اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

ألقيته في النار» (١) وكل (٢) مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق (٣).

قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِّ) حال ، أي : استكبروا متلبسين بغير الحق ، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) قرأ نافع والأخوان (٤) ويعقوب «يرجعون» مبنيا للفاعل ، والباقون للمفعول (٥).

قوله : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) وهذا من الكلام المفحم الذي يدل على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه ، شبههم ـ استحقارا لهم واستقلالا لعددهم ـ وإن كانوا الجم الغفير ـ كحصيات (٦) أخذهن آخذ (٧) في كفه وطرحهنّ في البحر ، ونحو ذلك قوله (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) [المرسلات : ٢٧] (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤] (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧]. وليس الغرض منها إلا تصوير أنّ كلّ مقدور وإن عظم (٨) فهو حقير بالنسبة إلى قدرته(٩)(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ). قوله (١٠) : (وَجَعَلْناهُمْ) أي : صيّرناهم وقال الزمخشري : دعوناهم (١١) ، كأنه فر من نسبة ذلك إلى الله تعالى ، أعني (١٢) : التصيير لأنه لا يوافق مذهبه (١٣) ، ويدعون صفة ل «أئمّة» وقال الجبائي : وجعلناهم : أي بيّنا ذلك من حالهم وسميناهم به ، ومنه قوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)(١٤) [الزخرف : ١٩]. وقال أبو مسلم : معنى الإمامة التقدم ، فلما عجّل الله (١٥) لهم العذاب صاروا متقدّمين لمن وراءهم من (١٦) الكافرين (١٧). ومعنى دعوتهم إلى النار : دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي ، فإن أحدا لا يدعو إلى النار ألبتة ، وإنما جعلهم الله أئمة في هذا الباب ، لأنهم بلغوا في هذا الباب إلى أقصى النهايات ومن كان كذلك استحق أن يكون إماما يقتدى به في ذلك الباب (١٨).

قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) لا يمنعون من العذاب ، كما تنصر الأئمة الدعاة إلى الجنة ، (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) خزيا وعذابا.

قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ)(١٩) فيه أوجه :

__________________

(١) أخرجه أبو داود (لباس) ٤ / ٥٩ ، أحمد ٢ / ٢٤٨ ، ٣٧٦ ، ٤١٤ ، ٤٢٧ ، ٤٤٢.

(٢) في ب : كل.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٦٩ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٣.

(٤) حمزة والكسائي.

(٥) السبعة (٤٩٤) ، الكشف ٢ / ١٧٤ ، الإتحاف (٣٤٣).

(٦) في ب : لحصيات. وهو تحريف.

(٧) في ب : أخذهن من أحد.

(٨) في ب : أن كل مقدورات عظم.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٦٩ ـ ١٧٠ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٤.

(١٠) في ب : قوله تعالى.

(١١) الكشاف ٣ / ١٧٠.

(١٢) في ب : عن.

(١٣) لأن (جعل) إذا كانت بمعنى (صيّر) فيكون الله قد خلق ذلك لهم ، والمعتزلة لا يجوزون ذلك.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٤.

(١٥) لفظ الجلالة سقط من ب.

(١٦) في ب : من الكفار.

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٤.

(١٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٤.

(١٩) في ب : «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ».

٢٦١

أحدها : أن تتعلق (١) ب «المقبوحين» (٢) على أن (أل) ليست موصولة (٣) أو موصولة واتسّع فيه ، وأن تتعلق بمحذوف يفسره «المقبوحين» (٤) ، كأنه قيل (٥) : وقبحوا يوم القيامة ، نحو : (لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) [الشعراء : ١٦٨] ، أو يعطف على موضع «في الدنيا» ، أي : وأتبعناهم لعنة يوم القيامة (٦). أو معطوفة على «لعنة» على حذف مضاف ، أي (٧) : ولعنة يوم القيامة (٨).

والوجه الثاني أظهرهما ، والمقبوح : المطرود قبحه الله : طرده (٩) ، قال :

٤٠٠٦ ـ ألا قبّح الله البراجم كلّها

وجدّع يربوعا وعفّر دارما (١٠)

وسمّي ضد الحسن قبحا لأنّ العين (١١) تنبو عنه ، فكأنها تطرده (١٢) ، يقال : قبح قباحة ، وقيل: (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) : من الموسومين بعلامة منكرة ، كزرقة العيون وسواد الوجوه ، قاله ابن عباس (١٣) ، يقال : قبحه الله وقبّحه ، إذا جعله قبيحا ، قال الليث : قبحه الله أي : نحاه من كل خير (١٤) ، والقبيح أيضا : عظم الساعد مما يلي النصف منه إلى المرفق (١٥) ، وقال أبو عبيدة : (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) من المهلكين (١٦).

قوله (١٧) : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم والمراد بالكتاب : التوراة ، بيّن تعالى أنّ الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى (١٨) ، ووصفه بأنه بصائر للنّاس من حيث يستبصر به في باب الدين (١٩).

قوله : «بصائر» يجوز أن يكون مفعولا له (٢٠) ، وأن يكون حالا (٢١) إما على حذف

__________________

(١) يريد بالتعلق هنا أن يكون معمولا له.

(٢) في ب : أن يتعلق ب «المقبوحين» كأنّه وقبّحوا يوم القيامة نحو «إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ».

(٣) انظر التبيان ٢ / ١٠٢١.

(٤) انظر البيان ٢ / ٢٣٤ ، التبيان ٢ / ١٠٢١.

(٥) في ب : كأنه قال.

(٦) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٣٤ ، التبيان ٢ / ١٠٢١.

(٧) أي : سقط من ب.

(٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٦٢ ، البيان ٢ / ٢٣٣ ، التبيان ٢ / ١٠٢١.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٧٠ ، اللسان (قبح).

(١٠) البيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس ، وهو في ديوانه (١٣٠) ، المفضليات (٤٣٧) ، القرطبي ١٣ / ٢٩٠ ، البحر المحيط ٧ / ١٠٣. البراجم : مفاصل الأصابع ، والمقصود بالبراجم هنا : أحياء من بني تميم ، وذلك أن أباهم قبض أصابعه ، وقال لهم : كونوا كبراجم يدي هذه ويربوع ودارم : حيان منهم.

جدّع : قطع ، يدعو عليهم بالقبح والذلة. والشاهد فيه قوله : «قبّح» أي : جعلهم مقبوحين مطرودين.

(١١) في ب : المعنى.

(١٢) في ب : تطردهم.

(١٣) انظر البغوي ٦ / ٣٤٤.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٥.

(١٥) انظر اللسان (قبح).

(١٦) مجاز القرآن ٢ / ١٦٠.

(١٧) في ب : قوله تعالى.

(١٨) في ب : موسى عليه الصلاة والسلام.

(١٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٥.

(٢٠) انظر التبيان ٢ / ١٠٢١.

(٢١) انظر الكشاف ٣ / ١٧٠ ، البيان ٢ / ٢٣٤ ، التبيان ٢ / ١٠٢١.

