اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٤

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون : الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم (١).

وقال (٢) : (فَتَبارَكَ اللهُ) أي : فتعالى الله (٣) ، لأنّ البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ويجوز أن يكون المعنى البركات والخيرات كلها من الله.

وقيل : أصله من البروك وهو الثبات ، فكأنه قال : البقاء والدوام والبركات كلها منه ، فهو المستحق للتعظيم والثناء (٤) بأنه لم يزل ولا يزال (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المصورين والمقدرين. والخلق في اللغة: التقدير ، قال زهير :

٣٧٨٧ ـ ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثمّ لا يفري (٥)

قوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل من الجلالة (٦).

الثاني : أنه نعت للجلالة (٧) ، وهو أولى مما قبله ، لأنّ البدل بالمشتق يقل.

الثالث : أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : هو أحسن (٨) ، والأصل عدم الإضمار.

وقد منع أبو البقاء أن يكون وصفا ، قال : لأنه نكرة وإن أضيف لمعرفة لأنّ المضاف إليه عوض عن (٩) «من» ، وهكذا (١٠) جميع أفعل منك (١١).

قال شهاب الدين : وهذا بناء منه على أحد القولين في أفعل التفضيل إذا أضيف هل إضافته محضة أم لا ، والصحيح الأول (١٢). والمميز لأفعل محذوف لدلالة المضاف إليه

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) في ب : ثم قال.

(٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٦.

(٥) البيت من بحر الكامل قاله زهير ، وهو في ديوانه (١١٩) والكتاب ٤ / ١٨٥ ، ٢٠٩ المنصف ٢ / ٧٤ ، ٢٣٢ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٣٩ ، ابن يعيش ٩ / ٧٩ ، اللسان (فرا) البحر المحيط ٦ / ٣٩٨ ، الهمع ٢ / ٢٠٦ ، شرح شواهد الكافية ٤ / ٢٢٩ ، الدرر ٢ / ٢٣٣ ، الفري : القطع. الخلق : التقدير قبل القطع ، يقال : خلقت الأديم إذا قدرته لتقطعه. وهو الشاهد هنا.

(٦) هذا على أنّ إضافة أفعل التفضيل إضافة غير محضة. البيان ٢ / ١٨١ ، التبيان ٢ / ٩٥١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.

(٧) على أن إضافة أفعل التفضيل إضافة محضة. البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.

(٨) انظر البيان ٢ / ١٨١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٩٨.

(٩) في النسختين : من. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٠) في الأصل : وهذا.

(١١) التبيان ٢ / ٩٥١ وذلك لأنّ أبا البقاء ممن قال : إن إضافة أفعل التفضيل إضافة غير محضة. شرح التصريح ٢ / ٢٧.

(١٢) الدر المصون : ٥ / ٨٤.

١٨١

عليه ، أي : أحسن الخالقين خلقا المقدرين تقديرا كقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ)(١) أي : في القتال حذف المأذون فيه لدلالة الصلة عليه (٢).

فصل(٣)

قالت المعتزلة : لو لا أن يكون (٤) غير الله قد يكون خالقا لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين ، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه : (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ)(٥) و (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٦). والخلق في اللغة : هو كل فعل وجد من فاعله مقدّرا لا على سهو وغفلة ، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه. قال الكعبي (٧) : هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد ، كما أنه (٨) يجوز أن يقال : ربّ الدار ، ولا يجوز أن يقول : رب ، ولا يقول العبد لسيده : هذا ربّي ، ولا يقال : إنما قال الله سبحانه (٩) ذلك (١٠) لأنه وصف عيسى ـ عليه‌السلام (١١) ـ بأنه يخلق من الطّين كهيئة الطّير (١٢). لأنا نجيب من وجهين :

أحدهما : أن (١٣) ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح.

الثاني (١٤) : أنه إذا صحّ وصف عيسى بأنه يخلق صحّ أنّ غيره سبحانه يخلق وصحّ (١٥) أيضا وصف غيره من المصورين بأنه يخلق.

وأجيب بأن هذه الآية معارضة بقوله (١٦) : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(١٧) فوجب حمل

__________________

(١) من قوله تعالى : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» [الحج : ٣٩].

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٤٤.

(٣) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٦ ـ ٨٧.

(٤) يكون : سقط من ب.

(٥) من قوله تعالى : «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ» [هود : ٤٥].

(٦) [الأعراف : ١٥١] ، [يوسف : ٦٤ ـ ٩٢] ، [الأنبياء : ٨٣].

(٧) في ب : قال الكلبي.

(٨) في الأصل : كأنه.

(٩) في ب : قال تعالى.

(١٠) ذلك : سقط من ب.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) في قوله تعالى : «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ» [آل عمران : ٤٩]. وقوله تعالى : «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي» [المائدة : ١١٠].

(١٣) في ب : أنه. وهو تحريف.

(١٤) في ب : والثاني.

(١٥) في ب : ويصح.

(١٦) في الأصل : بقو. وفي ب يقولو. والصواب ما أثبته.

(١٧) من قوله تعالى : «قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» [الرعد : ١٦]. وقوله تعالى : «اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» [الزمر : ٦٢].

١٨٢

هذه الآية على أنه (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) في اعتقادكم وظنكم كقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(١).

وجواب ثان ، وهو أنّ الخالق هو المقدر ، لأن الخلق هو التقدير ، فالآية تدل على أنه تعالى أحسن المقدرين ، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فتكون الآية من المتشابه.

وجواب ثالث : أنّ الآية تقتضي كون العبد خالقا بمعنى كونه مقدرا لكن لم قلت إنه خالق بمعنى كونه موحدا.

فصل

قالت المعتزلة : الآية تدل على أنّ كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين ، وإذا كان كذلك وجب أن لا (٢) يكون خالقا للكفر والمعصية ، فوجب أن يكون العبد هو الموجد (٣) لهما (٤).

وأجيب بأنّ من الناس من حمل الحسن على الأحكام والإتقان في (٥) التركيب والتأليف ، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله كل الأشياء ، لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعا له عن فعل شيء (٦).

فصل

روى الكلبي عن ابن عباس (٧) أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما انتهى إلى قوله : (خَلْقاً آخَرَ) عجب من ذلك فقال : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب فهكذا نزلت» فشك عبد الله وقال : إن كان محمد صادقا فيما يقول ، فإنه يوحى إليّ كما يوحى إليه ، وإن كان كاذبا فلا خير في دينه ، فهرب إلى مكة ، فقيل : إنه مات على الكفر ، وقيل : إنه أسلم يوم الفتح (٨) وروى سعيد (٩) بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله : «هكذا أنزل يا عمر».

وكان عمر يقول : وافقني ربي في أربع : الصلاة خلف المقام ، وضرب الحجاب على النسوة ، وقولي لهنّ : أو ليبدله الله خيرا منكنّ ، فنزل قوله : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ)(١٠) ، والرابع قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(١١) قال العارفون : هذه الواقعة

__________________

(١) من قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» [الروم : ٢٧].

