اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

(لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أي : من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض.

وقيل : معناه لو كان ذلك جائزا في صفته لم يتخذه بحدث يظهر لهم ويستر ذلك حتى لا يطلع عليه. وتأويل الآية : أن النصارى لما قالوا في المسيح وأمه ما قالوا رد الله عليهم بهذا ، وقال : (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) ، لأنكم تعلمون (١) أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره (٢).

قوله : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) في «إن» هذه وجهان :

أحدهما : أنها نافية ، أي : ما كنا فاعلين ، قاله قتادة ومقاتل وابن جريج (٣).

والثاني : أنها شرطية ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب «لو» (٤) عليه والتقدير : إن كنا فاعلين اتخذناه ولكنا لم نفعله ، لأنه لا يليق بالربوبية (٥). قوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ). «بل» حرف إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه لذاته كأنه قال : سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب بل من موجب حكمتنا أن نغلب (٦) اللعب بالجد وندحض الباطل بالحق (٧). والمعنى دع الذي قالوا فإنه كذب وباطل. و«نقذف» نرمي ونسلط قال تعالى : (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً)(٨) أي يرمون بالشهب. «بالحقّ» بالإيمان ، (عَلَى الْباطِلِ) على الكفر وقيل : الحق قول الله : إنه لا ولد له ، والباطل قولهم : اتخذ الله ولدا. قوله : «فيدمغه» العامة على رفع الغين نسقا على ما قبله. وقرأ عيسى بن عمر بنصبها (٩) قال الزمخشري (١٠) : وهو في ضعف قوله :

٣٧٠٥ ـ سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا (١١)

__________________

(١) في ب : لا تعلمون.

(٢) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

(٣) وهو قول المفسرين لأن «إن» التي في معنى النفي يكثر مجيء «إلا» بعدها. انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٠٠ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٨٧ التبيان ٢ / ٩١٣ ، والقرطبي ١١ / ٢٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٢.

(٤) وهو قوله : «لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا».

(٥) وهو قول النحويين ، واستظهره أبو حيان. انظر معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٠٠ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٨٧. التبيان ٢ / ٩١٣.

القرطبي ١١ / ٢٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٢.

(٦) في ب : نقلب.

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٦ ، الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٨) من قوله تعالى : «لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» [الصافات : ٨ ، ٩].

(٩) في ب : بنصبهما. وهو تحريف. وقد وجه أبو البقاء قراءة النصب بأن الحمل فيه على المعنى أي بالحق فالدفع. انظر المختصر (٩١) ، والتبيان ٢ / ٩١٣ ، والبحر المحيط ٦ / ٣٠٢.

(١٠) الكشاف ٣ / ٦.

(١١) البيت من بحر الوافر للمغيرة بن حبناء ، شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية. والشاهد فيه قوله : (فأستريحا) حيث نصب الفعل المضارع بعد فاء السببية مع أنها ليست مسبوقة بطلب أو نفي وهذا ـ

٤٦١

وقرىء شاذا «فيدمغه» بضم الميم (١) ، وهي محتملة لأن يكون في المضارع لغتان يفعل ويفعل ، وأن يكون الأصل الفتح والضمة للإتباع في حرف الحلق (٢).

و«يدمغه» أي يصيب دماغه من قولهم : دمغت الرجل ، أي ضربته في دماغه كقولهم : رأسه وكبده ورجله ، إذا أصاب منه (٣) هذه الأعضاء. وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ (٤). واستعار القذف والدمغ تصويرا لإبطاله به ، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلا قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه : أهلكه وأذهبه (٥)(فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ذاهب ، (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) يعني من كذب الرسول ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام ، وغير ذلك من الأباطيل.

قوله : (مِمَّا تَصِفُونَ) فيه أوجه :

أحدها : أنه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر ، أي : استقر لكم الويل من أجل ما تصفون. و«من» تعليلية. وهذا وجه وجيه.

والثاني : أنه متعلق بمحذوف.

والثالث : أنه حال من الويل ، أي : الويل واقعا مما تصفون ، كذا قدره أبو البقاء (٦) و«ما» في (مِمَّا تَصِفُونَ) يجوز أن تكون مصدرية (٧) فلا عائد عند الجمهور (٨) ، وأن

__________________

ـ ضرورة. وقيل : إن الفعل مؤكد بنون التوكيد الخفيفة على حد قوله تعالى : (لَنَسْفَعاً) [العلق : ١٥] وعلى هذا فالفعل مبني لا معرب. وقد تقدم.

(١) انظر الكشاف ٣ / ٦ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٢.

(٢) مضارع (فعل) بفتح العين يجيء على ثلاثة أوجه : أحدها (يفعل) بكسر العين نحو ضرب يضرب.

والثاني (يفعل) بضم العين نحو نصر ينصر.

وهل القياس الكسر أو الضم؟ فيه خلاف فعند أبي زيد هما سواء وكثرة أحدهما ترجع إلى الاستعمال ، وقال بعضهم : القياس الكسر ، لأنه أكثر ، وأيضا هو أخف من الضم. والثالث (يفعل) بفتح العين ، ولا يكون إلا وموضع عينه أو لامه حرف من أحرف الحلق نحو ذهب يذهب ، ومدح يمدح وذلك لأن أحرف الحلق سافلة في الحلق يتعسر النطق بها فأرادوا أن يكون قبلها إن كانت لاما أو بعدها إن كانت عينا الفتحة التي هي جزء الألف التي هي أخف الحروف ، فتعدل خفتها ثقلها فيسهل النطق بأحرف الحلق الصعبة وهذا غير لازم ، بدليل ما جاء منه على الأصل نحو برأ يبرؤ وهنأ يهنىء. فعلى هذا يكون مضارع دفع يدفع بفتح الميم ، لأن لام الفعل حرف حلقي ، وهذا هو الأصل في مضارعه.

وتكون قراءة «فيدفعه» بضم الميم محتملة لعدم لزوم الفتح في الحلقي وأن يكون ضم الميم إتباعا لضم حرف الحلق وهو لام الفعل انظر نزهة الطرف في علم الصرف ٩٨ ـ ١٠٠ ، وشرح الشافية ١ / ١١٧ ـ ١١٩.

(٣) منه : مكرر في الأصل.

(٤) انظر القرطبي ١١ / ٢٧٧.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٦ ، الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٨.

(٦) قال أبو البقاء («مِمَّا تَصِفُونَ» حال ، أي : ولكم الويل واقعا) التبيان ٢ / ٩١٤.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩١٤.

(٨) وذلك على قولهم بأن (ما) المصدرية حرف ، خلافا للمبرد والمازني والسهيلي وابن السراج والأخفش ـ

٤٦٢

تكون بمعنى الذي (١) ، أو نكرة موصوفة (٨) ، ولا بد من العائد عند الجميع (٢) ، حذف لاستكماله الشروط (٣). والمعنى : ممّا تصفون الله بما لا يليق به من الصاحبة (٤) والولد (٥). وقال مجاهد : مما تكذبون (٣).

قوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ)(٢١)

قوله (٦) : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. لما نفى اللعب عن نفسه (٧) ، ونفي اللعب لا يصح إلا بنفي الحاجة ، (ونفي الحاجة) (٨) لا يصح إلا بالقدرة التامة عقب تلك الآية بقوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لدلالة ذلك على كمال الملك والقدرة. وقيل : لما حكى كلام الطاعنين في النبوات ، وأجاب عنها ، وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد ، وعدم الانقياد ، بين ههنا أنه تعالى منزه عن طاعتهم لأنه هو (٩) المالك لجميع المخلوقات ، ولأجل أن الملائكة مع جلالتهم مطيعون له خائفون منه فالبشر مع كونهم في نهاية الضعف أولى أن يطيعوه (١٠).

قوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على «من» الأولى (١١) أخبر تعالى عن من في السموات والأرض وعن من عنده بأن الكل له في ملكه.

وعلى هذا فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيها على شرفه ، لأن قوله : (مَنْ فِي السَّماواتِ) شمل (مَنْ عِنْدَهُ) وقد مرّ نظيره في قوله : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)(١٢) وقوله : (لا يَسْتَكْبِرُونَ) على هذا فيه أوجه :

أحدها : أنه حال من «من» (١٣) الأولى أو الثانية أو منهما معا. وقال أبو البقاء حال

__________________

ـ في قولهم إنها اسم مفتقرة إلى ضمير ، وأنك إذا قلت : (يعجبني ما قمت) فتقديره يعجبني القيام الذي قمته. انظر الهمع ١ / ٨١.

(١) انظر التبيان ٢ / ٩١٤.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) لأن الموصول الاسمي والنكرة الموصوفة لا بد لهما من عائد يعود عليهما انظر شرح الأشموني ١ / ١٤٦.

(٣) لأن شروط جواز حذف العائد المنصوب أن يكون متصلا وناصبه فعل أو وصف غير صلة أل ، وأن يكون الفعل تاما. وهو هنا متصل وناصبة فعل تام انظر شرح التصريح ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٤) في ب : المصاحبة. وهو تحريف.

(٥) انظر البغوي ٥ / ٤٧٩.

(٣) لأن شروط جواز حذف العائد المنصوب أن يكون متصلا وناصبه فعل أو وصف غير صلة أل ، وأن يكون الفعل تاما. وهو هنا متصل وناصبة فعل تام انظر شرح التصريح ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٦) في ب : قوله تعالى.

(٧) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٨.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) هو : سقط من ب.

(١٠) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٨.

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩١٤.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٣٠٢.

(١٣) من قوله تعالى : «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» [البقرة : ٩٨]. انظر اللباب ١ / ٢٢٣.

٤٦٣

إما من «من» (١) الأولى أو الثانية على قول من رفع بالظرف (٢).

يعني : أنه إذا جعلنا «من» في قوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) مرفوعا بالفاعلية والرافع الظرف وذلك (٣) على رأي الأخفش (٤) جاز أن يكون (لا يَسْتَكْبِرُونَ) حالا من «من» الأولى ، وإما من «من» الثانية ؛ لأن الفاعل يجيء منه الحال. ومفهومه : أنا إذا جعلناها مبتدأ لا يجيء «يستكبرون» حالا وكأنه يرى أن الحال لا يجيء من المبتدأ ، وهو رأي لبعضهم (٥). ويجوز أن يكون (لا يَسْتَكْبِرُونَ) حالا من الضمير المستكن في (عنده) الواقع صلة (٦) وأن يكون حالا من الضمير المستكن في «له» الواقع خبرا(٧).

والوجه الثاني من وجهي «من» : أن تكون مبتدأ و (لا يَسْتَكْبِرُونَ) خبره ، وهذه جملة معطوفة على جملة قبلها (٨) ، وهل الجملة من قوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) استئنافية أو معادلة لجملة قوله : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) أي لكم الويل ولله جميع العالم علويه وسفليه والأول أظهر (٩)(وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي : لا يكلون ولا يتعبون ، يقال : استحسر البعير أي : كلّ وتعب قال علقمة بن عبدة :

٣٧٠٦ ـ بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليب (١٠)

ويقال : حسر البعر وحسرته أنا ، فيكون لازما ومتعديا (١١) ، وأحسرته أيضا ، فيكون فعل وأفعل بمعنى في أحد وجهي فعل (١٢).

__________________

(١) من : سقط من الأصل.

(٢) من : تكملة من التبيان.

(٣) التبيان ٢ / ٩١٤.

(٤) في الأصل : ودال. وهو تحريف.

(٥) انظر البيان ٢ / ١٥٨.

(٦) وهو رأي سيبويه والكوفيين ، قال سيبويه : (وتقول : مررت برجل معه كيس مختوم عليه ، الرفع الوجه لأنه صفة الكيس ، والنصب جائز على قوله : فيها رجل قائما ، وهذا رجل ذاهبا) الكتاب ٢ / ٥٢ ، وانظر أيضا ٢ / ٨٨ الهمع ١ / ٢٤٣.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩١٤.

(٨) انظر البيان ٢ / ١٥٩ ، التبيان ٢ / ٩١٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٢.

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٢.

(١٠) البيت من بحر الطويل ، وهو في شرح الديوان (١٤) ، الكتاب ١ / ٢٠٩ ، إيضاح الشعر ٣٣٤ ، ٥٠٦ ، الإفصاح ٣٧٢ ، المفضليات ٣٩٤ ، جيف : جمع جيفة وهي جثه الميت إذا نتنت. الحسرى : جمع حسير من حسرت الدابة إذا أعيت وكلت ، وهي المعيية يتركها أصحابها فتموت. وهو موطن الشاهد هنا.

وجعل عظامها بيضا لطول العهد ، أو لأن الوحوش والطير أكلت ما عليها من اللحم فبدت بيضا ، الصليب : الودك الذي يخرج من الجلد ، والمراد به هنا الجلد اليابس الذي لم يدبغ.

(١١) وفي اللسان (حسر): (حسرت الدابة والناقة حسرا واستحسرت : أعيت وكلّت ، يتعدى ولا يتعدى) وانظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٣.

(١٢) قال الزجاج : (وحسرت الناقة وأحسرتها : أتعبتها) فعلت وأفعلت : ٢٧ وهذا على وجه التعدي في الثلاثي ، أما على لزوم الثلاثي فالهمزة أدت معنى التعدية في المزيد بها.

٤٦٤

قال الزمخشري : فإن قلت : الاستحسار مبالغة في الحسور ، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور. قلت : في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه ، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الشاقة (١) بأن (٢) يستحسروا فيما يفعلون (٣). وهو سؤال حسن وجواب مطابق. قوله : «يسبّحون» يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا من الفاعل في الجملة قبله (٤). و (لا يَفْتُرُونَ) يجوز فيه الاستئناف ، والحال من فاعل «يسبّحون» (٥).

فصل

دلّت هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من ثلاثة أوجه تقدمت في البقرة (٦). والمراد بقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ) هم الملائكة بالإجماع وصفهم الله تعالى بأنهم (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) وهذا لا يليق بالبشر ، وهذه العندية عندية الشرف لا عندية المكان والجهة (٧). روى عبد الله بن الحارث بن نوفل (٨) قال : قلت لكعب : أرأيت قول الله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ثم قال : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً)(٩) أفلا تكون الرسالة مانعة لهم عن ذلك التسبيح ، وأيضا قال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ)(١٠) فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح؟ أجاب كعب الأحبار وقال : التسبيح لهم كالتنفس لنا ، فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا الكلام فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال (١١).

فإن قيل : هذا القياس غير صحيح ، لأن الاشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام ؛ لأن آلة التنفس غير آلة الكلام ، وأما التسبيح واللعن فهما من جنس الكلام فاجتماعهما محال. فالجواب : أي استبعاد في أن يخلق الله لهم ألسنة كثيرة ببعضها (١٢) يسبح الله

__________________

(١) في ب : الباهظة.

(٢) في النسختين : بأن لا. والتصويب من الفخر الرازي.

(٣) الكشاف ٣ / ٦.

(٤) انظر التبيان ٢ / ٩١٤.

(٥) المرجع السابق.

(٦) عند قوله تعالى : «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» [البقرة : ٣٤] انظر اللباب ١ / ١٢٠. وانظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٨.

(٧) المرجع السابق.

(٨) هو عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي أبو محمد المدني.

روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مرسلا وعن عمر وعثمان وعلي وعن أبيه ، وغيرهم ، وروى عنه أبناؤه عبد الله وإسحاق وعبد الملك بن عمير ، وغيرهم ، مات سنة (٩٩ ه‍). تهذيب التهذيب ٥ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٩) من قوله تعالى : «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [فاطر : ١].

(١٠) من قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [البقرة : ١٦١].

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٩.

(١٢) في ب : بعضها.

٤٦٥

وببعضها (١) يلعنون أعداء الله. أو يقال : معنى قوله : «لا يفترون» أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في(٢) أوقاته اللائقة به كما يقال : إن فلانا مواظب على الجماعة لا يفتر عنها ، لا يراد به أنه أبدا مشتغل بها ، بل يراد به أنه مواظب على العزم على أدائها في أوقاتها (٣).

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا) هذه «أم» المنقطعة ، فتقدر ب (بل) التي لإضراب الانتقال وبالهمزة التي معناها الإنكار (٤). و«اتخذ» يجوز أن يكون بمعنى (صنع) فيتعلق «من» به (٥) ، وجوّز أبو حيّان أن يكون بمعنى (صيّر) التي في قوله (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)(٦) ، قال : وفيه معنى الاصطفاء والاختيار(٧). و (مِنَ الْأَرْضِ) يجوز أن يتعلق بالاتخاذ كما تقدم ، وأن يتعلق بمحذوف على أنها نعت ل «آلهة» أي من جنس الأرض (٨).

قوله : (هُمْ يُنْشِرُونَ) جملة في محل نصب صفة ل «آلهة». وقرأ العامة «ينشرون» بضم حرف المضارعة من أنشر (٩). وقرأ الحسن بفتحها وضم الشين (١٠) يقال : أنشر الله الموتى فنشروا. ونشر يكون لازما ومتعديا (١١). قوله (١٢) : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) استفهام

__________________

(١) في النسختين : وبعضها.

(٢) في ب : و.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٩.

(٤) (أم) المنقطعة هي المسبوقة بالخبر المحض نحو قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [السجدة : ٢ ، ٣]. أو المسبوقة بهمزة لغير الاستفهام نحو قوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥] ، إذ الهمزة في ذلك للإنكار. أو المسبوقة باستفهام بغير الهمزة نحو قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [الرعد : ١٦] ومعنى «أم» المنقطعة الذي لا يفارقها الإضراب ثم تارة تكون له مجردا نحو قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [الرعد : ١٦]. وتارة تتضمن مع ذلك استفهاما إنكاريا. نحو قوله تعالى : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) [الطور : ٣٩] وذلك كالآية التي نتعرض لها فإن «أم» فيها للإضراب الذي يتضمن استفهاما إنكاريا. والإضراب هنا للانتقال من غرض إلى غرض فالكلام من أول السورة إلى ههنا كان في النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالا وجوابا وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الأضداد والأنداد وتارة تتضمن مع ذلك استفهاما طلبيا نحو قولهم : إنها لإبل أم شاء ، التقدير : بل هي شاء. انظر المغني ١ / ٤٤ ـ ٤٥.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٤.

(٦) [النساء : ١٢٥].

(٧) البحر المحيط ٦ / ٣٠٤.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩١٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٤.

(٩) والمعنى : أم اتخذوا آلهة يحيون الموتى. معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٨٨. القرطبي ١١ / ٢٧٨.

والبحر المحيط ٦ / ٣٠٤.

(١٠) مضارع نشر ، وأنشر ونشر لغتان ، والمعنى على هذه القراءة : أم اتخذوا آلهة لا يموتون يحيون أبدا.

معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٨٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٤.

(١١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٤.

(١٢) في ب : فصل.

٤٦٦

بمعنى الجحد أي (١) لم يتخذوا من الأرض يعني : الأصنام من الأرض والحجارة ، وهما من الأرض ، والمنكر بعد اتخاذهم آلهة من الأرض ينشرون الموتى. فإن قيل : كيف أنكر (٢) عليهم اتخاذ آلهة تنشر ، وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم بل كانوا في نهاية البعد عن هذه الدعوى ، فإنهم كانوا مع إقرارهم بالله وأنه خالق السموات والأرض منكرين للبعث ، ويقولون : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(٣) فكيف يدعون ذلك للجماد الذي لا يوصف بالقدرة البتة؟ فالجواب : أنهم لما اشتغلوا بعبادتها ، ولا بد للعبادة من فائدة ، وهي الثواب ، فإقدامهم على عبادتها يوجب إقرارهم بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب ، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم ، والمعنى : إذا لم يكونوا قادرين على أن يحيوا أو يميتوا ويضروا وينفعوا فأي عقل يجوز اتخاذهم آلهة (٤).

وقوله : «من الأرض» كقولك : فلان من مكة أو من المدينة (٥). وقوله : «هم» يفيد معنى الخصوصية كأنه قيل : أم اتخذوا آلهة لا يقدرون على الإنشار إلا هم وحدهم (٦).

قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)(٢٥)

قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وإلا هنا صفة للنكرة قبلها بمعنى «غير» ، والإعراب فيها متعذر فجعل على ما بعدها (٧). وللوصف بها شروط منها : تنكير الموصوف ، أو قربه من النكرة بأن يكون معرفا ب (أل) الجنسية (٨).

ومنها : أن يكون جمعا صريحا كالآية أو ما في قوة الجمع كقوله (٩) :

٣٧٠٧ ـ لو كان غيري سليمى الدّهر غيّره

وقع الحوادث إلا الصّارم الذّكر (١٠)

__________________

(١) أي : سقط من ب.

(٢) في الأصل : أنكرا. وهو تحريف.

(٣) من قوله تعالى :«وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» [يس : ٧٨].

(٤) انظر الكشاف في ٣ / ٧ ، والفخر الرازي ٢٢ / ١٥٠.

(٥) أي : أن من للتبيين.

(٦) انظر الكشاف في ٣ / ٧ ، الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٠.

(٧) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٨٨ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٢ البيان ٢ / ١٥٩ ، التبيان ٢ / ٩١٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٤.

(٨) لأن المعرف ب (أل) الجنسية في معنى النكرة كقول الشاعر :

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات إلا بغامها

وانظر الكتاب ١ / ٣٣٢ ، والمغني ١ / ٧٢ ، الهمع ١ / ٢٢٩ ، الأشموني ٢ / ١٥٦.

(٩) في ب : لقوله.

(١٠) البيت من بحر البسيط قاله لبيد ، وهو في ديوانه (٥٧) والكتاب ٢ / ٣٣٣ ، المغني ١ / ٧٢ ، اللسان (إلا) ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢١٨ ، الأشموني ٢ / ١٥٦. ـ

٤٦٧

ف (إلا الصارم) صفة ل «غيري» ، لأنه في معنى الجمع (١). ومنها : أن لا يحذف موصوفها عكس (غير) (٢) ، وأنشد سيبويه (٣) على ذلك قوله :

٣٧٠٨ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (٤)

أي وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه.

