اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

والمعنى الذي أورده صحيح ، وأما كونها مشكلة فهو إنما بناها على قول الجمهور ، والمشكل مقدر في بابه ، فلا يضرنا القياس عليه لتقريره في مكانه (١). قوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) يجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف على أنه حال من الضمير في «معرضون» (٢) وأن يكون خبرا من الضمير ، ومعرضون خبر ثان وقول أبي البقاء في هذا الجار : إنه خبر ثان (٣). يعني في العدد وإلا فهو أول في الحقيقة. وقد يقال : لمّا كان في تأويل المفرد جعل المفرد الصريح مقدما في الرتبة ، فهو ثان بهذا الاختيار.

وهذه الجملة في محل نصب على الحال من «للنّاس» (٤).

فصل

نزلت في منكري البعث ، والقرب (٥) لا يعقل إلا في المكان والزمان ، والقرب المكاني هنا ممتنع فتعين القرب الزماني. فإن قيل : كيف وصف بالاقتراب وقد عبر هذا القول أكثر من ستمائة عام؟

والجواب (٦) من وجوه :

الأول : أنه مقترب عند الله ، لقوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧].

الثاني : أنّ (٧) كلّ آت قريب وإن طالت أوقات ترقبه ، وإنما البعيد هو الذي انقرض قال الشاعر :

٣٧٠٣ ـ فما زال ما تهواه أقرب من غد

ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس (٨)

الثالث : أنّ (٩) المقابلة (١٠) إذا كانت مؤجلة إلى سنة ثم انقضى منها شهر ، فإنه لا يقال : اقترب الأجل ، أمّا إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنه يقال : اقترب الأجل. فعلى هذا الوجه قال العلماء : إن فيه دلالة على قرب القيامة ، ولهذا قال عليه‌السلام (١١) : «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» (١٢) وقال عليه‌السلام : «ختمت النبوة» (١٣) كل ذلك لأجل

__________________

(١) الدر المصون : ٥ / ٤٣.

(٢) أي أعرضوا قافلين. التبيان ٢ / ٩١١.

(٣) المرجع السابق.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٩٦.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٣٩.

(٦) في ب : فالجواب.

(٧) أن : سقط من ب.

(٨) البيت من بحر الطويل لم أهتد إلى قائله. وهو في الفخر الرازي ٢٢ / ١٣٩. البحر المحيط ٦ / ٢٩٥.

(٩) أن : سقط من ب.

(١٠) في الفخر الرازي : المعادلة.

(١١) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٢) أخرجه مسلم (فتن) ٤ / ٢٢٦٩ ، ابن ماجه (فتن) ٢ / ١٣٤١ ، الدارمي ٢ / ٣١٣. أحمد ٥ / ١٠٣ ، ١٠٨.

(١٣) أخرجه أحمد في مسنده ٣ / ٣٦١.

٤٤١

أنّ (١) الباقي من (٢) مدة التكليف أقل من الماضي (٣) واعلم أنه إنما ذكر تعالى هذا الاقتراب لما فيه من مصلحة المكلفين ليكثر تحرزهم خوفا منها (٤). ولم يعين الوقت ، لأنّ كتمان وقت الموت أصلح لهم (٥) والمراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون دون من لا مدخل فيه.

قال ابن عباس : المراد بالناس المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم ، وهو ما يتلوه من صفات المشركين (٦).

وقوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) وصفهم بالغفلة والإعراض ، أما الغفلة فالمعنى : أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء المحسن والمسيء ، ثم إذا انتبهوا من سنة الغفلة ، ورقدة الجهالة مما يتلى عليهم من الآيات أعرضوا وسدوا أسماعهم (٧).

قوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) ذكر الله ـ تعالى ـ ذلك بيانا لكونهم

معرضين ، وذلك لأنّ الله (٨) ـ يجدد لهم الذكر كل وقت ، ويظهر لهم الآية بعد الآية ، والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم (٩) الموعظة لعلهم يتعظون ، فما يزيدهم ذلك إلا استسخارا (١٠).

قوله : «محدث» العامة على جر «محدث» نعتا ل «ذكر» على اللفظ (١١).

وقوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) فيه أوجه :

أجودها : أن يتعلق ب «يأتيهم» ، وتكون «من» لابتداء الغاية مجازا (١٢).

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في «محدث» (١٣).

الثالث : أن يكون حالا من نفس «ذكر» ، وإن كان نكرة ، لأنه قد تخصّص بالوصف ب «محدث» ، وهو نظير : ما جاءني رجل قائما منطلق ، ففصل بالحال بين الصفة والموصوف. وأيضا فإنّ الكلام نفي وهو مسوغ لمجيء الحال من النكرة (١٤).

__________________

(١) أن : سقط من ب.

(٢) في الأصل : في.

(٣) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٣٩.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٠.

(٥) المرجع السابق.

(٦) المرجع السابق.

(٧) في ب : سماعهم. وهو تحريف. وانظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٠.

(٨) في ب : وذلك أنه.

(٩) في ب : سماعهم. وهو تحريف.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٠.

(١١) لأنّ «ذكر» مجرور لفظا مرفوع محلا ، لأنه فاعل «يأتيهم» و«من» زائدة. انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨١ ، البيان ٢ / ١٥٧ ، التبيان ٢ / ٩١١ ، البحر المحيط ٦ / ٢٩٦.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩١١ ، البحر المحيط ٦ / ٢٩٦.

(١٣) انظر التبيان ٢ / ٩١١.

(١٤) الأصل في صاحب الحال أن يكون معرفة ، لأنّه محكوم عليه بالحال ، وحق المحكوم عليه أن يكون ـ

٤٤٢

الرابع : أن يكون نعتا ل «ذكر» (١) فيجوز في محله وجهان : الجر باعتبار اللفظ والرفع باعتبار المحل ، لأنه مرفوع المحل (٢) إذ «من» (٣) مزيده فيه ، وسيأتي. وفي جعله نعتا ل «ذكر» إشكال من حيث إنه قد تقدم غير الصريح (٤) على الصريح (٥) ، وتقدم تحريره في المائدة (٦).

الخامس : أن يتعلق بمحذوف على سبيل البيان. وقرأ ابن عبلة «محدث» رفعا نعتا (٧) ل «ذكر» على المحل (٨) ، لأن «من» مزيدة فيه لاستكمال الشرطين (٩).

__________________

ـ معرفة ، ويقع نكرة بمسوغ ، كأن يتقدم عليه الحال نحو في الدار جالسا رجل وقول الشاعر :

لمية موحشا طلل

يلوح كأنّه خلل

أو يكون مخصوصا ، إمّا بوصف كقول الشاعر :

نجيت يا ربّ نوحا واستجبت له

في فلك ماخر في اليمّ مشحونا

أو بإضافة نحو قوله تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) [فصلت : ١٠] أو بمعمول غير مضاف إليه نحو : عجبت من ضرب أخوك شديدا. أو مسبوقا بنفي نحو قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤٠]. وهو ما أشار إليه ابن عادل. أو نهي ، كقول الشاعر :

لا يركنن أحد إلى الإحجام

يوم الوغى متخوّفا لحمام

أو استفهام كقول الشاعر :

يا صاح هل حمّ عيش باقيا فترى

لنفسك العذر في إبعادها الأملا

وفي ذلك يقول ابن مالك :

ولم ينكّر غالبا ذو الحال إن

لم يتأخّر ، أو يخصّص ، أو يبن

من بعد نفي أو مضاهيه كلا

يبغ امرؤ على امرىء مستسهلا

انظر شرح التصريح ١ / ٣٧٥ ـ ٣٧٨.

(١) انظر التبيان ٢ / ٩١١.