(٢) لا : سقط من ب.

(٣) في ب : الموجب. وهو تحريف.

(٤) في النسختين : لها. والصواب ما أثبته.

(٥) في ب : و.

(٦) الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧.

(٨) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٥).

(٩) في الأصل : سعد. وهو تحريف.

(١٠) من قوله تعالى : «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ» [التحريم : ٥].

(١١) انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٥) الدر المنثور ٥ / ٧.

١٨٣

كانت من أسباب السعادة لعمر ، وسبب الشقاوة لعبد الله ، كما قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً)(١).

فإن قيل : فعلى كل الروايات فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن ، وذلك يقدح في كونه معجزا كما ظنّه عبد الله.

فالجواب : هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز ، فسقطت شبهة عبد الله (٢).

قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) أي : بعد ما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة ، وقرأ العامة «لميّتون» ، وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن محيصن «لمائتون» (٣) والفرق بينهما : أن الميّت يدل على الثبوت والاستقرار ، والمائت على الحدوث كضيق وضائق وفرح وفارح ، فيقال لمن سيموت : ميّت ومائت ، ولمن مات : ميّت فقط دون مائت ، لاستقرار الصفة وثبوتها ، وسيأتي مثله في الزمر (٤) إن شاء الله تعالى. فإن قيل : الموت لم يختلف فيه اثنان وكم من مخالف في البعث ، فلم أكّد المجمع عليه أبلغ تأكيد (٥) وترك المختلف فيه من تلك المبالغة في التأكيد (٦)؟ فالجواب : أنّ البعث لما تظاهرت أدلته وتظافرت ، أبرز في صورة المجمع عليه المستغني عن ذلك ، وأنهم لمّا لم يعملوا (٧) للموت ، ولم يهتموا بأموره ، نزّلوا منزلة من ينكره ، فأبرز لهم في صورة المنكر الذي استبعدوه كل استبعاد (٨). وكان أبو (٩) حيان سئل عن ذلك (١٠) ، فأجاب بأنّ اللام غالبا تخلص المضارع للحال (١١) ، ولا يمكن دخولها في «تبعثون» ، لأنه مخلص للاستقبال لعمله في الظرف المستقبل ، واعترض على نفسه بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(١٢) فإن (١٣) اللام دخلت على المضارع العامل في ظرف مستقبل وهو (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فأجاب بأنه خرج هذا بقوله : غالبا ، وبأن (١٤) العامل في (يَوْمَ الْقِيامَةِ) مقدر (١٥) ، وفيه نظر إذ فيه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه. و (بَعْدَ ذلِكَ) متعلق ب «ميّتون» ، ولا تمنع لام الابتداء من ذلك (١٦).

__________________

(١) من قوله تعالى : «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» [البقرة : ٢٦].

(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٣٩٩.

(٤) وهو قوله تعالى : «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» [الزمر : ٣٠].

(٥) حيث أكد ب «إن» ، و «اللام».

(٦) حيث أكد ب «إن» فقط.

(٧) في ب : يعلموا. وهو تحريف.

(٨) في ب : استبعاده. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٩.

(٩) أبو : سقط من ب.

(١٠) أي لم دخلت اللام في قوله «لميتون» ولم تدخل في تبعثون؟.

(١١) تقدم الخلاف بين البصريين والكوفيين في لام الابتداء الداخلة على المضارع هل تخلصه للحال؟

(١٢) [النحل : ١٢٤].

(١٣) فإن : سقط من ب.

(١٤) في الأصل : لأن.

(١٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٩٩.

(١٦) انظر التبيان ٢ / ٩٥. ولام الابتداء لا تمنع هنا في أن يعمل ما بعدها فيما قبلها لأنها مزحلقة عن مكانها وهو الصدر.

١٨٤

قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) جعل (١) الإماتة التي هي إعدام (٢) الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع (٢).

فإن قيل : ما الحكمة في الموت ، وهلا وصل (٣) نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الإنعام أبلغ؟

فالجواب هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله بدليل أنه لو قيل لمن يصوم : إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة ، فلا جرم أخره وبعده بالإماتة ، وهو الإعادة ، ليكون (٤) العبد عابدا لطاعته لا لطلب الانتفاع.

فإن قيل : هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر ، لأنه قال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة.

فالجواب من وجهين :

الأول : أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة.

والثاني : أنّ الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإحياء والإماتة والإعادة والذي ترك ذكره فهو من جنس الإعادة (٥).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ)(١٧)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) الآية ، أي : سبع (٦) سموات سميت طرائق لتطارقها ، وهو أن بعضها فوق بعض ، يقال : طارقت النعل : إذا أطبق نعلا على نعل ، وطارق (٧) بين الثوبين : إذا لبس ثوبا على ثوب قاله الخليل (٨) والزجاج (٩) والفراء (١٠) قال الزجاج : هو كقوله : (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)(١١) وقال عليّ بن عيسى : سميت بذلك ، لأنها طرائق الملائكة في العروج (١٢) والهبوط ، وقيل : لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧ ـ ٨٨.

(٢) في الأصل : عدم.

(٢) في الأصل : عدم.

(٣) في ب : أوصل.

(٤) في ب : فيكون.

(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٧ ـ ٨٨.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(٧) في ب : وطارقت.

(٨) العين (طرق).

(٩) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٩.

(١٠) معاني القرآن ٢ / ٢٣٢.

(١١) من قوله تعالى : «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً»[الملك : ٣].

(١٢) في الأصل : بالعروج.

١٨٥

والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه جعلها موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها ، وجعلها مقرا للملائكة ، ولأنها موضع الثواب ، ومكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي (١).

قوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي : بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم ، وهذا قول سفيان بن عيينة ، وهو كقوله تعالى (٢) : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا)(٣) ، وقوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ)(٤)(٥) ، وقال الحسن : إنا خلقناها فوقهم (٦) ليدل عليهم بالأرزاق والبركات منها (٧).

وقيل : خلقنا هذه الأشياء دلالة (٨) على كمال قدرتنا ، ثم بيّن كمال العلم بقوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) يعني : عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر (٩).

وقيل : وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظين لئلا تخرج عن التقدير الذي أردناها عليه كقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ)(١٠)(١١).

واعلم أن هذه الآيات (١٢) دالة على مسائل :

منها : أنها تدل على وجود الصانع ، فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على الصفة الأولى يدل على أنه لا بد من مغير.

ومنها : أنها تدل على فساد القول بالطبيعة ، فإن شيئا من تلك الصفات لو حصلت بالطبيعة لوجب بقاؤها ، وعدم تغيرها ، ولو قيل : إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجد.

ومنها : أنها تدل على أنّ المدبر قادر عالم ، لأنّ الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة.

