اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

الأول : أنه تعالى لما قال (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ)(١) ثم إنه عظّم أمر القرآن ذكر هذه القصة إنجازا للوعد في قوله : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ)(٢).

الثاني : أنه (٣) لما قال : (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً)(٤) أردفه (٥) بقصة آدم عليه‌السلام (٦) كأنّه قال : إنّ طاعة بني آدم للشياطين ، وتركهم التحفظ من الوساوس أمر قديم ، فإنّا عهدنا إلى آدم من قبل ، أي : من قبل هؤلاء الذين صرّفنا لهم الوعيد ، (وبالغنا في تنبيهه) (٧) ، فقلنا له : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ)(٨) ، ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد ، فأمر البشر في ترك التحفظ أمر قديم.

الثالث : أنه لمّا قال لمحمّد (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(٩) ذكر بعده قصة آدم ، فإنه عهد إليه وبالغ في تحذيره من العود ، فدل ذلك على ضعف البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه (١٠) في أن يوفقه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان.

الرابع : أن محمدا ـ عليه‌السلام (١١) ـ لما قيل له : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(١٢) دل على أنه كان في أمر الدين بحيث زاد (١٣) على قدر الواجب فلما وصفه بالإفراط ، وصف آدم بالتفريط في ذلك ، فإنه تساهل ولم يتحفظ حتى نسي ، فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط ، ليعلمه أن البشر لا ينفك عن نوع زلة.

الخامس : أن محمدا (١٤) لما قيل له : (وَلا تَعْجَلْ) ضاق قلبه ، وقال في نفسه : لو لا أني أقدمت (١٥) على ما لا ينبغي ، وإلا لما نهيت عنه (١٦) ، فقيل له : يا محمد إن كنت فعلت ما نهيت عنه فإنما (١٧) فعلته حرصا منك على العبادة ، وحفظا لأداء الوحي وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي لتساهله ، وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره (١٨). والمراد بالعهد هنا أمر الله ، أي : أمرناه وأوصينا إليه أن لا يأكل من الشجرة من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد في القرآن فتركوا الإيمان.

وقال ابن عباس : من قبل أن يأكل من (١٩) الشجرة عهدنا (٢٠) إليه أن لا يأكل

__________________

(١) [المائدة : ٩٩].

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) أنه : سقط من ب.

(٤) [المائدة : ١١٣].

(٥) في الأصل : أخبر. وسقط من ب.

(٦) في ب : بقصة القوم أو بقصة آدم عليه الصلاة والسلام. وهو تحريف.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) [المائدة : ١١٧].

(٩) من الآية : (١١٤).

(١٠) في ب : الاستغاثة لربه. وهو تحريف.

(١١) في ب : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٢) [المائدة : ١١٤].

(١٣) في ب : بحيث جاوز أعني زاد.

(١٤) في ب : أن محمدا عليه الصلاة والسلام.

(١٥) في ب : قدمت.

(١٦) عنه : سقط من ب.

(١٧) في ب : إنما.

(١٨) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

(١٩) من : سقط من الأصل.

(٢٠) في ب : عهد.

٤٠١

منها (١). وقال الحسن : من قبل محمد والقرآن (١).

قوله : «فنسي» قرأ اليماني بضم النون وتشديد السين (٢) بمعنى نسّاه الشيطان. وعلى هذه القراءة يحتمل أن يقال : أقدم على المعصية من غير تأويل ، وأن يقال : أقدم عليها مع التأويل (٣).

وعلى القراءة المشهورة يحتمل أن يكون المراد بالنسيان نقيض الذكر ، وإنما عوقب على ترك التحفظ ، والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان ، ويحتمل أن يكون المراد بالنسيان الترك ، وأنه ترك ما عهد إليه من ترك أكل ثمرتها (٤).

قوله : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).

يجوز أن تكون (وجد) علمية ، فتتعدى لاثنين ، وهما «له عزما». وأن تكون بمعنى الإصابة فتتعدى لواحد ، وهو «عزما» ، (و«له») (٥) متعلق بالوجدان ، أو بمحذوف على أنه حال من «عزما» (٦) إذ هو في الأصل صفة له قدمت عليه (٧).

والعازم : هو المصمم (٨) ، فقوله : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) يحتمل : ولم نجد له عزما على ترك المعصية ، أو على التحفظ والاحتراز عن الغفلة ، أو على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا (٩) قلنا : إنه ـ عليه‌السلام (١٠) ـ إنما أخطأ بالاجتهاد (١١).

وقال الحسن (١٢) : ولم نجد له صبرا عما (١٣) نهي عنه.

وقال عطية (١٤) : حفظا لما أمر به. وقال ابن (١٥) قتيبة : رأيا معزوما (١٦).

حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له. والعزم في اللغة : هو توطين النفس على الفعل.

قال أبو أمامة الباهليّ (١٧) : لو وزن حلم آدم بحلم جميع ولده لرجح عليه وقد قال الله تعالى (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً). فإن قيل : أتقولون إن آدم كان ناسيا لأمر الله حين أكل من الشجرة. قيل (١٨) : يجوز أن يكون نسي أمره (١٩) ، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت

__________________

(١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٤.

(١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٤.

(٢) المختصر : (٩٠) البحر المحيط ٦ / ٢٨٤.

(٣) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٤.

(٤) انظر المرجع السابق.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(٦) انظر التبيان ٢ / ٩٠٥.

(٧) وصاحب الحال هنا نكرة ، لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصبتها على الحال لامتناع جواز تقديم الصفة على الموصوف انظر شرح المفصل ٢ / ٦٣ ـ ٦٤.

(٨) في ب : المضمر. وهو تحريف.

(٩) في الأصل : وإذا.

(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٤٦٢.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥ / ٤٦٢.

(١٣) في ب : على ما.

(١٤) عطية العوفي.

(١٥) ابن : سقط من النسختين.

(١٦) تفسير غريب القرآن (٢٨٣).

(١٧) في ب : أبو علي الباهلي.

(١٨) في ب : فالجواب.

(١٩) في ب : ناسيا لأمره.

٤٠٢

مرفوعا عن الإنسان بل (١) كان مؤاخذا به ، وإنما رفع عنا.

وقيل : نسي عقوبة الله ، وظن أنّه نهي (٢) تنزيه (٣). قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) تقدّم الكلام على ذلك مفصّلا في سورة البقرة (٤).

وقوله : «أبى» جملة مستأنفة ، لأنها جواب سؤال مقدر (٥) ، أي : ما منعه من السجود؟ فأجيب بأنه أبى واستكبر.

ومفعول الإباء يجوز أن يكون مرادا (٦) ، وقد صرّح به في الآية الأخرى في قوله : (أَبى (٧) أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)(٨) وحسن حذفه هنا كون العامل رأس فاصلة. ويجوز أن لا يراد ألبتة ، وأن المعنى : أنه من أهل الإباء والعصيان من غير نظر إلى متعلق الإباء ما هو (٩).

قوله (١٠) : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) وسبب (١١) تلك العداوة من وجوه (١٢) :

الأول : أن إبليس كان حسودا ، فلمّا رأى آثار نعم الله تعالى في حق آدم حسده فصار (١٣) عدوا له.

الثاني : أن آدم ـ عليه‌السلام (١٤) ـ كان شابا عالما لقوله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(١٥) ، وإبليس كان شيخا جاهلا ، لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله ، وذلك جهل والشيخ أبدا يكون عدوا للشّاب العالم.

الثالث : أن إبليس مخلوق من النار وآدم مخلوق من الماء والتراب ، فبين أصليهما (١٦) عداوة ، فبقيت تلك العداوة (١٧).

__________________

(١) في ب : بلى.

(٢) نهي : سقط من ب.

(٣) آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥ / ٤٦٢.

(٤) عند قوله تعالى : «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» [البقرة : ٣٤].