(٢) إذ هو فاعل «يأتيهم».

(٣) في ب : وفيه. وفي الأصل : إذ هي.

(٤) وذلك أنه إذا وصف بمفرد ، وظرف أو مجرور ، وجملة فالأولى والغالب ترتيبها هكذا كقوله تعالى : «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ» [غافر : ٢٨]. وعلة ذلك أن الأصل الوصف بالاسم فالقياس تقديمه وقدم الظرف ونحوه على الجملة لأنه من قبيل المفرد ، وأوجبه ابن عصفور اختيارا وقال : لا يخالف في ذلك إلا في ضرورة أو ندور. ورد بقوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) [ص : ٢٩] وقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤].

انظر المقرب ٢٤٧ ـ ٢٤٨. الهمع ٢ / ١٢٠.

(٥) (على الصريح) سقط من الأصل.

(٦) عند الحديث عن قوله تعالى : «فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» [المائدة : ٥٤]. انظر اللباب ٣ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٧) نعتا : سقط من ب.

(٨) البحر المحيط ٦ / ٢٩٦.

(٩) وهما أن تكون في غير الموجب ، وأن يكون مجرورها نكرة ، وهذا عند غير الأخفش والكوفيين. انظر شرح الكافية ٢ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

٤٤٣

وقال أبو البقاء : ولو رفع على موضع «من ذكر» جاز (١). كأنه لم يطلع عليه قراءة (٢) وزيد بن عليّ «محدثا» نصبا على الحال من «ذكر» (٣) ، وسوغ ذلك وصفه ب (مِنْ رَبِّهِمْ) إن جعلناه صفة (٤) أو (٥) واعتماده على النفي (٦).

ويجوز أن يكون من الضمير المستتر في (مِنْ رَبِّهِمْ) إن جعلناه صفة (٧).

قوله : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) هذه الجملة حال من مفعول «يأتيهم» وهو استثناء مفرغ ، و«قد» معه مضمرة (٨) عند قوم (٩).

(وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حال من فاعل «استمعوه» (١٠) أي استمعوه لاعبين.

فصل(١١)

قال مقاتل : معنى «محدث» يحدث الله الأمر بعد الأمر. وقيل : الذكر المحدث ما قاله النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبينه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن ، وأضافه إلى الرب ، لأنه أمره بقوله إلّا «استمعوه» لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون.

فصل

استدلت المعتزلة (١٢) بهذه الآية على حدوث القرآن ، فقالوا : القرآن ذكر ، والذكر محدث ، فالقرآن محدث ، وبيان أن القرآن (١٣) ذكر قوله تعالى في صفة القرآن : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)(١٤)(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(١٥)(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ)(١٦)(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)(١٧) و (هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ)(١٨). وبيان أن (١٩) الذكر محدث قوله :

__________________

(١) التبيان ٢ / ٩١١.

(٢) أي كأنه لم يطلع على قراءة الرفع ، وهي قراءة ابن أبي عبلة كما تقدم.

(٣) البيان ٢ / ١٥٧ ، البحر المحيط ٦ / ٢٩٦.

(٤) انظر الوجه الرابع من أوجه إعراب «من ربهم».

(٥) في ب : و.

(٦) انظر مسوغات مجيء صاحب الحال نكرة في الصفحة السابقة.

(٧) فيكون «من ربهم» متعلقا بمحذوف.

(٨) في ب : وقد مضمرة معه.

(٩) نص السيوطي أن المتأخرين كابن عصفور والأبذي والجزولي جزموا بأن الماضي التالي إلا أو المتلو بأو ، إذا وقع حالا وإن كان مثبتا وفيه الضمير وجبت (قد) أيضا لتقربه من الحال ، وإن لم تكن ظاهرة قدرت انظر الهمع ٢ / ٢٤٧.

(١٠) انظر البيان ٢ / ١٥٧ ، البحر المحيط ٦ / ٢٩٦.

(١١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٤٧٢ ـ ٤٧٣.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٠ ـ ١٤١.

(١٣) في ب : بيان القرآن.

(١٤) [يوسف : ١٠٤] ، [ص : ٨٧] ، [التكوير : ٢٧].

(١٥) [الزخرف : ٤٤].

(١٦) [الحجر : ٩].

(١٧) [يس : ٦٩].

(١٨) [الأنبياء : ٥٠].

(١٩) أن : سقط من ب.

٤٤٤

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ (١) ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) وقوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ)(٢) فالجواب(٣) من وجهين :

الأول : أن قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) وقوله : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) إشارة إلى المركب (٤) من الحروف والأصوات ، وذلك مما (٥) لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة ، وإنما النزاع في قدم كلام الله تعالى بمعنى آخر.

الثاني : أن قوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) لا يدل على حدوث كل ما كان ذكرا ، كما أن قول القائل : لا يدخل هذه البلدة رجل فاضل إلا يبغضونه (٦) فإنه لا يدل على (٧) أن كل رجل يجب أن يكون فاضلا بل على أن من الرجال من هو فاضل ، وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث ، فيصير نظم الكلام : القرآن ذكر ، وبعض الذكر محدث ، وهذا لا ينتج شيئا ، فظهر أن الذي ظنوه قاطعا لا يفيد ظنا ضعيفا فضلا عن القطع (٨).

قوله : «لاهية» يجوز (٩) أن تكون حالا من فاعل «استمعوه» عند من يجيز (١٠) تعدد الحال (١١) ، فيكون الحالان مترادفين (١٢).

__________________

(١) من : سقط من ب.

(٢) [الشعراء : ٥].

(٣) في ب : والجواب.

(٤) كذا في الفخر الرازي ، وفي الأصل : المتركب ، وفي ب : التركب.

(٥) مما : سقط من ب.

(٦) في ب : يبغضوه.

(٧) في الأصل : في.

(٨) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٠ ـ ١٤١.

(٩) في ب : لا يجوز. وهو تحريف.

(١٠) في ب : يخبر. وهو تحريف.

(١١) يجوز تعدد الحال لمفرد وغيره ، لشبهها بالخبر والنعت ، فالأول كقول الشاعر :

عليّ إذا ما جئت ليلى بخفية

زيارة بيت الله رجلان حافيا

والثاني إن اتحد لفظ ومعناه مثنى أو جمع نحو قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) [إبراهيم : ٣٣]. وقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) [النحل : ١٢] وإن اختلف فرّق بغير عطف كلقيته مصعدا منحدرا ، ويقدر الأول للثاني وبالعكس وقد تأتي على الترتيب إن أمن اللبس كقول الشاعر :

خرجت بها أمشي تجرّ وراءنا

على أثرينا ذيل مرط مرحّل

ومنع الفارسي وجماعة تعدد الحال لمفرد قائلين : بأن صاحب الحال إذا كان واحدا فلا يقتضي العامل إلا حالا واحدة ، فقدروا قوله : «حافيا» صفة أو حالا من ضمير «رجلان». وسلموا الجواز إذا كان العامل اسم تفضيل متوسطا بين الحالين نحو هذا بسرا أطيب منه رطبا. وإذا ما نظرنا إلى كثرة أمثلة التعدد لمفرد ولغيره يمكننا ترجيح الرأي القائل بالجواز.

انظر شرح التصريح ١ / ٣٨٥ ـ ٣٨٧.

(١٢) الحال المترادفة هي الحال المتعددة ، وهي التي تتعدد لواحد.

(المغني ٢ / ٥٦٤). فالحالان قوله : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً) صاحبهما فاعل «استمعوه» وعاملهما الفعل.