٢٦٢

مضاف أي : ذا بصائر ، أو على المبالغة ، و «هدى» من حيث يستدل به (١) ، ومن حيث أن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب ، ووصفه بأنه «رحمة» ، لأنه من نعم الله على من تعبد به (٢).

روى أبو سعيد الخدري عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : ما أهلك الله قرنا من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها الله قردة (٣). وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بما فيه من المواعظ والبصائر.

قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧)

قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) (قال قتادة والسدي : وما كنت بجانب الجبل الغربي (٤)) (٥) فيكون من حذف الموصوف ، وإقامة صفته قيامه (٦) أو أن يكون من إضافة الموصوف لصفته ، وهو مذهب الكوفيين ، ومثله : بقلة الحمقاء (٧) ، ومسجد الجامع (٨).

قوله : (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أي : عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه ، والمعنى : وما كنت الحاضر المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه أو على الوحي إليه وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات (٩). فإن قيل : لمّا قال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ) ثبت أنه لم يكن شاهدا ،

__________________

(١) به : سقط من ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٥.

(٣) أخرجه البزار وابن المنذر ، والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. انظر الدر المنثور ٥ / ١٢٩.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٣٤٥.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٢ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٢.

(٧) البقلة الحمقاء : الرجلة ، وهي بقلة حولية عشبية لحمية لها بزور رقاق يؤكل ورقها مطبوخا ونيئا ، وسميت حمقاء ، لأنها تنبت على طرق الناس فتداس. اللسان (بقل ، رجل) ، المعجم الوسيط (رجل).

(٨) اشترط الكوفيون لجواز إضافة الموصوف لصفته اختلاف لفظ المضاف والمضاف إليه ، ومنع البصريون ذلك ، لأن الصفة عين الموصوف ، ولأن المضاف إليه كالشيء الواحد ، ولا يضاف الشيء إلى نفسه ، وتأولوا هذه الأشياء على حذف مضاف تقديره : بقلة الحبة الحمقاء ، ومسجد المكان الجامع. انظر الهمع ٢ / ٤٨ ـ ٤٩ ، الأشموني ٢ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١٧١ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٦.

٢٦٣

لأن الشاهد لا بد وأن يكون حاضرا فما (١) الفائدة في إعادة قوله : (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

فالجواب : قال ابن عباس التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع (٢) ، فإنه يجوز أن يكون هناك ، ولا يشهد ولا يرى (٣).

قوله : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) وجه الاستدراك أن المعنى : وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه ولكنّا أوحيناه إليك ، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على (٤) المسبب على عادة (٥) الله في اختصاراته ، فإن هذا الاستدراك هو شبيه (٦) بالاستدراكين بعده ، قاله الزمخشري (٧) ، وهذا تنبيه على المعجز (٨) ، كأنه (٩) قال : إن في إخبارك بهذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله دلالة ظاهرة على نبوتك كقوله : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى)(١٠) [طه : ١٣٣].

قوله : (وَما كُنْتَ ثاوِياً) أي : مقيما ، يقال : ثوى يثوي ثواء وثويا ، فهو (١١) ثاو ومثويّ ، قال ذو الرمة :

٤٠٠٧ ـ لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضّي لبانات ويسأم سائم (١٢)

وقال :

٤٠٠٨ ـ طال الثّواء على رسول المنزل (١٣)

وقال العجاج :

٤٠٠٩ ـ وبات حيث يدخل الثّويّ (١٤)

يعني الضيف المقيم.

قوله : «تتلو» يجوز أن يكون حالا من الضمير في «ثاويا» ، وأن يكون خبرا

__________________

(١) في ب : و.

(٢) في ب : المواضع والوقائع.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٧.

(٤) في الأصل : على أن.

(٥) في ب : إعادة.

(٦) في ب : يشبه.

(٧) الكشاف ٣ / ١٧١.

(٨) في ب : العجز. وهو تحريف.

(٩) في ب : فإنه. وهو تحريف.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٧.

(١١) فهو : سقط من ب.

(١٢) البيت من بحر الطويل ، وهو للأعشى ، لا كما نسبه ابن عادل إلى ذي الرمة. وقد تقدم.

(١٣) صدر بيت من بحر الكامل ، قاله عنترة بن شداد العبسي في هجاء قيس بن زيد ، وعجزه :

بين اللكيك وبين ذات الحوامل

وهو في ديوانه (٥٦). والشاهد فيه قوله : (الثواء) فإنه مصدر بمعنى الإقامة من الفعل ثوى.

(١٤) من الرجز قاله العجاج ، وهو في ديوانه (٣٢٥) ، مجاز القرآن ٢ / ١٠٧ ، القرطبي ١٣ / ٢٩١ البحر المحيط ٧ / ١٠٣. الثوى : بيت في جوف بيت يقيم فيه الضيف فهو مكان إقامة. وهو موطن الشاهد.

٢٦٤

ثانيا (١) ، وأن يكون هو الخبر ، و «ثاويا» حال (٢) وجعله الفراء منقطعا مما قبله (٣). أي : مستأنفا (٤) كأنّه قيل : وها أنت تتلو على أمّتك ، وفيه بعد.

فصل

المعنى : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) خلقنا أمما من بعد موسى (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) ، أي : طالت عليهم المهلة ، فنسوا عهد الله وتركوا أمره ، وذلك أن الله عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والإيمان به ، فلما طال عليهم العمر وخلقت القرون من بعد القرون نسوا (٥) تلك العهود وتركوا الوفاء بها ، (وَما كُنْتَ) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) كمقام موسى وشعيب فيهم (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) تذكرهم بالوعد والوعيد (٦).

قال (٧) مقاتل : يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على (٨) أهل مكة خبرهم (٩)(وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) في كل زمان رسولا (١٠) يعني : أرسلناك رسولا ، وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار فتتلوها عليهم ولو لا ذلك ما علمتها ، ولم تخبرهم بها (١١) ، (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) بناحية الجبل الذي كلّم (١٢) الله عليه موسى (إِذْ نادَيْنا) أي : نادينا موسى : خذ الكتاب بقوّة. وقال ابن عباس : إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم : (يا أمة محمد أجبتكم (١٣) قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني) ، قال : وإنما قال ذلك حين اختار موسى سبعين رجلا لميقات ربه (١٤). وقال وهب : لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد (١٥) قال موسى : يا رب أرني محمدا ، قال : إنك لن تصل إلى ذلك ، وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم ، قال : بلى يا رب ، قال الله تعالى : يا أمة محمد ، فأجابوه من أصلاب آبائهم (١٦).

قوله : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي : أرسلناك رحمة ، أو أعلمناك (١٧) بذلك رحمة (١٨) ، أو لكن رحمناك رحمة بإرسالك وبالوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك (١٩).

__________________

(١) ذكر هذين الوجهين أبو البقاء. انظر التبيان ٢ / ١٠٢٢.

(٢) حكاه أبو حيان. البحر المحيط ٧ / ١٢.

(٣) مما قبله : سقط من ب.

(٤) قال الفراء : (أي : إنك تتلو على أهل مكة قصص مدين وموسى ، ولم تكن هناك ثاويا مقيما فتراه وتسمعه) معاني القرآن ٢ / ٣١٣.

