اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

قال الزمخشري : وقد جعل بعضهم (١) «بقيعاة» بتاء مدوّرة ك «رجل عزهاة» (٢).

فظاهر (٣) هذا أنه جعل هذا بناء مستقلا ليس جمعا ولا إشباعا.

قوله : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) جملة في محل الجر صفة ل «سراب» أيضا (٤) ، وحسن ذلك لتقدم الجار على الجملة ، هذا إن جعلنا الجارّ صفة والضمائر المرفوعة في «جاءه» ، وفي «لم يجده» وفي «وجد» ، والضمائر في «عنده» وفي «وفّاه» وفي «حسابه» كلها ترجع إلى «الظّمآن» لأن المراد به الكافر المذكور أولا ، وهذا قول الزمخشري (٥). وهو حسن.

وقيل : بل الضميران في «جاءه» و «وجد» عائدان على «الظّمآن» ، والباقية عائدة على الكافر (٦). وإنما أفرد الضمير على هذا وإن تقدمه جمع ، وهو قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) حملا على المعنى ؛ إذ المعنى : كلّ واحد من الكفار (٧).

والأول أولى لاتّساق الضمائر. وقرأ أبو جعفر ، ورويت عن نافع : «الظّمان» بإلقاء حركة الهمزة على الميم (٨).

فصل

قال الزجاج : «(الظّمآن) قد تخفف همزته ، وهو الشديد العطش (٩) ، ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثوابا مع أنه يعتقد أن له ثوابا عليه ، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه العقاب مع أنه يعتقد أنه ثوابا ، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثوابا عند الله تعالى ، فإذا وافى عرصة (١٠) القيامة ولم (١١) يجد الثواب ، بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه ، فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الشراب ويتعلق قلبه به ، ويرجو به (١٢) النجاة ، فإذا جاءه وأيس مما

__________________

(١) وهو ابن جني قال : (وذلك أن نظير قولهم : قيعة وقيعاة في أنه فعلة وفعلاة لمعنى واحد قولهم : رجل عزه وعزهاة : الذي لا يقرب النساء واللهو ، فهذا فعلة وفعلاة ، ولا فرق بينهما غير الهاء ، وذلك ما لا بال به) المحتسب ٢ / ١١٣.

(٢) الكشاف ٣ / ٧٨.

(٣) في ب : وظاهر.

(٤) انظر البيان ٢ / ١٩٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٢.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٧٨.

(٦) وهذا معنى قول أبيّ وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٠ ـ ٤٦١.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦١.

(٨) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢١ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٠.

(٩) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٧.

(١٠) العرصة : كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. اللسان (عرص).

(١١) في ب : لم.

(١٢) في ب : ويرجو. وهو تحريف.

٤٠١

كان يرجوه عظم ذلك عليه» (١). قال مجاهد : «السراب : عمل الكافر وإتيانه إياه موته (٢) ومفارقة الدنيا» (٣).

فإن قيل : قوله : (حَتَّى إِذا جاءَهُ) يدل على كونه شيئا ، وقوله : (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) مناقض له؟

فالجواب من وجوه :

الأول : معناه : لم يجد شيئا نافعا ، كما يقال : فلان ما عمل شيئا ، وإن كان قد اجتهد.

الثاني : «إذا جاءه» أي : جاء موضع السراب لم يجد السراب ، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة ، كأنه (٤) ضباب وهباء ، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء (٥).

قوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي : وجد عقاب الله عنده الذي توعد به الكافر (٦).

وقيل : وجد الله عنده ، أي : عند عمله ، أي وجد الله بالمرصاد.

وقيل : قدم على الله (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي : جزاء عمله (٧). قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام (٨).

قوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلا يشق (٩) عليه الحساب(١٠).

وقال بعض المتكلمين : «معناه : لا تشغله محاسبة أحد عن آخر كنحن (١١) ، ولو كان يتكلم بآلة كما تقول المشبهة (١٢) لما صح ذلك» (١٣).

قوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ) هذا مثل آخر ضربة الله تعالى لأعمال الكفار ، وفي هذا العطف أوجه :

أحدها : أنه نسق على «كسراب» على حذف مضاف واحد ، تقديره : أو كذي ظلمات ، ودل على هذا المضاف قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. وهو قول أبي علي (١٤).

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧.

(٢) موته : سقط من ب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧.

(٤) في الأصل : فإنه. وفي ب : كناه. وما أثبتناه من الفخر الرازي.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٧ ـ ٨.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨.

(٧) انظر القرطبي ١٢ / ٢٨٣.

(٨) الكشاف ٣ / ٧٨.

(٩) في ب : يسبق. وهو تحريف.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨.

(١١) في ب : لنحن. وهو تحريف.

(١٢) في ب : للشبه. وهو تحريف.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨.

(١٤) قال أبو علي : (معناه : أو كذي ظلمات. ويدل على المحذوف المضاف قوله : «إِذا أَخْرَجَ» والضمير الذي أضيف إليه «يد» يعود إلى المضاف المحذوف ، ومعنى ذي ظلمات : أنه في ظلمات) الحجة ٦ / ٥.

٤٠٢

الثاني : أنه على حذف مضافين (١) ، تقديره : أو كأعمال ذي ظلمات فيقدّر «ذي» ليصح عود الضمير إليه في قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) ويقدر «أعمال» ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة ، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة (٢).

الثالث : (٣) أنه لا حاجة إلى حذف البتّة ، والمعنى (٤) : أنه شبّه أعمال الكفّار في حيلولتها بين القلب وما يهتدي به بالظلمة.

وأما الضميران في (أَخْرَجَ يَدَهُ) فيعودان على محذوف دلّ عليه المعنى ، أي : إذا أخرج يده من فيها (٥) و «أو» هنا للتنويع لا للشك (٦). وقيل : بل هي للتخيير ، أي : «شبهوا أعمالهم بهذا(٧) أو بهذا (٨). وقرأ سفيان (٩) بن حسين : «أو كظلمات» بفتح الواو (١٠) ، جعلها عاطفة (١١) دخلت عليها همزة الاستفهام التي معناها التقرير (١٢) ، وقد تقدم ذلك في (١٣) قوله : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى)(١٤). قوله : «في بحر لجّيّ» : «في بحر» صفة ل «ظلمات» فيتعلق بمحذوف (١٥). واللّجيّ : منسوب إلى «اللّجّ» وهو معظم (١٦) البحر قاله الزمخشري (١٧).

وقال غيره : منسوب إلى اللّجّة بالتاء ، وهي أيضا معظمه (١٨). فاللّجّيّ : هو العميق الكثير الماء ، وفيه لغتان : كسر اللام ، وضمها (١٩).

قوله : (يَغْشاهُ مَوْجٌ) صفة أخرى ل «بحر» (٢٠) هذا إذا أعدنا الضمير في «يغشاه» على «بحر» وهو الظاهر. وإن قدّرنا مضافا محذوفا ، أي : «أو كذي ظلمات» كما فعل

__________________

(١) في ب : مضاف. وهو تحريف.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٧٢.

(٣) في ب : الثاني. وهو تحريف.

(٤) في ب : فالمعنى.

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٧٢.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦١.

(٧) بهذا : سقط من ب.

(٨) وهو قول الكرماني. انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦١.

(٩) في ب : ابن سفيان. وهو تحريف.

(١٠) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦١.