٤٤٥

وأن يكون حالا من فاعل «يلعبون» فيكون الحالان متداخلين (١) وعبر الزمخشري عن ذلك فقال : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حالان مترادفتان أو متداخلتان (٢) وإذا جعلناهما حالين مترادفتين ففيه تقديم الحال غير الصريحة على الصريحة (٣) وفيه من البحث ما في باب النعت (٤). (و«قلوبهم» مرفوع ب «لاهية») (٥)(٦).

وقال البغوي : «لاهية» نعت تقدم (٧) الاسم ، ومن حق النعت أن يتبع الاسم في الإعراب ، فإذا تقدم النعت الاسم فله حالتان فصل ووصل ، فحالته في الفصل النصب كقوله تعالى (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ)(٨) و (دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها)(٩) و (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ، وفي الوصل حالة ما قبله من الإعراب كقوله : (أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها)(١٠)(١١) والعامة على نصب «لاهية» ، وابن أبي عبلة على الرفع (١٢) على أنها خبر ثان لقوله «وهم» عند من يجوّز ذلك ، أو خبر مبتدأ محذوف عند من لا يجوّزه (١٣).

قوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) يجوز في محل «الذين» ثلاثة أوجه :

الرفع ، والنصب ، والجر. فالرفع من ستة أوجه :

أحدها : أنه بدل من (واو) «أسرّوا» (١٤) تنبيها على اتصافهم بالظلم الفاحش وعزاه ابن عطية لسيبويه (١٥) ، وغيره للمبرد (١٦).

__________________

(١) الحال المتداخلة هي التي تكون من ضمير الحال الأول (المغني ٢ / ٥٦٤). فالحالان قول ه «وهم يعلبون. لاهية) ف «هُمْ يَلْعَبُونَ» حال من فاعل استمعوه و«لاهية» حال من فاعل «يلعبون». وانظر البيان ٢ / ١٥٧. التبيان ٣ / ٩١١ ، البحر المحيط ٦ / ٢٩٦.

(٢) الكشاف ٣ / ٢ ـ ٣.

(٣) أي تقديم الحال الجملة وهي قوله : «وَهُمْ يَلْعَبُونَ» على الحال المفردة وهي «لاهية».

(٤) تقدم قريبا.

(٥) لأن اسم الفاعل إذا وقع حالا ارتفع الاسم به ارتفاع الفاعل بفعله. انظر البيان ٢ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) في الأصل : تقديم.

(٨) من قوله تعالى : «خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» [القمر : ٧] «خاشعا» قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي السبعة (٦١٨).

(٩) [الإنسان : ١٤].

(١٠) [النساء : ٧٥].

(١١) البغوي ٥ / ٤٧٤.

(١٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٩٦.

(١٣) كابن عصفور فإنه قال : (ولا يقتضي المبتدأ أزيد من خبر واحد من غير عطف إلا بشرط أن يكون الخبران فصاعدا في معنى خبر واحد ، نحو قولهم : هذا حلو حامض أي : مز) المقرب ٩٢ ـ ٩٣.

وانظر شرح التصريح ١ / ١٨٢.

(١٤) مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٢ ، الكشاف ٣ / ٣ ، البيان ٢ / ١٥٨ ، التبيان ٢ / ٩١.

(١٥) قال سيبويه : (وأما قوله جل ثناؤه : «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» فإنما يجيء على البدل) الكتاب ٢ / ٤١. وانظر تفسير ابن عطية ١٠ / ١٢٣.

(١٦) كأبي حيان. انظر البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

٤٤٦

الثاني : أنه فاعل ، والواو علامة جمع دلت على جمع الفاعل (١) كما تدل التاء على تأنيثه ، وكذلك يفعلون في التثنية فيقولون : قاما أخواك (٢) وأنشدوا :

٣٧٠٤ ـ يلومونني في اشتراء النّخي

خيل أهلي وكلّهم ألوم (٣)

وإليه ذهب الأخفش (٤) وأبو عبيدة (٥) ، وضعف بعضهم هذه اللغة وبعضهم حسنها فنسبها (٦) لأزد شنوءة (٧).

وتقدمت هذه المسألة في المائدة عند قوله تعالى : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ)(٨).

الثالث : أن يكون «الذين» مبتدأ «وأسرّوا» جملة خبرية قدمت على المبتدأ ويعزى للكسائي(٩).

الرابع : أن يكون «الذين» (١٠) مرفوعا بفعل مقدر فقيل تقديره : يقول الذين (١١) ، واختاره النحاس ، قال : والقول كثيرا ما يضمر ، ويدل عليه قوله بعد ذلك : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(١٢). وقيل تقديره : أسرها الذين ظلموا (١٣).

الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : هم الذين ظلموا (١٤).

السادس : أنه مبتدأ وخبره الجملة من قوله (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ) (ولا بد من إضمار

__________________

(١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٢ ، الكشاف ٣ / ٣ ، البيان ٢ / ١٥٨ ، التبيان ٢ / ٩١.

(٢) حكى هذه اللغة سيبويه فإنه قال : (واعلم أن من العرب من يقول : ضربوني قومك ، وضرباني أخواك ، فشبهوا هذه بالتاء التي يظهرونها في قالت فلانة ، وكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامة كما جعلوا للمؤنث وهي قليلة) الكتاب ٢ / ٤٠.

(٣) البيت من بحر المتقارب قاله أمية بن أبي الصلت. وقد تقدم.

(٤) قال الأخفش :(«وَأَسَرُّوا النَّجْوَى» كأنه قال : وأسرّوا ثم فسره بعد ذلك فقال هم «الَّذِينَ ظَلَمُوا» أو جاء على لغة الذين يقولو ن «ضربوني قومك» معاني القرآن ٢ / ٦٣٢.

(٥) قال أبو عبيدة : (وقال آخرون : بل قد تفعل العرب هذا فيظهرون عدد القوم في فعلهم إذا بدءوا بالفعل قال أبو عمرو الهذلي : أكلوني البراغيث بلفظ الجميع في الفعل وقد أظهر الفاعلين بعد الفعل ومجازه مجاز ما يبدأ بالمفعول قبل الفاعل ، لأن النجوى المفعولة جاءت قبل الذين أسروها ، والعرب قد تفعل ذلك). مجاز القرآن ٢ / ٣٤.

(٦) في ب : ونسبها.

(٧) وعزيت أيضا لطيىء. انظر البحر المحيط ٦ / ٢٩٧ ، شرح التصريح ١ / ٢٧٥.

(٨) [المائدة : ٧١]. انظر اللباب ٣ / ٣٠٠ ـ ٣٠١.

(٩) انظر الكشاف ٣ / ٣ ، البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

(١٠) الذين : سقط من ب.

(١١) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٢ ، القرطبي ١١ / ٢٦٩ ، البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

(١٢) إعراب القرآن ٣ / ٦٤.

(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

(١٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨١ ، البيان ٢ / ١٥٨ ، التبيان ٢ / ٩١١ البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

٤٤٧

القول على هذا القول تقديره : الذين ظلموا يقولون هل هذا إلا بشر) (١) والقول يضمر كثيرا (٢). والنصب من وجهين :

أحدهما : الذم (٣).

والثاني : إضمار «أعني» (٤).

والجرّ من وجهين أيضا :

أحدهما : النعت (٥).

والثاني : البدل من «للناس» (٦) ، ويعزى هذا للفراء (٧) ، وفيه بعد (٨).

قوله : «هل هذا» إلى قوله : «تبصرون» يجوز في هاتين الجملتين الاستفهاميتين أن تكونا (٩) في محل نصب بدلا من «النّجوى» وأن تكونا في محل نصب بإضمار القول.

قالهما الزمخشري (١٠).

وأن تكونا في محل نصب على أنهما محكيتان ب «النّجوى» ، لأنها (١١) في معنى القول (١٢)(وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) جملة حالية من فاعل «تأتون».

