اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٥

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦١٥

سؤالك إلا ما ذكرته. واعلم أن حقيقته غير معقولة للبشر ، فيستحيل (١) من موسى ـ عليه‌السلام (٢) ـ أن يذكر ما تعرف (به تلك) (٣) الحقيقة ، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة ، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق ، وعدل إلى التخويف ، وقال : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)(٤) : المحبوسين. قال الكلبي : كان سجنه أشد من القتل ، لأنه (٥) كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئا يهوي به في (٦) الأرض (٧).

وقال : (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ولم يقل : «لأسجننّك» وهو أخص منه ؛ لأن فيه مبالغة ليست في ذاك ، أو (٨) معناه : لأجعلنك ممن عرفت حاله في سجوني (٩) فعند ذلك ذكر موسى كلاما مجملا ليعلق قلبه به فيعدل عن وعيده ، فقال (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي : هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بدليلين يدلان على وجود الله ، وعلى أنّي رسوله. فعند ذلك قال : (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). وإنما قال موسى ذلك لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان ، فقال فرعون : (فَأْتِ بِهِ) فإنا لن نسجنك حينئذ (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(١٠) فإن قيل : كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول ، وهو قوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ)(١١) أي : بآية (١٢) بيّنة ، والمعجز لا يدل على الله لدلالة سائر ما تقدم؟

فالجواب : بل يدل على ما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حيّة على الله ، وعلى توحيده ، وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة ، فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم (١٣). والواو في قوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ) واو الحال ، دخلت عليها همزة الاستفهام ، والمعنى : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ أي : جائيا بالمعجزة (١٤) وقال الحوفي : «هي واو العطف» (١٥). وتقدم تحرير هذا عند قوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ)(١٦) في البقرة ، وغالب الجمل هنا تقدم إعرابها.

قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ

__________________

(١) في ب : ليستحيل.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) به تلك : تكملة من الفخر الرازي.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٥) في ب : لأن.

(٦) في ب : إلى.

(٧) انظر البغوي ٦ / ٢١٢.

(٨) في ب : و.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ١١٢.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٠.

(١١) مبين : مكرر في ب.

(١٢) في ب : بأنه. وهو تحريف.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٠.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ١١٢.

(١٥) انظر البحر المحيط ٧ / ١٤.

(١٦) من قوله تعالى : «أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ» [البقرة : ١٧٠].

٢١

(٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)(٣٧)

قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ). واعلم أن قوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) يدل على أن الله تعالى عرفه قبل إلقاء العصا بأنها تصير ثعبانا ، فلذلك (١) قال ما قال ، فلما ألقى موسى (٢) عصاه وصارت ثعبانا ، روي أنها لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون تقول : يا موسى ، مرني بما شئت ، ويقول فرعون : (يا موسى) (٣) أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها ، فأخذها فعادت عصا (٤). فإن قيل : كيف قال : (ثُعْبانٌ مُبِينٌ) وفي آية أخرى : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) [طه : ٢٠] وفي آية ثالثة : (كَأَنَّها جَانٌ) [القصص : ٣١] والجانّ مائل إلى الصغر ، والثعبان إلى الكبر؟

فالجواب : أن الحية اسم الجنس ، ثم لكبرها صارت ثعبانا ، وشبهها بالجانّ لخفتها ، وسرعتها (٥) ، فصح الكلامان. ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) [الحجر : ٢٧]. ويحتمل أنها كانت صغيرة كالجانّ ثم عظمت فصارت ثعبانا (٦) ثم إن موسى ـ عليه‌السلام (٧) ـ لما أراه آية العصا قال فرعون : «هل غيرها»؟ قال : نعم ، فأراه يده ، ثم أدخلها جيبه ، ثم أخرجها (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) تضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص ، لها شعاع كشعاع الشمس. فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر أمورا :

أحدها : قال لهم : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) وكان زمانهم زمان السحرة ، فأوهمهم أن هذا كبير من السحرة.

وثانيها : قال : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) وهذا موجب للتنفير عنه لئلا يقبلوا قوله ، والمعنى : يفرق جمعكم بما يلقيه من العداوة بينكم (٨) ، ومفارقة الوطن أصعب الأمور ، وهذا نهاية ما يفعله المضل المنفر عن المحق.

وثالثها : قوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي : ما رأيكم فيه ، فأظهر لهم من نفسه أني متبع لرأيكم ، ومثل هذا يوجب جذب القلوب ، وانصرافها عن العدو (٩) قوله : «حوله» حال من

__________________

(١) في ب : فكذلك. وهو تحريف.

(٢) موسى : سقط من ب.

(٣) يا موسى : تكملة من الفخر الرازي.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣١.

(٥) في ب : أو سرعتها.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣١ ـ ١٣٢.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) بينكم : سقط من ب.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٢.

٢٢

«الملأ» (١) ، ومفعول القول قوله : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) وقيل : صلة «للملأ» ، فإنه بمعنى «الّذي». وقيل : الموصول محذوف. وهما قولان للكوفيين. قال الزمخشري : «فإن قلت : قوله تعالى : (لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) فما العامل في (حوله)؟. قلت : هو منصوب نصبين : نصب في اللفظ ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما تقدم في الظرف ، والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال» (٢).

قوله : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ). لما قال لهم فرعون تلك الكلمات اتفقوا على جواب واحد ، وهو قولهم : «أرجه» قرىء : «أرجه وأرجئه وأرجه» (٣) (بالهمز والتخفيف (٤) ، وهما لغتان ، يقال : أرجأته وأرجيته) (٥) إذا أخرته. والمعنى : أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة. وقيل : «احبسه»(٦)(وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة ، ظنّا منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله. وعارضوا (٧) قوله : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) بقولهم : (بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) فجاءوا بكلمة الإحاطة ، وبصيغة المبالغة ليطيّبوا قلبه (٨).

قوله تعالى : (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(٤٢)

قوله تعالى : (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ). اليوم المعلوم : يوم الزينة (٩).

قال ابن عباس : وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة ، وهو يوم النيروز (١٠) وميقاته : وقت الضحى ، لأنه الوقت الذي وقّت لهم موسى ـ عليه‌السلام (١١) ـ من يوم الزينة في قوله: (مَوْعِدُكُمْ(١٢) يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)(١٣) [طه : ٥٩].

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ١٠٥ ، التبيان ٢ / ٩٩٥.

(٢) الكشاف ٣ / ١١٣.

(٣) في النسختين : أرجيه وأرجئه وأرجه.

(٤) قوله : «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» قرأه ابن كثير وهشام بهمزة ساكنة ، ويصلان الهاء بواو في الوصل ، وكذلك قرأ أبو عمرو ، غير أنه يضمّ الهاء ، ولا يصلها بواو ، وقرأ ابن ذكوان بهمزة ساكنة وبكسر الهاء ، من غير أن يصلها بياء ، وكذلك قرأ قالون ، غير أنه لم يهمز. وقرأ ورش والكسائي بغير همز ، ويصلان الهاء بياء في الوصل ، وقرأ حمزة وعاصم بإسكان الهاء من غير همز. والهمز في هذا الفعل وتركه لغتان ، يقال : أرجيته وأرجأته بمعنى : أخرته. السبعة (٢٨٧ ـ ٢٨٩) ، الكشف ١ / ٤٧٠ ـ ٤٧١ ، البيان ٢ / ٢١٣.

(٥) ما بين القوسين مكرر في ب.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٢.

(٧) في ب : وعارضوه.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٢.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٢١٣ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٣.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٢١٣.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) في ب : من عدوكم. وهو تحريف.

(١٣) انظر الكشاف ٣ / ١١٣ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٣.

٢٣

قوله : (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ). والمعنى : أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين ولمن تكون الغلبة ، وكان موسى ـ عليه‌السلام (١) ـ يطلب ذلك ليظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم (٢).

قوله : (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ). أي نرجو أن تكون الغلبة لهم (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) لموسى. وقيل : إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء. وأرادوا ب «السّحرة» : موسى وهارون وقومهما (٣). (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ). [فابتدءوا بطلب الجزاء ، وهو إما المال وإما الجاه ، فبذل لهم ذلك وأكّده بقوله : (وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)](٤) لأنّ نهاية مطلوبهم البذل ورفع المنزلة (٥).

قوله تعالى : (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)(٤٨)

قوله تعالى : (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ). اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لا بد من ابتداء موسى أو ابتدائهم ، ثم إنهم تواضعوا فقدّموه على أنفسهم ، وقالوا له : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) [الأعراف : ١١٥] فلما تواضعوا له تواضع هو أيضا لهم (٦) فقدمهم على نفسه ، وقال : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ)(٧). فإن قيل : كيف جاز لموسى ـ عليه‌السلام (٨) ـ أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصيّ ، وذلك سحر وتلبيس وكفر ، والأمر بمثله لا يجوز؟ فالجواب : ليس ذلك بأمر ، لأن مراد موسى ـ عليه‌السلام (٧) ـ منهم أن يؤمنوا به ، ولا يقدموا(٩) على ما يجري مجرى المقاتلة ، وإذا ثبت ذلك وجب تأويل صيغة الأمر ، وفيه وجوه :

أحدها : أن ذلك الأمر كان مشروطا ، والتقدير : ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين ، كقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] أي : إن كنتم قادرين.

وثانيها : لما تعين ذلك طريقا إلى كشف الشبهة صار جائزا.

وثالثها : أنّ هذا ليس بأمر ، بل هو تهديد ، أي (١٠) : إن فعلتم ذلك أتينا بما يبطله ، كقول القائل : «لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن» ثم يفوق (١١) له السهم فيقول له : «ارم» فيكون ذلك منه تهديدا.

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٣.

(٣) المرجع السابق.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٣.

(٦) في ب : هو لهم أيضا.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٣.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٣.

(٩) في ب : ولا يقدمون.

(١٠) في ب : أو. وهو تحريف.

(١١) فاق السهم : وضع فوقه في الوتر ليرقى به. اللسان (فوق) المعجم الوسيط (فوق) ٢ / ٧٣٢.

٢٤

ورابعها : أنهم لما تواضعوا (١) (له) (٢) وقدموه على أنفسهم فقدمهم على نفسه رجاء أن يصير تواضعه سببا لقبول الحق ، ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب (٣).

قوله : (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ). روي عن ابن عباس قال : كانت مطلية بالزئبق ، والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق ، فلما حميت اشتدت حركتها ، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض (٤).

قوله : (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ). يجوز أن يكون قسما (٥) ، وجوابه : (إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) ويجوز أن يتعلق ب (الْغالِبُونَ) لأن ما في حيز «إن» لا يتقدم عليها.

قوله : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) تقدم خلاف القراء في (تَلْقَفُ)(٦) وقال ابن عطية هنا : وقرأ البزّيّ وابن فليح (٧) بشدّ التّاء وفتح اللام وشدّ (٨) القاف(٩) ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يجلب (١٠) همزة الوصل ، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة ، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين (١١). قال أبو حيان : كأنه يخيّل إليه أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل ، [وهذا ليس بلازم (و) (١٢) كثيرا ما (١٣) يكون الوصل](١٤) مخالفا للوقف ، والوقف مخالفا للوصل ، ومن له تمرّن في القراءات عرف ذلك (١٥). قال شهاب الدين : يريد قوله : (فإذا هي تلقّف) فإن البزّيّ يشدد التاء (١٦) ، إذ الأصل : «تتلقّف» بتاءين ، فأدغم ، فإذا وقف على «هي» وابتدأ «تتلقّف» فحقه أن يفكّ ولا يدغم لئلا (١٧) يبتدأ بساكن وهو غير ممكن ، وقول ابن عطية : «ويلزم على هذه القراءة ... إلى آخره» تضعيف للقراءة لما ذكره هو من أن همزة الوصل لا تدخل على الفعل المضارع ، ولا يمكن الابتداء بساكن ، فمن ثمّ ضعّفت.

__________________

(١) في الأصل : تواضعوه.

(٢) له : تكمله من الفخر الرازي.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٤.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ١١٤ ، تفسير ابن عطية ١١ / ١٠٧ ، التبيان ٢ / ٩٩٥.

(٦) عند قوله تعالى : «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ»[الأعراف : ١١٧].

(٧) هو عبد الوهاب بن فليح بن رباح ، أبو إسحاق المكي ، إمام أهل مكة في القراءة في زمانه ، أخذ القراءة عن داود بن شبل ، والحسن ، وغيرهما وروى عنه الحسين بن محمد الحداد ، وغيره ، مات سنة ٢٥٠ ه‍ تقريبا. طبقات القراء ١ / ٤٨٠ ـ ٤٨١.

(٨) في ب : وتشديد.

(٩) رويت في القراءات السبعة المتواترة عن ابن كثير. السبعة (٤٧١) الإتحاف (٣٣١).

(١٠) في النسختين : يحذف. والتصويب من تفسير ابن عطية. وفي البحر المحيط كما في النسختين ، فيبدو أن ابن عادل تابع أبا حيان في النقل عن ابن عطية.

(١١) تفسير ابن عطية ١١ / ١٠٨.

(١٢) و : تكملة ليست في المخطوط.

(١٣) في الأصل : بل ما.

(١٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٥) البحر المحيط ٧ / ١٦.

(١٦) التاء : سقط من ب.

(١٧) في ب : ولا.

٢٥

وجواب الشيخ بمنع الملازمة حسن إلا أنه كان ينبغي أن يبدل لفظة الوقف بالابتداء لأنه(١) هو الذي وقع الكلام فيه ، أعني : الابتداء بكلمة [«تلقّف»](٢)(٣).

قوله : (فَأُلْقِيَ) قال الزمخشري : «فإن قلت : فاعل الإلقاء ما هو لو صرّح به؟ قلت: هو الله ـ عزوجل (٤) ـ ، ثم قال : ولك ألّا تقدّر فاعلا ، لأن «ألقوا» (٥) بمعنى : خرّوا وسقطوا» (٦). قال أبو حيان : وهذا ليس بشيء ؛ لأنه لا يبنى الفعل للمفعول إلّا وله فاعل ينوب المفعول به عنه ، أما أنه لا يقدر له فاعل فقول ذاهب عن الصواب (٧).

فصل

تقدم الكلام على نظير هذه الآية (٨) ، واعلم أن السحرة لما شاهدوا أمرا خارجا عن حدّ السحر لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين و (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٩).

قوله : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ). عطف بيان ل «رب (الْعالَمِينَ) لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا (١٠) عزله. ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام : أنه الذي دعا موسى وهارون ـ عليهما‌السلام (١١) ـ إليه (١٢).

قوله تعالى : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)(٥١)

قوله : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) الآيات. لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول قومه : إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وبصيرتهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى ـ عليه‌السلام (١٣) ـ فيسلكون (١٤) طريقهم ، فلبّس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى من وجوه :

أحدها : قوله : (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ). والمعنى : إن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة

__________________

(١) في ب : إلا أنه. وهو تحريف.

(٢) الدر المصون ٥ / ١٥٤.

(٣) ما بين القوسين في الأصل : ما تلقف.

(٤) في ب : هو الله تعالى.

(٥) في النسختين : ألقى.

(٦) الكشاف ٣ / ١١٤.

(٧) البحر المحيط ٧ / ١٦.

(٨) عند قوله تعالى : «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» [الأعراف : ١١٧].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٤.

(١٠) في النسختين : فأراد. والتصويب من الفخر الرازي.

(١١) في ب : عليهما الصلاة والسلام.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٥.

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) في ب : ويسلكون.

٢٦

على ميلكم إليه فتطرّق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله.

وثانيها : قوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وهذا تصريح بما رمز به (١) أولا ، وتعريض منه بأنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى ، وقصروا في السحر ليظهروا أمر موسى ، وإلا ففي قوة السحرة (٢) أن يفعلوا مثل ما فعل ، وهذه شبهة قوية في تنفير من قبل.

وثالثها : قوله : (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وهو وعيد وتهديد شديد.

ورابعها : قوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) وهذا الوعيد المفصل ، وليس في الإهلاك أقوى منه ، ثم إنهم أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين :

الأول : قوله : (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ)(٣) والضير والمضرّة واحد ، وليس المراد أن ذلك وقع ، وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عرفوه من دار الجزاء.

والجواب الثاني : قوله : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) وهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما. والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين ، كقول إبراهيم ـ عليه‌السلام (٤) ـ : (وَالَّذِي أَطْمَعُ)(٥). ويحتمل الظن ، لأن المرء لا يعلم ما سيختاره من بعد (٦). قوله : (أَنْ كُنَّا). قرأ العامة بفتح «أن» أي : لأن كنّا بينوا القول بالإيمان وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ(٧) بكسر الهمزة (٨) ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنها شرطية ، والجواب محذوف لفهم المعنى (٩) ، أو متقدم عند من يجيزه (١٠).

نظيره قول القائل (١١) : «إن كنت عملت فوفّني حقّي» مقولة لمن يؤخر جعله (١٢).

والثاني : أنها المخففة من الثقيلة ، واستغني عن اللام الفارقة (١٣) لإرشاد المعنى إلى الثبوت دون النص (١٤) كقوله :

__________________

(١) في الأصل : زمزم. وهو تحريف.

(٢) في النسختين : السحر. والتصويب من الفخر الرازي.

(٣) في الأصل : لمنقلبون. وهو تحريف.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) من قوله تعالى : «وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» الآية ٨٢ من السورة نفسها.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٧) هو الفضل بن خالد أبو معاذ النحوي المروزي ، روى القراءة عن خارجة بن مصعب ، وروى عنه الليث بن مقاتل ، وغيره مات سنة ٢١١ ه‍. طبقات القراء ٢ / ٩.

(٨) المختصر (١٠٦) ، دون عزو إلى قارىء ، المحتسب ٢ / ١٢٧ ، منسوبة إلى أبان بن تغلب ، البحر المحيط ٧ / ١٦.

(٩) هذا التخريج على مذهب البصريين. انظر المحتسب ٢ / ١٢٨ ـ ١٢٩ ، البحر المحيط ٧ / ١٦ ، الهمع ٢ / ٦١.

(١٠) هذا التخريج على مذهب الكوفيين والأخفش وأبي زيد والمبرد الذين يجيزون تقديم جواب الشرط عليه. انظر البحر المحيط ٧ / ١٦ ، الهمع ٢ / ٦١.

(١١) في ب : العامل.

(١٢) الكشاف : ٣ / ١١٥.

(١٣) في ب : العارفة. وهو تحريف.

(١٤) وهو قول أبي حيان. البحر المحيط ٧ / ١٦.

٢٧

٣٩٠٢ ـ وإن مالك كانت كرام المعادن (١)

وفي الحديث : «إن كان رسول (الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٢) ـ يحبّ العسل» أي : ليحبّه (٣).

والمعنى على الأول (٤) : لأن كنا أول المؤمنين ، من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف ، أو يكون المراد : من السحرة خاصة ، أو من رعية فرعون ، أو من أهل زمانهم (٥).

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)(٦٢)

قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي). قرىء : «أسر» بقطع الهمزة ووصلها(٦).

لما ظهر من أمر موسى ـ عليه‌السلام (٧) ـ ما شاهدوه أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل ، لما كان في المعلوم من تدبير الله وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم ، ولم يأمن (٨). وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع من فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال ، فلذلك (٩) أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل ، وهم الذين آمنوا ، وكانوا

__________________

(١) عجز بيت من بحر الطويل قاله الطّرماح بن حكيم ، وصدره :

أنا ابن أباة الضّيم من آل مالك

وهو في ديوانه (٥١٢) ، البحر المحيط ٧ / ١٦ ، شرح التصريح ١ / ٢٣١ ، الهمع ١ / ١٤١ ، الأشموني ١ / ٢٨٩ ، الدرر ١ / ١٨١. أباة : جمع آب كقضاة جمع قاض من أبي إذ امتنع ، الضيم : الظلم ، مالك : اسم أبي القبيلة ، ومالك الثاني هو القبيلة ، ولذلك قال : كانت. بتأنيث الفعل ، وصرفها مراعاة للحيّ. والشاهد فيه حذف اللام الفارقة من خبر (إن) المخففة من الثقيلة لدلالة المقام عليها إذ إن المقام للمدح وتوهم النفي هنا ممتنع.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) يعني بالحديث الخبر لا حديث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد روي عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحب الحلواء والعسل». أخرجه البخاري (طلاق) ٣ / ٢٧١ ، (أطعمة) ٣ / ٢٩٨ ، (أشربة) ٣ / ٣٢٥. الترمذي (أطعمة) ٣ / ١٧٨ ، أبو داود (أشربة) ٤ / ١٠٧ ، ابن ماجة (أطعمة) ٢ / ١١٠٢ ، أحمد ٦ / ٥٠٩.

(٤) أي على قراءة العامة.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٦.

(٦) قرأ ابن كثير ونافع : «أن اسر» بكسر النون والراء من سريت ، وقرأ الباقون «أن أسر» من أسريت. وهما لغتان. السبعة (٤٧١) ، الكشف ١ / ٥٣٥ ، الإتحاف (٣٣٢).

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) في ب : ولم يأمره.

(٩) في ب : فكذلك. وهو تحريف.

٢٨

من قوم موسى ـ عليه‌السلام (١) ـ. واعلم أن في الكلام حذفا ، وهو أنه أسرى بهم كما أمره الله تعالى ، ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون : «إن لنا في هذه الليلة عيدا» ، ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب ، ثم خرجوا بتلك (٢) الأموال في الليل إلى جانب البحر ، فلما سمع فرعون ذلك أرسل في المدائن حاشرين (٣) يحشرون الناس ، يعني الشّرط ليجمعوا السحرة (٤). وقيل : ليجمعوا له الجيش (٤) روي أنه كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية (٤). و «حاشرين» مفعول «أرسل» ثم إنه قوى نفسه ونفس (٥) قومه بأن وصف قوم موسى بالذم ، ووصف قوم نفسه بالمدح (٦) ، أما وصفه قوم موسى ـ عليه‌السلام (٧) ـ بالذم ، فقال : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ) [معمول لقول مضمر (٨)](٩) أي : قال : إنّ هؤلاء ، وهذا القول يجوز أن يكون حالا ، أي : أرسلهم قائلا ذلك ، ويجوز أن يكون مفسرا ل «أرسل». والشّرذمة : الطائفة من الناس (١٠) وقيل : كل بقية من شيء خسيس يقال لها : شرذمة (١١). ويقال : ثوب شراذم ، أي : أخلاق ، قال :

٣٩٠٣ ـ جاء الشّتاء وقميصي أخلاق

شراذم تضحك منه الخلاق (١٢)

وأنشد أبو عبيدة :

٣٩٠٤ ـ في شراذم النعال (١٣)

وجمع الشرذمة : شراذم ، فذكرهم بالاسم الدال على القلة ، ثم جعلهم قليلا بالوصف ، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلا ، واختار جمع السلامة الذي هو جمع القلة.

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في ب : تلك.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٤) انظر البغوي : ٦ / ٢١٥.

(٥) في الأصل : ونفسه. وهو تحريف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٧.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ١١٥.

(٩) ما بين القوسين في ب : معمولا لقول مضمرا.

(١٠) الصحاح (شرذم) ٥ / ١٩٦٠.

(١١) انظر مجاز القرآن ٢ / ٨٦.

(١٢) رجز مجهول القائل ، وهو في معاني القرآن للفراء ١ / ٤٢٧ ، ٢ / ٨٧ ، تفسير ابن عطية ١١ / ١١١ ، القرطبي ١٣ / ١٠١ ، اللسان (توق ، خلق ، شرذم) ، البحر المحيط ٧ / ٣. الخزانة ١ / ٢٣٤. وروي (النواق) ، وهو الذي يروض الأمور ويصلحها. وروي (التواق) وهو ابن الشاعر. ويقال : نفس تواقة ، أي : مشتاقة. أخلاق : جمع خلق ، وهو البالي. ووصف المفرد بالجمع باعتبار أجزائه ، الشراذم : جمع شرذمة ، وهي الجماعة القليلة من الناس ، وثياب شراذم : أخلاق متقطعة ، وثوب شراذم : قطع ، وجمع في البيت ثم وصف باعتبار أجزاء الثوب التي يتألف منها. وهذا موطن الشاهد.

(١٣) قال أبو عبيده :(«إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ» أي : طائفة ، وكل قليلة فهي شرذمة قال :

يحذين في شراذم النعال

أي مقطع النعال وبقاياها) مجاز القرآن ٢ / ٨٦. وهذا الجزء من البيت مجهول القائل ، وهو في تفسير ابن عطية ١١ / ١١١ ، البحر المحيط ٧ / ٣.

٢٩

ويجوز أن يريد بالقلة : الذلة ، لا قلة العدو ، أي : إنهم لقلتهم لا يبالي بهم (١).

قال ابن عباس : كان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين(٢) سنة ، ولا شيخ (٣) يوفي على الستين سوى الحشم (٤) ، وفرعون يقللهم لكثرة من معه (٥). وهذا الوصف قد استعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه ، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حصان وفي عسكره على لون فرسه ثمانمائة (٦) ألف (٧).

قوله : (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ). يقال : غاظه وأغاظه وغيّظه : إذا أغضبه. والغيظ : الغضب(٨). والمعنى : أنهم يفعلون أفعالا تغيظنا. واختلفوا في تلك الأفعال. فقيل : أخذهم الحليّ وغيره. وقيل : خروجهم عن عبوديته. وقيل : خروجهم بغير إذنه. وقيل : مخالفتهم (٩) له في الدين. وقيل : لأنهم لم يتخذوا فرعون إلها (١٠).

وأما وصفه قومه فهو قوله : (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ). قرأ الكوفيون (١١) وابن ذكوان : «حاذرون» بألف. والباقون : «حذرون» بدونها (١٢). فقال أبو عبيدة والزجاج : هما بمعنى واحد ، يقال : رجل حذر (١٣) وحاذر بمعنى (١٤).

وقيل : بل بينهما فرق ، فالحذر : المتيقظ. والحاذر : الخائف (١٥). وقيل : الحذر : المخلوق مجبولا على الحذر. والحاذر : ما عرض له ذلك (١٦).

وقيل : الحذر : المتسلح الذي له شوكة سلاح (١٧) ، وأنشد سيبويه في إعمال «حذر» على أنه مثال مبالغة محول من حاذر قوله :

٣٩٠٥ ـ حذر أمورا لا تضير وآمن

ما ليس منجيه من الأقدار (١٨)

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١١٥ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٧.

(٢) في ب : عشرون.

(٣) في ب : ولا ينسخ. وهو تحريف.

(٤) الحشم : خدم الرجل ، سموا بذلك لأنهم يغضبون له. (اللسان : حشم).

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٧.

(٦) في الفخر الرازي : ثلثمائة.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٧.

(٨) انظر اللسان (غيظ).

(٩) في ب : مخالفهم. وهو تحريف.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٧.

(١١) وهم عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي.

(١٢) السبعة (٤٧١) ، الكشف ٢ / ١٥١ ، النشر ٢ / ٣٣٥ ، الإتحاف (٣٣٢).

(١٣) حذر : مكرر في الأصل.

(١٤) قال أبو عبيدة : (حذر وحذر ، وقوم حذرون وحاذرون) مجاز القرآن ٢ / ٨٦ ، فكأنه يرى المعنى فيها واحدا. وقال الزجاج : (فالحاذر المستعد ، والحذر المتيقظ) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٩٢.

(١٥) انظر الكشاف ٣ / ١١٥.

(١٦) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٨٠.

(١٧) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٨٠ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٩٢ التبيان ٢ / ٩٩٦.

(١٨) البيت من بحر الكامل ، قيل : قاله أبان بن عبد الحميد اللاحقي ، وضعه حينما سأله سيبويه عن شاهد لتعدي (فعل). وقيل : قاله عبد الله بن المقفع ، وقد تقدم.

٣٠

وزعم بعضهم أن سيبويه لمّا سأله : هل يحفظ شيئا في إعمال «فعل»؟ صنع له هذا البيت ، فعيب على سيبويه : كيف يأخذ الشواهد الموضوعة؟

وهذا غلط ، فإن هذا الشخص قد أقر على نفسه بالكذب ، فلا يقدح قوله في سيبويه. والذي ادعى أنه صنع البيت هو الأخفش (١). و «حذر» يتعدى بنفسه ، قال تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) [الزمر : ٩] ، وقال العباس بن مرداس (٢) :

٣٩٠٦ ـ وإنّي حاذر أنمي سلاحي

إلى أوصال ذيّال منيع (٣)

وقرأ ابن السميفع وابن أبي عمار (٤) : «حادرون» (٥) بالدال المهملة (٦) من قولهم : عين حدرة ، أي : عظيمة (٧) ، كقولهم :

٣٩٠٧ ـ وعين لها حدرة بدرة (٨)

والمعنى : عظيما. وقيل : الحادر : القوي الممتلىء ، وحكي : رجل حادر ، أي : ممتلىء غيظا ، ورجل حادر ، أي : أحمق ، كأنه ممتلىء من الحمق قال :

٣٩٠٨ ـ أحبّ الغلام السّوء من أجل أمّه

وأبغضه من بغضها وهو حادر (٩)

ويقال أيضا رجل [حدر بزنة يقظ مبالغة في (حادر) من هذا المعنى (١٠) ، فصار يقال](١١) حذر وحذر وحاذر بالذال المعجمة والمهملة والمعنى مختلف.

__________________

(١) والذي ذكره البغدادي في الخزانة نقلا عن المازني أن الذي فعل ذلك هو أبان اللاحقي. انظر الخزانة ٨ / ١٧١ ـ ١٧٢.

(٢) هو العباس بن مرداس الصحابي ـ رضي الله عنه ـ ابن أبي عامر بن حارثة أسلم قبل فتح مكة بيسير ، وأمه الخنساء الصحابية الشاعرة ، وكان من المؤلفة قلوبهم. الخزانة ١ / ١٥٢ ـ ١٥٤.

(٣) البيت من بحر الوافر ، وهو في مجاز القرآن ٢ / ٨٦ ، تفسير ابن عطية ١١ / ١١٣ ، واللسان (ذيل) ، البحر المحيط ٧ / ١٨. وفي ب : (والى) بدل (وإنّي) ، (أعني) بدل (أنمي) ، (صنيع) بدل (منيع).

أنمي : أزيد وأمدّ. الأوصال : جمع وصل ، وهو المفصل. الذيّال : طويل الذيل المتبختر في مشيته.

المنيع : القوي السريع. والشاهد فيه قوله (حاذر) فإنه اسم فاعل من (حذر) وهو متعد إلى مفعول محذوف لدلالة المقام كأنه قال : حاذر عدوي.

(٤) لم أهتد إلى ترجمة له فيما رجعت إليه من مراجع.

(٥) في ب : حاذون. وهو تصحيف.

(٦) المختصر (١٠٦) ، المحتسب ٢ / ١٢٨ ، البحر المحيط ٧ / ١٨.

(٧) انظر البحر المحيط ٧ / ١٨.

(٨) صدر بيت من بحر المتقارب قاله امرؤ القيس ، وعجزه : شقّت مآقيهما من أخر.

وهو في ديوانه (١٦٦) ، القرطبي ١٣ / ١٠٢ ، اللسان (حدر) ، المفضليات ٨٥٦.

(٩) البيت من بحر الطويل ، لم أهتد إلى قائله ، وهو في الكشاف ٣ / ١١٥ ، اللسان (حدر) ، البحر المحيط ٧ / ١٨. والشاهد فيه قوله : (حادر). فإنه بمعنى ممتلىء قوي.

(١٠) حكاه أبو حيان عن صاحب اللوامح. البحر المحيط ٧ / ١٨.

(١١) ما بين القوسين سقط من الأصل.

٣١

واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهو اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث. وإذا لم تكن كذلك وهي المشبهة [أفادت الثبوت. فمن قرأ «حذرون» (١)](٢) ذهب إلى معنى أنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ : «حاذرون» (٣) ذهب إلى معنى : إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا. ومن قرأ : «حادرون» بالدال المهملة (٤) ، فكأنه ذهب إلى نفي أصلا ، لأن الحادر (٥) هو السمين ، فأراد : إنا قوم أقوياء أشداء ، أو أراد : إنا شاكون في السلاح. والغرض من هذه التقادير ألا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى ، أو خائف منهم (٦).

قوله : (فَأَخْرَجْناهُمْ). أي : خلقنا في قلوبهم داعية الخروج ، فاستلزمت الداعية الفعل ، فكان الفعل مضافا إلى الله تعالى لا محالة (٧).

وقوله : (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ) أي : أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة (٨). قال مجاهد : سماها كنوزا ، لأنه لم يعط حق الله منها ، وما لم يعط الله منه فهو كنز وإن كان ظاهرا (٩).

قوله : (وَمَقامٍ). قرأ العامة بفتح الميم ، وهو مكان القيام. وقتادة والأعرج بضمها (١٠) وهو مكان الإقامة. والمراد ب «الكريم» : الحسن (١١).

قال المفسرون : هي مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تحفها الأتباع (١٢).

وقيل : المواضع التي كانوا [يتنعمون فيها (١٣)](١٤).

قوله : (كَذلِكَ). فيه ثلاثة أوجه : قال الزمخشري : يحتمل ثلاثة أوجه : النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف ل «مقام» (١٥) أي : ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك (١٦). قال أبو حيان: فالوجه الأول لا يسوغ ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه ، وكذلك الوجه الثاني ؛ لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم ، فلا

__________________

(١) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو.

(٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٣) وهي قراءة عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي.

(٤) وهي قراءة ابن السميفع وابن أبي عمار.

(٥) في ب : الحاذر. وهو تصحيف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٧.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٧.

(٨) المرجع السابق ٢٤ / ١٣٨.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٢١٦ ، الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

(١٠) المختصر (١٠٧) ، البحر المحيط ٧ / ١٩.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٢١٧.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٨.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٨.

(١٤) ما بين القوسين في ب : ينتقمون. وهو تحريف.

(١٥) في ب : لقيام. وهو تحريف.

(١٦) الكشاف ٣ / ١١٦.

٣٢

يشبه الشيء بنفسه (١). قال شهاب الدين : وليس في ذلك تشبيه الشيء بنفسه ؛ لأن المراد في الأول : أخرجناهم إخراجا مثل الإخراج المعروف المشهور ، وكذلك الثاني (٢).

قوله : (وَأَوْرَثْناها) عطف على (فَأَخْرَجْناهُمْ) أي : وأورثناها بهلاكهم بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن (٣).

قول : (فَأَتْبَعُوهُمْ). قرأ العامة بقطع الهمزة من «أتبعه» أي : ألحقه نفسه ، فحذف الثاني(٤). وقيل : يقال : أتبعه بمعنى «اتبعه» بوصل الهمزة ، أي : لحقه (٥).

وقرأ الحسن والحارث الذّمّاريّ بوصلها وتشديد التاء (٦) ، وهي بمعنى اللحاق.

وقوله : (مُشْرِقِينَ) أي : داخلين في وقت الشروق من : شرقت الشمس شروقا : إذا طلعت(٧) ك «أصبح ، وأمسى» : إذا دخل في هذين الوقتين. وقيل : داخلين نحو المشرق ك «أنجد ، وأتهم». و (٨) «مشرقين» منصوب على الحال ، والظاهر أنه من الفاعل (٩). وقيل : «مشرقين» بمعنى: مضيئين. وفي التفسير : أنّ بني إسرائيل كانوا في نور ، والقبط في ظلمة ، فعلى هذا يكون «مشرقين» حالا من المفعول (١٠). قال شهاب الدين : وعندي أنه يجوز أن يكون حالا من الفاعل والمفعول إذا جعلنا «مشرقين» : داخلين في وقت الشروق ، أو في مكان المشرق ، لأن كلا من القبيلين كان داخلا في ذلك الزمان ، أو في ذلك المكان (١١).

قوله : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي : تقابلا ورأى بعضهم بعضا. قرأ العامة : «تراءى» بتحقيق (١٢) الهمزة. وابن وثاب والأعمش من غير همز (١٣) ، بأن تكون الهمزة مخففة بين بين ، لا بالإبدال المحض ، لئلا يجتمع ثلاث ألفات ، الأولى الزائدة بعد الراء ، والثانية المبدلة من الهمزة ، والثالثة لام الكلمة ، لكن الثالثة لا تثبت وصلا لحذفها لالتقاء الساكنين (١٤). ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فنقول : هذا الحرف إما أن يوقف عليه أو لا ، فإن وقف

__________________

(١) البحر المحيط ٧ / ١٩.

(٢) الدر المصون ٥ / ١٥٥.

(٣) انظر البغوي ٦ / ٢١٧ ، القرطبي ١٣ / ١٠٥.

(٤) فتكون الهمزة للتعدية إلى المفعول الثاني ، كقولهم : وأتبعه الشيء جعله له تابعا. انظر اللسان (تبع).

(٥) انظر اللسان (تبع).

(٦) المختصر (١٠٧) ، البحر المحيط ٧ / ١٩ ، الإتحاف ٣٣٢.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ١١٦.

(٨) و : سقط من ب.

(٩) انظر البحر المحيط ٧ / ١٩.

(١٠) المرجع السابق.

(١١) الدر المصون ٥ / ١٥٥ ـ ١٧٦.

(١٢) في ب : بتخفيف.

