اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

وقال قوم : لا يجوز طرح الواو ، وجعلوا جواب (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ) في قوله : (يا وَيْلَنا) يكون مجازا لأنّ التقدير : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة) (١).

قوله : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ) «إذا» هنا للمفاجأة ، و«هي» (٢) فيها أوجه :

أجودها : أن يكون ضمير القصة ، و«شاخصة» خبر مقدم ، و«أبصار» مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر ل «هي» ، لأنها لا تفسر إلا بجملة مصرح بخبرها ، وهذا مذهب البصريين (٣).

الثاني : أن تكون «شاخصة» مبتدأ ، و«أبصار» فاعل سد مسد الخبر ، وهذا يتمشى على رأي الكوفيين ، لأن ضمير القصة يفسر عندهم بالمفرد العامل عمل الفعل فإنه في قوة الجملة (٤).

الثالث : قال الزمخشري : «هي» ضمير مبهم يوضحه الأبصار ويفسره كما فسر (الَّذِينَ ظَلَمُوا) وَأَسَرُّوا)(٥). ولم يذكر غيره. قال شهاب الدين : وهذا قول الفراء ، فإنه قال في ضمير الأبصار : تقدمت لدلالة (٦) الكلام ومجيء ما يفسرها ، وأنشد شاهدا على ذلك :

٣٧٣٧ ـ فلا وأبيها لا تقول خليلتي

ألا فرّ عنّي مالك بن أبي كعب (٧)(٨)

الرابع : أن تكون «هي» عمادا (٩) ، وهو قول الفراء أيضا قال : لأنه يصلح موضعها

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من الأصل. أي : أن جواب الشرط محذوف تقديره قالوا يا ويلنا ، وهو مذهب البصريين ذكره الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٠٥.

(٢) هي : سقط من ب.

(٣) أي أنّ مفسر ضمير الشأن والقصة لا يكون عندهم إلا جملة. التبيان ٢ / ٩٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٩ ، المغني ٢ / ٤٩٠.

(٤) الكوفيون والأخفش يجوزون تفسير ضمير الشأن والقصة بمفرد له مرفوع نحو : كان قائما زيد ، وظننته قائما عمرو. البحر المحيط ٦ / ٣٣٩. المغني ٢ / ٤٩٠.

(٥) من قوله تعالى :«لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» [الأنبياء : ٣] الكشاف ٣ / ٢١.

(٦) في الأصل : في دلالة.

(٧) البيت من بحر الطويل قاله مالك بن أبي كعب. وهو في معاني القرآن للفراء ٢ / ٢١٢ برواية : لعمر أبيها لا تقول ظعينتي. وتفسير ابن عطية ١٠ / ٢٠٨ والقرطبي ١١ / ٣٤٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٠. الظعينة : المرأة في الهودج. الخليل : المحب الذي ليس في محبته خلل والأنثى خليلة.

(٨) الدر المصون ٥ / ٥٩ ، وانظر أيضا معاني القرآن للفراء ٢ / ٢١٢.

(٩) يريد بقوله : (عمادا) ضمير الفصل والفصل تسمية البصريين والعماد تسمية الكوفيين. وهذا الضمير يشترط فيما قبله كونه مبتدأ في الحال أو في الأصل ، وأجاز الأخفش وقوعه بين الحال وصاحبها نحو جاء زيد هو ضاحكا. وكونه معرفة ، وأجاز الفراء وهشام ومن تابعهما من الكوفيين كونه نكرة نحو : ما ـ

٦٠١

هو ، فتكون كقوله : (إِنَّهُ أَنَا اللهُ)(١) ومثله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ)(٢) وأنشد :

٣٧٣٨ ـ بثوب ودينار وشاة ودرهم

فهل هو مرفوع بما هاهنا راس (٣)

وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي ، وهو أنه يجيز تقدم الفصل مع الخبر المتقدم نحو : هو خير منك زيد. الأصل زيد هو خير منك (٤). وقال أبو حيان : أجاز هو القائم زيد ، على أنّ زيدا هو المبتدأ ، والقائم خبره ، وهو عماد ، وأصل المسألة : زيد هو القائم (٥).

قال شهاب الدين : وفي التمثيل نظر ، لأنّ تقديم الخبر هنا ممتنع لاستوائهما في التعريف بخلاف المثال المتقدم (٦). فيكون أصل الآية الكريمة : فإذا أبصار الذين كفروا هي شاخصة ، فلما قدم الخبر ، وهو (٧) «شاخصة» ، قدم معها العماد.

وهذا أيضا إنما يجيء على مذهب من يرى وقوع العماد قبل النكرة غير المقارنة للمعرفة (٨).

الخامس : أن تكون «هي» مبتدأ وخبره مضمر ، فيتم الكلام حينئذ على «هي» ويبتدأ بقوله : (شاخِصَةٌ أَبْصارُ) ، والتقدير : فإذا هي بارزة ، أي : الساعة بارزة أو حاضرة و«شاخصة» خبر مقدم ، و«أبصار» مبتدأ مؤخر. ذكره الثعلبي (٩).

__________________

ـ ظننت أحدا هو القائم. ويشترط فيما بعده كونه خبرا في الحال أو في الأصل ، وكونه معرفة أو كالمعرفة في أنه لا يقبل (أل) ، وشرط الذي كالمعرفة أن يكون اسما كخير ، وخالف في ذلك الجرجاني فألحق المضارع بالاسم لتشابههما ، وجعل منه إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج : ١٣] ويشترط فيه أن يكون بصيغة المرفوع ، وأن يطابق ما قبله ، فلا يجوز كنت هو الفاضل. وفائدته الإعلام من أول الأمر بأن ما بعده خبر لا تابع ، ولهذا سمي فصلا ، لأنه يفصل بين الخبر والتابع ، وعمادا لأنه يعتمد عليه معنى الكلام ، والتوكيد والاختصاص. وزعم البصريون أنه لا محل له وقال الكوفيون له محل ، ثم قال الكسائي محله بحسب ما بعده ، وقال الفراء بحسب ما قبله. انظر المغني ٢ / ٤٩٣ ـ ٤٩٧.

(١) من قوله تعالى : «يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» [النمل : ٩].

(٢) [الحج : ٤٦].

(٣) البيت من بحر الطويل لم أهتد إلى قائله ، وهو في معاني القرآن للفراء ٢ / ٢١٢. والبحر المحيط ٦ / ٣٤٠ ، شرح التصريح ٢ / ٧٢ ، الهمع ٢ / ٩٩ ، ١٠١ الدرر ٢ / ١٣٣ ، ١٣٤.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٠.

(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٤٠.

(٦) الدر المصون : ٥ / ٥٩.

(٧) في الأصل : وهي.

(٨) أجاز قوم من الكوفيين وقوع العماد بين نكرتين مطلقا ، وخرجوا عليه «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ» [النحل : ٩٢]. وذهب قوم منهم إلى جواز وقوعه بعد اسم (لا) نحو لا رجل منطلق. وذهب آخرون إلى جواز وقوعه قبل المضارع نحو كان زيد هو يقوم. علما بأنه يشترط فيما بعده أن يكون معرفة أو كالمعرفة في أنه لا يقبل أل نحو زيد هو خير منك. وذهب قوم إلى جواز وقوعه بين نكرتين كمعرفتين في امتناع دخول أل نحو : ما أظن أحدا هو خيرا منك. انظر الهمع ١ / ٦٨.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٠.

٦٠٢

وهو بعيد جدا لتنافر التركيب ، وهو التعقيد عند علماء البيان (١).

قوله : (يا وَيْلَنا) معمول لقول محذوف ، أي : يقولون يا ويلنا (٢). وفي هذا القول المحذوف وجهان :

أحدهما : أنه جواب (حَتَّى إِذا) كما تقدم (٣).