فصل (١٣)

اعلم أن الله ـ تعالى ـ ذم الكفار بهذا الكلام ، وزجر غيرهم عن مثله ، لأنهم إذا استمعوا وهم يلعبون لم يحصلوا إلا على مجرد الاستماع الذي قد تشارك (١٤) فيه البهيمة

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢) انظر البيان ٢ / ١٥٨ ، التبيان ٢ / ٩١١.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

(٤) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٨٤ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨١ ، البيان ٢ / ١٥٨ ، التبيان ٢ / ٩١١ ، البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

(٥) «للناس» مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨١ ، البيان ٢ / ١٥٨ ، التبيان ٢ / ٩١١ البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

(٧) قال الفراء : (و«الذين» تابعة «للناس» مخفوضة ، كأنك قلت : اقترب للناس الذين هذه حالهم) معاني القرآن ٢ / ١٩٨.

(٨) لأنه يفيد قصر اقتراب الحساب للظالمين مع أن اقتراب الحساب للناس جميعا ولذلك قال أبو حيان : (وهو أبعد الأقوال) البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

(٩) في ب : أن تكون. وهو تحريف.

(١٠) الكشاف ٣ / ٣.

(١١) في ب : لأنهما. وهو تحريف.

(١٢) فهما في موضع نصب على المفعول ب «النّجوى» والاستفهام في الجملة الأولى معناه التعجب ، وفي الجملة الثانية معناه التوبيخ انظر : البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

(١٣) هذا الفصل نقله ابن عادل من الفخر الرازي ٢٢ / ١٤١. بتصرف يسير.

(١٤) في ب : شارك. وهو تحريف.

٤٤٨

الإنسان ، ثم أكد ذمهم بقوله : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) واللاهية من لهي عنه إذا ذهل وغفل. وقدم ذكر اللعب على اللهو كما في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(١) تنبيها على أن اشتغالهم باللعب الذي معناه الذهول والغفلة والسخرية والاستهزاء معلّل باللهو الذي معناه الذهول ، فإنهم إنما أقدموا على اللعب لذهولهم عن الحق (٢).

وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) فيه سؤال ، وهو أن النجوى اسم من التناجي ، وهو لا يكون إلا خفية ، فما معنى قوله : «وأسرّوا»؟

فالجواب : أنهم بالغوا في إخفائها ، وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم (٨).

فإن قيل : لم قال : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)؟

فالجواب : أن إبدال (الَّذِينَ ظَلَمُوا) من «أسرّوا» إشعار بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به. أو جاء (٣) على لغة من قال : أكلوني البراغيث (٤) وقوله : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) قال الزمخشري : هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من «النّجوى» أي : وأسروا هذا الحديث (٥) ، وهو قولهم: (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). ويحتمل أن يكون التقدير : وأسروا النجوى وقالوا هذا الكلام (٦) وإنما أسروا هذا الحديث لوجهين :

أحدهما : إنما كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم ، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم (٧) أمره ، وعادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم.

الثاني (٨) : يجوز أن يسروا نجواهم بذاك ، ثم يقولوا (٩) لرسول الله والمؤمنين : إن كان ما (١٠) تدعونه حقا (فأخبرونا بما أسررناه) (١١)(١٢).

واعلم أنهم إنما طعنوا في نبوته (١٣) ـ عليه‌السلام (١٤) ـ بأمرين :

أحدهما : أنه بشر مثلهم.

والثاني : أن الذي أتى به سحر.

وكلا (١٥) الطعنين فاسد ، أما الأول ، فلأن النبوة تقف صحتها على المعجزات والدلائل

__________________

(١) من قوله تعالى :«إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ» [محمد : ٣٦].

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤١.

(٨) في ب : والثاني.

(٣) أو : سقط من ب.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤١.

(٥) الكشاف ٣ / ٣.

(٦) أي أنه في محل نصب على إضمار القول. انظر الكشاف ٣ / ٣.

(٧) هدم : تكملة من الفخر الرازي.

(٨) في ب : والثاني.

(٩) في النسختين : ثم يقولون. والصواب ما أثبته لأنه معطوف على (يسروا).

(١٠) في ب : مما. وهو تحريف.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤١.

(١٢) ما بين القوسين في الأصل : فإنا أسررناه. وفي ب : فأما أسررناه والتصويب من الفخر الرازي.

(١٣) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٤١.

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) في ب : وكل. وهو تحريف.

٤٤٩

لا على الصور ، إذ لو أرسل الملك إليهم لما علم كونه نبيا بصورته ، وإنما كان يعلم بالعلم ، فإذا أظهر ذلك على من هو بشر فيجب أن يكون نبيا ، بل الأولى (١) أن يكون المبعوث إلى البشر بشرا ، لأن المرء إلى القبول من أشكاله (٢) أقرب ، وهو به أقيس. وأما الثاني وهو أن ما أتى به الرسول من القرآن ظاهره الوعيد لا مرية فيه ، ولا لبس ، وقد كان عليه‌السلام (٣) يتحداهم بالقرآن مدّة من الزمان حالا بعد حال ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وكانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره ، وأقوى الأمور في إبطال أمره معارضة القرآن ، فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها ، لأن الفعل عند توفر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع ، فلما لم يأتوا بها دلّنا ذلك على أنه في نفسه معجز ، وأنهم عرفوا حاله (٤) فكيف يجوز أن يقال : إنه سحر والحال ما ذكرناه وكل ذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بصدقه إلا أنهم كانوا يموهون على ضعفائهم بمثل هذا القول ، وإن كانوا فيه مكابرين (٥). والمعنى : «أفتأتون» تحضرون (السِّحْرَ وَأَنْتُمْ) تعلمون أنه سحر(٦)(٧).

قوله تعالى : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)(٦)

قوله : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ)(٨). قرأ (٩) الأخوان وحفص «قال» على لفظ الخبر والضمير للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٠) ـ.

والباقون : «قل» على الأمر له (١١).

قوله : (فِي السَّماءِ) فيه أوجه :

أحدها : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من القول (١٢).

والثاني : أنه حال من فاعل «يعلم» (١٣) وضعفه أبو البقاء (١٤) ، وينبغي أن يمتنع (١٥).

__________________

(١) في ب : أولى.

(٢) في ب : إمكانه. وهو تحريف.

(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٤) في ب : حال. وهو تحريف.

(٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٣١ ـ ١٤٢.

(٦) انظر البغوي ٥ / ٤٧٥.

(٧) ما بين القوسين في الأصل : أنه ليس بسحر. وفي ب : أنه ليس بسحر. والتصويب من البغوي.

(٨) القول : سقط من ب.

(٩) في ب : في. وهو تحريف.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) السبعة (٤٢٨) الحجة لابن خالويه (٢٤٨) ، الكشف ٢ / ١٦٠ ، النشر ٢ / ١٢٣ الإتحاف ٣٠٦.

(١٢) انظر التبيان ٢ / ٩١٢.

(١٣) المرجع السابق.

(١٤) المرجع السابق. ووجه الضعف فيه إثبات المكانية بالنسبة لله سبحانه وتعالى ، وهذا ما تأباه عقيدة أهل السنة ولذلك قال المؤلف : وينبغي أن يمتنع.

(١٥) في ب : أن يمنع.

٤٥٠

والثالث : أنه متعلق ب «يعلم» (١) ، وهو قريب مما قبله (٢). وحذف متعلق (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) للعلم به. والمعنى : لا يخفى عليه شيء (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم «العليم» بأفعالهم. قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : يعلم السر لقوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) قلت : القول عام يشمل السر والجهر ، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة ، فكان (٣) آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول : يعلم السر ، كما أن قوله : «يعلم السّرّ» آكد من أن يقول : يعلم سرهم (٤).

فإن قلت : لم ترك الآكد في سورة الفرقان في قوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٥)؟ قلت : ليس بواجب أن يجيء بالآكد في كل موضع ولكن يجيء بالتوكيد تارة (٦) وبالآكد أخرى. ثم الفرق أنه قدم هنا أنهم أسروا النجوى ، فكأنه قال : إن ربي يعلم ما أسروه ، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة ، وثم قصد (٧) وصفه ب «عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرّة» (٨)(٩) وإنما قدم «السميع» على «العليم» لأنه لا بد من سماع الكلام أولا ثم من حصول العلم بمعناه (١٠). قوله : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أضغاث (١١) والجملة نصب بالقول. واعلم أنه تعالى (١٢) عاد إلى حكاية قولهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) ثم قال «بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر» فحكى عنهم هذه الأقوال (١٣) الخمسة ، وترتيب كلامهم أن كونه بشرا مانع من كونه رسولا لله. سلمنا أنه غير مانع ، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن معجز ، ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدور (١٤) البشر ، قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك سحرا ، وإن لم يساعد عليه فإن ادّعينا كونه في نهاية الركاكة ، قلنا : إنه أضغاث أحلام. وإن ادّعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة ، قلنا : إنه افتراه ، وإن ادّعينا أنه كلام فصيح ، قلنا : إنه من جنس فصاحة سائر الشعر. وعلى جميع هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزا (١٥). ولما فرغوا من تقدير (١٦) هذه الاحتمالات قالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما

__________________

(١) انظر التبيان ٢ / ٩١٢.

(٢) في الضعف.

(٣) في ب : فكأنه.

(٤) لأن (يعلم السرّ) أعم من (يعلم سرهم) لأنه فيه علم سرهم وسر غيرهم.

(٥) [الفرقان : ٦].

(٦) تارة : مكررة في ب.

(٧) في ب : قصده.

(٨) ذره : سقط من ب. [سبأ : ٣].

(٩) الكشاف ٣ / ٣ ـ ٤. بتصرف يسير. ويبدو أن ابن عادل نقل نص الزمخشري من الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٢ ـ ١٤٣.

(١٠) الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٣.

(١١) وقدره أبو البقاء : هذا أضغاث. التبيان ٢ / ٩١٢.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٣.

(١٣) في النسختين : الأحوال. والتصويب من الفخر الرازي.

(١٤) في ب : مقدار. وهو تحريف.

(١٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٣.

(١٦) تقدير : سقط من ب.

٤٥١

أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) والمراد أنهم طلبوا منه حالة (١) لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات.

وقال المفسرون (٢) : إن المشركين اقتسموا القول فيه (٣) وفيما يقوله ، فقال بعضهم (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي : أباطيلها وأهاويلها رآها في النوم. وقال بعضهم : (بَلِ افْتَراهُ) أي : اختلقه. وقال بعضهم: بل محمد شاعر ، وما جاءكم به شعر «فليأتنا» محمد «بآية» إن كان (٤) صادقا (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) من الرسل بالآيات (٥).

قوله : (كَما أُرْسِلَ) يجوز في هذه الكاف وجهان :

أحدهما : أن يكون في محل جر نعتا ل «آية» ، أي : بآية مثل آية (٦) إرسال الأولين (ما) مصدرية (٧).

الثاني (٨) : أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، أي إتيانا مثل إرسال الأولين (٩). فأجابهم الله تعالى بقوله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي : قبل مشركي مكة «من قرية» أتتهم الآيات (أَهْلَكْناها) أي : أهلكناهم بالتكذيب (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) إن جاءتهم آية» (١٠) والمعنى : أنهم في العتو أشد من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات ، وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها ، فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا ، فأهلكهم الله ، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثا (١١).

قال الحسن : إنما لم يجابوا لأن حكم الله تعالى (١٢) أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه ، فلا بدّ من أن ينزل به عذاب الاستئصال ، وقد مضى حكمه في أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم(١٣). وتقدم الكلام في إعراب نظير (١٤) قوله : (أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)(١٥).

قوله : (نُوحِي إِلَيْهِمْ). قرأ حفص : «نوحي» بنون العظمة مبنيا للفاعل ، أي نوحي نحن والباقون بالياء وفتح الحاء مبنيا للمفعول (١٦) ، وقد تقدم في يوسف (١٧). وهذه

__________________

(١) في ب : حا. وهو تحريف.

(٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٤٧٥.

(٣) فيه : سقط من ب.

(٤) في ب : ظن. وهو تحريف.

(٥) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٤٧٥.

(٦) آية : سقط من ب.

(٧) في ب : فأجابهم الله تعالى ف (ما) مصدرية. انظر البحر المحيط ٦ / ٢٩٨.

(٨) في ب : والثاني.

(٩) انظر التبيان ٢ / ٩١٢ ، البحر المحيط ٦ / ٢٩٧.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٣.

(١٢) في ب : لأن علم الله مع. وهو تحريف.

(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٣.

(١٤) في ب : نظيره. وهو تحريف.

(١٥) وهو قوله تعالى : «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ» [الأعراف : ٩٧]. انظر اللباب ٤ / ٧٥.

(١٦) السبعة ٤٢٨ ، الحجة لابن خالويه ٢٤٨ ، الكشف ٢ / ١٤ ـ ١٥ النشر ٢ / ٢٩٦ ، الإتحاف (٣٠٦).

(١٧) عند قوله تعالى : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» [يوسف : ١٠٩] وذكر ـ

٤٥٢

الجملة في محل نصب نعتا ل «رجالا» و«إليهم» في القراءة الأولى منصوب المحل ، والمفعول محذوف ، أي : نوحي إليهم القرآن أو الذكر. ومرفوع المحلّ في القراءة الثانية لقيامه مقام الفاعل (١).

فصل

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٠)

اعلم أنه تعالى أجاب عن سؤالهم الأول وهو قولهم : (هَلْ (٢) هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بقوله :

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) فبين أن هذه عادة الله في الرسل من قبل محمد ـ عليه‌السلام (٣) ـ ولم يمنع ذلك من كونهم رسلا ، وإذا صح ذلك فيهم فقد ظهر على محمد مثل آياتهم (٤).

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) يعني علماء أهل الكتاب حتى يعلموكم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ، ولم يكونوا ملائكة ، وإنما أحالهم على أولئك ، لأنهم كانوا يتابعون المشركين في معاداة الرسول (٥) ، وأمر المشركين بمساءلة أهل الكتاب ، لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أقرب منهم إلى تصديق من آمن قال تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً)(٦) فإن قيل: إذا لم يوثق باليهود والنصارى فكيف يجوز أن يأمرهم بأن يسألوهم عن الرسل؟

فالجواب : إذا تواتر خبرهم وبلغ حدّ الضرورة جاز ذلك ، لأنّا نعلم بخبر الكفار إذا تواتر كما نعلم بخبر المؤمنين (٧). وقال ابن زيد : أراد بأهل الذكر المؤمنين (٨) ، وهو بعيد ، لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول.

فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للقاضي أن يرجع إلى فتيا العلماء وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر ، فبعيد ، لأن هذه الآية خطاب مشافهة ، وهي

__________________

ـ هناك : قرأ العامة : «يوحي» بالياء من تحت مبنيّا للمفعول ، وقرأ حفص «نوحي» بالنون وكسر الحاء مبنيّا للفاعل ، وكذلك قرأ ما في النحل وأول الأنبياء. انظر اللباب ٥ / ٧٧.

(١) انظر التبيان ٢ / ٩١٢.

(٢) في النسختين : ما.

(٣) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٤.

(٥) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٤.

(٦) [آل عمران : ١٨٦].

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٤.

(٨) انظر البغوي ٥ / ٤٧٦. والقرطبي ١١ / ٢٧٢.

٤٥٣

واردة (١) في هذه الواقعة المخصوصة ، ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين (٢).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) جواب الشرط محذوف لدلالة ما تقدم (٣) عليه ، أي : «فاسألوهم» ، ومفعولا العلم يجوز أن يراد ، أي : لا تعلمون أن ذلك كذلك ، ويجوز أن لا يراد ، أي : إن كنتم من غير ذوي العلم (٤).

قوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) أي ما جعلنا الرسل جسدا ، ولم يقل : أجسادا ، لأنه اسم جنس(٥). (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) هذا رد لقولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ)(٦) والمعنى : لم نجعل الرسل ملائكة بل جعلناهم بشرا يأكلون الطعام (وَما كانُوا خالِدِينَ) في الدنيا. قوله : (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) في هذه الجملة وجهان :

أظهرهما : أنها في محل نصب نعتا ل «جسدا» (٧) و«جسدا» مفرد يراد به الجمع ، وهو على حذف مضاف أي : ذوي أجساد غير آكلين الطعام (٨) و«جعل» يجوز أن تكون بمعنى (صير) فتتعدى لاثنين ثانيهما «جسدا» ويجوز أن تكون بمعنى (خلق) و(أنشأ) فتتعدى لواحد فيكون «جسدا» حالا بتأويله بمشتق ، أي : متغذين ، لأن الجسد لا بد له من الغذاء (٩).

وقال أبو البقاء : و(١٠) «لا يأكلون» حال أخرى ، بعد «جسدا» إذا قلنا إن (جعل تتعدى لواحد) (١١).

وفيه نظر. بل هو صفة ل «جسدا» بالاعتبارين ، لا يليق المعنى إلا به.

قوله : (صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) صدق يتعدى لاثنين إلى (١٢) ثانيهما بحرف الجر. وقد يحذف تقول : صدقتك الحديث ، وفي الحديث نحو أمر (١٣) واستغفر (١٤) وقد تقدم في

__________________

(١) وارده : مكرر في ب.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٤.

(٣) وهو قوله : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» هذا مذهب جمهور البصريين الذين يرون أنه إذا تقدم على أداة الشرط ما يشبه الجواب فهو دليل عليه وليس إياه ويرى الكوفيون والمبرد وأبو زيد أنه الجواب نفسه. شرح الأشموني ٤ / ١٥.

(٤) أي أن «علم» يجوز أن تكون بمعنى «أيقن» ويجوز أن تكون بمعنى (عرف).

(٥) انظر التبيان ٢ / ٩١٢.

(٦) من قوله تعالى : «وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» [الفرقان : ٧].

(٧) انظر الكشاف ٣ / ٤ ، التبيان ٢ / ٩١٢.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩١٢.

(٩) انظر المرجع السابق.

(١٠) في النسختين : أن ، وما أثبته من التبيان.

(١١) قال أبو البقاء : (و«جعلناهم» يجوز أن يكون متعديا إلى اثنين ، وأن يعدى إلى واحد فيكون «جسدا» حالا ، و«لا يأكلون» حالا أخرى) التبيان ٢ / ٩١٢.

(١٢) في الأصل : أي. وهو تحريف.

(١٣) في ب : أقر. وهو تحريف.

(١٤) أي : أن (صدق) من الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين ثانيهما بحرف جر يجوز حذفه ، ومن هذه الأفعال : شكر ، تقول : شكرت زيدا معروفه ، وشكرت لزيد معروفه وكال ، تقول : كلت زيدا الطعام. ـ

٤٥٤

«آل عمران» (١). قال الزمخشري : هو مثل قوله (٢) : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)(٣) والأصل في الوعد ، ومن قومه (٤). والمعنى (٥)(دَقْناهُمُ (٦) الْوَعْدَ) الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم ، (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) أي : أنجينا المؤمنين الذين صدقوا الرسل (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) أي : المشركين المكذبين ، وكل مشرك مسرف على نفسه.

قوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً) يا معشر قريش (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي شرفكم ، كما قال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(٧) وإنّه شرف (٨) لمن آمن به. وقال مجاهد : فيه حديثكم. وقال الحسن : (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي ذكر ما تحتاجون إليه من أمور دينكم (٩)(أَفَلا تَعْقِلُونَ) وهذا كالحث (١٠) على التدبر للقول لأنهم كانوا عقلاء ، لأن التدبر (١١) من لوازم العقل ، فمن لم يتدبر فكأنه خرج عن العقل (١٢).

قوله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ)(١٥)

قوله : (وَكَمْ قَصَمْنا) «كم» في محل نصب مفعولا مقدما ب «قصمنا» (١٣) و (مِنْ قَرْيَةٍ) تمييز ، والظاهر أن «كم» هنا خبرية ، لأنها تفيد التكثير. والقصم : القطع وهو الكسر الذي يبين تلازم الأجزاء (١٤) بخلاف الفصم (١٥).

__________________

ـ ووزن ، تقول : وزنته زيتا ، ووزنت له زيتا. وأمر ، تقول : أمرته الخير ، وأمرته بالخير ، قال الشاعر :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

واستغفر ، تقول : استغفرت الله ذنبي ، واستغفرته من ذنبي. واختار ، تقول : اخترت الرجال عمرا ، واخترت من الرجال عمرا ، قال الله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف : ١٥٥] أي من قومه ، وهذا النوع من الأفعال لا يضبط إلا بالسماع. انظر كشف المشكل في النحو ١ / ٤٠٤ ـ ٤٠٦.

(١) عند قوله تعالى : «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ» [آل عمران : ١٥٢]. وذكر هناك : وصدق يتعدى لاثنين أحدهما بنفسه ، والآخر بالحرف ، وقد يحذف كهذه الآية ، والتقدير صدقكم في وعده ، كقولهم: صدقته في الحديث. انظر اللباب ٢ / ٣٦٩.

(٢) قوله : سقط من الأصل.

(٣) [الأعراف : ١٥٥].

(٤) الكشاف ٣ / ٤.

(٥) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٤٧٧.

(٦) في ب : صدقناهم.

(٧) [الزخرف : ٤٤].

(٨) في ب : وهو أشرف. وهو تحريف.

(٩) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٤٧٧.

(١٠) في الأصل : كالبعث.

(١١) في النسختين : الخوف.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٥.

(١٣) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٨٦ ، التبيان ٢ / ٩١٣.

(١٤) في ب : لازم الأمر.

(١٥) الفصم : هو أن يتصدع الشيء من غير أن يبين. اللسان (فصم).

٤٥٥

قوله : (كانَتْ ظالِمَةً) في محل جر صفة ل «قرية» ، ولا بد من مضاف محذوف قبل «قرية» أي : وكم قصمنا من أهل قرية بدليل عود الضمير في قوله : (فَلَمَّا أَحَسُّوا) ولا يجوز أن يعود على قوله «قوما» لأنه لم يذكر لهم ما يقتضي ذلك (١).

فصل

لما حكى عنهم تلك الاعتراضات الساقطة ، لكونها في مقابلة ما ثبت إعجازه ، وهو القرآن ظهر لكل عاقل أن اعتراضهم كان لأجل حب الرياسة والدنيا.