(١١) في ب : عاطفت. وهو تحريف.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦١.

(١٣) في : سقط من ب.

(١٤) من قوله تعالى : «أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ» [الأعراف : ٩٨]. انظر اللباب ٤ / ٧٥.

(١٥) انظر التبيان ٢ / ٩٧٣.

(١٦) في ب : يعظم.

(١٧) قال الزمخشري : (اللّجيّ العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر) الكشاف ٣ / ٧٨.

(١٨) قال ابن عطية : (واللجيّ معناه ذو اللّجّة ، وهي معظم الماء وغمره) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٢ وقال أبو حيان : (اللجّيّ : الكثير الماء ولجة البحر معظمه وكأن لجيّا منسوب إلى اللّجّة) البحر المحيط ٦ / ٤٤٤.

(١٩) في اللسان (لجج) : ولجّج القوم إذا وقعوا في اللّجّة. قال الله تعالى«فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ» قال الفراء : بحر لجّي ولجّيّ كما يقال : سخريّ وسخريّ ، ويقال : هذا لجّ البحر ولجّة البحر.

(٢٠) انظر البيان ٢ / ١٩٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٣.

٤٠٣

بعضهم (١) كان الضمير في «يغشاه» عائدا عليه ، وكانت الجملة حالا منه لتخصيصه (٢) بالإضافة ، أو صفة له (٣). قوله (٤) : «من فوقه موج» يجوز أن تكون هذه جملة من مبتدأ وخبر (٥) صفة ل «موج» الأول (٦) ويجوز أن يجعل الوصف الجار والمجرور فقط ، و «موج» فاعل به ، لاعتماده على الموصوف (٧) ، قوله : (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) فيه الوجهان المذكوران قبله (٨) من كون الجملة صفة ل «موج» الثاني ، أو الجار فقط.

قوله : «ظلمات». قرأ العامة بالرفع (٩) ، وفيه وجهان :

أجودهما : أن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هذه أو تلك ظلمات (١٠).

الثاني : أن يكون «ظلمات» مبتدأ ، والجملة من قوله : (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) خبره ، ذكره الحوفي (١١) وفيه نظر ، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة ، اللهم إلا أن يقال : إنها موصوفة تقديرا ، أي: ظلمات كثيرة متكاثفة (١٢) ، كقولهم : «السمن منوان بدرهم» (١٣).

وقرأ ابن كثير : «ظلمات» بالجر ، إلا أنّ البزّي روى عنه حينئذ حذف التنوين من «سحاب» فقرأ البزّيّ عنه : (سَحابٌ ظُلُماتٌ) بإضافة «سحاب» ل «ظلمات». وقرأ قنبل عه التنوين في «سحاب» كالجماعة مع جره ل (١٤) «ظلمات» (١٥). فأما رواية البزّي فقال أبو البقاء : جعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب (١٦). وأما رواية قنبل فإنه جعل «ظلمات» بدلا من «ظلمات» الأولى(١٧).

قوله : (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع أو جر على حسب القراءتين في «ظلمات» قبلها لأنها صفة لها (١٨). وجوّز الحوفي على قراءة رفع «ظلمات»

__________________

(١) وهو قول أبي علي الفارسي.

(٢) في ب : لتخصيصها. وهو تحريف.

(٣) فتكون الجملة في محل نصب إذا كانت حالا ، ومحل جر إذا كانت صفة.

(٤) قوله : سقط من ب.

(٥) في ب : وخبره.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٧٣.

(٧) انظر البيان ٢ / ١٩٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٣.

(٨) في قوله تعالى :«مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ».

(٩) عدا ابن كثير : السبعة (٤٥٧) الكشف ٢ / ١٣٩ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٣٢٥).

(١٠) انظر البيان ٢ / ١٩٧ ، التبيان ٢ / ٩٧٣. وجوّز ابن الأنباري أن يكون بدلا من «سحاب».

(١١) البرهان في علوم القرآن ٦ / ٢٥١.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

(١٣) المحذوف في هذا القول هو الرابط بين جملة الخبر وبين المبتدأ وتقديره : منوان منه ، وهذا المقدر صفة ل (منوان) ، وهو الذي سوّغ الابتداء بالنكرة.

(١٤) في ب : ك. وهو تحريف.

(١٥) السبعة (٤٥٧) ، الكشف ٢ / ١٣٩ ، النشر ٢ / ٣٣٢ ، الإتحاف (٣٢٥).

(١٦) التبيان ٢ / ٩٧٣.

(١٧) انظر التبيان ٢ / ٩٧٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

(١٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

٤٠٤

في «بعضها» أن تكون بدلا من «ظلمات» (١) ورد عليه من حيث المعنى ، (إذ المعنى) (٢) على الإخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض وصفا لها بالتّراكم ، لا أنّ المعنى أنّ بعض تلك الظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة (٣).

وفيه نظر ، إذ لا فرق بين قولك : بعض الظلمات فوق بعض ، وبين قولك : الظلمات بعضها فوق بعض ، وإن تخيّل ذلك في بادىء الرأي.

قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها). تقدم الكلام في «كاد» وأنّ بعضهم زعم أنّ نفيها إثبات وإثباتها نفي ، وتقدمت أدلة ذلك في البقرة عند قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ)(٤).

وقال الزمخشري هنا : (لم يكد يراها) مبالغة في (لم يرها) أي : لم يقرب أن يراها فضلا (عن) (٥) أن يراها ، ومنه قوله ذي الرمة :

٣٨٣٧ ـ إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (٦)

أي : لم يقرب من البراح فما باله يبرح (٧). وقال أبو البقاء : اختلف الناس في تأويل هذا الكلام ، ومنشأ الاختلاف فيه أنّ موضوع «كاد» إذا نفيت وقوع الفعل ، وأكثر المفسرين على أن المعنى : أنه لا يرى يده (٨) ، فعلى هذا في (٩) التقدير ثلاثة أوجه :

أحدها : أن التقدير : لم يرها ولم يكد ، ذكره جماعة من النحويين (١٠) ، وهذا خطأ لأن قوله : «لم يرها» جزم بنفي الرؤية ، وقوله : «لم يكد» إذا أخرجها على مقتضى الباب كان التقدير : ولم يكد يراها ، كما هو مصرّح به في الآية ، فإن أراد هذا القائل أنه لم يكد يراها وأنه يراها بعد جهد ، تناقض ، لأنه نفى الرؤية ثم أثبتها.

وإن كان معنى (١١)(لَمْ يَكَدْ يَراها) لم يرها البتّة على خلاف الأكثر في هذا الباب فينبغي أن يحمل عليه من غير أن يقدّر «لم يرها» (١٢).

__________________

(١) قال الحوفي :(«ظلمات» رفع على إضمار مبتدأ ، أي : تلك أو هي و «بعضها» بدل من «ظلمات») البرهان ٦ / ٢٥١.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٧.

(٤) [البقرة : ٧١] ، انظر اللباب ١ / ١٧٩.

(٥) عن : تكملة من الكشاف.

(٦) البيت من بحر الطويل قاله ذو الرمة وقد تقدم.

(٧) الكشاف ٣ / ٧٨ ـ ٧٩.

(٨) في ب : هذه.

(٩) في : سقط من ب.

(١٠) منهم أبو عبيدة ، انظر مجاز القرآن ٢ / ٦٧ ، والزجاج ، انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٨.

(١١) في الأصل : المعنى.