والثاني : في محل نصب على الحال من (الَّذِينَ كَفَرُوا) قاله الزمخشري (٤).

قوله : (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) يعني في الدنيا حيث كذبناه وقلنا (٥) : إنه غير كائن ، بل كنا ظالمين أنفسنا بتلك الغفلة وتكذيب محمد ، وعبادة الأوثان (٦).

قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ)(١٠٠)

قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) أتى هنا ب «ما» وهي لغير العقلاء ، لأنه متى اختلط العاقل بغيره يخيّر الناطق بين (ما) ، و(من) (٧).

وقرأ العامة : «حصب» بالمهملتين والصاد مفتوحة ، وهو ما يحصب أي : يرمى في النار ولا يقال له حصب إلا وهو في النار ، فأما قبل ذلك فهو حطب وشجر وغير ذلك (٨).

وقيل : يقال له حصب قبل الإلقاء في النار. قيل : هو الحطب بلغة أهل اليمن (٩).

وقال عكرمة : هو الحطب بالحبشية (١٠). وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة ورويت عن ابن كثير بسكون الصاد (١١) ، وهو مصدر ، فيجوز أن يكون واقعا موقع المفعول (١٢) ،

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٠.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٢١ ، التبيان ٢ / ٩٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٠.

(٣) تقدم قريبا.

(٤) الكشاف ٣ / ٢١.

(٥) في الأصل : وقد قلنا.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٢.

(٧) وذلك أن (من) الموصولة الأصل فيها أن تكون للعاقل نحو «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» والأصل في (ما) أن تكون لغير العاقل نحو«ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ» [النحل : ٩٦] وإذا اختلط العاقل بغيره فقد يعبر بمن نحو«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» [الحج : ١٨]. وقد يعبر عنه بما نحو «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» [الحشر : ١] و[الصف : ١] هذا إذا كان المقصود بقوله : «وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ» الأصنام وغيرهم من المسيح وعزير. أما إذا كان المقصود الأصنام فقط ف (ما) على أصلها. انظر شرح التصريح ١ / ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٨) انظر اللسان (حصب) والبحر المحيط ٦ / ٣٤٠ ، الإتحاف ٣١٢.

(٩) وهو قول الفراء. معاني القرآن ٢ / ٢١٢.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٥٣٥.

(١١) المحتسب ٢ / ٦٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٠.

(١٢) انظر المحتسب ٢ / ٦٧ ، التبيان ٢ / ٩٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٠.

٦٠٣

أو على المبالغة ، أو على حذف مضاف. وقرأ ابن عباس بالضاد معجمة مفتوحة أو ساكنة (١) وهو أيضا ما يرمى به في النار (٢) ، ومنه المحضب عود يحرّك به النار لتوقد ، وأنشد :

٣٧٣٩ ـ فلا تك في حربنا محضبا

فتجعل قومك شتّى شعوبا (٣)

وقرأ أمير المؤمنين وأبيّ وعائشة وابن الزبير «حطب» بالطاء (٤) ، ولا أظنها إلا تفسيرا لا قراءة (٥).

فصل

المعنى «إنّكم» أيّها المشركون (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي: وقودها ، وهذا تشبيه (٦). وأصل الحصب الرمي (٧) ، قال تعالى : (أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً)(٨) أي : ريحا ترميهم بالحجارة.

قوله : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ). جوز أبو البقاء في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون بدلا من (حَصَبُ جَهَنَّمَ)(٩).

يعني : أن الجملة بدل من المفرد الواقع خبرا ، وإبدال الجملة من المفرد إذا كان أحدهما بمعنى الآخر ، جائز ، إذ التقدير : إنكم أنتم لها واردون (١٠).

__________________

(١) المختصر (٩٣). المحتسب ٢ / ٦٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٠.

(٢) أي : أن الحضب : الحطب ، ففيه ثلاث لغات : حطب ، وحضب ، وحصب. المحتسب ٢ / ٦٧.

(٣) البيت من بحر المتقارب قاله الأعشى ، وليس في ديوانه ، وهو في المحتسب ٢ / ٦٧ واللسان (حضب) ، تفسير ابن عطية : ١٠ / ٢١٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٠. المحضب : المسعر ، وهو عود تحرك به النار عند الإيقاد. يقول : لا تحرك الفتنة وتشعل نار الحرب فتفرق قومك وتجعلهم شعوبا مختلفة.

(٤) المحتسب ٢ / ٦٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٠.

(٥) في ب : تلاوة.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٥٣٤ ـ ٥٣٥.

فالمراد يقذفون في نار جهنم ، فشبههم بالحصباء التي يرمى بها الشيء فلما رمي بها كرمي الحصباء جعلهم حصب جهنم تشبيها. الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٤.

(٧) الكشاف ٣ / ٢١.

(٨) من قوله تعالى : «إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ» [القمر : ٣٤].

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٢٨.

(١٠) وذلك أن ابن جني والزمخشري وابن مالك أجازوا إبدال الجملة من المفرد كقول الفرزدق :

إلى الله أشكو بالمدينة حاجة

وبالشام أخرى كيف يلتقيان

أبدل (كيف يلتقيان) من (حاجة) و(أخرى) أي : إلى الله أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما ، وجعل منه ابن مالك : عرفت زيدا أبو من هو. وذكر الأزهري أنه بدل كل ، والظاهر أنه بدل اشتمال. وإنما صح ذلك لرجوع الجملة إلى التقدير بالمفرد. انظر شرح التصريح ٢ / ١٦٢ ـ ١٦٣ ، الهمع ٢ / ١٢٨ ، شرح الأشموني ٣ / ١٣٢.

٦٠٤

والثاني : أن تكون الجملة مستأنفة (١).

والثالث : أن تكون في محل نصب على الحال من «جهنّم» (٢) وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير مواضع المستثناة (٣). ومعنى (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) أي : فيها داخلون. وإنما جاءت اللام في «لها» لتقدمها تقول : أنت لزيد ضارب. كقوله تعالى : «و (الَّذِينَ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)(٤) والمعنى : أنه لا بدّ وأن تردوها ، ولا معدل لكم من دخولها (٥).

فصل

روى ابن عباس (٦) أنه ـ عليه‌السلام (٧) ـ دخل المسجد وصناديد (٨) قريش في الحطيم (٩). وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فجلس إليهم ، فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى أفحمه ، ثم تلا عليهم (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية. فأقبل عبد الله بن الزّبعرى فرآهم يتهامسون ، فقال : فيم (١٠) خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله. فقال ابن الزبعرى : أنت قلت ذلك؟ قال نعم.

قال : خصمتك ورب الكعبة ، أليس اليهود عبدوا عزيرا ، والنصارى عبدوا المسيح ، وبنو مليح (١١) عبدوا الملائكة. فسكت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يجب ، فضحك القوم ، ونزل قوله تعالى (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)(١٢).

ونزل في عيسى والملائكة (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى)(١٣). وفي رواية

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٢٨.

(٢) المرجع السابق.

(٣) ذكرنا سابقا ما قاله السيوطي في الهمع من أن بعض البصريين وصاحب البسيط جوزوا مجيء الحال من المضاف إليه مطلقا. وعلى ذلك فكون الجملة حالا من (جهنم) على مذهب من جوز مجيء الحال من المضاف إليه مطلقا.

(٤) [المؤمنون : ٨]. [المعارج : ٣٢] وهذه اللام تسمى لام التقوية ، وهي المزيدة لتقوية عامل ضعف إمّا بتأخير أو بكونه فرعا في العمل.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٤.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٨) الصناديد جمع صنديد ، وهم أشراف القوم وعظماؤهم. اللسان (صند).