(٥) في ب : ونسوا.

(٦) انظر البغوي ٦ / ٣٤٦.

(٧) في ب : وقال.

(٨) في ب : علما.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٣٤٦ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٧.

(١٠) رسولا : سقط من ب.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٣٤٦.

(١٢) في ب : يكلم.

(١٣) في ب : جئتكم. وهو تحريف.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٧.

(١٥) في ب : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٦) انظر البغوي ٦ / ٣٤٦ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢٥٧.

(١٧) في الأصل : أو علمناك.

(١٨) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٢.

(١٩) انتصب «رحمة» على المصدر عند الأخفش ، فإنه قال : (فنصب «رحمة» على : ولكن رحمك ربّك ـ

٢٦٥

وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة : «رحمة» بالرفع (١) ، أي : أنت رحمة (٢).

قوله : (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) في موضع الصفة ل «قوما» ، والمعنى : لتنذر أقواما ما أتاهم من نذير من قبلك ، يعني أهل مكة ، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

قوله (٣) : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ) هي الامتناعية ، و (أن) وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء (٤) ، أي : ولو لا أصابتهم مصيبة (٥) ، وجوابها محذوف ، فقدره الزجاج : ما أرسلنا إليهم رسلا(٦). يعني أن الحامل على إرسال الرسل إزاحة عللهم بهذا القول ، فهو كقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(٧) [النساء : ١٦٥] ، وقدره ابن عطية : لعاجلناهم (٨) ، ولا معنى لهذا. «فيقولوا» عطف على «تصيبهم» و «لو لا» الثانية تحضيض (٩) ، و «فنتبع» جوابه(١٠) ، فلذلك نصب بإضمار «أن».

قال الزمخشري : فإن قلت كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب ، لا القول لدخول حرف الامتناع عليه دونه؟ قلت : القول هو المقصود بأن (١١) يكون سببا للإرسال ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب للإرسال بواسطة القول ، فأدخلت عليها (لولا) (١٢) ، وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السبب ، ويؤول معناه (١٣) إلى قولك : ولو لا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهي أنهم لو لم (١٤) يعاقبوا مثلا على كفرهم عاينوا ما الجئوا به إلى العلم اليقيني ببطلان (١٥) دينهم لم

__________________

ـ رحمة) معاني القرآن ٢ / ٦٥٣. ومفعول لأجله عند الزجاج فإنه قال : (والنصب على معنى : فعلنا ذلك للرحمة ، كما تقول : فعلت ذلك ابتغاء الخير ، أي : فعلته لابتغاء الخير ، فهو مفعول له) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٤٧. وقال الكسائي : هي خبر (كان) مضمرة بمعنى : ولكن كان ذلك رحمة من ربك. انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٦٤ ، البيان ٢ / ٢٣٤.

(١) المختصر (١١٣) البحر المحيط ٧ / ١٢٣.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ١٧١ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٣.

(٣) في ب : قوله تعالى.

(٤) في ب : الابتداء.

(٥) في ب : المصيبة.

(٦) قال الزجاج : (أي : لولا ذلك لم يحتج إلى إرسال الرسل ، ومواترة الاحتجاج) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٤٧ ، وابن عادل تابع لأبي حيان في هذا النقل. انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٣.

(٧) انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٣.

(٨) قال ابن عطية (وجواب لولا محذوف تقديره : لما أرسلنا الرسل) تفسير ابن عطية ١١ / ٣٠٧ وابن عادل تابع لأبي حيان في هذا النقل. انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٣.

(٩) قال أبو عبيدة :(«لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً» مجازه : هلّا) مجاز القرآن ٢ / ١٠٧.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ١٧١ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٣.

(١١) في الأصل : لأن.

(١٢) في ب : الواو. وهو تحريف.

(١٣) في ب : معناها.

(١٤) في ب : لولا.

(١٥) في ب : سلطان.

٢٦٦

يقولوا : لولا أرسلت إلينا رسولا. بل إنما يقولون إذا نالهم العقاب ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم ، وهو كقوله (١) : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨].

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)(٥٥)

قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمُ) يعني محمدا الحق (٢) من عندنا قالوا يعني كفار مكة (لولا) هلّا «أوتي محمد» مثل ما أوتي موسى من الآيات كاليد البيضاء ، والعصا ، وفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وانفجار الحجر بالماء والمنّ و (٣) السّلوى وكلام الله وغيرها (٤).

وقيل : مثل ما أوتي موسى كتابا جملة واحدة (٥). قال الله عزوجل : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) ، واختلفوا في الضمير (٦) في قوله : أو لم يكفروا (٧) ، فقيل : إن اليهود أمروا قريشا (٨) أن يسألوا محمدا أن يؤتى (٩) مثل ما أوتي موسى ـ عليه‌السلام (١٠) ـ فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) هؤلاء اليهود (بِما أُوتِيَ مُوسى) بجميع (١١) تلك الآيات الباهرة؟ وقيل : إنّ الذين اقترحوا هذا هم كفار مكة ، والذين كفروا بموسى هم الذين كانوا في زمن موسى إلّا أنه تعالى جعله كالشيء الواحد ، لأنهم في الكفر والتعنت كالشيء الواحد. وقال الكلبي : إنّ مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة يسألونهم (١٢)

__________________

(١) الكشاف ٣ / ١٧١ ـ ١٧٢.

(٢) في ب : بالحق. وهو تحريف.

(٣) و : سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦٠.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٣٤٨.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦٠ ـ ٢٦١. بتصرف يسير.

(٧) في ب : أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل.

(٨) قريشا : تكملة من الفخر الرازي.

(٩) أن يؤتى : تكملة من الفخر الرازي.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) في ب : مع.

(١٢) في الأصل : يسألوهم.

٢٦٧

عن محمد وشأنه ، فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته ، فلما رجع الرّهط وأخبروهم (١) بقول اليهود ، و (٢) قالوا : إنّه كان ساحرا كما أن محمدا ساحر ، فقال تعالى في حقهم : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ).

وقال الحسن : كان للعرب أصل في أيام موسى ـ عليه‌السلام (٣) ـ فمعناه على هذا : أو لم يكفر آباؤهم ، وقالوا : موسى وهارون ساحران ، وقال قتادة : أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد فقالوا ساحران ، وقيل (٤) : إن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول معجزات موسى ـ عليه‌السلام (٥) ـ قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) ، بل بما (٦) أوتي جميع الأنبياء من قبل ، أي : لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت ، ثم حكى كيفية كفرهم بما أوتي موسى (٧) ، وهو قولهم : «ساحران تظاهرا» (٨).

قوله : (مِنْ قَبْلُ) إمّا أن يتعلق ب «يكفروا» ، أو ب «أوتي» أي (٩) من قبل ظهورك(١٠).

قوله : «ساحران» قرأ الكوفيون (١١) «سحران» أي هما ، أي : القرآن والتوراة ، أو موسى وهارون ، وذلك على المبالغة ، جعلوهما (١٢) نفس السحر ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوا سحرين ، ولو صحّ هذا لكان ينبغي أن يفرد سحر ، ولكنّه ثني تنبيها على التنويع ، وقيل المراد : موسى ومحمد ـ عليهما‌السلام (١٣) ـ أو (١٤) التوراة والإنجيل ، والباقون : «ساحران» أي : موسى وهارون أو موسى ومحمد (١٥) كما تقدم.