وقد وقع الوصف ب «إلا» كما وقع الاستثناء ب «غير» ، والأصل في (٥) «إلا» الاستثناء وفي «غير» الصفة (٦). ومن ملح كلام الزمخشري : واعلم أن (إلا) (٧) و(غير) يتقارضان (٨). ولا يجوز أن يرتفع الجلالة على البدل من «آلهة» لفساد المعنى. قال الزمخشري : فإن قلت : ما منعك من الرفع على البدل. قلت لأن «لو» بمنزلة «إن» في أن الكلام معها موجب (٩) ، والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب (١٠) كقوله تعالى

__________________

ـ الصارم : السيف القاطع. الذكر من السيوف : ما كان ذا ماء ورونق.

والشاهد فيه وقوع (إلا) نعتا ل (غيري) وهو غير جمع إلا أنه في قوة الجمع والتقدير : لو كان غيري الصارم الذكر لغيره وقع الحوادث.

(١) ومفهوم كلام سيبويه أنه لا يشترط كون الموصوف جمعا أو شبهه لتمثيله ب «لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا». انظر الكتاب ٢ / ٣٣١.

(٢) وذلك لأن (غير) اسم متمكن تعمل فيه العوامل ، فيجوز أن يقام مقام الموصوف ، فإذا قلت : مررت بغيرك ، فغيرك مجرور بحرف الجر ، وكذلك إذا قلت : قام غيرك ، فغيرك مرفوع بالفعل قبله ، وكذلك إذا قلت : رأيت غيرك ، فغيرك منصوب بوقوع الفعل عليه لا بحكم أنه صفة تابع. ف (إلا) إنما وصف بها حملا على (غير) ، وإذا كانت (غير) نفسها إذا حذف موصوفها لا تبقى نعتا ، إذ النعت يقتضي منعوتا متقدما عليه ، كان ما حمل عليه وهو حرف لا يعمل فيه عامل لا رافع ولا ناصب ولا خافض أشد امتناعا ، فلم يجز لذلك حذف الموصوف وإقامته مقامه ، فلا تقول : ما قام إلا زيد وأنت تريد الصفة ، كما جاز ما قام غير زيد. انظر ابن يعيش ٢ / ٩٠.

(٣) الكتاب ٢ / ٣٣٤.

(٤) البيت من بحر الوافر قاله عمرو بن معديكرب أو حضرمي بن عامر.

الفرقدان : نجمان قريبان من القطب لا يفترقان. والشاهد فيه وصف (كل) بقوله (إلا الفرقدان) أي غير الفرقدين. وقد احتج الكوفيون بهذا البيت على أن (إلا) بمنزلة (الواو) ، ورد عليهم ابن الأنباري بأن (إلا) بمعنى (غير) ولذلك ارتفع ما بعدها وقد تقدم.

(٥) في : سقط من ب.

(٦) أي أن الأصل في (إلا) أن تكون للاستثناء ، وفي (غير) أن تكون وصفا ، ثم قد يحمل أحدهما على الآخر فيوصف ب (إلا) ويستثنى ب (غير) الهمع ١ / ٢٢٩.

(٧) في ب : لا. وهو تحريف.

(٨) يعني أن كل واحد منهما يستعير من الآخر حكما هو أخص به. انظر الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب ١ / ٣٦٩ ، شرح المفصل لابن يعيش ٢ / ٨٨.

(٩) وذلك لأن (لو) شرط فيما مضى فهي بمنزلة (إن) في أنها شرط في المستقبل فلو قلت : إن أتاني إلا زيد لم يصح ، لأن الشرط في حكم الموجب ، فكما لا يصح أتاني إلا زيد فكذلك لا يصح إن أتاني إلا زيد ، والمستثنى يجب نصبه إذا كان الكلام تاما موجبا. انظر شرح المفصل ٢ / ٨٩.

(١٠) أي أن الكلام إذا كان تاما منفيا ، والاستثناء متصل فالأرجح في المستثنى إبداله من المستثنى منه بدل ـ

٤٦٨

(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ)(١) وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه (٢).

فجعل المانع صناعيا مستندا إلى ما ذكر من عدم صحّة إيجاب أعم العام. وأحسن من هذا (٣) ما ذكره أبو البقاء من جهة المعنى قال : ولا يجوز أن يكون بدلا ، لأن المعنى يصير إلى قولك : لو كان فيهما الله لفسدتا (٤) ألا ترى أنك لو قلت : ما جاءني قومك إلا زيد (٥) على البدل لكان المعنى : جاءني زيد وحده(٦).

ثم ذكر الوجه الذي رد به الزمخشري فقال : وقيل يمتنع البدل ، لأن قبلها إيجابا (٧). ومنع أبو البقاء النصب على الاستثناء لوجهين :

أحدهما : أنه فاسد في المعنى ، وذلك أنك إذا قلت : لو جاءني القوم إلا زيدا لقتلتهم ، كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم ، ولو نصبت (٨) في الآية لكان المعنى : أن فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله تعالى مع الآلهة ، وفي ذلك إثبات إله مع الله. وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك ، لأن المعنى لو كان فيهما غير الله لفسدتا (٩).

والوجه الثاني : أن «آلهة» هنا نكرة ، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين ، إذ لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لو لا الاستثناء (١٠). وهذا الوجه

__________________

ـ بعض من كل عند البصريين ، وعطف نسق عند الكوفيين لأن (إلا) عندهم من حروف العطف في باب الاستثناء خاصة نحو قوله تعالى : «ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» [النساء : ٦٦] بالرفع في قراءة السبعة غير ابن عامر (السبعة ٢٣٥) ويجوز فيه النصب على الاستثناء. أما إذا كان الاستثناء منقطعا فإن لم يمكن تسليط العامل على المستثنى وجب النصب نحو ما زاد هذا المال إلا ما نقص ، وما نفع زيد إلا ماضي وإن أمكن تسليط العامل المستثنى نحو ما قام القوم إلا حمارا. فالحجازيون يوجبون النصب ، وتميم ترجحه وتجيز الإتباع. انظر شرح التصريح ١ / ٣٤٩ ـ ٣٥٣. شرح الأشموني ٢ / ١٤٤ ـ ١٤٨.

(١) [هود : ٨١]. وذلك على قراءة رفع «امرأتك» وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وباقي السبعة بالنصب (السبعة : ٣٣٨).

(٢) الكشاف ٣ / ٧.

(٣) في ب : هذه.

(٤) في ب : لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا.

(٥) في ب : زيدا.

(٦) التبيان ٢ / ٩١٤. لأن المبدل منه في حكم الطرح ، وذلك من جهة المعنى ، فلو طرح المبدل منه في الآية لفسد المعنى كما ذكر أبو البقاء. وانظر أيضا التبيان ٢ / ١٥٩.

(٧) التبيان ٢ / ٩١٥ ، وانظر أيضا البيان ٢ / ١٥٩.

(٨) في ب : نصب.

(٩) في ب : لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا.

(١٠) التبيان ٢ / ٩١٥ ، وابن هشام ذكر في هذه الآية أنه لا يجوز في «إلا» هذه أن تكون للاستثناء من جهة المعنى ، إذ التقدير حينئذ لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا ، وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا ، وليس ذلك المراد. ولا من جهة اللفظ ، لأن (آلهة) جمع منكر في ـ

٤٦٩

الذي منعاه ، أعني الزمخشري وأبا البقاء ، قد أجازه المبرد وغيره أما المبرد فإنه قال : جاز البدل ، لأن ما بعد «لو» غير موجب في المعنى والبدل في غير الموجب أحسن من الوصف (١).

وفي هذا نظر من جهة ما ذكره أبو البقاء من فساد المعنى (٢).

وقال ابن الضائع (٣) تابعا للمبرد : لا يصح المعنى عندي إلا أن تكون «إلا» (٤) في معنى (غير) التي يراد بها البدل ، أي : لو كان فيهما آلهة عوض واحد ، أي : بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا ، وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة (٥). وقال الشلوبين (٦) في مسألة سيبويه : «لو كان معنا رجل إلّا زيد لغلبنا» إن المعنى : لو كان معنا رجل مكان زيد لغلبنا ، ف (إلا) بمعنى (غير) التي بمعنى مكان (٧). وهذا أيضا جنوح من أبي علي إلى البدل. وما ذكره ابن الضائع من المعنى المتقدم مسوغ للبدل ، وهو جواب عما أفسد به أبو البقاء وجه البدل إذ معناه واضح ، ولكنه قريب من تفسير المعنى لا من تفسير الإعراب (٨).

فصل

المعنى لو كان يتولاهما ، ويدبر أمرهما شيء غير الواحد الذي فطرهما لفسدتا ولا يجوز أن تكون «إلا» بمعنى الاستثناء ، لأنها لو كانت استثناء لكان المعنى : لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا ، وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد ، وذلك باطل ، لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء كان الله معهم أو لم

__________________

ـ الإثبات فلا عموم له فلا يصح الاستثناء منه ، فلو قلت : قام رجال إلا زيدا لم يصح اتفاقا. انظر المغني ١ / ٧٠ ـ ٧١.

(١) هذا القول المنسوب للمبرد ذكره أبو حيان في البحر المحيط ٦ / ٣٠٥.

(٢) حيث قال : (ولا يجوز أن يكون بدلا ، لأن المعنى يصير إلى قولك : لو كان فيهما الله لفسدتا). التبيان ٢ / ٩١٤.

(٣) هو علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي الإشبيلي أبو الحسن المعروف بابن الضائع ، بلغ الغاية في علم النحو ، ولازم الشلوبين ، وفاق أصحابه بأسرهم ، له شرح الجمل ، وشرح كتاب سيبويه جمع فيه بين شرحي السيرافي وابن خروف باختصار حسن ، وغير ذلك ، مات سنة ٦٨٠ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٢٠٤.

(٤) إلا : سقط من ب.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٥.

(٦) تقدم.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٥.

(٨) ذكر ابن هشام في المغني قول ابن الضائع والشلوبين مجملا ثم رد عليهما بقوله : (قلت : وليس كما قالا ، بل الوصف في المثال وفي الآية مختلف فهو في المثال مخصص مثله في قولك : جاء رجل موصوف بأنه غير زيد ، وفي الآية مؤكد مثله في قولك : متعدد موصوف بأنه غير الواحد ، وهكذا الحكم أبدا ؛ إن طابق ما بعد (إلا) موصوفها فالوصف مخصص له ، وإن خالفه بإفراد أو غيره فالوصف مؤكد ، ولم أر من أفصح عن هذا) المغني ١ / ٧١.

٤٧٠

يكن الله معهم فالفساد لازم. ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت ما ذكرنا (١). وهو أن المعنى : لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله لفسدتا ، أي لخربتا ، وهلك من فيهما بوجود التمانع من الآلهة ، لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام (٢). ويدل العقل على ذلك من وجوه :

الأول : أنا لو قدرنا إلهين لكان أحدهما إذا انفرد صح منه تحريك الجسم وإذا انفرد الثاني صح منه تسكينه (٣) ، فإذا اجتمعا وجب أن يبقيا على ما كان عليه حال الانفراد ، فعند الاجتماع يصح أن يحاول أحدهما التحريك والآخر التسكين فإما أن يحصل المرادان ، وهو محال ، وإما أن يمتنعا وهو أيضا محال ، لأنه يكون كل واحد منهما عاجزا ، وأيضا المانع من تحصيل مراد كل واحد منهما مراد الآخر ، والمعلول لا يحصل إلا مع علته ، فلو امتنع المرادان لحصلا ، وذلك محال وإما أن يمتنع أحدهما دون الثاني ، وذلك أيضا محال ، لأن الممنوع يكون عاجزا ، والعاجز لا يكون إلها ، ولأنه لما كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد لم يكن عجز أحدهما أولى من عجز الآخر ، فثبت أن القول بوجود إلهين يوجب هذه الأقسام الفاسدة فكان القول به باطلا.

الوجه الثاني : أن الإله يجب أن يكون قادرا على جميع الممكنات ، فلو فرضنا الإلهين لكان (٤) كل واحد منهما قادرا على جميع الممكنات ، فإذا أراد كل واحد منهما تحريك جسم فتلك الحركة إما أن تقع بهما معا (٥) ولا تقع بواحد منهما أو تقع بواحد منهما أو تقع بأحدهما دون الثاني ، والأول محال ، لأن الأثر مع المؤثر المستقل واجب الحصول ، ووجوب حصوله به يمنع من استناده إلى الثاني ، فلو اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجا إليهما ، وغنيّا عنهما وهو محال ، وإما أن لا يقع بواحد منهما ألبتة ، فهذا يقتضي كونهما عاجزين ، وأيضا فامتناع وقوعه بهذا إنما يكون لأجل وقوعه بذاك وبالضد ، فلو امتنع وقوعه بهما لوقع بهما معا وهو محال ، وإما أن يقع بأحدهما دون الثاني فهو باطل ، لأن وقوعه بهذا يلزم فيه رجحان أحد الإلهين على الآخر من غير مرجح ، وهو محال.

الوجه الثالث : لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا ، فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال ، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما ، أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال ، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات (٦).

وذكروا وجوها أخر عقلية وفي هذا كفاية.

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٠.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٤٨٠.

(٣) في ب : تسكين الجسم.

(٤) في ب : لو أن. وهو تحريف.

(٥) في ب : أو. وهو تحريف.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٠ ـ ١٥٣ بتصرف.

٤٧١

ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي : عما يصفه به المشركون من الشرك والولد (١).

فإن قيل : أي فائدة لقوله تعالى : (رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).

فالجواب : أن هذه المناظرة وقعت مع عبدة الأصنام ، وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكا في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السموات والأرضين (٢).

قوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) اعلم أن أهل السنة (٣) استدلوا على أنه تعالى لا يسأل عما يفعل بأمور :

أحدها : أنه لو كان كل شيء معللا بعلة كانت تلك العلة (٤) معللة بعلة أخرى ولزم التسلسل ، فلا بد في قطع التسلسل من الانتهاء إلى ما يكون غنيا عن العلة ، وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى ، وصفاته مبرأة عن الافتقار إلى المبدع المخصص ، فكذا فاعليته يجب أن تكون مقدسة عن (٥) الاستناد إلى الموجب والمؤثر.

وثانيها : أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة إما أن تكون واجبة أو ممكنة ، فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونها فاعلا ، وحينئذ يكون موجبا بالذات لا فاعلا باختيار. وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلا لله تعالى فتفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال.

وثالثها : أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة ، فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقرت (٦) إلى علة أخرى ولزم التسلسل.

ورابعها : أنه إن فعل فعلا لغرض فإما أن يكون متمكنا من تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة ، أو لا يكون متمكنا منه. فإن كان متمكنا منه كان توسط تلك الواسطة عبثا.

وإن لم يكن متمكنا منه كان عاجزا ، والعجز على الله تعالى محال ، وأما العجز علينا فغير ممتنع ، فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض وذلك في حق الله تعالى (٧) محال.

وخامسها : لو كان فعله معللا بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العباد ، والأول محال ، لأنه منزه عن النفع والضر ، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وأن يكون عائدا إلى العباد ، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذة وعدم حصول الآلام ، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء (٨) من غير واسطة ، وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئا لأجل شيء.

__________________

(١) انظر البغوي ٥ / ٤٨٠.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٤) في الأصل : الصلة. وهو تحريف.

(٥) في ب : إلى.

(٦) في ب : افتقر.

(٧) تعالى : سقط من ب.

(٨) ابتداء : سقط من ب.

٤٧٢

وسادسها : أن الموجودات ملكه ، ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له : لم فعلت ذلك؟

وسابعها : أن من قال لغيره : لم فعلت ذلك؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يكون للسائل على المسؤول حكم على فعله ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك بأن يهدده بالعقاب؟ فذلك على الله محال ، وإن هدده باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والاتصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة فذلك أيضا محال ، لأنه مستحق للمدح والاتصاف بصفات الحكمة والجلال. فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله : لم فعلت؟ وأنّ كل شيء صنعه لا علة لصنعه (١). وأما المعتزلة فإنهم (٢) سلموا أنه يجوز أن يقال : الله عالم بقبح القبيح ، وعالم بكونه غنيا عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح ، وإذا عرفنا ذلك عرفنا أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب ، وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله (٣) : لم فعلت هذا (٤)؟ ثم قال تعالى : (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) وهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم. واعلم أن منكري التكليف احتجوا على قولهم بوجوه (٥) :

أحدها : قالوا : التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك ، أو حال رجحان أحدهما على الآخر ، والأول محال ، لأن حال الاستواء يمنع الترجيح ، وحال امتناع الترجيح يكون تكليفا بالمحال. والثاني محال ، لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع ، وإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف ما لا يطاق.

وثانيها (٦) : قالوا : كل ما علم الله وقوعه فهو واجب ، فيكون التكليف به عبثا ، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع ، فيكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق.

وثالثها : قالوا : سؤال العبد إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة (٧) فإن عادت إلى العبد فهو محال ، لأن سؤاله لما كان سببا للعقاب (٨) لم يكن نفعا عائدا إلى العبد بل ضرر عائد إليه. وإن لم يكن في سؤاله فائدة كان عبثا ، وهو غير جائز على الحكيم ، بل كان إضرارا وهو غير جائز على الرحيم. والجواب من وجهين :

الأول : أن غرضكم (٩) من إيراد هذه الشبه النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم كلفتمونا بنفي التكليف ، وهذا متناقض.

__________________

(١) في الأصل : صنعه. وهو تحريف.

(٢) في ب : فإن.

(٣) في ب : له.

(٤) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٦) في ب : وثانيهما. وهو تحريف.

(٧) في ب : الفائدة. وهو تحريف.

(٨) في ب : للعذاب.

(٩) في النسختين : أن غرضه. والتصويب من الفخر الرازي.

٤٧٣

والثاني : أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد ، وهو أن التكاليف (١) كلها تكليف (بما لا يطاق) (٢) فلا يجوز من الحكيم أن يوجهها على العباد ، فيرجع حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال لله (٣) تعالى : لم كلفت عبادك ، إلا أنّا قد بيّنا أنه سبحانه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) ، فظهر بهذا أن قوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) أصل لقوله : (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فتأمل هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن. فإن قيل : (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) متأكد بقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(٤) وبقوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)(٥) إلا أنّه يناقضه قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ)(٦).

فالجواب : أن يوم القيامة طويل وفيه مقامات ، فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام دفعا للتناقض (٧).

فصل (٨)

قالت المعتزلة : (فيه وجوه :

أحدها) (٩) : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن (١٠) والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل ، بل كان يذم بما من حقه الذم ، كما يحمد بما (١١) من حقه الحمد.

وثانيها : أنه يجب أن يسأل (١٢) عن المأمور به إذ لا فاعل (١٣) سواء.

وثالثها : أنه لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم.

ورابعها : أن عملهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنه من حيث إنه خلقه وأوجده فيهم.

وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع أنه يقبل حجة العباد لقوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(١٤)

وهذا يقتضى أن لهم عليه حجة قبل بعثة الرسل ، وقال : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً)(١٥) ونظائر هذه الآيات كثيرة ، وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى.

والجواب هو (١٦) المعارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه المتقدمة التي بينا فيها أنه يستحيل طلب علّيّة أفعال الله تعالى.

__________________

(١) في ب : التكليف. وهو تحريف.

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) في ب : الله.

(٤) [الحجر : ٩٢].

(٥) [الصافات : ٢٤].

(٦) [الرحمن : ٣٩].

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٨) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٩) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(١٠) في ب : المحسن. وهو تحريف.

(١١) بما : سقط من الأصل.

(١٢) في الأصل : أنه لا يجب أن يسأل.

(١٣) في ب : فاعلي. وهو تحريف.

(١٤) [النساء : ١٦٥].

(١٥) [طه : ١٣٤].

(١٦) في ب : هي. وهو تحريف.

٤٧٤

فصل(١)

في تعلق هذه الآية بما قبلها ، وهو أن كل (٢) من أثبت لله تعالى (٣) شريكا ليس عمدته إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى ، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى ، قالوا : رأينا في العالم خيرا وشرا ، ولذة وألما ، وحياة وموتا ، وصحة وسقما ، وغنى وفقرا ، وفاعل خير وفاعل شر ، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيرا وشرّيرا معا ، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلا (للخير والآخر للشر) (٤) ، فرجع حاصل هذه القسمة إلى أن مدبر العالم لو كان واحدا فلم خصّ هذا بالحياة والصحة والغنى ، وخصّ هذا بالموت والألم والفقر. فيرجع حاصلة إلى طلب اللمية. لا جرم أنه تعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك ، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يبتدأ بذكر الدليل المثبت للمطلوب ، ثم يذكر بعده الجواب عن شبهة الخصم.

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) استعظام لكفرهم ، وهو استفهام إنكار وتوبيخ (٥). (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) إما من جهة العقل وإما من جهة النقل ، واعلم أنه تعالى لما ذكر دليل التوحيد أولا ، وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية أخذ يطالبهم بدليل شبهتهم. قوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) العامة على إضافة «ذكر» إلى «من» أضاف المصدر إلى مفعوله كقوله تعالى (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ)(٦). وقرىء «ذكر» بالتنوين فيهما و«من» مفتوحة الميم (٧). نوّن المصدر ونصب به المفعول (كقوله تعالى)(٨)(أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً)(٩). وقرأ يحيى بن يعمر «ذكر» بتنوينهما (١٠) و«من» بكسر الميم (١١) ، وفيه تأويلان :

__________________

(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٥.

(٢) كل : سقط من ب.

(٣) تعالى : سقط من الأصل.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) «أم» هنا مثل «أم» في قوله تعالى : «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ» [الأنبياء : ٢١] وقد تقدم الكلام فيها. فإن «أم» هنا المنقطعة ومعناه الإضراب الذي يتضمن استفهاما إنكاريا.

والإضراب هنا للانتقال من غرض إلى غرض ، فإنه لما ذكر دليل التوحيد أولا ، وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية أخذ يطالبهم بدليل شبهتهم.