(٩) الحطيم : قال ابن عباس : الحطيم الجدار بمعنى جدار الكعبة ، ابن سيدة : الحطيم حجر مكة مما يلي الميزاب ، سمي بذلك لانحطام الناس عليه. اللسان (حطم).

(١٠) في ب : ففيم.

(١١) في الأصل : بليح. وهو تحريف.

(١٢) [الزخرف : ٥٧ ، ٥٨].

(١٣) [الأنبياء : ١٠١].

٦٠٥

أخرى أنه ـ عليه‌السلام (١) ـ قال : «بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك» فأنزل الله ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى)(٢) يعني عزيرا والمسيح والملائكة. قال ابن الخطيب : واعلم أنّ سؤال ابن الزبعرى غير متوجه من وجوه :

أحدها : أنّ ذلك الخطاب كان مع مشركي مكة ، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط.

وثانيها : أنه لم يقل : ومن تعبدون بل قال : (وَما تَعْبُدُونَ). وكلمة «ما» لا تتناول العقلاء ، وأما قوله تعالى : (وَما بَناها)(٣) وقوله : (لا (٤) أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)(٥) فحمول على الشيء (٦) ، ونظيره هاهنا أن يقال : إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله ، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم فلا يتوجه سؤال ابن الزبعرى.

وثالثها : أنّ من عبد الملائكة لا يدّعي أنهم آلهة وقال سبحانه (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها)(٧).

ورابعها : أنه ثبت العموم لكنه مخصوص بالدلائل العقلية والسمعية في حق الملائكة والمسيح وعزير لبراءتهم من الذنوب والمعاصي ، ووعد الله إياهم بكل مكرمة ، وهو المراد بقوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى)(٨).

وخامسها : الجواب الذي ذكره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو أنهم كانوا يعبدون الشياطين. فإن قيل : الشياطين عقلاء ولفظ «ما» لا يتناولهم ، فكيف قال ذلك؟ قلنا : كأنه ـ عليه‌السلام (٩) ـ قال : لو ثبت لكم أنه يتناول العقلاء فسؤالكم أيضا غير لازم من هذا الوجه.

فأما ما قيل : إنه ـ عليه‌السلام (١٠) ـ سكت عند إيراد ابن الزبعرى هذا (١١) السؤال ، فهو خطأ ، لأنه لا أقل من أنه ـ عليه‌السلام (١) ـ كان يتنبّه لهذه الأجوبة التي ذكرها المفسرون ، لأنه أعلم منهم باللغة وبتفسير القرآن ، فكيف يجوز أن تظهر هذه الأجوبة لغيره ، ولم يظهر له منها شيء.

فإن قيل : يجوز أن يسكت عليه‌السلام (١) انتظارا للبيان. قلنا : كان البيان حاضرا معه ، فلم يجز عليه السكوت ، لكي لا يتوهم عليه الانقطاع من سؤالهم.

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) تقدم قريبا.

(٣) من قوله تعالى : «وَالسَّماءِ وَما بَناها» [الشمس : ٥].

(٤) في النسختين : ولا. وهو تحريف.

(٥) [الكافرون : ٢] ، ولعله يريد قوله تعالى : «وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» [الكافرون : ٣ ، ٥] ، فإن (ما) في الآية التي ذكرها على أصلها وهي لغير العاقل ، ولورود قوله : وَالسَّماءِ وَما بَناها وقوله : «وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» زعم قوم منهم ابن درستويه ، وأبو عبيدة ، ومكي ، وابن خروف وقوعها على آحاد من يعقل مطلقا. انظر الهمع ١ / ٩١.

(٦) في النسختين : النفي. والصواب ما أثبته.

(٧) [الأنبياء : ٩٩].

(٨) [الأنبياء : ١٠١].

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) في ب : هل. وهو تحريف.

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

٦٠٦

ومن الناس من أجاب عن سؤال ابن الزبعرى ، فقال : إن الله ـ تعالى ـ يصوّر لهم في النار ملكا على صورة من عبدوه وحينئذ تبقى الآية على ظاهرها وهذا ضعيف من وجهين :

الأول : أنّ القوم لم يعبدوا تلك الصورة وإنما عبدوا شيئا آخر لم يحصل معهم في النار.

الثاني : أنّ الملك لا يصير حصب جهنم في الحقيقة ، وإن صح أن يدخلها ، فإنّ خزنة النار يدخلونها مع أنهم ليسوا حصب جهنم (١).

فصل(٢)

الحكمة في أنهم قرنوا بآلهتهم أمور :

أحدها : أنّهم لا يزالون بمقارنتهم في زيادة غم وحسرة ، لأنهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلا بسببهم ، والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب.

وثانيها : أنّهم قدّروا أن يشفعوا لهم في الآخرة ، فإذا وجدوا الأمر على عكس ما قدّروا لم يكن (٣) شيء أبغض إليهم منهم.

وثالثها : أنّ إلقاءها في النار يجري مجرى الاستهزاء بها.

ورابعها : قيل ما كان منها حجرا أو حديدا يحمى فيعذب بعبادها (٤) ، وما كان خشبا يجعل جمرة يعذب بها صاحبها.

قوله تعالى : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) اعلم أنّ قوله (٥)(وَما تَعْبُدُونَ) بالأصنام أليق ، لدخول لفظ «ما» ، وهذا الكلام بالشياطين أليق ، لقوله : «هؤلاء» ويحتمل أن يريد الشياطين والأصنام وغلب العقلاء (٦) ونبه الله ـ تعالى ـ على أنه من (٧) يرمى في النار لا يمكن أن يكون إلها. قال ابن الخطيب : وهنا سؤال ، وهو أنّ قوله (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) لكنهم وردوها ، فهم ليسوا آلهة ، وهذه (٨) الحجة إما أن يكون ذكرها لنفسه أو لغيره ، فإن ذكرها لنفسه فلا فائدة فيه ، لأنه كان عالما بأنها ليست آلهة ، وإن ذكرها لغيره فإما أن يذكرها لمن يصدق بنبوته ، (أو ذكرها لمن يكذّب بنبوته) (٩) فإن ذكرها لمن يصدّق بنبوته فلا حاجة إلى هذه الحجة ، لأنّ كل من صدق (١٠) بنبوته (١١) لم

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٢) نقل ابن عادل هذا الفصل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٤٢٢.

(٣) في ب : لم يكن لهم.

(٤) في ب : بعبادتها.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

(٦) انظر استعمال (ما) قبل صفحات.

(٧) من : سقط من ب.

(٨) في الأصل : هذه.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) في ب : يصدق.

(١١) في الأصل : نبوته.

٦٠٧

يقل بإلاهية هذه الأصنام (١) ، وإن ذكرها لمن كذب بنبوته فذلك المكذب لا يسلم أنّ تلك الآلهة يردون النار ، فكان ذكر هذه الحجة لا فائدة فيه كيف كان.

وأيضا فالقائلون بإلاهيتها لم يعتقدوا إلا كونها تماثيل الكواكب أو صورة الشفعاء ، وذلك لا يمنع من دخولها النار. وأجيب عن ذلك بأن (٢) المفسرين قالوا : المعنى لو كان هؤلاء ـ يعني الأصنام ـ آلهة على الحقيقة ما وردوها ، أي : ما دخل عابدوها النار (٣).

قوله : «آلهة» العامة على النصب خبرا ل «كان» (٤). وقرأ طلحة بالرفع (٥) وتخريجها كتخريج قوله :

٣٧٤٠ ـ إذا متّ كان الناس صنفان (٦)

ففيها ضمير الشأن (٧).

قوله : (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) يعني : العابدين والمعبودين ، وهو تفسير (٨) لقوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)(٩).

وقوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ)(١٠) قال الحسن : الزفير هو اللهيب (١١) ، أي : يرتفعون بسبب لهب النار حتى إذا ارتفعوا وأرادوا الخروج ضربوا بمقامع الحديد ، فهووا إلى أسفلها سبعين خريفا. قال الخليل : الزفير أن يملأ الرجل صدره غما ثم يتنفس (١٢).

__________________

(١) الأصنام : سقط من ب.

(٢) في ب : فإن. وهو تحريف.

(٣) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٤ ، ٢٢٥.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٠.

(٥) المرجع السابق.

(٦) جزء بيت من بحر الطويل قاله العجير السلولي ، والبيت بتمامه :

إذا متّ كان الناس صنفان شامت

وآخر مثن بالذي كنت أصنع

وقد تقدم.

(٧) أي أن اسم (كان) ضمير الشأن مضمر فيها ، وجملة «هؤُلاءِ آلِهَةً» من المبتدأ والخبر في محل نصب خبر ل (كان) ، وهي مفسرة لضمير الشأن. والتقدير : لو كان الشأن هؤلاء آلهة. وضمير الشأن يضمر في باب (كان) كما هنا ، وباب (كاد) نحو قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) [التوبة : ١١٧] في قراءة «يزيغ» بالتحتية وهي قراءة حمزة وحفص عن عاصم. السبعة (٣١٩). ويبرز مبتدأ نحو (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] واسم (ما) كقول الشاعر :

وما هو من يأسو الكلوم ويتقى

به نائبات الدهر كالدائم النجل

ويبرز منصوبا في بابي (أنّ) نحو (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن : ١٩].

و(ظن) نحو قول الشاعر :

علمته الحق لا يخفى على أحد

انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٠ ، الهمع ١ / ٦٧.

(٨) في ب : وهذا التفسير.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٥.

(١٠) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٥.

(١١) في ب : اللهب.

(١٢) العين : (زفر).

٦٠٨

قال أبو مسلم : قوله : «لهم» عام لكل معذب ، فيقول : لهم زفير من شدة ما ينالهم والضمير في قوله : (وَهُمْ فِيها) يرجع إلى المعبودين أي : لا يسمعون صراخهم وشكواهم ، ومعناه أنهم (١) لا يغيثونهم ، وشبهه : (سمع الله لمن حمده) ، أي : أجاب الله دعاه.

وقوله : (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) على قول أبي مسلم محمول على الأصنام.

ومن حمله على الكفار فيحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ الكفار يحشرون صما كما يحشرون عميا زيادة في عذابهم.

والثاني : لا يسمعون ما ينفعهم ، لأنهم إنما يسمعون أصوات المعذبين ، أو كلام من يتولى تعذيبهم من الملائكة.

والثالث : قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : إنّ الكفار يجعلون في توابيت (٢) (من نار ، ثم يجعل تلك التوابيت في توابيت أخر ، ثم تلك التوابيت في توابيت) (٣) أخر من نار عليها مسامير من نار ، فلذلك لا يسمعون شيئا ، ولا يرى أحد منهم أنّ أحدا يعذب غيره. والأول ضعيف ، لأنّ أهل النار يسمعون كلام أهل الجنة ، فلذلك يستغيثون بهم على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف (٤)(٥).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(١٠٣)

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية. قال بعض أهل العلم (٦) «إنّ» ههنا بمعنى (إلا) أي : إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى (٧).

قال ابن الخطيب : قد بينا فساد هذا القول ، وذكرنا (٨) أنّ سؤال ابن الزبعرى لم يكن واردا (٩) ، فلم يبق إلا أحد أمرين :

__________________

(١) أنهم : سقط من الأصل.

(٢) التوابيت جمع تابوت ، وهو الصندوق الذي يحرز فيه المتاع ، وعند قدماء المصريين صندوق من حجر أو خشب توضع فيه الجثة ، عليه من الصور والرسوم ما يصور آمال المصريين وعقائدهم في العالم الآخر. المعجم الوسيط ١ / ٨٤ (تبت)

(٣) ما بين القوسين سقط من ب.

(٤) في قوله تعالى : «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» [الأعراف : ٥٠].

(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٥.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٦.

(٧) قال القرطبي : (فمعنى الكلام الاستثناء ، ولهذا قال بعض أهل العلم : «إن» هنا بمعنى (إلا) وليس في القرآن غيره) تفسير القرطبي ١١ / ٣٤٥.

(٨) في ب : وذكر.

(٩) انظر ما سبق قريبا.

٦٠٩

الأول : أن يقال : إنّ عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار ، فلهذا ذكر هذه الآية عقيب تلك الآية فهي عامة في حق كل المؤمنين.

الثاني : أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعرى ثم قال : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وهذا هو الحق ، أجراها على عمومها ، فتكون الملائكة والمسيح وعزير ـ عليهم‌السلام (١) ـ داخلين فيها ، لا أنّ الآية مختصة بهم. ومن قال العبرة بخصوص السبب خصص قوله : (إِنَّ الَّذِينَ) بهؤلاء فقط (٢).

قوله : «منّا» يجوز أن يتعلق ب «سبقت» ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الحسنى» (٣) قال الزمخشري : «الحسنى» الخصلة (٤) المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن وهي إما السعادة ، وإما البشرى بالثواب ، وإما التوفيق للطاعة (٥) ثم شرح أحوال ثوابهم (٦) فقال : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ). قال أهل العفو معناه : أولئك عنها مخرجون ، واحتجوا بوجهين :

الأول : قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)(٧) أثبت الورود ، والورود الدخول ، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج.

والثاني : أن إبعاد الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن الآخر ، لأنّ تحصيل الحاصل محال.

وقالت المعتزلة : «أولئك عنها مبعدون» لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة. واحتج القاضي عبد الجبار على فساد الأول بأمور :

أحدها : أنّ قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) يقتضي أنّ الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا ، وليس هذا (٨) حال من يخرج من النار.

وثانيها : أنه تعالى قال : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) فكيف يدخل في ذلك من وقع فيها.

وثالثها : قوله : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) وقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) يمنع من ذلك. والجواب عن الأول لا نسلم أنّ المراد من قوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) هو أن الوعد بثوابهم قدتقدم ، ولم لم يجوز أن يكون المراد من «الحسنى» تقدم الوعد بالثواب ، (لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا) (٩) يليق بحال من يخرج من النار فإن عنده المحابطة (١٠) باطلة ، ويجوز الجمع بين استحقاق الثواب والعقاب. وعن (١١) الثاني : أنا

__________________

(١) في ب : عليهم الصلاة والسلام.

(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٦.

(٣) انظر التبيان ٢ / ٩٢٨.

(٤) في ب : الخصلة الحسنى.

(٥) الكشاف ٣ / ٢١.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٦.

(٧) من قوله تعالى : «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» [مريم : ٧١].

(٨) في الأصل : هذه. وهو تحريف.

(٩) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٠) في الأصل : المخاطبة. وهو تحريف.

(١١) في ب : وعلى.

٦١٠

بينا أنّ قوله : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار. وعن الثالث : أن قوله : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) مخصوص بما (١) بعد الخروج (٢).

وعلى قول المعتزلة بأن المراد بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها ، يبطل القول بأن جميع الناس يردون النار ، ثم يخرجون إلى الجنة ، فيجب التوفيق بينه وبين قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)(٣) وقد تقدم (٤).

قوله : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ) إلى قوله : (وَتَتَلَقَّاهُمُ)(٥) كل جملة من هذه الجمل يحتمل أن تكون حالا مما قبلها ، وأن تكون مستأنفة ، وكذلك الجملة المضمرة من القول العامل في جملة قوله (هذا يَوْمُكُمُ) إذ التقدير : وتتلقاهم الملائكة يقولون هذا يومكم.

