اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

لأنهما عند الخصم واجبان على الله ، وقوله : (يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) يقتضي عدم الوجوب.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)(١٨)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. لما قال : (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه. واعلم أن (إن) الثانية واسمها وخبرها في محل رفع خبرا ل «أن» الأولى (١) قال الزمخشري (٢) : وأدخلت «إنّ» على كل واحد من جزأي الجملة لزيادة التأكيد ونحوه قول جرير :

٣٧٥١ ـ إنّ الخليفة إنّ الله سربله

سربال ملك به ترجى الخواتيم (٣)

قال أبو حيان : وظاهر هذا أنه شبه (٤) البيت بالآية ، وكذلك قرنه الزجاج (٥) بالآية ، ولا يتعين أن يكون البيت كالآية ، لأن البيت يحتمل أن يكون (إن الخليفة) (٦) خبره (به ترجى الخواتيم) ويكون (إنّ (٧) الله سربله) جملة اعتراض بين اسم (إنّ) وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ)(٨) وحسن دخول «إن» على الجملة الواقعة خبرا لطول الفصل بينهما بالمعاطيف (٩). قال شهاب الدين : قوله : فإنه يتعين قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ)(١٠) يعني أن يكون خبرا. ليس كذلك ، لأن الآية محتملة لوجهين آخرين ذكرهما الناس :

__________________

(١) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ١٧١ ، التبيان ٢ / ٩٣٦.

(٢) الكشاف ٣ / ٢٨.

(٣) البيت من بحر البسيط قاله جرير ، اللسان (ختم) ، وقد تقدم.

(٤) في ب : أشبه.

(٥) قال الزجاج : (وخبر «إن» الأولى جملة الكلام مع «إن» الثانية. وقد زعم قوم أن قولك : إن زيدا إنه قائم. رديء. وأن هذه الآية إنما صلحت في الذي. ولا فرق بين الذي وغيره في باب (إن) ، إن قلت : إن زيدا إنه قائم كان جيدا ، ومثله قول الشاعر :

إنّ الخليفة إنّ الله سربله .. البيت

وليس بين البصريين خلاف في أن «إن» تدخل على كل ابتداء وخبر ، تقول : إن زيدا هو قائم ، وإن زيدا إنه قائم) معاني للقرآن وإعرابه ٣ / ٤١٧ ـ ٤١٨.

(٦) في ب : أن يكون كالخليفة. وهو تحريف.

(٧) إنّ سقط من ب.

(٨) أي : يتعين أن يكون خبرا.

(٩) البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١٠) في ب : «إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ».

٤١

الأول : أن يكون الخبر محذوفا تقديره : يفترقون (١) يوم القيامة ونحوه ، والمذكور تفسير (٢) له كذا ذكره أبو البقاء (٣).

والثاني : أن «إن» الثانية تكرير (٤) للأولى على سبيل التوكيد (٥) ، وهذا ماش على القاعدة وهو أن الحرف إذا كرر توكيدا أعيد معه ما اتصل به أو ضمير ما اتصل به (٦) ، وهذا قد أعيد معه ما اتصل به أولا ، وهي الجلالة المعظمة فلم يتعين أن يكون قوله (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ) خبرا ل «إنّ» الأولى(٧) كما ذكر (٨). واختلف العلماء في المجوس ، فقيل : قوم يعبدون النار ، وقيل : الشمس والقمر وقيل : اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح (٩) ، وقيل : أخذوا من دين النصارى شيئا ومن دين اليهود (١٠) شيئا ، وهم القائلون بأن للعالم أصلان ، نور وظلمة ، وقيل هم قوم يستعملون النجاسات ، والأصل : نجوس ـ بالنون ـ فأبدلت ميما (١١).

ومعنى (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يحكم بينهم ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : عالم (١٢) بما يستحقه كل منهم ، فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف (١٣).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ) الآية. قيل المراد بهذه الرؤية العلم ، أي : ألم تعلم (١٤) ، وقيل : ألم تر بقلبك (١٥). والمراد بالسجود : قال الزجاج (١٦) : أنها مطيعة لله تعالى كقوله تعالى للسماء والأرض (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(١٧) ، (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١٨)(وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)(١٩) ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ

__________________

(١) في ب : يعترفون. وهو تحريف.

(٢) في ب : يفسر. وهو تحريف.

(٣) التبيان ٢ / ٩٣٦. وانظر أيضا البيان ٢ / ١٧١.

(٤) في ب : تكرار.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٣٦.

(٦) إذا كان المؤكد حرفا غير جواب عاملا أو غيره لم يعد اختبارا إلا مع ما دخل عليه إن كان مضمرا نحو قوله تعالى : «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ»[المؤمنون : ٣٥]. وإن كان ظاهرا يعاد هو أو ضميره نحو إن زيدا إن زيدا فاضل أو إن زيدا إنه فاضل ، ولا بد من الفصل بين الحرفين كما سبق ، وشذ اتصالهما كقوله :

إنّ إنّ الكريم يحلم ما لم

يرين من أجاره قد ضيما

الهمع ٢ / ١٢٥ ، شرح الأشموني ٣ / ٨٢ ـ ٨٣.

(٧) في ب : الأول.

(٨) أي : كما ذكر أبو حيان.

(٩) في ب : المنسوخ. وهو تحريف. والمسوح : جمع المسح ، وهو الكساء من الشعر. اللسان (مسح).

(١٠) في ب : من اليهود.

(١١) الدر المصون : ٥ / ٦٧.

(١٢) عالم : سقط من ب.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠.

(١٥) انظر القرطبي ١٢ / ٢٤.

(١٦) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤١٨ ـ ٤١٩. بتصرف ، والنص بلفظه من الفخر الرازي.

(١٧) [فصلت : ١١].

(١٨) من قوله تعالى : «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [يس : ٨٢].

(١٩) من قوله تعالى : «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ»[البقرة : ٧٤].

٤٢

بحمده» (١) ، (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ)(٢). والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع ما يحدثه الله تعالى فيها من غير امتناع أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود (٣).

فإن قيل : هذا التأويل يبطله قوله تعالى (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ، فإن السجود بالمعنى المذكور عام في كل الناس ، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصا من غير فائدة.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن السجود بالمعنى المذكور وإن كان عاما في حق الكل إلا أن بعضهم تكبر وترك السجود في الظاهر ، فهذا الشخص ، وإن كان ساجدا بذاته لا يكون ساجدا بظاهره ، وأما المؤمن فإن ساجد (٤) بذاته وبظاهره ، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر.

وثانيها : أن نقطع قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) عما قبله ، ثم فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أن تقدير الآية : ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد ، والثاني بمعنى العبادة ، وإنما فعلنا ذلك لقيام الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعا.

الثاني : أن يكون قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب ، لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله : (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ).

والثالث : أن يبالغ في تكثير الحقوق بالعذاب ، فيعطف «كثير» على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب.