(٥) انظر الكشاف ٢ / ٤٤٩.

(٦) في ب : مراد. وهو تحريف.

(٧) في ب : وصرح به في آية أخرى فأبى. وهو تحريف.

(٨) [الحجر : ٣١].

(٩) وقد رجحه الزمخشري حيث قال : (والوجه أن لا يقدر له مفعول ، وهو السجود المدلول عليه بقوله : «فسجدوا» ، وأن يكون معناه : أظهر الإباء وتوقف وتثبط). الكشاف ٢ / ٤٤٩.

(١٠) قوله : سقط من ب.

(١١) في ب : فصل سبب.

(١٢) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(١٣) في ب : وصار.

(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٥) [البقرة : ٣١].

(١٦) في ب : أصلهما.

(١٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

٤٠٣

فإن قيل : لم قال : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ) مع أن المخرج لهما من الجنة هو الله تعالى (١)؟

فالجواب لما كان بوسوسته (٢) هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج صح (٣) ذلك (٤). قوله : «فتشقى» منصوب بإضمار (أن) في جواب النهي (٥) ، والنهي في الصورة لإبليس والمراد به هما ، أي لا تتعاطيا أسباب الخروج (فيحصل لكما الشقاء) (٦) ، وهو الكد والتعب الدنيوي خاصة. ويجوز أن يكون مرفوعا على الاستئناف ، أي : فأنت تشقى ، كذا قدره أبو حيان (٧).

وهو (٨) بعيد أو ممتنع ، إذ ليس المقصود (٩) الإخبار بأنه يشقى بل (١٠) إن وقع الإخراج لهما من إبليس حصل ما ذكر. وأسند الشقاء (١١) إليه دونها ، لأن الأمور معدوقة برؤوس الرجال ، وحسن ذلك كونه رأس فاصلة ، ولأنّه إن (١٢) أريد بالشقاء التعب في طلب القوت فذلك على الرجل دون المرأة.

قوله : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ) «لك» (١٣) خبر «إنّ» ، و«ألّا تجوع» في محل نصب اسما لها (١٤) ، (والتقدير : إنّ لك عدم الجوع والعري) (١٥). و«تعرى» منصوب تقديرا نسقا على «تجوع» (١٦) (والعري تجرد الجلد عن شيء يقيه ، يقال منه : عري يعرى عريا) (١٧) قال الشاعر :

٣٦٩٧ ـ فإن يعرين إن كسي الجواري

فتنبو العين عن كرم عجاف (١٨)

(وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا) قرأ نافع وأبو بكر «وإنّك» بكسر الهمزة. والباقون بفتحها (١٩).

__________________

(١) تعالى : سقط من ب.

(٢) في ب : لما كان بوسوستهما أعني بوسوسته. وهو تحريف.

(٣) في ب : فصح.

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٥.

(٥) وذلك أنّ «أن» تنصب الفعل مضمرة بعد فاء جواب نهي ، والنهي هنا قوله : «فَلا يُخْرِجَنَّكُما». وانظر البحر المحيط ٦ / ٢٨٤.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٨٤.

(٨) في ب : وهذا.

(٩) المقصود : سقط من ب.

(١٠) في ب : بعد.

(١١) في الأصل : الشقاوة. وهو تحريف.

(١٢) أن : سقط من ب.

(١٣) لك : سقط من ب.

(١٤) انظر البيان ٢ / ١٥٤.

(١٥) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٦) في ب : منصوب تقديرا على تجوع نسقا لها.

(١٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٨) البيت من بحر الوافر لسعيد بن مسحوج الشيباني ، أو لأبي خالد القناني وهو في الكامل ٣ / ١٠٨٢ ، الخصائص ٢ / ٢٩٢ ، ٣٤٢ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٢٣٣ ، اللسان (كرم ـ كسا) المغني ٢ / ٥٢٧ وشرح شواهده ٢ / ٨٨٦.

(١٩) السبعة ٤٢٤ ، الحجة لابن خالويه (٢٤٧) ، الكشف ٢ / ١٠٧ ، النشر ٢ / ٣٢٢ ، الإتحاف (٣٠٨).

٤٠٤

فمن كسر فيجوز أن يكون ذلك استئنافا (١) ، وأن يكون نسقا على «إنّ» الأولى (٢). ومن فتح فلأنه (٣) عطف مصدرا (٤) مؤولا على اسم «إنّ» الأولى ، والخبر «لك» المتقدم. والتقدير : إنّ لك عدم الجوع ، وعدم العري ، وعدم الظمأ والضحى. وجاز أن يكون «أنّ» بالفتح اسما ل «إنّ» بالكسر للفصل بينهما (٥) ، ولو لا ذلك لم يجز. لو قلت : إنّ أنّ زيدا قائم حق (٦) لم يجز ، فلما فصل بينهما جاز (٧).

وتقول : إنّ عندي أنّ زيدا قائم ، فعندي هو الخبر قدم على الاسم وهو أنّ وما في تأويلها لكونه ظرفا ، والآية من هذا القبيل إذ التقدير : فإن لك أنّك لا تظمأ (٨) وقال الزمخشري : فإن قلت : «إنّ» لا تدخل على «أنّ» ، فلا يقال : إنّ أنّ زيدا منطلق ، والواو نائبة عن «إنّ» وقائمة مقامها ، فلم دخلت عليها؟ قلت : الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن «إنّ» إنما هي نائبة عن كل عامل ، فلمّا لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة كإن لم يمتنع اجتماعهما كما اجتمع «إنّ» و«أنّ» (٩) وضحي يضحى (١٠) أي : برز للشمس ، قال عمر (١١) بن أبي ربيعة :

٣٦٩٨ ـ رأت رجلا أمّا إذا(١٢)الشّمس عارضت

فيضحى وأمّا بالعشيّ فيخصر (١٣)

__________________

(١) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٧٨ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ٧٧ ، البيان ٢ / ١٥٤. التبيان ٢ / ٩٠٦.

(٢) انظر التبيان : ٢ / ٩٠٦.

(٣) في ب : كلامه. وهو تحريف.

(٤) في ب : مصدر.

(٥) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٧٨ ، مشكل إعراب القرآن ٢ / ٧٧ ، البيان ٢ / ١٥٤ ، التبيان ٢ / ٩٠٦. وذكر الزجاج وابن الأنباري وجها آخر ، وهو أن يكون موضعها الرفع بالعطف على الموضع ، كما تقول : إن زيدا قائم وعمرو. بالعطف على موضع «إنّ».

(٦) في ب : إن زيدا قائم حق.

(٧) وذلك لأن (إنّ وأنّ) للتأكيد ، كرهوا الجمع بين حرفين لمعنى واحد.

(٨) وذلك أنّ خبر (إنّ) إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا يجوز تقديمه على اسمها للتوسع في الظروف والمجرورات. انظر شرح الأشموني ١ / ٢٧٢.

(٩) الكشاف ٢ / ٤٤٩.

(١٠) في ب : قوله : «تضحى».

(١١) في الأصل : عمرو ، وفي ب : قال علي. وهو تحريف.

(١٢) في ب : واب رجل أما أذى. وهو تحريف.

(١٣) البيت من بحر الطويل قاله عمر بن أبي ربيعة وهو في ديوانه (٦٤) ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ١٩٤ ، ومجاز القرآن ٢ / ٣٢ ، الكامل ١ / ٩٨ ، ٢٨٤ ، ٣ / ١١٥٣ ، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣ / ٣٧٨ ، المحتسب ١ / ٢٨٤ ، القرطبي ١١ / ٢٥٤ ، اللسان (ضحا) ، المغني ١ / ٥٦ ، شرح شواهده ١ / ١٧٤ الهمع ٢ / ٦٧ ، شرح الأشموني ٤ / ٤٩. والخزانة ١١ / ٣٦٧ ، الدرر ٢ / ٨٤. ورواية الديوان :

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت

فيضحى وأما بالعشي فيخصر

ورواية (أيما) يستدل بها النحاة على قلب ميم (أما) الأولى ياء استثقالا للتضعيف. انظر شرح الأشموني ٤ / ٤٩.