فصل

معنى (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها)(٦) أي : صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازل لهم في الجنة. والحس والحسيس : الصوت الخفي (٧). (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) مقيمون كقوله : (وَفِيها ما) تشتهي (الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)(٨)(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) النفخة الأخيرة لقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ)(٩)(فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(١٠). وقال الحسن : حين يؤمر بالعبد إلى النار. وقال ابن جريج : حين يذبح الموت وينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت. وقال سعيد بن جبير والضحاك : هو أن تطبق جهنم ، وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه.

(وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي : تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(١١). فإن قيل : أي بشارة في أنهم لا يسمعون حسيسها؟

فالجواب : المراد منه تأكيد بعدهم عنها ، لأن من قرب منها قد يسمع حسيسها (١٢) فإن قيل : أليس أهل الجنة يرون أهل النار ، فكيف لا يسمعون حسيس النار؟ فالجواب : إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال (١٣).

__________________

(١) بما : سقط من ب.

(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٦.

(٣) [مريم : ٧١].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٧.

(٥) قال الله تعالى : «وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ».

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٣٨ ـ ٥٣٩.

(٧) اللسان (حسس).

(٨) [الزخرف : ٧١].

(٩) في النسختين : نفخ. وهو تحريف.

(١٠) [النمل : ٨٧]. وانظر الكشاف ٣ / ٢٢ ، الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٧.

(١١) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٣٨ ـ ٥٣٩.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٧.

(١٣) المرجع السابق.

٦١١

قوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(١٠٧)

قوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) الآية. في (يَوْمَ نَطْوِي) أوجه :

أحدها : أنه (١) منصوب ب «لا يحزنهم» (٢).

الثاني : أنه منصوب ب «تتلقاهم» (٣).

الثالث : أنه منصوب بإضمار (اذكر) أو (أعني) (٤).

الرابع : أنه بدل من العائد المقدر تقديره : توعدونه يوم نطوي ، ف «يوم» بدل من الهاء ، ذكره أبو البقاء (٥) وفيه نظر ، إذ يلزم من ذلك خلو الجملة الموصول بها من عائد على الموصول ، ولذلك منعوا جاء الذي مررت به أبي عبد الله ، على أن يكون (أبي عبد الله) بدلا من الهاء لما ذكر (٦) ، وإن كان في المسألة خلاف.

الخامس : منصوب بالفزع ، قاله الزمخشري (٧) ، وفيه نظر من حيث إنه أعمل المصدر الموصوف قبل أخذه معموله (٨). وقد تقدم أن نافعا يقرأ «يحزن» بضم الياء إلا هنا ، وأن شيخه ابن القعقاع يقرأ «يحزن» بالفتح إلا هنا (٩).

__________________

(١) أنه : سقط من الأصل.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٢٢ ، التبيان ٢ / ٩٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٢.

(٣) المراجع السابقة.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٢.

(٥) التبيان ٢ / ٩٢٨.

(٦) في ب : لما ذكره. وذلك لأنّ المبدل منه في حكم الطرح وإحلال البدل محله ، وهنا يمتنع إحلال البدل محل المبدل منه ، لما يلزم من خلو صلة الموصول من العائد ، فعلى هذا يكون النظر موجودا ، ومذهب سيبويه أنّ المبدل منه ليس مهدرا بالكلية ، لأنه قد يحتاج إليه لغرض آخر ، كقولك : زيد رأيت غلامه رجلا صالحا. فلو ذهبت تهدر الأول لم يصح كلامك. انظر شرح التصريح ٢ / ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٧) الكشاف ٣ / ٢٢.

(٨) وذلك لأنه يشترط في المصدر العامل عمل الفعل أن يكون غير منعوت قبل تمام عمله ، فلا يجوز أعجبني ضربك المبرح زيدا ، وذلك لأن المصدر المقدر بالحرف المصدري والفعل مع معموله كالموصول مع صلته فلا يتقدم ما يتعلق به عليه كما لا يتقدم شيء من الصلة على الموصول ، ولا يفصل بينهما بأجنبي كما لا يفصل بين الموصول والصلة. فإن ورد ما يوهم ذلك قدّر فعل بعد النعت يتعلق به المعمول المتأخر. انظر الأشموني ٢ / ٢٨٦ ـ ٢٩١.

(٩) [آل عمران : ١٧٦]. عند قوله تعالى :«وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً.

٦١٢

وقرأ العامة «نطوي» بنون العظمة (١). وشيبة بن نصاح (٢) في آخرين «يطوي» بياء الغيبة (٣) ، والفاعل هو الله تعالى (٤). وقرأ أبو جعفر في آخرين «تطوى» بضم التاء المثناة من فوق وفتح الواو مبنيا للمفعول (٥). وقرأ العامة «السّجلّ» بكسر السين والجيم وتشديد اللام كالطّمرّ (٦). وقرأ أبو هريرة وصاحبه أبو زرعة بن عمرو بن جرير (٧) بضمهما (٨) واللام مشددة أيضا بزنة «عتلّ» (٩). ونقل أبو البقاء تخفيفها في هذه القراءة أيضا فتكون بزنة عنق (١٠). وأبو السمال وطلحة والأعمش بفتح السين. والحسن وعيسى بن عمر بكسرها. والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة (١١).

قال أبو عمرو : قراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن (١٢). والسّجل الصحيفة مطلقا (١٣) وقيل : مخصوص بصحيفة العهد (١٤) ، وهي من المساجلة وهي المكاتبة.

والسّجل : الدلو الملأى (١٥). وقال بعضهم : هو فارسيّ معرب فلا اشتقاق له (١٦) و«طيّ» مصدر مضاف للمفعول ، والفاعل محذوف ، تقديره : كما يطوي الرجل الصحيفة ليكتب فيها ، أو لما يكتبه فيها من المعاني (١٧) ، والفاعل يحذف مع المصدر باطراد (١٨)

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٣ ، الإتحاف ٣١٢.

(٢) تقدم.

(٣) التبيان ٢ / ٩٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٣.

(٤) و«السّماء» بالنصب مفعول.

(٥) و«السّماء» بالرفع نائب. المختصر (٩٣) ، التبيان ٢ / ٩٢٨ ـ ٩٢٩. والبحر المحيط ٦ / ٣٤٣ ، الإتحاف (٣١٢).

(٦) التبيان ٢ / ٩٢٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٣ ، الإتحاف ٣١٢.

(٧) هو أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي ، كان من علماء التابعين الثقات ، وأهل الصدق ، رأى عليا ـ كرم الله وجهه ـ ، وروى عن جده وأبي هريرة ، وغيرهما ، وروى عنه عمه إبراهيم بن جرير وإبراهيم النخعي وغيرهما.

تهذيب التهذيب ١٢ / ٦٩.

(٨) في الأصل : بضمها. وهو تحريف.

(٩) المختصر (٩٣) ، المحتسب ٢ / ٦٧ ، التبيان ٢ / ٩٢٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٣.

(١٠) التبيان ٢ / ٩٢٩.

(١١) المحتسب ٢ / ٦٧ ، التبيان ٢ / ٩٢٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٣.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٣.

(١٣) وهو قول مجاهد. البحر المحيط ٦ / ٣٤٣.

(١٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٣.

(١٥) المرجع السابق.

(١٦) وهو قول أبي الفضل الرازي ، المرجع السابق.

(١٧) انظر البيان ٢ / ١٦٦ ، التبيان ٢ / ٩٢٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٣.

(١٨) وذلك أنّ المصدر إذا أضيف إلى مفعوله يحذف الفاعل كقوله :«لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ» [فصلت : ٤٩] أي : دعائه الخير وبذلك يفارق الفعل ، لأنّ الموجب للمنع فيه تنزيله إذا كان ضميرا متصلا كالجزء منه بدليل تسكين آخره ، وللفصل به بين الفعل وإعرابه في يفعلان ، وحذف الجزء من الكلمة لا يجوز بقياس ، وحمل عليه المنفصل والظاهر ، والمصدر لا يتصل به ضمير فاعل ، فلم تكن ـ

٦١٣

والكلام في الكاف معروف (١) أعني : كونها نعتا لمصدر مقدر (٢) أو حالا من ضميره. وأصل «طيّ» طوي ، فأعلّ كنظائره (٣). وروي عن علي وابن عباس : أنّ السجل اسم ملك يطوي كتب أعمال بني آدم (٤). وروى أبو الجوزاء (٥) عن ابن عباس : أنّ السجل اسم رجل كان يكتب لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) ـ. وعلى هذين القولين يكون المصدر مضافا لفاعله (٧) ، والكتاب اسم الصحيفة المكتوبة. قال بعضهم (٨) : وهذا القول بعيد ، لأنّ كتّاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانوا معروفين وليس فيهم من سمّي بهذا (٩). قال أبو إسحاق الزجاج : السجل الرجل بلغة الحبشة (١٠).

وقال الزمخشري : كما يطوى الطّومار (١١) للكتابة ، أي : ليكتب فيه ، أو لما يكتب فيه ، لأنّ الكتاب أصله المصدر كالبناء ، ثم يوقع على المكتوب (١٢). فقدره الزمخشري من الفعل المبني للمفعول ، وقد عرف ما فيه من الخلاف واللام في «الكتاب» إما مزيدة في المفعول إن قلنا : إنّ المصدر مضاف لفاعله(١٣). وإما متعلقة ب «طيّ» إذا قلنا : المراد بالسجل الطومار ، فالمصدر وهو الطيّ مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف ، والتقدير : كطي الطاوي السجل وهذا قول الأكثرين (١٤). وقيل : اللام بمعنى (على) (١٥) ، وهذا ينبغي أن لا يجوز لبعد معناه على كل قول.

__________________

ـ نسبة فاعله منه نسبة الجزء من الكلمة. وقال الكوفية لا يحذف بل يضمر في المصدر كما يضمر في الصفات والظرف. وقال أبو القاسم خلف بن فرتون بن الأبرش ينوى إلى جنب المصدر قال : ولا يجوز أن يقال إنه محذوف ، لأن الفاعل لا يحذف ولا يضمر لأن المصدر لا يضمر فيه لأنه بمنزلة اسم الجنس. ويجوز إبقاؤه مع الإضافة إلى المفعول في الأصح ، نحو قوله تعالى في قراءة يحيى بن الحارث الذماري عن ابن عامر ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم : ٢] برفع «عبده». المختصر (٨٣) الهمع ٢ / ٩٤.

(١) في ب : معروفة. وهو تحريف.

(٢) البيان ٢ / ١٦٦.

(٣) وذلك أنه متى اجتمعت الواو والياء في كلمة والسابق منهما متأصل ذاتا وسكونا تقلب الواو ياء وتدغم الياء في الياء نحو سيّد وميّت وطيّ وليّ. انظر شرح الشافية ٣ / ١٣٩.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٨.

(٥) هو أوس بن عبد الله الربعي أبو الجوزاء البصري ، روى عن أبي هريرة وعائشة ، وابن عباس وغيرهم ، مات سنة ٨٣ ه‍. تهذيب التهذيب ١ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ ، تقريب التهذيب ١ / ٨٦.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٨.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩٢٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٣.

(٨) وهو ابن الخطيب في تفسيره ٢٢ / ٢٢٨.

(٩) انظر الفخر الرازي ٢ / ٢٢٨.

(١٠) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٠٦.

(١١) الطّومار : الصحيفة ، وهو واحد الطّوامير. اللسان (طمر).

(١٢) الكشاف ٣ / ٢٢.

(١٣) وتسمى لام التقوية ، وهي المزيدة لتقوية عامل ضعف إما بتأخير أو بكونه فرعا في العمل كما هنا فالعامل مصدر ، وهو فرع في العمل عن الفعل. انظر التبيان ٢ / ٩٢٩ ، المغني ١ / ٢١٧.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٨ ، التبيان ٢ / ٩٢٩.

(١٥) انظر التبيان ٢ / ٩٢٩.

٦١٤

والقراءات المذكورة في السجل كلها لغات فيه (١).

وقرأ الأخوان (٢) وحفص «للكتب» جمعا. والباقون «للكتاب» مفردا (٣). والرسم يحتملهما فالإفراد يراد به الجنس والجمع للدلالة على الاختلاف ، والمعنى المكتوبات ، أي : لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة. فيكون معنى طي السجل للكتابة ، كون السجل ساترا (٤) لتلك الكتابة ومخفيا لها ، لأنّ الطي هو الدرج ضد النشر الذي يكشف. قوله : «كما بدأنا» في متعلق هذه الكاف وجهان :

أحدهما : أنها متعلقة ب «نعيده» ، و«ما» مصدرية ، و«بدأنا» صلتها ، فهي وما في حيزها في محل جر بالكاف. و (أَوَّلَ خَلْقٍ) مفعول «بدأنا» ، والمعنى : نعيد أوّل خلق إعادة مثل بدأتنا (٥) له ، أي : كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود (٦) وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال : الكاف نعت لمصدر محذوف أي : نعيده عودا كمثل بدئه (٧).

وفي قوله : عودا نظر إذ الأحسن أن يقول : إعادة (٨).

والثاني : أنّها تتعلق (٩) بفعل مضمر. قال الزمخشري : ووجه آخر ، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره «نعيده» و«ما» موصولة ، أي : نعيد مثل الذي بدأنا نعيده و«أوّل خلق» ظرف ل «بدأنا» أي : أول ما خلق ، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى (١٠). قال أبو حيّان : وفي تقديره (١١) تهيئة «بدأنا» لأن ينصب (أَوَّلَ خَلْقٍ) على المفعولية وقطعه عنه من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ، وارتكاب إضمار (نعيد) مفسرا ب «نعيده» وهذه عجمة في كتاب الله ، وأما قوله : ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره «نعيده» فهو ضعيف جدا ، لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف ، وليس مذهب الجمهور ، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفش ، وكونها اسما عند البصريين مخصوص بالشعر (١٢).

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩٢٩ ، اللسان (سجل).

(٢) حمزة والكسائي.

(٣) السبعة ٤٣١ ، الكشف ٢ / ١١٤ ، النشر ٢ / ٣٢٥ ، الإتحاف ٣١٢.

(٤) في ب : ساتر.

(٥) في ب : بدتنا. وهو تحريف.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤٣.

(٧) التبيان ٢ / ٩٢٩.

(٨) لأنه مصدر (أعاد).

(٩) في ب : متعلق. وهو تحريف.

(١٠) وتقديره : بدأناه. الكشاف ٣ / ٢٢.

(١١) قال الزمخشري :(«أَوَّلَ خَلْقٍ» مفعول نعيد الذي يفسره «نعيده» والكاف مكفوفة بما ، والمعنى نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء) الكشاف ٣ / ٢٢.

(١٢) الكاف تقع اسما في ضرورة الشعر عند سيبويه والمحققين ، فتجر بالحرف نحو قول الشاعر :

بيض ثلاث كنعاج جمّ

ضحكن عن كالبرد المنهمّ

وبالإضافة كقوله : ـ

٦١٥

قال شهاب الدين : كل ما قدره فهو جار (١) على القواعد المنضبطة وقاده إلى ذلك المعنى الصحيح فلا مؤاخذة عليه ، ويظهر ذلك بالتأمل لغير الفطن (٢) وأما «ما» ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها مصدرية.

