اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

والثاني : أنها منصوبة المحلّ ، فقدّره أبو البقاء (١) ب «أفعل» مثل ما طلبت ، وهو كناية عن مطلوبه ، فجعل ناصبه مقدّرا ، وظاهره أنه مفعول به.

وقال الزمخشريّ (٢) : «أو نصب ب «قال» و«ذلك» إشارة إلى مبهم يفسره (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، ونحوه : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر : ٦٦].

وقرأ (٣) الحسن «وهو عليّ هيّن» ، ولا يخرّج هذا إلا على الوجه الأول ، أي : الأمر كما قلت ، وهو على ذلك يهون عليّ.

ووجه آخر : وهو أن يشار ب «ذلك» إلى ما تقدّم من وعد الله ، لا إلى قول زكريّا ، و«قال» محذوف في كلتا القراءتين. يعني قراءة العامّة وقراءة الحسن ـ أي : قال : هو عليّ هيّن ، قال : وهو عليّ هيّن ، وإن شئت لم تنوه ؛ لأنّ الله هو المخاطب ، والمعنى أنه قال ذلك ، ووعده وقوله الحقّ».

وفي هذا الكلام قلق ؛ وحاصله يرجع إلى أنّ «قال» الثانية هي الناصبة للكاف.

وقوله : «وقال محذوف» يعني تفريعا على أنّ الكلام قد تمّ عند «قال ربّك» ويبتدأ بقوله : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ). وقوله : «وإن شئت لم تنوه» ، أي : لم تنو القول المقدّر ؛ لأنّ الله هو المتكلّم بذلك.

وظاهر كلام بعضهم : أنّ «قال» الأولى مسندة إلى ضمير الملك ، وقد صرّح بذلك ابن جرير ، وتبعه ابن عطيّة.

قال الطبريّ : «ومعنى قوله (قالَ كَذلِكَ) ، أي : الأمران اللذان ذكرت من المرأة العاقر والكبر هو كذلك ، ولكن قال ربّك ، والمعنى عندي : قال الملك : كذلك ، أي : على هذه الحال ، قال ربّك : هو عليّ هيّن» انتهى.

وقرأ الحسن البصري (٤) «عليّ» بكسر ياء المتكلم ؛ كقوله [الطويل]

٣٥٨٢ أ ـ عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة

لوالده ليست بذات عقارب (٥)

أنشدوه بالكسر. وتقدم الكلام على هذه المسألة في قراءة حمزة «بمصرخيّ» [إبراهيم : ٢٢].

قوله : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ) هذه الجملة مستأنفة ، وقرأ الأخوان (٦) «خلقناك» أسنده إلى الواحد المعظّم نفسه ، والباقون «خلقتك» بتاء المتكلّم.

وقوله : (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) جملة حالية ، ومعنى نفي كونه شيئا ، أي : شيئا يعتدّ به ؛ كقوله : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١١١.

(٢) الكشاف ٢ / ٥٠٢.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٠٢.

(٤) الإتحاف ٢ / ٢٣٤.

(٥) تقدم.

(٦) السبعة ٤٠٨ النشر ٢ / ٣١٧ التسيير ١٤٨.

٢١

٣٥٨٢ ب ـ ...........

إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا (١)

وقالوا : عجبت من لا شيء ، ويجوز أن يكون قال ذلك ؛ لأنّ المعدوم ليس بشيء.

فصل

قيل : إطلاق لفظ «الهيّن» في حق الله تعالى مجاز ؛ لأن ذلك إنما يجوز في حقّ من يجوز أن يصعب عليه شيء ، ولكن المراد ؛ أنه إذا أراد شيئا كان.

ووجه الاستدلال بقوله تعالى (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) فنقول : إنه لما خلقه من العدم الصّرف والنفي المحض ، كان قادرا على خلق الذوات والصفات والآثار ، وأما الآن ، فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات ، والقادر على خلق الذوات والصفات والآثار معا أولى أن يكون قادرا على تبديل الصفات ، وإذا أوجده عن عدم ، فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوّة التي عنها يتولّد الماء ان اللذان من اجتماعهما يخلق الولد.

فصل

الجمهور على أنّ قوله : (قالَ : كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ) يقتضي أن القائل لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) قول الله تعالى ، وقوله (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) قول الله تعالى ، وهذا بعيد ، لأنّه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى ، فكيف يصحّ إدراج هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين ، والأولى أن يقال : قائل هذا القول أيضا هو الله تعالى ؛ كما أن الملك العظيم ، إذا وعد عبده شيئا عظيما ، فيقول العبد : من أين يحصل لي هذا ، فيقول : إن سلطانك ضمن لك ذلك ؛ كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطانا ممّا يوجب عليه الوفاء بالوعد ، فكذا ههنا.

قوله : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا).

أي : اجعل لي علامة ودلالة على حمل امرأتي.

فصل

قال بعض المفسّرين : طلب الآية لتحقيق البشارة ، وهذا بعيد ؛ لأن بقول الله تعالى قد تحقّقت البشارة ، فلا يكون إظهار الآية أقوى في ذلك من صريح القول ، وقال آخرون : البشارة بالولد وقعت مطلقة ، فلا يعرف وقتها بمجرّد البشارة ، فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوع ، وهذا هو الحق.

__________________

(١) عجز بيت للمتنبي وصدره :

وضاقت الأرض حتى كان هاربهم

ينظر : ديوانه (١ / ٦٠) ، وروح المعاني ١٦ / ٧٠ ، والكشاف ٢ / ٥٠٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٤.

٢٢

واتفقوا على أن تلك الآية هي تعذر الكلام عليه ، فإن مجرّد السكوت مع القدرة على الكلام لا يكون معجزة ، ثم اختلفوا على قولين :

أحدهما : أنه اعتقل لسانه أصلا.

والثاني : أنه امتنع عليه الكلام مع القوم على وجه المخاطبة ، مع أنه كان متمكنا من ذكر الله ، ومن قراءة التوراة ، وهذا القول عندي أصحّ ؛ لأن اعتقال اللسان مطلقا قد يكون لمرض ، وقد يكون من فعل الله ، فلا يعرف زكريا عليه‌السلام أن ذلك الاعتقال معجز إلا إذا عرف أنه ليس لمرض ، بل لمحض فعل الله تعالى مع سلامة الآلات ، وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر ، فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى ، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام ، مع القوم ، مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءة التوراة ، علم بالضرورة ؛ أن ذلك الاعتقال ليس لعلّة ومرض ، بل هو لمحض فعل الله ، فيتحقق كونه آية ومعجزة ، ومما يقوي ذلك قوله تعالى : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) خص ذلك بالتكلم مع الناس ؛ وهذا يدلّ بطريق المفهوم ؛ أنه كان قادرا على التكلّم مع غير الناس.

قوله : «سويّا» : حال من فاعل «تكلّم» ، وعن ابن عباس : أنّ «سويّا» من صفة الليالي بمعنى «كاملات» ، فيكون نصبه على النعت للظرف ، والجمهور على نصب ميم «تكلّم» جعلوها الناصبة. وابن أبي عبلة بالرفع ، جعلها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، و«لا» فاصلة ، وتقدّم تحقيقه.

وقوله : (أَنْ سَبِّحُوا) : يجوز في «أن» أن تكون مفسّرة ل «أوحى» ، وأن تكون مصدرية مفعولة بالإيحاء ، و (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ظرفا زمان للتسبيح ، وانصرفت «بكرة» ؛ لأنه لم يقصد بها العلميّة ، فلو قصد بها العلمية ، امتنعت من الصّرف ، وسواء قصد بها وقت بعينه ؛ نحو : لأسيرنّ الليلة إلى بكرة ، أم لم يقصد ؛ نحو : بكرة وقت نشاط ؛ لأنّ علميّتها جنسيّة ؛ كأسامة ، ومثلها في ذلك كله «غدوة».

وقرأ طلحة «سبّحوه» بهاء الكناية ، وعنه أيضا : «سبّحنّ» بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكّدا بالثقيلة ، وهو كقوله : (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) [هود : ٨] ، وقد تقدّم تصريفه.

قوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) ، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه ؛ أن يفتح لهم الباب ، فيدخلون ويصلون ؛ إذ خرج عليهم زكريا متغيّرا لونه ، فأنكروه ، فقالوا : ما لك يا زكريا (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ).

قال مجاهد : كتب لهم الأرض ، (أَنْ سَبِّحُوا) ، أي صلوا لله ، (بُكْرَةً) ، غدوة ، (وَعَشِيًّا)، معنا أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا ، فيأمرهم بالصلاة ، فلما كان وقت حمل امرأته ، ومنع الكلام خرج إليهم ، فأمرهم بالصلاة إشارة.

قوله عزوجل : (يا يَحْيى) ، قيل : فيه حذف معناه : وهبنا له يحيى ، وقلنا له : يا يحيى ، (خُذِ الْكِتابَ) ، يعني التوراة ، وقيل يحتمل أن يكون كتابا خصّ الله به يحيى ،

٢٣

كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك ، والأول أولى ؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ، ولا معهود ههنا إلا التوراة.

وقوله (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) يدلّ على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك ، فحذف ذكره ؛ لدلالة الكلام عليه.

قوله : «بقوّة» : حال من الفاعل أو المفعول ، أي : ملتبسا أنت ، أو ملتبسا هو بقوّة ؛ وليس المراد بالقوة القدرة على الأخذ ؛ لأن ذلك معلوم لكلّ أحد ، فيجب حمله على معنى يفيد المدح ، وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة ، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به ، والإحجام عن المنهيّ عنه (١).

قوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).

قال ابن عبّاس : الحكم : النّبوة (٢) «صبيّا» ؛ وهو ابن ثلاث سنين وقيل : الحكم فهم الكتاب ، فقرأ التوراة وهو صغير.

وقيل : هو العقل ، وهو قول معمّر.

وروي أنه قال : ما للّعب خلقنا (٣).

والأوّل أولى ؛ لأنّ الله تعالى أحكم عقله في صباه ، وأوحى إليه ، فإنّ الله تعالى بعث عيسى ويحيى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وهما صبيّان ، لا كما بعث موسى ومحمّدا ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وقد بلغا الأشدّ.

فإن قيل : كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنّبوّة حال الصّبا.

فالجواب : هذا السّائل : إمّا أن يمنع خرق العادات ، أو لا يمنع منه ، فإن منع منه ، فقد سدّ باب النبوات ؛ لأنّ الأمر فيها على المعجزات ، ولا معنى لها إلا خرق العادات ، وإن لم يمنع منه ، فقد زال هذا الاستبعاد ؛ فإنّه ليس استبعاد صيرورة الصّبيّ عاقلا أشدّ من استبعاد انشقاق القمر ، وانفلاق البحر ، و«صبيّا» : حال من «هاء» آتيناه.

قوله (وَحَناناً) : يجوز أن يكون مفعولا به ، نسقا على «الحكم» أي : وآتيناه تحنّنا. والحنان : الرحمة واللّين ، وأنشد أبو عبيدة قول الحطيئة لعمر بن الخطّاب : [المتقارب]

٣٥٨٣ أ ـ تحنّن عليّ هداك المليك

فإنّ لكلّ مقام مقالا (٤)

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٦٣.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٧٠) عن قتادة وعزاه إلى أحمد في «الزهد» وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٧٠) عن معمر بن راشد وعزاه إلى أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي وابن عساكر وعن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وعن ابن عباس مرفوعا وعزاه إلى الحاكم في «تاريخه» وعن معاذ مرفوعا وعزاه إلى ابن مردويه.

(٤) البيت للحطيئة. ينظر : ديوانه ٨٢ ، الطبري ١٦ / ٤٤ ، مجاز القرآن ٢ / ٣ ، البحر ٦ / ١٦٨ ، القرطبي ١١ / ٦٠ ، الكامل ٢ / ١٩٩ ، اللسان «حنن» ، الدر المصون ٤ / ٤٩٥.

٢٤

قال : وأكثر استعماله مثنّى ؛ كقولهم : حنانيك ، وقوله :

٣٥٨٣ ب ـ ...........

حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض (١)

[وجوّز] فيه أبو البقاء (٢) أن يكون مصدرا ، كأنّه يريد به المصدر الواقع في الدعاء ؛ نحو : سقيا ورعيا ، فنصبه بإضمار فعل [كأخواته] ، ويجوز أن يرتفع على خبر ابتداء مضمر ؛ نحو : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨] و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأعراف : ٤٦] في أحد الوجهين ، وأنشد سيبويه (٣) : [الطويل]

٣٥٨٤ ـ وقالت حنان ما أتى بك ههنا

أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف (٤)

وقيل لله تعالى : حنّان ، كما يقال له «رحيم» قال الزمخشريّ : «وذلك على سبيل الاستعارة».

فصل في المراد ب «حنانا»

اعلم أنّ الحنان : أصله من الحنين ، وهو الارتياح ، والجزع للفراق كما يقال : حنين النّاقة ، وهو صوتها ، إذا اشتاقت إلى ولدها ، ذكره الخليل.

وفي الحديث : أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يصلّي إلى جذع في المسجد ، فلمّا اتّخذ المنبر ، وتحوّل إليه ، حنّت تلك الخشبة ، حتّى سمع حنينها (٥). وهذا هو الأصل ، ثمّ يقال : تحنّن فلان على فلان ، إذا [تعطّف](٦) عليه ورحمه.

واختلف الناس في وصف الله تعالى بالحنان ، فأجازه بعضهم ، وجعله بمعنى الرّؤوف الرّحيم ، ومنهم من أباه ؛ لما يرجع إليه أصل الكلمة.

قالوا : ولم يصحّ الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى.

وإذا عرف هذا ، فنقول : في الحنان هاهنا وجهان :

الأول : أن نجعله صفة لله تعالى.

والثاني : أن نجعله صفة ل «يحيى» ، فإن جعلناه صفة لله تعالى ، فيكون التقدير : وآتيناه الحكم حنانا ، أي : رحمة منّا.

ثم هاهنا احتمالات :

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١١١.

(٣) ينظر : الكتاب ١ / ١٦١.

(٤) البيت لمنذر بن درهم الكلبي ينظر : الكتاب ١ / ٣٢٠ والمقتضب ٣ / ٢٢٥ ، شرح المفصل لابن يعيش ١ / ١١٨ ، الصاحبي ٤٢٨ ، الهمع ١ / ١٨٩ ، التصريح ١ / ١٧٧ ، الإنصاف ٣ / ٦ ، الدرر ١ / ٧١٦٣ التهذيب واللسان «حنن» ، الدر المصون ٤ / ٤٩٥.

(٥) أخرجه البخاري (٦ / ٦٩٦) كتاب المناقب : باب علامات النبوة في الإسلام حديث (٣٥٨٣) من حديث ابن عمر.

(٦) في ب : عطف.

٢٥

الأول : أن يكون الحنان من الله تعالى ل «يحيى» ، والمعنى : وآتيناه الحكم صبيّا حنانا [منّا](١) عليه ، أي : رحمة عليه ، «وزكاة» أي : وتزكية ، وتشريفا له.

والثاني : أن يكون الحنان من الله تعالى لزكريّا ، والمعنى : أنا استجبنا لزكريّا دعوته بأن أعطيناه ولدا ثم آتيناه الحكم صبيّا وحنانا من لدنّا على زكريا فعلنا ذلك «وزكاة» أي : تزكية له عن أن يصير مردود الدّعاء.

الثالث : أن يكون الحنان من الله تعالى لأمّة يحيى ـ عليه‌السلام ـ والمعنى : آتيناه الحكم صبيّا حنانا على أمّته ؛ لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده.

وإن جعلناه صفة ليحيى ـ عليه‌السلام ـ ففيه وجوه :

الأول : آتيناه الحكم والحنان على عبادنا ، أي والتعطّف عليهم وحسن النّظر لهم ، كما وصف محمّدا ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ بقوله : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] وقوله: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] وقوله : (وَزَكاةً) أي : شفقة ، ليست داعية إلى الإخلال بالواجب ؛ لأنّ الرأفة واللّين ربّما أورثا ترك الواجب ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] وقال : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٣] وقال : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) [المائدة : ٥٤].

والمعنى : أنّا جمعنا له التعطّف على عباد الله ، مع الطّهارة عن الإخلال بالواجبات ، ويحتمل أنّا آتيناه التعطّف على الخلق ، والطّهارة [عن المعاصي](٢) ، فلم يعص ، ولم يهمّ بمعصية.

الثاني : قال عطاء بن أبي رباح : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) : تعظيما من لدنا (٣).

والمعنى : آتيناه الحكم صبيّا ؛ تعظيما إذ جعلناه نبيّا وهو صبيّ ، ولا تعظيم أكثر من هذا ؛ ويدلّ عليه ما روي أنّ ورقة بن نوفل مرّ على بلال ، وهو يعذب ، قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء ، وهو يقول : أحد ، فقال : والذي نفسي بيده ، لئن قتلتموه ، لأتّخذنّه حنانا ، أي : معظّما.

قوله : (مِنْ لَدُنَّا) صفة له.

قوله : (وَزَكاةً). قال ابن عباس : هي الطّاعة ، والإخلاص (٤).

وقال قتادة والضحاك : هو العمل الصّالح (٥).

__________________

(١) في ب : من لدنا.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣١٦) عن عطاء.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٠).

(٥) أخرجه الطبري (٨ / ٣١٧) عن قتادة وابن جريج والضحاك.

٢٦

والمعنى : آتيناه رحمة من عندنا ، وتحنّنا على العباد ؛ ليدعوهم إلى طاعة ربّهم ، وعملا صالحا في إخلاص.

وقال الكلبيّ : صدقة (١) تصدّق الله بها على أبويه ، وقيل : زكّيناه بحسن الثّناء ، أي كما يزكّي الشهود الإنسان. وهذه الآية تدلّ على أن فعل العبد خلق لله تعالى لأنه جعل طهارته وزكاته من الله تعالى ، وحمله على الألطاف بعيد ؛ لأنّه عدول عن الظّاهر.

قوله : (وَكانَ تَقِيًّا) مخلصا مطيعا ، والتّقيّ : هو الذي يتقي ما نهى الله عنه [فيجتنبه](٢) ، ويتقي مخالفة أمر الله ، فلا يهمله ، وأولى النّاس بهذا الوصف من لم يعص الله ، ولا همّ بمعصية ، وكان يحيى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كذلك.

فإن قيل : ما معنى قوله (وَكانَ تَقِيًّا) وهذا حين ابتداء تكليفه.

فالجواب : إنّما خاطب الله تعالى الرسول بذلك وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله تعالى عليه.

قوله : «وبرّا» : يجوز أن يكون نسقا على خبر «كان» أي : كان تقيّا برّا. ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدّر ، أي : وجعلناه برّا ، وقرأ (٣) الحسن «برّا» بكسر الباء في الموضعين ، وتأويله واضح ، كقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٧٧] وتقدّم تأويله ، و«بوالديه» متعلق ب «برّا».

و«عصيّا» يجوز أن يكون وزنه «فعولا» والأصل : «عصويّ» ففعل فيه ما يفعل في نظائره ، و«فعول» للمبالغة ك «صبور» ويجوز أن يكون وزنه فعيلا ، وهو للمبالغة أيضا.

فصل في معنى الآية

قوله : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي : بارّا لطيفا بهما محسنا إليهما ، (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا). الجبّار المتكبّر.

وقال سفيان : الجبّار الذي يضرب ويقتل على الغضب ؛ لقوله تعالى : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ)(٤) [القصص : ١٩] ؛ ولقوله تعالى : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء : ١٣٠] والجبّار أيضا : القهار ، قال تعالى (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) [الحشر : ٢٣].

والعصيّ : العاصي ، والمراد : وصفه بالتواضع ، ولين الجانب ، وذلك من صفات المؤمنين ؛ كقوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٨٨] وقوله تعالى : (وَلَوْ

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٩٠.

(٢) سقط من : أ.

(٣) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٣٤ ، والبحر ٦ / ١٧٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٥.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٦٥).

٢٧

كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩].

وقيل : الجبّار : هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقّا. وقيل غير [ذلك] وقوله : «عصيا» وهو أبلغ من العاصي ، كما أن العليم أبلغ من العالم.

قوله : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا).

قال محمد بن جرير الطبريّ (١)(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) أي : أمان من الله يوم ولد من أن تتناوله الشياطين ، كما تناول سائر بني آدم (وَيَوْمَ يَمُوتُ) أي : وأمان عليه من عذاب القبر ، (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي : ومن عذاب الله يوم القيامة.

وقال سفيان بن عيينة (٢) : أوحش ما يكون الإنسان في هذه الأحوال [الثلاثة يوم يولد](٣) ، فيرى نفسه خارجا [مما كان فيه ، ويوم يموت ، فيرى يوما ، لم يكن عاينه ، ويوم يبعث ، فيرى نفسه](٤) في محشر عظيم ، لم ير مثله ، فأكرم الله يحيى ـ عليه‌السلام ـ فخصّه بالسلامة في هذه المواطن الثلاثة.

قال عبد الله بن نفطويه : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) أي : أوّل ما رأى الدّنيا ، (وَيَوْمَ يَمُوتُ) أي : أول يوم يرى فيه أمر الآخرة (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي : أوّل يوم يرى فيه الجنّة والنّار.

فصل في مزية السلام على يحيى

السلام يمكن أن يكون من الله ، وأن يكون من الملائكة ، وعلى التقديرين ، فيدلّ على شرفه وفضله ؛ لأنّ الملائكة لا يسلّمون إلا عن أمر الله.

ويدلّ على أن ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء ؛ كقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) [الصافات : ٧٩] (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) [الصافات : ١٠٩]. وقال ليحيى : (يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا). وليس ذلك لسائر الأنبياء.

وروي أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ قال ليحيى ـ عليه‌السلام ـ : أنت أفضل منّي ؛ لأنّ الله تعالى قال: سلام عليك وأنا سلّمت على نفسي.

وأجاب الحسن عن هذا ، فقال : هذا يجري مجرى سلام الله على عيسى ؛ لأن عيسى معصوم ، لا يفعل إلا ما أمره الله به.

واعلم : أنّ السّلام عليه يوم ولد يكون تفضّلا من الله تعالى ؛ لأنه لم يتقدّمه عمل يكون ذلك السلام جزاء له ، وأمّا السّلام عليه يوم يموت ، ويوم يبعث حيّا ، فيجوز أن يكون ثوابا ؛ كالمدح والتّعظيم(٥).

__________________

(١) ينظر : تفسير الطبري (٨ / ٣١٨).

(٢) ذكره الرازي (٢١ / ١٦٥).

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) ذكره الرازي (٢١ / ١٦٥).

٢٨

فصل في فوائد هذه القصة

في فوائد هذه القصّة [أمور](١) منها :

تعليم آداب الدعاء ، وهو قوله : (نِداءً خَفِيًّا) يدلّ على أن أفضل الدعاء خفية ويؤكّده قوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥] ؛ ولأنّ رفع الصوت مشعر بالقوّة والجلادة ، وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار ، وعمدة الدّعاء الانكسار والتبرّي عن حول النّفس وقوّتها ، والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه.

ويستحبّ أن يذكر في مقدّمة الدعاء عجز النّفس وضعفها ؛ كقوله : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ثم يذكر نعم الله تعالى ؛ كقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) ، ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا ، كقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) وأن يكون الدّعاء بلفظ : يا ربّ.

كما ذكر فيها بيان فضل زكريّا ، ويحيى ـ عليهما‌السلام ـ أما زكريّا ؛ فلتضرّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليّة ، وإجابة الله تعالى دعاءه ، وأن الله تعالى بشّره ، وبشّرته الملائكة ، واعتقال لسانه عن الكلام دون التّسبيح.

وأمّا يحيى ؛ فلأنّه لم يجعل له من قبل سميّا ، وقوله (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، وكونه رحيما حنانا وطاهرا ، وتقيّا ، وبرّا بوالديه ، ولم يكن جبّارا ، ولم يعص قطّ ، ولا همّ بمعصية ، ثم سلّم عليه يوم ولد ، ويوم يموت ، ويوم يبعث حيّا.

ومنها : كونه تعالى قادرا على خلق الولد ، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردّا على أهل الطّبائع.

ومنها : أن المعدوم ليس بشيء ؛ لقوله : (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً).

فإن قيل : المرا د «ولم تك شيئا مذكورا» كما في قوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان : ١].

فالجواب (٢) : أنّ الإضمار خلاف الأصل ، وللخصم أن يقول : الآية تدلّ على أن الإنسان لم يكن شيئا مذكورا ، ونحن نقول به ؛ لأنّ الإنسان عبارة عن جواهر متألّفة قامت بها أعراض مخصوصة ، والجواهر المتألّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليست ثابتة في العدم (٣) ، وإنّما الثابت هو [أعيان](٤) تلك الجواهر مفردة غير مركّبة ، وهي ليست بالإنسان ، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب. ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في «آل عمران» ، وذكرها في هذه السورة ، فلنعتبر حالها في الموضعين ، فنقول : إن الله تعالى بيّن في هذه السورة أنه دعا ربه ، ولم يبين الوقت ، وبينه في «آل عمران» بقوله

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٦٦.

(٣) في ب : المعدوم.

(٤) في ب : الاعتبار.

٢٩

تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) [آل عمران : ٣٨] إلى أن قال : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ : رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) ، والمعنى أن زكريا ـ عليه‌السلام ـ لما رأى خرق العادة في حق مريم ، طمع في حق نفسه ، فدعا ربه ، وصرح في «آل عمران» بأن المنادي هو الملائكة ، بقوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) [آل عمران : ٣٩] ، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) هو الله تعالى ، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما.

وقال في آل عمران (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) [آل عمران: ٤٠] فذكر أولا كبر نفسه ، ثم عقر المرأة وهاهنا قال : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) وجوابه: أنّ الواو لا تقتضي الترتيب.

وقال «في آل عمران» : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) [آل عمران : ٤٠] وقال هاهنا : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) وجوابه : أن ما بلغك فقد بلغته.

وقال في آل عمران : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ) [آل عمران : ٤١].

وقال هاهنا (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا).

وجوابه : أنّه دلّت الآيتان على أنّ المراد ثلاثة أيّام ولياليهنّ. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)(٣٣)

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) القصة.

٣٠

اعلم أن الله تعالى إنّما قدّم قصّة يحيى ـ عليه الصلاة والسلام ـ على قصّة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنّ الولد أعني : لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد لا من الأب ألبتّة ، وأحسن طرق التعليم والتفهيم الترقّي من الأقرب فالأقرب ، إلى الأصعب فالأصعب.

قوله : (إِذِ انْتَبَذَتْ) : في «إذ» أوجه :

أحدها : أنّها منصوبة ب «اذكر» على أنّها خرجت عن الظرفيّة ؛ إذ يستحيل أن تكون باقية على [مضيّها] ، والعامل فيها ما هو نصّ في الاستقبال.

الثاني : أنّه منصوب بمحذوف مضاف لمريم ، تقديره : واذكر خبر مريم ، أو نبأها ؛ إذ انتبذت ، ف «إذ» منصوب بذلك الخبر ، أو النبأ.

والثالث : أنّه منصوب بفعل محذوف ، تقديره : وبيّن ، أي : الله تعالى ، فهو كلام آخر ، وهذا كما قال سيبويه (١) في قوله : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١] وهو في الظرف أقوى ، وإن كان مفعولا به.

والرابع : أن يكون منصوبا على الحال من ذلك المضاف المقدّر ، أي : خبر مريم ، أو نبأ مريم ، وفيه بعد ، قاله أبو البقاء (٢).

والخامس : أنه بدل من «مريم» بدل اشتمال ، قال الزمخشريّ : «لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها ، وفيه : أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا ؛ لوقوع هذه القصّة العجيبة فيه».

قال أبو البقاء (٣) ـ بعد أن حكى عن الزمخشريّ هذا الوجه ـ : «وهو بعيد ؛ لأنّ الزمان إذا لم يكن حالا من الجثّة ، ولا خبرا عنها ، ولا صفة لها ، لم يكن بدلا منها» انتهى. وفيه نظر ؛ لأنه لا يلزم من عدم صحّة ما ذكر عدم صحّة البدلية ