اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

شهداء» قال عاصم بن عدي الأنصاري (١) : إن دخل رجل منا بيته فرأى رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن قتله قتل به ، وإن قال : وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب ، وإن سكت سكت عن غيظ ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له: عويمر (٢) ، وله امرأة يقال لها : خولة بنت قيس ، فأتى عويمر عاصما فقال : لقد رأيت شريك بن سحماء (٣) على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله ، ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «وما ذاك»؟ فقال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة ، فدعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهم جميعا ، فقال لعويمر : «اتق الله في زوجتك وابنة عمك ، ولا (٤) تقذفها» فقال : يا رسول الله ، تالله (٥) لقد رأيت شريكا على بطنها ، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ، وإنها حبلى من غيري. فقال لها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «اتّقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت» فقالت : يا رسول الله ، إن عويمر رجل غيور ، وإنه رأى شريكا يطيل النظر ويتحدث ، فحملته الغيرة على ما قال ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٦) بأن يؤذّن : الصلاة جامعة ، فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم وقل : أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثانية : أشهد أني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثالثة : أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الرابعة قل(٧) أشهد بالله أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الخامسة : لعنة الله على عويمر (يعني : نفسه) إن كان من الكاذبين. ثم قال : اقعد ، وقال لخولة : قومي ، فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين ، وقالت في الثانية : أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الثالثة : أشهد بالله ما أنا حبلى منه وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الرابعة : أشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه من الكاذبين ، وقالت (٨) في الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله ، ففرق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بينهما (٩).

وفي رواية عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

__________________

(١) هو عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان الأوسي الأنصاري ، يكنى أبا عبد الله ، كان سيد بني العجلان ، شهد المشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مات سنة ٤٥ ه‍. تهذيب التهذيب ٥ / ٤٩ ، أسد الغابة ٣ / ١١٤.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : سمحاء. وهو تحريف.

(٤) في ب : لا.

(٥) تالله : سقط من ب.

(٦) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٧) قل : سقط من ب.

(٨) في ب : وقال. وهو تحريف.

(٩) انظر البغوي ٦ / ٦٣ ـ ٦٤ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

٣٠١

بشريك بن سحماء (١) ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «البينة وإلا حدّ في ظهرك». فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ، فجعل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «البينة وإلّا حدّ في ظهرك». فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد ، فنزيل جبريل ـ عليه‌السلام (٢) ـ وأنزل عليه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) فقرأ حتى بلغ (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فانصرف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب»؟. ثم قامت فشهدت ، فلما كانت (٣) عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة (٤).

قال ابن عباس : فتلكأت (٥) ونكصت (٦) حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت ، وقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أبصروها ، فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ، حدلج الساقين (٧) فهو لشريك بن سحماء. فجاءت به كذلك ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لو لا ما مضى من كتاب الله ـ عزوجل ـ لكان لي ولها شأن» (٨).

وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) الآية قال سعد بن عبادة (٩) : لو أتيت لكاع (١٠) وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة ـ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا معشر الأنصار ، ألا تسمعون ما يقول سيّدكم».

قالوا : لا تلمه فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها. قال سعد : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ، ولكن عجبت من ذلك ، فقال عليه‌السلام (١١) : «فإنّ الله يأبى إلّا ذلك». فقال : صدق (١٢) الله ورسوله ، قال : فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له : هلال بن أمية (من حديقة له) (١٣) ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، فرأى

__________________

(١) في ب : سيحاء. وهو تحريف.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) في الأصل : كان.

(٤) أي : الشهادة الخامسة موجبة للعذاب الأليم إن كانت كاذبة. انظر البخاري (تفسير) ٢ / ١٦٢ ، جامع البيان ١٨ / ٦٦ ، وابن كثير ٣ / ٢٦٦ ، الدر المنثور ٥ / ٢٢.

(٥) تلكأت : توقفت وتبطأت.

(٦) نكص عن الأمر ينكص وينكص نكصا ونكوصا : أحجم. اللسان (نكص).

(٧) خدلج الساقين : عظيمهما ، وقيل : الضخمة الساقين. اللسان (خدلج).

(٨) انظر البغوي ٦ / ٦٠ ـ ٦١ ، الدر المنثور ٥ / ٢٢.

(٩) تقدم.

(١٠) لكاع : المرأة اللئيمة الخبيثة اللسان (لكع).

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) صدق : سقط من ب.

(١٣) ما بين القوسين في ب : بن حذيفة. وهو تحريف.

٣٠٢

رجلا مع امرأته يزني بها ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو جالس مع أصحابه ، فقال : يا رسول الله ، إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع امرأتي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما جاء به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم إني لصادق ، وما قلت إلا حقا ، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا ، فهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بضربه ، قال : واجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال سعد ، يجلد هلال وتبطل شهادته ، فإنهم لكذلك ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ ، فأنزل الله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ...) إلى آخر الآيات». فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أبشر يا هلال ، فإنّ الله قد جعل لك فرجا». فقال : كنت أرجو ذلك من الله ـ عزوجل ـ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أرسلوا إليها» فجاءت فكذبت هلال. فقال عليه‌السلام (١) : «الله يعلم أنّ أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب»؟ وأمر بالملاعنة ، وشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقال عليه‌السلام (٢) له عند الخامسة : «اتّق الله يا هلال ، فإنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة». فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله ، وشهد الخامسة : أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أتشهدين»؟ فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، ثم قال لها عند الخامسة ووقفها (٣) : «اتقي الله فإنها الخامسة الموجبة ، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس». فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصّادقين. ففرق رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بينهما ، وقضى أن الولد لها ، ولا يدعى لأب ، ولا يرمى ولدها ، ثم قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها ، وإن جاءت به كذا وكذا فهو للّذي قيل فيه». فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق (٤) ، على التشبيه المكروه ، وكان بعد أميرا بمصر ولا يدرى من أبوه (٥).

فصل

إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة ، والتعزير إن لم تكن محصنة ، كما في رمي الأجنبي ، إلا أن قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف ، أو ببينة أربعة شهداء على الزنا.

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) ووقفها : سقط من ب.

(٤) الأورق من كل شيء : ما كان لونه لون الرماد ، ومن الناس : الأسمر ومن الإبل : ما في لونه بياض إلى سواد. المعجم الوسيط (ورق).

(٥) أخرجه الطبري ١٨ / ٦٥ وانظر البغوي ٦ / ٦١ ـ ٦٣ ، الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٦ ـ ١٦٧ والدر المنثور ٥ / ٢١ ـ ٢٢.

٣٠٣

وفي قذف الزوجة يسقط الحد عنه بأحد هذين الأمرين وباللعان.

وإنما اعتبر الشارع اللعان في الزوجات دون الأجنبيات ، لأنه لا معيرة عليه في زنا الأجنبية ، والأولى له سترة. وأما في الزوجة فيلحقه (١) العار والنسب الفاسد ، فلا يمكنه الصبر عليه (٢).

فصل

إذا قذف زوجته ونكل (٣) عن اللعان لزمه (٤) حد القذف ، فإذا لاعن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا (٥). وقال أبو حنيفة : يجلس الناكل منهما حتى يلاعن.

حجة القول الأول : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً)(٦) ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ...) الآية ؛ فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد ، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد.

وأيضا قوله : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ)(٧) والألف واللام في «العذاب» للمعهود السابق وهو الحدّ ، وليسا للعموم ، لأنه لم يجب عليها جميع أنواع العذاب. ومما يدل على بطلان الحبس في حق المرأة أن تقول : إن كان الرجل صادقا فحدّوني ، وإن كان كاذبا فخلوني. وليس حبس في كتاب الله وسنة رسوله ولا الإجماع ولا القياس. واحتج أبو حنيفة بأن المرأة ما فعلت سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك (٨) ليس بينة على الزنا ولا إقرارا منها به ، فوجب ألا يجوز رجمها لقوله عليه‌السلام(٩) : «لا يحلّ دم امرىء مسلم» (١٠) الحديث. وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصّن ، لأن لا قائل بالفرق. وأيضا فالنكول بصريح الإقرار ، فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره (١١).

__________________

(١) في ب : فيحلقه. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٧.

(٣) نكل الرجل عن الأمر ينكل نكولا إذا جبن عنه. اللسان (نكل).

(٤) في ب : لزم.

(٥) وهو قول الشافعي. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٧.

(٦) من الآية (٤) من السورة نفسها.

(٧) من الآية (٨) من السورة نفسها.

(٨) في ب : القول. وهو تحريف.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) قال عليه‌السلام : «لا يحلّ دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني ، والمارق من الدين التارك للجماعة».

أخرجه البخاري (ديات) ٤ / ١٨٨ ، مسلم (قسامة) ٣ / ١٣٠٢ ـ ١٣٠٣ ، أبو داود (حدود) ٤ / ٥٢٢ ، الترمذي (حدود) ٢ / ٤٥٠ ، النسائي (قسامة) ٧ / ١٣ ، ابن ماجه (حدود) ٢ / ٨٤٧ ، أحمد ١ / ٦١ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٧٠ ، ١٦٣ ، ٣٨٢ ، ٤٢٨ ، ٤٤٤ ، ٤٦٥ ، ٦ / ١٨١.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

٣٠٤

فصل

من صح يمينه صح لعانه ، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين ، وكذا إذا كان أحدهما رقيقا ، أو كان الزوج مسلما والمرأة ذمية (١).

فإن قيل : اللعان شهادة ، فوجب ألا يصح إلا من أهل الشهادة. وإنما قلنا : اللعان شهادة ، لقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) فسمى (٢) اللعان شهادة كقوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ)(٣) ، ولأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على (٤) لفظ اليمين ، وإذا ثبت أن اللعان شهادة وجب ألا تقبل من المحدودين في القذف لقوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً)(٥) ، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر ، إما للإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة ، أو لأنه لا قائل بالفرق.

فالجواب : أن اللعان ليس شهادة في الحقيقة ، بل هو يمين مخصوصة ، لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه ولأنه لو كان شهادة لكانت (٦) المرأة تأتي بثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل ، ولأنه يصح من الأعمى والفاسق ولا تجوز شهادتهما فإن قيل : الفاسق والفاسقة قد يتوبان. قلنا : وكذلك (٧) العبد قد يعتق فتجوز شهادته (٨).

فصل

قال عثمان البتي (٩) : إذا تلاعن الزوجان لم تقع الفرقة ، لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة ، فلا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة ، ولأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قوله ، وهذا لا يوجب تحريما ، (ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريما) (١٠) ، فإذا كان كاذبا والمرأة صادقة فأولى ألا يوجب تحريما. وأيضا لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة ، فكذا عند الحاكم. وأيضا فاللعان قائم مقام الشهود في قذف الأجنبيات ، فكما أنه لا فائدة في إحضار الشهود هناك إلا إسقاط الحد (فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد) (١١).

__________________

(١) وهو قول الشافعي. انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٨.

(٢) في ب : سمى.

(٣) [البقرة : ٢٨٢].

(٤) على : سقط من ب.

(٥) من الآية (٤) من السورة نفسها.

(٦) في ب : فكانت.

(٧) في ب : وكذلك قلنا.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٦٩.

(٩) هو عثمان بن سليمان بن جرموز ، كان من أهل الكوفة ، فانتقل إلى البصرة ، وهو مولى لبني زهرة ، وكان يبيع البتوت فنسب إليها. المعارف (٥٩٦).

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

٣٠٥

وأيضا فلو أكذب الزوج نفسه في قذفة إياها ثم حدّ لم يوجب ذلك فرقة ، فكذا إذا لاعن ، لأن اللعان قائم مقام درء الحد.

وأما تفريق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قصة العجلاني (١) ، وكان قد طلقها ثلاثا بعد اللعان فلذلك فرق بينهما (٢).

وقال أصحاب الرأي : لا تقع الفرقة بفراغهما (٣) من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما ، لما روى سهل بن سعد (٤) في قصة العجلاني مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ولأن في قصة عويمر أنهما لما فرغا قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثا ، (فطلقها ثلاثا) (٥) قبل أن يأمرهما ، ولو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله : كذبت عليها إن أمسكتها ، لأن إمساكها غير ممكن ، ولأن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم ، فوجب (٦) ألا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم ، كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم وقال مالك والليث (٧) وزفر (٨) : (إذا فرغا) (٩) من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم بينهما ، لأنه لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا ، بل فرق بينهما ، فدل على أن اللعان قد أوجب الفرقة.

وقال الشافعي : إذا أكمل الزوج الشهادة فقد زال فراش امرأته ، ولا يحل له أبدا لقوله تعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ)(١٠) ... الآية» ، فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها ، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج ، ولأن لعان الزوج مستقلّ بنفي الولد ، فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها (١١).

فصل

في كيفية اللعان

وهو مذكور في الآية صريحا. قال العلماء : يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة ،

__________________

(١) هو عويمر بن الحارث ، الذي لاعن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بينه وبين امرأته. المعارف (٣٣٦).

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٠.

(٣) في ب : بفراقهما. وهو تحريف.

(٤) تقدم.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) في ب : موجب. وهو تحريف.

(٧) هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم ، الإمام عالم مصر وفقيهها ورئيسها ، أخذ عن سعيد المقبري وعطاء ونافع وغيرهم ، وأخذ عنه ابن عجلان ، وابن لهيعة وغيرهما. مات سنة ١٧٥ ه‍ ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ٣٣٦.

(٨) هو زفر بن صعصعة بن مالك ، أخذ عن أبيه ، وأبي هريرة ، وأخذ عنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ١ / ٣٣٦.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) من الآية (٨) من السورة نفسها.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٠ ـ ١٧١.

٣٠٦

وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء (١) إلى اللعنة والغضب ويقول له : إني أخاف إن لم تكن صادقا. ويكون اللعان عند الحاكم ، فإن كان بمكة كان بين المقام والركن ، وإن كان بالمدينة عند المنبر ، وبيت المقدس في مسجده ، وفي المواضع المعظمة. ولعان المشرك في الكنيسة وأما في الزمان فيوم الجمعة بعد العصر ، ولا بد من حضور جماعة ، وأقلهم أربعة (٢). وهذا التغليظ (٣) قيل : واجب. وقيل : مستحب.

فصل

معنى الآية : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) أي : يقذفون نساءهم (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) يشهدون على صحة ما قالوا (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) أي : غير أنفسهم (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(٤).

قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ). في رفع «أنفسهم» وجهان :

أحدهما : أنه بدل من «شهداء» ، ولم يذكر الزمخشري في غضون كلامه (غيره) (٥)(٦).

والثاني : أنه نعت له على أن «إلا» بمعنى : غير.

قال أبو البقاء : ولو قرىء بالنصب لجاز على أن يكون خبر «كان» ، أو منصوبا على الاستثناء ، وإنما كان الرفع هنا أقوى لأن «إلا» هنا صفة للنكرة (٧) كما ذكرنا في سورة الأنبياء (٨).

قال شهاب الدين : وعلى قراءة الرفع يحتمل أن تكون «كان» ناقصة ، وخبرها الجار ، وأن تكون تامة ، أي : ولم يوجد لهم شهداء (٩).

وقرأ العامة «يكن» بالياء من تحت ، وهو الفصيح ، لأنه إذا أسند الفعل لما بعد «إلا» (١٠) على سبيل التفريغ وجب عند بعضهم التذكير في الفعل (١١) نحو «ما قام إلا هند» ولا يجوز «ما (١٢) قامت» إلا في ضرورة كقوله :

__________________

(١) في ب : حتى عند الابتهال. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧١.

(٣) في الأصل : التلفظ. وهو تحريف.

(٤) انظر البغوي ٦ / ٥٨ ـ ٥٩.

(٥) الكشاف ٣ / ٦٤. وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٧ ، البيان ٢ / ١٩٢ ، التبيان ٢ / ٩٦٥.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) التبيان ٢ / ٩٦٥.

(٨) عند قوله تعالى : «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا»[من الآية (٢٢)].

وذكر هناك شروط إعراب (إلا) صفة للنكرة قبلها.

(٩) الدر المصون ٥ / ٩٨.

(١٠) في ب : لما بعد الأجل إلا. وهو تحريف.

(١١) نسب ذلك إلى الأخفش ، لأنه أوجب التذكير في نحو ما قام إلا هند ، لأن ما بعد (إلا) ليس هو الفاعل في الحقيقة ، وإنما هو بدل من فاعل مقدر قبل (إلا) وذلك المقدر هو المستثنى منه وهو مذكر ، ولذلك ذكر الفعل ، والتقدير : ما قام أحد إلا هند ، ولا يجوز التأنيث إلا في ضرورة الشعر ، وأنشد :

ما برئت من ريبة وذمّ

في حربنا إلّا بنات العمّ

شرح التصريح ١ / ٢٧٩.

(١٢) ما : سقط من ب.

٣٠٧

٣٨١٥ ـ وما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع (١)

أو في شذوذ ، كقراءة الحسن : «لا ترى إلا مساكنهم» (٢).

وقرىء (٣) : «ولم تكن» بالتاء من فوق (٤) ، وقد عرف ما فيه.

قوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) في رفعها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مبتدأ ، وخبره مقدر (٥) التقديم ، أي : فعليهم شهادة ، أو (٦) مؤخر أي : فشهادة أحدهم كافية أو واجبة (٧).

الثاني : أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب شهادة أحدهم (٨).

الثالث : أن يكون فاعلا بفعل مقدر ، أي : فيكفي (٩) ، والمصدر هنا مضاف للفاعل (١٠).

وقرأ العامة (١١) : «أربع شهادات» بالنصب على المصدر ، والعامل فيه «شهادة» (١٢).

فالناصب للمصدر مصدر مثله كما تقدم في قوله : (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً)(١٣).

وقرأ الأخوان وحفص برفع «أربع» (١٤) على أنها خبر المبتدأ ، وهو قوله : «فشهادة».

ويتخرج على القراءتين تعلق الجار في قوله : «بالله».

__________________

(١) عجز بيت من بحر الطويل ، قاله ذو الرمة ، وصدره :

طوى النّحز والأجراز ما في غروضها

وهو في ديوانه ٢ / ١٢٩٦ ، مجاز القرآن ١ / ٣٩٤ ، المحتسب ٢ / ٢٠٧ ، المقاصد النحوية ٢ / ٤٧٧ ، شرح الأشموني ٢ / ٥٢. النحز : النخس والدفع. والأجراز : جمع جرز ، وهي أرض لا نبات بها الغروض جمع غرض : حزام الرجل. الجراشع جمع جرشع : المنتفخة الغليظة.

والشاهد فيه تأنيث الفعل المسند إلى ما بعد (إلا) على سبيل التفريغ للضرورة.

(٢) [الأحقاف : ٢٥] ، المختصر (١٣٩).

(٣) في ب : وقرأ.

(٤) المختصر (١٠٠) ، الكشاف ٣ / ٦٤.

(٥) في ب : بقدر. وهو تحريف.

(٦) في ب : أي. وهو تحريف.

(٧) انظر مشكل إعراب القرآن ٢٢ / ١١٢ ، البيان ٢ / ١٧٢ ، التبيان ٢ / ٩٦٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٤.

(٨) المراجع السابقة والكشاف ٣ / ٦٤.

(٩) قال الفراء : (وسائر القراء يرفعون الشهادة وينصبون الأربع ، لأنهم يضمرون للشهادة ما يرفعها ، ويوقعونها على الأربع) معاني القرآن ٢ / ٢٤٦.

(١٠) التبيان ٢ / ٩٦٥.

(١١) ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر.

(١٢) انظر البيان ٢ / ١٩٢ ، التبيان ٢ / ٩٦٥.

(١٣) [الإسراء : ٦٣]. وذكر هناك أوجها لنصبه قال : أحدها : أنه منصوب على المصدر الناصب له المصدر قبله ، وهو مصدر مبين لنوع المصدر الأول. انظر اللباب ٥ / ٢٩٤.

(١٤) السبعة (٤٥٢ ـ ٤٥٣). الحجة لابن خالويه (٢٦٠) ، الكشف ٢ / ١٣٤ ، النشر ٢ / ٣٣٠ ، الإتحاف (٣٢٢).

٣٠٨

فعلى قراءة النصب يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب «شهادات» لأنه أقرب إليه.

والثاني : أنه متعلق بقوله : «فشهادة» أي : فشهادة أحدهم بالله ، ولا يضر الفصل ب «أربع» لأنها معمولة للمصدر فليست أجنبية (١).

الثالث : أن المسألة من باب التنازع ، فإن كلّا من «شهادة» أو «شهادات» يطلبه من حيث المعنى ، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول ، وهو مختار البصريين (٢) وعلى قراءة الرفع يتعين تعلقه ب «شهادات» إذ لو علقت ب «شهادة» لزم الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، ولا يجوز لأنه أجنبي (٣).

ولم يختلف في «أربع» الثانية ، وهي قوله : (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ)(٤) أنها منصوبة ، للتصريح بالعامل (٥) فيها وهو الفعل.

قوله : «والخامسة» اتفق السبعة على رفع «الخامسة» الأولى (٦) ، واختلفوا في الثانية (٧) : فنصبها حفص (٨). ونصبهما معا الحسن والسلمي وطلحة والأعمش (٩).

فالرفع على الابتداء ، وما بعده من «أنّ» وما في حيزها الخبر (١٠).

وأما نصب الأولى فعلى قراءة من نصب (أَرْبَعَ شَهاداتٍ) يكون النصب للعطف على المنصوب قبلها (١١). وعلى قراءة من رفع يكون النصب بفعل مقدر ، أي : وتشهد الخامسة (١٢).

وأما نصب الثانية فعطف على ما قبلها من المنصوب وهو (أَرْبَعَ شَهاداتٍ) ، والنصب هنا أقوى منه في الأولى لقوة النصب فيما قبلها كما تقدم تقريره ، ولذلك لم يختلف فيه.

وأما «أنّ» وما في حيزها فعلى قراءة الرفع يكون في محل رفع خبرا للمبتدأ كما تقدم ، وعلى قراءة النصب يكون على إسقاط الخافض ويتعلق الخافض بذلك الناصب

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٣٩.

(٢) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ١١٨ ، البرهان للحوفي ٦ / ٢٠١ ، البيان ٢ / ١٩٢ ، التبيان ٢ / ٩٦٥.

(٣) انظر البرهان للحوفي ٦ / ٢٠١ ، الكشف ٢ / ١٣٤ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٠ ، البيان ٢ / ١٩٢.

(٤) من الآية (٨).

(٥) في ب : للعامل.

(٦) من قوله تعالى : «وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ» الآية (٧).

(٧) من قوله تعالى : «وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ» الآية (٩).

(٨) السبعة (٤٥٣) ، الكشف ٢ / ١٣٥ ، النشر ٢ / ٣٣١ ، الإتحاف (٣٢٣).

(٩) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٠ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٤.

(١٠) أو يكون مرفوعا بالعطف على «أربع» على قراءة من قرأه بالرفع. انظر البيان ٢ / ١٩٣ ، التبيان ٢ / ٩٦٥.

(١١) انظر البيان ٢ / ١٩٣.

(١٢) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٠ ـ ٤٤١.

٣٠٩

ل «الخامسة» أي : ويشهد الخامسة بأنّ لعنة الله ، وبأن غضب الله (١) وجوّز أبو البقاء أن يكون بدلا من «الخامسة» (٢).

قوله : (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ).

قرأ العامة بتشديد «أنّ» في الموضعين.

وقرأ نافع بتخفيفها في الموضعين ، إلا أنه يقرأ «غضب الله» يجعل «غضب» فعلا ماضيا ، والجلالة فاعله (٣) ، كذا نقل أبو حيان عنه التخفيف في الأولى أيضا (٤) ، ولم ينقله غيره (٥). فعلى قراءته يكون اسم «أن» ضمير الشأن في الموضعين ، و «لعنة الله» مبتدأ و «عليه» خبرها ، والجملة خبر «أن» ، وفي الثانية يكون «غضب الله» جملة فعلية في محل خبر «أن» أيضا. ولكنه يقال : يلزمكم أحد أمرين : وهو إمّا عدم الفصل بين المخففة والفعل الواقع خبرا ، وإما وقوع الطلب خبرا في هذا الباب ، وهو ممتنع.

تقرير ذلك : أن خبر (أن) (٦) المخففة متى كان فعلا متصرفا غير مقرون ب «قد» وجب الفصل بينهما (٧) بما تقدم في سورة المائدة.

فإن أجيب بأنه دعاء ، اعترض بأن الدعاء طلب ، وقد نصوا على أن الجمل الطلبية لا تقع خبرا ل «أنّ» ، حتى تأولوا قوله :

٣٨١٦ ـ إنّ الرّياضة لا تنصبك للشّيب (٨)

وقوله :

٣٨١٧ ـ إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم

لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما (٩)

على إضمار القول.

ومثله : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ)(١٠).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٤.

(٢) التبيان ٢ / ٩٦٦.

(٣) السبعة (٤٥٣) ، الكشف ٢ / ١٣٤ ـ ١٣٥ ، النشر ٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣٤ ، الإتحاف (٣٢٢).

(٤) البحر المحيط ٦ / ٤٣٤.

(٥) ممن نقل ذلك أيضا مكي في الكشف ٢ / ١٣٤ ، وابن عطية في تفسيره ١٠ / ٤٤٢.

(٦) أن : زيادة يقتضيها السياق.

(٧) انظر شرح الأشموني ، وحاشية الصّبان ١ / ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٨) عجز بيت من بحر البسيط قاله الجميع الأسدي ، وصدره :

ولو أرادت لقالت وهي صادقة

وقد تقدم.

(٩) البيت من بحر الطويل ، قاله أبو مكعت من بني سعد بن مالك. وقد تقدم.

(١٠) [النمل : ٨].

٣١٠

وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسّلمي وعيسى بتخفيف «أن» و «غضب الله» بالرفع (١) على الابتداء ، والجار بعده خبره ، والجملة خبر «أن» (٢).

وقال ابن عطية : و (أن) الخفيفة على قراءة (نافع) (٣) في قوله : (أن غضب) قد وليها الفعل (٤). قال أبو علي : وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل ، إلّا أن يفصل بينها وبينه بشيء ، نحو قوله : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ)(٥) ، (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ)(٦) ، فأما قوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ)(٧)(٨) فذلك لقلة تمكن (ليس) في الأفعال ، وأما قوله : (أن بورك من في النّار) (٩) و (بورك) في معنى الدعاء ، فلم يجىء دخول الفاعل لئلا يفسد المعنى (١٠) ، فظاهر هذا أن (غضب) ليس دعاء ، بل هو خبر عن (غضب الله عليها). والظاهر أنه دعاء كما أن (بورك) كذلك ، وليس المعنى على الإخبار فيهما فاعتراض أبي علي وأبي محمد (١١) ليس بمرضي (١٢).

قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ).

جواب : «لو لا» محذوف أي : لهلكتم أو لعاجلكم بالعقوبة (١٣) ، ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان ، (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة «حكيم» فيما فرض من الحدود.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الآية.

في خبر «إنّ» وجهان :

أحدهما : أنه عصبة و «منكم» صفته. قال أبو البقاء : «وبه أفاد الخبر» (١٤).

والثاني : أن الخبر الجملة من قوله : «لا تحسبوه» ، ويكون «عصبة» ، بدلا من فاعل «جاءوا». قال ابن عطية : التقدير : إنّ فعل الذين ، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون «عصبة» خبر (إنّ) (١٥). كذا أورده عنه أبو حيان (١٦) غير معترض عليه ؛

__________________

(١) المحتسب ٢ / ١٠٢ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

(٢) المرجعان السابقان.

(٣) في النسختين : الرفع. والتصويب من تفسير ابن عطية.

(٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ١٤٤.

(٥) [المزمل : ٢٠].

(٦) [طه : ٨٩].

(٧) [النجم : ٣٩].

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) [النمل : ٨].

(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٤.

(١١) أي : ابن عطية.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٤.

(١٣) انظر تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٤٩ ، التبيان ٢ / ٩٦٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٥.

(١٤) التبيان ٢ / ٩٦٦.

(١٥) تفسير ابن عطية ١٠ / ٤٥٢.

(١٦) البحر المحيط ٦ / ٤٣٦.

٣١١

والاعتراض (١) عليه واضح من حيث أنه أوقع خبر «إنّ» جملة طلبية ، وقد تقدم أنه لا يجوز وإن ورد (٢) منه شيء في الشعر أوّل (٣) كالبيتين المتقدمين (٤). وتقدير ابن عطية ذلك المضاف قبل الموصول ليصحّ به التركيب الكلامي ، إذ لو لم يقدر لكان التركيب «لا تحسبوهم» (٥).

ولا يعود الضمير في «لا تحسبوه» على قول ابن عطية على الإفك لئلا تخلو الجملة من رابط يربطها بالمبتدأ (٦).

وفي قول غيره يجوز أن يعود على الإفك ، أو على القذف ، أو على المصدر المفهوم من «جاءوا» ، أو على ما نال المسلمين من الغم (٧).

فصل

سبب نزول هذه الآية ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص (٨) وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (٩) كلهم رووا عن عائشة قالت : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، قالت : فأقرع بيننا في غزوة غزاها قبل بني المصطلق فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد نزول آية الحجاب ، فحملت في هودج (١٠) فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من غزوته تلك وقفل (١١) دنونا من المدينة قافلين نزل منزلا ثم آذن (١٢) بالرحيل ، فقمت حين آذنوا ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني

__________________

(١) في ب : والأعراض.

(٢) ورد : سقط من ب.

(٣) أول : سقط من ب.

(٤) وهما قول الشاعر :

إنّ الرّياضة لا تنصبك للشّيب

وقول الآخر :

وإنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم

لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما

(٥) في ب : لا تحسبونهم. وهو تحريف.

(٦) وإنما يعود على ذلك المحذوف الذي قدره اسم (إنّ) البحر المحيط ٦ / ٤٣٦.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٦.

(٨) هو علقمة بن وقاص بن محيصن بن كلدة ، الليثي المدني ، روى عن عمرو بن العاص ، وعائشة ، وروى عنه ابناه عبد الله وعمرو ، والزهري ، وكان قليل الحديث ، توفي في خلافة عبد الملك بن مروان. تهذيب التهذيب ٧ / ٢٨٠.

(٩) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، كان عالما ، وهو الذي يروي عنه الزهري ، مات سنة ٩٨ ه‍. المعارف (١١٠).

(١٠) الهودج : مركب من مراكب النساء مقبب ، وقيل : وغير مقبب. اللسان (هدج).

(١١) قفل : أي رجع من غزوته.

(١٢) روي بالمد وتخفيف الذال وبالقصر وتشديدها ، أي : أعلم. شرح النووي ١٧ / ١٠٤.

٣١٢

أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي (١) من جزع (٢) ظفار (٣) وقد انقطع ، فرجعت والتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط (٤) الذين كانوا يرحلون بي (٥) فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي ، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبّلن (٦) ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة (٧) من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة (٨) السن فظنوا أني في الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي بعد ما استمرّت (٩) الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي (١٠) الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدوني ويعودون في طلبي ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني (١١) من وراء الجيش يتبع أمتعة الناس يحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب شيء ، فلما رآني عرفني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه (١٢) حين عرفني ، فخمرت وجهي (١٣) بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يديها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين (١٤) في نحر الظهيرة (١٥) وهم نزول ، وافتقدني

__________________

(١) العقد : القلادة تعلق في العنق للتزين بها. القاموس المحيط (عقد).

(٢) الجزع : الخرز اليماني ، وهو الذي فيه سواد وبياض تشبه به الأعين. القاموس المحيط ، اللسان (جزع).

(٣) ظفار : مدينة باليمن ، وهي مبنية على الكسر بدون تنوين في الأحوال كلها.

اللسان (ظفر) ، شرح النووي ١٧ / ١٠٤.

(٤) في النسختين : الرحل. الرهط : ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وقيل : من سبعة إلى عشرة ، وما دون السبعة إلى الثلاث : نفر ، وقيل غير ذلك. اللسان (رهط).

(٥) يرحلون بي : أي يجعلون الرحل على البعير.

(٦) قال النووي : (قولها : «يهبّلن» ضبطوه على أوجه ، أشهرها : ضم الياء وفتح الهاء والباء المشددة ، أي : يثقلن بالشحم واللحم ، والثاني : يهبلن ، بفتح الياء والباء وإسكان الهاء بينهما ، والثالث : بفتح الياء وضم الباء الموحدة ، ويجوز بضم أوله وإسكان الهاء وكسر الموحدة) صحيح مسلم بشرح النووي ٧ / ١٠٤ ، وفي اللسان (هبل) : والمهبّل : الكثير اللحم المورم الوجه ، وقد هبّله اللحم : إذا كثر عليه وركب بعضه بعضا.

(٧) العلقة : أي القليل.

(٨) في الأصل : حدثة.

(٩) في ب : استمر.

(١٠) أي : قصدته.

(١١) صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني ، أبو عمرو ، وكان صحابيا فاضلا ، شهد الخندق والمشاهد كلها ، وهو الذي قال فيه أهل الإفك ما قالوا ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثين ، استشهد بأرمينية في خلافة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سنة ١٩ ه‍ ـ الأعلام ٣ / ٢٠٦.

(١٢) أي : بقوله : «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ». شرح النووي ١٧ / ١٠٥.

(١٣) أي : غطيته.

(١٤) الموغر : النازل وقت الوغرة ـ بفتح الواو وإسكان الغين ـ وهي شدة الحر. شرح النووي ١٧ / ١٠٥.

(١٥) نحر الظهيرة : وقت القائلة وشدة الحرّ حتى تبلغ الشمس منتهاها من الارتفاع. شرح النووي ١٧ / ١٠٥ ، اللسان (نحر).

٣١٣

الناس حين نزلوا ، وماج الناس (١) في ذكري ، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم ، فتكلم القوم وخاضوا في حديثي. قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبيّ ابن سلول (٢). قال عروة : لم يسلم من الإفك إلا حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة (٣) ، وحمنة بنت جحش (٤). في أناس آخرين لا علم بهم غير أنهم عصبة كما قال عزوجل. قال عروة : وكانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول : إنه هو الذي قال :

٣٨١٨ ـ فإنّ أبي ووالده وعرضي

لعرض محمّد منكم وقاء (٥)

قالت عائشة : وقدم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٦) المدينة ، ولم أر فيه ـ عليه‌السلام (٧) ـ ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، وهو يريبني (٨) في وجعي أنّي لا أرى من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اللطف (٩) الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل عليّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيسلم ثم يقول: «كيف تيكم» (١٠)؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين نقهت (١١) ، فخرجت مع أم مسطح (١٢) قبل المناصع (١٣) وكان

__________________

(١) ماج الناس : دخل بعضهم في بعض. اللسان (موج).

(٢) هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، من أهل المدينة ، كان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم ، وهو كبير المنافقين في الإسلام ، مات سنة ٩ ه‍. المنجد ٤٥١.

(٣) هو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف ، ومسطح لقب ، واسمه عوف وقيل : عامر ، شهد المشاهد كلها ، وكان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يجري عليه ، وهو الذي قذف عائشة ـ رضي الله عنها ـ مات سنة ٣٧ ه‍. المعارف ٣٢٨.

(٤) هي حمنة بنت جحش الأسدية ، أخت زينب زوج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت تحت مصعب بن عمير ، فقتل عنها يوم أحد ، وخلف عليها طلحة بن عبيد الله. تهذيب التهذيب ١٢ / ٤١١.

(٥) البيت من بحر الوافر قاله حسان بن ثابت ، وهو من قصيدته التي يهجو فيها أبا سفيان بن الحارث قبل فتح مكة ، ومطلعها :

عفت ذات الأصابع فالجواء

إلى عذراء منزلها خلاء

وهو في ديوانه (٧٦) والاقتضاب في شرح أدب الكتاب ٣ / ٣٦ ، الخزانة ٩ / ٢٣٢ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٥١.

(٦) ما بين القوسين سقط من الأصل.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) رابني : علمت منه الريبة ، وأرابني : أوهمني الريبة وظننت ذلك به. اللسان (ريب).

(٩) اللطف : البر والرفق.

(١٠) إشارة إلى المؤنث مثل ذاكم للمذكر ، شرح الأشموني ١ / ١٤٣.

(١١) نقهت : بفتح القاف وكسرها ، والفتح أشهر ، والناقه : الذي برأ من مرضه ولا يزال به ضعف. اللسان (نقه).

(١٢) هي أم مسطح القرشية التيمية ، قيل : اسمها سلمى ، أسلمت فحسن إسلامها ، وكانت من المهاجرين الأولين ، ثبت ذكرها في الصحيحين في قصة الإفك ، وكانت من أشد الناس على مسطح حين تكلم مع أهل الإفك. الإصابة ٨ / ٣٠٢.

(١٣) المناصع : المواضع التي يتخلّى فيها لبول أو غائط أو لحاجة ، الواحد : منصع وقيل : هي مواضع ـ

٣١٤

متبرّزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى الليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف (١) قريبا من بيوتنا قالت : فانطلقت أنا وأم مسطح ، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف. وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها (٢) ، فقالت : تعس (٣) مسطح. فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبّين رجلا شهد بدرا؟ فقالت : أي هنتاه (٤) ، أو لم تسمعي ما قال؟ فقلت : وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، وقالت : أشهد بالله إنك من المؤمنات الغافلات. فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم قال : «كيف تيكم»؟ فقلت له أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت : وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقلت لأمي : يا أماه ، ما ذا يتحدث الناس؟ قالت : يا بنية ، هوّني عليك ، فو الله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة (٥) عند رجل يحبها ولها ضراء (٦) إلا كثّرن عليها (٧). فقلت : سبحان الله ، أو لقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي (٨) دمع ، ولا أكتحل بنوم(٩) ، فدخل عليّ أبي وأنا أبكي ، فقال لأمي : ما يبكيها؟ قالت : لم (١٠) تكن علمت ما قيل فيها ، فأقبل يبكي. قالت : ودعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد (١١) حين استلبث(١٢) الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق

__________________

ـ بعينها خارج المدينة. صحيح مسلم بشرح النووي ١٧ / ١٠٦ ، اللسان (نصع).

(١) الكنف : جمع كنيف. وهو الساتر. اللسان (كنف).

(٢) المرط : كساء من خز أو صوف أو كتان يؤتزر به وتتلفع به المرأة والجمع مروط. اللسان (مرط).

(٣) بفتح العين وكسرها ، لغتان ، ومعناه : عثر ، وقيل : هلك ، وقيل : لزمه الشر ، وقيل : بعد وقيل : أكب على وجهه ، وتعسه الله وأتعسه بمعنى واحد ، وإذا خاطب بالدعاء قال : تعست ، بفتح العين ، وإن دعا على غائب كسرها فقال : تعس. اللسان (تعس).

(٤) أي : حرف نداء للبعيد ، وقيل : للقريب ، وقيل : للمتوسط. المغني ١ / ٧٦ و «هنتاه» : من الألفاظ الخاصة بالنداء ، وهي لنداء الأنثى. قال أبو الحسن الأشموني : (يقال في نداء المجهول والمجهولة : يا هن ويا هنة وفي التثنية والجمع يا هنان ويا هنتان ويا هنون ويا هنات وقد يلي أواخرهن ما يلي آخر المندوب نحو يا هناه ويا هنتاه بضم الهاء وكسرها ، وفي التثنية والجمع يا هنانية ويا هنتانية ويا هنوناه ويا هناوه ، والله أعلم) شرح الأشموني ٣ / ١٦٢.

(٥) الوضاءة : الحسن والنظافة. يقال وضؤت فهي وضيئة. اللسان (وضأ).

(٦) الضّرائر : جمع ضرّة ، وهن زوجات الرجل ، لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى بالغيرة وغيرها. شرح النووي ١٧ / ١٠٨.

(٧) أي : أكثرن القول في عيبها ونقصها.

(٨) أي : لا ينقطع.

(٩) أي : لا أنام.

(١٠) في النسختين : ألم.

(١١) أسامة بن زيد بن حارثة ، صحابي ، من موالي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دخل مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الكعبة يوم الفتح لكسر أصنام المشركين ، قاتل في أحد ، مات سنة ٥٤ ه‍. المنجد ٣٩.

(١٢) أي : أبطأ وتأخر.

٣١٥

أهله ، فقال أسامة : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا. وأما عليّ فقال : لم يضيّق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك ، فدعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بريرة ، فقال : «هل رأيت من شيء يريبك»؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق نبيا ما رأيت عليها أمرا قط أغضه (١) أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن (٢) فتأكله. قالت : فقام نبي الله خطيبا على المنبر فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني (٣) من رجل قد بلغ أذاه في أهلي ـ يعني : عبد الله بن أبيّ ـ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ (٤) أخو بني الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن أخذته الحمية ، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، لعمر الله لا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير (٥) ، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتله ، وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا. قالت : فبكيت يومي ذلك كله وليلتي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما (٦) حتى أني لأظنّ أن البكاء فالق (٧) كبدي ، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينما نحن على ذلك إذ دخل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين جلس ثم قال : أمّا بعد يا عائشة ، فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن

__________________

(١) أي : أعيبها به. اللسان (غمص).

(٢) الداجن : الشاة التي تألف البيت ولا تخرج إلى المرعى ، وقيل هي كل ما يألف البيوت مطلقا شاة أو طيرا ، والجمع : دواجن. اللسان (دجن).

(٣) أي : من يقوم بعذري أن كافأته على سوء صنيعه فلا يلومني؟ وقيل معناه : من ينصرني؟ والعذير : الناصر ، وقيل المراد من ينتقم لي منه؟ اللسان (عذر) شرح النووي ١٧ / ١٠٩.

(٤) هو سعد بن معاذ الأنصاري الأوسي ، من أعاظم الصحابة ، قاتل في بدر وأحد ، رمي بسهم يوم الخندق فمات من أثر جرحه ، وعمره ٣٧ سنة ، وذلك في السنة الخامسة من الهجرة على الراجح بكاه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتولى الصلاة عليه. المنجد ٣٥٥ ، الأعلام ٣ / ٨٨.

(٥) هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك الأوسي ، أبو يحيى ، صحابي ، كان شريفا في الجاهلية والإسلام ، وكان من السابقين إلى الإسلام ، وكان إسلامه على يد مصعب بن عمير بالمدينة مات سنة ٢٠ ه‍. الإصابة ١ / ٨٣ ـ ٨٤ ، الأعلام ١ / ٣٣٠.

(٦) في ب : ويومين.

(٧) الفلق : الشق ، والفلق مصدر فلقه يفلقه فلقا شقه. اللسان (فلق).

٣١٦

كنت ألممت بذنب (١) فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه قالت : فلمّا قضى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مقالته قلص دمعي (٢) حتى ما أحسّ منه قطرة ، (فقلت) (٣) لأبي : أجب عني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما قال. فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقلت وأنا جارية حديثة السّن لا أقرأ من القرآن كثيرا : إني والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقونني ، فو الله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال : «فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» (٤) ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم وأنا أعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر ، ولكني كنت أرجو أن يرى (٥) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رؤيا يبرئني الله بها ، فو الله ما قام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء (٦) عند الوحي حتى إنه ليتحدر (٧) فيه العرق مثل الجمان (٨) في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه. قالت : فسري (٩) عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يضحك ، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال : «يا عائشة ، أما الله قد برأك» قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : فو الله لا أقوم إليه ، فإني لا أحمد إلا الله. قالت : وأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ..) العشر آيات. فقال أبو بكر : والله لا أنفق على مسطح بعدها ، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره ، فأنزل الله : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ...)(١٠) إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ). فلما سمع أبو بكر قوله تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)(١٠) قال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى النفقة على مسطح وقال : والله لا أنزعها منه أبدا. قال : فلما نزل عذري قام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فذكر

__________________

(١) أي : إن كنت فعلت ذنبا وليس ذلك لك بعادة ، وقيل معناه : قاربت. شرح النووي ١٧ / ١١١ ، اللسان (لمم).

(٢) أي : ارتفع وذهب لاستعظام ما يعيبني من الكلام. شرح النووي ١٧ / ١١١ ، اللسان (قلص).

(٣) ما بين القوسين مكرر في الأصل.

(٤) [يوسف : ١٨].

(٥) في الأصل : يرى الله.

(٦) البرحاء : الشدة والمشقة ، وقيل : شدة الحمى ، وقيل شدة الكرب من ثقل الوحي. اللسان (برح).

(٧) أي : ليتصبب.

(٨) الجمان : اللؤلؤ ، وحب يصاغ من الفضة على شكل اللؤلؤ ، شبهت حبات عرقه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ باللؤلؤ في الصفاء والحسن. اللسان (جمن) شرح النووي ١٧ / ١١٢.

(٩) أي : كشف وأزيل.

(١٠) من الآية (٢٢) من السورة نفسها.

٣١٧

ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل ضرب عبد الله بن أبيّ ومسطح وحسّان وحمنة الحد (١).

فصل

الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وهو أسوأ الكذب. وسمي (٢) إفكا لكونه مصروفا عن الحق من قولهم (٣) : أفك الشيء : إذا قلبه عن وجهه. قيل : هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد : ما أفك به على عائشة (٤).

وإنما وصف الله ذلك الكذب بكونه إفكا لكون المعروف من حال عائشة خلافه ، وذلك من وجوه :

الأوّل : أن كونها زوجة المعصوم يمنع من ذلك ، لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعونهم ويستعطفونهم ، فيجب ألا يكون معهم ما ينفر عنهم ، وكون زوجة الإنسان مسافحة من أعظم المنفرات.

فإن قيل : كيف جاز أن تكون امرأة الرسول كافرة كامرأة نوح ولوط ، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ وأيضا فلو لم يجز لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما خاف ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة؟

فالجواب عن الأول : أن الكفر ليس من المنفرات بخلاف الفجور فإنه من المنفرات.

والجواب عن الثاني : أنه عليه‌السلام (٥) كثيرا ما يكون (٦) يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد ذلك ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ)(٧) فهذا من ذاك الباب.

الثاني : أن المعروف من عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور ، ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به.

الثالث : أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم ، وكلام المفتري ضرب من الهذيان (٨). فلمجموع هذه كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي (٩).

__________________

(١) أخرجه الإمام البخاري (الشهادات حديث الإفك) ٢ / ١٠٣ ـ ١٠٦ ، (المغازي) ٣ / ٣٧ ـ ٤١ ، (التفسير) ٣ / ١٦٣ ـ ١٦٦ ، والإمام مسلم في صحيحه بشرح النووي (التوبة) ١٧ / ١٠٢ ـ ١١٦ ، والطبري ١٨ / ٧١ ـ ٧٤ ، وأسباب النزول للسيوطي ٢٣٥ ـ ٢٤٠ وهو في الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٥ ـ ١٧٧ ، وابن كثير ٣ / ٢٦٨ ـ ٢٧١. أسباب النزول للسيوطي ١٤٠ ـ ١٤٢ ، الدر المنثور ٥ / ٢٥ وما بعدها.

(٢) وسمي : سقط من ب.

(٣) في ب : تقول.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٣.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) يكون : سقط من ب.

(٧) [الحجر : ٩٧].

(٨) الهذيان : كلام غير معقول مثل كلام المبرسم والمعتوه. هذى يهذي هذيا وهذيانا : تكلم بكلام غير معقول في مرض أو غيره. اللسان (هذى).

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٣ ـ ١٧٤.

٣١٨

فصل

العصبة : قيل : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وكذلك العصابة (١) ، وهم عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم(٢).

قوله : «كبره» العامة على كسر الكاف.

وضمّها في قراءته الحسن والزهري وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعمرة بنت عبد الرحمن (٣). ورويت أيضا عن أبي (٤) عمرو والكسائي (٥).

فقيل : هما لغتان في مصدر : كبر الشيء ، أي : عظم ، لكن غلب في الاستعمال أن المضموم(٦) في السن والمكانة (٧) ، يقال : هو كبر القوم بالضم ، أي : أكبرهم سنا أو مكانة (٨) ، وفي الحديث في قصة محيصة وحويصة : «الكبر الكبر» (٩).

وقيل : بالضم : معظم الإفك. وبالكسر : البداءة. وقيل : بالكسر : الإثم (١٠).

قوله : «منكم» معناه : إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون ، لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرا (١١).

قوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) هذا شرح حال المقذوف وليس خطاب مع القاذفين.

فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :

أحدهما : أنه لم يتقدم ذكرهم.

والثاني : أن المقذوفين هم عائشة وصفوان ، فكيف يحمل عليهما صيغة الجمع في قوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ)؟

فالجواب عن الأول : أنه تقدم ذكرهم في قوله : «منكم».

__________________

(١) اللسان (عصب).

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٤.

(٣) هي عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصارية النجّارية محدثة عالمة فقيهة ، كانت في حجر أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ حفظت عنها الكثير. مات سنة ٩٨ ه‍. أعلام النساء ٣ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٤) أبي : سقط من ب.

(٥) المختصر (١٠١) ، المحتسب ٢ / ١٠٣ ـ ١٠٤ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣٧ ، النشر ٢ / ٣٣١ ، الإتحاف (٣٢٣).

(٦) في ب : الضموم. وهو تحريف.

(٧) في النسختين : المكان. والصواب ما أثبته.

(٨) اللسان (كبر).

(٩) أخرجه البخاري (أدب) ٤ / ٧٢ ، مسلم (قسامة) ٣ / ١٢٩١ ـ ١٢٩٢ الترمذي (ديات) ٢ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧ ، أبو داود (ديات) ٤ / ٦٥٥ ، النسائي (قسامة) ٧ / ٧ ـ ١٢ ، أحمد ٤ / ٣٥٢.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٣٧.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٤.

٣١٩

وعن الثاني : أن المراد من لفظ الجمع : كل من تأذّى بذلك الكذب ، ومعلوم أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تأذّى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به (١).

فإن قيل : فمن أي جهة يصير خيرا لهم مع أنه مضرّة؟

فالجواب : لوجوه :

أحدها : أنهم صبروا على ذلك الغم طلبا لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين.

وثانيها : لو لا إظهارهم الإفك كان يجوز أن يبقى الهمّ كامن في صدور البعض ، وعند الإظهار انكشف كذب القوم.

وثالثها : صار خيرا لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثماني عشرة آية ، كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة ، وشهد الله بكذب القاذفين ، ونسبهم إلى الإفك ، وأوجب عليهم اللعن والذم ، وهذا غاية الشرف والفضل.

ورابعها : صيرورتها بحال تعلق الكفر بقذفها ، فإن الله لما نص على كون تلك الواقعة إفكا وبالغ في شرحه ، فكل من شك فيه كان كافرا قطعا ، وهذه درجة عالية (٢).

وقال بعضهم : قوله تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) خطاب مع القاذفين وجعل الله خيرا لهم من (٣) حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ، ومن حيث تاب بعضهم عنده. وهذا القول ضعيف ، لأنه تعالى خاطبهم بالكاف ، ولما وصف أهل الإفك خاطبهم بالهاء بقوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) ، ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة ، فالمراد : لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا ، والمعنى : أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض (٤).

قوله : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ). أي : الذي قام بإشاعة هذا الحديث وهو عبد الله بن (أبيّ ابن) (٥) سلول. والعذاب العظيم هو النار في الآخرة.

روي عن عائشة في حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي رئيسهم : من هذه؟ قالوا : عائشة. قال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقودها. وشرع في ذلك أيضا حسان بن ثابت ، ومسطح ، وحمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله ، فهم الذين تولوا (٦) كبره. والأقرب أنه عبد الله بن أبيّ ، فإنه كان منافقا يطلب ما يقدح في (الرسول) (٧)(٨).

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٣) من : سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٥.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) في الأصل : توا.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٧٥.

(٨) ما بين القوسين في ب : رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٣٢٠