وثالثها : أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة ، وفي حق الجمادات الانقياد (ومن ينكر ذلك فيقول : إن الله تكلم بهذه اللفظة مرتين ، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة ، وفي حق الجمادات الانقياد (٥)) (٦) فإن قيل : قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عام فيدخل فيه الناس ، فلم قال (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مرة أخرى؟

فالجواب : لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيرا منهم يسجد طوعا دون كثير منهم فإنه يمتنع من ذلك ، وهم الذين حق عليهم العذاب (٧) وقال القفال : السجود هاهنا هو الخضوع والتذلل ،

__________________

(١) [الإسراء : ٤٤].

(٢) من قوله تعالى : «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ» [الأنبياء : ٧٩].

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠.

(٤) في ب : ساجدا. وهو تحريف.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٠ ـ ٢١.

٤٣

بمعنى كونها معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه ، وعلى هذا تأولوا قوله : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١) (٢).

وقال مجاهد : إنّ سجود هذه الأشياء سجود ظلها لقوله تعالى : (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ) (٤). وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجدا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه (٥).

قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ). فيه (٦) أوجه :

أحدها (٧) : أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره : ويسجد له كثير من الناس (٨) ، وهذا عند من يمنع استعمال المشترك في معنييه ، و (٩) الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة ، وذلك أن السجود المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يعطف (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما (١٠) في المعنى ، ألا ترى أن سجود غير العقلاء هو الطواعية والإذعان لأمره ، وسجود العقلاء هو هذه الكيفية المخصوصة.

الثاني : أنه معطوف على (ما تقدمه (١١)) (١٢) وفي ذلك ثلاث تأويلات (١٣) :

أحدها : أن المراد بالسجود القدر المشترك بين الكل (١٤) العقلاء وغيرهم ، وهو الخضوع والطواعية ، وهو من باب الاشتراك المعنوي.

والتأويل الثاني : أنه مشترك اشتراكا لفظيا ، ويجوز استعمال المشترك في معنييه.

والتأويل الثالث : أن السجود المسند للعقلاء حقيقة ولغيرهم مجاز ، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز على خلاف في هذه الأشياء مذكور في كتب الأصول.

الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون «كثير» مرفوعا (١٥) بالابتداء ، وخبره محذوف وهو مثاب لدلالة خبر مقابله عليه وهو قوله : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) كذا قدره الزمخشري (١٦) ، وقدره أبو البقاء مطيعون أو (١٧) مثابون أو نحو ذلك (١٨).

__________________

(١) [الإسراء : ٤٤].

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١.

(٣) [النحل : ٤٨].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢١.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٥٦٢ ، القرطبي ١٢ / ٢٤.

(٦) في ب : وفيه.

(٧) في ب : أحدهما. وهو تحريف.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(٩) في ب : أو.

(١٠) في ب : إليها.

(١١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١٢) في ب : على مقدمه.

(١٣) في ب : أوجه تأويلات.

(١٤) في ب : كل.

(١٥) في ب : كثيرا مرفوعا. وهو تحريف.

(١٦) الكشاف ٣ / ٢٨.

(١٧) أو : سقط من ب.

(١٨) التبيان ٢ / ٩٣٧. وانظر هذا الوجه أيضا في البيان ٢ / ١٧١ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

٤٤

الرابع : أن يرتفع «كثير» على الابتداء أيضا ويكون خبره (مِنَ النَّاسِ) أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة ، وهم الصالحون والمتقون (١).

الخامس : أن يرتفع بالابتداء أيضا ويبالغ في تكثير المحقوقين (٢) بالعذاب فيعطف «كثير» على «كثير» ثم يخبر عنهم ب (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ، ذكر ذلك الزمخشري كما تقدم (٣).

قال أبو حيان بعد أن حكى عن الزمخشري الوجهين الأخيرين قال (٤) : وهذان التخريجان ضعيفان (٥). (ولم يبين وجه ضعفهما) (٦). قال شهاب الدين : أما أولهما فلا شك في ضعفه إذ لا فائدة طائلة في الإخبار بذلك ، وأما الثاني فقد يظهر ، وذلك أن التكرير (٧) يفيد التكثير وهو قريب من قولهم : عندي ألف وألف ، وقوله :

٣٧٥٢ ـ لو عدّ قبر وقبر كنت أكرمهم (٨)(٩)

وقرأ الزّهري «والدواب» مخفف الباء (١٠) ، قال أبو البقاء : ووجهها أنّه حذف الباء الأولى كراهية التّضعيف والجمع بين ساكنين (١١). وقرأ جناح بن حبيش : «وكبير» بالباء الموحدة (١٢).

وقرىء «وكثير حقا» بالنصب (١٣) ، وناصبه محذوف وهو الخبر تقديره : وكثير حق عليه العذاب حقا ، و «العذاب» مرفوع بالفاعلية. وقرىء «حقّ» مبنيا للمفعول (١٤). وقال ابن عطية : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم أي : وكثير حق عليه العذاب يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره (١٥). فقوله : معطوف على ما تقدم يعني عطف الجمل لا (١٦) أنه هو وحده عطف على ما قبله بدليل أنه قدره مبتدأ وخبره قوله : يسجد.

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٢٨.

(٢) في ب : المحققين. وهو تحريف.

(٣) الكشاف ٣ / ٢٨.

(٤) في ب : وقال.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(٦) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٧) في ب : التكرار.

(٨) صدر بيت من بحر بسيط ، وعجزه :

ميتا وأبعدهم عن منزل الذّام

قاله عصام بن عبيد الزماني ، وهو شاعر جاهلي ، ونسبه الجاحظ إلى همام الرقاشي ، وهو في البيان والتبيين ٢ / ٣١٦ ، ٣ / ٣٠٢ ، ٤ / ٨٥ ، المقرب (٣٩٤) الخزانة ٧ / ٤٧٣.

الذّام : لغة في الذم ـ بتشديد الميم ـ وهو العيب. والشاهد فيه أن التكرير يفيد التكثير ، إذ المراد : لو عدت القبور قبرا قبرا.

(٩) الدر المصون ٥ / ٦٨.

(١٠) المحتسب ٢ / ٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١١) التبيان ٢ / ٣٩٦.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١٣) المختصر (٩٤) البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١٤) البحر المحيط ٦ / ٣٥٩.

(١٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٤٦.

(١٦) في ب : إلا.

٤٥

فصل (١)

قال ابن عباس في رواية عطاء : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) يوحده ، (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ممن لا يوحده ، وروي عنه أنه قال : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) في الجنة. وهذه الرواية تؤكد أن قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مبتدأ وخبره محذوف. وقال آخرون الوقف على قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ثم استأنف بواو الاستئناف فقال : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ).

(وأما قوله تعالى (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب) (٢) ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم (٣) مكرما لهم. ثم بين بقوله (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب.

قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(٢٤)

قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) الآية. لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ، ومنهم من حق عليه العذاب ذكر هاهنا كيفية اختصامهم. والخصم : في الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالبا ، وعليه قوله تعالى (نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا)(٤).