(٦) من قوله تعالى : «قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» [من سورة ص : ٤٢] فهو مصدر مضاف إلي المفعول به. البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(٧) البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) [البلد : ١٤ ، ١٥] هذا على مذهب البصريين في إعمال المصدر المنون ، وأنكره الكوفيون ، وقالوا : إن وقع بعده مرفوع أو منصوب فبإضمار فعل يفسره المصدر. انظر إعراب ثلاثين سورة من القرآن :

(٩١) ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٦ ، الهمع ٢ / ٩٣.

(١٠) في الأصل : بتنوينها. وهو تحريف.

(١١) المختصر : (٩١) ، المحتسب ٢ / ٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

٤٧٥

أحدهما : أن ثم موصوفا محذوفا قامت صفته وهي الظرف مقامه ، والتقدير : هذا ذكر من كتاب معي ومن كتاب قبلي (١).

والثاني : أن «معي» بمعنى عندي (٢). ودخول «من» على «مع» في الجملة نادر ، لأنها ظرف لا يتصرف (٣).

وقد ضعف أبو حاتم (٤) هذه القراءة ، ولم ير لدخول «من» على «مع» وجها (٥). ووجهه بعضهم بأنه اسم هو ظرف نحو (قبل وبعد) فكما تدخل (من) على أخواته كذلك تدخل عليه (٦). وقرأ طلحة : «ذكر معي وذكر قبلي» بتنوينهما دون (من) فيهما (٧). وقرأ طائفة «ذكر من» بالإضافة ل «من» كالعامة (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) بتنوينه وكسر ميم (٨) «من» (٩) ووجهها (١٠) واضح مما تقدم (١١).

فصل

قال ابن عباس (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) أي : هو الكتاب المنزل على من معي ، «وهذا ذكر من قبلي» (١٢) أي : الكتاب الذي نزل على من تقدمني من الأنبياء وهذه التوراة والإنجيل والزبور والصحف. وليس في شيء منها أني أذنت بأن تتخذوا إلها من دوني بل

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩١٥.

(٢) انظر المحتسب ٢ / ٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(٣) من الظروف التي لا تتصرف (مع) ، وهي اسم لمكان الاجتماع أو وقته تقول : زيد مع عمرو ، وجئت مع العصر ، وهي اسم معرب ملازم للإضافة لا ينفك عنها إلا مستعملا حالا بمعنى جميع كقول الشاعر :

بكت عيني اليسرى فلمّا زجرتها

عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

ويدل على اسميتها تنوينها في قولك : معا ، ودخول (من) عليها ، حكى سيبويه : ذهب من معه ، وقراءة يحيى بن يعمر لهذه الآية. والمشهور فيها فتح العين ، وهو فتح إعراب ، وربيعة وغنم تسكين عينها إذا وليها متحرك نحو زيد مع عمرو ، وكقول جرير :

وريشي منكم وهواي معكم

وإن كانت زيارتكم لماما

وزعم سيبويه أن تسكين العين ضرورة. واسميتها حين السكون باقية خلافا لمن زعم حرفيتها حين ذلك ، وادعى النحاس الإجماع عليه ، وهو غير صحيح. ونقل فيها فتح عينها وكسرها إذا وليها ساكن نحو مع القوم. انظر الكتاب ٣ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ، شرح الأشموني ٢ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥. الهمع ١ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٤) هو سهل بن محمد بن عثمان بن القاسم أبو حاتم السجستاني ، كان إماما في علوم القرآن واللغة والشعر قرأ كتاب سيبويه على الأخفش مرتين ، وروى عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وغيرهم ، وعنه ابن دريد وغيره ، صنف إعراب القرآن ، لحن العامة ، القراءات ، الوحوش وغير ذلك مات سنة ٢٥٥ ه‍ بغية الوعاة ١ / ٦٠٦ ـ ٧٠٧.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(٦) هذا التوجيه لأبي حيان ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(٧) المختصر (٩١) ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(٨) ميم : سقط من ب.

(٩) البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(١٠) في ب : ثم من وجهها. وهو تحريف.

(١١) من توجيه قراءة يحيى بن يعمر.

(١٢) في ب : قبل وهو تحريف.

٤٧٦

ليس فيها إلا أنني أنا الله لا إله إلا أنا (١) كما قال بعد هذا : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ (٢)قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ (٣) إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(٤). وهذا اختيار القفال والزجاج (٥).

وقال سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي : معناه : القرآن ذكر من معي فيه خبر من معي على ديني ، ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وذكر خبر من قبلي من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة (٦). وقال القفال : المعنى : قل لهم : هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على أحوال من معي من المخالفين والموافقين ، وعلى بيان أحوال من قبلي من المخالفين والموافقين ، فاختاروا لأنفسكم ، فكأن الغرض منه التهديد (٧). ثم قال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) لما طالبهم بالدلالة على ما ادعوه ، وبين أنه لا دليل لهم البتة لا من جهة العقل ولا من جهة السمع ، ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم أصل الشر والفساد وهو عدم العلم والإعراض عن استماع الحق (٨).

العامة على نصب «الحقّ» وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول به بالفعل قبله (٩).

والثاني : أنه مصدر مؤكد. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المنصوب أيضا على التوكيد لمضمون الجملة السابقة كما تقول : هذا عبد الله الحق لا الباطل (١٠) فأكد انتقاء العلم. وقرأ الحسن وابن محيصن وحميد برفع «الحقّ» (١١) وفيه وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ والخبر مضمر (١٢).

والثاني : أنه خبر لمبتدأ مضمر (١٣).

قال الزمخشري : وقرىء «الحقّ» بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل (١٤).

__________________

(١) قال تعالى : «إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» [طه : ١٤].

(٢) من : سقط من ب.

(٣) أنه لا إله : سقط من ب.

(٤) [الأنبياء : ٢٥].

(٥) انظر معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٣٨٩ ، الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٨.

(٦) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٨.

(٧) المرجع السابق.

(٨) المرجع السابق.

(٩) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٣ ، البيان ٢ / ١٦٠ ، التبيان ٢ / ٩١٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(١٠) الكشاف ٣ / ٨.

(١١) المختصر : (٩١). والمحتسب : ٢ / ٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(١٢) قاله صاحب اللوامح. انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(١٣) والتقدير : هو الحق أو هذا الحق.

انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٣ ، المحتسب ٢ / ٦١ ، البيان ٢ / ١٦٠ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٦.

(١٤) الكشاف ٣ / ٨.

٤٧٧

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) الآية. اعلم أن هذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «نوحي» بالنون وكسر الحاء على التعظيم لقوله : «أرسلنا» وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول (١).

قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٢٩)

قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) الآية.

لما بيّن بالدلائل القاهرة كونه منزها عن الشريك والضد والند أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد (٢). قال (٣) المفسرون : نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وقالوا : إنه تعالى صاهر الجن على ما حكى الله تعالى عنهم فقال : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً)(٤)(٥). ثم إنه تعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله : «سبحانه» ، لأن الولد لا بد وأن يكون شبيها بالوالد (٦) ، فلو كان لله ما يشبهه من بعض الوجوه فلا بد وأن يخالفه من وجه آخر ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات الله تعالى ، وكل مركب ممكن ، فاتخاذه للولد يدل على كونه ممكنا غير واجب ، وذلك يخرجه عن حد الإلهية ويدخله في حد العبودية ، فلذلك نزه نفسه (٧). قوله : «بل عباد» «عباد» خبر مبتدأ مضمر ، أي هم عباد (٨) ، و«مكرمون» (٩) في قراءة العامة مخفف ، وقراءة عكرمة مشدد (١٠) و«لا يسبقونه» جملة في محل رفع صفة ل «عباد» (١١) والعامة على كسر الباء في «يسبقونه» وقرىء بضمها (١٢) وخرجت على أنه مضارع سبقه ، أي : غلبه في السبق ، يقال : سابقه فسبقه يسبقه أي : غلبه في السبق ، ومضارع فعل في المغالبة مضموم العين مطلقا إلا في يائيّ (١٣) العين أو لامه (١٤) والمراد لا يسبقونه بقوله ، فعوض الألف واللام عن

__________________

(١) السبعة (٤٢٨) ، الكشف ٢ / ١٤ ـ ١٥ ، الإتحاف ٣٠٩.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٩.

(٣) في الأصل : قالت.

(٤) من قوله تعالى : «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ» [الصافات : ١٥٨].

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٩.

(٦) في الأصل : بالولد. وهو تحريف.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٩.

(٨) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٣ ، البيان ٢ / ١٦٠ ، التبيان ٢ / ٩١٦.

(٩) في ب : ومكرموني. وهو تحريف.

(١٠) المختصر : (٩١) البحر المحيط ٦ / ٣٠٧.

(١١) انظر التبيان ٢ / ٩١٦.

(١٢) انظر المختصر (٩١) ، الكشاف ٣ / ٩ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٧.

(١٣) في الأصل : ثاني. وهو تحريف.

(١٤) وذلك أن مضارع (فعل) بفتح العين في باب المغالبة يكون على (يفعل) بضم العين ، ومعنى المغالبة أن ـ

٤٧٨

الضمير (١) عند الكوفيين (٢) ، والضمير محذوف عند البصريين أي : بالقول منه (٣).

فصل

لما نزه تعالى نفسه أخبر عنهم بأنهم عباد ، والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم مكرمون مفضلون على (٤) سائر العباد لا يسبق قولهم قوله ، وإن (٥) كان قولهم تابع لقوله فعملهم أيضا مبني على أمره (٦) لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به (٧) ثم إنه تعالى ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) والمعنى أنهم لما علموا كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات علموا كونه عالما بظواهرهم وبواطنهم ، فكان ذلك داعيا لهم إلى نهاية الخضوع وكمال العبودية (٨). قال ابن عباس (٩) : يعلم ما قدموا وأخروا من أعمالهم. وقال مقاتل : يعلم ما كان قبل أن يخلقهم ، وما يكون بعد خلقهم.

وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) الآخرة ، (وَما خَلْفَهُمْ) الدنيا. وقيل بالعكس (١٠) ثم قال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي لمن هو عند الله مرضي. قاله مجاهد (١١) ، وقال ابن عباس : لمن قال لا إله إلا الله (١٢). (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) أي : من خشيتهم منه ، فأضيف المصدر إلى مفعوله. «مشفقون» خائفون لا يأمنون من مكره ، ونظيره قوله تعالى (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ)(١٣). وروي (١٤) عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «أنه رأى جبريل

__________________

ـ تشارك غيرك في معنى فيظهر واحد منكما على الآخر ويستبد بالمعنى دونه ، فينسبه إلى نفسه بصيعة ثلاثي مفتوح العين نحو كارمني فكرمته أكرمه. فإذا أردت الدلالة على أن اثنين تفاخرا في أمر ، فغلب أحدهما الآخر فإنك تحول الفعل إلى باب نصر ينصر ، سواء كان هذا الفعل من هذا الباب أصلا كناصرته فنصرته فأنا أنصره ، أم كان من غيره نحو ضاربني فضربته فأن أضربه وكارمني فكرمته فأن أكرمه.

إلا أن يكون المثال الواوي ، كوعد ، والأجوف والناقص اليائين كباع ورمى ، فمضارعها بكسر العين.

انظر شرح الشافية ١ / ٧٠ ـ ٧١.

(١) في النسختين : عن الضمة. والصواب ما أثبته.

(٢) وكذا قال الزمخشري : (والمراد بقولهم فأنيب اللام مناب الإضافة) الكشاف ٣ / ٩ وانظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٧.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٧.

(٤) في ب : عن.

(٥) في ب : وإذا.

(٦) في النسختين : عمله. والتصويب من الفخر الرازي.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٩.

(٨) المرجع السابق.

(٩) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٠.

(١٠) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٠.

(١١) انظر البغوي ٥ / ٤٨٢.

(١٢) المرجع السابق.

(١٣) من قوله تعالى : «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» [النبأ : ٣٨].

(١٤) في الأصل : روى.

٤٧٩

ـ عليه‌السلام ـ ليلة المعراج ساقطا كالحلس (١) من خشية الله» (٢).

قوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ).

قال قتادة : عنى إبليس حيث دعا إلى عبادة نفسه وأمر بطاعة نفسه فإن أحدا من الملائكة لم يقل إني إله من دون الله (٣).

والآية لا تدل على أنهم قالوا ذلك أو ما قالوه ، وهذا قريب (٤) من قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(٥) قوله : (فَذلِكَ نَجْزِيهِ) يجوز في «ذلك» وجهان :

أحدهما : أنه مرفوع بالابتداء (٦) ، وهذا وجه حسن.

والثاني : أنه منصوب بفعل مقدر يفسره هذا الظاهر (٧) ، والمسألة من باب الاشتغال ، وفي هذا الوجه إضمار عامل مع الاستغناء عنه ، فهو مرجوح (٨).

والفاء وما في حيزها في موضع جزم جوابا للشرط (٩).

و«كذلك» نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير المصدر أي جزاء مثل ذلك الجزاء ، أو نجزي (١٠) الجزاء حال كونه مثل ذلك (١١).

وقرأ العامة «نجزيه» بفتح النون ، وأبو عبد الرحمن المقرىء (١٢) بضمها (١٣) ، ووجهها أنه من أجزأ بالهمز من أجزأني (١٤) كذا ، أي : كفاني ، ثم خففت الهمزة فانقلبت إلى الياء (١٥).

__________________

(١) في الأصل : كالجالس. وفي ب : جالسا كالساقط.

(٢) انظر الفائق ١ / ٣٠٥ ، الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٠) ويشبه به الذي لا يبرح منزله فيقال : هو حلس بيته.

(٣) انظر البغوي ٥ / ٤٨٢.

(٤) في الأصل : أقرب.

(٥) من قوله تعالى : «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» [الزمر : ٦٥] وانظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٠.

(٦) والجملة بعده خبر التبيان ٢ / ٩١٦.

(٧) انظر التبيان ٢ / ٩١٦.

(٨) وأيضا فالجملة خرجت من الاسمية إلى الفعلية ، ولا يوجد سبب لاقتران جواب الشرط بالفاء.

(٩) وهو قوله : «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ ...» وانظر التبيان ٢ / ٩١٦.

(١٠) في ب : ونجزي.

(١١) وجوز أبو البقاء في «كذلك» أن يكون في موضع نصب ب «نجزي» أي جزاء مثل ذلك التبيان ٢ / ٩١٦. ولو نظرنا إلى تقدير أبي البقاء لوجدناه يقصد أنه نعت لمصدر محذوف.

(١٢) هو عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن القرشي المقرىء البصري ثم الكوفي إمام كبير في الحديث ، ومشهور في القراءات ، روى الحروف عن نافع ، روى عنه ابنه محمد شيخ أبي بكر الأصبهاني ، مات سنة ٣٢٢ ه‍ طبقات القراء ١ / ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

(١٣) المحتسب ٢ / ٦١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٧.

(١٤) في ب : أجزأ في. وهو تحريف.

(١٥) وقد وجه ابن جني هذه القراءة بأنه يقال : أجزأني الشيء أي كفاني ، فكأنه في الأصل نجزىء به ـ

٤٨٠