والثاني : أنها بمعنى الذي. وقد تقدم تقرير هذين (٣).

والثالث : أنها كافة للكاف عن العمل كما في قوله :

٣٧٤١ ـ كما النّاس مجروم عليه وجارم (٤)

فيمن رفع (النّاس) قال الزمخشري : (أَوَّلَ خَلْقٍ) مفعول نعيد الذي يفسره «نعيده» (٥) والكاف مكفوفة ب «ما» والمعنى : نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيها للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لها على السواء ، فإن قلت : ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه قلت : أوله إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولا من عدم يعيده ثانيا من عدم (٦).

وأما (أَوَّلَ خَلْقٍ) فيحصل فيه أربعة أوجه : أحدها : أنه مفعول «بدأنا».

والثاني : أنه ظرف ل «بدأنا».

والثالث : أنه منصوب على الحال من ضمير الموصول (٧) كما تقدم تقريره (٨).

والرابع : أنه حال من مفعول «نعيده» قاله أبو البقاء (٩) ، والمعنى : مثل أول خلقه

__________________

 ـ تيم القلب حب كالبدر لا بل

فاق حسنا من تيّم القلب حبا

وتقع فاعلة كقوله :

أتنهون ولن ينهى ذوي شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

ومبتدأة كقوله :

بنا كالجوى مما تخاف وقد ترى

شفاء القلوب الصاديات الحوائم

واسم كان كقوله :

لو كان في قلبي كقدر قلامة

فضلا لغيرك ما أتتك رسائلي

ومفعولة كقول النابغة :

لا يبرمون إذا ما الأفق جلّله

برد الشتاء من الإمحال كالأدم

وذهب الأخفش والفارسي إلى أنها تقع اسما اختيارا كثيرا نظرا إلى كثرة السماع ، وعلى هذا يجوز في زيد كالأسد أن تكون الكاف في موضع رفع والأسد مخفوضا بالإضافة وعلى ذلك كثير من المعربين منهم الزمخشري كما هنا ، قال ابن هشام : ولو كان كما زعموا لسمع في الكلام مثل مررت بكالأسد.

البحر المحيط ٦ / ٣٤٣ ، المغني ١ / ١٨٠ ، الهمع ٢ / ٣١.

(١) في ب : جاز. وهو تصحيف.

(٢) الدر المصون : ٥ / ٦١.

(٣) الأوجه المتقدمة في الكاف تقدمت قريبا.

(٤) عجز بيت من بحر الطويل ، قاله عمرو بن براقة الهمداني ، وصدره : وننصر مولانا ونعلم أنّه.

(٥) في الأصل : نعيد.

(٦) الكشاف ٣ / ٢٢.

(٧) في ب : الموصوف. وهو تحريف.

(٨) الأوجه المتقدمة في الكاف تقدمت قريبا.

(٩) التبيان ٢ / ٩٢٩.

٦١٦

وأما تنكير «خلق» فلدلالته على التفصيل ، قال الزمخشري : فإن قلت : ما بال «خلق» منكرا. قلت : هو كقولك : أول رجل جاءني ، تريد أول الرجال ، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا ، فكذلك معنى أول خلق بمعنى أول الخلائق ، لأنّ الخلق مصدر لا يجمع (١).

قوله : «وعدا» منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المتقدمة ، فناصبه مضمر ، أي : وعدنا ذلك وعدا (٢).

فصل (٣)

اختلفوا في كيفية الإعادة فقيل : إن الله يفرق أجزاء الأجسام ولا يعدمها ثم إنه يعيد تركيبها فذلك هو الإعادة.

وقيل : إنه تعالى يعدمها بالكلية ، ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى ، وهذه الآية دالة على هذا الوجه ؛ لأنه تعالى شبه الإعادة بالابتداء ، والابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة بل عن الوجود بعد العدم ، فوجب أن تكون الإعادة كذلك (٤).

واحتج الأولون بقوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(٥) فدلّ هذا على أنّ السموات حال كونها (٦) مطويات تكون موجودة. وبقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ)(٧) وهذا يدلّ على أنّ الأرض باقية لكنها جعلت غير الأرض.

فصل

قال المفسرون : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلا (٨) كذلك نعيدهم يوم القيامة (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٩). روى ابن عباس عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا» ثم قرأ (١٠)(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)(١١). يعني الإعادة والبعث. وقيل : المراد حقّا علينا بسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه وأن وقوع ما علم الله وقوعه واجب (١٢).

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٢٢.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩٢٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٤٤.

(٣) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٩.

(٤) في ب : لذلك. وهو تحريف.

(٥) [الزمر : ٦٧].

(٦) في ب : لكونها. وهو تحريف.

(٧) من قوله تعالى : «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» [إبراهيم ٤٨].

(٨) أي قلفا ، والغرل جمع الأغرل. اللسان (غرل).

(٩) [الأنعام : ٩٤].

(١٠) في ب : قرىء. وهو تحريف.

(١١) أخرجه مسلم (جنة) ٤ / ١٢٩٤ ـ ٢١٩٥ ، الترمذي (قيامة) ٤ / ٦١٥ ـ ٦١٦ (تفسير) ٥ / ٣٢٢ ، النسائي (جنائز) ٤ / ١١٤ ـ ١١٧ ، الدارمي (رقاق) ٢ / ٣٢٦ أحمد ١ / ٢٢٣ ، ٢٢٩ ، ٢٣٥ ، ٢٥٣.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٩.

٦١٧

ثم حقق ذلك بقوله (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) قرأ حمزة بضم الزاي ، والباقون بفتحها (١) بمعنى المزبور (٢) كالمحلوب والمركوب (٣) ، يقال : زبرت الكتاب أي : كتبته (٤). والزّبور بضم الزاي جمع زبرة كقشرة وقشور (٥). ومعنى القراءتين واحد ، لأنّ الزبور هو الكتاب.

قال سعيد بن (٦) جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل : «الزّبور» جميع الكتب المنزلة ، و«الذّكر» أم الكتاب الذي عنده ، والمعنى من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ. وقال ابن عباس والضحاك : الزبور : التوراة ، والذكر : الكتب المنزلة من بعد التوراة. وقال قتادة والشعبي : الزبور والذكر : التوراة. وقيل : الزبور : زبور داود ، والذكر (٧) : القرآن ، و«بعد» بمعنى قبل (٨) كقوله : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ)(٩) أي(١٠) : أمامهم.

__________________

(١) السبعة (٤٣١) ، الكشف ٢ / ٤٠٢ ، النشر ٢ / ٢٥٣ ، الإتحاف (٣١٢).

(٢) في الأصل : المصدور. وفي ب : الزبور. وهو تحريف.

(٣) في الأصل : والمقبوض المركوب.

(٤) اللسان (زبر).

(٥) على ترك الاعتداد بالتاء ، وذلك لأن فعول ـ بضم الفاء والعين ـ من أمثلة جمع الكثرة ويطرد في خمسة أوزان :

الأول : ما كان على فعل ـ بفتح الفاء وكسر العين ـ نحو كيد وكيود ، ونمر ونمور.

الثاني : ما كان اسما على فعل ـ بفتح الفاء وسكون العين ـ وليست عينه واوا نحو كعب وكعوب.

الثالث : ما كان اسما على فعل ـ بكسر الفاء وسكون العين ـ نحو حمل وحمول.

الرابع : ما كان اسما على فعل ـ بضم الفاء وسكون العين ـ وليست عينة واوا ، ولا لامه ياء ولا مضعفا نحو جند وجنود.