٤٠٥

وذكر الزمخشري هنا معنى حسنا في كونه تعالى (١) ذكر هذه الأشياء بلفظ النفي دون أن يذكر أضدادها بلفظ الإثبات ، فيقول : إنّ لك (٢) الشبع والكسوة والري والاكتنان في الظل ، فقال (٣) : وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعري ، والظمأ ، والصّحو ليطرق سمعه بأسامي (٤) أصناف (٥) الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب (٦) الموقع فيها كراهة لها (٧).

قوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى)(١٢٢)

قوله : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ)(٨) أي : أنهى إليه الوسوسة ، وأمّا وسوس له فمعناه : لأجله قال الزمخشري : فإن قلت : كيف عدّى وسوس باللام في قوله : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ)(٩) وأخرى بإلى؟ قلت : وسوسة الشيطان كولولة (١٠) الثكلى (١١) ووقوقة (١٢) الدجاجة في أنها حكايات الأصوات ، فحكمها (١٣) حكم صوت أو جرس (١٤) ، ومنه : وسوسة المبرسم (١٥) وهو موسوس (١٦) بالكسر ، والفتح لحسن (١٧) ، وأنشد ابن الأعرابي :

٣٦٩٩ ـ وسوس يدعو مخلصا (١٨) ربّ الفلق (١٩)

فإذا قلت : وسوس له فمعناه لأجله كقوله :

٣٧٠٠ ـ أجرس لها يا ابن أبي كباش (٢٠)

__________________

(١) في الأصل : تعال. وهو تحريف.

(٢) لك : سقط من الأصل.

(٣) في ب : فقال أنواع. وهو تحريف.

(٤) في النسختين : بأشياء من.

(٥) في ب : أنواع.

(٦) في ب : الشبع. وهو تحريف.

(٧) الكشاف ٢ / ٤٤٩ ـ ٤٥٠.

(٨) إليه : سقط من ب.

(٩) [الأعراف : ٢٠].

(١٠) الولولة : صوت متتابع بالويل والاستغاثة ، وقيل : هو حكاية صوت النائحة. اللسان (ولول).

(١١) في ب : الشكوى. وهو تحريف.

(١٢) في الكشاف : وكوقوعه.

(١٣) في ب : وحكمها.

(١٤) في ب : حكم صوت الجرس.

(١٥) المبرسم : الذي أصابته الحمى.

(١٦) في الأصل : مسوس.

(١٧) في ب : وهو موسوس بالفتح والكسر لحن. وهو تحريف. الوسواس بالكسر المصدر والوسواس بالفتح هو الشيطان وكل ما حدثك ووسوس إليك فهو اسم. والموسوس بالكسر الذي يعتريه الوسواس ، ابن الأعرابي : رجل موسوس ، ولا يقال رجل موسوس. اللسان (وسس).

(١٨) في ب : وسوس مخلصا يدعو. وهو تحريف.

(١٩) الرجز لرؤبة وهو في ديوانه (١٠٨) الكشاف ٢ / ٤٥٠ ، اللسان (وسوس).

(٢٠) رجز لم أهتد إلى قائله وهو في إصلاح المنطق (٤١) الكشاف ٢ / ٤٥٠ اللسان (جرس) ، شرح ـ

٤٠٦

ومعنى وسوس إليه أنهى إليه الوسوسة كقوله : حدث إليه (١).

وقال أبو البقاء : عدّي «وسوس» ب «إلى» ، لأنه بمعنى أسرّ ، وعداه في موضع آخر باللام ، لكونه بمعنى ذكر له ، أو (٢) تكون بمعنى لأجله (٣).

قوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) يعني على شجرة إن أكلت منها بقيت مخلدا ، «وملك (٤) لا يبلى» أي من (٥) أكل من هذه الشجرة دام ملكه. قال ابن الخطيب (٦) : واقعة آدم عجيبة ، وذلك لأن الله تعالى رغّبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ) أن لا (تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى). ورغّبه إبليس أيضا في دوام الراحة بقوله (٦) : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) ، وفي انتظام المعيشة بقوله (٧)(٨) : «وملك (٩) لا يبلى» فكان الشيء الذي رغّب (١٠) (الله تعالى آدم) (١١) فيه هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى (١٢) وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة ، وإبليس وقعه على الإقدام عليها ، ثم إن آدم ـ عليه‌السلام (١٣) ـ مع كمال عقله وعلمه (بأن الله تعالى مولاه وناصره ومربيه ، وأعلمه) (١٤) بأن إبليس عدوه حيث امتنع من السجود له ، وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته ، كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بعداوته له ، وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه (١٥) بأنه هو الناصر والمولى. ومن تأمل هذا الباب طال تعجبه ، وعرف (١٦) آخر الأمر أنّ هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله ، ولا مانع منه ، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله ذلك وقدره (١٧).

__________________

ـ شواهد الكشاف ٦٥. الجرس : الحركة والصوت من كل ذي صوت. وأجرس : علا صوته وأجرس الحادي إذا حدا للإبل ، أي احد لها لتسمع الحداء فتسير. والشاهد فيه أن قول : (أجرس لها) أي لأجلها.

(١) الكشاف ٢ / ٤٥٠. وفي ب : كقوله :

حدّث إليه وأسرّ إليها

بكرمات عود ليس من يديها

(٢) في النسختين : و.

(٣) التبيان ٢ / ٩٠٦.

(٤) في ب : قوله : وملك.

(٥) من : سقط من ب.

(٦) في ب : فصل قال ابن الخطيب.

(٦) في ب : فصل قال ابن الخطيب.

(٧) في ب : في قوله.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) في ب : ملك.

(١٠) في ب : رغبه.

(١١) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٢) تعالى : سقط من ب.

(١٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٥) مع علمه : تكملة من الفخر الرازي.

(١٦) في ب : وعلم.

(١٧) الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٦.

٤٠٧

روى البخاريّ (١) ومسلم (٢) أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ـ قال : «احتجّ آدم وموسى (٤) عند ربهما ، فحجّ آدم موسى ، قال موسى : أنت يا آدم الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ، ثم أهبطت الناس (٥) بخطيئتك إلى الأرض ، فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا وجدت الله (٦) كتب التوراة قبل أن أخلق ، قال موسى : بأربعين عاما ، قال آدم : فهل وجدت فيها (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)؟ قال نعم ، قال (٧) أفتلومني (٨) على أن عملت عملا كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة. قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فحجّ آدم موسى» (٩).

وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص (١٠) قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال وعرشه على الماء» (١١). وقال : «كل شيء خلقه بقدر حتى العجز والكيس» (١٢). قوله : «فأكلا منها» يعني آدم وحواء. «فبدت (١٣) لهما سوآتهما».

قال ابن عباس : عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما (١٤). وإنما جمع «سوآتهما» كما قال : (صَغَتْ قُلُوبُكُما)(١٥).

(وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قال الزمخشري : طفق بفعل كذا مثل

__________________

(١) هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري ، صاحب الصحيح والتصانيف ، حفظ تصانيف ابن المبارك وهو صبي ، حدّث عنه الترمذي ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما مات سنة ٢٥٦ ه‍. تذكرة الحفاظ ٢ / ٥٥٥.

(٢) هو مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري ، أكثر عن يحيى بن يحيى التميمي وأحمد بن يونس اليربوعي ، روى عنه الترمذي حديثا واحدا ، مات سنة ٢٦١ ه‍. تذكرة الحفاظ ٢ / ٨٨ ـ ٥٩٠.

(٣) في ب : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم.

(٤) في ب : موسى وآدم.

(٥) الناس : سقط من ب.