ويجوز أن يثنى ويجمع ويؤنث ، وعليه هذه الآية. ولما كان كل خصم فريقا يجمع طائفة قال (اخْتَصَمُوا) بصيغة الجمع كقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)(٥) فالجمع مراعاة للمعنى(٦) وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما» (٧) مراعاة للفظ وهي مخالفة للسواد. وقال أبو البقاء : وأكثر الاستعمال توحيده فيمن ثناه (٨) وجمعه حمله على الصفات والأسماء. و (اخْتَصَمُوا) إنما جمع حملا على المعنى لأن كل خصم (٩) تحته أشخاص (١٠).

__________________

(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢١.

(٢) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٣) في ب : عليهم. وهو تحريف.

(٤) في ب : تور. وهو تحريف. من قوله تعالى : «وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ» [ص : ٢١].

(٥) [الحجرات : ٩].

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٧) المرجع السابق.

(٨) في ب : ثنى. وهو تحريف.

(٩) في الأصل : شخص. وهو تحريف.

(١٠) التبيان ٢ / ٩٣٧.

٤٦

وقال الزمخشري : الخصم صفة وصف بها الفوج أو الفريق ، فكأنه قيل : هذان فوجان أو فريقان يختصمان ، وقوله : «هذان» للفظ ، و (اخْتَصَمُوا) للمعنى ، كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا)(١) ، ولو قيل : هؤلاء خصمان أو (٢) اختصما جاز أن يراد المؤمنون والكافرون (٣). قال شهاب الدين : إن عنى بقوله : أن (٤) خصما صفة بطريق الاستعمال المجازي فمسلم ، لأن المصدر يكثر الوصف به ، وإن أراد أنه صفة حقيقية فخطأه ظاهر لتصريحهم بأن نحو رجل خصم مثل رجل عدل(٥) ، وقوله : «هذان» للفظ (٦). أي : إنما أشير إليهم إشارة المثنى ، وإن كان في الحقيقة المراد الجمع باعتبار لفظ الفوجين والفريقين ونحوهما. وقوله : كقوله (٧) : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ) إلى آخره فيه نظر ، لأن في تيك الآية تقدم شيء له لفظ ومعنى وهو «من» ، وهنا لم يتقدم شيء له لفظ ومعنى(٨).

وقوله تعالى : (فِي رَبِّهِمْ) أي : في دين ربهم (٩) ، ، فلا بد من حذف مضاف أي جادلوا في دينه وأمره. وقرأ الكسائي في رواية عنه «خصمان» بكسر الخاء (١٠). واحتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله (١١) : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا.) وأجيب بأن المعنى جمع كما تقدم (١٢).

فصل (١٣)

اختلفوا في تفسير الخصمين ، فقيل : المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم ، وطائفة الكفار وجماعتهم ، وأن كل الكفار يدخلون في ذلك ، قال ابن عاس : رجع أهل الأديان الستة (فِي رَبِّهِمْ) أي في ذاته وصفاته. وقيل : إنّ أهل الكتاب قالوا : نحن أحق بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تكتمونه ، وكفرتم به حسدا ، فهذه خصومتهم فى ربهم. وقيل : هو ما روى قيس بن عباد (١٤) عن أبي ذر الغفاري (١٥)

__________________

(١) [محمد : ١٦].

(٢) في ب : و.

(٣) الكشاف ٣ / ٢٩.

(٤) أن : سقط من ب.

(٥) في ب : عد. وهو تحريف.

(٦) في ب : اللفظ. وهو تحريف.

(٧) في النسختين : كقولهم. والصواب ما أثبته.

(٨) الدر المصون : ٥ / ٦٨.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٢٩ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١٠) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١١) بقوله : سقط من ب.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢.

(١٣) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢.

(١٤) هو قيس بن عباد ، القيسي الضبعي أبو عبد الله البصري ، مخضرم ، عن عمر وعلي وعمار ، وعنه ابنه عبد الله ، والحسن البصري وابن سيرين. مات سنة ٨٠ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٣٥٧.

(١٥) هو جندب بن جنادة ، أبو ذر الغفاري ، أحد النجباء ، عنه ابن عباس ، وأنس والأحنف وأبو عثمان ـ

٤٧

أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن المغيرة. وقال علي ـ رضي الله عنه ـ أنا أول من يجثو (١) للخصومة بين يدي الله (٢). وقال عكرمة : هما الجنة والنار.

قالت النار : خلقني الله لعقوبته ، وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته ، فقص الله على محمد خبرهما. والأقرب هو الأول ؛ لأن السبب وإن كان خاصا فالواجب حمل الكلام على ظاهره.

وقوله : «هذان» (٣) كالإشارة إلى ما تقدم ذكره ، وهم الأديان الستة المذكورون في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٤).

وأيضا ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب ، فوجب رجوع ذلك إليهما ، فمن خص به مشركي العرب واليهود من حيث قالوا في نبيهم وكتابهم (٥) ما حكينا فقد أخطأ ، وهذا هو الذي يدل على أن قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ)(٦) أراد به الحكم ، لأن ذلك التخاصم يقتضي أن الواقع بعده حكما (٧). فبين تعالى حكمه في الكفار ، وذكر من أحوالهم ثلاثة أمور :

أحدها : قوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) ، وهذه الجملة تفصيل (٨) وبيان لفصل الخصومة المعني (٩) بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ)(١٠) قاله الزمخشري (١١).

وعلى هذا فيكون (هذانِ خَصْمانِ) معترضا ، والجملة من (اخْتَصَمُوا) حالية وليست مؤكدة لأنها أخص من مطلق الخصومة المفهومة من (خَصْمانِ) وقرأ الزعفراني في اختياره «قطعت» مخفف الطاء (١٢) ، والقراءة المشهورة تفيد التكثير وهذه تحتمله. والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) (١٤) ، وقال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب (١٥). وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من النار.

__________________

ـ النهدي وغيرهم. مات سنة ٣٢ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٣ / ٣١٥.

(١) جثا يجثو ويجثي جثوا وجثيا ، على فعول فيهما : جلس على ركبتيه للخصومة ونحوها ، اللسان (جثا).

(٢) أخرجه البخاري (تفسير) ٣ / ١٦١ ، وانظر الدر المنثور ٤ / ٣٤٨.

(٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(٤) [الحج : ١٧].

(٥) في ب : وكتابنا. وهو تحريف.

(٦) [الحجّ : ١٧].

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(٨) في ب : تفصل. وهو تحريف.

(٩) في ب : لمعنى. وهو تحريف.

(١٠) [الحجّ : ١٧].

(١١) الكشاف ٣ / ٢٩.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١٣) [الأعراف : ٤١].

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(١٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

٤٨

قوله : (يُصَبُّ) هذه الجملة تحتمل أن تكون خبرا ثانيا للموصول ، وأن تكون حالا من الضمير في «لهم» ، وأن تكون مستأنفة (١). والحميم الماء الحار الذي انتهت حرارته ، قال ابن عباس : لو قطرت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها (٢).

قوله : (يُصْهَرُ)(٣) جملة حالية من الحميم (٤) ، والصهر (٥) الإذابة ، يقال : صهرت الشحم ، أي : أذبته ، والصهارة الألية المذابة (٦) ، وصهرته الشمس : أذابته بحرارتها ، قال :

٣٧٥٣ ـ تصهره الشّمس ولا ينصهر (٧)

وسمي الصّهر صهرا لامتزاجه بأصهاره تخيلا لشدة المخالطة. وقرأ الحسن في آخرين «يصهر» بفتح الصاد وتشديد الهاء (٨) مبالغة وتكثيرا لذلك ، والمعنى : أن الحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم يذيب ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء (٩).