ومنها : أنها تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات.

ومنها : أنها تدل على جواز الحشر والنشر بصريح الآية ، ولأنّ الفاعل لما كان قادرا على كل الممكنات وعالما بكل المعلومات وجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت.

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(٢) تعالى : سقط من ب.

(٣) [فاطر : ٤١].

(٤) [الحج : ٦٥].

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(٦) في الأصل : خلقكم.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(٨) في ب : دليلا.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(١٠) من قوله تعالى : «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» [الملك : ٣].

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨ ـ ٨٩.

١٨٦

ومنها : أنّ معرفة الله يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية ، وإلّا لكان ذكر هذه الدلائل عبثا(١).

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ(١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)(٢٠)

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) الآية ، لما استدل أولا على كمال القدرة بخلق الإنسان ، ثم استدل ثانيا بخلق السموات ، استدلّ ثالثا بنزول الأمطار ، وكيفية تأثيرها في النبات. واعلم أنّ الماء في نفسه نعمة ، وهو مع ذلك سبب لحصول (٢) النعم ، فلا جرم ذكره الله أولا ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانيا (٣).

قال أكثر المفسرين (٤) : إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء لظاهر الآية ، ولقوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)(٥). وقال بعضهم : المراد بالسماء السحاب ، وسماه سماء لعلوه ، والمعنى: أنّ الله صعد الأجزاء المائية من قعر الأرض ، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد ، ثم إن تلك الذرّات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله على قدر الحاجة إليه ، ولو لا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في (٦) قعر الأرض ، ولا بماء البحر لملوحته ، ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض ، لأنّ البحار هي الغاية في العمق ، وهذه الوجوه التي (٧) يتحملها من ينكر الفاعل المختار ، فأمّا من أقرّ به فلا حاجة به إلى شيء منها (٨).

وقوله : «بقدر» قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة (٩) من الزرع والغرس والشرب ، ويسلمون معه من المضرة.

وقوله : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) قيل : جعلناه ثابتا في الأرض ، قال ابن عباس : أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون (١٠) وجيحون (١١) ودجلة والفرات (١٢) والنيل (١٣) أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل ـ

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) في ب : في حصول.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٨٩.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٩.

(٥) [الذاريات : ٢٢].

(٦) في الأصل : من. وهو تحريف.

(٧) في ب : السماء. وهو تحريف.

(٨) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٨٩.

(٩) البغوي ٦ / ١٣.

(١٠) سيحون : نهر بالهند. اللسان (سيح).

(١١) جيحون : نهر بلخ ، وهو فيعول ، قال ابن بري : يحتمل أن يكون وزن (جيحون) فعلون مثل زيتون وحمدون. اللسان (جحن).

(١٢) هما نهرا العراق.

(١٣) وهو نهر مصر.

١٨٧

عليه‌السلام (١) ـ ، ثم استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ (٢) فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) ، ثم يرفعها عند خروج (٣) يأجوج ومأجوج ، ويرفع أيضا القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والدين (٤). وقيل : معنى : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) : ما تبقّى في الغدران والمستنقعات ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر.

وقيل : فأسكناه في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع ، فماء الأرض كله من السماء.

قوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (عَلى ذَهابٍ) متعلق ب «لقادرون» (٥) واللام كما تقدم (٦) غير مانعة من ذلك ، و «به» متعلق ب «ذهاب» (٧) ، وهي مرادفة للهمزة (٨) كهي في «لذهب بسمعهم» (٩) أي : على إذهابه (١٠) والمعنى : كما قدرنا على إنزاله كذلك (١١) نقدر على رفعه وإزالته فتهلكوا عطشا ، وتهلك مواشيكم وتخرب أرضكم (١٢).

قال الزمخشري : قوله : (عَلى ذَهابٍ بِهِ) من أوقع (١٣) النكرات وأحزها للمفصل (١٤) ، والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به ، وطريق من طرقه ، وفيه إيذان (١٥) بكمال (١٦) اقتدار المذهب وأنه (١٧) لا يتعايا عليه شيء ، وهو أبلغ في (١٨) الإيعاد من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)(١٩)(٢٠) واعلم أنه تعالى لمّا نبّه على عظيم (٢١) نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال (٢٢)(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) ، أي : بالماء (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) ، وإنما ذكر النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفاكهة رطبا ويابسا ، وقوله :

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) بقدر : سقط من الأصل.

(٣) في الأصل : نزول. وهو تحريف.

(٤) انظر البغوي ٦ / ١٣ ـ ١٤ ، الدر المنثور ٥ / ٨ ، وفيه قال السيوطي (أخرج ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩٥١.

(٦) تقدم قريبا.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٥١.

(٨) في كونها للتعدية.

(٩) من قوله تعالى : «وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [البقرة : ٢٠].

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠٠.

(١١) في ب : فكذلك.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٠.

(١٣) في ب : أرفع. وهو تحريف.

(١٤) في ب : للفصلى.

(١٥) في النسختين إنذار.

(١٦) في ب : لكمال.

(١٧) في الأصل : فإنه.

(١٨) في الأصل : من. وهو تحريف.

(١٩) [الملك : ٣٠].

(٢٠) الكشاف ٣ / ٤٥.

(٢١) في ب : عظم.

(٢٢) فقال : سقط من ب.

١٨٨

(لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي : في الجنات فكما (١) أن فيها النخيل والأعناب فيها الفواكه الكثيرة ، (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) شتاء وصيفا (٢).

قال الزمخشري : يجوز أن يكون هذا من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن صنعة يعملها ، يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه ، كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم(٣).

قوله : (وَشَجَرَةً) عطف على «جنّات» ، أي : ومما أنشأنا لكم شجرة (٤) ، وقرئت مرفوعة على الابتداء (٥). وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سيناء» (٦) بكسر السين ، والباقون بفتحها (٧) والأعمش كذلك إلا أنه قصرها (٨). فأمّا القراءة الأولى فالهمزة فيها ليست للتأنيث إذ ليس في الكلام (فعلاء) بكسر الأول وهمزته للتأنيث بل للإلحاق (٩) بسرداح (١٠) وقرطاس (١١) ، فهي كعلباء (١٢) ، فتكون الهمزة منقلبة (١٣) عن ياء أو واو ، لأن الإلحاق يكون بهما فلما وقع حرف العلة متطرفا (١٤) بعد ألف زائدة قلب همزة كرداء وكساء (١٥) قال الفارسي : وهي الياء التي ظهرت في درحاية (١٦) ، والدرحاية الرجل القصير السمين (١٧). وجعل أبو البقاء هذه الهمزة على هذا أصلا مثل : حملاق (١٨) ، إذ

__________________

(١) في ب : كما.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٠.

(٣) الكشاف ٣ / ٤٥.