(٦) في ب : أنه. وهو تحريف.

(٧) قال : سقط من ب.

(٨) في الأصل : أتلومني.

(٩) أخرجه البخاري (تفسير) ٦ / ١٢٠ ، ١٢١ ، (قدر) ٨ / ١٥٧ (توحيد) ٩ / ١٨٢.

(١٠) هو عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي أبو محمد ، أخذ عنه جبير بن نفير وابن المسيب وغيرهما ، وكان يلوم أباه على القتال في الفتنة بأدب وتؤدة ، ويقول : ما لي ولصفين ما لي ولقتال المسلمين لوددت أني مت قبلها بعشرين سنة ، مات سنة ٦٥ ه‍. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢ / ٨٣.

(١١) أخرجه مسلم (القدر) ٤ / ٢٠٤٤.

(١٢) أخرجه مسلم (القدر) ٤ / ٢٠٤٥.

(١٣) في ب : قوله : فبدت.

(١٤) الفخر الرازي : ٢٢ / ١٢٧.

(١٥) من قوله تعالى :«إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» [التحريم : ٤]. قال : «سوآتهما» ، «قلوبكما» بالجمع ، لأن كل عضو ليس في البدن منه إلا عضو واحد فإن تثنيته بلفظ جمعه ، والسوأة ، والقلب ليس في البدن منهما إلا عضو واحد. انظر البيان ٢ / ٤٤٦ ، التبيان ٢ / ١٢٢٩.

٤٠٨

جعل (١) يفعل وأخذ وأنشأ (٢) ، وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا وبينها وبينه (٣) مسافة قصيرة (٤). وقرىء «يخصّفان» (٥) للتكثير والتكرير من خصف النعل ، وهو أن يخرز عليها الخصاف ، أي: يلزقان الورق بسوآتهما (٦) للتستر ، وهو ورق التين (٧). قوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) بأكل الشجرة «فغوى» أي : فعل (ما لم يكن له فعله) (٨). وقيل : أخطأ طريق الجنة وضلّ (٩) حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله فخاف ولم ينل مراده (١٠).

وقال ابن الأعرابي : أي : فسد عليه عيشه وصار من العز إلى الذل ، ومن الراحة إلى التعب (١١). قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال : عصى آدم ، ولا يجوز أن يقال : آدم عاص (لأنه إنما يقال : عاص) (١٢) لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه فيقال خاط ثوبه ، ولا يقال : هو خياط (حتى يعاوده ويعتاده(١٣))(١٤).

قوله : «فغوى» الجمهور على فتح الواو بعدها ألف وتقدم تفسيرها.

وقيل : معناه بشم من قولهم : غوي البعير (١٥) بكسر الواو والياء إذا (١٦) أصابه ذلك (١٧). وحكى أبو البقاء هذه قراءة وفسروها بهذا المعنى (١٨).

__________________

(١) في الأصل : جعل كذا ، وفي ب : مثل فعل. وهو تحريف.

(٢) في ب : يفعل كذا ، وهو تحريف.

(٣) وبينه : سقط من الأصل. وفي ب : وبينهما.

(٤) الكشّاف ٢ / ٤٥٠. طفق ، جعل ، أخذ ، أنشأ ، من أفعال المقاربة وهذه الأفعال تدخل على الجملة الاسمية فترفع المبتدأ اسما لها وتنصب الخبر خبرا لها ، ولا يكون الخبر إلا جملة فعلية فعلها مضارع ويمتنع اقترانها ب «أن» لما بينهما وبين «أن» من المنافاة لأن المقصود بها الحال لأن معناها الشروع في الفعل ، و«أن» للاستقبال. انظر شرح المفصل ٧ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٥) بكسر الخاء وتشديد الصاد ـ قراءة الحسن. المختصر ٩٠ ، والإتحاف ٣٠٨. جعلها من (يختصفان) فأدغم التاء في الصاد ، وحرك الخاء بالكسر ، لاجتماع الساكنين. انظر معاني القرآن للأخفش ٢ / ٥١٥.

(٦) في ب : لسوآتهما. وهو تحريف.

(٧) انظر الكشّاف ٢ / ٤٥٠.

(٨) ما بين القوسين سقط من ب.

(٩) وضلّ : سقط من ب.

(١٠) انظر البغوي ٦ / ٤٦٣.

(١١) انظر البغوي ٦ / ٤٦٣.

(١٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(١٣) انظر تأويل مشكل القرآن (٤٠٣).

(١٤) ما بين القوسين في ب : حتى يعاونه ويعتاده. وهو تحريف.

(١٥) غوى الفصيل : بشم من اللّبن وفسد جوفه. والبشم : التخمة ، وقيل هو أن يكثر من الطعام حتى يكربه. اللّسان (غوى ، بشم).

(١٦) في ب : بكسر الراء وإذا. وهو تحريف.

(١٧) انظر تأويل مشكل القرآن (٤٠٢).

(١٨) قال أبو البقاء : (وقرىء شاذا بالياء وكسر الواو ، وهو من غوى الفصيل إذا بشم على اللّبن ، وليست بشيء) البيان ٢ / ٩٠٦.

٤٠٩

قال الزمخشري : وعن بعضهم «فغوى» (١) فبشم من كثرة الأكل ، وهذا (٢) وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها (٣) ألفا ، فيقول في فني ، وبقي : فنا وبقا (٤) ، وهم بنو طيىء تفسير خبيث(٥).

قال شهاب الدين : كأنه لم يطلع على أنه قرىء (٦) بكسر الواو (٧) ، ولو اطلع عليها لردها ، وقد فرّ القائل بهذه المقالة من نسبة آدم ـ عليه‌السلام (٨) ـ إلى الغي (٩).

فصل(١٠)

تمسك بعضهم (١١) بقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) في صدور الكبيرة عنه من وجهين :

أحدهما (١٢) : أن العاصي اسم للذمّ فلا يطلق (١٣) إلا على صاحب الكبيرة ، ولقوله تعالى (١٤) : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ (١٥) خالِدِينَ ١٦) فِيها)(١٧) ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلا يعاقب عليه.

الثاني : أن الغواية والضلالة (١٨) اسمان مترادفان ، والغي ضد الرشد ، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه.

وأجيب (١٩) عن الأول : بأن المعصية مخالفة الأمر (٢٠) ، والأمر قد يكون بالواجب وبالندب ، فإنك تقول : أمرته فعصاني ، وأمرته بشرب الدواء فعصاني وإذا كان كذلك لم يمتنع (٢١) إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه تاركا للمندوب فأجاب المستدل بأنا قد بيّنّا أن ظاهر القرآن يدل على أنّ العاصي يستحق العقاب ، والعرف يدل على أنه اسم (٢٢) ذم ، فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب ، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصيا لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة ، لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب. فإن قيل : وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز (٢٣) والمجاز لا يطرد.

__________________

(١) في ب : قال الزمخشري. وغوى غيره فغوى. وهو تحريف.

(٢) في ب : هذا.

(٣) في ب : ما بعدها. وهو تحريف.

(٤) في ب : فيقول في نفي معنا. وهو تحريف.

(٥) الكشاف ٢ / ٤٥٠.

(٦) في ب : قرأ. وهو تحريف.

(٧) وهي القراءة الذي حكاها أبو البقاء.

(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٩) الدّر المصون : ٢ / ٤٠.

(١٠) في ب : فإن قيل.

(١١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٧.

(١٢) في الأصل : الأولى.

(١٣) في الأصل : ينطلق. وهو تحريف.

(١٤) تعالى : سقط من ب.

(١٥) نار : سقط من الأصل.

(١٦) في النسختين خالدا. وهو تحريف.

(١٧) [الجن : ٢٣].

(١٨) في ب : والضّلال.

(١٩) في ب : والجواب.

(٢٠) في ب : والأمر. وهو تحريف.

(٢١) في ب : لم يمنع.

(٢٢) اسم : سقط من ب.

(٢٣) في ب : مجازا. وهو تحريف.

٤١٠

قلنا (١) : لما سلمت كونه مجازا فالأصل عدمه ، وأما قوله (٢) : يقال (٣) أمرته بشرب الدواء فعصاني ، قلنا (٤) : لا نسلّم أن هذا الاستعمال مروي (٥) عن العرب ، ولئن سلّمنا ذلك لكنهم إنما يطلقون ذلك إذا أجزموا عليه بالفعل (٦). وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلا ، وإن لم يكن الوجوب حاصلا ، وذلك يدل على أنّ لفظ العصيان لا يجوز (٧) إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب ، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى(٨) يقتضي الوجوب (٩) ، فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم ـ عليه‌السلام ـ إنما كان لكونه تاركا للواجب ومن الناس من سلّم أن الآية تدل على صدور المعصية منه ، لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر ، وهذا قول عامة المعتزلة. وهذا أيضا ضعيف (١٠) ، لأنا (١١) بينا أن اسم العاصي اسم للذم ، وأن ظاهره يدل على أنه يستحق العقاب ، وذلك لا يليق بالصغيرة ، وأجاب أبو مسلم : بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ، وكذا القول في «غوى».

وهذا أيضا بعيد ، لأن مصالح الدنيا مباحة ، من تركها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم ذم ، ولا يقال : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ)(١٢).

وأما التمسك بقوله : «فغوى» فأجابوا عنه من وجوه :

أحدها : أنه خاب من نعيم الجنة ، لأنه إنما أكل من الشجرة ليدوم ملكه ، فلما أكل زال ، فلما خاب سعيه قيل : إنّه غوى.

وتحقيقه أن الغيّ ضدّ الرشد ، والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود ، ومن توصل بشيء إلى شيء فحصل ضد مقصوده كان ذلك غيا.

وثانيها : قال بعضهم غوى أي : بشم من كثرة الأكل (١٣).

قال ابن الخطيب : والأولى عندي في هذا الباب أن يقال : هذه الواقعة كانت قبل النبوة ، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة. وهاهنا بحث لا بد منه ، وهو أن ظاهر القرآن وإن دلّ على أن آدم عصى وغوى (١٤) ، ولكن ليس لأحد أن يقول : إن آدم كان عاصيا غاويا.

ويدل على صحة هذا القول أمور :

__________________

(١) في ب : فالجواب.

(٢) في ب : قولك.

(٣) يقال : سقط من ب.

(٤) قلنا : سقط من ب.

(٥) في الأصل : يروى.

(٦) في ب : بالعقل. وهو تحريف.

(٧) في ب : لا يتحقق أي لا يجوز.

(٨) تعالى : سقط من ب.

(٩) من هنا سقط من ب ، وأشرت إليه من بدايته لكثرته.

(١٠) في الأصل : ضعيفا.

(١١) في الأصل : لا.

(١٢) من الآية : (٢٢) من سورة الأعراف.

(١٣) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٧ ـ ١٢٨.

(١٤) في النسختين : وإن دلّ على قوله : وعصى وغوى. وهو تحريف.

٤١١

أحدها : قال العتبي (١) : يقال للرجل يخيط ثوبه خاط ثوبه ، ولا يقال : هو خياط حتى يعاوده ويعتاده ، ويصير معروفا بالخياطة.

وهذه الزلة لم تصدر عن آدم إلا مرة واحدة ، فوجب أن لا يجوز إطلاق الاسم عليه.

وثانيها : أن على تقدير أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة ، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرّفه بالرسالة والنبوة إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن (٢) أسلم بعد الكفر أو شرب أو زنا ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك كافر أو شارب أو زان (٣) فكذا هنا.

وثالثها : أن قولنا : عاص وغاو (٤) يوهم كونه عاصيا في أكثر الأشياء ، (وغاويا عن معرفة الله تعالى) (٥) ولم ترد هاتان اللفظتان في القرآن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عصى فيها ، فكأنه قال : عصى في كيت وكيت ، وذلك لا يوهم ما ذكرنا.

ورابعها : أنه يجوز (٦) من الله ما لا يجوز من غيره ، كما يجوز للسيد من ولده وعبده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغيره (٧).

قوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) أي : اختاره واصطفاه ، (فَتابَ عَلَيْهِ) بالعفو وهداه إلى التوبة حين قال : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)(٨).

قال عليه‌السلام : لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاؤه أكثر ولو جمع ذلك إلى نوح لكان بكاؤه أكثر ، وإنما سمي نوحا لنوحه على نفسه. ولو جمع ذلك كله إلى بكاء آدم على خطيئته كان بكاؤه أكثر (٩).

قال وهب : لمّا كثر بكاؤه أمره الله تعالى أن يقول : «لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنك خير الغافرين» فقالها آدم ، ثم قال : قل «سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب» (١٠).

قال ابن عباس : هذه (١١) الكلمات التي تلقاها آدم من ربه (١٢).

__________________

(١) هو محمد بن عبيد. من ولد عتبة بن أبي سفيان بن حرب ، والأغلب عليه الأخبار وأكثر أخباره عن بني أمية وأيامهم ، وكان العتبي شاعرا ، وأصيب ببنين له فكان يرثيهم ، وكان مستهترا بالشراب ، مات سنة ٢٢٨ ه‍. المعارف ٥٣٨.

(٢) في النسختين : لم. والصواب ما أثبته.

(٣) في الأصل : زاني.

(٤) في النسختين : عاصي وغاوي.

(٥) ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.

(٦) في النسختين : أنه لا يجوز.

(٧) الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٨.

(٨) من قوله تعالى : «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لن وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» [الأعراف : ٢٣].

(٩) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٩.

(١٠) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٩.

(١١) في النسختين : هن.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٩.

٤١٢

قوله تعالى : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى)(١٢٧)

قوله : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) هنا سؤال (١) وهو أن قوله : «اهبطا» إما أن يكون خطابا مع شخصين أو أكثر ، فإن كان خطابا مع شخصين فكيف قال بعده : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) وهو خطاب الجمع؟ وإن كان خطابا (٢) بالجمع فكيف قال : «اهبطا»؟ وأجاب أبو مسلم : بأن الخطاب لآدم ومعه ذريته ، ولإبليس ومعه ذريته ، ولكونهما جنسين صح قوله : «اهبطا» ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ).

وقال الزمخشري : لما كان آدم وحواء عليهما‌السلام أصل (٣) البشر اللذين (٤) منهما تفرعوا كأنهما البشر أنفسهما ، فخوطبا مخاطبتهم (٥) ، فقيل : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) على لفظ الجماعة (٦)(٧).

ومن قال : بأنّ أقلّ الجمع اثنان ، أو بأنه يعبر عن الاثنين بلفظ الجمع ، كقوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)(٨) فلا يحتاج إلى التأويل.

قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) تقدم تفسيره (٩).

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) وهذا يدل (١٠) على أن المراد الذرية والمراد بالهدى الرسل ، وقيل : الآيات والأدلة ، وقيل : القرآن (١١).

(فَلا يَضِلُّ) في الدّنيا ، (وَلا يَشْقى) في الآخرة ، لأنه تعالى يهديه إلى الجنة.

__________________

(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٢) في النسختين : خطأ. وهو تحريف.

(٣) في النسختين : أصل. وهو تحريف.

(٤) في الكشاف : والسببين اللذين. وفي النسختين : الذين.

(٥) في النسختين : فخوطبوا مخاطبتهما. وهو تحريف.

(٦) الكشاف ٢ / ٤٥٠.

(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٨) [التحريم : ٤].

(٩) في سورة البقرة عند قوله تعالى : «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» [البقرة : ٣٦].

(١٠) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٣٠. بتصرف.

(١١) والتحقيق أن الهدى عبارة عن الدلالة فيدخل فيه ذلك.

٤١٣

وقيل : لا يضلّ ولا يشقى في الدّنيا. فإن قيل : المتبع لهدى الله قد يشقى في الدنيا.

فالجواب : أن المراد لا يضل في الدين ، ولا يشقى بسبب الدين ، فإن حصل بسبب آخر فلا بأس. ولما وعد تعالى من يتبع الهدى أتبعه بالوعيد لمن أعرض فقال : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى على ما تقدم (١).

قوله : «ضنكا» صفة لمعيشة ، وأصله المصدر ، فكأنه قال : معيشة ذات ضنك ، فلذلك لم يؤنث ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد (٢). وقرأ الجمهور «ضنكا» بالتنوين وصلا وإبداله ألفا وقفا كسائر المعربات (٣).

وقرأت فرقة «ضنكى» بألف كسكرى (٤). وفي هذه الألف احتمالان :

أحدهما : أنها بدل من التنوين (٥) ، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف كما تقدم في نظائره ، وسيأتي منها بقية إن شاء الله تعالى.

والثاني : أن تكون ألف التأنيث ، بني المصدر على (فعلى) نحو دعوى. والضنك الضيق والشدة (٦) ، يقال منه : ضنك عيشه يضنك ضناكة وضنكا ، وامرأة ضناك كثيرة لحم البدن ، كأنهم تخيلوا ضيق جلدهابه(٧).

فصل

قال جماعة من المفسرين : الكافر بالله يكون حريصا على الدنيا طالبا للزيادة أبدا فعيشه ضنك ، وأيضا فمن الظلمة من ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة بكفره قال تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)(٨) وقال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ

__________________

(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٣٠. بتصرف.

(٢) يقع المصدر نعتا كثيرا ، وكان حقه أن لا ينعت به لجموده ، ولكن وقوعه نعتا قصدا للمبالغة أو توسعا بحذف مضاف ، وهو عند الكوفيين على التأويل بالمشتق ، ويلزم حينئذ الإفراد والتذكير ، نحو رجل عدل ، وامرأة عدل ، ورجلان عدل ، ورجال عدل. قال ابن مالك :

ونعتوا بمصدر كثيرا

فالتزموا الإفراد والتذكيرا

انظر شرح الأشموني ٣ / ٦٤.

(٣) وذلك لأن الوقف على النون المنصوب غير المؤنث بالتاء يكون بإبدال التنوين ألفا. انظر التبيان ٢ / ٩٠٧ ، البحر المحيط ٦ / ٢٨٧ ، شرح التصريح ٢ / ٣٣٨.

(٤) وهي قراءة الحسن. المختصر : (٩٠) ، البحر المحيط ٦ / ٢٨٦.

(٥) كقراءة الجمهور في حال الوقف ، وهنا بالألف وصلا ووقفا إجراء للوصل مجرى الوقف كما بين ابن عادل.

(٦) قال الزجاج : (الضنك أصله في اللغة الضيق والشدّة ، ومعناه ـ والله أعلم ـ أنّ هذه المعيشة الضنك في نار جهنم. وأكثر ما جاء في التفسير أنه عذاب القبر) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٣٧٨.

(٧) انظر اللسان (ضنك).

(٨) [البقرة : ٦١].

٤١٤

لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (١) ، وقال : ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ (٢) بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(٣)(٤) وقال ابن مسعود وأبو (٥) هريرة وأبو سعيد الخدري ـ (رضي الله عنم)(٦) ـ : المراد بالعيشة الضنكى عذاب القبر (٧).

وقال الحسن وقتادة والكلبي : هو الضيق في الآخرة في جهنم ، فإن طعامهم الضريع (٨) والزقوم (٩) ، وشرابهم الحميم (١٠) والغسلين (١١) ، فلا يموتون فيها ولا يحيون (١٢). وقال ابن عباس (١٣) : المعيشة الضنك هو أن يضيق عليه أبواب (١٤) الخير فلا يهتدي لشيء منها (١٥). وعن عطاء : المعيشة الضّنك هي معيشة الكافر ، لأنه غير (١٦) موقن بالثواب والعقاب (١٧).

وروي عنه ـ عليه‌السلام (١٨) ـ أنّه قال : عقوبة المعصية ثلاثة ضيق المعيشة والعسر في اللذة ، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله (تعالى (١٩)) (٢٠).

قوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى).

قرأ العامة «ونحشره» بالنون ورفع الفعل على الاستئناف.

وقرأ أبان بن تغلب في آخرين بتسكين الراء (٢١) ، وهي محتملة لوجهين :

أحدهما : أن يكون الفعل مجزوما نسقا على محل (٢٢) جزاء الشرط ، وهو الجملة من قوله (٢٣) : (فَإِنَ (٢٤) لَهُ مَعِيشَةً) فإنّ محلها الجزم (٢٥) ، فهي كقراءة : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ

__________________

(١) [المائدة : ٦٦].

(٢) ما بين القوسين سقط من ب.

(٣) [الأعراف : ٩٦].

(٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٣٠.

(٥) في الأصل : وأبي. وهو تحريف.

(٦) ما بين القوسين سقط من ب.

(٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٣٠.

(٨) الضريع : نبت يقال له الشبرق ، وأهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس. اللسان (ضرع).

(٩) الزقوم : شجرة غبراء صغيرة الورق مدورتها لا شوك لها ، ذفرة مرة ، لها كعابر في سوقها كثيرة ، ولها وريد ضعيف جدا بجرسه النحل ، ونورتها بيضاء ، ورأس ورقها قبيح جدا ، اللسان (زقم).

(١٠) الحميم : الماء الحار. اللسان (حمم).

(١١) الغسلين : ما يسيل من جلود أهل النار كالقيح وغيره كأنه يغسل عنهم. اللسان (غسل).

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٣٠ ـ ١٣١.

(١٣) في ب : وقال الضحاك وابن عباس.

(١٤) في ب : أسباب.

(١٥) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٣١.

(١٦) في ب : عز. وهو تحريف.

(١٧) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٣١.

(١٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(١٩) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٣١.

(٢٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(٢١) المختصر ٩٠ ، المحتسب ٢ / ٦٠ ، البحر المحيط ٦ / ٢٨٧.

(٢٢) في ب : على نسق. وهو تحريف.

(٢٣) في ب : من له. وهو تحريف.

(٢٤) فإن : سقط من ب.

(٢٥) لأنها جواب الشرط الذي في قوله : «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي» وكأنه قال : ومن أعرض عن ذكري يعش ـ

٤١٥

فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ)(١) بتسكين الراء (٢).

والثاني : أن يكون السكون سكون تخفيف (نحو «يأمركم» (٣) وبابه) (٤).

وقرأت فرقة بياء الغيبة ، وهو الله تعالى أو الملك (٥). وأبان بن تغلب في رواية «ونحشره» بسكون الهاء وصلا (٦) ، وتخريجها إما على لغة بني عقيل وبني كلاب (٧) وإمّا على إجراء الوصل مجرى الوقف (٨). و«أعمى» نصب على الحال (٩).

فصل

قال ابن عباس : أعمى البصر (١٠). وقال مجاهد والضحاك ومقاتل : أعمى (١١) عن الحجة ، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس (١٢).

قال القاضي : وهذا ضعيف ، لأن في القيامة لا بد أن يعلمهم الله بطلان ما كانوا عليه حتى يتميز (١٣) لهم الحق من الباطل ، ومن هذا حاله لا يوصف بذلك إلا مجازا ،

__________________

ـ عيشة ضنكا ونحشره. والعطف هنا على المحل. والعطف على المحل يجوز كما يجوز العطف على اللفظ نحو ليس زيد بقائم ولا قاعدا بالنصب ، وله عند المحققين ثلاثة شروط : أحدها إمكان ظهوره في الفصيح ، ألا ترى أنه يجوز في المثال السابق أن تسقط الباء فتنصب ، فعلى هذا لا يجوز مررت بزيد وعمرا خلافا لابن جني ، لانه لا يجوز مررت زيدا. ولا تختص مراعاة الموضع بأن يكون العامل في اللفظ زائدا كما مثلنا ، بدليل قوله : فإن لم تجد من دون عدنان والدا ... ودون معدّ فلتزعك العواذل ف (دون معدّ) منصوب ، وهو معطوف على محل (من دون عدنان) وظهر النصب في المعطوف ، لأن العامل وهو (وجد) كما يتعدى إلى ثاني مفعوليه ب (من) يتعدى إليه بنفسه.

الثاني أن يكون الموضع بحق الأصالة ، فلا يجوز هذا ضارب زيدا وأخيه ، لأن الوصف المستوفي لشروط العمل الأصل إعماله لا إضافته لالتحاقه بالفعل.

الثالث وجود المحرز ، أي الطالب لذلك المحل ، وهذا الشرط اشترطه بعض البصريين ، ولم يشترطه الكوفيون. وانظر المحتسب ٢ / ٢٨٧ المغني ٢ / ٤٧٣ ـ ٤٧٦.

(١) [الأعراف : ١٨٦].

(٢) وهي قراءة حمزة والكسائي. «ويذرهم» على هذه القراءة معطوف على محل قوله : «فَلا هادِيَ لَهُ» فهو في محل جزم لأنه جواب الشرط. انظر السبعة (٢٩٩) الكشف ١ / ٣٨٠.

(٣) من قوله تعالى :«إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» [البقرة : ٦٧] وذلك لأنهم كرهوا أن يتوالى في كلامهم في كلمة واحدة أربع متحركات أو خمس ليس فيهن ساكن. وقرأ بالتخفيف أبو عمرو. وانظر الكتاب ٤ / ٢٠٢ ، السبعة ١٥٥.

(٤) ما بين القوسين سقط من ب.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٨٧.

(٦) المختصر (٩٠) الكشاف ٢ / ٤٥١ ، البحر المحيط ٦ / ٢٨٧.

(٧) فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء. البحر المحيط ٦ / ٢٨٧.

(٨) انظر الكشاف ٢ / ٤٥١.

(٩) من الهاء في «نحشره» التبيان ٢ / ٩٠٧.

(١٠) انظر البغوي ٥ / ٤٦٦.

(١١) أعمى : سقط من ب.

(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٣١.

(١٣) في الأصل : يميز.

٤١٦

ولا يليق بهذا قوله : (وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) ، ولم يكن كذلك في حال الدنيا. ومما يؤيد ذلك أنه تعالى علّل ذلك العمى بأن المكلف نسي الدلائل فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النّسيان لم يكن (١) للمكلف بسبب ذلك ضرر (٢).

قوله : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) اعلم أنّ الله ـ تعالى (٣) ـ جعل هذا العمى جزاء على تركه اتباع الهدى.

وقوله : (وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) جملة حالية من مفعول «حشرتني». وفتح الياء من «حشرتني» قبل الهمزة نافع وابن كثير (٤).

قوله : (كَذلِكَ أَتَتْكَ) قال أبو البقاء : «كذلك» في موضع نصب أي ، حشرنا (٥) مثل ذلك أو فعلنا مثل ذلك أو إتيانا مثل ذلك أو جزاء مثل إعراضك أو نسيانا (٦) وهذه الأوجه التي ذكرها تكون الكاف في بعضها نصبا (على المصدر ، وفي بعضها نصبا) (٧) على المفعول به.

ولم يذكر الزمخشري فيه غير المفعول به فقال : أي : مثل ذلك فعلت أنت ، ثم فسّر بأنّ آياتنا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر ، فتركتها وأعرضت عنها (٨). (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) تترك في النار.

قوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) أي ومثل ذلك الجزاء نجزي (٩)(مَنْ أَسْرَفَ) أي : أشرك ، (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) مما يعذبهم في الدنيا (والقبر ، «وأبقى» وأدوم)(١٠).

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى)(١٣٠)

قوله : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ). في فاعل (يهد) أوجه (١١) :

أحدها (١٢) : أنه (١٣) ضمير الباري تعالى ، ومعنى (يهدي) يبيّن ، ومفعول (يهدي)

__________________

(١) في ب : إن لم يكن. وهو تحريف.

(٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٣١.

(٣) في ب : اعلم أنه تعالى.

(٤) الكشف ٢ / ١٠٩ ، الإتحاف (٣٠٨).

(٥) في النسختين : حشرا.

(٦) التبيان ٢ / ٩٠٧.

(٧) ما بين القوسين سقط من ب.

(٨) الكشاف ٣ / ٤٥١.

(٩) فالكاف في «وكذلك» في موضع نصب على المفعول به.

(١٠) ما بين القوسين سقط من ب.

(١١) في ب : في ذلك أوجه. وهو تحريف.

(١٢) في ب : الأول.

(١٣) في ب : أنها. وهو تحريف.

٤١٧

محذوف تقديره : أفلم يبيّن الله لهم العبر وفعله بالأمم المكذبة.

قال أبو البقاء : وفي فاعله وجهان :

أحدهما : ضمير اسم الله تعالى وعلّق (بيّن) هنا ، إذا كانت بمعنى أعلم كما علقه في قوله تعالى (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ)(١)(٢).

قال أبو حيّان : و«كم» هنا خبرية ، والخبرية لا تعلّق العامل (عنها) (٣)(٤).

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون فيه ضمير الله ، أو الرسول ، ويدل عليه القراءة بالنون (٥).

الوجه الثاني (٦) : أنّ الفاعل مضمر يفسره ما دلّ عليه من الكلام بعده ، قال الحوفي : (كَمْ أَهْلَكْنا) قد دلّ على هلاك القرون التقدير : أفلم نبيّن لهم هلاك من أهلكنا من القرون ومحونا آثارهم فيتعظوا بذلك (٧).

وقال أبو البقاء : الفاعل ما دلّ عليه «أهلكنا» أي إهلاكنا والجملة مفسرة له (٨).

الوجه الثالث (٩) : أنّ الفاعل نفس الجملة بعده.

قال الزمخشري : فاعل «لم (يَهْدِ) الجملة بعده يريد : ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه ، ونظيره قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ)(١٠).

أي : تركنا عليه هذا الكلام (١١).

قال أبو حيّان : وكون الجملة فاعل «يهد» هو مذهب كوفيّ (١٢) ، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ)(١٠) فإن «تركنا» معناه معنى القول (١٣) فحكيت به الجملة ، فكأنه قيل : وقلنا عليه ، وأطلقنا عليه هذا اللفظ ، (والجملة تحكى بمعنى القول كما تحكى بالقول) (١٤)(١٥).

__________________

(١) [إبراهيم : ٤٥].

(٢) التبيان ٢ / ٩٠٧.

(٣) البحر المحيط ٦ / ٢٨٩.

(٤) في ب : عليها. وهو تحريف.

(٥) الكشاف ٢ / ٤٥١. والقراءة بالنون قراءة ابن عباس والسّلمي وغيرهما. انظر القرطبي ١١ / ٢٦٠ ، البحر المحيط ٦ / ٢٨٨.

(٦) الوجه : سقط من ب.

(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٨٩.

(٨) التبيان ٢ / ٩٠٧.

(٩) في ب : الوجه الثاني. وهو تحريف.

(١٠) الآيتان (٧٨ ، ٧٩) من سورة الصّافات. والاستشهاد بهما هو أن الجملة هنا وقعت مفعولا ، وفي الآية التي معنا وقعت فاعلا. انظر التبيان ٢ / ١٠٩٠.

(١١) الكشاف ٢ / ٥١.

(١٢) اختلف النحاة في وقوع الجملة فاعلا ، فمذهب البصريين أن الفاعل لا يكون جملة مطلقا. وهشام وثعلب أجازاه مطلقا نحو يعجبني قام زيد. والفراء وجماعة فصّلوا ذلك فقالوا : إن كان الفاعل قلبيا ووجد معلّق عن العمل نحو ظهر لي أقام زيد صحّ وإلا فلا. وقد ذكرنا ذلك عند قوله تعالى:«فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى» [طه : ١١].

(١٠) الآيتان (٧٨ ، ٧٩) من سورة الصّافات. والاستشهاد بهما هو أن الجملة هنا وقعت مفعولا ، وفي الآية التي معنا وقعت فاعلا. انظر التبيان ٢ / ١٠٩٠.

(١٣) في ب : فإن تركناه معنى القول.

(١٤) البحر المحيط ٦ / ٢٨٩.

(١٥) ما بين القوسين سقط من ب.

٤١٨

الوجه (١) الرابع (٢) : أنه ضمير الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، لأنه هو المبيّن لهم بما (٣) يوحى إليه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ، وهذا الوجه تقدم نقله عن الزمخشري (٤).

الوجه الخامس (٥) : أنّ الفاعل محذوف ، نقل ابن عطية عن بعضهم (٦) : أنّ الفاعل مقدر تقديره : الهدى أو الأمر أو النّظر والاعتبار.

قال ابن عطيّة : وهذا عندي أحسن التقادير (٧).

قال أبو حيّان : وهو قول المبرّد ، وليس بجيد إذ فيه (٨) حذف الفاعل ، وهو لا يجوز عند البصريين(٩) ، وتحسينه أن يقال : الفاعل مضمر تقديره : يهد هو أي : الهدى (١٠) قال شهاب الدين : ليس في هذا القول أن الفاعل محذوف بل فيه أنه مقدر ، ولفظ مقدّر كثيرا ما يستعمل في المضمر (١١). وأما مفعول «يهد» ففيه وجهان :

أحدهما : أنه محذوف.

والثاني : أن يكون الجملة من «كم» وما في خبرها ، لأنها معلقة له ، فهي سادة مسدّ مفعوله(١٢).

__________________

(١) الوجه : سقط من ب.

(٢) في ب : الثالث.

(٣) في ب : مما.

(٤) عند الحديث عن الوجه الأول ، حيث قال الزمخشري : (ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول ، ويدل عليه القراءة بالنون) الكشاف ٢ / ٤٥١. وانظر الوجه الأول.

(٥) ما بين القوسين سقط من ب ، وفيه : الرابع.

(٦) عن بعضهم : سقط من ب.

(٧) تفسير ابن عطية ١٠ / ١١٠.

(٨) في ب : و.

(٩) وذلك لأنّ الفاعل عمدة في الكلام لا يجوز حذفه ، لأن الفعل وفاعله كجزء كلمة لا يستغنى بأحدهما عن الآخر ، وأجاز الكسائي حذفه تمسكا بقوله :

فإن كان لا يرضيك حتى تردني

إلى قطريّ لا إخالك راضيا

وأوله الجمهور على أن التقدير فإن كان هو ، أي : ما نحن عليه من السلامة فالفاعل ضمير مستتر عائد على معلوم من المقام لا محذوف. ويستثنى من عدم جواز حذفه أبواب : باب النائب عن الفاعل نحو قضي الأمر والاستثناء المفرغ نحو ما قام إلا زيد. والتعجب نحو «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ» والمصدر نحو ضربا زيدا. والفعل المؤكد بالنون نحو «وَلا يَصُدُّنَّكَ».

انظر شرح الأشموني وحاشية الصبان ٢ / ٤٤ ـ ٤٥.

(١٠) البحر المحيط ٦ / ٢٨٩.

(١١) في ب : الضمير.

(١٢) الدر المصون ٥ / ١٤. الجملة تقع مفعولا في ثلاثة أبواب : أحدها : باب الحكاية بالقول أو مرادفه نحو «قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ».

الباب الثاني : باب ظنّ وأعلم فإنّها تقع مفعولا ثانيا لظنّ وثالثا لأعلم وذلك لأن أصلهما الخبر ، ووقوعه جملة سائغ. الباب الثالث : باب التعليق ، وذلك غير مختص بباب ظن ، بل هو جائز في كل فعل قلبي كما هنا.

انظر المغني ٢ / ٤١٢ ـ ٤١٦.

٤١٩

الوجه السادس (١) : أن الفاعل «كم» ـ قاله الحوفي (٢) ، وأنكره على قائله (٣) لأن «كم» استفهام لا يعمل فيها ما قبلها (٤).

قال أبو حيّان : وليست «كم» هنا استفهامية بل هي خبرية (٥). واختار (٦) أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى ، فقال (٧) : وأحسن التخاريج أن يكون الفاعل ضميرا عائدا على الله تعالى ، كأنّه قال أفلم يبيّن الله ، ومفعول يبين محذوف ، أي العبر بإهلاك القرون السابقة (٨) ، ثم قال : (كَمْ أَهْلَكْنا) أي : كثيرا أهلكنا (٩) ، ف «كم» مفعولة (١٠) ب «أهلكنا» (١١) والجملة كأنها مفسرة للمفعول المحذوف ل «يهد» (١٢).

قال القفّال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيّنا لهم كما جعل (١٣) مثل ذلك واعظا لهم وزاجرا(١٤). وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن (١٥) السلمي «أفلم (١٦) نهد» بالنون المؤذنة بالتعظيم (١٧). قال الزجاج : يعني أفلم (١٦) نبيّن لهم بيانا يهتدون (١٨) به لو تدبروا وتفكروا.

وقوله : (كَمْ أَهْلَكْنا) فالمراد به المبالغة في كثرة من أهلكه الله تعالى من القرون الماضية (١٩). قوله: (مِنَ الْقُرُونِ) في محل نصب (نعت ل «كم») (٢٠) لأنّها نكرة ويضعف جعله حالا من النكرة (٢١) ، ولا يجوز أن يكون تمييزا على قواعد البصريين (٢٢)

__________________

(١) في ب : الخامس.

(٢) في ب : قال الحوفي.

(٣) والكوفيون هم القائلون بأن فاعل «يهد» هو «كم». وانظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٧٨ ، البيان ٢ / ١٥٤ ، القرطبي ١١ / ٢٦٠.

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٨٩.

(٥) المرجع السابق. وأبو حيان هو القائل وحده بأن «كم» خبرية.

(٦) في ب : وأشار.

(٧) أي أبو حيان ، وأرجح ما اختاره أبو حيّان من كون الفاعل ضمير الله تعالى.

(٨) في ب : السالفة.

(٩) في ب : هلكنا.

(١٠) في ب : مفعول.

(١١) عند البصريين. انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٧٨ ، التبيان ٢ / ٩٠٨.

(١٢) البحر المحيط ٦ / ٢٨٩.

(١٣) في ب : كما قد جعل.

(١٤) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٣٢.

(١٥) في ب : وأبو عبد الله.

(١٦) في النسختين : أو لم. وهو تحريف.

(١٧) انظر القرطبي ١١ / ٢٦٠ ، البحر المحيط ٦ / ٢٨٨. والزمخشري قد استدلّ بهذه القراءة على أنّ فاعل «يهد» ضمير الله أو الرسول. انظر الكشاف ٢ / ٤٥١.

(١٦) في النسختين : أو لم. وهو تحريف.

(١٨) معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٣٧٩.

(١٩) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٣٢.

(٢٠) ما بين القوسين في النسختين : نعتا.

(٢١) لأنه لم يتقدم على النكرة حتى يكون حالا منها.

(٢٢) لأن مميز (كم) الاستفهامية لا يكون مجموعا عندهم ، ولأن القرون معرفة فيجوز أن يكون التمييز محذوفا ، أي قرنا من القرون. انظر الكافية ٢ / ٩٦.

٤٢٠