(١٢) قال الأخفش : (وقوله : «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها» حمل على المعنى ، وذلك أنه لا يراها ، وذلك أنك إذا قلت : كاد يفعل : إنما تعني قارب الفعل ولم يفعل ، فإذا قلت لم يكد يفعل كان المعنى أنه لم ـ

٤٠٥

الوجه الثاني : قال الفراء (١) : إن (كاد) زائدة (٢). وهو بعيد.

الثالث : أن «كاد» خرّجت هاهنا على معنى «قارب» والمعنى : لم (٣) يقارب رؤيتها ، وإذا لم يقاربها باعدها ، وعليه جاء قول ذي الرمة في البيت المتقدم ، أي : لم يقارب البراح ، ومن هنا حكي عن ذي الرّمة أنه لما روجع في هذا البيت قال : (لم أجد) بدل (لم يكد) (٤).

والمعنى الثاني : أنه رآها بعد جهد ، والتشبيه على هذا صحيح ، لأنه مع شدة الظلمة إذا أحدّ نظره إلى يده وقرّبها من عينه رآها (٥) انتهى.

أما الوجه الأول وهو ما ذكره أن قول الأكثرين (إنه يكون نفيها إثباتا ، فقد تقدم أنه غير صحيح ، وليس هو قول الأكثر) (٦) وإنما غرّهم في ذلك آية البقرة ، وما أنشد بعضهم :

٣٨٣٨ ـ أنحويّ (٧) هذا العصر ما هي لفظة

البيتين (٨).

__________________

ـ يقارب الفعل ولم يفعل على صحة الكلام ، وهكذا معنى هذه الآية. إلا أن اللغة قد أجازت لم يكد يفعل ، في معنى : فعل بعد شدة وليس هذا صحة الكلام ، لأنه إذا قال : كاد يفعل ، فإنما يعني قارب الفعل ، وإذا قال : لم يكد يفعل ، يقول : لم يقارب الفعل ، إلا أن اللغة جاءت على ما فسر لك ، وليس هو على صحة الكلمة) معاني القرآن ٢ / ٥٢٥ ، وقال المبرد : (فأما قول الله عزوجل «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها» فمعناه ـ والله أعلم ـ : لم يرها ولم يكد أي لم يدن من رؤيتها) المقتضب ٣ / ٧٥.

(١) لم ينسب أبو البقاء القول بزيادة (كاد) إلى الفراء ، وقد نسب ابن عادل القول بالزيادة إلى أبي بكر بن الأنباري وغيره ونسب الرضيّ في شرح الكافية الزيادة إلى الأخفش وأبو حيان في البحر إلى ابن الأنباري.

(٢) قال الرضي : (وعند الأخفش يجوز زيادة كاد) شرح الكافية ٢ / ٣٠٧ ، وقال أبو حيان (والزيادة قول ابن الأنباري) البحر المحيط ٦ / ٤٦٢.

(٣) لم : سقط من ب.

(٤) انظر ذلك في الخزانة ٩ / ٣١١ ـ ٣١٢.

(٥) التبيان ٢ / ٩٧٣ ـ ٩٧٤.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) في ب : وهو نحوي.

(٨) البيتان بتمامهما :

أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة

جرت في لساني جرهم وثمود

إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود

وهما من الطويل لأبي العلاء العمري ، وأجاب ابن مالك على هذا اللغز بقوله :

نعم هي (كاد المرء أن يرد الحمى)

فتأتي لإثبات نفسي ورود

وفي عكسها (ما كاد أن يرد الحمى)

فخذ نظمها فالعلم غير بعيد

انظر الدرر اللوامع ١ / ١١٠ وقال ابن مالك في شرح الكافية الشافية : (قد اشتهر القول بأن (كاد) إثباتها نفي ونفيها إثبات حتى جعل هذا المعنى لغزا فقيل ، وهذا اللغز للمعري :

أنحوي هذا العصر ما هي لفظة ـ

٤٠٦

وأما ما ذكره من زيادة «كاد» فهو قول أبي بكر (١) وغيره ، ولكنه مردود عندهم.

وأما ما ذكره من المعنى الثاني ، وهو أنه رآها بعد جهد ، فهو مذهب الفراء (٢) والمبرد (٣). والعجب كيف يعدل عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشري ، وهو المبالغة في نفي الرؤية (٤).

وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد «كاد» منفيّا دلّ على ثبوته ، نحو : «كاد زيد لا يقوم» ، أو مثبتا دلّ على نفيه ، نحو : «كاد زيد يقوم» وتقول : «كاد النّعام (٥) يطير» (٦) فهذا يقتضي نفي الطيران عنه ، فإذا قلت : «كاد النعام ألا يطير» وجب الطيران له ، وإذا تقدم النفي على «كاد» احتمل أن يكون موجبا وأن يكون منفيا ، تقول : «المفلوج (٧) لا يكاد يسكن» فهذا يتضمّن نفي السكون ، وتقول : «رجل منصرف لا يكاد يسكن» فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد (٨).

فصل

اعلم أن الله تعالى بين أنّ أعمال الكفار إن كانت حسنة فمثلها السراب ، وإن كانت قبيحة فهي الظلمات ، وفيه وجه آخر ، وهو أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة ، وإما كظلمات في بحر (٩) وذلك في الدنيا. وقيل : إن الآية الأولى في ذكر أعمالهم ، وأنهم لا يحصلون (١٠) منها على شيء ، والآية الثانية في ذكر عقائدهم ، فإنها تشبه الظلمات ، كما قال : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)(١١) (١٢) أي : من الكفر إلى

__________________

ـ البيتين. ومراد هذا القول (كاد). ومن زعم هذا ليس بمصيب. بل حكم (كاد) حكم سائر الأفعال في أنّ معناها منفي إذا صحبها حرف نفي ، وثابت إذا لم يصحبها ، فإذا قال قائل (كاد زيد يبكي) قارب زيد البكاء.

المقاربة ثابتة ، ونفس البكاء منتف انتفاء أبعد من انتفائه عند ثبوت المبالغة) ١ / ٤٦٦ ـ ٤٦٧.

وانظر بقية كلامه في ص ٤٧٨ ـ ٤٧٩ من نفس المرجع.

(١) تقدم.

(٢) قال الفراء : (وقال بعضهم : إنما هو مثل ضربه الله ، فهو يراها ولكنه لا يراها إلا بطيئا ، كما تقول : ما كدت أبلغ إليك وأنت قد بلغت ، وهو وجه العربية) معاني القرآن ٢ / ٢٥٥.

(٣) قال المبرد : (فأما قول الله ـ عزوجل ـ «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها» فمعناه ـ والله أعلم ـ لم يرها ولم يكد. أي : لم يدن من رؤيتها) المقتضب ٣ / ٧٥.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ٧٨.

(٥) في ب : النعيم. وهو تحريف.

(٦) في مجمع الأمثال (كاد النعام يطير) يضرب لقرب الشيء مما يتوقع منه ، لظهور بعض أماراته) ٢ / ١٦٢ ، وانظر المقتضب ٣ / ٧٤ ، الكامل ١ / ٢٥٣.

(٧) الفالج : هو داء معروف يرخّي بعض البدن ، والمفلوج صاحب الفالج. اللسان (فلج).

(٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٣ ـ ٥٢٤.

(٩) في ب : في بحر لجي.

(١٠) في الأصل : لا يخلصون.

(١١) من قوله تعالى : «اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» [البقرة : ٢٥٧].

(١٢) ما بين القوسين في الأصل : يخرجهم من النور إلى الظلمات. وهو تحريف.

٤٠٧

الإيمان ، يدل عليه قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ)(١).

فصل

وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلما جدا بسبب غور الماء ، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة ، فإذا كانت فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى ، فالواقع في قعر هذا البحر اللّجّيّ في نهاية شدة الظلمة. ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب (٢) ما يراها ، وأبعد ما يظن أنه لا يراها ، فقال تعالى : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فبين سبحانه بهذا بلوغ تلك الظلمة التي هي أقصى النهايات ، ثم شبه الكافر في اعتقاده ، وهو ضد المؤمن في قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ)(٣) وفي قوله : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ)(٤). ولهذا قال أبي بن كعب : الكافر يتقلب في خمس من الظلم : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة (٥) ، ومصيره إلى الظلمات إلى النار.

وفي كيفية هذا التشبيه وجوه :

الأول : قال الحسن : «إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر ، وظلمة الأمواج ، وظلمة السحاب ، كذا (٦) الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة العمل».

الثاني : قال ابن عباس : «شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث».

الثالث : أن الكافر لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري ، ويعتقد أنه يدري ، فهذه المراتب الثلاث تشبه تلك الظلمات الثلاث (٧).

الرابع : قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم.

الخامس : أن هذه الظلمات متراكمة ، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه (٨).

قوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

قال ابن عباس : من لم يجعل الله له دينا وإيمانا فلا دين له (٩). وقيل : من لم (١٠) يهده الله (فلا إيمان له) (١١) ولا يهديه (١٢) أحد (١٣). قال أهل السنة : إنه تعالى لما وصف

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨.

(٢) في ب : قرب.

(٣) من الآية (٢٥) من السورة نفسها.

(٤) [الحديد : ١٢].

(٥) في ب : ظلم.

(٦) في ب : كذلك.

(٧) الثلاث : سقط من ب.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٨ ـ ٩.

(٩) انظر القرطبي ١٢ / ٢٨٥.

(١٠) لم : سقط من الأصل.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) في ب : فلا.

(١٣) انظر القرطبي ١٢ / ٢٨٦.

٤٠٨

هداية المؤمن بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ)(١) ، ولما وصف ضلالة (٢) الكافر (٣) بأنها في نهاية الظلمة عقبه بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). والمراد من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد الإيمان ، وظلمة الطريق لا تمنع منه ، فإن الكل مربوط بخلق الله وهدايته وتكوينه (٤).

قال القاضي : قوله (٥) : (ومن لم يجعل الله له نورا) يعني (٦) في الدنيا بالإلطاف (فما له من نور) أي : لا يهتدي فيتحير (٧) ، وتقدم الكلام عليه.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٤٢)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية.

لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد.

والمعنى (٨) : ألم تعلم ، لأن (٩) التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب ، وهذا استفهام والمراد به: التقرير والبيان. قال ابن الخطيب : «إما أن يكون المراد من هذا التسبيح دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزها عن النقائص ، موصوفا بنعوت الجلال ، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان.

والأول أقرب ، لأن القسم الثاني متعذر ، لأن في (١٠) الأرض من لا يكون مكلفا لا يسبح بهذا المعنى ، والمكلفون منهم فمن لا يسبح أيضا بهذا المعنى كالكفار.

وأما القسم الثاني (١١) وهو أن يقال : إن من (١٢) في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح على سبيل الدلالة ، فهذا يقتضي (١٣) استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معا ، وهو غير جائز ، فلم يبق إلا

__________________

(١) من الآية (٢٥) من السورة نفسها.

(٢) في الأصل : إضلاله.

(٣) في ب : الكافرين.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩.

(٥) في ب : في قوله.

(٦) يعني : سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩.

(٨) في ب : فالمعنى.

(٩) في الأصل : أن.

(١٠) في : سقط من ب.

(١١) في النسختين : الثاني. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٢) من : سقط من ب.

(١٣) في ب : مقتضى.

٤٠٩

القسم الأول ، وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلاهيته وتوحيده وعدله ، فسمى ذلك تنزيها توسعا. فإن قيل : فالتسبيح بهذا المعنى حاصل بجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء؟ قلنا : لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه ، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر ، وهي العقل والنطق والفهم» (١).

قوله : «والطّير». قرأ العامة : «والطّير» رفعا ، «صافّات» نصبا. فالرفع عطف على «من» والنصب على الحال (٢). وقرأ الأعرج : «والطّير» نصبا على المفعول معه ، و «صافّات» حال أيضا (٣). وقرأ الحسن وخارجة عن نافع : والطير صافّات» برفعهما (٤) على الابتداء والخبر ، ومفعول «صافّات» محذوف ، أي : أجنحتها.

قوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ) في هذه الضمائر أقوال :

أحدها : أنّها كلّها عائدة على «كلّ» (٥) ، أي : كلّ قد علم هو صلاة نفسه وتسبيحها ، وهذا أولى لتوافق الضمائر.

الثاني : أن الضمير في «علم» عائد إلى الله تعالى ، وفي (صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) عائد على «كلّ» ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ).

الثالث : بالعكس ، أي : علم كلّ صلاة الله وتسبيحه ، أي : اللذين أمر بهما وبأن يفعلا ، كإضافة الخلق إلى الخالق (٦) ، وعلى هذا فقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ) استئناف.

ورجّح أبو البقاء ألّا يكون الفاعل ضمير «كلّ» قال : «لأنّ القراءة برفع (كلّ) على الابتداء فيرجع ضمير الفاعل إليه ، ولو كان فيه ضمير الله (٧) لكان الأولى نصب (كلّ) لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك : (زيدا ضرب عمرو وغلامه) فتنصب (زيدا) بفعل دلّ عليه ما بعده ، وهو أقوى من الرفع ، والآخر جائز» (٨). قال شهاب

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ٩ ـ ١٠.

(٢) أي أن «الطير» بالرفع عطف على «من» و «صافات» بالنصب على الحال. انظر التبيان ٢ / ٩٧٤ البحر المحيط ٦ / ٤٦٣.

(٣) المختصر (١٠٢) ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٣.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٣.

(٥) جوّز الزمخشري عود الضمير على «كل» أو لفظ الجلالة. قال : (والضمير في «علم» ل «كل» أو «الله» كذلك في «صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ») الكشاف ٣ / ٧٩ ، وانظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٢.

(٦) قال الفراء : (وقوله : «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» ترفع كلّا بما عاد إليه من ذكره ، وهي الهاء في «صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» وإن شئت جعلت العلم لكل أي كل قد علم صلاته وتسبيحه ، فإن شئت جعلت الهاء صلاة نفسه وتسبيحها ، وإن شئت تسبيح الله وصلاته التي نصليها له وتسبيحها ، وفي القول الأول : كل قد علم الله صلاته وتسبيحه) معاني القرآن ٢ / ٢٥٥. وانظر أيضا البحر المحيط ٦ / ٤٦٣.

(٧) في ب : اسم الله.

(٨) التبيان ٢ / ٩٧٤.

٤١٠

الدين : وليس كما ذكر من ترجيح النصب على الرفع في هذه الصّورة ولا في هذه السورة (١) ، بل نصّ النحويون على أنّ مثل هذه الصورة يرجّح رفعها بالابتداء على نصبها (٢) على الاشتغال ، لأنه لم يكن ثمّ قرينة من القرائن التي جعلوها مرجحة للنصب ، والنصب (٣) يحوج إلى إضمار ، والرفع لا يحوج إليه ، فكان أرجح (٤). وقرأت فرقة : «علم صلاته وتسبيحه» بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله. ذكرها أبو (٥) حاتم (٦).

فصل

وجه اتصال هذا بما قبله (٧) أنه تعالى لما ذكر أن أهل السموات والأرض يسبحون ، ذكر المستقرين في الهواء (٨) الذي هو بين السماء والأرض ، وهم الطير يسبحون ، وذلك أن إعطاء (٩) الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه ، وجعل طيرانها سجودا منها له سبحانه ، وذلك يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه (لا النطق) (١٠) اللساني (١١). وقال (١٢) أبو ثابت : «كنت جالسا عند أبي جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ (قال : لا) (١٣) قال : فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن». واستبعد المتكلمون ذلك(١٤) فقالوا (١٥) : الطير لو كانت عارفة بالله لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا ، لكنها ليست كذلك ، فإنا نعلم بالضرورة بأنها أشد نقصانا من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور ، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى ، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله استحال كونها مسبحة له بالنطق ، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال كما تقدم (١٦). قال بعض العلماء : إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء ، وإذا كان كذلك (فلم لا) (١٧) يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه (١٨) وتسبيحه؟ وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه :

__________________

(١) في ب : الصورة. وهو تحريف.

(٢) في ب : نصبهما.

(٣) في ب : فالنصب.

(٤) الدر المصون ٥ / ١١٢ ـ ١١٣.

(٥) في ب : ابن. وهو تحريف.

(٦) نسب ابن خالويه هذه القراءة إلى قتادة قال :(«كل قد علم صلاته» ما لم يسم فاعله قتادة) المختصر (١٠٢) ، وانظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٦.

(٧) في ب : هذه بما قبلها.

(٨) في الأصل : الهوى.

(٩) في ب : أعضاء.

(١٠) ما بين القوسين في ب : والنطق. وهو تحريف.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠.

(١٢) في ب : قال.

(١٣) قال لا : تكملة من الفخر الرازي.

(١٤) في ب : بذلك.

(١٥) في ب : فقال.

(١٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠ ـ ١١.

(١٧) ما بين القوسين في ب : ولا.

(١٨) ودعاءه : سقط من ب.

٤١١

أحدها : أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه ، وربما عاود (١) يشمه (٢) ويتحسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه تعريضا بالواحد وصدمة بالأخرى ، ثم ينفخ فيه فيدرأ قشره ويتغذى به ، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة.

وثانيها : أمر النحل وما لها من الرياسة والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين.

وثالثها : انتقال الكراكيّ (٣) من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلبا لما يوافقها من الأهوية ، ويقال : من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتا ما ، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق (٤) الفهد عمد إلى زبل الإنسان ليأكله ، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال له : القطقاط وينظف ما بين أسنانها ، وعلى رأس (٥) ذلك الطائر كالشوكة ، فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من تلك الشوكة ، فيفتح فاه ، فيخرج ذلك الطائر ، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعترا (٦) جبليا ثم تعود من ذلك (٧). وحكى بعض الثقاة (٨) المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ، ولا تزال كذلك ، وكان ذلك الشخص قاعدا في كن ، وكانت البقلة قريبة من مسكنه ، فلما اشتغل الحبارى قلع البقلة ، فعاد الحبارى إلى منبتها فلم يجدها ، وأخذ يدور حول منبتها دورانا متتابعا حتى خرّ ميتا ، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة ، وتلك البقلة هي الجرجير (٩) البري.

وابن عرس (١٠) يستظهر في الحية أكل السّذاب (١١) ، فإن النكهة السذابية تنفر عنها الأفعى.

والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح. وإذا جرحت اللقالق (١٢) بعضها

__________________

(١) في ب : عاد.

(٢) في ب : ويشمه.

(٣) الكراكيّ : جمع الكركيّ طائر. اللسان (كرك).

(٤) في ب : بخالق. وهو تحريف.

(٥) رأس : سقط من ب.

(٦) في ب : سعترا. الصعتر : من البقول. قال ابن سيده : هو ضرب من النبات واحدته صعترة. اللسان (صعتر).

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١.

(٨) في ب : التفات.

(٩) في النسختين : الجور. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٠) ابن عرس : دوبية معروفة دون السّنور ، أشتر أصلم أصكّ له ناب ، والجمع بنات عرس ذكرا كان أو أنثى معرفة ونكرة. اللسان (عرس).

(١١) السذاب : جنس نباتات طبية من الفصيلة السذابية ، له رائحة قوية خاصة. المعجم الوسيط (سذب).

(١٢) اللقلاق : طائر من الطيور القواطع وهو كبير طويل الساقين والعنق والمنقار أحمر الساقين والرجلين والمنقار. المعجم الوسيط (لقلق).

٤١٢

بعضا دوات (١) الجراحة بالصعتر (٢) الجبلي. والقنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها ، وكان رجل بالقسطنطينية (٣) قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها ، وينتفع الناس بإنذاره ، وكان السبب فيه قنفذ في داره يفعل الصنيع المذكور ، فيستدل به.

والخطّاف (٤) صانع (٥) في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب لتحمل جناحاه قدرا (٦) من الطين ، وإذا فرّخ بالغ في تعهد الفراخ ، وتأخذ ذرقها (٧) بمنقارها وترميها عن العش ، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة (٨) ظهرت له القبحة وقربت مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب الفراخ. وناقر الخشب قلما يقع على الأرض ، بل على الشجر ينقر الموضع يعلم أن فيه دودا. والغرانيق (٩) تصعد في الجو عند الطيران ، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب (١٠) أو ضباب أحدثت (١١) عن أجنحتها حفيفا مسموعا يتبع به بعضهم بعضا ، فإذا (١٢) باتت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلّا القائد (١٣) فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه ، وإذا سمع جرسا صاح. وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضا أمر عجيب ، وإذا كشف عن بيوتهم الساتر الذي كان يستره وكان تحته بيض لهم ، فإن كلّ نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت.

والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب «طبائع الحيوان» (١٤). والمقصود من

__________________

(١) في الأصل : دوات.

(٢) في ب : بالصقر.

(٣) القسطنطينية : هي بيزنطية القديمة أعاد بناءها قسطنطين الكبير ودعاها القسطنطينية مقر الامبراطور ، وأصبحت عاصمة العثمانيين عندما دخلها محمد الفاتح. المنجد ٤٣٩.

(٤) الخطّاف : طائر ، ابن سيدة : والخطاف العصفور الأسود ، وهو الذي تدعوه العامة عصفور الجنة ، وجمعه خطاطيف ، قال ابن الأثير : الخطّاف : الطائر المعروف. اللسان (خطف) وفي ب : وللخطاف.

(٥) في الأصل : صناع. وفي ب : صنائع.

(٦) في الأصل : قدا. وهو تحريف.

(٧) ذرق الطائر : خرؤه ، وذرق الطائر يذرق ويذرق ذرقا وأذرق : خذق بسلحه وذرق. والخرء بالضم : العذرة. اللسان (ذرق ، خرأ).

(٨) القبج : الحجل ، والقبج : الكروان ، معرب ، والقبجة تقع على الذكر والأنثى حتى تقول يعقوب فيختص بالذكر ، لأن الهاء إنما دخلته على أنه الواحد من الجنس. اللسان (قبج).

(٩) الغرانيق جمع الغرنوق ، والغرنيق : طائر أبيض ، وقيل : هو طائر أسود من طير الماء طويل العنق.

اللسان (غرنق).

(١٠) في ب : سحابا.

(١١) في النسختين : أخذت.

(١٢) في ب : وإذا.

(١٣) في ب : العابد. وهو تحريف.

(١٤) طبائع الحيوان لابن بختيشوع الطبيب أبو عبد الله بن جبرئيل المتوفى سنة ٤٥١. كشف الظنون ٢ / ١٠٩١.

٤١٣

ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال : إنها تسبح الله وتثني عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس (١) ، ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(٢). ثم قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ).

قرأ الجمهور بالياء من تحت على المبالغة في وصف قدرة الله تعالى وعلمه بخلقه (٣).

وقرأ عيسى والحسن بالتاء من فوق ، ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى (٤) وفي مصحف أبيّ وابن مسعود : «والله بصير بما تفعلون» (٥).

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تنبيه على أن الكل منه ، لأن كل ما سواه ممكن ومحدث ، والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب ، ويدخل في هذا جميع الأجرام والأعراض ، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم (٦).

وقوله : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) وهذا دليل على المعاد ، وأنه (٧) لا بدّ من مصير الكل إليه (٨).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(٤٤)

وهذه الرؤية بصرية. والإزجاء : السوق قليلا قليلا ، ومنه البضاعة المزجاة (٩) التي يزجيها كل أحد ، وإزجاء السير في الإبل : الرفق بها حتى تسير شيئا شيئا (١٠).

قوله : «بينه» إنما دخلت «بين» على مفرد ، وهي إنّما تدخل على مثنى فما فوقه ، لأنّه إما أن يراد بالسحاب : الجنس ، فعاد الضمير عليه على حكمه ، وإما أن يراد حذف مضافه أي : بين قطعه ، فإن كل قطعة سحابة (١١). قال (١٢) ابن عطية : بين مفترق السحاب ، لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجا (١٣). وورش عن نافع لا يهمز

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١١ ـ ١٢.

(٢) من قوله تعالى : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» [الإسراء : ٤٤].

(٣) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٦.

(٤) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٤ ، الإتحاف (٣٢٥).

(٥) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٦.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢.

(٧) في ب : فإنه.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٢.

(٩) في الأصل : المزجات.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣ ، اللسان (زجا).

(١١) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٥٦ ، التبيان ٢ / ٩٧٤.

(١٢) في ب : وقال.

(١٣) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٧.

٤١٤

«يؤلّف». وقالون عن نافع والباقون يهمزون «يؤلّف» (١).

قوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي : متراكما يركب (٢) بعضها على البعض ويتكاثف ، والعرب تقول: إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاما بالريح عصر (٣) بعضه بعضا فخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً)(٤) ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت :

٣٨٣٩ ـ كلتاهما حلب العصير فعاطني

بزجاجة (٥) أر(٦)خاهما للمفصل (٧)

وروي : «للمفصل» بكسر الميم وفتح الصاد. فالمفصل : واحد المفاصل. والمفصل : اللسان. وروي بالقاف. أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت ، أي : من عصير العنب ، وهذه من عصير السحاب ، نقله ابن عطية (٨). وقال أهل الطبائع : إن تكوين (٩) السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار ، وفي الأقل من تكاثف الهواء.

أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلا وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء ، وإن كان البخار كثيرا ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ.

فإن بلغت فإما أن يكون البرد قويا أو لا يكون. فإن لم يكن البرد هنا قويا تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد واجتمع وتقاطر ، فالبخار المجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر ، والديمة (١٠) والوابل (١١) إنما يكون من أمثال هذه الغيوم. وإن كان البرد شديدا فلا يخلوا إما أن يصل البرد إلى الأجزاء (١٢) البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبار أو بعد صيرورتها كذلك. فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجا. وإن كان على الوجه الثاني نزل بردا فإن لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فإما أن تكون كثيرة أو قليلة.

__________________

(١) السبعة (٤٥٧) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٤.

(٢) في ب : نزلت. وهو تحريف.

(٣) في ب : يعصر.

(٤) [النبأ : ١٤].

(٥) في النسختين : زجاجة.

(٦) مكان (أر) بياض في الأصل.

(٧) البيت من بحر الطويل قاله حسان بن ثابت ، وهو في ديوانه ١٢٤ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٩ اللسان (فصل) العصير : ما تعصر من الشيء أو تحلب منه عند عصره ، الحلب : المحلوب وحلب العصير : الخمر ، يطلب منه أن يقدم له خمرا خالصة غير ممزوجة ، لأنها هي التي تؤثر فيه.

(٨) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٢٧ ـ ٥٢٨.

(٩) في ب : تكون من.

(١٠) الدّيمة : المطر الذي ليس فيه رعد ولا برق ، أقله ثلث النهار أو ثلث الليل ، وأكثره ما بلغ من العدة ، والجمع ديم. اللسان (ديم).

(١١) الوبل والوابل : المطر الشديد الضّخم القطر. اللسان (وبل) وفي ب : الوابلي.

(١٢) في ب : الاجزاه.

٤١٥

فإن كانت كثيرة فقد تنعقد سحابا ماطرا ، وقد لا تنعقد. أما الأول فلأسباب خمسة :

أحدها : إذا منع (١) هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة.

وثانيها : أن تكون الرياح (ضاغطة (٢)) (٣) إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام (٤) الريح.

وثالثها : أن تكون هناك رياح (٥) متقابلة متصادمة فتعود الأبخرة حينئذ.

ورابعها : أن يعرض للبخار المتقدم وقوف (٦) لثقله وبطء حركته يلتص (٧) به سائر الأجزاء الكثيرة المدد.

وخامسها : لشدة برد الهواء القريب من الأرض ، وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعودا يسيرا حتى كأنه مكبة (٨) موضوعة على وهدة (٩) ، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة ، والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون ، والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس.

فإن (١٠) كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة ، فإذا مر بها برد الليل وكثفها ، فإنها تصير ماء محبوسا ينزل أولا متفرقا لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به ، فإن لم يجمد كان طلّا ، وإن جمد كان صقيعا ، ونسبة الصقيع إلى الطل (١١) نسبة الثلج إلى المطر.

والجواب (أنّا دللنا على) (١٢) حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادرا مختارا يمكنه إيجاد الأجسام ، ، فلا نقطع بما ذكرتموه (لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه) (١٣) وأيضا فهب أن الأمر كما ذكرتم ، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر ، ثم إنها متماثلة ، فاختصاص كل واحد منها بصفته (١٤) المعينة من الصعود والهبوط واللطافة (١٥) والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص ، فإذا كان هو سبحانه خالقا لتلك الطبائع ، فتلك الطبائع في هذه الأحوال لا بد لها من سبب ، وخالق السبب خالق المسبب ، فكان سبحانه هو الذي يزجي سحابا ، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك (١٦) الأبخرة من باطن الأرض إلى جو (١٧) الهواء ، ثم تلك الأبخرة

__________________

(١) في ب : امنتع.

