اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

وقال السّديّ : من وقع السلاح فيكم (١). ذكر الحسن أن لقمان الحكيم ـ صلوات الله عليه ـ حضر داود وهو يعمل الدرع ، فأراد أن يسأله عمّا يفعل ثم كف عن السؤال حتى فرغ منها ولبسها على نفسه ، فقال عند ذلك : الصمت حكمة وقليل فاعله (٢). ثم قال تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) يقول لداود وأهل بيته وقيل : يقول لأهل مكة ، فهل أنتم شاكرون نعمي بطاعة الرسول (٣).

قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) العامة على النصب ، أي : وسخرنا الريح لسليمان ، فهي منصوبة بعامل مقدر (٤). وقرأ ابن هرمز وأبو بكر عن عاصم في رواية بالرفع على الابتداء ، والخبر الجار قبله (٥). وقرأ الحسن وأبو رجاء بالجمع والنصب. وأبو حيوة بالجمع والرفع (٦). وتقدم الكلام على الجمع والإفراد في البقرة (٧) ، وبعض هؤلاء قرأ في سبأ (٨) كذلك كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

قوله : «عاصفة» حال ، والعامل فيها على قراءة من نصب «سخّرنا» المقدر ، وفي قراءة من رفع الاستقرار الذي تعلق به الخبر (٩). يقال : عصفت الرّيح تعصف عصفا وعصوفا ، فهي عاصف وعاصفة. وأسد تقول : أعصفت بالألف تعصف ، فهي (١٠) معصف ومعصفة (١١). والريح تذكر وتؤنث (١٢). والعاصفة : الشديدة الهبوب. فإن قيل : قد قال (١٣) في موضع آخر «تجري بأمره رخاء» (١٤) والرخاء : اللين قيل : كانت الريح تحت أمره ، إن أراد أن تشتد اشتدت ، وإن أراد أن تلين لانت (١٥).

فإن قيل : قال في داود : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) ، وقال في حق سليمان (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ)(١٦) فذكر في حق داود بكلمة مع وفي حق سليمان باللام وراعى (١٧)

__________________

(١) انظر البغوي ٥ / ٥٠٦.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٠.

(٣) في ب : الرسول عليه الصلاة والسلام.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٣٣٢.

(٥) المرجعان السابقان.

(٦) المختصر (٩٢) البحر المحيط ٦ / ٣٣٢.

(٧) عند قوله تعالى :«وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» [البقرة : ١٦٤].

(٨) عند قوله تعالى :«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» [سبأ : ١٢].

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٢٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٢.

(١٠) في ب : فهو.

(١١) اللسان (عصف).

(١٢) قال ابن الأنباري : (والريح على وجهين : الريح من الرياح مؤنثة. والريح : الأرج والنشر وهما حركتا الريح مذكر) المذكر والمؤنث ١ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(١٣) في الأصل : فإن قال قد قيل.

(١٤) من قوله تعالى : «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» [ص : ٣٦].

(١٥) انظر البغوي ٥ / ٥٦٠٥ ، الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠١.

(١٦) في النسختين : وسخرنا لسليمان الريح.

(١٧) في الأصل : راعى.

٥٦١

هذا الترتيب أيضا في قوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ)(١) وقال : «فسخّرنا (٢) له الرّيح تجري بأمره» (١٣) فما الفائدة في تخصيص داود بلفظ مع ، وسليمان باللام؟

فالجواب : يحتمل أنّ الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف فما أضيف بلام التمليك ، وأما الريح فلم يصدر منه إلا ما يجرى مجرى الخدمة فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك وهذا جواب إقناعي(٣).

قوله : «تجري» يجوز أن تكون حالا ثانية ، وأن تكون حالا من الضمير في «عاصفة» فتكون حالين متداخلتين (٤). وزعم بعضهم (٥) : أنّ (الَّتِي بارَكْنا فِيها) صفة للريح ، وفي الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : الريح التي باركنا فيها) (٦) إلى الأرض. وهو تعسف. والمراد بقوله : (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) بيت المقدس (٧). قال الكلبي : كان (٨) سليمان ـ عليه‌السلام (٩) ـ وقومه يركبون (١٠) عليها من إصطخر(١١) إلى الشام (١٢) ، وإلى حيث شاء ، ثم يعود إلى منزله.

ثم قال : (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) وكنا بكل شيء عملناه عالمين بصحة التدبير فيه ، علمنا أنما نعطي سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه. قوله : (مَنْ يَغُوصُونَ) يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة وعلى كلا التقديرين فموضعها إمّا نصب نسقا على الريح ، أي : وسخرنا (١٣) له من يغوصون ، أو رفع على الابتداء والخبر في الجار قبله (١٤) وجمع الضمير حملا على معنى «من» (١٥) ، وحسن ذلك تقدم الجمع في

__________________

(١) [سبأ : ١٠].

(٢) في النسختين : وسخرنا. وهو تحريف.

(١٣) في ب : أو سخرنا. وهو تحريف.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠١.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٢٤.

(٥) هو المنذر بن سعيد قال أبو حيان : (وقال منذر بن سعيد الكلام تام عند قوله : «إِلى الْأَرْضِ» و«الَّتِي بارَكْنا فِيها» صفه للريح ففي الآية تقديم وتأخير يعني أن أصل التركيب ولسليمان الريح التي باركنا فيها عاصفة تجري بأمره إلى الأرض).

البحر المحيط ٦ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠١.

(٨) في ب : و. وهو تحريف.

(٩) في ب : عليهما الصلاة والسلام.

(١٠) في ب : يركبون. وهو تصحيف.

(١١) إصطخر : أطلال مدينة إيرانية قديمة. المنجد في الأعلام (٥٢).

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٢.

(١٣) في ب : أو سخرنا. وهو تحريف.

(١٤) انظر التبيان ٢ / ٩٣٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٣.

(١٥) «من» تكون بلفظ واحد للمذكر والمؤنث مفردا كان أو مثنى أو مجموعا والأكثر في ضميرها اعتبار اللفظ نحو«وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» الأنعام : ٢٥] ، ويجوز اعتبار المعنى نحو «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» [يونس : ٤٣] ، ما لم يحصل من مطابقة اللفظ لبس نحو : أعط من سألتك ، ولا تقل من سألك ، أو قبح نحو : من هي حمراء أمك. وما لم يعضد المعنى سابق فيختار مراعاة المعنى نحو : وإن من النسوان من هي روضة. وإذا اجتمع في (من) ضمائر جاز في بعضها مراعاة اللفظ وبعضها ـ

٥٦٢

قوله «الشّياطين» (١) فلما ترشح جانب المعنى روعي ، ونظيره قوله :

٣٧٣١ ـ وإنّ من النّسوان من هي روضة

تهيج الرياض (٢) قبلها وتصوح (٣)

راعى التأنيث لتقدم قوله : وإنّ من النسوان. و (دُونَ ذلِكَ) صفة ل «عملا» (٤).

فصل

يحتمل أن يكون (٥) من يغوصون منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال ، ويحتمل أنهم فرقة أخرى ، ويكون الكل داخلين في لفظة «من» والأول أقرب. وظاهر الآية أنه (٦) سخرهم لكنه قد روي أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين :

أحدهما : إطلاق لفظ الشياطين.

والثاني : قوله : (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) فإنّ المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد ، وإنما يجب ذلك في الكافر (٧). ومعنى «يغرصون» أي : يدخلون تحت الماء ، فيخرجون له من قعر البحر الجواهر (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي : دون الغوص ، وهو ما ذكره تعالى في قوله : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ)(٨)(٩) الآية. (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) حتى لا يخرجوا من أمره (١٠).

وقيل : وكل بهم جمعا من الملائكة وجمعا من المؤمنين الجن. وقال ابن عباس :

__________________

ـ مراعاة المعنى ، والأحسن البداءة بالحمل على اللفظ نحو قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَاليوم الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨]. ويجوز البداءة بالمعنى كقولك : من قامت وقعد ، وشرط قوم لجوازه وقوع الفصل بين الجملتين نحو من يقومون في غير شيء وينظر في أمرنا قومك وعزي للكوفيين. وإذا اعتبر اللفظ ثم المعنى جاز العودة إلى اعتبار اللفظ بقلة قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) [لقمان : ٦ ، ٧].

انظر شرح التصريح ١ / ١٤٠ ، الهمع ١ / ٨٧.

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٣.

(٢) في ب : الرياح.

(٣) البيت من بحر الطويل لم أهتد إلى قائله ، وهو في البحر المحيط ٦ / ٣٣٣ ، شرح التصريح ١ / ١٤٠ ، حاشية الصبان على شرح الأشموني ١ / ١٥٣.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٢٤.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٢.

(٦) في ب : أن. وهو تحريف.

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٢.

(٨) من قوله تعالى : «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» [سبأ : ١٣].

(٩) انظر البغوي ٥ / ٥٠٨ ـ ٥٠٩.

(١٠) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٢.

٥٦٣

إنّ سلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء. وفي كونهم محفوظين ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه تعالى كان يحفظهم لئلا يذهبوا.

وثانيها : قال الكلبي : كان يحفظهم من أن يهيجوا أحدا (١) في زمانه.

وثالثها : قال الزجاج : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا (٢) ، وكان دأبهم أن يعملوا (٣) بالنهار (٤) ثم يفسدونه بالليل (٥).

روي أن سليمان كان إذا بعث شيطانا مع إنسان ليعمل له عملا قال له : إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل وكان من عادة الشياطين أنهم إذا فرغوا من العمل ولم يشتغلوا بعمل آخر خربوا ما عملوه (٦) وأفسدوه (٧).

فصل (٨)

سأل الجبائي نفسه ، وقال : كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم دقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل ، وإنما يمكنهم الوسوسة؟ وأجاب بأنه ـ سبحانه ـ كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون (٩) ذلك معجزة لسليمان ، فلما مات سليمان ـ عليه‌السلام (١٠) ـ ردهم إلى الخلقة الأولى ، لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ولو ادعى مثبت النبوة وجعله دلالة ، لكان كمعجزات الرسل ، فلذلك ردهم إلى خلقهم (١١) الأول. قال ابن الخطيب : وهذا الكلام ساقط من وجوه :

أحدها : لم قلتم إنّ الجن من الأجسام ، ولم يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ، ويكون الجن منهم؟ فإن قلت : لو كان الأمر كذلك لكان مثلا للباري تعالى. قلت : هذا ضعيف لأنّ الاشتراك (١٢) في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في اللزومات ، فكيف اللوازم السلبية.

سلمنا أنه جسم لكن لم (١٣) يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف ، وكلامه بناء على أن البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف سلمنا أنه لا بدّ من تكثيف أجسامهم ، لكن لم قلت : بأنه لا بدّ من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان.

__________________

(١) أحدا : سقط من ب.

(٢) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٠١.

(٣) في الأصل : يعملون. وهو تحريف.

(٤) بالنهار : تكملة ليست بالمخطوط.

(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٢.

(٦) في ب : ما عملوا.

(٧) انظر البغوي ٥ / ٥٠٩.

(٨) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٢ ـ ٣٠٢.

(٩) في ب : فيكون.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) في ب : حلقهم. وهو تصحيف.

(١٢) في الأصل : الاشتراك. وهو تصحيف.

(١٣) في ب : لم لا.

٥٦٤

وقوله : بأنه يفضي إلى التلبيس ، قلنا : التلبيس غير لازم ، لأن النبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه فاللمدعوّ أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : إن قوة أجسامهم (١) كانت معجزة لنبي آخر. ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به. واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة. أما الكثيف (٢) فأكثف الأجسام الحجارة والحديد ، وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود ـ عليه‌السلام (٣) ـ قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة ، فأي بعد أن يجعل التراب اليابس جسما حيوانيا. وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار ، وقد جعلها الله ـ تعالى ـ معجزة لسليمان ـ عليه‌السلام (٤) ، أما الهواء فقوله : (فَسَخَّرْنا (٥) لَهُ الرِّيحَ)(٦). وأما النار فلأنّ الشياطين مخلوقون (٧) من النار ، وقد سخرهم الله ـ تعالى ـ له ، ثم كان يأمرهم بالغوص في المياه ، والنار تطفأ بالماء ، ولم تكن تضرهم وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد.

قوله تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ)(٨٤)

قوله تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) الآية.

قوله : «وأيّوب» كقوله : «ونوحا» (٨) وما بعده (٩). وقرأ العامة «أنّي» بالفتح لتسلط النداء عليها بإضمار حرف الجر بأني (١٠). وعيسى بن عمر بالكسر (١١) فمذهب (١٢) البصريين إضمار القول أي: نادى فقال : إني (١٣) ومذهب الكوفيين أجرى النداء مجرى القول (١٤).

والضّرّ بالضم المرض في البدن وبالفتح الضرر في كل شيء فهو أعم من الأول (١٥).

فصل

قال وهب بن منبه (١٦) : كان أيوب ـ عليه‌السلام (١٧) ـ رجلا من الروم ، وهو

__________________

(١) في ب : أجسادهم.

(٢) في ب : الكثيفة.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في النسختين : وسخرنا. وهو تحريف.

(٥) في النسختين : وسخرنا. وهو تحريف.

(٦) من قوله تعالى : «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» [ص : ٣٦].

(٧) في الأصل : مخلوقين.

(٨) [الأنبياء : ٧٦].

(٩) وهو قوله :«وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ» [الأنبياء : ٧٨] من أوجه الإعراب الجائزة.

(١٠) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٤.

(١١) المختصر (٩٢) ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٤.

(١٢) في ب : فذهب. وهو تحريف.

(١٣) في ب : وإني. وهو تحريف.

(١٤) انظر الكشاف ٣ / ١٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٤.

(١٥) انظر الكشاف ٣ / ١٨ ، اللسان (ضرر) ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٤.

(١٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٣ ـ ٢٠٨.

(١٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.

٥٦٥

أيوب بن أنوص بن زارح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران ، وكان الله قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا ، وكانت له البثنيّة (١) من أرض الشام كلها سهلها وجبلها ، وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمر والبساتين ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدة والكثرة والأهل والولد من الرجال والنساء ، وكان رحيما بالمساكين يكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل. وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به ، وعرفوا فضله ؛ قال : كان أحدهم من أهل اليمن يقال له: اليقن ، ورجلان (٢) من أهل بلده يقال لأحدهما : يلدد ، والآخر ضافر ، وكانوا كهؤلاء.

وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع الله عيسى ، فحجب من أربع ، فما بعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حجب من الثلاث الباقية ، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب ، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه فأدركه (٣) البغي والحسد ، فصعد سريعا حتى وقف من السماء موقفا كان يقفه ، فقال : إلهي نظرت في عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج عن طاعتك. فقال الله ـ تعالى ـ : انطلق فقد سلطتك على ماله فانقض عدو الله إبليس حتى وقع إلى الأرض ، ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين ، وقال لهم : ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب؟ فقال عفريت من الشياطين : أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار فأحرق كل شيء ، فقال له إبليس : فأت الإبل ورعاتها فذهب فأتى الإبل حين وضعت رؤوسها وانبثت في مراعيها ، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منه أحد إلا احترق ، فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها. ثم جاء إبليس في زي بعض الرعاة إلى أيوب ، فوجده قائما يصلي ، فقال : يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري فقال أيوب : الحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها ، وقديما وطّنت نفسي ومالي على الفناء ، فبقي الناس مبهوتين متعجبين ، فمن قائل يقول : ما كان أيوب يعبد شيئا ، وما كان إلا في غرور. ومنهم من يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئا لمنع وليه. ومنهم من يقول : هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه ، ويفجع به صديقه فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني ، عريانا خرجت من بطن أمي ، وعريانا (٤) أعود في التراب ، وعريانا أحشر إلى الله (٥) ، ولو علم الله فيك خيرا أيها العبد لنقل روحك مع تلك الأرواح ، وصرت شهيدا ولكنه علم

__________________

(١) البثنيّة : الزبدة ، وقيل : ضرب من الحنطة ، وقيل حنطة منسوبة إلى بلدة معروفة بالشام من أرض دمشق.

اللسان (بثن).

(٢) في ب : ورجلاء. وهو تحريف.

(٣) في ب : وأدركه.

(٤) عريانا : مكرر في ب.

(٥) في ب : وعريانا يحشرني الله.

٥٦٦

منك شرا فأخرك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا ، فقال لهم : ماذا عندكم من القوة؟ فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه. فقال له إبليس : فأت الغنم ورعاتها ، فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاتها ، ثم جاء إبليس متمثلا بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي ، فقال له مثل القول الأول ، فرد (١) عليه أيوب الرد الأول. فرجع إبليس صاغرا إلى أصحابه ، فقال لهم : ما عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب؟ فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفا أقلع (٢) كل شيء أتيت عليه.

فقال : اذهب إلى الحرث والفدادين ، فأتاهم ، فأهلكهم (٣). ثم أتى إبليس متمثلا إلى أيوب ، فقال(٤) مثل قوله ، فرد عليه أيوب الرد الأول. وكلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه ورضي عنه بالقضاء ، ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال. فلما رأى إبليس صبره على ذلك وقف الموقف الذي كان يقفه عند الله. فقال : إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده ، فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها المعصية التي لا تقوم لها قلوب الرجال؟ قال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ولده. فأتى أولاد أيوب في قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتى قلب القصر عليهم. ثم جاء أيوب متمثلا بالمعلم الذي يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ (٥) الوجه والرأس يسيل دمه ودماغه ، فقال : لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤسهم لتقطع قلبك ، فلم يزل يقول هذا ونحوه ويرققه حتى رقّ أيوب ـ عليه‌السلام (٦) ـ وبكى وقبض قبضة من التراب ووضعها على رأسه ، وقال : ليت أمي لم تلدني ، فاغتنم إبليس ذلك وصعد سريعا ، ووقف موقفه. ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر ، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته ، فسبقت توبته إلى الله ـ تعالى ـ وهو أعلم. فوقف إبليس ذليلا فقال : يا إلهي إنما هوّن على أيوب المال والولد لعلمه أنه يرى أنك متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده؟ فقال الله ـ عزوجل (٧) ـ انطلق فقد سلطتك على جسده ، وليس لك على قلبه وعقله ولسانه سلطان ، وكان الله ـ عزوجل (٧) ـ أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين ، وذكرى للعابدين ، وكل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ، ورجاء للثواب. فانقضّ عدو الله سريعا ، فوجد أيوب ساجدا ، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه ، فنفخ في منخره نفخة اشتعل فيها جسده فخرج من

__________________

(١) في ب : ورد.

(٢) في ب : لأقلع.

(٣) في الأصل : فأهلكم. وهو تحريف.

(٤) في الأصل : وقال.

(٥) الشدخ : كسر الشيء الأجوف كالرأس ونحوه ، شدخ رأسه فانشدخ وشدّخت الرؤوس شدّد للكثرة.

اللسان (شدخ).

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ب : تعالى.

(٧) في ب : تعالى.

٥٦٧

قرنه إلى قدمه ثآليل (١) مثل أليات الغنم ، ووقعت فيه حكّة لا يملكها ، فكان يحك بأظفاره حتى سقطت كلها ، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن ، فأخرجوه أهل القرية وجعلوه على كناسة ، وجعلوا له عريشا ، ورفضه الناس كلهم إلا امرأته رحمة بنت افرايم بن يوسف ، فكانت تصلح أموره ويختلف إليه مما يصلحه. ثم إنّ وهبا طول الحكاية إلى أن قال : إنّ أيوب ـ عليه‌السلام (٢) ـ أقبل على الله ـ تعالى (٣) ـ متضرعا إليه فقال : رب لأي شيء خلقتني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك عني ألم أكن للغريب دارا ، وللمسكين قرارا ، ولليتيم وليا ، وللمرأة قيما ، إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء غرضا ، وللفتنة نصبا ، وسلطت عليّ (٤) ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله ، إلهي تقطعت أصابعي ، وتساقطت لهواتي ، وتناثر شعري ، وذهب المال فصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن (٥) بها علي ، ويعيرني بفقري وهلاك أولادي. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري ـ رحمه‌الله ـ : وفي جملة هذا الكلام ليتك إذ كرهتني لم تخلقني ، ثم قال : ولو كان ذلك صحيحا لاغتنم إبليس بأن يحمله على الشكوى ، وأن يخرجه عن (٦) حلية الصابرين ، والله لم يخبر عنه إلا قوله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وقال : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٧). واختلف العلماء في السبب الذي قال لأجله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فروى ابن شهاب عن أنس عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إن أيوب ـ عليه‌السلام (٨) ـ بقي في البلاء ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلّا رجلين كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما للآخر ذات يوم : والله إن أيوب أذنب ذنبا ما أذنبه أحد (٩) من العالمين. فقال صاحبه : وما ذاك. فقال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه‌الله ، ولم يكشف ما به. فلما راحا إلى أيوب لم يصبر حتى ذكر ذلك له. فقال أيوب : ما أدري ما يقولان غير أن الله ـ تعالى ـ يعلم (١٠) أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق. وروي أنّ الرجلين لما دخلا عليه قالا : لو كان لأيوب عند الله منزلة ما بلغ إلى هذه الحالة. فما شق على أيوب شيء مما بلي به أشد مما سمع منهما ، وقال : اللهم إن كنت تعلم أني

__________________

(١) الثآليل : جمع الثؤلول : وهو الخراج ، وقد ثؤلل الرجل وقد تثألل جسده بالثآليل وهو الحبة تظهر في الجلد كالحمصة فما دونها. اللسان (ثأل).

(٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٣) تعالى : سقط من ب.

(٤) على : سقط من الأصل.

(٥) في ب : عن. وهو تحريف.

(٦) في الأصل : على.

(٧) [ص : ٤٤].

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) في ب : أحدا. وهو تحريف.

(١٠) يعلم : سقط من الأصل.

٥٦٨

لم أبت شبعانا وأنا أعلم مكان جائع فصدقني ، فصدق. ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصي وأنا أعلم مكان عار فصدقني ، فصدق. وهما يسمعان ، ثم خرّ أيوب ساجدا ، ثم قال : اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي قال : فكشف الله ما به».

وروى الحسن قال : مكث أيوب بعد ما ألقي على (١) الكناسة سبع سنين وأشهرا ، ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته رحمة ، صبرت معه ، وكانت تأتيه بطعام. وتحمد الله مع أيوب والصبر على ما ابتلاه ، فصرخ إبليس صرخة جزعا من أيوب ، فاجتمع جنوده من أقطار الأرض ، وقالوا له : ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فلم أدع له مالا ولا ولدا ، ولم (٢) يزدد بذلك إلا صبرا وحمدا ، ثم سلطت على جسده فتركته ملقى في كناسة ما يقربه إلا امرأته ، وهو مع ذلك لا يفتر عن الذكر والحمد ، فاستغثت بكم لتعينوني ، فأشيروا علي. قالوا : أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال : من قبل امرأته. قالوا : فشأنك من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها ، لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال : أصبتم. فانطلق حتى أتى امرأته ، فتمثل لها في صورة رجل ، فقال : أين بعلك يا أمة الله؟ فقالت : هو ذا يحكّ قروحه وتتردد (٣) الدواب في جسده. فلما سمعها طمع أن يكون ذلك جزعا فوسوس إليها وذكرها ما كان لها من النعم والمال ، وذكرها جمال أيوب وشبابه.

قال الحسن : فصرخت ، فلما صرخت علم أنها قد جزعت ، فأتاها بسخلة (٤) فقال : ليذبح هذا أيوب لغير الله فيبرأ ، قال : فجاءت تصرخ إلى أيوب تقول : حتى متى يعذبك ربك ، ألا يرحمك ، أين المال ، أين (٥) الولد ، أين الماشية ، أين الصديق ، أين الحسن ، أين جسمك الذي قد بلي وصار مثل الرماد وتردد فيك الدواب ، اذبح هذه السخلة واسترح؟ قال أيوب ـ عليه‌السلام (٦) ـ : أتاك عدو الله ونفخ فيك فأجبتيه ، أما تذكرين ما كنا فيه من المال والولد والصحة ، من أعطانا ذلك؟ قالت : الله. قال : فكم متعنا به؟ قالت : ثمانين سنة. قال : فمنذ كم ابتلانا بهذا البلاء؟ قالت سبع سنين. قال : ما أنصفت ربك ألّا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة ، لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله ، وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك الذي تأتيني به ، فطردها ، فذهبت ، فلما نظر أيوب في شأنه ، وليس عنده طعام ، ولا شراب ، ولا صديق ، وقد ذهبت امرأته ، خرّ ساجدا ، وقال : «ربّ إنّي

__________________

(١) في ب : عليه.

(٢) في الأصل : ولا.

(٣) في ب : وتترد.

(٤) السخلة : ولد الشاة من المعز والضأن ، ذكرا كان أو أنثى ، والجمع سخل ، وسخال. اللسان (سخل).

(٥) في ب : وأين.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

٥٦٩

مسّني الضّر وأنت أرحم الرّاحمين» فقال : ارفع (١) رأسك فقد استجبت لك (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ)(٢) فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها ، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت ، ثم ضرب برجله مرة أخرى ، فنبعت عين أخرى ، فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلّا خرج ، وقام (٣) صحيحا ، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ما كان ، ثم كسي حلة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من الأهل والمال إلا وقد ضاعفه الله ، حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب ، فجعل يضمه بيده ، فأوحى الله إليه : يا أيوب ألم أغنك (٤)؟ قال : بلى ، ولكن من يشبع من نعمك ، قال : فخرج حتى جلس على مكان (٥) مشرف ، ثم إن امرأته قالت : هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا وتأكله السباع ، لأرجعن إليه فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ، ولا تلك الحال ، وإذا (٦) الأمور قد تغيرت ، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي ، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه ، وتسأل عنه ، فأرسل إليها أيوب ، ودعاها ، فقال : ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت ، وقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة. قال لها أيوب : ما كان منك ، فبكت ، وقالت (٧) : بعلي ، قال أتعرفينه إذا رأيتيه ، قالت : وهل يخفى علي فتبسم وقال : أنا هو. فعرفته بضحكه فاعتنقته ، ثم قال : إنك أمرتيني أن أذبح لإبليس سخلة (٨) ، وإني أطعت الله ، وعصيت إبليس ، ودعوت الله ، فرد عليّ ما ترين.

وروى الضحاك ومقاتل : أنّ أيوب بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات. وقال وهب : بقي في البلاء ثلاث سنين ، فلما غلب أيوب ـ عليه‌السلام (٩) ـ إبليس ذهب إبليس ـ لعنه الله ـ إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والحسن والجمال ، وعلى مركب ليس من مراكب الناس ، فقال لها : أنت صاحبة أيوب ، قالت : نعم. قال : فهل تعرفيني؟ قالت : لا. قال : فأنا إله الأرض ، صنعت بأيوب ما صنعت ، وذلك لأنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي. قال وهب : وسمعت أنه قال : لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم الله لعوفي مما به من البلاء ، وفي رواية أخرى قال لها : لو شئت فاسجدي (١٠) لي سجدة واحدة لرجعت المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها. فقال لها أيوب ـ عليه

__________________

(١) أرفع : سقط من ب.

(٢) من قوله تعالى : «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ» [ص : ٤٢].

(٣) في ب : وقال. وهو تحريف.

(٤) في الأصل : ألم أكن أغنك؟.

(٥) في الأصل : مكاك. وهو تحريف.

(٦) في ب : وإذ.

(٧) في ب : قالت.

(٨) في ب : سخلة لإبليس.

(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٠) في ب : فاسجد.

٥٧٠

السلام (١) ـ أتاك عدو الله ليفتنك ، ثم أقسم إن عافاه الله ليضربنها مائة سوط. فقال عند ذلك : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) يعني من طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي له ، ودعائه إيّاها وإيّاي إلى الكفر.

وفي رواية قال وهب : كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتأتيه بقوته ، فلما طال عليه البلاء ، وسئمها الناس ، فلم يستعملوها ، فالتسمت ذات يوم شيئا من الطعام ، فلم تجد شيئا ، فجزت قرنها من رأسها فباعته برغيف ، فأتته ، فقال لها : أين قرنك؟ فأخبرته بذلك. فحينئذ قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ). وفي رواية قال إسماعيل السّدّيّ : لم يقل أيوب (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) إلا لأشياء ثلاثة :

أحدها : قول الرجل له : لو كان عملك خالصا لما أصابك ما أصابك.

والثاني : كانت لامرأته ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداهن (٢) فقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزا ولحما ، وجاءت إلى أيوب ، فقال : من أين هذا؟ قالت : كل فإنّه حلال. فلما كان من الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية ، وكذلك فعلت في اليوم الثالث ، وقالت : كل فإنّه حلال ، فقال لا آكل ما لم تخبريني ، فأخبرته ، فبلغ ذلك من أيوب ما الله أعلم به. وقيل : إنما باعت ، لأن إبليس تمثل لقومه في صورة بشر ، وقال : لئن تركتم أيوب في قريتكم فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فأخرجوه إلى باب البلد ، ثم قال لهم : إنّ امرأته تدخل في بيوتكم وتعمل وتمس زوجها ، فأقول : إنّه يتعدى إليكم علته ، فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها.

والثالث : حين قالت له امرأته ما قالت. وفي رواية : قيل : سقطت دودة من فخذه فردها إلى موضعها ، وقال : قد جعلني الله طعمة لك ، فعضته عضة شديدة. فقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ). وأوحى الله إليه : لو لا أني جعلت تحت كل شعرة صبرا لما صبرت (٣).

فصل (٤)

طعنت المعتزلة في هذه القصة من وجوه :

الأول : قال الجبائي : ذهب بعض الجهال إلى أن ما كان به من المرض كان فعلا للشيطان سلطه عليه لقوله تعالى عنه (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ)(٥). وهذا جهل أما أولا : فإنه لو قدر على إحداث الأمراض والأسقام وضدها من العافية لتهيأ له فعل الأجسام ، ومن هذا حاله يكون إلها. وأما ثانيا : فلأن الله تعالى أخبر عنه وعن جنوده بأن

__________________

(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٢) في الأصل : أحدها. وهو تحريف.

(٣) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٣ ـ ٢٠٨.

(٤) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٥) من قوله تعالى : «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» [ص : ٤١].

٥٧١

قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)(١) فالواجب تصديق خبر الله ـ تعالى ـ دون الرجوع إلى وهب بن منبه. وهذا اعتراض (٢) ضعيف ، لأن المذكور في الحكاية أنّ الشيطان نفخ (٣) في منخره فوقعت الحكة (٤) فيه. فلم قلتم : إنّ القادر على النفخة التي تولد منها هذه الحكة (٤) لا بدّ وأن يكون قادرا على خلق الأجسام ، وهل هذا إلا محض التحكم. وأما التمسك (٥) بالنصّ فضعيف ، لأنه إنّما يقدم على هذا الفعل مع علمه أنه لو أقدم عليه لما منعه الله تعالى. وهذه الحالة لم تحصل إلا في حق أيوب ـ عليه‌السلام (٦) ـ من أنه استأذن الله فأذن له ، وإن (٧) كان كذلك لم يكن بين ذلك النص وبين هذه الحكاية مناقضة.

وثانيها : قالوا : ما روي أنه ـ عليه‌السلام (٨) ـ لم يسأل إلا عند أمور مخصوصة. فبعيد ، لأنّ الثابت في العقل أنه يحسن من (٩) المرء أن يسأل ذلك ربه ويفزع إليه كما يحسن منه المداواة ، وإذا جاز أن يسأل ربه عند الغم بما يراه من أهله جاز أيضا أن يسأل ربه من قبل نفسه. فإن قيل : أفلا يجوزون أنه تعالى تعبده بأن لا يسأل الكشف إلا في آخر أمره. قلنا : يجوز ذلك بأن يعلمه أن إنزال ذلك به مدة مخصوصة من مصالحه ومصالح غيره لا محالة ، فعلم عليه‌السلام (١٠) أنه لا وجه للمسألة في هذا الأمر الخاص ، فإذا قرب الوقت جاز أن يسأل ذلك من حيث يجوز أن يدوم ويجوز أن ينقطع.

وثالثها : قالوا : انتهاء ذلك المرض إلى حد التنفير غير جائز على الأنبياء.

فصل

اعلم أنه (١١) ـ عليه‌السلام (١٢) ـ ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب. فإن قيل : أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابرا.

فالجواب : قال سفيان بن عيينة : ولو شكى إلى الله فإنه لا يعد ذلك جزعا إذا كان في شكواه راضيا بقضاء الله إذ ليس من شرطه استحلاء البلاء ، ألم تسمع قول يعقوب : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ)(١٣).

__________________

(١) [إبراهيم : ٢٢].

(٢) في ب : اعراض. وهو تحريف.

(٣) في الأصل : ينفخ.

(٤) في ب : الحكمة.

(٤) في ب : الحكمة.

(٥) في ب : المتمسك.

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ب : وإذا.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) في الأصل : في.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(١٢) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٣) من قوله تعالى : «قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ» [يوسف : ٨٦].

٥٧٢

قوله : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وذلك أنّ كلّ من يرحم غيره فإمّا أن يرحمه طلبا للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو للرقة الجنسية في الطبع ، فيكون مطلوب ذلك الراحم حظ نفسه ، وأما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير طلب زيادة أو نقصان من الثناء ، ومن صفات الكمال فهو أرحم الراحمين. وأيضا فكل من رحم غيره فإنما ذلك بمعونة رحمة الله ، لأن من أعطى غيره طعاما أو ثوبا أو دفع عنه بلاء فلو لا الله ـ سبحانه ـ خلق المطعوم والملبوس والأدوية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء ولو لا فضل (١) الله لما حصل النفع بذلك ، فإذن رحمة العباد مسبوقة برحمة الله ، وملحوقة برحمته ، فما بين الطرفين كالقطرة في البحر ، فوجب أن يكون أرحم الراحمين. وأيضا فلو لا أن الله ـ تعالى ـ خلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور تلك الرحمة عنه ، فكان الراحم في الحقيقة هو الحق سبحانه لأنه هو الذي أنشأ تلك الداعية فكان تعالى أرحم الراحمين. فإن قيل : كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام ، وسلط البعض على البعض بالإيذاء ، وكان قادرا على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وإيذائه؟

فالجواب : أن كونه ـ سبحانه ـ ضارا لا ينافي كونه راحما بل هو الضار النافع فإضراره ليس لدفع مشقة ، ونفعه ليس لجلب منفعة ، بل لا يسأل عما يفعل.

قوله : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) يدل على أنه دعا ربّه لكن هذا الدعاء يجوز أن يكون وقع منه على سبيل التعريض ، كما يقال : إن رأيت أو أردت أو أجبت فافعل كذا ، ويجوز أن يكون على سبيل التصريح (٢) لإزالة ما به من ضر. وبيّن تعالى أنه آتاه أهله ، ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد وغيرهما قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والحسن والكلبي (٣) وكعب : إن الله تعالى أحيا له أهله ، يعني أولاده بأعيانهم ، وأعطاه (٤) مثلهم معهم وهو ظاهر القرآن (٥).