(٤) انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٣ ، الكشاف ٣ / ٤٥ ، البيان ٢ / ١٨١ ، التبيان ٢ / ٩٥٢ البحر المحيط ٦ / ٤٠٠.

(٥) أي : ومما أنشىء لكم شجرة ، وهي قراءة نافع وعاصم في رواية. معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٣ ، المختصر (٩٧) الكشاف ٣ / ٤٥.

(٦) في ب : وسيناء.

(٧) السبعة (٤٤٤ ، ٤٤٥) الحجة لابن خالويه (٢٥٦ ، الكشف ٢ / ١٢٦ ، الاتحاف (٣١٨).

(٨) المختصر (٩٧) ، الكشاف ٣ / ٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(٩) الإلحاق : أن تبني مثلا من ذوات الثلاثة كلمة على بناء يكون رباعي الأصل ، فتجعل كل حرف مقابل حرف ، فتفنى أصول الثلاثة فتأتي بحرف زائد مقابل للحرف الرابع من الرباعي الأصول ، فيسمى ذلك الحرف حرف الإلحاق ، الهمع ١ / ٣٢.

(١٠) السرداح والسرداحة : الناقة الطويلة ، وقيل : الكثيرة اللحم. اللسان (سردح).

(١١) القرطاس : معروف يتخذ من برديّ يكون بمصر. القرطاس : الصحيفة الثابتة التي يكتب فيها ، اللسان (قرطس).

(١٢) العلباء ـ بكسر فسكون ـ عصب عنق البعير. ويقال : الغليظ منه خاصة. والجمع العلابيّ. اللسان (علب).

(١٣) في ب : متعلقة. وهو تحريف.

(١٤) في ب : متطرف. وهو تحريف.

(١٥) وذلك لأن كل واو وياء متطرفتين ، أصليتين كانت كما في (كساء ورداء) ، أو لا كما في (علباء) واقعتين بعد ألف زائدة ، فتقلبان ألفين، ثم تقلب الألف همزة. شرح الكافية ٣ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(١٦) في ب : الدرحاية.

(١٧) وهي فعلاية. انظر اللسان (درح).

(١٨) الحملاق : ما غطت الجفون من بياض المقلة ، وقيل : ما لزق بالعين من موضع الكحل من باطن. ـ

١٨٩

ليس في الكلام مثل (١) : سيناء (٢). يعني : مادة (سين ونون وهمزة). وهذا مخالف لما تقدم من كونها بدلا من زائد ملحق بالأصل على أن كلامه محتمل للتأويل إلى ما تقدم ، وعلى هذا فمنع الصرف للتعريف والتأنيث ، لأنها اسم بقعة بعينها ، وقيل : للتعريف والعجمة (٣). قال بعضهم : والصحيح أن(٤) سيناء اسم أعجمي نطقت به العرب فاختلفت (٥) فيه لغاتها ، فقالوا : (سيناء) كحمراء وصفراء ، و (سيناء) كعلباء وحرباء وسينين كخنذيد ، وزحليل ، والخنذيد (٦) الفحل والخصي أيضا ، فهو من الأضداد ، وهو أيضا رأس الجبل المرتفع (٧). والزحليل (٨) : المتنحي من زحل إذ (٩) انتحى (١٠) وقال الزمخشري : (طُورِ سَيْناءَ) وطور سينين (١١) لا يخلو إمّا أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإمّا أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس وكبعلبك ، فيمن أضاف ، فمن كسر (١٢) سين «سيناء» فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث ، لأنها بقعة ، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء (١٣).

قال شهاب الدين : وكون ألف (١٤) (فعلاء) بالكسر ليست للتأنيث هو قول أهل البصرة ، وأمّا الكوفيون فعندهم أنّ ألفها يكون للتأنيث ، فهي عندهم ممنوعة للتأنيث اللازم كحمراء وبابها. وكسر السين من (سيناء) لغة كنانة (١٥) وأمّا القراءة الثانية : فألفها للتأنيث ، فمنع الصرف واضح. قال أبو البقاء : وهمزته للتأنيث ، إذ ليس في الكلام (فعلال) بالفتح ، وما حكى الفراء من قولهم ناقة فيها خزعال (١٦) لا يثبت ، وإن ثبت فهو

__________________

ـ وقيل : باطن الجفن الأحمر الذي إذا قلب للكحل بدت حمرته ، وحملق الرجل إذا فتح عينه. وقيل : ما ولي المقلة من جلد الجفن. اللسان (حملق).

(١) كذا في التبيان. وفي الأصل : إذ ليس في الكلام حمراء والياء في الأصل إذ ليس في الكلام وفي ب : إذ ليس في الكلام مثل حمراء والباء إذ ليس في الكلام.

(٢) التبيان ٢ / ٩٥٢.

(٣) انظر البيان ٢ / ١٨٢ ، التبيان ٢ / ٩٥٢.

(٤) في الأصل : أنها.

(٥) في ب : فاختلف.

(٦) في ب : والخنذيل. وهو تحريف.

(٧) انظر اللسان (خنذ).

(٨) الزحليل : السريع ، قال ابن جني : قال أبو علي : زحليل من الزحل كسحتيت من السحت والزحليل : المكان الضيق الزلق من الصفا وغيره. اللسان (زحل).

(٩) في ب : إذا.

(١٠) انظر اللسان (زحل).

(١١) [التين : ٢].

(١٢) في الأصل : فمن أضاف وكسر.

(١٣) الكشاف : ٣ / ٤٥.

(١٤) ألف : سقط من ب.

(١٥) الدر المصون ٥ / ٨٥.

(١٦) ناقة فيها خزعال : أي ظلع. أي : أن (فعلال) مفتوح الفاء ليس في كلام العرب من غير ذوات التضعيف إلا حرف واحد ، يقال : ناقة بها خزعال ، إذا كان بها ظلع. كذا حكاه الفراء. وزاد ثعلب : قهقار ، وخالفه الناس وقالوا : قهقر وزاد أبو مالك : قسطال. وهو الغبار. وأما في المضاعف ف (فعلال) فيها كثير نحو : الزلزال ، والقلقال. اللسان (خزعل).

١٩٠

شاذ لا (١) يحمل عليه (٢). وقد وهم بعضهم فجعل (سيناء) مشتقة من (السنا) وهو الضوء ، ولا يصح ذلك لوجهين :

أحدهما : أنه ليس عربيّ الوضع نصوا على ذلك كما تقدم.

الثاني : أنّا وإن سلمنا أنه عربي الوضع لكن المادتان مختلفتان فإن عين (السنا) نون وعين (سيناء) ياء (٣). كذا قال بعضهم. وفيه نظر ؛ إذ لقائل أن يقول : لا نسلّم أن عين (سيناء) (ياء) بل عينها (نون) ، وياؤها مزيدة ، وهمزتها منقلبة عن واو ، كما قلبت (السنا) ، ووزنها حينئذ (فيعال) و (فيعال) موجود في كلامهم ، كميلاع (٤) وقيتال (٥) مصدر قاتل (٦).