(٢) ما بين القوسين بياض في الأصل.

(٣) ما بين القوسين في ب : عن تصاعد تلك الأبخرة وثانيها.

(٤) في ب : حال أقدام. وهو تحريف.

(٥) في ب : أن تكون الرياح.

(٦) في ب : وفوق. وهو تحريف.

(٧) في ب : ويلتصق.

(٨) في النسختين : يليه. والتصويب من الفخر الرازي. المكبّ : ما يلف عليه الغزل ، وجمعه مكبات ، ومكاب. المنجد (كبب).

(٩) الوهد والوهدة : المطمئن من الأرض ، والمكان المنخفض كأنه حفرة. اللسان (وهد).

(١٠) في ب : وإن.

(١١) في ب : الظل. وهو تصحيف.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٤) في ب : لصفته.

(١٥) واللطافة : سقط من ب.

(١٦) في ب : لفلك.

(١٧) في ب : جوا. وهو تحريف.

٤١٦

ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض ، فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاما ، فعلى جميع التقديرات توجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة (١).

قوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ). تقدم الخلاف في «خلال» هل هو مفرد كحجاب أم جمع كجبال جمع «جبل» (٢)؟ ويؤيد الأول قراءة ابن مسعود والضحاك ـ وتروى عن أبي عمرو أيضا ـ «من خلله» بالإفراد (٣) وقرأ عاصم والأعرج : «ينزّل» على المبالغة.

والجمهور على التخفيف (٤). والودق : قيل : هو المطر ضعيفا كان أو شديدا (٥) ، قال :

٣٨٤٠ ـ فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٦)

وقيل : هو البرق (٧) ، وأنشد :

٣٨٤١ ـ أثرن عجاجة وخرجن منها

خروج الودق من خلل السّحاب (٨)

والودق في الأصل مصدر ، يقال : «ودق السحاب يدق ودقا» (٩) و (١٠) «يخرج» حال ، لأن الرؤية بصرية.

قوله : (مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ). «من» الأولى لابتداء الغاية اتفاقا ، لأن ابتداء الإنزال من السماء. وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها (١١) : أنها لابتداء الغاية أيضا فهي ومجرورها بدل من الأولى بإعادة العامل ، والتقدير : وينزّل من جبال السماء ، أي : من جبال فيها ، فهو بدل اشتمال (١٢).

الثاني : أنها للتبعيض ، قاله الزمخشري (١٣) وابن عطية (١٤) ، لأن جنس تلك الجبال

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٣ ـ ١٥.

(٢) ذكر ابن عادل في سورة التوبة عند قوله تعالى : «وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ» من الآية (٤٧) أن الخلال جمع خلل وهو الفرجة بين الشيئين ويستعار في المعاني ، فيقال : في هذا الأمر خلل. انظر اللباب ٤ / ٢١٩ ، وذكر في الإسراء عند قوله تعالى : «خِلالَ الدِّيارِ» من الآية (٥) في الخلال وجهين أحدهما : أنه اسم مفرد بمعنى وسط ، ويؤيده قراءة الحسن «خلل الديار». والثاني : أنه جمع (خلل) بفتحتين كجبل وجبال وجمل وجمال. انظر اللباب ٥ / ٢٤٨.

(٣) انظر المختصر (١٠٢) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٦٤.

(٤) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٠.

(٥) اللسان (ودق).

(٦) البيت من بحر المتقارب قاله عامر بن جوين الطائي ، وقد تقدم.

(٧) وهو قول الأشهب العقيلي. البحر المحيط ٦ / ٤٤٤.

(٨) البيت من بحر الوافر نسبه أبو عبيدة وابن منظور لزيد الخيل ، انظر اللسان (ودق).

(٩) اللسان (ودق).

(١٠) و : سقط من ب.

(١١) في ب : أحدها : أنها اتفاقا لأن ابتداء الانزال من السماء وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه أحدها.

(١٢) انظر الكشاف ٣ / ٧٩ ، والتبيان ٢ / ٩٧٥.

(١٣) قال الزمخشري : (الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض) الكشاف ٣ / ٧٩.

(١٤) قال ابن عطية : (و «من» في قوله تعالى : «مِنَ السَّماءِ» هي لابتداء الغاية ، وفي قوله : «من جبال» هي ـ

٤١٧

من جنس البرد ، فعلى هذا هي ومجرورها في موضع مفعول الإنزال ، كأنه قال : وينزل بعض جبال.

الثالث (١) : أنها زائدة ، أي : ينزل من السماء جبالا (٢).

وقال الحوفي : (من جبال) بدل من الأولى ، ثم قال : «وهي للتبعيض» (٣).

ورده أبو حيان بأنه لا تستقيم البدلية إلا بتوافقهما معنى ، لو قلت : خرجت من بغداد من (٤) الكرخ (٥) ، لم تكن الأولى والثانية إلا لابتداء الغاية (٦).

وأما الثالثة ففيها أربعة أوجه :

الثلاثة المتقدمة ، والرابع : أنها لبيان الجنس ، قاله الحوفي (٧) والزمخشري (٨). فيكون التقدير على قولهما وينزّل من السماء بعض جبال التي هي البرد ، فالمنزّل برد (٩) ، لأنّ بعض البرد برد ، ومفعول «ينزّل» : هو (١٠) من جبال (١١) كما تقدم تقريره.

وقال (١٢) الزمخشري : «أو الأوليان للابتداء ، والثالثة للتبعيض» (١٣) يعني : أنّ الثانية (١٤) بدل من الأولى كما تقدم تقريره ، وحينئذ يكون مفعول «ينزّل» هو الثالثة مع مجرورها (١٥) ، التقدير : وينزّل بعض برد من السماء من جبالها. وإذا قيل بأن الثانية

__________________

ـ للتبعيض) تفسير ابن عطية ١٠ / ٥٣٠. وقال بهذا أيضا ابن الأنباري. البيان ٢ / ١٩٨.

(١) في ب : الثاني. وهو تحريف.

(٢) قال الأخفش :(«ينزّل من السّماء من جبال فيها من برد» ، وهو فيما فسر «ينزّل من السّماء جبالا فيها برد») معاني القرآن ٢ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥. فهو يرى زيادة «من» الثانية والثالثة وانظر أيضا البيان ٢ / ١٩٨ ، التبيان ٢ / ٩٧٥.

(٣) البرهان في علوم القرآن ٦ / ٢٥٧.

(٤) في ب : ومن. وهو تحريف.

(٥) الكرخ : سوق ببغداد ، نبطية. اللسان (كرخ).

(٦) قال أبو حيان : (وهذا خطأ ، لأن الأولى لابتداء الغاية فيما دخلت عليه ، وإذا كانت الثانية بدلا لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية لو قلت : خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معا لابتداء الغاية) البحر المحيط ٦ / ٤٦٤.

(٧) قال الحوفيّ : (والثالثة في موضع نصب على البيان) ثم قال : (والثالثة لبيان الجنس) البرهان في علوم القرآن ٦ / ٢٥٧.

(٨) قال الزمخشري : (والثالثة للبيان) الكشاف ٣ / ٧٩ ، وقال بهذا مكي. مشكل إعراب القرآن ٢ / ١٢٤ ، وابن الأنباري. البيان ٢ / ١٩٨ وقد سبقهم إلى هذا الأخفش حيث ذكر رأيا لغيره قال : (وقال بعضهم : «وينزّل من السّماء من جبال فيها من برد» أي في السماء جبال من برد ، أي : يجعل الجبال من برد في السماء ، ويجعل الإنزال منها) معاني القرآن ٢ / ٤٦٥ فعلى هذا يكون (من) الثانية زائدة ، والثالثة لبيان الجنس.

(٩) في ب : يقتضي البرد.

(١٠) في النسختين : يرد. والصواب ما أثبته.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٤.

(١٢) في ب : قاله. وهو تحريف.

(١٣) الكشاف ٣ / ٧٩.

(١٤) في النسختين : الخلاف.

(١٥) في النسختين : مجروره.

٤١٨

والثالثة زائدتان ، فهل مجرورهما في محل نصب والثاني بدل من الأول ، والتقدير : وينزّل من السّماء جبالا بردا ، فيكون بدل كل من كل أو بعض من كل ، أو الثاني في محل نصب مفعولا ل «ينزّل» ، والثالث(١) في محل رفع على الابتداء وخبره الجار قبله؟ خلاف ، الأول قول الأخفش (٢) ، والثاني قول الفراء (٣) ، وتكون الجملة على قول الفراء صفة ل «جبال» ، فيحكم (٤) على موضعها بالجر اعتبارا باللفظ ، أو بالنصب اعتبارا بالمحل. ويجوز أن يكون «فيها» وحده هو الوصف ، ويكون «من برد» فاعلا به (٥) لاعتماده ، أي استقر فيها برد (٦). وقال الزجاج : «معناه : وينزّل من السماء من جبال برد فيها ، كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي : خاتم حديد في يدي ، وإنما جئت في هذا وفي الآية ب «من» لما فرّقت (٧) ، ولأنك إذا قلت : هذا خاتم من حديد (٨) ، وخاتم حديد ، كان المعنى واحدا» (٩) انتهى.

فيكون (مِنْ بَرَدٍ) في موضع جرّ صفة ل «جبال» كما (١٠) كان (مِنْ حَدِيدٍ) صفة ل «خاتم» ، ويكون مفعول : «ينزّل» : (مِنْ جِبالٍ) ، ويلزم من كون الجبال بردا أن يكون المنزّل بردا (١١).

وقال أبو البقاء : والوجه الثاني : أن التقدير : شيئا من جبال ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة. وهذا الوجه هو الصحيح ، لأن قوله : (فِيها مِنْ بَرَدٍ) يحوجك إلى مفعول يعود (١٢) الضمير إليه ، فيكون تقديره : وينزّل من جبال السماء جبالا فيها برد ، وفي ذلك زيادة حذف وتقدير (١٣) مستغنى عنه (١٤). وفي كلامه نظر ، لأن الضمير له شيء يعود عليه وهو «السّماء» ، فلا حاجة إلى تقدير شيء آخر ، لأنه مستغنى عنه ، وليس ثمّ مانع يمنع من عوده على «السّماء».

وقوله آخرا : وتقدير (١٣) يستغنى عنه ينافي قوله (١٥) : وهذا الوجه هو الصحيح.

__________________

(١) في ب : والثاني. وهو تحريف.

(٢) قال الأخفش : (وهو فيما فسر : ينزل من السماء جبالا فيها برد) معاني القرآن ٢ / ٤٦٤ ، ٤٦٥.

(٣) قال الفراء : (قوله : «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» والمعنى ـ والله أعلم ـ أن الجبال في السماء من برد خلقة مخلوقة ، كما تقول في الكلام : الآدمي من لحم ودم ، ف «من» ههنا تسقط فتقول : الآدميّ لحم ودم ، والجبال برد) معاني القرآن ٢ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٤) في ب : محكم.

(٥) به : سقط من ب.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٤.

(٧) في ب : فرغت. وهو تحريف.

(٨) في ب : هذا خاتم في يدي من حديد.

(٩) انظر معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٩ ، بتصرف ، والنص بلفظه من البحر المحيط ٦ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

(١٠) في ب : كان. وهو تحريف.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(١٢) يعود : سقط من ب.

(١٣) في النسختين : وتقديره. والتصويب من التبيان.

(١٤) التبيان ٢ / ٩٧٥.

(١٣) في النسختين : وتقديره. والتصويب من التبيان.

(١٥) في ب : ينافي كونه قوله.

٤١٩

والضمير في «به» (١) يجوز أن يعود على البرد وهو الظاهر ، ويجوز أن يعود على الودق والبرد معا جريا بالضمير مجرى اسم الإشارة ، كأنه قيل : فيصيب بذلك (٢) ، وقد تقدم نظيره.

فصل

قال ابن عباس : أخبر الله أن في السماء جبالا من برد ، ثم ينزل منها ما شاء وهو قول أكثر المفسرين. وقيل : المراد بالسماء هو الغيم المرتفع ، سمي بذلك لسموه وارتفاعه ، وأنه تعالى أنزل من الغيم الذي هو سماء البرد. وأراد بقوله : «من جبال» : السحاب العظام ، لأنها إذا عظمت شبهت بالجبال ، كما يقال : فلان يملك جبالا من مال ، ووصف بذلك توسعا.

وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله في السحاب ، ثم أنزل إلى الأرض. وقال بعضهم : إنما سمي ذلك الغيم جبالا لأنه سبحانه خلقها من البرد ، وكل جسم متحجر فهو من الجبال ، ومنه قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)(٣). قال المفسرون : والأول أولى ، لأنّ السماء اسم لهذا الجسم المخصوص ، فتسمية السحاب سماء (٤) بالاشتقاق مجاز ، وكما يصح أن يجعل الماء في السحاب ثم ينزله بردا ، فقد يصح في القدرة جعل هذين الأمرين في السماء ، فلا وجه لترك الظاهر (٥).

قوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي : بالبرد من يشاء فيهلك زرعه وأمواله (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أي : يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقطه عليه (٦).

قوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ). العامة على قصر (٧) «سنا» وهو الضوء ، وهو من ذوات الواو ، يقال : سنا يسنو سنا ، أي أيضاء يضيء (٨) ، قال امرؤ القيس :

٣٨٤٢ ـ يضيء سناه أو مصابيح راهب (٩)

__________________

(١) في ب : أنه. وهو تحريف.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٦٥.

(٣) من قوله تعالى : «وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ» [الشعراء : ١٨٤].

(٤) في ب : السماء سحابا.

(٥) انظر هذا الفصل في الفخر الرازي ٢٤ / ١٤ ـ ١٥.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٥.

(٧) في ب : قصد. وهو تحريف.

(٨) يضيء : سقط من ب.

(٩) صدر بيت من بحر الطويل ، قاله امرؤ القيس ، وهو من معلقته المشهورة ، وعجزه :

أهان السّليط في الذّبال المفيّل

وهو في ديوانه : (٢٤) ، شرح المعلقات السبع للزوزني (٥٥) والسبع الطوال لابن الأنباري (١٠٠) والبحر المحيط ٦ / ٤٤٤ ، شرح شواهد الشافية ٤ / ٣٩ ـ ٤٠. السنا : مقصور ، ومعناه الضوء ، وهو موطن الشاهد هنا. والضمير في (سناه) يعود على البرق في البيت السابق ، وهو قوله :

أحار ترى برقا كأنّ وميضه

كلمع اليدين في حبيّ مكلّل

السليط : الزيت. الذّبال جمع ذبالة ، وهي الفتيلة.

٤٢٠