قال الحسن (٦) : آتاه الله المثل من نسل ماله الذي رده إليه وأهله ، ويدل عليه ما روى الضحاك عن ابن عباس : أن الله رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكرا. قال وهب : كان له سبع بنات وثلاثة بنين.

وقال ابن يسار : كان له سبعة بنين وسبع بنات. وروي عن أنس يرفعه : أنه كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير ، فبعث الله سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب (٧) ، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض (٨).

__________________

(١) فضل : سقط من ب.

(٢) في ب : التضرع.

(٣) في ب : الكعبي.

(٤) في الأصل : وأعطاهم.

(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥١٨ ـ ٥١٩.

(٧) في الأصل : المذهب. وهو تحريف.

(٨) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥١٨ ـ ٥١٩.

٥٧٣

وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «بينما أيّوب يغتسل عريانا خرّ عليه جراد من ذهب ، فجعل أيّوب يحثي في ثوبه ، فناداه ربّه : يا أيوب ألم أكن أغنيتك عمّا ترى؟ قال : بلى يا رب ، ولكن لا غنى عن بركتك» (١) وروى الليث قال : أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال : قيل لأيوب (٢) إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا ، فقال : يكونون لي في الآخرة وأوتى مثلهم في الدنيا (٣) فعلى هذا يكون معنى الآية (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) في الآخرة (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) في الدنيا. وأراد بالأهل الأولاد ، فأما الذين أهلكوا فإنّهم لم يردوا عليه في الدنيا.

قوله : «رحمة» فيها وجهان :

أظهرهما : أنها مفعول من أجله.

والثاني : أنها مصدر لفعل مقدر ، أي : رحمناه رحمة (٤).

و (مِنْ عِنْدِنا) صفة ل «رحمة».

قوله : (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي : فعل به تلك الرحمة ، وهي النعمة لكي يتفكروا فيه بالذكر ، ويتعظون فيعتبرون. وخص العابدين ، لأنهم المنتفعون بذلك (٥).

قوله تعالى : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨٦)

قوله تعالى : (وَإِسْماعِيلَ) يعني ابن إبراهيم ، (وَإِدْرِيسَ) وهو اخنوخ (وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ). لما ذكر صبر أيوب (٦) أتبعه بذكر هؤلاء ، فإنهم أيضا كانوا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة. أما إسماعيل فصبر على الانقياد للذبح ، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء ، وصبر في بناء البيت فأكرمه الله وأخرج من صلبه خاتم النبيين. وأما إدريس فتقدمت قصته في سورة مريم (٧) قال ابن عمر : «بعث إلى قومه داعيا إلى الله فأبوا فأهلكهم الله ، ورفع إدريس إلى السماء السابعة» وأما ذو الكفل قال الزجاج : الكفل في اللغة الكساء (٨) الذي يجعل على عجز البعير (٩) والكفل أيضا :

__________________

(١) أخرجه البخاري (غسل) ١ / ٢٣١ ، النسائي (غسل) ١ / ٢١ ، أحمد ٢ / ٣١٤.

(٢) في الأصل : أيوب.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٠.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩٢٤.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٠.

(٦) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٠ ـ ٢١١.

(٧) عند قوله تعالى :«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا»، انظر اللباب ٥ / ٣٢٥.

(٨) في النسختين : اللعب ، والصواب ما أثبته.

(٩) وهنا زيادة في ب بعد قوله : على عجز البعير : قال ابن الأثير : هو كساء يكون حول سنام البعير ، ثم ـ

٥٧٤

النصيب قال تعالى : (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها)(١) أي : نصيب (٢). واختلفوا في تسميته بهذا الاسم ، فقال الحسن : كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه ، وضعف ثوابهم. وقال ابن عباس : إن نبياء من أنبياء بني إسرائيل آتاه الله الملك والنبوة ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك ، فاعرض الملك على بني إسرائيل ، فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار لا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فادفع ملكك إليه ، ففعل ذلك فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا (٣). ووفى به ، فشكر الله له ونبأه فسمي ذا الكفل. وعلى هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة ، لأنه تكفل بأمور فوفى بها.

وقال مجاهد : لما كبر اليسع ـ عليه‌السلام (٤) ـ قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل فجمع الناس ، فقال من يتقبل مني ثلاثا أستخلفه (٥) : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ويقضي فلا يغضب ، فقام رجل تزدريه العين فقال : أنا. فرده ذلك اليوم ، وقال مثلها في اليوم الآخر ، فسكت الناس وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا. فاستخلفه. فأتاه إبليس في صورة شيخ حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة. فدق الباب فقال : من هذا؟ فقال : شيخ كبير مظلوم ، فقال : افتح الباب. فقال : إنّ بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا وفعلوا وجعل يطول حتى حضر الرواح ، وذهبت القائلة. فقال : إذا رحت فأتني آخذ حقك ، فانطلق وراح ، فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ ، فلم يره ، فلما كان الغد يقضي بين الناس ينظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة أخذ مضجعه أتاه ، فدق الباب ، فقال من هذا؟ فقال : الشيخ المظلوم ، ففتح له ، فقال : أقيل ، فإذا قعدت فأتني ، فقال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد ، قالوا : نحن نعطيك حقك ، وإذا قمت جحدوني. قال : فانطلق فإذا رحت فأتني ، فأتته القائلة ، فراح فجعل ينظر ولا يراه ، وشق عليه النعاس. فقال للبواب في اليوم الثالث : قد غلب عليّ النعاس فلا تدع أحدا يقرب من هذا الباب حتى أنام ، فجاء إبليس في تلك الساعة ، فلم يأذن له الرجل فدخل في كوّة (٦)

__________________

ـ يركب ، فذلك هو الكساء ، هو الكفل وهو بكسر الكاف وإسكان الفاء ، فأصله من الكفل بفتح الفاء.

انظر النهاية في غريب الحديث ٤ / ١٩٢.

وابن الأثير : هو المبارك بن محمد بن عبد الكريم الشيباني المشهور بابن الأثير من مشاهير العلماء وأكابر النبلاء ، أخذ النحو عن ابن الدهان ويحيى بن سعدون القرطبي ، ومن مصنفاته : النهاية في غريب الحديث ، البديع في النحو ، تهذيب فصول ابن الدهان ، وغير ذلك ، مات سنة ٦٠٦ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

(١) من قوله تعالى : «مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً» النساء : ٨٥].

(٢) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٠١ ـ ٤٠٢.

(٣) في ب : بهذا التكفل.

(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٥) استخلفه : سقط من ب.

(٦) الكوة : الخرق في الحائط ، والثقب في البيت ونحوه. اللسان (كوى).

٥٧٥

في البيت ، فتسور منها (١) ودق الباب من داخل ، فاستيقط وعاتب البواب ، فقال : أما من قبلي فلم يأت ، فانظر من أين أتيت ، فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت ، فقال له : أتنام والخصوم ببابك. فقال : أنت إبليس. قال : نعم أعييتني في كل شيء ففعلت هذه الأفعال بك ، فعصمك الله مني ، فسمي ذا الكفل ، لأنه تكفل بأمر فوفى به ، وقيل غير ذلك (٢).

فصل

(٣) قال أبو موسى الأشعري (٤) ومجاهد : ذو الكفل لم يكن نبيا بل كان عبدا صالحا. وقال الحسن والأكثرون كان نبيا ، وهو الأظهر ، لأنه تعالى قرن ذكره بإسماعيل وإدريس ، والغرض ذكر الفضلاء من عباده ، فدلّ ذلك على نبوته ، ولأن السورة ملقبة بسورة الأنبياء ، ولأنّ قوله : «دو الكفل» يحتمل أن يكون لقبا ، وأن يكون اسما ، والأولى أن يكون اسما ، لأنه أكثر فائدة من اللقب ، وإذا ثبت ذلك ، فالكفل هو النصيب ، لقوله تعالى (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها)(٥). والظاهر أنّ الله تعالى سماه بذلك تعظيما له ، فوجب أن يكون الكفل هو كفل الثواب ، فسمي بذلك ، لأن عمله وثواب عمله كان ضعف عمل غيره وضعف ثواب غيره ، وقد كان في زمنه أنبياء على ما روي.

فصل (٦)

قيل : إن ذا (٧) الكفل زكريا. وقيل : يوشع. وقيل : إلياس. ثم قالوا : خمسة من الأنبياء ـ عليهم‌السلام (٨) ـ سماهم الله باسمين إسرائيل ويعقوب ، وإلياس وذا الكفل ، وعيسى والمسيح ، ويونس وذا النون ، ومحمدا وأحمد.

قوله : (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي : على القيام بأمر الله ، واحتمال الأذى في نصرة دينه. (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) قال مقاتل : الرحمة النبوة ، وصيرهم إلى الجنة والثواب. وقال آخرون : يتناول جميع أعمال (٩) البر.

__________________

(١) تسور الحائط : تسلقه. اللسان (سور).

(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٠ ـ ٢١١.

(٣) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢١١ بتصرف.

(٤) هو عبد الله بن قيس بن سليمان ، الأشعري أبو موسى ، أخذ عنه ابن المسيب وأبو وائل ، وأبو عثمان النهدي ، وغيرهم ، قيل : إنه مات سنة ٤٢ ه‍.

خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٨٩.

(٥) [النساء : ٨٥].

(٦) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢١١ ـ ٢١٢.

(٧) في ب : ذوا. وهو تحريف.

(٨) في ب : عليهم الصلاة والسلام.

(٩) أعمال : سقط من ب.

٥٧٦

قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)(٨٨)

قوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) الآية (١). «ذا» بمعنى صاحب و«النون» الحوت. ويجمع على نينان (٢) كحوت وحيتان والمراد بذي النون يونس ـ عليه‌السلام (٣) ـ وسمي بذلك ، لأنّ النون ابتلعه. وقد تقدم أن الاسم إذا دار بين أن يكون مفيدا ولقبا فحمله على المفيد أولى خصوصا إذا علمت الفائدة التي لذلك الوصف (٤).

قوله : «مغاضبا» حال من فاعل «ذهب» (٥) والمفاعلة هنا تحتمل أن تكون على بابها من المشاركة ، أي : غاضب قومه وغاضبوه حين لم يؤمنوا في أول الأمر (٦) ، وفي بعض التفاسير : مغاضبا لربه(٧) فإن صح ذلك عمن يعتبر قوله ، فينبغي أن تكون اللام للتعليل لا التعدية للمفعول ، أي : لأجل ربه ولدينه(٨).

ويحتمل أن يكون بمعنى غضبان ، فلا مشاركة كعاقبت وسافرت (٩). والعامة على «مغاضبا» اسم فاعل. وقرأ أبو شرف (١٠) «مغاضبا» بفتح الضاد على ما لم يسم فاعله كذا نقله أبو حيان (١١). ونقله الزمخشري عن أبي شرف «مغضبا» دون ألف من أغضبته فهو مغضب (١٢).

قوله : «أن لّن» «أن» (١٣) هذه المخففة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، و«لن نقدر» هو الخبر ، والفاصل حرف النفي (١٤). والمعنى : لن نضيق عليه كقوله : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ

__________________

(١) الآية : سقط من ب.

(٢) النون : الحوت ، الجمع أنوان ونينان ، وأصله : نونان ، فقلبت الواو ياء لكسرة النون. اللسان (نون).

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٢.

(٥) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٦ ، البيان ٢ / ١٦٤ ، التبيان ٢ / ٩٢٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٤.

(٦) انظر البحر المحيط : ٦ / ٣٣٤.

(٧) وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير. الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٤.

(٨) انظر إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٧٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٥.

(٩) انظر البحر المحيط : ٦ / ٣٣٤.

(١٠) لم أقف له على ترجمة فيما رجعت إليه من مراجع.

(١١) وفي البحر المحيط : (وقرأ أبو شرف «مغضبا» اسم مفعول) ٦ / ٣٣٥.

(١٢) قال الزمخشري : (وقرأ أبو شرف «مغضبا») الكشاف ٣ / ١٩. وقال ابن خالويه :(«إذ ذهب مغضبا» أبو شرف) المختصر (٩٢).

(١٣) أن : سقط من ب.

(١٤) وذلك أنّ (أنّ) إذا خففت فاسمها ضمير الشأن محذوف ، والخبر الجملة الواقعة بعد «أن» ، فإن كان ـ

٥٧٧

(رِزْقَهُ (١) وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)(٢). والعامة على «نقدر» بنون العظمة مفتوحة وتخفيف الدال ، والمفعول محذوف أي : الجهات والأماكن (٣).

وقرأ الزهري بضمها وتشديد الدال (٤). وقرأ ابن أبي ليلى (٥) وأبو شرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب «يقدر» بضم الياء من تحت ، وفتح الدال خفيفة مبنيا للمفعول (٦). وقرأ الحسن وعيسى بن عمر بفتح الياء وكسر الدال خفيفة (٧) وعلي بن أبي طالب واليماني بضم الياء وكسر الدال مشددة (٨).

والفاعل على هذين الوجهين ضمير يعود على الله تعالى (٩).

قوله : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) يجوز في «أن» وجهان :

أحدهما : أنها المخففة من الثقيلة فاسمها كما تقدم محذوف ، والجملة المنفية بعدها الخبر (١٠).

والثاني : أنها تفسيرية ، لأنّها بعد ما هو بمعنى القول دون حروفه (١١).

فصل

معنى الآية : واذكر صاحب الحوت ، وهو يونس بن متى (إِذْ ذَهَبَ (١٢) مُغاضِباً) قال ابن عباس (١٣) : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين ، فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة

__________________

ـ صدر الجملة الواقعة خبر «أن» المخففة فعلا متصرفا ولم يكن دعاء فالأحسن الفصل بين (أن) وبينه ب (قد) نحو«وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا» [المائدة : ١١٣] ، أو نفي ب (لا) نحو«وَحَسِبُوا أن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» [المائدة : ٧١] أو (لن) كالآية التي معنا أو (لم) نحو«أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ» [البلد : ٧] أو حرف التنفيس نحو«عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ» [المزمل : ٢٠]. أو (لو) نحو «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ» [الجن : ١٦]. وانظر شرح الأشموني ١ / ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(١) من قوله تعالى : «وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ» [الفجر : ١٦].

