظر البيان ٢ / ٢١١.

(١١) نقله الفراء عن مجاهد. معاني القرآن ٢ / ٢٧٧ ، البيان ٢ / ٢١١ ، التبيان ٢ / ٩٩٣.

(١٢) عجز بيت من بحر البسيط ، قالته أم قبيئس الضبية ، وصدره :

ومشهد قد كفيت الغائبين

وهو في الكشاف ٣ / ١٠٧ ، اللسان (نصا) بروآية (الناس) مكان (الخيل) والبحر المحيط ٧ / ٦.

(١٣) انظر البيان ٢ / ٢١١ ، التبيان ٢ / ٩٩٣.

(١٤) قال الأخفش : (أو يكون ذكره لإضافته إلى المذكر كما يؤنث لإضافته إلى المؤنث) معاني القرآن ٢ / ٦٤٤. وانظر البيان ٢ / ٢١١ ـ ٢١٢ ، التبيان ٢ / ٩٩٣.

٤

٣٨٩٥ ـ كما شرقت صدر القناة من الدم (١)

الرابع : أن «الأعناق» جمع «عنق» من الناس ، وهم الجماعة (٢) ، فليس المراد الجارحة البتة ، ومنه قوله :

٣٨٩٦ ـ أن العراق وأهله

عنق إليك فهيت هيتا (٣)

وهذا قريب من معنى الأول ، إلا أن هذا القائل يطلق «الأعناق» على جماعة الناس مطلقا ، رؤساء كانوا أو غيرهم.

الخامس : قال الزمخشري : أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت «الأعناق» لبيان موضع الخضوع ، وترك الكلام على أصله كقولهم : ذهبت أهل [اليمامة ، كأن الأهل غير مذكور (٤). قال شهاب الدين : وفي التنظير بقوله : ذهبت أهل اليمامة](٥) نظر ، لأن (أهل) ليس مقحما البتة ، لأنه المقصود بالحكم ، وأما التأنيث فلا كتسابه التأنيث (٦) (بالإضافة) (٧).

السادس : أنها عوملت معاملة العقلاء لما أسند إليهم ما يكون فعل العقلاء (٨) ، كقوله : «ساجدين» (٩) و «طائعين» (١٠) في يوسف وفصلت (١١).

وقيل : إنما قال : «خاضعين» لموافقة رؤس الآي.

والثاني : أنه منصوب على الحال من الضمير في «أعناقهم» قاله الكسائي (١٢) وضعفه أبو البقاء ، قال : لأن «خاضعين» يكون جاريا على غير فاعل «ظلت» فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل ، فكان يجب أن يكون : خاضعين هم (١٣).

__________________

(١) عجز بيت من بحر الطويل ، قاله الأعشى ، وصدره :

وتشرق بالقول الذي قد أذعته

وتقدم تخريجه. والشاهد فيه قوله : شرقت فإنه أنثه مع أن الفاعل مذكر ، لأنه مضاف إلى مؤنث وهو (القناة) فاكتسب التأنيث منه.

(٢) أشار إليه الأخفش ؛ فإنه قال : (يزعمون أنها على الجماعات نحو : هذا عنق من الناس. يعنون الكثير) معاني القرآن ٢ / ٦٤٣ ـ ٦٤٤ ، وانظر التبيان ٢ / ٩٩٣.

(٣) البيت من بحر الكامل ، أنشده الفراء لرجل يدعو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للذهاب إلى العراق. وهو في معاني القرآن ٢ / ٤٠ ، الخصائص ١ / ٢٧٩ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٨٩ ، ابن يعيش ٤ / ٣٢ ، اللسان (عنق ، هيت) ، البحر المحيط ٧ / ٥ عنق : بمعنى الجماعة ، وهو موطن الشاهد ، وروآية الفراء : سلم عليك فلا شاهد فيها. هيت : اسم فعل أمر بمعنى أسرع.

(٤) الكشاف ٣ / ١٠٧.

(٥) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٦) الدر المصون ٥ / ١٥٠.

(٧) زيادة يستقيم بها الكلام.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٩١ ، البحر المحيط ٧ / ٦.

(٩) من قوله تعالى : «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» [يوسف : ٤].

(١٠) من قوله تعالى : «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ»[فصلت : ١١].

(١١) في النسختين : والسجدة.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٩٣.

(١٣) التبيان ٢ / ٩٩٣.

٥

قال شهاب الدين : ولم يجر «خاضعين» في اللفظ والمعنى إلا على من هو له ، وهو الضمير في «أعناقهم» ، والمسألة التي قائلها : هي أن يجري الوصف على غير من هو له في اللفظ دون المعنى ، فكيف يلزم ما ألزمه به ، على أنه لو كان كذلك لم يلزم ما قاله ، لأن (١) الكسائي والكوفيين (٢) لا يوجبون إبراز الضمير في هذه المسألة (٣) إذا أمن اللبس ، فهو (لا) (٤) يلتزم ما ألزمه به ، ولو ضعفه بمجيء الحال من المضاف إليه لكان أقرب ، على أنه لا يضعف ؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه كقوله : (ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً)(٥).

قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩)

قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) وعظ وتذكر (مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) أي : محدث إنزاله فهو محدث في التنزيل. قال الكلبي : «كلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول»(٦).

وقوله : (إِلَّا كانُوا) جملة حالية ، وتقدم تحقيق هذا وما قبله في أول الأنبياء (٧). ومعنى «معرضين» أي : عن الإيمان به.

قوله : (فَقَدْ كَذَّبُوا) أي : بلغوا النهاية في رد آيات الله ، «فسيأتيهم» أي : فسوف يأتيهم «أنباء» : أخبار وعواقب (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وذلك إما عند نزول العذاب عليهم في الدنيا ، أو عند المعاينة في الآخرة كقوله تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(٨). قوله (٩) : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي : صنف ، والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه ، يقال : «وجه كريم» إذا كان مرضيا في حسنه وجماله. و «كتاب

__________________

(١) في ب : إلا أن.

(٢) في ب : والكوفيون.

(٣) ذهب الكوفيون إلى أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له نحو قولك : هند زيد ضاربته هي لا يجب إبرازه. وذهب البصريون إلى أنه يجب إبرازه ، وأجمعوا على أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على من هو له لا يجب إبرازه. انظر الإنصاف ١ / ٥٧ ـ ٥٨ المسألة (٨).

(٤) لا : زيادة يتم بها المعنى.

(٥) [الحجر : ٤٧]. الدر المصون ٥ / ١٥٠. وهذا التنظير بناء منه على القول بأن «خاضعين» حال ، وانظر البيان ٢ / ٢١١ ـ ٢١٢.

(٦) انظر البغوي ٦ / ٢٠٦.

(٧) عند قوله تعالى : «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ» الآية [٢].

(٨) [ص : ٨٨] انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١٩ ـ ١٢٠.

(٩) في ب : قوله تعالى.

٦

كريم» : إذا كان مرضيا في فوائده ومعانيه. و «النبات الكريم» : هو المرضي في منافعه مما يأكل الناس والأنعام (١) يقال : نخلة كريمة : [إذا طاب حملها ، وناقة كريمة](٢) : إذا كثر (٣) لبنها. قال الشعبي : الناس مثل نبات الأرض ، فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم (٤).

قوله : (كَمْ أَنْبَتْنا). «كم» (٥) للتكثير ، فهي خبرية ، وهي منصوبة بما بعدها على المفعول به ، أي : كثيرا من الأزواج أنبتنا ، و (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) تمييز (٦).

وجوز أبو البقاأ أن تكون حالا (٧). ولا معنى له. قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الجمع بين «كم» و «كل» ولو قيل : أنبتنا فيها من زوج كريم (٨). قلت : قد دل «كل» على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، و «كم» على أن هذا المحيط متكاثر مفرط في الكثرة (٩).

قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرت «لآية» دلالة على وجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وقوله : «للمؤمنين» كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] لأنهم المنتفعون بذلك ، (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) : مصدقين ، أي : سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون.

وقال سيبويه : (كان) هنا صلة ، مجازه : وما أكثرهم (١٠) مؤمنين (١١). (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) وإنما قدم ذكر «العزيز» على ذكر «الرحيم» لأنه لو لم يقدمه لكان ربما قيل : إنه رحيم لعجزه عن عقوبتهم ، فأزال هذا الوهم بذكر «العزيز» وهو الغالب القاهر ، ومع ذلك فإنه رحيم بعباده ، فإن الرحمة إذا كانت عن القدرة الكاملة كانت أعظم وقعا (١٢). فإن قيل : حين ذكر الأزواج دل عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة ، وكان لا يحصيها إلا عالم الغيب ، فكيف قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً)؟ وهلا قال : لآيات؟. فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن يكون ذلك مشارا به إلى مصدر «أنبتنا» فكأنه قال : إن في ذلك الإنبات لآية.

والثاني : أن يراد : إن في كل واحد من تلك الأزواج لآية (١٣).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٠.

(٢) ما بين القوسين مكرر في الأصل.

(٣) في ب : كبر. وهو تحريف.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٢٠٧ القرطبي ١٣ / ٩١.

(٥) في ب : لم. وهو تحريف.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٩٤.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٩٤.

(٨) في النسختين : من كل زوج. والتصويب من الكشاف.

(٩) الكشاف ٣ / ١٠٨.

(١٠) في ب : وما كان أكثرهم.

(١١) أي : أن (كان) زائدة بين (ما) ، و (أفعل). قال سيبويه : (وتقول : ما كان أحسن زيدا. فتذكر (كان) لتدل أنه فيما مضى) الكتاب ١ / ٧٣.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٠.

(١٣) المرجع السابق.

٧

قوله تعالى : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ)(١١)

قوله تعالى : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) الآية. العامل في (إِذْ نادى) مضمر ، فقدره الزجاج : اتل (١). وقدره غيره (٢). اذكر. واختلف (٣) في النداء الذي سمعه موسى ـ عليه‌السلام (٤) ـ من الله تعالى ، فقيل (٥) : هو الكلام القديم ، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الذوات مع أن (٦) الدليل دل على أنها معلومة ومرتبة ، فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحرف والصوت مع أنه مسموع (٧) وقيل (٨) : كان نداء من جنس الحروف والأصوات (٩).

وقالت المعتزلة : كان ذلك النداء حروفا وأصواتا علم به موسى من قبل الله تعالى فصار معجزا ، علم به موسى أن الله تعالى مخاطب له فلم يحتج مع ذلك إلى واسطة (١٠).

قوله : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). يجوز أن تكون «أن» مفسرة ، وأن تكون مصدرية ، أي : بأن (١١). قوله : (قَوْمَ فِرْعَوْنَ). بدل (١٢) أو عطف بيان ل (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٣). وقال أبو البقاء : إنه مفعول (تتقون) على قراءة من قرأ (تتقون) بالخطاب وفتح النون (١٤) ، كما سيأتي. ويجوز على هذه القراءة أن يكون منادى (١٥). قوله : (أَلا يَتَّقُونَ). العامة على الياء في «يتقون» وفتح النون ، والمراد قوم فرعون ، والمفعول محذوف ، أي : يتقون عقابي ، [وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار ، وحماد (١٦) ، وشقيق بن سلمة (١٧) بالتاء من فوق (١٨)

__________________

(١) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٨٤.

(٢) وهو أبو البقاء فإنه قال : (قوله تعالى : «وَإِذْ نادى» ، أي : واذكر إذ نادى التبيان ٢ / ٩٩٤.

(٣) أي اختلف أهل السنة.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) هو قول أبي الحسن الأشعري.

(٦) في ب : أنها.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢١.

(٨) هو قول أبي منصور الماتريدي.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢١.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٩٣ ، التبيان ٢ / ٩٩٤.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٩٤ ، القرطبي ١٣ / ٩١.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ١٠٨.

(١٤) حكاه أبو البقاء ، فإنه قال : (وقيل : هو مفعول «يتقون») التبيان ٢ / ٩٩٤.

(١٥) المرجع السابق.

(١٦) هو حماد بن سلمة بن دينار أبو سلمة البصري ، الإمام الكبير ، روى عن عاصم ، وابن كثير ، وروى عنه حجاج بن المنهال ، وغيره ، مات سنة ١٦٧ ه‍. طبقات القراء ١ / ٢٥٨.

(١٧) هو شقيق بن سلمة أبو وائل الكوفي الأسدي ، أدرك زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرض على عبد الله بن مسعود ، وروى عنه الأعمش. مات سنة ٨٢ ه‍. طبقات القراء ١ / ٣٢٨.

(١٨) أي : «تتقون» ، وخرجها ابن جني على إضمار قول ، أي : قل لهم : ألا تتقون. انظر المحتسب ٢ / ١٢٧ ، وتفسير ابن عطية ١١ / ٩٣ ، البحر المحيط ٧ / ٧.

٨

على الالتفات ، خاطبهم بذلك توبيخا](١)(٢) والتقدير : يا قوم فرعون (٣).

وقرأ بعضهم : «يتّقون» بالياء من تحت ، وكسر النون (٤) ، وفيها تخريجان :

أحدهما : أن «يتّقون» مضارع ، ومفعوله ياء المتكلم اجتزىء عنها بالكسرة (٥).

والثاني : جوّزه الزمخشري ، أن تكون «يا» للنداء ، و «اتّقون» فعل أمر ، كقوله : «ألا يا اسجدوا» (٦) أي : يا قوم اتقون ، أو يا ناس اتقون (٧). وسيأتي تحقيق مثل هذا في السورة تحتها (٨). وهذا تخريج بعيد (٩).

وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب (١٠).

وجوّز الزمخشري أن تكون حالا من الضمير في «الظّالمين» أي : يظلمون غير متّقين الله وعقابه ، فأدخلت همزة الإنكار على الحال (١١). وخطأه أبو حيان من وجهين :

أحدهما : أنه يلزم عنه الفصل بين الحال وعاملها بأجنبي منهما ، فإن أعرب (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) عطف بيان ل (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

والثاني : أنه على تقدير تسليم ذلك لا يجوز أيضا ؛ لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها ، قال: وقولك : (جئت أمسرعا) (١٢) ، إن جعلت (مسرعا) معمولا ل (جئت) لم يجز ، فإن أضمرت عاملا جاز (١٣). والظاهر أن «ألا» للعرض (١٤).

وقال الزمخشري : إنها (لا) النافية ، دخلت عليها همزة الإنكار (١٥). وقيل : هي للتنبيه(١٦).

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٠٨ ، البحر المحيط ٧ / ٧.

(٢) ما بين القوسين تكملة من الدر المصون ٥ / ١٥١.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٩٤.

(٤) قال ابن خالويه :(«أَلا يَتَّقُونَ» بكسر النون أجازه عيسى) المختصر (١٠٦).

(٥) قال الزمخشري : قرىء «ألا يتقون» بكسر النون ، بمعنى : ألا يتقونني. فحذفت النون ، لاجتماع النونين ، والياء للاكتفاء بالكسرة) الكشاف ٣ / ١٠٨.

(٦) في ب : «أَلَّا يَسْجُدُوا» [النمل : ٢٥] ، وما في الأصل قراءة الكسائي ، وما في ب : قراءة الباقين.

(٧) قال الزمخشري : وفي «أَلا يَتَّقُونَ» بالياء وكسر النون وجه آخر وهو أن يكون المعنى : ألا يا ناس اتقون ، كقوله : «أَلَّا يَسْجُدُوا». الكشاف ٣ / ١٠٨.

(٨) أي : في السورة التي بعدها ، وهي سورة النمل.

(٩) قال أبو حيان : (وهو تخريج بعيد والظاهر أن (ألا) للعرض المضمن الحضّ على التقوى) البحر المحيط ٧ / ٧.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ١٠٨.

(١١) المرجع السابق.

(١٢) في النسختين : جئت مسرعا. والتصويب من البحر المحيط.

(١٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٧.

(١٤) هو قول أبي حيان. البحر المحيط ٧ / ٧.

(١٥) تابع ابن عادل هنا أبا حيان في النقل عن الزمخشري ، وعبارة الزمخشري هي : (ويحتمل أن يكون «لا يَتَّقُونَ» حالا من الضمير في «الظالمين» أي : يظلمون غير متقين الله وعقابه ، فأدخلت همزة الإنكار على الحال) الكشاف ٣ / ١٠٨.

(١٦) فيكون المعنى : قل لهم : ألا تتقون. انظر القرطبي ٩١١٣. وقال أبو حيان : (وقول من قال : إنها للتنبيه لا يصح) البحر المحيط ٧ / ٧.

٩

فصل (١)

قوله (٢) : (نادى رَبُّكَ مُوسى) حين رأى الشجرة والنار (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية ، فحكم عليهم بالظلم من وجهين :

الأول : ظلموا أنفسهم بكفرهم.

والثاني : ظلمهم بني إسرائيل (٣) باستعبادهم وسومهم سوء العذاب (٤). (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) عطف (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) على (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فهما يدلان لفظا على معنى واحد (٥). (أَلا يَتَّقُونَ) أي : يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته. ومن قرأ «تتّقون» بالخطاب (٦) فعلى الالتفات إليهم وصرف (٧) وجوههم بالإنكار والغضب عليهم ، كمن يشكو من جناية والجاني حاضر ، فإذا اندفع في الشكاية ، وحمي غضبه قطع بأنه يخاطب صاحبه ، وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه ويقول له : ألم تتق الله؟ ألم تستحي من الناس؟ فإن قيل : فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى ـ عليه‌السلام (٨) ـ في وقت المناجاة ، والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون؟. قلنا: أجري ذلك في تكليم المرسل (٩) إليهم معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم ، لأنه مبلغهم (١٠) ، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى ، وكم من آية نزلت في الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا بها ، واعتبارا بمواردها (١١).

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ)(١٧)

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) لما أمر موسى ـ عليه‌السلام (١٢) ـ بالذهاب إلى قوم فرعون طلب موسى ـ عليه‌السلام ـ أن يبعث معه هارون ـ عليه‌السلام ـ ثم ذكر (١٣) الأمور الداعية إلى ذلك السؤال (١٤). فقوله : (أَنْ يُكَذِّبُونِ) مفعول «أخاف» أي : أخاف تكذيبهم إياي.

__________________

(١) فصل : سقط من ب.

(٢) قوله : سقط من الأصل.

(٣) إسرائيل : سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢١.

(٥) المرجع السابق.

(٦) وهي قراءة عبد الله بن مسلم بن يسار ، وحماد ، وشقيق بن سلمة.

(٧) في النسختين : وضرب. والتصويب عن الفخر الرازي.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) في النسختين : الرسل. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٠) في النسختين : مبلغه. والتصويب من الفخر الرازي.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٢.

(١٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٣) في ب : أمر. وهو تحريف.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٢.

١٠

قوله : (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ)(١) الجمهور على الرفع ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه مستأنف (٢) ، أخبر بذلك.

والثاني : أنه معطوف على خبر «إنّ» (٣) وقرأ زيد بن عليّ ، وطلحة ، وعيسى ، والأعمش بالنصب فيهما (٤). والأعرج بنصب الأول ورفع الثاني (٥). فالنصب عطف على صلة «أن» (٦) فتكون الأفعال الثلاثة : «يكذّبون» (٧) و «يضيق» ، و (لا يَنْطَلِقُ) داخلة في حيّز الخوف.

قال الزمخشري : «والفرق بينهما (٨) ، أي : الرفع والنصب ، أنّ الرفع (٩) يفيد أن فيه ثلاث علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان ، والنصب على أنّ خوفه متعلق بهذه الثلاثة. فإن قلت : في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة ، وفي جملتها نفي انطلاق اللسان ، وحقيقه الخوف إنّما يلحق الإنسان لأمر سيقع ، وذلك كان واقعا ، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت : قد علّق الخوف بتكذيبهم ، وبما يحصل له من ضيق الصدر ، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به ، على أن تلك الحبسة التي كانت به زالت بدعوته. وقيل : بقيت منها بقيّة يسيرة. فإن قلت : اعتذارك هذا يردّه الرفع ، لأنّ المعنى : إنّي خائف ضيّق الصدر غير منطلق اللسان؟ قلت : يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي» (١٠).

قوله : «فأرسل» أي : فأرسل جبريل أو الملك ، فحذف المفعول به ، أي : ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة (١١). قيل : إن الله تعالى أرسل موسى (١٢).

قال السّدّيّ : إن موسى ـ عليه‌السلام (١٣) ـ سار بأهله إلى مصر ، والتقى بهارون وهو لا يعرفه ، فقال : أنا موسى ، فتعارفا ، وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة (١٤). وقيل : أرسل جبريل إليه كما يرسل إلى الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ (١٥) فلما

__________________

(١) في ب : .... ولا ينطلق لساني.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٩٤.

(٣) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٧٨.

(٤) تفسير ابن عطية ١١ / ٩٤ ، البحر المحيط ٧ / ٧.

(٥) قال أبو حيان : (وحكى أبو عمرو الداني عن الأعرج أنه قرأ بنصب «ويضيق» ورفع «ولا ينطلق» البحر المحيط ٧ / ٧.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٩٤.

(٧) في ب : يكون. وهو تحريف.

(٨) في الكشاف : والفرق بينهما في المعنى.

(٩) في النسختين : أن الرفع فيه.

(١٠) الكشاف ٣ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٠٩.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٣ ، البحر المحيط ٧ / ٨.

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٣ ، البحر المحيط ٧ / ٨.

(١٥) في ب : عليهما الصلاة والسلام.

١١

كان متعينا لهذا الأمر حذف ذكر المرسل لكونه معلوما (١).

قوله : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ). أي : دعوى ذنب ، وهو قتله للقبطي ، أي : لهم عليّ ذنب في زعمهم (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي : يقتلونني ، فقال الله تعالى : «كلّا» أي : لن يقتلوك (٢).

قوله : «فاذهبا» عطف على ما دل عليه حرف الردع من الفعل ، كأنه قيل : ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك (٣)(بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) سامعون ما تقولون قال : «معكم» بلفظ الجمع ، وهما اثنان ، أجراهما مجرى الجماعة.

وقيل : أراد معكما ومع بني إسرائيل نسمع ما يجيبكم فرعون (٤) ، (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) إنما أفرد «رسول» إمّا لأنه مصدر (٥) بمعنى : رسالة والمصدر يوحّد ، ومن مجيء «رسول» بمعنى رسالة قوله (٦) :

٣٨٩٧ ـ لقد كذب الواشون ما فهت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول (٧)

أي برسالة. وإما لأنهما ذوا شريعة واحدة فنزّلا منزلة رسول (٨).

وإما لأن المعنى : كل واحد منا رسول (٩). وإما لأنه من وضع الواحد موضع التثنية لتلازمهما (١٠) ، فصارا كالشيئين المتلازمين ، كالعينين واليدين. وحيث لم يقصد هذه المعاني طابق في قوله : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) [طه : ٤٧]. وقال أبو عبيد (١١) : يجوز أن يكون «الرسول» بمعنى الاثنين والجمع ، تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي ، [وهذان رسولي ووكيلي](١٢) ، وهؤلاء رسولي ووكيلي (١٣) ، كما قال : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الكهف : ٥٠]. قوله : (أَنْ أَرْسِلْ). يجوز أن تكون مفسّرة ل «رسول» (١٤) إذا قيل : بأنه بمعنى

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٣.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٢٠٨.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٠٩.