قوله : (تَظاهَرا) العامة على تخفيف الظاء فعلا ماضيا صفة ل «سحران» أو «ساحران» أي : تعاونا (١٦). وقرأ الحسن ويحيى بن الحارث الذّمّاري وأبو حيوة واليزيدي بتشديدها (١٧) ، وقد لحنهم الناس ، قال ابن خالويه تشديده (١٨) لحن ، لأنه فعل ماض ، وإنّما يشدّد في المضارع (١٩) ، وقال الهذلي: لا معنى له (٢٠) ، وقال أبو الفضل : لا أعرف

__________________

(١) في ب : وأخبروه.

(٢) و : سقط من ب.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب : فقالوا.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في ب : بل إنما.

(٧) في ب : موسى من قبل.

(٨) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٩) أي : سقط من الأصل.

(١٠) انظر الكشاف ٣ / ١٧٢.

(١١) وهم : عاصم وحمزة والكسائي. السبعة (٤٩٥).

(١٢) في ب : جعلوها.

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) في ب : و.

(١٥) السبعة (٤٩٥) ، الكشف ٢ / ١٧٤ ـ ١٧٥ ، النشر ٢ / ٣٤١ ، ٣٤٢ ، الإتحاف (٣٤٣).

(١٦) انظر مجاز القرآن ٢ / ١٠٧ ، تفسير غريب القرآن (٣٣٣).

(١٧) المختصر (١١٣) ، البحر المحيط ٧ / ١٢٤.

(١٨) في الأصل : بتشديده.

(١٩) المختصر (١١٣).

(٢٠) انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٤.

٢٦٨

وجهه (١). وهذا عجيب من هؤلاء ، وقد حذفت نون الرفع في مواضع حتى في الفصيح كقوله عليه‌السلام (٢) : «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا» (٣) ولا فرق بين كونها بعد واو ، أو ألف ، أو ياء ، فهذا (٤) أصله تتظاهران فأدغم وحذفت نونه تخفيفا (٥) ، وقرأ الأعمش وطلحة وكذا في مصحف عبد الله «اظاهرا» بهمزة وصل وشد الظاء (٦) وأصلها تظاهرا كقراءة العامة ، فلما أريد الإدغام سكّن الأول فاجتلبت (٧) همزة الوصل (٨) ، واختار أبو عبيدة القراءة بالألف (٩) ، لأن المظاهر (١٠) بالناس وأفعالهم أشبه منها بأن المراد الكتابين (١١) ، لكن لما كان كل واحد من الكتابين يقوي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا ، كما يقال : تظاهرت الأخبار (١٢).

قوله : (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي بما أنزل على محمد وموسى وسائر الأنبياء ، وهذا الكلام لا يليق إلا بالمشركين إلا باليهود (١٣) ، ثم قال : قل لهم يا محمد : (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) يعني من التوراة والقرآن ، وهو مؤيد لقراءة «سحران» أو (١٤) من كتابيهما على حذف مضاف ، وهو مؤيد لقراءة «ساحران» ، «أتّبعه» ، وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله.

قوله : «أتّبعه» جواب للأمر وهو : «فأتوا» ، وقرأ زيد بن علي أتّبعه (١٥) بالرفع استئنافا ، أي : فأنا أتبعه (١٦).

قوله : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) استجاب (١٧) بمعنى أجاب ، قال ابن عباس : يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج (١٨) ، وقال مقاتل : فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما ، وهذا أشبه بالآية (١٩) ، قال الزمخشري : فإن قلت ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية وبينه في قوله :

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) وهو قول ابن مالك ، انظر شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح (١٧٢ ـ ١٧٣) ، شرح الكافية الشافية ١ / ٢٠٩ ـ ٢١٠. والحديث أخرجه مسلم (إيمان) ١ / ٧٤ ، الترمذي (استئذان) ٤ / ١٥٦ ، أحمد ١ / ١٦٧ ، ٢ / ٣٩١ ، ٤٤٢ ، ٤٧٧ ، ٤٩٥.

(٤) في ب : وهذا.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٤.

(٦) المختصر ١١٣ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٤.

(٧) في ب : فاختلف. وهو تحريف.

(٨) المختصر (١١٣) ، البحر المحيط ٧ / ١٢٤.

(٩) أي : «ساحران».

(١٠) في الأصل : الظاهر.

(١١) في ب : بالكتابين.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦١.

(١٣) المرجع السابق.

(١٤) في ب : و.

(١٥) في ب : تبعه.

(١٦) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٠٧ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٤.

(١٧) في ب : فاستجاب.

(١٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦١.

(١٩) المرجع السابق.

٢٦٩

٤٠١٠ ـ فلم يستجبه عند ذاك مجيب (١)

حيث عدّي بغير لام (٢)؟ قلت : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام ، ويحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب ، فيقال : استجاب الله دعاءه أو : استجاب له ، ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه ، وأما البيت فمعناه : فلم يستجب دعاءه على حذف المضاف (٣). وقد تقدم تقرير هذا في البقرة (٤) ، وأنّ استجاب بمعنى أجاب ، والبيت الذي أشار إليه هو :

٤٠١١ ـ وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (٥)

والناس ينشدونه على تعدّيه بنفسه ، فإن قيل : الاستجابة تقتضي دعاء ، فأين الدعاء هنا؟ قيل: (فَأْتُوا بِكِتابٍ) أمر ، والأمر دعاء إلى الفعل (٦) ، وقال : (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي صاروا ملتزمين طريقه ، ولم يبق شيء (٧) إلا اتباع الهوى ، ثم زيّف طريقهم بقوله : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً) وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد ، وأنه لا بد من الحجة والاستدلال (٨)(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

قوله (٩) : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) العامة على تشديد (وَصَّلْنا) إما من الوصل ضد القطع أي : تابعنا بعضه ببعض (١٠). قال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا (١١) ، وأصله من وصل الحبل ، قال :

٤٠١٢ ـ فقل لبني مروان ما بال ذمّتي

بحبل ضعيف لا يزال يوصّل (١٢)

__________________

(١) سيأتي تخريجه بعد.

(٢) في الكشاف : بغير اللام.

(٣) الكشاف ٣ / ١٧٣.

(٤) عند قوله تعالى : «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دعاني فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ....» [البقرة : ١٨٦]. انظر اللباب ١ / ٣٧٤.

(٥) البيت من بحر الطويل قاله كعب بن سعد الغنوي ، وهو في مجاز القرآن ١ / ٦٧ ، ٢ / ١٠٧ ، الأصمعيات ٩٦ ، الاقتضاب ٣ / ٣٩٩ ، المسائل العسكرية للفارسي (١٥٥) ، أمالي ابن الشجري ١ / ٦٢ ، اللسان (جوب). البحر المحيط ٧ / ١٢٤ ، شرح شواهد الكشاف (١٠) ، والشاهد فيه قوله : (فلم يستجبه) فإنه بمعنى (لم يجبه) وهو متعد بدون حرف الجر.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ١٧٣ ، الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦١.