(٢) من قوله تعالى : «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ» [الطلاق : ٧].

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٥ ، الاتحاف (٣١١).

(٤) البحر المحيط ٦ / ٢٣٥. وتكون القاف مفتوحة.

(٥) هو عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري ، الكوفي ، عرض القرآن على أبيه عن علي ، عرض عليه أخوه محمد بن عبد الرحمن القاضي ، وثقه ابن معين ، ومناقبه كثيرة مات سنة ١٤٨ ه‍. طبقات القراء ١ / ٦٠٩.

(٦) المختصر (٩٢) ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٥ ، الاتحاف (٣١١).

(٧) المختصر (٩٢) ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٥.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٣٣٥. وتكون القاف مفتوحة.

(٩) تعالى : سقط من ب.

(١٠) عند إعراب قوله تعالى أَنْ لَنْ نَقْدِرَ.

(١١) انظر الكشاف ٣ / ١٩ ، وسبق الحديث عن «أن» المفسرة عند قوله تعالى : «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ» [طه : ٣١].

(١٢) في ب : هب. وهو تحريف.

(١٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٢.

٥٧٨

أسباط ونصفا (١) ، وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله إلى شعيا (٢) النبي (٣) أن اذهب إلى حزقيل الملك ، وقل له حتى يوجه نبيا قويا أمينا ، فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل. فقال الملك : ومن ترى؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال : يونس بن متى فإنه قوي أمين ، فدعا (٤) الملك يونس وأمره أن يخرج ، فقال يونس : هل أمرك الله بإخراجي؟ قال : لا. قال : هل سماني لك؟ قال : لا. قال (٥) : فهاهنا (٦) أنبياء غيري أقوياء فألحوا عليه ، فخرج مغاضبا للنبي وللملك ولقومه. فأتى بحر الروم ، فوجد قوما هيأوا سفينة فركب معهم (٧). وقال عروة بن الزبير (٨) وسعيد بن جبير وجماعة : إذ ذهب عن قومه مغاضبا لربه إذ كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم. فكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف (٩) فيما وعدهم ، واستحيى منهم ، ولم يعلم السبب الذي به رفع العذاب عنهم ، وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده ، وأن يسمى كذابا لا كراهية لحكم (١٠) الله. وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد ، فغضب. والمغاضبة هاهنا هي المفاعلة التي تكون من واحد كالمسافرة والمعاقبة (١١).

فمعنى قوله : «مغاضبا» أي : غضبان. وعن ابن عباس قال : أتى جبريل يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم ، قال : ألتمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك ، فغضب ، فانطلق إلى السفينة (١٢). وقال وهب (١٣) : إن يونس بن متى كان عبدا صالحا ، وكان في خلقه ضيق ، فلما حمل عليه أثقال النبوة تفسّخ تحتها تفسّخ الرّبع تحت الحمل الثقيل (١٤). فقذفها من يده ، وخرج هاربا منها ، فلذلك أخرجه الله من أولي العزم ، فقال لنبيه محمد ـ عليه‌السلام (١٥) ـ : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)(١٦) ، وقال: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (١٧)(١٨).

قوله : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي : لن نقضي عليه بالعقوبة (١٩). قال مجاهد وقتادة

__________________

(١) في النسختين ونصف. والصواب ما أثبته.

(٢) في ب : شعيب وكذا في الفخر الرازي ، وفي القرطبي : شعيا.

(٣) في ب : النبي عليه الصلاة والسلام.

(٤) في الأصل : فدع.

(٥) في ب : فإن. وهو تحريف.

(٦) في ب : ههنا.

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٢.

(٨) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٢٣.

(٩) في ب : الحلف. وهو تصحيف.

(١٠) في ب : لحلم. وهو تحريف.

(١١) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٢٣.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٣.

(١٣) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٢٤.

(١٤) وذلك إذا لم يطقه. والربع : الفصيل إذا ولد في الربيع وكان أول النتاج.

(١٥) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٦) [الأحقاف : ٣٥].

(١٧) [القلم : ٤٨].

(١٨) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٢٤.

(١٩) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥.

٥٧٩

والضحاك والكلبي وهو رواية العوفي عن ابن عباس : يقال : قدّر الله شيئا تقديرا ، وقدر يقدر قدرا بمعنى واحد (١). ومنه قوله : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ (٢) الْمَوْتَ)(٣) في قراءة من خفّفها (٤) دليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز (٥) والزهري «فظنّ أن لن نقدّر عليه» بالتشديد (٦). وقال عطاء وكثير من العلماء : معناه فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ)(٧) أي : يضيق. وقال ابن زيد : هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر (عليه (٨)؟) (٩). وعن الحسن قال : بلغني أنّ يونس (١٠) لما أصاب الذنب انطلق مغاضبا لربه ، واستزله الشيطان حتى ظن أن لن نقدر عليه ، وكان له سلف عبادة ، فأبى الله أن يجعله للشيطان ، فقذفه في بطن الحوت ، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة (١١). وقال عطاء : سبعة أيام ، وقيل : ثلاثة أيام. وقيل : إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة(١٢). وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة ، فتاب إلى ربه في بطن الحوت ، وراجع نفسه ، فقال: (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ (١٣) إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) حين عصيتك ، وما صنعت من شيء ، فلم أعبد غيرك ، فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته (١٤).

فصل

احتج القائلون (١٥) بجواز الذنب على الأنبياء بهذه الآية من وجوه :

أحدها : أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضبا لربه ، قيل : هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب ، واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير ، وإذا كان كذلك فمغاضبة الله من أعظم الذنوب ، ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله بل كان مع ذلك الملك ، أو مع القوم ، فهو أيضا محظور لقول الله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ)(١٦) وذلك(١٧) يقتضي أن ذلك الفعل من يونس محظور.

__________________

(١) قال الزجاج : (ويقدر بمعنى يقدّر) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٠٢.

(٢) بينكم : سقط من ب.

(٣) [الواقعة : ٦٠].

(٤) وهو ابن كثير ، والباقون بالتشديد. السبعة (٦٢٣). الكشف ٢ / ٣٠٥.

(٥) تقدم.

(٦) الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٥. والقرطبي ١١ / ٣٣٢ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٥.

(٧) ويقدر : سقط من ب. [الرعد : ٢٦].

(٨) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥.

(٩) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٠) في ب : يونس عليه الصلاة والسلام.

(١١) انظر البغوي ٥ / ٥٢٥.

(١٢) المرجع السابق.

(١٣) في الأصل : سبحانك لا إله إلا أنت.

(١٤) انظر البغوي ٥ / ٥٢٥.

(١٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٣ ـ ٢١٦.

(١٦) [القلم : ٤٨].

(١٧) في ب : وهذا.

٥٨٠