والمراد بقوله : «قصمنا» أهلكنا. قال ابن عباس : المراد منه القتل بالسيوف ، والمراد بالقرية : حضور وسحول باليمن ينسب إليهما (٢) الثياب ، وفي الحديث : «كفن (٣) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في ثوبين سحوليين» ، وروي «حضوريين» بعث الله إليهما نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم.

وروي «أنه لما أخذتهم السيوف ناداه مناد من السماء يا لثارات الأنبياء» فندموا واعترفوا بالخطأ ، و (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)(٤)(٥).

وقال الحسن : المراد عذاب الاستئصال. وهذا أقرب ، لأن إضافة ذلك إلى الله أقرب من إضافته (٦) إلى القائل ، ثم بتقدير أن يحمل ذلك على عذاب القتل فما الدليل على الحصر في القريتين اللتين ذكرهما ابن عباس (٧).

وقوله : (كانَتْ ظالِمَةً) أي كافرة ، يعني أهلها (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) أي : أحدثنا بعد هلاك أهلها (قَوْماً آخَرِينَ)(٨). (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي : عذابنا بحاسة البصر (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي : يسرعون هاربين.

والركض ضرب الدابة بالرجل ، يقال : ركض (٩) الدابة يركضها ركضا (١٠) ، ومنه قوله تعالى : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ)(١١). فيجوز أن يركبوا دوابّهم فيركضوها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب. ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم (١٢) بالراكبين الراكضين (١٣).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٠.

(٢) إليهما : سقط من ب.

(٣) في ب : نسي. وهو تحريف.

(٤) انظر الكشاف ٣ / ٤ ـ ٥ ، الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٦ ، الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٠).

(٥) [الأنبياء : ١٤].

(٦) في ب : إضافة.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٦.

(٨) انظر البغوي ٥ / ٤٧٧.

(٩) في الأصل : راكض. وهو تحريف.

(١٠) اللسان (ركض).

(١١) من قوله تعالى :«ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ» [ص : ٤٢].

(١٢) على أرجلهم : سقط من ب.

(١٣) وحذف المشبه. انظر الكشاف ٣ / ٥ ، والفخر الرازي ٢٢ / ١٤٦.

٤٥٦

قوله : «إذا هم» : «إذا» هذه فجائية ، وتقدم الخلاف فيها (١).

و«هم» مبتدأ ، و«يركضون» خبره (٢). وتقدم أول الكتاب (٣) أن أمثال هذه الآية دالة على أن «لمّا» (٤) ليست ظرفية (٥) بل حرف وجوب لوجوب (٦) ، لأن الظرف لا بد له من عامل ، ولا عامل هنا ، لأن ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها. والجواب أنه عمل فيها معنى المفاجأة المدلول عليه ب «إذا»(٧).

والضمير في «منها» يعود على «قرية» ، ويجوز أن يعود على «بأسنا» لأنه في معنى النقمة والبأساء ، فأنث الضمير حملا على المعنى (٨). و«من» على الأول (٩) لابتداء الغاية ، وللتعليل على الثاني(١٠).

قوله : «لا تركضوا» أي : قيل لهم : لا تركضوا ، أي لا تهربوا. قال الزمخشري : القول محذوف ، فإن قلت : من القائل؟ قلت : يحتمل أن يكون بعض الملائكة ، أو من (١١) ثم من المؤمنين ، أو يكون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل ، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم (١٢). أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم (١٣).

__________________

(١) عند قوله تعالى«فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» [الأنعام : ٤٤] ، وذكر هناك : إذا هي الفجائية ، وفيها ثلاثة مذاهب : مذهب سيبويه أنها ظرف مكان ، ومذهب جماعة منهم الرياشي أنها ظرف زمان ، ومذهب الكوفيين أنها حرف ، فعلى تقدير كونها ظرفا زمانا أو مكانا فالناصب لها خبر المبتدأ ، أي : ألبسوا في مكان إقامتهم أو زمانها. انظر اللباب ٣ / ٤١٧.

(٢) انظر التبيان ٢ / ٩١٣.

(٣) عند قوله تعالى :«وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» [البقرة : ٨٩] انظر اللباب ١ / ١٢٠.

(٤) في ب : على أنها.

(٥) قال بظرفيتها ابن السراج وتبعه الفارسي وابن جني وجماعة ، فهي عندهم ظرف بمعنى (حين) ، وقال ابن مالك «إذ» وهو حسن ، لأنها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى الجملة ، والعامل فيها على الظرفية جوابها. انظر المغني ١ / ٣٨٠ ، الهمع ١ / ٢١٥.

(٦) وهو رأي الجمهور ، لأنها عندما تدخل على الماضي تقتضي جملتين وجدت ثانيتهما عند وجود أولاهما نحو لما جاءني أكرمته. ويكون جوابها فعلا ماضيا اتفاقا نحو قوله تعالى :«فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ» [الإسراء : ٦٧] وجملة اسمية مقرونة ب «إذا» الفجائية نحو قوله تعالى : «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» [العنكبوت : ٦٥]. أو بالفاء عند ابن مالك نحو قوله تعالى : «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» [لقمان : ٣٢] ، وقيل : إن الجواب محذوف ، أي انقسموا قسمين فمنهم مقتصد.

وفعلا مضارعا عند ابن عصفور نحو قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا) [هود : ٧٤] ، وهو مؤول بجادلنا وقيل إن الجواب (جاءته البشرى) على زيادة الواو ، أو محذوف ، أي : أقبل يجادلنا. انظر المغني ١ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(٧) هذا الجواب يدل على أن ابن عادل أخذ برأي ابن السراج ومن تبعه في أن (لمّا) ظرفية.

(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٠.

(٩) وهو عود الضمير على «قرية».

(١٠) وهو عود الضمير على «بأسنا».

(١١) في النسختين : ومن. والتصويب من الكشاف.

(١٢) دينهم : سقط من الأصل.

(١٣) الكشاف ٣ / ٥.

٤٥٧

وقوله : (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من العيش الرافه والحال الناعمة. والإتراف انتظار النعمة ، وهي الترفه. وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) تهكم بهم وتوبيخ (١).

قال ابن عباس : تسألون عن قتل نبيكم (٢). وقال غيره : هذا التهكم يحتمل وجوها :

الأول : ارجعوا إلى نعمتكم ومساكنكم لعلكم تسألون عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم ، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة.

الثاني : ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ، ويقولوا لكم : بم تأمرون ، وماذا ترسمون كعادة المخدومين.

الثالث : تسألكم الناس ما في أيديكم ويستشيرونكم في المهمات (٣).

قوله (٤) : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) اسم «زالت» «تلك» و«دعواهم» الخبر هذا هو الصواب (٥). وقد قال الحوفي والزمخشري وأبو البقاء : يجوز العكس (٦) وهو مردود بأنه إذا أخفي الإعراب مع استوائهما في المسوغ لكون كل منهما اسما أو خبرا ، وجب جعل المتقدم اسما والمتأخر خبرا ، وهو من باب ضرب موسى عيسى (٧) وتقدم إيضاح هذا في أول سورة الأعراف (٨) فليلتفت إليه. و«تلك» إشارة إلى الجملة المقولة (٩). قال

__________________

(١) أي أن الأمر خرج من معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي وهو التهكم والتوبيخ.

(٢) انظر البغوي ٥ / ٤٧٧.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٥ ، الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٦.

(٤) قوله : سقط من الأصل.

(٥) لخفاء الإعراب ، لأن الإعراب مقدر فيهما ، ولا قرينة تميز الاسم من الخبر.