قوله : (وَالْجُلُودُ) فيه وجهان :

أظهرهما : عطفه على «ما» الموصولة ، أي : يذيب الذي في بطونهم من الأمعاء ، ويذاب أيضا الجلود ، أي يذاب ظاهرهم وباطنهم (١٠).

والثاني : أنه مرفوع بفعل مقدر أي : يحرق الجلود (١١).

قالوا : لأن الجلد لا يذاب إنما ينقبض وينكمش إذا صلي (١٢) بالنار ، وهو في التقدير كقوله :

٣٧٥٤ ـ علفتها تبنا (وماء باردا) (١٣) (١٤)

__________________

(١) هذه الأوجه الثلاثة ذكرها أبو البقاء. التبيان ٢ / ٩٣٧.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٣) في ب : يصهر به.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٧.

(٥) في ب : والضمير. وهو تحريف.

(٦) اللسان (صهر) البحر المحيط ٦ / ٣٤٦.

(٧) عجز بيت من بحر السريع قاله ابن أحمر يصف فرخ قطاة ، وصدره :

تروي لقى ألقي في صفصف

وهو في مجاز القرآن ٢ / ٤٨ ، المنصف ٣ / ٩٢ ، تفسير ابن عطية ١١ / ٢٤٩ ، القرطبي ١٢ / ٢٧ اللسان (صهر ـ لقى) ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٧.

(٨) المختصر (٩٤) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠ ، الإتحاف (٣١٤).

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(١٠) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٤ ، البيان ٢ / ١٧١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١٢) في ب : صل.

(١٣) صدر بيت من الرجز قاله ذو الرمة وعجزه :

حتّى شتت همّالة عيناها

وقد تقدم.

(١٤) ما بين القوسين في ب : وما ردا.

٤٩

٣٧٥٥ ـ وزجّجن الحواجب والعيونا (١)

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ)(٢) فإنه على تقدير : وسقيتها ماء ، وكحلن العيون ، واعتقدوا الإيمان. قوله : (وَلَهُمْ مَقامِعُ)(٣) يجوز في هذا الضمير وجهان :

أظهرهما : أنه يعود على (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وفي اللام حينئذ قولان :

أحدهما : أنها للاستحقاق. والثاني : أنها بمعنى (على) كقوله : (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ)(٤) وليس بشيء.

والوجه (٥) الثاني : أن الضمير يعود على الزبانية أعوان جهنم (٦) ، ودل عليهم سياق الكلام ، وفيه بعد. (مِنْ حَدِيدٍ) صفة ل (مَقامِعُ) ، وهي مقمعة بكسر الميم ، لأنها آلة القمع (٧) ، يقال: قمعه يقمعه : إذا ضربه بشيء يزجره به ، ويذله ، والمقمعة : المطرقة ، وقيل : السوط ، أي : سياط من حديد ، وفي الحديث «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان (ما أقلوها» (٨))(٩).

قوله : (كُلَّما أَرادُوا). «كلّ» نصب على الظرف ، وتقدم الكلام في تحقيقها في البقرة (١٠) ، والعامل فيها هنا قوله : (أُعِيدُوا)(١١). و (مِنْ غَمٍّ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه بدل من الضمير في «منها» (١٢) بإعادة العامل بدل اشتمال (١٣) كقوله :

__________________

(١) عجز بيت من بحر الوافر قاله الراعي النميري ، وصدره :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وهو في الخصائص ٢ / ٤٣٢ ، الإنصاف ٢ / ٦١٠ ، المغني ٢ / ٣٥٧ ، شذور الذهب ٢٤٢ ، المقاصد النحوية ٣ / ٩١ ، ٤ / ١٩٣ ، شرح التصريح ١ / ٣٤٦ ، الهمع ٢ / ١٣٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٧٥ ، الأشموني ٢ / ١٤٠ ، حاشية يس على التصريح ١ / ٣٤٢ ، الدرر ٢ / ١٦٩.

(٢) [الحشر : ٩].

(٣) في ب : ولهم مقامع من حديد.

(٤) من قوله تعالى : «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» [غافر : ٥٢].

(٥) في الأصل : الوجه.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٧) وذلك أن (مفاعل) وزن يشبه (فعالل) وهو جمع لكل ما بدىء بميم زائدة كأسماء المكان والزمان والآلة ، وأمثلة المبالغة التي يستوي فيها المذكر والمؤنث ، نحو مهذار ، ومعطير ومطعن ، ومنشار ، ومسجد ، ومجلس. التبيان في تصريف الأسماء : (١٦١).

(٨) أخرجه ابن مردويه والحاكم وصححه البيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري. الدر المنثور ٤ / ٣٥٠.

(٩) ما بين القوسين في ب : ما أقاموها.

(١٠) عند قوله تعالى : «يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ» [البقرة : ٢٠].

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩٣٧.

(١٢) في النسختين : فيها. والصواب ما أثبته.

(١٣) انظر البيان ٢ / ١٧٢ ، التبيان ٢ / ٩٣٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

٥٠

(لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ)(١) ، ولكن لا بد في بدل الاشتمال من رابط ، فقالوا : هو مقدر تقديره : من غمها (٢).

والثاني : أنه مفعول له (٣) ، ولما نقص شرط من شروط النصب جر بحرف السبب (٤). وذلك الشرط هو عدم اتحاد الفاعل ، فإن فاعل الخروج غير فاعل الغم ، فإن الغم من النار والخروج من الكفار(٥). واعلم (٦) أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ، والمعنى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها. ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن : أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا (٧).

قوله : (وَذُوقُوا) منصوب بقول مقدر معطوف على (أُعِيدُوا) أي : وقيل لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)(٨) ، أي : المحرق مثل الأليم والوجيع. قال الزجاج : هو لأحد الخصمين ، وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)(٩).

قوله : (يُحَلَّوْنَ) العامة على ضم الياء وفتح اللام مشددة من حلاه يحلّيه إذا ألبسه الحليّ (١٠). وقرىء بسكون الحاء وفتح اللام مخففة (١١) ، وهو بمعنى الأول كأنهم عدوه تارة بالتضعيف وتارة بالهمزة. قال أبو البقاء : من قولك : أحلي أي : ألبس الحلي (١٢) هو بمعنى المشدد.

وقرأ ابن عباس بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة (١٣) ، وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه من حليت المرأة تحلى فهي حال ، وكذلك حلي الرجل فهو حال ، إذا لبسا الحلي (أو صارا ذوي حلي (١٤)) (١٥).

__________________

(١) [الزخرف : ٣٣]. والاستدلال بالآية على أن قوله : «لِبُيُوتِهِمْ» * بدل من «لمن» بإعادة الجار ، وهو بدل اشتمال. البيان ٢ / ٣٥٣.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٣٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٤) في ب : النسب. وهو تحريف.