(١٣) أي : (تراي). قال ابن خالويه :(«فلما ترات الفئتان» بلا همز الأعمش عن عاصم) المختصر (١٠٧) ، البحر المحيط ٧ / ١٩ ، وفيه: (وقال أبو حاتم : وما روي عن ابن وثّاب والأعمش خطأ).

(١٤) حكاه أبو حيان عن أبي الفضل الرازي. انظر البحر المحيط ٧ / ١٩.

٣٣

عليه فحمزة يميل ألفه الأخيرة ، لأنها (١) طرف منقلبة عن ياء. ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الهمزة المسهلة ، لأنه إذا وقف على مثل هذه سهلها على مقتضى مذهب ، وأمال الألف الأولى إتباعا لإمالة فتحة الهمزة. ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الراء قبلها ، وهذا هو الإمالة لإمالة (٢). وغيره من القراء لا يميل شيئا من ذلك. وقياس مذهب الكسائي أن يميل الألف الأخيرة ، وفتحة الهمزة قبلها (٣) ، وكذا نقله ابن الباذش (٤) عنه وعن حمزة (٥).

وإن وصل فإن الألف الأخيرة تذهب لالتقاء الساكنين ، ولذهابها تذهب إمالة فتحة الهمزة ، وتبقى إمالة الألف الزائدة (٦) ، وإمالة فتحة الراء قبلها عنده اعتدادا بالألف المحذوفة ، وعند ذلك يقال : حذف السبب وبقي المسبب ؛ لأن إمالة الألف الأولى إنما كان لإمالة الألف الأخيرة [كما تقدم تقريره ، وقد ذهبت الأخيرة](٧) فكان ينبغي ألا تمال الأولى لذهاب (٨) المقتضي لذلك ، ولكنه راعى المحذوف وجعله في قوة المنطوق (٩) ؛ ولذا تجرأ عليه أبو حاتم فقال : وقراءة هذا الحرف بالإمالة محال (١٠). وقد تقدم في الأنعام عند (رَأَى الْقَمَرَ)(١١) و (رَأَى الشَّمْسَ)(١٢) ما يشبه هذا العمل (١٣).

قوله : (لَمُدْرَكُونَ). العامة على سكون الدال ، اسم مفعول من «أدرك» أي : لملحقون. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمرو (١٤) بفتح الدال مشددة وكسر الراء (١٥).

__________________

(١) في الأصل : لأن. وهو تحريف.

(٢) انظر الحجة لابن خالويه (٢٦٧ ـ ٢٦٨) ، الكشف ١ / ١٩١ ـ ١٩٢.

(٣) انظر الحجة لابن خالويه (٢٦٨) ، الكشف ١ / ١٩١.

(٤) هو أحمد بن علي بن أحمد خلف ، أبو جعفر بن الباذش ، الأنصاري الغرناطي ، أستاذ كبير ، وإمام محقق ، ألف كتاب الإقناع في السبع ، وكتاب الطرق المتداولة في القراءات قرأ على أبيه ، وعبد الله بن أحمد الهمداني الجياني ، وشريح بن محمد ، وغيرهم ، قرأ عليه أحمد بن علي بن حكيم الغرناطي ، وأبو محمد بن عبيد الله الحجري ، مات سنة ٥٤٠ ه‍ ، وقيل : سنة ٥٤٢ ه‍. طبقات القراء ١ / ٨٣.

(٥) قال أبو حيان (وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري هو ابن الباذش في كتاب الإقناع من تأليفه : (تراءى الجمعان) في الشعراء ، إذا وقف حمزة والكسائي أمالا الألف المنقلبة عن لام الفعل ، وحمزة يميل (تفاعل) وصلا ووقفا لإمالة الألف المنقلبة ، ففي قراءته إمالة الإمالة ، وفي هذا الفعل وفي (راءى) إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة حذف السبب وإبقاء المسبب ، كما قالوا : صعقيّ في النسب إلى الصّعق) البحر المحيط ٧ / ١٩ ـ ٢٠.

(٦) في ب : والزائدة. وهو تحريف.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) الأولى : سقط من الأصل.

(٩) انظر الكشف ١ / ١٩١ ـ ١٩٢.

(١٠) انظر تفسير ابن عطية ١١ / ١١٦ ، البحر المحيط ٧ / ١٩.

(١١) من قوله تعالى :«» [الأنعام : ٧٧].

(١٢) من قوله تعالى : «فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ» [الأنعام : ٧٨].

(١٣) انظر اللباب ٣ / ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

(١٤) في ب : عمر. وفي المختصر ، والمحتسب ، وتفسير ابن عطية ، والبحر المحيط : عبيد بن عمير.

(١٥) المختصر (١٠٧) ، المحتسب ٢ / ١٢٩ ، تفسير ابن عطية ١١ / ١١٥ ، البحر المحيط ٧ / ٢٠ ، وضبطها ابن خالويه ، وأبو حيان بكسر الراء ، وابن جني ، وابن عطية بفتح الراء.

٣٤

قال الزمخشري : المعنى : متتابعون في الهلاك على أيديهم (١) ، ومنه بيت الحماسة :

٣٩٠٩ ـ أبعد بني أمّي الّذين تتابعوا

أرجّي الحياة أم من الموت أجزع (٢)

يعني : أن «ادّرك» على «افتعل» لازم بمعنى فني واضمحلّ ، يقال : ادّرك الشيء يدّرك فهو مدّرك ، أي : فني متتابعا (٣) ، ولذلك كسرت الراء. وممن نص على كسرها أبو الفضل الرازي ، قال : «وقد يكون «ادّرك» على «افتعل» بمعنى «أفعل» متعديا ، ولو كانت القراءة من هذا لوجب (٤) فتح الراء ولم يبلغني عنهما ـ يعني : عن الأعرج وعبيد ـ إلا الكسر» (٥).

فصل

المعنى (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) ، أي : رأى كل فريق صاحبه.

وقرىء «فلمّا تراءت الفئتان» (٦) قال أصحاب موسى : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي](٧) لملحقون ، وقالوا : يا موسى (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا)(٧) كانوا يذبحون أبناءنا ، (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) [الأعراف : ١٢٩] يدركوننا في هذه الساعة فيقتلوننا ، ولا طاقة لنا بهم ، فعند ذلك قال موسى ثقة بوعد الله إياه «كلّا» وذلك كالمنع مما توهموه ، أي : لن يدركونا (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)(٨) يدلني على طريق النجاة (٩).

قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٦٨)

قوله : [(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ). لما قال موسى : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) بين تعالى كيف هداه ونجّاه وأهلك أعداءه ، فقال](١٠) : (فَأَوْحَيْنا (١١) إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) ولا بد قبله من جملة محذوفة ، أي : فضرب فانفلق. وزعم ابن عصفور أن المحذوف إنما هو : «ضرب» وفاء : «انفلق». وأن الفاء الموجودة

__________________

(١) الكشاف ٣ / ١١٦.

(٢) البيت من بحر الطويل ، قاله أبو الحناك البراء بن ربعي الفقعسي ، وهو في الكشاف ٣ / ١١٦ ، البحر المحيط ٧ / ٢٠ ، شرح شواهد الكشاف (٧٣). والشاهد فيه قوله : (تتابعوا). فهو بمعنى : انقرضوا واحدا بعد واحد.

(٣) انظر المحتسب ٢ / ١٢٩ ، اللسان (درك).

(٤) في ب : يوجب.

(٥) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٠.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٨.

(٧) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٨) في ب : سيهديني.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٨.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) في الأصل : وأوحينا. وهو تحريف.

٣٥

هي فاء «فضرب» فأبقى (١) من كل فعل ما يدلّ على المحذوف ، أبقى الفاء من «فضرب» ليدلّ على «ضرب» وأبقى «انفلق» ليدل على الفاء المتصلة به (٢).

قوله : (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ) اختلف القراء في ترقيق راء (٣) «فرق» فروي عن ورش الترقيق لأجل القاف (٤). وقرىء : «فلق» بلام بدل الراء ، لموافقة «فانفلق» (٥) والطود : الجبل العظيم المتطاول في السماء (٦).

فصل

قال ابن جريج : لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح والبحر يرمي بموج كالجبال قال يوشع : يا مكلم الله ، أين أمرت؟ فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا ، فقال موسى : ها هنا. فخاض يوشع الماء وجاز البحر ما يواري حافر دابته الماء ، وقال (٧) الذي يكتم إيمانه : يا مكلم الله ، أين أمرت؟ قال : هاهنا. فكبح (٨) فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه ، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء ، وصنع القوم مثل ذلك ، فلم يقدروا ، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع ، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه لا يبتلّ سرجه ولا لبده (٩) ، وهذا معجز عظيم من وجوه :

أحدها : أن تفرق ذلك الماء معجز (١٠).

وثانيها : ثبت في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم ، فاحتسبوا القدر الذي يتكامل معه عدد بني إسرائيل ، وهذا معجز ثالث.

ورابعها : أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى (١١) ينظر بعضهم إلى بعض ، وهذا معجز رابع.

__________________

(١) في ب : وأبقى.

(٢) قال ابن عصفور : (وكذلك أيضا يجوز حذف حرف العطف والمعطوف عليه لفهم المعنى ، فمن ذلك قوله تعالى : «فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ وقوله تعالى : وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البحر فَانْبَجَسَتْ» الأعراف : ١٦٠] وقوله تعالى :«فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» [البقرة : ١٨٤] التقدير : فضرب فانفلق ، فضرب فانبجست ، و «فأفطر فعدة» فحذف ضرب وأفطر وفاء العطف مما بعدها من أيام أخر). شرح جمل الزجاجي ١ / ٢٥١ ، وانظر المقرب ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٣) في ب : وا. وهو تحريف.

(٤) الإتحاف ٣٣٢.

(٥) حكاه يعقوب عن بعضهم. المختصر ١٠٧ ، البحر المحيط ٧ / ٢٠.

(٦) انظر الكشاف ٣ / ١١٦.

(٧) في ب : قال.

(٨) الكبح : كبحك الدابة باللجام ، كبح الدابة يكبحها كبحا وأكبحها : جذبها إليه باللجام ، وضرب فاها به كي تقف ولا تجري. اللسان (كبح).

(٩) انظر البغوي ٦ / ٢١٨ ـ ٢١٩.

(١٠) في الأصل : معجزة.

(١١) كوى : جمع كوّة ، وهي الخرق في الحائط ، والثقب في البيت ونحوه. اللسان (كوى).

٣٦

وخامسها : أن بقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب آل فرعون فطمعوا أن يتخلصوا من البحر كما تخلص موسى ـ عليه‌السلام (١) ـ فهو معجز خامس (٢).

قوله : (وَأَزْلَفْنا) أي : قربنا من النجاة ، و «ثم» ظرف مكان بعيد ، و «الآخرين» هم موسى وأصحابه (٣). وقرأ الحسن وأبو حياة : «وزلفنا» ثلاثيا (٤).

وقال أبو عبيدة : أزلفنا : جمعنا ، ومنه : ليلة المزدلفة ، أي : ليلة الجمع (٥).

وفي القصة أن جبريل كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون ، وكان يسوق بني إسرائيل ويقول : ليلحق آخركم بأولكم ، ويستقبل القبط ، ويقول : رويدكم لكي يلحق آخركم. وقرأ أبي وابن عباس وعبد الله بن الحارث بالقاف (٦) ، أي : أزللنا ، والمراد ب «الآخرين» في هذه القراءة : فرعون وقومه (٧). والمعنى : جعلنا طريقهم في البحر زلقا على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبسا فيزلقهم فيه.

قوله : (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ). والمعنى : أنه تعالى جعل البحر يبسا في حق موسى (٨) ، حتى خرجوا عنه ، وأغرق فرعون ومن معه ، لأنه لما تكامل دخولهم في البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا (٩).

قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي : إن في الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرة الله تعالى ؛ لأن أحدا من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته ، وكون وقوعه مصلحة في الدين والدنيا ، وعلى صدق موسى لكونه معجزة له ، وعلى التحذير عن مخالفة أمر الله ورسوله ، وفيه تسلية للنبي ـ عليه‌السلام (١٠) ـ لأنه قد يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه ، فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره (١١).

ثم قال : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : من أهل مصر. قيل : لم يكن من أهل مصر إلا آسية امرأت فرعون وحزقيل المؤمن ، ومريم بنت ناموشا التي دلت على عظام

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣٩.

(٣) هذا على خلاف ما جاء في كتب التفسير ، قال الزمخشري :(«الآخرين» قوم فرعون ، أي قربناهم من بني إسرائيل ، أو أدنينا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد ، أو قدمناهم إلى البحر) الكشاف ٣ / ١١٦. وانظر القرطبي ١٣ / ١٠٧ ، البحر المحيط ٧ / ٢٠.

(٤) تفسير ابن عطية ١١ / ١١٨ ، البحر المحيط ٧ / ٢٠.

(٥) مجاز القرآن ٢ / ٨٧.

(٦) المختصر (١٠٧) ، المحتسب ٢ / ١٢٩ ، البحر المحيط ٧ / ٢٠.

(٧) قال ابن جني : (من قرأ «وأزلفنا» بالفاء فالآخرون موسى ـ عليه‌السلام ـ وأصحابه ، ومن قرأها بالقاف فالآخرون فرعون وأصحابه أي : أهلكنا ثم الآخرين ، أي فرعون وأصحابه) المحتسب ٢ / ١٢٩.

(٨) في الأصل : في حق موسى في حق.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٠.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤١.

٣٧

يوسف ـ (عليه‌السلام (١)) (٢) ـ «وإن ربك هو العزيز» في الانتقام من أعدائه «الرحيم» بعباده ، لأنه تعالى أفاض عليهم أصناف نعمه ، وكان قادرا على أن [يهلكهم ، فدل على كمال رحمته وسعة جوده وفضله (٣).

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ)(٧٧)

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ (٤) إِبْراهِيمَ) ... الآيات».

اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة شدة حزن محمد ـ عليه‌السلام (٥) ـ ثم ذكر قصة موسى ليعرف محمدا أن مثل تلك المحنة كانت حاصلة لموسى ، ثم ذكر عقيبها قصة إبراهيم ليعرف محمد أن حزن إبراهيم بهذا السبب كان أشد من حزنه (٦).

قوله : (إِذْ قالَ) العامل في «إذ» «نبأ» (٧) أو «اتل» قاله الحوفي (٨) وهذا لا يتأتى إلا على كون «إذ» مفعولا به (٩). وقيل : «إذ» بدل من «نبأ» بدا اشتمال ، وهو يؤل إلى أن العامل فيه «اتل» بالتأويل المذكور (١٠).

قوله : (وَقَوْمِهِ) الهاء تعود على إبراهيم (١١) ، لأنه المحدث عنه.

وقيل : تعود على «أبيه» لأن أقرب مذكور ، أي : قال لأبيه وقوم أبيه ، ويؤيده : (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) [الأنعام : ٧٤] حيث أضاف القوم إليه (١٢).

قوله : (ما تَعْبُدُونَ) أي : أي شيء تعبدون؟ وهو يعلم أنهم عبدة الأصنام ، ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة ، كما تقول (لتاجر الرقيق) (١٣) : ما (١٤) مالك؟ وأنت تعلم أن (١٥) ماله الرقيق ، ثم تقول : الرقيق جمال وليس بمال (١٦).

قوله : (نَعْبُدُ أَصْناماً) أتوا في الجواب بالتصريح بالفعل ليعطفوا عليه قولهم :

__________________

(١) انظر البغوي ٦ / ٢٢٠.

(٢) ما بين القوسين في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤١.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤١ ـ ١٤٢.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٩٦.

(٨) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٢.

(٩) فهذا إخراج له عن الظرفية ليصح هذا القول.

(١٠) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٢.

(١١) واستظهره أبو حيان. البحر المحيط ٧ / ٢٢.

(١٢) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٢.

(١٣) ما بين القوسين في النسختين : للتاجر. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٤) ما : سقط من ب.

(١٥) أن : سقط من الأصل.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٢.

٣٨

«فنظل» افتخارا بذلك ، وإلا فكان قولهم : (نَعْبُدُ أَصْناماً) كافيا (١) كقوله تعالى : (قُلِ الْعَفْوَ)(٢) ، (قالُوا خَيْراً)(٣).

قوله : (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ). العكوف : الإقامة على الشيء. قال بعض العلماء : إنما قالوا: (فنظل) لأنهم يعبدونها بالنهار دون الليل ، يقال : ظل يفعل كذا : إذا فعل بالنهار (٤). فقال إبراهيم ـ عليه‌السلام (٥) ـ منبها على فساد مذهبهم : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) لا بد من محذوف ، أي : يسمعون دعاءكم (٦) ، أو يسمعونكم تدعون (٧) ، فعلى الأول هي متعدية لواحد اتفاقا. وعلى الثاني هي متعدية لا ثنين قامت الجملة المقدرة مقام الثاني ، وهو قول الفارسي (٨).

وعند غيره : الجملة المقدرة حال (٩). وتقدم تحقيق القولين.

وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضم الياء وكسر الميم (١٠) ، والمفعول الثاني محذوف ، أي : يسمعونكم الجواب (١١).

قوله : (إِذْ تَدْعُونَ) منصوب بما قبله ، فما قبله وما بعده ماضيان معنى وإن كانا مستقبلين لفظا لعمل الأول (١٢) في «إذ» ولعمل «إذ» في الثاني (١٣).

وقال بعضهم : «إذ» هنا بمعنى : «إذا» (١٤) وقال الزمخشري : إنه على حكاية الحال الماضية ، ومعناه : استحضروا الأحوال التي كنتم تدعونها فيها ، هل سمعوكم إذا سمعوا (١٥)؟ وهو أبلغ في التبكيت(١٦) ، وقد تقدم أنه قرى بإدغام ذال «إذ» وإظهارها في التاء (١٧). وقال

__________________

(١) انظر الكشاف ٣ / ١٧٧ ، البحر المحيط ٧ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) من قوله تعالى : «وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ» [البقرة : ٢١٩].

(٣) من قوله تعالى : «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً»[النحل : ٣٠].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٢.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) انظر معاني القرآن للأخفش ٢ / ٦٤٦ ، الكشاف ٣ / ١١٧ ، البيان ٢ / ٢١٤ ، التبيان ٢ / ٩٩٦.

(٧) انظر البيان ٢ / ٢١٤ ، البحر المحيط ٧ / ٢٣.

(٨) قال أبو علي : (وأفعال الحواس الخمس كلها متعدية نحو رأيته وشممته وذقته ولمسته وسمعته ، إلا أن سمعت يتعدى إلى مفعولين ، ولا بد من أن يكون الثاني مما يسمع كقولك : سمعت زيدا يقول ذلك ، ولو قلت : سمعت زيدا يضرب أخاك ، لم يجز ، فإن اقتصرت على مفعول واحد وجب أن يكون مما يسمع) انظر المقتصد شرح الإيضاح ١ / ٥٩٧.

(٩) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٣.

(١٠) المختصر (١٠٧) ، المحتسب ٢ / ١٢٩.

(١١) انظر المحتسب ٢ / ١٢٩ ، الكشاف ٣ / ١١٧ ، التبيان ٢ / ٩٩٧ ، البحر المحيط ٧ / ٢٣.

(١٢) وهو (يسمع) من «يسمعونكم».

(١٣) المقصود به جملة «تدعون» فهي في محل جر بإضافة (إذ) إليها.

(١٤) انظر البحر المحيط ٧ / ٢٣.

(١٥) في الكشاف : هل سمعوا أو أسمعوا قط.

(١٦) الكشاف ٣ / ١١٧.

(١٧) عند قوله تعالى :«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ» [الأعراف : ١٦٧]. انظر اللباب ٤ / ١١٥ ـ ١١٦.

٣٩

ابن عطية : ويجوز فيه قياس «مذكر» ونحوه ، ولم يقرأ به أحد ، والقياس أن يكون اللفظ به «إددعون» (١) والذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل فكثرت المتماثلات (٢) ، يعني : فيكون اللفظ بدال مشددة مهملة ، ثم بدال ساكنة مهملة أيضا.

قال أبو حيان : وهذا لا يجوز ، لأن هذا الإبدال إنما هو في تاء الافتعال بعد الدال والذال والزاي نحو : ادهن ، واذكر ، وازدجر ، وبعد جيم شذوذا نحو : «اجدمعوا» في «اجتمعوا» ، وفي تاء الضمير بعد الدال والزاي نحو : «فزد في فزت» و «جلد في جلدت» (٣) أو تاء «تولج» قالوا فيها : «دولج» (٤) وتاء المضارعة ، ليس شيئا مما ذكر ، وقوله : «والذي منع ... إلى آخره» يقتضي جوازه لو لم يوجد ما ذكر ، فعلى مقتضى قوله يجوز أن تقول في «إذ تخرج» : «إذ خرج» ولا يقول ذلك أحد ، بل يقولون : اتخرج فيدغمون الذال في التاء (٥).

فصل

تقرير هذه الحجة التي ذكراها إبراهيم ـ عليه‌السلام (٦) ـ أن من عبد غيره لا بد أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده أو يسمع دعاءه ، ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة ، فقال لهم: إذا كان الذي تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم ، ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدافع الضرر ، فكيف تعبدون ما هذا صفته؟ فعند هذه الحجة الباهرة لم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد ، فقالوا : (وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ).

وهذا (٧) من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال ، إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا (٨) الاستدلال لكان ذلك مدحا لطريقة الكفار التي ذمها الله ، وذما لطريقة إبراهيم التي مدحاها الله (٩).

قوله : «كذلك» منصوب ب «يفعلون» (١٠) أي : يفعلون مثل فعلنا ، و «يفعلون» في محل نصب مفعولا ثانيا ل «وجدنا».

قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ). أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديما أو حديثا ، ولا بأن يكون في فاعليه كثرة أو قلة (١١).

قوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) اللغة الغالبة إفراد «عدو» وتذكيره ، قال تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ)

__________________

(١) في تفسير ابن عطية : «إذ تدعون».

(٢) تفسير ابن عطية ١١ / ١٢١.

(٣) في ب : وجلدت في جلدة. وهو تحريف.

(٤) انظر الممتع ١ / ٣٥٦ ـ ٣٥٩.

(٥) البحر المحيط ٧ / ٢٣. بتصرف يسير.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ب : وهلا. وهو تحريف.

(٨) في ب : وذمينا.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٢.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٩٧ ، البحر المحيط ٧ / ٢٣.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٢.

٤٠