(٤) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ٩٥ ، القرطبي ١٣ / ٩٣.

(٥) وهو قول أبي عبيدة ٢ / ٨٤ ، وانظر البيان ٢ / ٢١٢ ، التبيان ٢ / ٩٩٤ ، البحر المحيط ٧ / ٨.

(٦) في ب : فقوله. وهو تحريف.

(٧) البيت من بحر الطويل ، قاله كثير ، وهو في ديوانه (١١٠) ، ومجاز القرآن ٢ / ٨٤ ، تفسير غريب القرآن (٣١٦) ، والمذكر والمؤنث ٢ / ٢٩٣ ، الكشاف ٣ / ١١٠ ، البيان ٢ / ٢٠٦ ، ٢١٢ ، القرطبي ١٣ / ٩٣ ، اللسان (رسل). الواشون : جمع واش ، وهو الساعي بين الناس يوقع بينهم ، وروي : (ما بحت) بدل (ما فهت) ، وفي ب : برسولي. والشاهد فيه : قوله : (برسول) ، فإنه مصدر بمعنى : رسالة.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١١٠ ، البحر المحيط ٧ / ٨.

(٩) انظر القرطبي ١٣ / ٩٤ ، البحر المحيط ٧ / ٨.

(١٠) أي : رسول الله موسى وأخوه هارون.

(١١) في النسختين : أبو عبيدة. والتصويب من القرطبي.

(١٢) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١٣) انظر القرطبي ١٣ / ٩٤.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ١١٠.

١٢

الرسالة ، شرحا الرسالة بهذا وبيّناها به. ويجوز أن تكون المصدرية (١) ، أي : رسول بكذا ، والمراد من هذا الإرسال : التخلية والإرسال ، كقولك : أرسل البازي (٢).

قوله تعالى : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ)(٢٢)

قوله تعالى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً). اعلم أن في الكلام حذفا ، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به ، فعند ذلك قال فرعون ما قال. روي أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن هنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه ، فأديا إليه الرسالة ، فعرف موسى ، فعدد عليه نعمه أولا ثم إساءة موسى إليه (٣). أما النعم فهي قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) والوليد : الصبي ، لقرب عهده من الولادة (٤). وقيل : الغلام ، تسمية له بما كان عليه (٥). و «وليدا» حال من مفعول [نربّك](٦) ، وهو فعيل بمعنى مفعول (٧). قوله : (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) قرأ أبو عمرو في رواية بسكون ميم «عمرك» (٨) تخفيفا ل «فعل» ، و (مِنْ عُمُرِكَ) حال من «سنين» (٩).

قيل : لبث عندهم ثلاثين سنة (١٠) ، وقيل : وكز (١١) القبطي ، وهو ابن اثنتي عشرة (١٢) سنة(١٣) قوله : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ). قرأ الشعبي : «فعلتك» بالكسر على الهيئة (١٤) ، لأنها نوع من القتل (١٥) ، وهي الوكزة (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ). يجوز أن يكون

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٧ / ٨.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٤. والبازي : واحد البزاة التي تصيد ، ضرب من الصقور. اللسان (بزا).

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٥.

(٤) المرجع السابق.

(٥) أي : أنه مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان.

(٦) نربّك : تكملة ليست في المخطوط.

(٧) انظر البحر المحيط ٧ / ١٠.

(٨) رواها عنه الخفاف ، وعبيد. السبعة (٤٧١) ، المختصر (١٠٦) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٩٧ ، البحر المحيط ٧ / ١٠.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٩٤.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٥.

(١١) في ب : ولر. وهو تحريف.

(١٢) في النسختين : اثني عشر. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٥.

(١٤) معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٧٩ ، المختصر (١٠٦) ، المحتسب ٢ / ١٢٧ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٩٧ ، البحر المحيط ٧ / ١٠.

(١٥) في ب : لا سيما من قتل. وهو تحريف.

١٣

حالا (١). قال ابن عباس : أي : وأنت من الكافرين لنعمتي أي (٢) : وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة ، وقد افترى عليه أو جهل أمره ؛ لأنه كان يعاشرهم بالتّقيّة (٣) ، فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة (٤). ويجوز أن يكون مستأنفا (٥) ، ومعناه وأنت ممن عادته كفران النعم ، ومن كانت هذه حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمه (٦). وقيل : (مِنَ الْكافِرِينَ) بفرعون وإلاهيّته ، أو من الذين يكفرون في دينهم ، فقد كانت لهم آلهة يعبدونها (٧) بدليل قوله : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف : ١٢٧] قوله : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ). «إذا» هنا حرف جواب فقط. قال الزمخشري : إنها جواب وجزاء معا قال : فإن قلت : (إذا) حرف جواب وجزاء معا ، والكلام وقع جوابا لفرعون ، فكيف وقع جزاء؟ قلت : قول فرعون : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) فيه معنى أنك جازيت نعمتي بما فعلت ، فقال له موسى : نعم فعلتها مجازيا لك تسليما لقوله ، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء (٨). قال أبو حيان : وهذا مذهب سيبويه ، يعني : أنها للجزاء والجواب (٩) معا ، قال : ولكن شراح الكتاب فهموا أنها قد تتخلف عن الجزاء ، والجواب معنى لازم لها (١٠).

فصل

واعلم أن فرعون عدد عليه نعمه من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال ، ووبخه بما جرى على يده من قتل أجناده ، وعظم ذلك بقوله : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ).

ولما ذكر فرعون التربية ذكر القتل ، وكانت تربيته معلومة ما أنكرها موسى ـ عليه‌السلام (١١) ـ وقد تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجزة وحجة لم يتغير (١٢) حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم ينعم ، فصار قول فرعون غير مؤثر فالإعراض عنه أولى ، ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب ، فقال : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي : من الجاهلين ، أي : لم يأتني من عند الله شيء ، أو من

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٠٠ ، البحر المحيط ٧ / ١٠.

(٢) في ب : أو.

(٣) أي : يظهر لهم خلاف ما يبطن.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٥.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ١٠.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٥.

(٧) المرجع السابق.

(٨) الكشاف ٣ / ١١١.

(٩) قال سيبويه : (وأما «إذن» فجواب وجزاء) الكتاب ٤ / ٢٣٤.

(١٠) انظر البحر المحيط ٧ / ١١. أي : أي سيبويه قال معناها الجواب والجزاء فقال الشلويين : دائما في كل موضع ، وقال أبو علي الفارسي غالبا في أكثر المواضع كقولك لمن قال : أزورك : إذن أكرمك ، فقد أجبته وجعلت إكرامه جزاء زيارته ، أي : إن تزرني أكرمتك ، قال : وقد تتمحض للجواب كقولك لمن قال : أحبك : إذن أصدقك. إذ لا مجازاة هنا ، والشلويين يتكلف في جعل مثل هذا جزاء ، أي : إن كنت قلت ذلك حقيقة صدقتك. انظر الهمع ٢ / ٦ ، الأشموني ٣ / ٢٩٠ ـ ٢٩١.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) في ب : يتعين. وهو تحريف.

١٤

الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله ، لأنه وكزه تأديبا ، ومثل ذلك ربما حسن (١). وقيل : من المخطئين ، فبين أنه فعله على وجه لا تجوز المؤاخذة (٢) به ، فيعد كافرا لنعمه (٣).

قوله : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ). العامة على تشديد ميم (٤) «لمّا» وهي «لمّا» التي هي حرف وجوب عند سيبويه (٥). أو بمعنى «حين» عند الفارسي (٦). وروي عن حمزة بكسر اللام وتخفيف الميم (٧) ، أي : لتخوّفي منكم ، و «ما» مصدرية. وهذه القراءة تشبه قراءته في «آل عمران»: (لَما آتَيْتُكُمْ)(٨) [آل عمران : ٨١]. وقد تقدمت مستوفاة.

(قال الزمخشري : إنما جمع الضمير في «منكم» و «خفتكم» مع إفراده في «تمنّها» (٩) و «عبّدت» (٩) ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله لقوله : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص : ٢٠] ، وأما الامتنان والتعبد فمنه (١٠) وحده) (١١).

فصل

والمعنى : إني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكا ، وكان مني في حكم السهو ، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار ، ومع ذلك فررت منكم لما خفتكم عن قولكم : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص : ٢٠] فبين بذلك ألّا نعمة له عليه في الفعلة ، بل بأن يكون مسيئا فيه أقرب (١٢).

فصل

وقد ورد لفظ «الفرار» على أربعة :

الأول : بمعنى الهرب ، كهذه الآية ، ومثله «لن (١٣) ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت»(١٤).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٢) في ب : لمن أخذه.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٦.

(٤) في ب : تشديدهم.

(٥) قال سيبويه : (وأما «لما» فهي للأمر الذي وقع لوقوع غيره ، وإنما تجيء بمنزلة لو ، لما ذكرنا ، فإنما هما لابتداء وجواب) الكتاب ٤ / ٢٣٤.

(٦) قال أبو علي الفارسي : (وأما «لما» ، فمثل (لم) في الجزم ، قال تعالى «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا»[آل عمران : ١٤٢] ، [التوبة : ١٦] فجزمت كما جزمت لم ، وإنما هي (لم) دخلت عليها (ما) فتغيرت بدخول (ما) عن حال (لم) فوقع بعدها مثال الماضي في قولك : لما جئت جئت ، فصار بمنزلة ظرف من الزمان كأنك قلت : حين جئت جئت ، فمن ثم جاز أن تقول : جئتك ولما ، فلا تتبعها شيئا ولا يجوز ذلك في (لم) ، ولو لا دخول (ما) عليها لم يجز ذلك فيها) انظر المقتصد شرح الايضاح ٢ / ١٠٩١ ـ ١٠٩٢.

(٧) المختصر (١٠٦) ، البحر المحيط ٧ / ١١ ، الاتحاف (٣٣١).

(٨) [آل عمران : ٨١].

(٩) من الآية التي بعدها.

(٩) من الآية التي بعدها.

(١٠) الكشاف ٣ / ١١١.

(١١) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٦.

(١٣) في الأصل : ولن ، وفي ب : فلن.

(١٤) في ب : «.... من الموت أو القتل».

١٥

الثاني : بمعنى الكراهية ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ)(١) منهم [الجمعة : ٨] أي : تكرهونه.

الثالث : بمعنى اشتغال المرء بنفسه ، قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٥] أي : لا يلتفت إليهم ، لاشتغاله بنفسه.

الرابع : بمعنى التباعد ، قال تعالى : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦] أي : تباعدا. ثم بين نعم الله عليه بعد الفرار (٢) ، فكأنه قال : أسأتم وأحسن الله إليّ بأن وهب لي حكما (٣). قرأ عيسى : «حكما» بضم الكاف (٤) إتباعا. والمراد بالحكم : العلم والفهم ، قاله مقاتل : وقيل : النبوة. والأول أقرب ، لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، والنبوة مفهومة من قوله: (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(٥).

قوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر (٦) على سبيل التهكم ، أي : إن كان ثمّ نعمة فليست إلّا أنك جعلت قومي عبيدا لك (٧). وقيل : «ثمّ» (٨) حرف استفهام محذوف لفهم المعنى ، أي : «أو تلك» ، وهذا مذهب الأخفش (٩) ، وجعل من ذلك :

٣٨٩٨ ـ أفرح أن أرزأ الكرام (١٠)

وقد تقدم هذا مشبعا في النساء عند قوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(١١) [النساء : ٧٩] وفي غيره.

__________________

(١) في الأصل : تفكرون. وهو تحريف.

(٢) في ب : اتباعا بعد الفرار.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٦.

(٤) المختصر (١٠٦) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٩٩ ، البحر المحيط ٧ / ١١.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٦.

(٦) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٧٩.

(٧) انظر القرطبي ١٣ / ٩٦.

(٨) ثم : تكملة ليست في المخطوط.

(٩) قال الأخفش : (وقال : «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ» فيقال هذا استفهام كأنه قال : أو تلك نعمة تمنها) معاني القرآن ٢ / ٦٤٥ ـ ٦٤٦.

(١٠) جزء بيت من بحر المنسرح ، قاله حضرمي بن عامر ، وتمامه :

 .......... وأن

أورث زودا شصائص نبلا

وقد تقدم تخريجه. والشاهد فيه حذف همزة الاستفهام الإنكاري ، والمعنى أأفرح.

(١١) [النساء : ٧٩]. وذكر هناك : وقيل في قوله «فَمِنْ نَفْسِكَ» أن همزة الاستفهام محذوفة ، تقديره : أفمن نفسك ، وهو كثير كقوله تعالى: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ» وقول الشاعر :

أفرح أن أرزأ الكرام

البيت ، وهذا لم يجره من النحاة إلا الأخفش ، وأما غيره فلم يجره إلا قبل (أم) كقوله :

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان

انظر اللباب ٣ / ١٢٢.

١٦

قوله : (أَنْ عَبَّدْتَ) فيه أوجه :

أحدها : أنه في محل رفع عطف بيان ل «تلك» (١) كقوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) [الحجر : ٦٦].

الثاني : أنها في محل نصب مفعولا من أجله (٢).

الثالث : أنها بدل من «نعمة» (٣).

الرابع : أنها بدل من هاء «تمنّها».

الخامس : أنها مجرورة بباء مقدرة ، أي : بأن عبّدت.

السادس : أنها خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي أن عبّدت.

السابع : أنها منصوبة بإضمار «أعني» والجملة من «تمنّها» صفة ل «نعمة» و «تمنّ» يتعدى بالباء ، فقيل : هي محذوفة ، أي : تمنّ بها.

وقيل : ضمّن «تمنّ» معنى «تذكر» (٤). ويقال : عبّدت الرجل وأعبدته وتعبدته واستعبدته : [إذا اتخذته عبدا](٥)(٦).

فصل

اختلفوا في تأويل (أَنْ عَبَّدْتَ) : فحملها بعضهم على الإقرار ، وبعضهم على الإنكار. وعلى كلا القولين فهو جواب لقوله : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا) [الشعراء : ١٨].

فمن قال : هو إقرار ، قال : عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل ، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل ، أي : بلى و (تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وتركتني فلم تستعبدني. ومن قال : هو إنكار قال : قوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ) هو على طريق الاستفهام ، كما تقدم في إعرابها ، يعني : أو تلك نعمة ، فحذفت ألف الاستفهام ، كقوله : (فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤] وقال الشاعر :

٣٨٩٩ ـ تروح من الحيّ أم تبتكر

وماذا يضيرك لو تنتظر (٧)

أي : أتروح من الحي ، وقال عمر (٨) بن عبد الله بن أبي ربيعة :

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١١١.

(٢) حكاه أبو حيان عن الحوفي. البحر المحيط ٧ / ١٢.

(٣) انظر البيان ٢ / ٢١٣ ، التبيان ٢ / ٩٩٥.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٩٥. من الوجه الثاني.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٦.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) البيت من بحر المتقارب ، قاله امرؤ القيس ، وهو في ديوانه (١٥٤) ، تفسير ابن عطية ١ / ١٠٠ ، القرطبي ١٣ / ٩٦. الرواح : السير في العشي. الابتكار : الخروج مبكرا. الشاهد فيه حذف همزة الاستفهام في (تروح) ؛ إذ أصلها : أتروح؟ والدليل وجود (أم) في الكلام.

(٨) في الأصل : عمرو. وهو تحريف.

١٧

٣٩٠٠ ـ لم(١)أنس يوم الرّحيل وقفتها

وطرفها في دموعها غرق

وقولها والرّكاب واقفة

تتركني هكذا وتنطلق (٢)

أي : أتتركني. يقول : تمنّ عليّ أن ربيتني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملة القبيحة (٣). أو يريد : كيف تمنّ عليّ بالتربية ، وقد استعبدت قومي؟ ومن أهين قومه ذلّ ، فتعبّدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليّ (٤).

وقال الحسن : إنك استعبدت بني إسرائيل ، فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليّ فلا نعمة لك بالتربية (٥). وقيل : إن الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا نعمة لك عليّ ، لأن التربية كانت من قبل أمي ومن قومي ، ليس لك إلا مجرد الاسم ، وهذا ما يعدّ إنعاما (٦). وقيل : معناه : تمنّ عليّ بالتربية وأنت لو لا استعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم لما دفعت إليك حتى ربيتني وكفلتني ، فإنه كان لي (٧) من أهلي من يربّيني ويكفلني ، ولم يلقوني في اليمّ ، فأيّ نعمة لك عليّ (٨). وقيل : معناه أنك تدّعي أن بني إسرائيل عبيدك ، ولا منّة للمولى على العبد في تربيته (٩).

قوله تعالى : (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ)(٣٢)

قوله تعالى : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) إنما أتى ب «ما» دون «من» لأنها يسأل بها عن طلب الماهية (١٠) ، كقولك (١١) : ما العنقاء (١٢)؟ ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن

__________________

(١) في ب : ألم.

(٢) البيتان من بحر البسيط ، قالهما عمر بن أبي ربيعة ، وليسا في ديوانه وهما في القرطبي ١٣ / ٩٦.

والشاهد فيهما حذف همزة الاستفهام في (تتركني) ، إذ الأصل : أتتركني. وليس في الكلام (أم).

(٣) انظر البغوي ٦ / ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٤) المرجع السابق ٦ / ٢١٠.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٦.

(٦) المرجع السابق.

(٧) لي : سقط من ب.

(٨) انظر البغوي ٦ / ٢١٠.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٦.

(١٠) ماهية الشيء : ما به الشيء هو هو وهي من حيث هي هي لا موجودة ولا كلي ولا جزئي ولا خاص ولا عام. التعريفات ١٩٥.

(١١) في الأصل : قوله.

(١٢) العنقاء : طائر متوهم لا وجود له. المعجم الوسيط (عنق) ٢ / ٦٥٥.

١٨

عدل موسى ـ عليه‌السلام (١) ـ إلى جواب ممكن ، فأجاب بصفاته تعالى ، وخصّ تلك الصفات (٢) لأنه لا يشاركه فيها أحد ، وفيه إبطال لدعواه أنه إله (٣).

وقيل : جهل السؤال فأتى ب «ما» دون «من». وليس بشيء (٤).

وقيل : إنما سأل عن الصفات ، ذكره أبو البقاء (٥).

وليس بشيء ، لأن أهل البيان نصّوا على أنها يطلب بها الماهيات (٦) ، وقد جاء ب «من» في قوله : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) [طه : ٤٩].

فصل

اعلم أن فرعون لم يقل : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء: ١٦] فلا بد من أنهما قالا ذلك حين دخلا عليه ، فعند ذلك قال فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)(٧) يقول : أيّ شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله إليّ يستوصفه إلاهه الذي أرسل إليه؟ وهو سؤال عن جنس الشيء ، والله منزّه عن الجنسية. فأجابه موسى ـ عليه‌السلام (٨) ـ بذكر أفعاله التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها ، فقال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أنه خلقها.

قال أهل المعاني : كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينوها ، فأيقنوا أن إله الخلق هو الله عزوجل(٩).

قوله : (وَما بَيْنَهُمَا) عاد ضمير التثنية على جمعين اعتبارا بالجنسين ، كما فعل ذلك في قوله:

٣٩٠١ ـ بين رماحي مالك ونهشل (١٠)

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) أي : «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...» *.

(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ١٢.

(٤) قال أبو البقاء : (وقيل : جهل حقيقة السؤال ، فجاء موسى بحقيقة الجواب) التبيان ٢ / ٩٩٥.

(٥) قال أبو البقاء : (إنما جاء ب «ما» لأنه سأل عن صفاته وأفعاله ، أي : ما صفته؟ وما أفعاله؟ ولو أراد العين لقال : «من» ، ولذلك أجابه موسى ـ عليه‌السلام ـ بقوله : «رَبِّ الْعالَمِينَ» (*) التبيان ٢ / ٩٩٥.

(٦) ماهية الشيء : حقيقته ، وتطلق غالبا على الأمر المتعقل ، مثل المتعقل من الإنسان وهو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود الخارجي ، والأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب ما هو؟ يسمى ماهيّة ... التعريفات ١٩٥.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٧.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٢١٠ ـ ٢١١. الإيضاح (١٣٨).

(١٠) من الرجز ، قاله أبو النجم العجلي ، وقبله : تبقلت من أول التبقّل. وهو في ابن يعيش ٤ / ١٥٣ ، ١٥٥ ، اللسان (بقل) ، البحر المحيط ٧ / ١٢ ، شرح شواهد الشافية ٤ / ٣١٢. مالك : قبيلة من هوازن. نهشل : قبيلة من ربيعة. الشاهد فيه أنه جعل رماح مالك جنسا ، ورماح نهشل جنسا آخر فقال : رماحي بالتثنية.

١٩

ولمّا ذكر موسى ـ عليه‌السلام (١) ـ هذا الجواب الحق تحير فرعون في جواب موسى ، فقال لمن حوله من أشراف قومه ـ قال ابن عباس : كانوا خمسمائة (٢) ـ : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) على سبيل التعجب من جواب موسى ، يعني : أنا أطلب منه الماهية وهو يجيبني بالفاعلية (٣). وقيل : استبعد جواب موسى وقال : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) لأنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم ، فزادهم موسى بيانا فقال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقا لنا ولآبائنا ، وذلك لأنه (٤) يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين (٥) واجبة لذواتها ، فهي غنية عن الخالق ، ولا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده [كونهم واجبين لذواتهم ، لأن المشاهدة دلّت على أنهم وجدوا](٦) بعد العدم ، وعدموا بعد الوجود ، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبا لذاته ، واستحال وجوده إلا بالمؤثر ، فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى ـ عليه‌السلام (٧) ـ إليه ، فقال فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) يعني : أن المقصود من سؤالنا طلب الماهية والحقيقة ، والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه ، فقال موسى ـ عليه‌السلام (٨) ـ : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد ب «المشرق» طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد ب «المغرب» : غروب الشمس وزوالها ، والأمر ظاهر ؛ لأن التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مع نمروذ ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة ، وهو الذي ذكره إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فأجابه نمروذ : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فقال : «إن (اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) وهو (٩) الذي ذكره موسى ـ عليه‌السلام (١٠) ـ بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).

وأما قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فكأنه ـ عليه‌السلام ـ قال : إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت ، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته ، ولا يمكن (١١) تعريف حقيقته بنفس حقيقته ، ولا بأجزاء حقيقته ، فلم يبق إلا أن أعرّف حقيقته بآثار حقيقته ، وقد عرّفت حقيقته بآثار حقيقته ، فمن كان عاقلا يقطع بأنه لا جواب عن

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) انظر البغوي ٦ / ٢١١.

(٣) في ب : بالفاعل.

(٤) في ب : أنه.

(٥) في ب : والأرض.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) في ب : وهذا.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) في ب : ولا يكون.

٢٠