(٧) في ب : نبي. وهو تحريف.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦١.

(٩) في ب : قوله تعالى.

(١٠) انظر مجاز القرآن ٢ / ١٠٨ ، تفسير غريب القرآن (٣٣٣).

(١١) معاني القرآن ٢ / ٣٠٧.

(١٢) البيت من بحر الطويل ، قاله الأخطل ، وهو في ديوانه (٢٧١) ، مجاز القرآن ٢ / ١٠٨ ، القرطبي ١٣ / ٢٩٥ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٥. والشاهد فيه قوله : (يوصّل) ، أي : أن العلاقة بيني وبينكم غير قوية.

٢٧٠

وإمّا (١) : جعلناه أوصالا أي : أنواعا من المعاني ـ قاله مجاهد (٢) ـ وقرأ الحسن بتخفيف الصاد (٣) وهو قريب مما تقدم ، قال ابن عباس ومقاتل : وصّلنا : بيّنا لكفار مكة ـ بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية ـ كيف عذبوا بتكذيبهم (٤) ، وقال ابن زيد : وصلنا لهم القول : خبر الدنيا بخبر الآخرة ، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا (٥)(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ، ثم لما أقام الدلالة (٦) على النبوة أكد ذلك بقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ)(٧).

قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) مبتدأ و «هم» مبتدأ ثان و «يؤمنون» خبره ، والجملة خبر الأول (٨) ، و «به» متعلق ب «يؤمنون» ، وقد يعكّر (٩) على الزمخشري وغيره من أهل البيان ، حيث قالوا : التقديم يفيد الاختصاص وهنا لا يتأتى ذلك ، لأنهم لو خصّوا إيمانهم بهذا الكتاب فقط لزم كفرهم بما عداه وهو عكس المراد وقد أبدى أهل البيان هذا في قوله : (آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) [الملك : ٢٩] فقالوا : لو قدّم «به» لأوهم الاختصاص بالإيمان بالله وحده دون ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وهذا بعينه جار هنا ، والجواب : أن الإيمان بغيره معلوم فانصبّ الغرض إلى الإيمان بهذا.

فصل

قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقيل : من قبل القرآن (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) ، قال قتادة : نزلت في (أناس من) (١٠) أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه (١١). وقال مقاتل : هم أصحاب السفينة الذين قدموا من الحبشة أربعين رجلا من أهل الإنجيل وآمنوا بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٢) ـ.

قال سعيد بن جبير : قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٣) فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا : يا نبيّ الله إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها ، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(١٤) ، وعن ابن عباس قال : نزلت (١٥) في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية

__________________

(١) في ب : وإما من.

(٢) انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٥.

(٣) المختصر (١١٣).

(٤) انظر البغوي ٦ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

(٥) انظر البغوي ٦ / ٣٥٠.

(٦) في ب : الدلائل.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦٢.

(٨) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٢.

(٩) في ب : تفكر. وهو تحريف.

(١٠) في النسختين : موسى. والتصويب من الفخر الرازي.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦٢.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٣٥٠.

(١٣) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم ومجد وعظم.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ٣٥٠.

(١٥) في ب : أنها نزلت.

٢٧١

من الشام (١) ، وقال رفاعة (٢) : نزلت في عشرة أنا أحدهم ، وصفهم الله فقال : (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) يعني : القرآن ، قالوا : (آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) ، وذلك أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، أي كنا من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله التوحيد مؤمنين بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه نبي حق (٣).

قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) منصوب على المصدر (٤) ، و (بِما صَبَرُوا) ما مصدرية (٥) والباء متعلق ب (٦) يؤتون (٧) (أو بنفس الأجر. ومعنى «مرّتين» أي : بإيمانهم بمحمد قيل بعثته (٨) ، وقيل : يؤتون أجرهم) (٩) مرتين لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر (١٠) ، وقيل : لإيمانهم بالأنبياء الذين كانوا قبل محمد ـ عليه‌السلام (١١) ـ ومرّة بإيمانهم بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٢) ـ وقال مقاتل : لما آمنوا بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شتمهم المشركون ، فصفحوا عنهم فلهم (١٣) أجران ، أجر على الصفح وأجر على الإيمان (١٤) ، وقوله (بِما صَبَرُوا) أي على دينهم ، قال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا (١٥).

قوله : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي بالطاعة المعصية المتقدمة ، قال ابن عباس : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك (١٦) ، وقال مقاتل (١٧) : يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو (١٨) ، وممّا رزقناهم ينفقون ، في الطاعة. قوله : وإذا سمعوا اللّغو وهو القبيح من القول أعرضوا عنه ، وذلك أن المشركين كانوا يسبّون مؤمني (١٩) أهل الكتاب ، ويقولون تبّا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردّون عليهم (٢٠) ، (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) ، لنا ديننا ولكم دينكم ، (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ، ليس المراد سلام التحية ولكنه سلام المتارك ، ومعناه : سلمتم منّا لا نعارضكم بالشتم والقبح ، ونظيره (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣]. ثم أكد ذلك تعالى بقوله حاكيا عنهم (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) ، أي : دين الجاهلين ، أي : لا نحب دينكم الذي

__________________

(١) انظر البغوي : ٦ / ٣٥٠.

(٢) هو رفاعة بن خديج ، صحب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعمه ظهير بن رافع وابنه أسيد بن ظهير قد رويا عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المعارف لابن قتيبة (٣١٧).

(٣) انظر البغوي ٦ / ٣٥١.

(٤) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٣.

(٥) ما : سقط من ب.

(٦) في ب : بنفس.

(٧) في ب : يؤتون أجرهم مرتين.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦٢.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٣٥١.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) في ب : عليه الصلاة السلام ، وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦٢.

(١٣) في ب : فلم.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦٢.

(١٥) انظر البغوي ٦ / ٣٥١.

(١٦) المرجع السابق.

(١٧) في ب : وقال تعالى. وهو تحريف.

(١٨) انظر البغوي ٦ / ٣٥١.

(١٩) في ب : يسمعون موسى.

(٢٠) انظر البغوي ٦ / ٣٥٢.

٢٧٢

أنتم عليه (١) ، وقيل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه (٢) ، قيل : نسخ ذلك بالأمر بالقتال ، وهو بعيد ، لأن ترك المسافهة مندوب ، وإن كان القتال (واجبا (٣)) (٤). والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ)(٥٩)

قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي : أحببت هدايته ، وقيل : أحببته لقرابته ، قال المفسرون : نزلت في أبي طالب قال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قل : لا إله إلّا الله أشهد لك بها يوم القيامة ، قال : لولا أن تعيّرني قريش ، تقول : إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينيك ، فأنزل الله هذه الآية(٥).

فصل

قال في هذه الآية : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، وقال في آية أخرى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] ، ولا تنافي فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة ، والذي نفاه عنه هداية التوفيق وشرح الصدور ، وهو نور يقذف في القلب فيجيء به القلب كما قال (٦) سبحانه (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)(٧) [الأنعام : ١٢٢].