قوله : (تَنْبُتُ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو «تنبت» بضم التاء وكسر الباء والباقون بفتح التاء وضم الباء (٧). فأمّا الأولى ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن أنبت بمعنى (نبت) فهو مما اتفق فيه (فعل) و (أفعل) (٨) وأنشدوا لزهير :

٣٧٨٨ ـ رأيت ذوي الحاجات عند بيوتهم

قطينا بها حتّى إذا أنبت البقل (٩)

وأنكره الأصمعي ، أي : نبت (١٠).

الثاني : أنّ الهمزة للتعدية ، والمفعول محذوف لفهم المعنى أي : تنبت ثمرها ، أو جناها ، و «بالدّهن» حال ، أي : ملتبسا بالدهن (١١).

الثالث : أن الباء مزيدة في المفعول به (١٢) كهي في قوله تعالى (١٣) : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ)(١٤) ، وقول الآخر :

__________________

(١) في ب : ولا.

(٢) التبيان ٢ / ٩٥٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(٤) جمل ملوع وميلع : سريع ، والأنثى ملوع وميلع ، وميلاع نادر فيمن جعله فيعال ، وذلك لاختصاص المصدر بهذا البناء. اللسان (ملع).

(٥) في ب : وفيعال. وهو تحريف.

(٦) انظر شرح الشافية ١ / ١٦٣ ، ١٦٦.

(٧) السبعة : (٤٤٥) ، الكشف ٢ / ١٣٧ ، الحجة لابن خالويه (٢٥٦) الإتحاف ٣١٨.

(٨) يقال : نبت البقل نباتا ، وأنبت إنباتا. انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٣٢ ، فعلت وأفعلت (٩١) معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ١٠ ، البيان ٢ / ١٨٢ ، التبيان ٢ / ٩٥٢.

(٩) البيت من بحر الطويل ، قاله زهير بن أبي سلمى.

والشاهد فيه أن (نبت) ، و (أنبت) بمعنى واحد ، قال الفراء : هما لغتان وقد تقدم.

(١٠) أي : أنكر الأصمعي أن تكون (أنبت) بمعنى (نبت) ورواية الديوان (نبت).

(١١) انظر الكشاف ٣ / ٤٥ ، البيان ٢ / ١٨٢ ، التبيان ٢ / ٩٥٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٢) ويجوز في الباء أن تكون للتعدية ، وأن تكون للحال ، والمفعول محذوف كما تقدم. انظر البيان ٢ / ١٨٢ ، التبيان ٢ / ٩٥٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٣) تعالى : سقط من ب.

(١٤) من قوله تعالى : «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»[البقرة : ٩٥].

١٩١

٣٧٨٩ ـ سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (١)

وقول الآخر :

٣٧٩٠ ـ نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج (٢)

وأمّا القراءة الأخرى فواضحة ، والباء للحال من الفاعل ، أي ملتبسة بالدهن يعني وفيها الدهن(٣) ، كما يقال : ركب الأمير بجنده (٤). وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز (٥) «تنبت» مبنيّا للمفعول (٦) من أنبتها الله و «بالدّهن» حال من المفعول القائم (٧) مقام الفاعل أي : ملتبسة بالدّهن (٨). وقرأ زرّ بن حبيش «تنبت الدهن» (٩) من أنبت ، وسقوط الباء هنا يدل على زيادتها في قراءة من أثبتها. والأشهب(١٠) وسليمان بن عبد الملك (١١) «بالدّهان» (١٢) وهو جمع دهن كرمح ورماح وأمّا قراءة أبّي : «تتمر» (١٣) ، وعبد الله : «تخرج» (١٤) فتفسير لا قراءة لمخالفة السواد ، والدّهن : عصارة ما فيه دسم ، والدّهن ـ بالفتح ـ المسح بالدّهن (١٥) مصدر دهن يدهن ، والمداهنة من ذلك كأنه يمسح على صاحبه ليقر خاطره (١٦).

فصل

اختلفوا في (طُورِ سَيْناءَ)(١٧) وفي (طُورِ سِينِينَ)(١٨). فقال مجاهد (١٩) : معناه البركة

__________________

(١) عجز بيت من بحر البسيط ، وصدره :

هنّ الحرائر لا ربّات أخمرة

والشاهد فيه زيادة الباء في المفعول به. وتقدم تخريجه.

(٢) رجز للنابغة الجعدي ، وقبله :

نحن بنو ضبّة أصحاب الفلج

وهو في أدب الكاتب (٥٢٢) ، والإنصاف ١ / ٢٨٤ ، المغني ١ / ١٠٨ ، شرح شواهده ١ / ٣٣٢ ، الخزانة ٩ / ٥٢٠ الفلج : في اللغة : الماء الجاري ، ويقال : عين فلج ، وماء فلج.

(٣) يعني وفيها الدهن : سقط من ب.

(٤) أي : ومعه جنده.

(٥) في ب : وابن هرمز من.

(٦) المختصر (٩٧) ، المحتسب ٢ / ٨٨ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(٧) في الأصل : وقائم.

(٨) انظر المحتسب ٢ / ٨٨.

(٩) بضم التاء وكسر الباء من (تنبت) ، «الدّهن» بالنصب. تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٠) تقدم.

(١١) لعله سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي ، أسس مدينة الرملة في فلسطين ، حاصر القسطنطينية ، ولم يقو على فتحها توفي في دابق سنة ٩٩ ه‍. المنجد في الأعلام (٣٠٧).

(١٢) المختصر (٨٧) ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٤٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٣) المختصر (٨٧) ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٤) المرجعان السابقان.

(١٥) في ب : والدهن. وهو تحريف.

(١٦) انظر اللسان (دهن).

(١٧) [المؤمنون : ٢٠].

(١٨) [التين : ٢].

(١٩) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦ / ١٤.

١٩٢

أي : من جبل مبارك. وقال قتادة : معناه الحسن أي : الجبل الحسن. وقال الضحاك : معناه بالنبطية : الحسن.

وقال عكرمة : بالحبشية. وقال الكلبي : معناه : المشجر أي : جبل وشجر (١). وقيل : هو (٢) بالسريانية : الملتف بالأشجار. وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة ، فهو سيناء (٣) ، وسينين بلغة النبط. وقال ابن زيد : هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة (٤).

وقال مجاهد (٥) : سيناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده (٦). والمراد بالشجرة التي تنبت بالدّهن أي : تثمر الدهن وهو الزيتون. قال المفسرون : وإنما أضافه الله إلى هذا الجبل ، لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ، ولأن معظمها (٧) هناك (٨). قوله : «وصبغ» العامة على الجر عطفا على الدّهن (٩).