الخامس : ما كان على فعل ـ بفتح الفاء والعين ـ اسما غير مضعف نحو أسد وأسود ، وشجن وشجون.

انظر شرح الأشموني ٤ / ١٣٥ ـ ١٣٧.

(٦) في النسختين : شعبة. من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٤١ ـ ٥٤٢.

(٧) في ب : الذكر.

(٨) قال أبو حاتم : وقالوا : قبل وبعد من الأضداد ، وقال في قوله عزوجل «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» أي : قبل ذلك. قال الأزهري : والذي قاله أبو حاتم عمن قاله خطأ قبل وبعد كل واحد منهما نقيض صاحبه ، فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر ، وهو كلام فاسد ، وأما قول الله عزوجل وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ، فإن السائل يسأل عنه فيقول : كيف قال بعد ذلك والأرض أنشأ خلقها قبل السماء ، والدليل على ذلك قوله تعالى : «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ» فِي يَوْمَيْنِ [فصلت : ٩] فلما فرغ من ذكر الأرض وما خلق فيها قال : «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» [فصلت : ١١]. وثم لا يكون إلا بعد الأول الذي ذكره قبله ، ولم يختلف المفسرون أن خلق الأرض سبق خلق السماء ، والجواب فيما سأل عنه السائل أنّ الدّحو غير الخلق ، وإنما هو البسط ، والخلق هو الإنشاء الأول فالله عزوجل خلق الأرض أولا غير مدحوة ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض أي بسطها. انظر اللسان (بعد).

(٩) يأخذ : سقط من الأصل. [الكهف : ٧٩].

(١٠) أي : سقط من ب.

٦١٨

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)(١) أي : قبله (٢). وقيل : الزبور : زبور داود ، والذكر هو ما روي أنه ـ عليه‌السلام (٣) ـ قال «كان الله ولم يكن معه شيء معه شيء ثم خلق الذكر» (٤). قوله : (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) يجوز أن يتعلق ب «كتبنا» (٥) ، ويجوز أن يتعلق بنفس «الزّبور» لأنه بمعنى المزبور ، أي : المكتوب ، أي: المزبور من بعد (٦). ومفعول «كتبنا» «أنّ» وما في حيزها ، أي : كتبنا وراثة الصالحين للأرض ، أي : حكمنا به (٧) قوله : (أَنَّ الْأَرْضَ) يعني (٨) أرض الجنة (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) قال مجاهد : يعني أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويدل عليه قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ)(٩). وقال ابن عباس : أراد أراضي الكفار يفتحها المسلمون ، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين.

وقيل : أراد (١٠) الأرض المقدسة (١١) يرثها الصالحون لقوله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها)(١٢)

(إِنَّ فِي هذا) أي (١٣) : في هذا القرآن يعني ما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة «لبلاغا» وصولا إلى البغية ، فمن اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب. وقيل : «لبلاغا» أي : كفاية ، والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر. (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي : مؤمنين. وقال ابن عباس : عالمين. وقال (١٤) كعب الأحبار : هم أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان (١٥).

وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً) يجوز أن ينتصب «رحمة» مفعولا له ، أي : لأجل الرحمة. ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة في (١٦) أن جعله نفس الرحمة ، وإما على حذف مضاف أي : ذا رحمة ، أو بمعنى راحم (١٧). وفي الحديث : «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة» (١٨).

قوله : «للعالمين» يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «رحمة» أي : كائنة

__________________

(١) [النازعات : ٣٠].

(٢) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٤١ ـ ٥٤٢.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢٩.

(٥) في ب : لكتبنا. وهو تحريف. التبيان ٢ / ٩٢٩.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٢٩.

(٧) به : سقط من ب.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٤٢ ـ ٥٤٣.

(٩) [الزمر : ٧٤].

(١٠) أراد : سقط من ب.

(١١) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٤٢ ـ ٥٤٣.

(١٢) [الأعراف : ١٣٧].

(١٣) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٤٣ ـ ٥٤٤.

(١٤) في الأصل : قال.

(١٥) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٤٣ ـ ٥٤٤.

(١٦) في ب : و. وهو تحريف.

(١٧) انظر التبيان ٢ / ٩٢٩.

(١٨) أخرجه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة.

الدر المنثور ٤ / ٣٤٢.

٦١٩

للعالمين. ويجوز أن يتعلق ب «أرسلناك» عند من يرى تعلق ما بعد إلا بما قبلها جائز ، أو بمحذوف عند من لا يرى ذلك (١). هذا إذا لم يفرغ الفعل لما بعدها أما إذا فرغ فيجوز نحو : ما مررت إلا بزيد ، كذا قاله أبو حيّان هنا (٢). وفيه نظر من حيث إن هذا أيضا مفرغ ، لأنّ المفرغ عبارة عما افتقر ما بعد إلا لما قبلها على جهة المعمولية له.

فصل

قال ابن عباس : قوله : (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) عام في حق من آمن ومن لم يؤمن (٣). اعلم أنه (٤) ـ عليه‌السلام (٥) ـ كان رحمة في الدين والدنيا ، أما في الدين فلأنه ـ عليه‌السلام ـ بعث والناس في جاهلية وضلال ، وأهل الكتابين (٦) كانوا في حيرة في أمر دينهم لطول مدّتهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم ، فبعث الله (٧) محمدا حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب ، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام ، وميز الحلال والحرام ، فمن كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار ، قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) إلى قوله : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)(٨). وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من الذل والقتل. فإن

__________________

(١) وذلك أنّ الاستثناء في حكم جملة مستأنفة ، لأنك إذا قلت : جاء القوم إلا زيدا ، فكأنك قلت : جاء القوم وما منهم زيد ، فمقتضى هذا أن لا يعمل ما بعد (إلا) فيما قبلها ، ولا ما قبلها فيما بعدها ، فلا تقدم معمول تاليها عليها ، فلا يقال : ما زيد إلا أنا ضارب ، وقال الرماني : لا يقال : ما قومك زيدا إلا ضاربون ، لأن تقدم الاسم الواقع بعد (إلا) عليها غير جائز فكذلك معموله لما تقرر من أن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل. ولا يؤخر معمول ما قبلها عنها فلا يقال : ما ضرب إلا زيد عمرا ، وما ضرب إلا زيدا عمرو ، وما مر إلا زيد بعمر ، إلا على إضمار عامل يفسره ما قبله. ويستثنى من هذا المستثنى منه وصفته فيجوز تأخيرهما نحو ما قام إلا زيدا أحد ، وما مررت بأحد إلا زيدا خير من عمرو.

وأجاز الكسائي تأخير المعمول مرفوعا كان أو منصوبا أو مجرورا ، واستدل بقوله : فما زادني إلا غراما كلامها. وقوله : وما كف إلا ماجد ضرب بأس وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) [النحل : ٤٣ ، ٤٤] ووافقه ابن الأنباري في المرفوع. ووافقه الأخفش في الظرف المجرور والحال نحو ما جلس إلا زيد عندك ، وما مر إلا عمرو بك ، وما جاء إلا زيد راكبا.

قال أبو حيان وهو المختار. لأنه يتسامح في المذكورات ما لا يتسامح في غيرها. الهمع ١ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٢) حيث قال أبو حيان : (ولا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد إلا بالفعل قبلها إلا إذا كان العامل مفرغا له نحو ما مررت إلا بزيد) البحر المحيط ٦ / ٣٤٤.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٥٤٤.

(٤) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في الأصل : الكتاب.

(٧) لفظ الجلالة : سقط من الأصل.

(٨) من قوله تعالى :«قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» [فصلت : ٤٤]

٦٢٠