(٥) ذكرنا شروط المفعول له عند قوله تعالى :«إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى» [طه : ٣].

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٣.

(٨) انظر البيان ٢ / ١٧٢ ، التبيان ٢ / ٩٣٧.

(٩) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤١٩.

(١٠) انظر التبيان ٢ / ٩٣٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١١) المرجعان السابقان.

(١٢) التبيان ٢ / ٩٣٨.

(١٣) المختصر ٩٤ ـ ٩٥ ، المحتسب ٢ / ٧٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(١٥) ما بين القوسين في ب : وصار ذوا حليّ.

٥١

الثاني : أنه من حلي بعيني كذا يحلى إذا استحسنه ، و «من» مزيدة في قوله (مِنْ أَساوِرَ) قال (١) : فيكون المعنى : يستحسنون فيها الأساور الملبوسة (٢) ولما نقل أبو حيان هذا الوجه عن أبي الفضل الرازي قال : وهذا ليس بجيد ، لأنه جعل حلي (٣) فعلا متعديا ، ولذلك حكم بزيادة (من) في الواجب وليس مذهب البصريين (٤) ، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز ، لأنه لا يحفظ بهذا المعنى إلا لازما ، فإن كان بهذا المعنى كانت «من» للسبب ، أي بلباس أساور الذهب يحلّون بعين من رآهم أي يحلى بعضهم بعين بعض (٥).

وهذا الذي نقله عن أبي الفضل قاله أبو البقاء ، وجوز في مفعول الفعل وجها آخر فقال : ويجوز أن يكون من حلي بعيني كذا إذا حسن ، وتكون «من» مزيدة ، أو يكون المفعول محذوفا و (مِنْ أَساوِرَ) نعت له (٦). فقد حكم عليه بالتعدي ليس إلا ، وجوز في المفعول الوجهين المذكورين (٧).

والثالث : أنه من حلي بكذا إذا ظفر به ، فيكون التقدير : يحلّون بأساور ، و «من» بمعنى الباء (٨) ، ومن مجيء حلي بمعنى ظفر قولهم : لم يحل فلان بطائل أي : لم يظفر به (٩).

واعلم أن حلي بمعنى لبس الحلي (١٠) أو بمعنى ظفر من مادة الياء لأنها من الحلية وأما (١١) حلي بعيني كذا ، فإنه من مادة الواو ؛ لأنه من الحلاوة ، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (١٢).

قوله : (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ). في من الأولى ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها زائدة كما تقدم تقريره عن الرازي وأبي البقاء ، وإن لم يكن من أصول البصريين(١٣).

الثاني : أنها للتبعيض أي : بعض أساور.

الثالث : أنها لبيان الجنس قاله ابن عطية ، وبه بدأ (١٤) وفيه نظر ، إذ لم يتقدم شيء

__________________

(١) أي أبو الفضل الرازي. البحر المحيط ٦ / ٣٦٠.

(٢) في الأصل : ملبوسة.

(٣) حلي : سقط من ب.

(٤) والأخفش والكوفيون يجوزون زيادة (من) في الواجب.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٦) التبيان ٢ / ٩٣٨.

(٧) وهما كون «من» مزيدة في المفعول ، وهذا الوجه غير جائز على مذهب البصريين ، لأن «من» لا تكون مزيدة عندهم في الواجب ، وكون المفعول محذوفا.

(٨) قاله أبو الفضل الرازي البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٩) اللسان (حلا).

(١٠) في ب : الحلية.

(١١) في الأصل : وما.

(١٢) انظر المحتسب ٢ / ٧٧ ، اللسان (حلا).

(١٣) عند توجيه قراءة ابن عباس لقوله تعالى : «يُحَلَّوْنَ» بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة.

(١٤) فإنه قال : (و «من» في قوله تعالى : «مِنْ أَساوِرَ» هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥١.

٥٢

مبهم (١) وفي (مِنْ ذَهَبٍ) لابتداء الغاية ، وهي نعت لأساور (٢). كما تقدم.

وقرأ ابن عباس «من أسور» دون ألف ولا هاء (٣) ، وهو محذوف من (أَساوِرَ) كما قالوا : جندل والأصل جنادل. قال أبو حيان : وكان قياسه صرفه ، لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودا فمنعه الصرف (٤). قال شهاب الدين : فقد جعل التنوين في جندل المقصور من جنادل تنوين صرف (٥) ، وقد نصّ بعض النحاة على أنه تنوين عوض (٦) ، كهو في جوار وغواش وبابهما (٧) والأساور جمع سوار.

قوله : (وَلُؤْلُؤاً)(٨) قرأ نافع وعاصم بالنصب ، والباقون بالخفض (٩). فأما النصب ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه منصوب بإضمار فعل تقديره : ويؤتون لؤلؤا ، ولم يذكر الزمخشري غيره (١٠) ، وكذا أبو الفتح حمله على إضمار فعل (١١).

الثاني : أنه منصوب نسقا على موضع (مِنْ أَساوِرَ) وهذا كتخريجهم (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب عطفا على محل (بِرُؤُسِكُمْ)(١٢) ، ولأن (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) في قوة : يلبسون أساور ، فحمل هذا عليه (١٣).

الثالث : أنه عطف على (أَساوِرَ) ، لأن «من» مزيدة فيها كما تقدم.

الرابع : أنه معطوف على ذلك المفعول المحذوف ، التقدير يحلون فيها الملبوس من أساور ولؤلؤا ف (لُؤْلُؤاً)(١٤) عطف على الملبوس.

__________________

(١) في ب : منهم. وهو تحريف.

(٢) في الأصل : ومن نعت الأساور. وهو تحريف.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٤) المرجع السابق.

(٥) في ب : تنوين من الصرف. وهو تحريف.

(٦) قال سيبويه : (ويقول بعضهم : جندل وذلذل ، يحذف ألف جنادل وذلاذل ، وينونون يجعلونه عوضا من هذا المحذوف) الكتاب ٣ / ٢٢٨.

(٧) الدر المصون ٥ / ٦٩.

(٨) في الأصل : لؤلؤ.

(٩) السبعة (٤٣٥) ، الكشف ٢ / ١١٧ ـ ١١٨ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٣١٤.

(١٠) قال الزمخشري :(«وَلُؤْلُؤاً» بالنصب على ويؤتون لؤلؤا) الكشاف ٣ / ٢٩.

(١١) قال ابن جني : (هو محمول على فعل يدل عليه قوله : «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ» أي : يؤتون لؤلؤا ، ويلبسون لؤلؤا) المحتسب ٢ / ٧٨ ، وانظر أيضا البيان ٢ / ١٧٢ ، التبيان ٢ / ٩٣٨.

(١٢) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»[المائدة : ٦]. وقرأ بنصب «وأرجلكم» نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم. السبعة (٢٤٢ ـ ٢٤٣).

(١٣) انظر البيان ٢ / ١٧٢ ، التبيان ٢ / ٩٣٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١ ، الإتحاف (٣١٤).

(١٤) في ب : ف «لؤلؤ».

٥٣

وأما الجر فعلى وجهين :

أحدهما : عطفه على (أَساوِرَ)(١).