فصل

احتج أهل السنة بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال ، فقالوا : قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يقتضي أن تكون الهداية في الموضعين بمعنى واحد لأنه لو كان المراد من الهداية في قوله (إِنَّكَ لا تَهْدِي) شيئا ، وفي قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) شيئا آحر لاختلّ النظم ، ثم إما أن يكون المراد من الهداية بيان الأدلة

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٣٥٢.

(٢) المرجع السابق.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٢٦٢.

(٤) ما بين القوسين في ب : واجب. وهو تحريف.

(٥) أخرجه البخاري (جنائز) ١ / ٢٣٥ ، مسلم (إيمان) ١ / ٥٥ ، أحمد ٣ / ٤٣٤ ، ٥٤٤١ وانظر أسباب النزول للواحدي (٢٥١ ـ ٢٥٢).

(٦) في ب : قاله.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٣.

٢٧٣

والدعوة إلى الجنة ، أو تعريف طريق الجنة أو خلق المعرفة على سبيل الإلجاء ، (أو خلق المعرفة في القلوب لا على سبيل الإلجاء) (١) لا جائز أن يكون المراد (بيان الأدلة ، لأنه عليه‌السلام هدى الكل بهذا المعنى فهي غير) (٢) الهداية التي نفى الله عمومها وكذا القول في الهداية بمعنى الدعوة إلى الجنة ، وأما الهداية بمعنى تعريف الجنة فهي أيضا غير مرادة ، لأنه تعالى علّق هذه الهداية على المشيئة. فمن وجب عليه أداء عشرة دنانير لا يقول أعطي عشرة دنانير إن شئت ، وأما الهداية بمعنى الإلجاء والقسر فغير جائز. لأن ذلك عندهم قبيح من الله تعالى في حق المكلف ، وفعل القبيح مستلزم (٣) للجهل أو الحاجة وهما محالان ، ومستلزم (٤) المحال محال ، فذلك محال من الله والمحال لا يجوز تعليقه على المشيئة ، ولما بطلت الأقسام لم يبق إلّا أن المراد أنه تعالى يخصّ البعض بخلق الهداية والمعرفة ويمنع البعض منها (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٣] وإذا أورد الكلام (٥) على هذا الوجه سقط ما أورده (٦) القاضي عذرا عن ذلك (٧).

قوله : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي أنه المختص بعلم الغيب فيعلم من (٨) يهتدي ومن لا يهتدي ، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم : إن نتّبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا (٩) ، قال المبرد : الخطف الانتزاع بسرعة (١٠) نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنّا لنعلم أنّ الذي تقوله حقّ ولكنا إن اتّبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة ، فأجاب الله (١١) عنه من وجوه الأول : قوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) ، أي أعطاكم مسكنا لا خوف لكم فيه ، إما لأن العرب يحترمون الحرم ولم يتعرضوا لسكانه ، فإنه يروى أن العرب خارج الحرم كانوا لا يتعرّضون لسكان الحرم (١٢).

قوله : «نتخطّف» العامة على الجزم جوابا للشرط ، والمنقريّ بالرفع (١٣) ، على حذف الفاء ، كقوله :

٤٠١٣ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها (١٤)

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٣) في الأصل : ملتزم.

(٤) في الأصل : وملتزم.

(٥) في ب : هذا الكلام.

(٦) في ب : ما أورد.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٣ ـ ٤.

(٨) في ب : بمن.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٤.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) في ب : الله تعالى.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٤ ، وأسباب النزول للواحدي ٢٥٢.

(١٣) انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٦.

(١٤) صدر بيت من بحر البسيط ، قاله حسان بن ثابت ، أو عبد الرحمن بن حسان ، وعجزه :

والنشرّ بالشرّ عند الله مثلان ـ

٢٧٤

وكقراءة «يدرككم» (١) بالرفع (٢) ، أو على التقديم وهو مذهب سيبويه (٣).

قوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً) قال أبو البقاء عدّاه بنفسه لأنه بمعنى «جعل» وقد صرحّ به في قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً)(٤) [العنكبوت : ٦٧] و «مكّن» متعد بنفسه من غير أن يضمّن معنى «جعل» كقوله «مكّنّاهم» (٥) ، وتقدم تحقيقه في الأنعام وآمنا قيل بمعنى مؤمن أي : يؤمن من دخله (٦) ، وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : آمنا أهله ، وقيل فاعل بمعنى النسب أي ، ذا أمن (٧).

قوله : «يجبى» قرأ نافع بتاء التأنيث مراعاة للفظ ثمرات ، والباقون بالياء (٨) للفصل ولأن تأنيثه مجازي والجملة صفة ل «حرما» أيضا (٩) ، وقرأ العامة. «ثمرات» بفتحتين (١٠) وأبان بضمتين (١١) جمع ثمر بضمتين ، وبعضهم بفتح وسكون (١٢).

قوله : «رزقا» إن جعلته مصدرا جاز انتصابه على المصدر المؤكّد ، لأن معنى (يُجْبى إِلَيْهِ) يرزقهم وأن ينتصب على المفعول له (١٣) ، والعامل محذوف ، أي يسوقه (١٤) إليه رزقا ، وأن يكون في موضع الحال من «ثمرات» لتخصصها بالإضافة ، (كما ينتصب عن النكرة المخصصة) (١٥) ، وإن جعلته اسما للمرزوق (١٦) انتصب على الحال من

__________________

ـ وتقدم تخريجه. والشاهد فيه هنا قوله : (الله يشكرها) حيث حذفت الفاء من جواب الشرط للضرورة ، والأصل : فالله يشكرها.

(١) في النسختين : يدركّم. من قوله تعالى :«أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ»[النساء : ٧٨].

(٢) وهي قراءة طلحة بن حسان. المختصر (٢٧).

(٣) قال سيبويه : (وسألته عن قوله : «إن تأتني أنا كريم» ، فقال : لا يكون هذا إلا أن يضطر شاعر ، من قبل أنا كريم يكون كلاما مبتدأ ، والفاء وإذا لا يكونان إلا متعلقين بما قبلهما فكرهوا أن يكون هذا جوابا حيث لم يشبه الفاء) الكتاب ٣ / ٦٤ ، وقال : (... فإن قلت : إن تأتني زيد يقل ذاك ، جاز على قول من قال : زيدا ضربته ، وهذا موضع ابتداء ، ألا ترى أنك لو جئت بالفاء فقلت : إن تأتني فأنا خير لك ، كان حسنا ، وإن لم يحمله على ذلك رفع وجاز في الشعر كقوله : الله يشكرها) الكتاب ٣ / ١١٤.

(٤) [العنكبوت : ٦٧]. وانظر التبيان ٢ / ١٠٢٤.

(٥) من قوله تعالى : «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ» [الأنعام : ٦].

(٦) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٠٨ ، التبيان ٢ / ١٠٢٤.

(٧) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٤ ، القرطبي ١٣ / ٣٠.

(٨) السبعة (٤٩٥) ، الكشف ٢ / ١٧٥ ، النشر ٢ / ٣٤٢ ، الإتحاف ٣٤٣.