(٦) وهو كون «تلك» خبر «زالت» و«دعواهم» اسمها. وانظر الكشاف ٣ / ٥. التبيان ٢ / ٩١٣. وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء قاله الزجاج قبلهم حيث قال : (يجوز أن تكون «تلك» في موضع رفع اسم «زالت» و«دعواهم» في موضع نصب خبر «زالت» وجائز أن يكون «دعواهم» الاسم في موضع رفع ، و«تلك» في موضع نصب على الخبر للاختلاف بين النحويين في ذلك) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٣٨٦.

(٧) أي أن اسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول ، فكما لا يجوز في باب تقديم المفعول على الفاعل عند خوف اللبس. لا يجوز ذلك في باب كان ، فإذا قلت : كان موسى أخي لم يجز في موسى إلا أن يكون اسم كان وأخي الخبر ، كقولك ضرب موسى عيسى ، فموسى الفاعل وعيسى المفعول ، هذا ما ذهب إليه المتأخرون ولم ينازع في ذلك منهم إلا ابن الحاج فأجاز أن يكون المتقدم هو المفعول والمتأخر هو الفاعل وإن ألبس. فعلى هذا يتعين أن تكون «تلك» اسم «زالت» و«دعواهم» الخبر.

البحر المحيط ٦ / ٣٠١ ، شرح الأشموني ٢ / ٥٦.

(٨) عند قوله تعالى : «فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا» [الأعراف : ٥]. وذكر هنا ما ملخصه أنهم جوزوا في «دعواهم» وجهين : أحدهما : أن يكون اسما ل (كان) ، و«إِلَّا أَنْ قالُوا» خبرها ، والثاني : أن يكون «دعواهم» خبرا مقدما ، و«إِلَّا أَنْ قالُوا» اسما مؤخر ، قال ذلك الفراء والزجاج ومكي والزمخشري ، ولكن ذلك يشكل من قاعدة ذكرها النحاة ، وهو أن الاسم والخبر في هذا الباب متى خفي في إعرابهما وجب تقديم الاسم وتأخير الخبر نحو كان موسى صاحبي ، قالوا : لأنهما كالمفعول والفاعل ، فمتى خفي الإعراب التزم كل في مرتبته. انظر اللباب ٤ / ٧.

(٩) [الأعراف : ١٤] وهي قوله تعالى : «يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ».

٤٥٨

الزمخشري : «تلك» إشارة إلى «يا ويلنا» لإنها دعوى ، كأنه قيل : فما زالت تلك الدعوى دعواهم ، والدعوى بمعنى الدعوة ، قال تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١)(٢).

وسميت دعوى ، لأنهم كانوا دعوا بالويل فقالوا : «يا ويلنا». قال المفسرون : لم يزالوا يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا)(٣)(٤). (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) الحصيد : الزرع المحصود ، أي جعلناهم مثل الحصيد ، شبههم في استئصالهم به ، كما تقول : جعلناهم رمادا أي : مثل الرماد (٥) قوله : «حصيدا» مفعول ثان ، لأن الجعل هنا تصيير (٦). فإن قيل : كيف ينصب «جعل» ثلاثة مفاعيل؟ فالجواب أن «حصيدا» و«خامدين» يجوز أن يكون من باب هذا حلو حامض (٧) ، كأنه قيل : جعلناهم جامعين بين الوصفين جميعا (٨). ويجوز أن يكون «خامدين» حالا من الضمير في «جعلناهم» (٩) ، أو من الضمير المستكن في «حصيدا» فإنه في معنى محصود. ويجوز أن يكون من باب ما تعدد فيه الخبر نحو : «زيد كاتب شاعر» (١٠). وجوّز أبو البقاء فيه أيضا أن يكون صفة ل «حصيدا» ، وحصيد بمعنى محصود كما تقدم فلذلك لم يجمع (١١). وقال أبو البقاء : والتقدير : مثل حصيد فلذلك لم يجمع كما لم يجمع «مثل» المقدر (١٢) انتهى.

وإذا كان بمعنى محصودين (١٣) فلا حاجة ، والمعنى : أنهم هلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق حس ولا حركة ، وجفوا كما يجف الحصيد وخمدوا كما تخمد النار (١٤).

__________________

(١) [يونس : ١٠].

(٢) الكشاف ٣ / ٥. أي أن الدعوى تصلح أن تكون في معنى الدعاء ، حكى ذلك سيبويه في باب ما جاء من المصادر وفيه ألف التأنيث حيث قال : (وأما الدعوى فهو ما ادعيت ، وقال بعض العرب : اللهم أشركتا في دعوى المسلمين ، وقال سبحانه وتعالى «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»وقال بشير بن النكث : ولت ودعواها كثير صحبه. فدخلت الألف كدخول الهاء في المصادر) الكتاب ٤ / ٤٠ ـ ٤١.

(٣) [غافر : ٨٥].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٦.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٥ ، الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٧.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩١٣.

(٧) أي أنهما في معنى المفعول الواحد.

(٨) انظر الكشاف ٣ / ٥. التبيان ٢ / ٩١٣.

(٩) قاله الحوفي. البحر المحيط ٦ / ٣٠١.

(١٠) أي أن الضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ ، والمنصوبان بعده كانا خبرين له ، فلما دخل عليهما «جعل» نصبهم جميعا على المفعولية.

(١١) وفعيل بمعنى مفعول يستوي في الوصف به المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث تشبيها له بالمصدر على حد قوله تعالى : «وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» [التحريم : ٤]. انظر التبيان ٢ / ٩١٣ ، شرح الأشموني ١ / ١٩٢.

(١٢) التبيان ٢ / ٩١٣.

(١٣) في ب : المحصودين.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٧.

٤٥٩

قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)(١٨)

قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ) الآية. اعلم أنه (١) لما بين إهلاك القرية لأجل تكذيبهم أتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلا منه ، ومجازاة على ما فعلوا فقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي : وما سوينا هذا السقف المرفوع ، وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب والغرائب كما سوى الجبابرة سقوفهم وفرشهم للعب واللهو ، وإنما سويناهم لفوائد دينية ودينوية. أما الدينية فليتفكر (٢) المكلفون فيها على ما قال : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٣). وأما الدنيوية فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعد ولا تحصى ، وهو كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً)(٤) وقوله : «و (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ)(٥). وقيل : وجه النظم أن الغرض منه تقرير نبوة محمد ـ عليه‌السلام (٦) ـ والرد على منكريه ، لأنه أظهر المعجز عليه ، فإن كان محمد كاذبا كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب ، وذلك منفي عنه ، وإن كان صادقا فهو المطلوب وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن (٧) و«لاعبين» حال من فاعل «خلقنا» (٨).

فصل

قال القاضي عبد الجبار : دلّت هذه الآية على أن اللعب ليس من قبله تعالى ، إذ لو (٩) كان كذلك لكان لاعبا ، فإن اللاعب في اللغة اسم لفاعل اللعب ، فنفي الاسم الموضوع للفعل يقتضي (١٠) نفي الفعل. والجواب يبطل ذلك بمسألة الداعي ، وقد تقدم (١١). قوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً).

قال ابن عباس (١٢) في رواية عطاء : اللهو : المرأة ، وهو قول الحسن وقتادة وقال في رواية الكلبي : اللهو : الولد بلغة اليمن ، وهو قول السدي. وهو في المرأة أظهر ، لأن الوطأ يسمى لهوا (١٣) في اللغة ، والمرأة محل الوطأ.

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٧.

(٢) في الأصل : فليتفكروا.

(٣) [آل عمران : ١٩١].

(٤) [ص : ٢٧].

(٥) من قوله تعالى : «ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» [الدخان : ٣٩].

(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٧.

(٨) انظر التبيان ٢ / ٩١٣.

(٩) في ب : فلو.

(١٠) في ب : مقتضى.

(١١) الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٧.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

(١٣) في ب : لهو.

٤٦٠