والثاني : عطفه على (مِنْ ذَهَبٍ) ، (لأنّ السوار يتخذ من اللؤلؤ أيضا بنظم بعضه إلى بعض(٢). فقد منع أبو البقاء أن يعطف على (ذَهَبٍ)) (٣). قال : لأنّ السوار لا يكون من اللؤلؤ في العادة (٤). قال شهاب الدين : بل قد يتخذ منه في العادة السوار (٥).

واختلف الناس في رسم هذه اللفظة في الإمام فنقل الأصمعي أنها في الإمام «لؤلؤ» بغير ألف بعد الواو (٦). ونقل الجحدري أنها ثابتة في الإمام بعد الواو (٧) وهذا الخلاف بعينه قراءة وتوجيها جار (٨) في حرف فاطر أيضا (٩). وقرأ أبو بكر في رواية المعلى (١٠) بن منصور (١١) عنه «لؤلوا» بهمزة أولا وواو آخرا وفي رواية يحيى عنه عكس ذلك (١٢).

وقرأ الفياض (١٣) «ولوليا» بواو أولا وياء آخرا (١٤) ، والأصل (لُؤْلُؤاً) أبدل الهمزتين واوين ، فبقي في آخر الاسم واو بعد ضمة ، ففعل فيها ما فعل بأدل جمع دلو بأن قلبت الواو ياء والضمة كسرة(١٥).

__________________

(١) انظر الكشف ٢ / ١١٨ ، التبيان ٢ / ٩٣٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١ ، الإتحاف (٣١٤).

(٢) انظر البيان ٢ / ١٧٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) التبيان ٢ / ٩٣٨.

(٥) الدر المصون : ٥ / ٦٩.

(٦) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٧) المرجعان السابقان.

(٨) في ب : جاز.

(٩) وهو قوله تعالى : «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ»

[فاطر : ٣٣]. السبعة (٥٣٤ ـ ٥٣٥.

(١٠) وفي ب بعد قوله : في رواية المعلى : قال البغوي : واختلفوا في وجه إثبات الألف فيه ، فقال أبو عمرو : أثبتوها كما أثبتوا في قالوا وكانوا ، وقال الكسائي : أثبتوها للهمزة لأن الهمزة حرف من الحروف.

(١١) هو معلى بن منصور الحنفي الرازي ، أبو يعلى الحافظ الفقيه ، عن مالك والليث وغيرهما ، وعنه عبد الله بن أبي شيبة وابن المديني وغيرهما ، مات سنة ٢٢٣ ه‍ خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٣ / ٤٦.

(١٢) السبعة (٤٣٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(١٣) لعله فياض بن غزوان الضبي الكوفي. وقد تقدم.

(١٤) المختصر (٩٥) البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(١٥) وذلك أن أصل : لوليا «لُؤْلُؤاً» فقلبت الهمزة الأولى والثانية واوا ، لأنّ الهمزة إذا كانت ساكنة أو مفتوحة وقبلها مضموم فأردت أن تخفف أبدلت مكانها واوا ، كقولك في الجؤنة ، والبوس : الجونة والبوس ، وفي الجؤن جون. ثم قلبت الواو الثانية ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة ؛ لأنه ليس في العربية اسم معرب آخره واو قبلها ضمة أصلية ، ثم قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء وذلك كما قلبت الواو في (أدل) جمع (دلو) ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة فإن أصل (أدل) أدلو ، ثم قلبت الضمة كسرة ، ثم أعلّ (أدلي) إعلال قاض ، فصار (أدل). الكتاب ٣ / ٥٤٣ ، شرح الملوكي ٤٦٧ ـ ٤٧١.

٥٤

وقرأ ابن عباس «وليليا» بياءين فعل ما فعل الفياض ثم أتبع الواو الأولى للثانية (١) في القلب (٢) وقرأ طلحة «ولول» (٣) بالجر عطفا على المجرور قبله (٤) ، وقد تقدم (٥) ، والأصل ولولو (٦) بواوين ثم أعل إعلال أدل (٧). واللؤلؤ قيل : كبار الجوهر ، وقيل : صغاره (٨).

قوله : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم والمعنى أنه تعالى يوصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم (٩) في الدنيا. قال عليه‌السلام (١٠) «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه» (١١).

قوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ.) يجوز أن يكون (مِنَ الْقَوْلِ) حالا من (الطَّيِّبِ) ، وأن يكون حالا من الضمير المستكن فيه (١٢). و «من» للتبعيض أو للبيان.

قال ابن عباس (١٣) : الطيب من القول : شهادة أن لا إله إلا الله ، ويؤيد هذا قوله : (مَثَلاً (١٤) كَلِمَةً طَيِّبَةً)(١٥) وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)(١٦). وهو صراط الحميد ، لقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٧) وقال ابن زيد : لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله. وقال السدي : هو القرآن. وقال ابن عباس في رواية عطاء : هو قول أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ)(١٨). (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) إلى

__________________

(١) في ب : الثانية.

(٢) المختصر (٩٥) ، البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٣) في ب : ولو. وهو تحريف.

(٤) البحر المحيط ٦ / ٣٦١.

(٥) عند توجيه قراءة من قرأ من الجمهور بالخفض.

(٦) في ب : ولولوا. وهو تحريف.

(٧) أي : أن أصل (ولول) «لؤلؤ» فقلبت الهمزتان واوا ، لما تقدم عند توجيهه قراءة الفياض ، ثم قلبت الواو الثانية ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة ، ثم قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء ، فاستثقل اجتماع التنوين مع الياء فحذفت الياء ، فصار (ولول) ، كما في أدل جمه دلو.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٢.

(٩) عليهم : سقط من ب.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) أخرجه البخاري (لباس) ٤ / ٣١ ، مسلم (لباس) ٣ / ١٦٤١ ـ ١٦٤٢ ، ١٦٤٥ ، الترمذي (أدب) ٥ / ١٢٢ ، ابن ماجه (لباس) ٢ / ١١٨٧ ، أحمد ١ / ٢٠ ، ٢٦ ، ٣٧ ، ٣٩ ، ٢ / ١٦٦ ، ٣ / ٢٣ ، ١٠١ ، ٢٨١ ، ٤ / ٥ ، ١٥٦.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩٣٨.

(١٣) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٦٨.

(١٤) في النسختين : مثل. وهو تحريف.

(١٥) من قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ»[إبراهيم : ٢٤].

(١٦) من قوله تعالى : «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ»[فاطر : ١٠].

(١٧) [الشورى : ٥٢].

(١٨) [الزمر : ٧٤].

٥٥

دين الله وهو الإسلام ، و (الْحَمِيدِ) هو الله المحمود في أفعاله (١).

قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية. لما فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت ، وعظم كفر هؤلاء فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد (٢).

قال ابن عباس : نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عام (٣) الحديبية عن المسجد الحرام وعن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدي ، فكره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قتالهم وهو محرم ، ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل (٤).

قوله : (وَيَصُدُّونَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه معطوف على ما قبله ، وحينئذ ففي عطفه على الماضي ثلاثة تأويلات :

أحدها : أنّ المضارع قد لا يقصد به الدلالة على زمن معين من حال أو استقبال وإنما يراد به مجرد الاستمرار ، فكأنه قيل : إنّ الذين كفروا ومن شأنهم الصدّ عن سبيل الله ، ومثله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) (٥)(٦).

الثاني : أنه مؤول بالماضي لعطفه على الماضي (٧).

الثالث : أنه على بابه فإن الماضي قبله مؤول بالمستقبل (٨).

الوجه الثاني : أنه حال من فاعل «كفروا» ، وبه (٩) بدأ أبو البقاء (١٠). وهو فاسد ظاهرا ، لأنه (١١) مضارع مثبت وما (١٢) كان كذلك لا تدخل عليه الواو وما ورد منه على قلته مؤول ، فلا يحمل عليه القرآن (١٣). وعلى هذين القولين فالخبر محذوف ، واختلفوا

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٦٨.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(٣) في الأصل : سنة.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٤.

(٥) من قوله تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» [الرعد : ٢٨].

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٧) انظر البيان ٢ / ١٧٣ ، التبيان ٢ / ٩٣٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٨) انظر البيان ٢ / ١٧٣ ، التبيان ٢ / ٩٣٨.

(٩) في ب : به.

(١٠) فإنه قال : (قوله تعالى : «وَيَصُدُّونَ»حال من الفاعل في «كفروا» التبيان ٢ / ٩٣٨.

(١١) لأنه : سقط من الأصل.

(١٢) في ب : ما.

(١٣) ذكرت في سورة مريم الصور التي يمتنع اقتران واو الحال بها.

٥٦

في موضع تقديره ، فقدره ابن عطية بعد قوله : (وَالْبادِ) أي : إن الذين كفروا خسروا أو أهلكوا ، ونحو ذلك (١).

وقدره الزمخشري بعد قوله : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي إن الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم ، وإنما قدره (٢) كذلك ؛ لأن قوله : (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) يدل عليه (٣). إلا أن أبا حيان في تقدير الزمخشري بعد (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : لا يصح ، قال : لأن «الذي» صفة للمسجد الحرام ، فموضع التقدير هو بعد (وَالْبادِ)(٤). يعني أنه يلزم (٥) من تقديره الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو خبر «إن» فيصير التركيب : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم الذي جعلناه للناس.

وللزمخشري أن ينفصل عن هذا الاعتراض بأن (الَّذِي جَعَلْناهُ) لا نسلم أنه نعت للمسجد (٦) حتى يلزم ما ذكر بل نجعله مقطوعا عنه نصبا أو رفعا (٧). ثم قال أبو حيان : لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية ، لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك (٨).

الوجه الثالث : أن الواو في (وَيَصُدُّونَ) مزيدة في خبر «إن» تقديره : إن الذين كفروا (يصدون) (٩)(١٠). وزيادة الواو مذهب كوفي تقدم بطلانه (١١). وقال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى المقصود (١٢). قال شهاب الدين : ولا أدري فساد المعنى من أي جهة ألا ترى لو صرح بقولنا : (إن الذين كفروا يصدون) لم يكن فيه فساد معنى ، فالمانع إنما هو أمر صناعي عند أهل البصرة لا معنوي ، اللهم إلا أن يريد معنى خاصا يفسد بهذا التقدير فيحتاج إلى بيانه (١٣).

قوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ) يجوز جره على النعت والبيان ، والنصب بإضمار فعل ،

__________________

(١) قال ابن عطية : (وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله : «وَالْبادِ» ، تقديره : خسروا أو هلكوا) ١٠ / ٢٥٤.

(٢) في ب : قدر.

(٣) قال الزمخشري : (وخبر «إن» محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره : إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم) الكشاف ٣ / ٣٠.

(٤) البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٥) في الأصل : لم يلزم. وهو تحريف.

(٦) في ب : المسجد.

(٧) ويكون بالنصب مفعولا به لفعل محذوف ، وبالرفع خبرا لمبتدأ محذوف.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٩) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٥ ، البيان ٢ / ١٧٣ ، التبيان ٢ / ٩٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(١٠) ما بين القوسين في النسختين : ويصدون. والصواب ما أثبته.

(١١) انظر الإنصاف ٢ / ٤٥٦ ـ ٤٦٢ شرح المفصل ٨ / ٩٣ ـ ٩٤ ، شرح الكافية ٢ / ٣٦٨ ، والمغني ٢ / ٣٦٢.

(١٢) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٤.

(١٣) الدر المصون ٥ / ٦٧.

٥٧

والرفع بإضمار مبتدأ. والجعل يجوز أن يتعدى لا ثنين بمعنى صير ، وأن يتعدى لواحد. والعامة على رفع «سواء». وقرأ حفص عن عاصم بالنصب هنا (١) ، وفي الجاثية (سَواءً (٢) مَحْياهُمْ)(٢) وافقه على الذي في الجاثية الأخوان (٣) وسيأتي توجيهه. فأما على قراءة الرفع ، فإن قلنا : إن «جعل» بمعنى (صير) كان في المفعول الثاني ثلاثة أوجه :

أظهرها (٤) : أن الجملة من قوله : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ) هي المفعول الثاني (٥) ، ثم الأحسن في رفع «سواء» أن يكون خبرا مقدما ، و (الْعاكِفُ) ، والبادي مبتدأ مؤخر ، وإنما وحد الخبر وإن كان المبتدأ اثنين ، لأن «سواء» في الأصل مصدر (٦) وصف به ، وقد تقدم أول البقرة (٧). وأجاز بعضهم أن يكون «سواء» مبتدأ ، وما بعده الخبر (٨) ، وفيه ضعف أو منع من حيث الابتداء بالنكرة من غير مسوغ ، ولأنه متى اجتمع معرفة ونكرة (٩) جعلت المعرفة المبتدأ. وعلى هذا الوجه أعني كون الجملة مفعولا ثانيا فقوله : «للناس» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق بالجعل ، أي : جعلناه لأجل الناس كذا.

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «جعلناه» ، ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجه غير ذلك (١٠) ، وليس معناه متضحا.

الوجه الثاني : أن «للناس» هو المفعول الثاني ، والجملة من قوله : (سَواءً الْعاكِفُ) في محل نصب على الحال ، إما من الموصول وإما من عائده وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء (١١) ، وفيه نظر ؛ لأنه جعل هذه الجملة التي هي محط الفائدة فضلة.

__________________

(١) السبعة : (٤٣٥) ، الكشف ٣ / ١١٨ ، النشر ٢ / ٣٢٦ ، الإتحاف ٨٣١٤

(٢) من قوله تعالى : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» [الجاثية : ٢١].

(٣) حمزة والكسائي. السبعة (٥٩٥) ، الكشف ٢ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، النشر ٢ / ٣٧٢.

(٤) في ب : أظهرهما. وهو تحريف.

(٥) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٢٠ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٥ ، الكشاف ٣ / ٣٠ ، التبيان ٢ / ٩٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٢.

(٦) في ب : مقدر. وهو تحريف.

(٧) عند قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» [البقرة : ٦].

(٨) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٤٢٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٤.

(٩) في ب : نكرة ومعرفة.

(١٠) فإنه قال : (والوجه الثاني : أن يكون «للناس» حالا ، والجملة بعده في موضع المفعول الثاني) التبيان ٢ / ٩٣٩.

(١١) فإنه قال : (و «جعلناه» : يتعدى إلى مفعولين ، فالضمير هو الأول ، وفي الثاني ثلاثة أوجه : أحدهما : «للناس» ، وقوله تعالى «سواء» خبر مقدم ، وما بعده المبتدأ ، والجملة حال إما من الضمير الذي هو الهاأ أو من الضمير في الجار) التبيان ٢ / ٩٣٩.

٥٨

الوجه الثالث : أن المفعول الثاني محذوف. قال ابن عطية : المعنى الذي جعلناه للناس قبلة ومتعبدا(١). فتقدير ابن عطية هذا مرشد لهذا الوجه. إلا أن أبا حيان قال : ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلا إن كان (٢) أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ ؛ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني ، فلا يحتاج إلى هذا التقدير (٣) وإن جعلناها متعدية لواحد كان قوله : «للناس» متعلقا بالجعل على الغلبة وجوز فيه أبو البقاء وجهين آخرين :

أحدهما : أنه حال من مفعول «جعلناه».

والثاني : أنه مفعول تعدى إليه بحرف الجر (٤).

وهذا الثاني لا يتعقل كيف يكون «للناس» مفعولا عدي إليه الفعل بالحرف هذا ما لا يعقل ، فإن أراد أنه مفعول من أجله فهي عبارة بعيدة من عبارة النحاة. وأما على قراءة حفص فإن قلنا : «جعل» يتعدى لا ثنين كان «سواء» مفعولا ثانيا (٥). وإن قلنا : يتعدى لواحد كان حالا من هاء «جعلناه» (٦) وعلى التقديرين ف «العاكف» مرفوع به على الفاعلية ؛ لأنه مصدر وصف به ، فهو في قوة اسم الفاعل المشتق ، تقديره : جعلناه مستويا فيه العاكف ، ويدل عليه قولهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، فهو (٧) تأكيد للضمير المستتر فيه ، والعدم نسق على الضمير المستتر ؛ ولذلك ارتفع (٨) ، ويروى : سواء والعدم ؛ بدون تأكيد وهو شاذ (٩) وقرأ الأعمش وجماعة «سواء» نصبا «العاكف» جرا (١٠) ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه بدل من الناس بدل تفصيل (١١).

__________________

(١) ابن عطية ١٠ / ٢٥٤. وفيه : أو متعبدا.

(٢) في ب : قال. وهو تحريف.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٩.

(٥) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٩٣ ، الكشاف ٣ / ٣٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٤ ، التبيان ٢ / ٩٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(٦) انظر الكشف ٢ / ١١٨ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٤ ، البيان ٢ / ١٧٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(٧) في الأصل : وهو.

(٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٥ ـ ٩٦ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(٩) من جهة أنه لا يجوز عند البصريين العطف على الضمير المرفوع المتصل إلا بعد تأكيده بالضمير المنفصل ، أو أي فاصل آخر ، خلافا للكوفيين في إجازتهم العطف عليه بلا فاصل. قال سيبويه : (وأما قوله : مررت برجل سواء والعدم ، فهو قبيح حتى تقول : هو والعدم ؛ لأن في سواء اسما مضمرا مرفوعا ، كما تقول : مررت بقوم عرب أجمعون فارتفع أجمعون على مضمر في عرب بالنية ، فهي هنا معطوفة على المضمر وليست بمنزلة أبي عشرة ، فإن تكلمت به على قبحه رفعت (العدم) ، وإن جعلته مبتدأ رفعت سواء) الكتاب ٢ / ٣١. وانظر الهمع ٢ / ١٣٨ ـ ١٣٩.

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

(١١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٩٦ ، البيان ٢ / ١٧٣ ، التبيان ٢ / ٩٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٦٣.

٥٩

والثاني : أنه عطف بيان ، فهذا (١) أراد ابن عطية بقوله (٢) : عطفا على الناس (٣).

ويمتنع في هذه القراءة رفع «سواء» لفساده صناعة (٤) ومعنى (٥) ، ولذلك قال أبو البقاء : و «سواء» على هذا نصب لا غير (٦). وأثبت ابن كثير ياء «والبادي» وقفا وو صلا (٧). وأثبتها أبو عمرو وو رش وصلا وحذفاها وقفا. وحذفها الباقون وصلا وو قفا ، وهي محذوفة في الإمام (٨).

فصل

معنى الكلام : ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا كما قال : (وُضِعَ لِلنَّاسِ)(٩) وتقدم الكلام على معنى «سواء» باختلاف القراءة.

وأراد ب (الْعاكِفُ)(١٠) المقيم فيه ، و «البادي» الطارى من البدو ، وهو النازع (١١) إليه من غربته (١٢). وقال بعضهم : يدخل في «العاكف» الغريب إذا جاور ولزمه كالبعيد وإن لم يكن من أهله. واختلفوا في معنى «سواء» فقال ابن عباس في بعض الروآيات : إنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها ، فليس أحدهما أحق بالنزول الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون أحدهما سبق إلى المنزل ، وهو قول قتادة وسعيد بن جبير ، ومن مذهب هؤلاء تحريم كراء (١٣) دور مكة وبيعها ، واستدلوا بالآية والخبر أما الآية فهذه ، قالوا : إن أرض مكة لا تملك ، فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والباد ، فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد. وأما الخبر فقوله عليه‌السلام (١٤) : «مكة مناخ لمن سبق إليه» (١٥)

__________________

(١) في ب : وهذا.

(٢) في ب : لقوله.

(٣) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٥.

(٤) في الأصل : وصناعة. وهو تحريف.

(٥) أي : أنه يلزم نصب «سواء» على قراءة خفص «الْعاكِفُ» ؛ لأنه لو رفع «سواء» مع خفض «الْعاكِفُ» فأعرب «سواء» مبتدأ لا يوجد له خبر وإذا أعرب خبرا فأين المبتدأ.

(٦) التبيان ٢ / ٩٣٩.

(٧) في ب : وصلا وو قفا.

(٨) السبعة (٤٣٦) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٥٥. الإتحاف ٣١٤.

(٩) من قوله تعالى : «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» [آل عمران : ٩٦].

البغوي ٥ / ٥٦٩.

(١٠) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٢٥.

(١١) في ب : الفارغ. وهو تحريف.

(١٢) في ب : غربة.

(١٣) الكراء : أجر المستأجر ، والكراء ممدود ، لأنه مصدر كاريت ، والدليل على ذلك أنك تقول رجل هكار ، ومفاعل إنما هو من فاعلت ، وهو من ذوات الواو لأنك تقول أعطيت الكري كروته بالكسر.

اللسان (كرا).

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) أخرجه الترمذي (حج) ٣ / ٢١٩ ، ابن ماجه (مناسك) ٢ / ٧٣ ، أحمد ٦ / ١٨٧ ، ٢٠٧. بروآية (منى).

٦٠