والأعمش : «وصبغا» بالنصب (١٠) نسقا على موضع «بالدّهن» (١١) ، كقراءة (وَأَرْجُلَكُمْ)(١٢) في أحد محتملاته (١٣). وعامر بن عبد الله (١٤) : «وصباغ» بالألف (١٥) ، وكانت هذه القراءة مناسبة لقراءة من قرأ (١٦) «بالدّهان» (١٧). والصبغ والصباغ كالدبغ والدباغ ، وهو اسم ما يفعل به. قال الزمخشري : هو (١٨) ما يصطبغ به (١٩) أي : ما يصبغ به الخبز.

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦ / ١٤.

(٢) هو : سقط من ب.

(٣) انظر القرطبي ١٢ / ١١٥.

(٤) (أيلة) تعرف اليوم باسم العقبة. القرطبي ١٢ / ١١٤ ـ ١١٥.

(٥) في ب : ابن مجاهد. وهو تحريف.

(٦) انظر البغوي ٦ / ١٤.

(٧) في الأصل : مطعمها.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٠.

(٩) التبيان ٢ / ٩٥٢ ، الإتحاف ٣١٨.

(١٠) المختصر (٩٧) ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١١) التبيان ٢ / ٩٥٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٢) من قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» المائدة : ٦]. و «أرجلكم» بالنصب قراءة نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم. وبالخفض قراءة الباقين. السبعة ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ، الكشف ١ / ٤٠٦.

(١٣) قوله تعالى : «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب فيه وجهان : أحدهما : هو معطوف على الوجوه والأيدي أي : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم. والثاني : أنه معطوف على موضع ب «رؤوسكم» والأول أقوى ، لأن العطف على اللفظ أقوى من العطف على الموضع. التبيان ١ / ٤٢٢.

(١٤) هو عامر بن عبد الله مقرىء ، ذكر أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الديبلي أنه قرأ عليه عن قراءته على حسنون.

انظر طبقات القراء ١ / ٣٥٠.

(١٥) المختصر (٩٧) ، البحر المحيط ٦ / ٤٠١.

(١٦) وهو الأشهب ، وسليمان بن عبد الملك.

(١٧) في ب : بالدهن. وهو تحريف.

(١٨) في ب : وهو.

(١٩) قال الزمخشري : (صبغ الثوب بصباغ حسن ، وصبغ وهو ما يصبغ به) أساس البلاغة (صبغ).

١٩٣

و «للآكلين» صفة ، والمعنى : إدام للآكلين. فنبّه تعالى على إحسانه بهذه الشجرة ، لأنها تخرج الثمرة التي يكثر الانتفاع بها ، وهي طرية ومدخرة ، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ، ويعظم وجوه الانتفاعبه (١).

قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)(٢٥)

قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) الآية ، لما ذكر النعم الحاصلة من الماء والنبات ، ذكر بعده النعم الحاصلة من الحيوان ، فذكر أنّ فيها عبرة مجملا ثم فصله من أربعة أوجه :

أحدها : قوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) المراد منه جميع وجوه الانتفاع ، ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع ، وتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله ـ تعالى ـ فتستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة ، وتصير غذاء ، فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته ، فهو من النعم الدينية ، ومن انتفع به فهو من النعم الدنيوية. وأيضا : فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إذا ذبحت لم تجد لها أثرا ، وذلك دليل على عظم قدرة الله. وتقدم الكلام في «نسقيكم» في النحل (٢) وقرىء «تسقيكم» بالتاء من فوق مفتوحة (٣) ، أي : تسقيكم الأنعام.

وثانيها : قوله : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي : بالبيع ، والانتفاع بأثمانها.

وثالثها : قوله ـ تعالى (٤) ـ : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي : كما تنتفعون بها وهي حيّة تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.

ورابعها : قوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي : على الإبل في البر وعلى الفلك في البحر (٥) ، ولمّا بيّن دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) الآيات. قيل : كان نوح (٦) اسمه يشكر ،

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩١.

(٢) عند قوله تعالى : «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» [النحل : ٦٦].

(٣) وهي قراءة أبي جعفر. المحتسب ٢ / ٩٠ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٤٦ ، الإتحاف ٣١٨.

(٤) تعالى : سقط من الأصل.

(٥) انظر هذه الأوجه في الفخر الرازي ٢٣ / ٩١.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.

١٩٤

ثم (١) سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك فأهلكهم الله بالطوفان فندم على ذلك.

وقيل : لمراجعة ربه في شأن ابنه. وقيل : لأنه مر بكلب مجذوم ، فقال له : اخسأ يا قبيح ، فعوتب على ذلك ، وقال الله تعالى : أعبتني إذ خلقته ، أم عبت الكلب ، وهذه وجوه متكلفة ، لأن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى (٢).

قوله : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) : وحّدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي : أنّ عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. وقرىء «غيره» (٣) بالرفع على المحل ، وبالجر على اللفظ (٤).

ثم إنه لمّا لم ينفع فيهم الدعاء واستمروا على عبادة غير الله حذرهم بقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) زجرهم وتوعدهم باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه (٥) ثم إنه تعالى حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح ـ عليه‌السلام (٦) ـ : وهي قولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وهذه الشبهة تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يقال : إنه لمّا كان سائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض سواء امتنع كونه رسولا لله ، لأنّ الرسول لا بدّ وأن يكون معظما عند الله وحبيبا (٧) له ، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والعزة ، فلما انتفت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة.

والثاني : أن يقال : إن هذه الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور ، ولكنه أحب الرياسة (٨) والمتبوعية فلم يجد إليهما (٩) سبيلا إلا بادعاء النبوة ، فصار ذلك شبهة لهم في القدح في نبوته ، ويؤكد هذا الاحتمال قولهم : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي : يطلب الفضل (١٠) عليكم ويرأسكم (١١).

الشبهة الثانية : قولهم : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي : ولو شاء الله أن لا يتعبد سواه لأنزل ملائكة بإبلاغ الوحي ، لأنّ بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى المقصود من بعثة البشر ، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم ، وكثرة علومهم ينقاد الخلق إليهم ، ولا يشكون في رسالتهم فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولا (١٢).

__________________

(١) في ب : و.

(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.

(٣) «غيره» : سقط من الأصل.

(٤) والقراءة بالجر قراءة الكسائي وأبي جعفر ، والباقون بالرفع ف «غيره» بالجر صفة ل «إله» على اللفظ ، وبالرفع على محل «إله» السبعة (٢٨٤) ، الكشف ١ / ٤٦٧ ، الكشاف ٣ / ٤٥ ، الإتحاف ٣١٨.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ب : حبيبا.

(٨) في ب : الرسالة. وهو تحريف.

(٩) في الأصل : لها. وفي ب : إليها. والصواب ما أثبته.

(١٠) في ب : الفصلى. وهو تحريف.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢ ـ ٩٣.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.