(٩) أيضا : سقط من ب.

(١٠) في الأصل : بالفتحتين.

(١١) المختصر (١١٣) ، المحتسب ٢ / ١٥٣ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٦.

(١٢) «ثمرات» المختصر (١١٣) ، البحر المحيط ٧ / ١٢٦ ، ولم تعز إلى قارىء معين.

(١٣) له : سقط من ب.

(١٤) في ب : يسوق.

(١٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٦) في : للمرزق.

٢٧٥

«ثمرات» (١) ومعنى «يجبى» ، أي يجلب ويجمع ، يقال : جبيت الماء في الحوض أي : جمعته (٢) قال مقاتل : يحمل إلى الحرم (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن ما نقوله حق.

قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي : من أهل قرية (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) ، قال الزمخشري: البطر سوء احتمال الغنى ، وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى (٣) ، وانتصب «معيشتها» إما بحذف الجار واتصال الفعل (٤) كقوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] ، أو بتقدير حذف ظرف الزمان ، أصله : بطرت أيّام معيشتها (٥) ، وإما بتضمين «بطرت» معنى كفرت أو خسرت (٦) أو على التمييز (٧) أو على التشبيه بالمفعول به (٨) ، وهو قريب من «سفه نفسه» (٩). قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله ، وعبدوا غيره (١٠).

قوله : (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) قال ابن عباس لم يسكنها إلا المسافرون ، ومارّ الطريق يوما أو ساعة (١١). معناه : لم تسكن من بعدهم إلا سكونا يسيرا قليلا ، وقيل: لم يعمّر منها إلا أقلها وأكثرها خراب (١٢) ، فقوله : (لَمْ تُسْكَنْ) جملة حالية ، والعامل فيها معنى تلك (١٣) ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا (١٤) ، و (إِلَّا قَلِيلاً) أي : إلا سكنى قليلا (١٥) ، أو (١٦) إلا زمانا قليلا (١٧) ، أو إلا مكانا قليلا (١٨). (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠].

قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) بظلم» يعني القرى الكافرة أهلها حتى نبعث في أمّها رسولا ، أي في أكثرها وأعظمها رسولا ينذرهم وخصّ الأعظم ببعثة الرسول فيها لأن الرسول يبعث إلى الأشراف ، والأشراف يسكنون المدائن والمواضع التي هي أم ما

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٧٤ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٦.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٤.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٧٤.

(٤) المرجع السابق.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١٧٤ ، وعزاه أبو حيان إلى الزجاج. انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٦.

(٦) أي : خسرت معيشتها. وعزاه أبو حيان إلى أكثر البصريين. انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٦.

(٧) على مذهب الكوفيين ، انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٠٨ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٦.

(٨) وعزاه أبو حيان إلى بعض الكوفيين. انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٦.

(٩) من قوله تعالى : «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» [البقرة : ١٣٠].

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٣٥٥.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٧٥ ، الفخر الرازي ٢٥ / ٦.

(١٢) انظر البغوي ٦ / ٣٥٥.

(١٣) في ب : تلك معنى تلك.

(١٤) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٣.

(١٥) انظر الكشاف ٣ / ١٧٥.

(١٦) في ب : و.

(١٧) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٣.

(١٨) فيكون الاستثناء من المساكن. البحر المحيط ٧ / ١٢٦.

٢٧٦

حولها (١) ، وهذا بيان لقطع عذرهم ، لأن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم ، فوجب ألا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة.

وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي : يؤدّي ويبلّغ ، قال مقاتل : يخبرهم الرسول أنّ العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا (٢) ، (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) : مشركون أي : أهلكهم بظلمهم ، وأهل مكة ليسوا كذلك ، فإن بعضهم قد آمن وبعضهم قد علم الله منهم أنّهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يؤمن (٣).

قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ)(٦٦)

قوله (٤) : (وَما (٥) أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، أي فهو متاع ، وقرىء فمتاعا الحياة بنصب «متاعا» (٦) على المصدر ، أي : يتمتّعون (٧) متاعا ، «والحياة» نصب على الظرف (٨) ، والمعنى : يتمتعون بها أيام حياتهم ثم هي إلى فناء وانقضاء (٩)(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) ، هذا(١٠) جواب عن شبهتهم فإنهم إن قالوا تركنا (١١) الدّين لئلا تفوتنا الدنيا ، فبيّن تعالى أن ذلك خطأ عظيم ، لأن ما عند الله خير وأبقى (أمّا أنّه خير) (١٢) فلوجهين (١٣) : الأول : أن المنافع هناك أعظم ، والثاني : أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار ، بل المضار فيها أكثر ، وأما أنّها (١٤) أبقى ، فلأنها (١٥) دائمة غير منقطعة ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدما فظهر بذلك أن منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة ، فلا جرم نبه على ذلك فقال : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن الباقي خير من

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٣٥٥.

(٢) المرجع السابق.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٦.

(٤) في ب : قوله تعالى.

(٥) في الأصل : فما.

(٦) المختصر (١١٣) ، البحر المحيط ٧ / ١٢٧ ، غير معزوة إلى قارىء.

(٧) في ب : يتمتعوا.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٧.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٣٥٦.

(١٠) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٥ / ٧.

(١١) في ب : إن تركنا.

(١٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٣) في النسختين من وجهين والتصويب من الفخر الرازي.

(١٤) في ب : لأنها. وهو تحريف.

(١٥) في ب : فإنها. وهو تحريف.

٢٧٧

الفاني يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجا عن حد العقل ، ورحم الله الشافعي حيث قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله ـ تعالى ـ لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلين بالطاعة ، فكأنه رحمه‌الله إنما أخذه من هذه الآية (١). وقرأ أبو عمرو «ا فلا يعقلون» بالياء من تحت التفاتا ، والباقون بالخطاب (٢) جريا (٣) على ما تقدم.

قوله (٤) : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) قرأ طلحة «أمن وعدناه» بغير فاء (٥)(وَعْداً حَسَناً) يعني الجنة (فَهُوَ لاقِيهِ) مصيبه ومدركه وصائر إليه (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وتزول عن قريب (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) النار (٦) ، وقرأ الكسائي وقالون : «ثم هو» بسكون الهاء إجراء لها مجرى الواو والفاء ، والباقون بالضم على الأصل (٧) ، وتخصيص لفظ (الْمُحْضَرِينَ) بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن ، قال تعالى (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات : ٥٧] (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات : ١٢٧] وفي اللفظ إشعار به ، لأن الإحضار يشعر بالتكليف والإلزام ، وذلك لا يليق بمجالس اللذة ، وإنما يليق بمجالس الضرر والمكاره (٨). قوله (٩) : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا أنهم شركائي وتزعمون أنها تشفع فتخلصكم من هذا الذي نزل بكم ، وتزعمون مفعولاه محذوفان (١٠) أي : (تزعمونهم شركاء (١١))(١٢) ، (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة وقيل : الشياطين (١٣).

قوله : (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) فيه وجهان :

أحدهما : أن هؤلاء مبتدأ ، والّذين أغوينا صفته والعائد محذوف ، أي أغويناهم ، والخبر «أغويناهم» (١٤) ، و (كَما غَوَيْنا) نعت لمصدر محذوف ، ذلك المصدر مطاوع لهذا الفعل أي فغووا غيّا كما غوينا ، قاله (١٥) الزمخشري (١٦) ، وهذا الوجه منعه أبو علي ،

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٥ / ٧.

(٢) السبعة (٤٩٥) الكشف ٢ / ١٧٥ ، النشر ٢ / ٣٤٢ ، الإتحاف ٣٤٣.

(٣) في الأصل : جوابا.

(٤) في ب : قوله تعالى.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ١٢٧.

(٦) انظر البغوي ٦ / ٣٥٦.

(٧) السبعة (١٥١) الكشف ١ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ، الكشاف ٣ / ١٧٥ ـ ١٧٦ ، التبيان ٢ / ١٠٢٤.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٧.

(٩) في ب : قوله تعالى.

(١٠) في ب : مفعولا محذوفا. وهو تحريف.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٧٦ ، البيان ٢ / ٢٣٥ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٨.

(١٢) ما بين القوسين في ب : تزعمونه شركاء.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ١٧٦ ، الفخر الرازي ٢٥ / ٨.

(١٤) في ب : أغوينا.

(١٥) في النسختين : قال. والصواب ما أثبته.

(١٦) انظر الكشاف ٣ / ١٧٦.

٢٧٨

قال : لأنه ليس في الخبر زيادة فائدة على ما في صفته ، قال : فإن قلت : قد أوصل بقوله كما غوينا وفيه زيادة ، قلت : الزيادة في الظرف (١) لا يصيّره أصلا في الجملة لأنّ الظروف (٢) صلات (٣) ، ثم أعرب هو «هؤلاء» مبتدأ و (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) خبره ، و «أغويناهم» مستأنف ، وأجاب أبو البقاء وغيره عن الأول بأن الظرف قد يلزم كقولك زيد عمرو في داره (٤).

فصل

المعنى : هؤلاء الذين دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أضللناهم كما ضللنا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم.

قوله : (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) إيّانا مفعول (يَعْبُدُونَ) قدّم لأجل الفاصلة (٥) وفي «ما» وجهان :

أحدهما : هي نافية (أي تبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا) (٦).

والثاني (٧) : مصدرية ولا بدّ من تقدير (٨) حرف جرّ أي : تبرأنا مما كانوا أي من عبادتهم إيانا ، وفيه بعد (٩).

قوله : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي : وقيل للكافرين ادعوا شركاءكم ، أي : الأصنام لتخلصكم من العذاب «فدعوهم» (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا)(١٠) لهم لم يجيبوهم ، والأقرب أن هذا على سبيل التقريع ، لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم (١١).

قوله : (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا) جوابها محذوف أي : لما رأوا العذاب ، أو لدفعوه ، قال الضحاك(١٢) ومقاتل : يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروا في الآخرة ، وقيل : لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أنّ العذاب حق ، وقيل : لو كانوا (١٣) يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل قد آن لهم أن

__________________

(١) في ب : الظرف. وهو تصحيف.

(٢) في الأصل : الظرف.

(٣) انظر التبيان ٢ / ١٠٢٤ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٨.

(٤) قال أبو البقاء : (وقال غيره ، وهو الوجه الثاني : لا يمتنع أن يكون «هؤلاء» مبتدأ و «الذين» صفة ، و «أغويناهم» الخبر من أجل ما اتصل به ، وإن كان ظرفا ، لأن الفضلات في بعض المواضع تلزم كقولك : زيد «عمرو» في داره). التبيان ٢ / ١٠٢٤.

(٥) في ب : المفاصلة.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) في النسختين : والثانية.

(٨) في ب : تقدم. وهو تحريف.

(٩) ذكر الوجهين ابن الأنباري في البيان ، وعقب بقوله : (والوجه الأول أوجه الوجهين) ، البيان ٢ / ٢٣٥ ، وانظر التبيان ٢ / ١٠٢٤.

(١٠) ما بين القوسين في ب : فليستجيبوا.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٩.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٥ / ٩.

(١٣) في ب : لو أنهم.

٢٧٩

يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(١) قال ابن الخطيب : وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقديره وجوه :

أحدها : أن الله تعالى لما خاطبهم بقوله (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) فهاهنا يشتد الخوف عليهم ويصيرون بحيث لا يرون شيئا ، فقال تعالى : (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) شيئا ولما صاروا من شدة الخوف لا يبصرون شيئا لا جرم ما رأوا العذاب.

وثانيها : أن الله تعالى لما ذكر عن الشركاء وهم الأصنام الذين لا يجيبون الذين دعوهم ، قال في حقهم : (وَرَأَوُا (٢) الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) مشاهدين العذاب ، وكانوا من الأحياء لاهتدوا ، ولكنها ليست كذلك ، فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل : قوله : (وَرَأَوُا الْعَذابَ) ضمير(٣) لا يليق إلا بالعقلاء ، وكيف يصح (٤) عوده للأصنام ، قلنا : هذا كقوله : (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ، وإنما أورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا هاهنا.

وثالثها : أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب (٥) ، أي : والكفار علموا حقيقة هذا (٦) العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون ، قال : وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب «لو» محذوف ، فإن ذلك يقتضي تفكيك نظم (٧) الآية (٨).

قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي : يسأل الله الكفار (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ، فعميت ، العامة على تخفيفها ، وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم (٩) ، وتقدمت القراءتان للسبعة في هود (١٠) ، والمعنى : خفيت واشتبهت (عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) وهي الأخبار والأعذار ، وقال مجاهد : الحجج يومئذ فلا يكون لهم عذر ولا حجة (١١) ، فهم لا يتساءلون لا يجيبون وقال قتادة : لا يحتجون (١٢) ، وقيل : يسكتون (١٣) لا يسأل بعضهم بعضا (١٤) وقرأ طلحة «لا يسا الون» بتشديد السين على إدغام التاء في السين (١٥) ، كقراءة (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ)(١٦) [النساء : ١].

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٥ / ٩.

(٢) في ب : رأوا.

(٣) ضمير : تكملة من الفخر الرازي.

(٤) في الأصل : يليق.

(٥) في الأصل : العذاب.

(٦) هذا سقط من ب.

(٧) في ب : النظم.

(٨) الفخر الرازي ٢٥ / ٩.

(٩) المختصر (١١٣) ، تفسير ابن عطية ١١ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ ، البحر المحيط ٧ / ١٢٩.

(١٠) عند قوله تعالى :«فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ» [هود : ٢٨].

(١١) انظر البغوي ٦ / ٣٥٨.

(١٢) المرجع السابق.

(١٣) في ب : لا يسكتون.

(١٤) انظر البغوي ٦ / ٣٥٨.

(١٥) المختصر (١١٣) ، البحر المحيط ٧ / ١٢٩.

(١٦) قرأ بها ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو في رواية ، وذلك لإدغام التاء الثانية في السين. السبعة (٢٢٦) ، الكشف ١ / ٢٧٥.

٢٨٠