١٩٥

الشبهة الثالثة : قولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) فقولهم : «بهذا» إشارة إلى نوح ـ عليه‌السلام (١) ـ أي : بإرسال (٢) بشر رسولا ، أو بهذا الذي يدعو إليه نوح وهو عبادة الله وحده ، لأنّ آباءهم كانوا يعبدون الأوثان ، وذلك أنهم كانوا لا يعوّلون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول (٣) الآباء ، فلمّا لم يجدوا في نبوة نوح ـ عليه‌السلام (٤) ـ هذه الطريقة حكموا (٥) بفسادها (٦).

الشبهة الرابعة : قولهم : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون ، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام (٧) ، لأنه ـ عليه‌السلام (٨) ـ كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم ، فكان الرؤساء يقولون للعوام إنه مجنون ، فكيف يجوز أن يكون رسولا؟ (٩)

الشبهة الخامسة : قولهم : (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) ، وهذا يحتمل أن يكون متعلقا بما قبله ، أي : أنه مجنون فاصبروا إلى زمان يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا فاقتلوه.

ويحتمل أن يكون كلاما مستأنفا ، وهو أن يقولوا لقومهم : اصبروا فإنه إنه كان نبيا حقا فالله ينصره ويقوي (١٠) أمره فنتبعه حينئذ ، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه (١١). واعلم أنه تعالى لم يذكر (١٢) الجواب على (١٣) هذه الشبه (١٤) لركاكتها ووضوح فسادها لأنّ كل عاقل يعلم أنّ الرسول لا يصير رسولا لكونه من جنس الملك وإنما يصير رسولا بتميزه عن غيره بالمعجزات ، فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند (١٥) ظهور (١٦) المعجز عليه يجب أن يكون رسولا ، بل جعل الرسول من البشر أولى لما تقدم من أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) فإن أرادوا إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب في الرسول ، وإن أرادوا أنه يترفع عليهم على سبيل التكبر فالأنبياء منزهون عن ذلك. وأما قولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا) فهو استدلال بعدم التقليد (على عدم وجود الشيء ، وهو في غاية السقوط ، لأنّ وجود التقليد) (١٧) لا يدل على وجود الشيء ، فعدمه من أين يدل على عدمه. وأما قولهم : (بِهِ جِنَّةٌ) فكذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم : «فتربّصوا» فضعيف ، لأنه إن ظهرت (١٨) الدلالة على نبوته ، وهي المعجزة ،

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في ب : إرسال.

(٣) قول : سقط من الأصل.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) في ب : حكموها. وهو تحريف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣.

(٧) في ب : العام. وهو تحريف.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣.

(١٠) في ب : وقوى. وهو تحريف.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣ ـ ٩٤.

(١٣) في ب : عن.

(١٤) في ب : الشبهة. وهو تحريف.

(١٥) في ب : فقد. وهو تحريف.

(١٦) في النسختين : ظهر. والصواب ما أثبته.

(١٧) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٨) في ب : ظهر.

١٩٦

وجب عليهم قبول قوله في الحال ، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته ، لأنّ الدولة لا تدل على الحقيقة ، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر (١).

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)(٣٠)

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي : أعنّي على هلاكهم بتكذيبهم إياي (كأنه قال : أهلكهم بسبب تكذيبهم) (٢)(٣). وقيل : انصرني بدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك ، أي بدل ذاك ومكانه (٤). وقيل : انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(٥).

ولمّا أجاب الله دعاءه قال : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أي : بحفظنا وكلائنا ، كان معه من الله حفّاظا يكلأونه بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله (٦).

قيل : كان نوح نجارا ، وكان عالما بكيفية اتخاذ الفلك (٧).

وقيل : إن جبريل ـ عليه‌السلام (٨) ـ علّمه عمل السفينة. وهذا هو الأقرب لقوله : (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(٩). (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا). واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء ، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم ، لأن قولك : هذا أمر تردد الذهن بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما (١٠). وقيل : إنما سماه أمرا تعظيما وتفخيما كقوله : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)(١١)(١٢).

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) أي : أن الباء للسببية. انظر الكشاف ٣ / ٤٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) أي أن الباء للبدل. انظر الكشاف ٣ / ٦٤ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٤٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.

(٦) المرجعان السابقان.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٤.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.

(١١) من قوله تعالى : «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» [فصلت : ١١].

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.

١٩٧

قوله : (وَفارَ التَّنُّورُ) تقدم الكلام في التنور في سورة هود (١). (فَاسْلُكْ فِيها) أي : ادخل فيها. يقال : سلك فيه دخله ، وسلك غيره وأسلكه (٢)(مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : من كل زوجين من الحيوان (الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكيلا ينقطع نسل ذلك الحيوان) (٣) وكل واحد منهما زوج ، لا كما تقوله العامة : إنّ الزوج هو الاثنان (٤). روي أنه لم يحمل إلّا ما يلد ويبيض (٥). وقرىء : «من كلّ» بالتنوين و «اثنين» تأكيد وزيادة بيان (٦) «وأهلك» أي : وأدخل أهلك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ولفظ (على) إنما يستعمل في (٧) المضارّ قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٨)(٩). وهذه الآية تدل على أمرين :

__________________

(١) عند قوله تعالى : «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» [هود : ٤٠].

وذكر ابن عادل هناك : والتنور قيل وزنه (تفعول) ، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ، ثم حذفت تخفيفا ، ثم شددت النون للعوض عن المحذوف ويعزى هذا لثعلب. وقيل وزنه (فعول) ويعزى لأبي علي الفارسي.

وقيل : هو أعجمي وعلى هذا فلا اشتقاق له ، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون.

انظر اللباب ٤ / ٣٤٥.

(٢) في اللسان (سلك) : سلك المكان يسلكه سلكا وسلوكا ، وسلكه غيره ، وفيه ، وأسلكه إيّاه ، وفيه ، وعليه. قال عبد مناف بن ربع الهذلي:

حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا

وقال ساعدة بن العجلاني :

وهم منعوا الطريق وأسلكوهم

على شمّاء مهواها بعيد

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) الزوج : خلاف الفرد ، ويقال : زوج وفرد ، فالزّوج الفرد الذي له قرين. قال أبو بكر : العامة تخطىء فتظنّ أن الزوج اثنان ، وليس ذلك من مذاهب العرب ، إذ كانوا لا يتكلمون بالزوج موحدا في مثل قولهم : زوج حمام ، ولكنهم يثنونه فيقولون : عندي زوجان من الحمام يعنون ذكرا وأنثى. اللسان (زوج).

(٥) الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.

(٦) والقراءة بالتنوين قراءة حفص عن عاصم. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بلا تنوين. فمن نون عدّى الفعل ، وهو «اسلك» إلى «زوجين» فنصبهما بالفعل وجعل «اثنين» نعتا ل «زوجين» وفيه معنى التأكيد ، و «من» على هذا يجوز أن تتعلق ب «اسلك» ، وأن تكون حالا ، والتقدير : اسلك فيها زوجين اثنين من كل شيء أو صنف ، ثم حذف ما أضيف إليه «كل» فنوّن. ومن أضاف عدّى الفعل إلى «اثنين» ، وخفض «زوجين» لإضافة «كل» إليهما والتقدير : اسلك فيها اثنين من كل زوجين أي : من كل صنفين. ف «من» على هذا حال ، لأنها صفة للنكرة قدمت عليها ويجوز أن تكون «من» زائدة ، والمفعول «كل» و «اثنين» توكيد ، وهذا على قول الأخفش. السبعة (٤٤٥) ، الكشف ١ / ٥٢٨ ، الحجة لابن خالويه (١٨٦) ، التبيان ٢ / ٦٩٧ ـ ٦٩٨.

(٧) في : سقط من ب.

(٨) [البقرة : ٢٨٦].

(٩) الكشاف ٣ / ٤٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.

١٩٨

أحدهما : أنه تعالى أمره بإدخال سائر من آمن به ، وإن لم يكن من أهله. وقيل :المراد بأهله من آمن دون من يتعمل به نسبا أو (١) حسبا. وهذا ضعيف ، وإلّا لما جاز الاستثناء بقوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ).

والثاني : قال : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) يعني : كنعان ، فإنه ـ سبحانه ـ لمّا أخبر بإهلاكهم ، وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم. لأنه إن أجابه إليه ، فقد صيّر خبره الصادق كذبا ، وإن لم يجبه إليه ، كان (٢) ذلك تحقيرا لشأن نوح ـ عليه‌السلام (٣) ـ ، فلذلك (٤) قال : (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي : الغرق نازل بهم لا محالة (٥). قوله : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) اعتدلت أنت ومن معك على الفلك ، قال ابن عباس : كان في السفينة ثمانون إنسانا ، نوح وامرأته سوى التي غرقت ، وثلاثة (٦) بنين ، سام ، وحام ، ويافث ، وثلاث نسوة لهم ، واثنان وسبعون إنسانا ، فكل الخلائق نسل (٧) من كان في السفينة (٨).

روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «ولد لنوح ثلاثة أولاد سام ، وحام ، ويافث ، فأمّا سام فأبو العرب وفارس والروم ، وأما يافث فأبو يأجوج ومأجوج والبربر ، وأما حام فأبو هذه الجلدة السوداء (٩) ويأجوج ومأجوج بنو عم الترك» (١٠).

قال ابن الجوزي (١١) : ولد لحام كوش ، ونبرش ، وموغع ، وبوان ، وولد لكوش نمرود ، وهو أول النماردة ، ملك بعد الطوفان ثلاثمائة سنة ، وعلى عهده (١٢) قسمت الأرض ، وتفرّق الناس واختلفت الألسن ، ونمرود إبراهيم الخليل ، ومن ولد نبرش الحرير ، ومن ولد موغع يأجوج ومأجوج ، ومن ولد بوان الصقالبة ، والنوبة ، والحبشة ، والهند ، والسند.

ولما اقتسم أولاد نوح الأرض ، نزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور ، فجعل الله فيهم الأدمة ، وبياضا قليلا ، ولهم أكثر الأرض ، وروي أن فالغ أبو (١٣) غابر قسم الأرض بين أولاد نوح بعد موت نوح ، فنزل سام (١٤) سرة الأرض فكانت فيهم الأدمة والبياض ، ونزل بنو يافث مجرى الشمال والصبا فكانت فيهم الحمرة والشقرة ، ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور فتغيرت ألوانهم.

__________________

(١) في ب : و.

(٢) في ب : وكان.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب : فكذلك. وهو تحريف.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.

(٦) في النسختين : ثلاث.

(٧) في ب : نسلي. وهو تحريف.

(٨) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٥.

(٩) السوداء : سقط من ب.

(١٠) انظر تاريخ الطبري ١ / ٢١٠ ، والبداية والنهاية لابن كثير ١ / ١٣٢ ـ ١٣٣.

(١١) تقدم.

(١٢) في الأصل : هذه. ثم صوب بالهامش.

(١٣) في الأصل : ابن.

(١٤) في الأصل : بنو سام.

١٩٩

روى ابن شهاب قال : قيل لعيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام (١) ـ أحي حام بن نوح ـ فقال : أروني قبره. فأروه ، فقام ، فقال : يا حام بن نوح احي بإذن الله ـ عزوجل ـ فلم يخرج ، ثم قالها الثانية (٢) ، فخرج ، وإذا (٣) شقّ رأسه ولحيته أبيض ، فقال : ما هذا ، قال : سمعت الدعاء الأول فظننت أنه من الله ـ تعالى ـ فشاب له شقي ، ثم سمعت الدعاء الثاني فعلمت أنه من الدنيا فخرجت ، قال : مذ كم متّ؟ قال : منذ أربعة آلاف سنة ، ما ذهبت عنّي سكرة الموت حتى الآن. وروي أن الذي أحياه عيسى ابن مريم سام بن نوح ، والله أعلم. وروي عن النمر بن هلال قال : الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ فاثنا عشر ألف للسودان ، وثمانية للروم ، وثلاثة للفرس وألف للعرب قال (٤) مجاهد : ربع من لا يلبس الثياب من السودان مثل جميع الناس.

قوله : (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الكافرين ، وإنما قال : «فقل» ولم يقل : فقولوا ، لأنّ نوحا كان نبيا لهم وإمامهم ، فكان قوله قولا لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية ، وأن رتبة ذلك المخاطب لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي (٥).

قال قتادة : علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)(٦) ، وعند ركوب الدابة : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا)(٧) ، وعند النزول : «وقل رب أدخلني منزلا مباركا» (٨)(٩). قال الأنصاري : وقال لنبينا : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)(١٠) ، وقال : (فَإِذا (١١) قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ)(١٢) فكأنه ـ تعالى ـ أمرهم أن لا يغفلوا عن ذكره في جميع أحوالهم (١٣).

قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) قرأ أبو بكر بفتح ميم (منزلا) وكسر الزاي ، والباقون بضم الميم وفتح الزاي (١٤) و (المنزل) (١٥) و (المنزل) كل منهما يحتمل أن

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في ب : ثانيا.

(٣) في ب : فإذا.

(٤) في ب : وقال.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٤٧ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٩٦.

(٦) من قوله تعالى : «وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» [هود : ٤١].

(٧) من قوله تعالى : «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» [الزخرف : ١٣].

(٨) [المؤمنون : ٢٩].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٦.

(١٠) [الإسراء : ٨٠].

(١١) في ب : وإذا. وهو تحريف.

(١٢) من قوله تعالى : «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» [النحل : ٩٨].

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٦.

(١٤) السبعة (٤٤٥) الكشف ٢ / ١٢٨ ، الحجة لابن خالويه (٢٥٦).

(١٥) والمنزل : سقط من ب.

٢٠٠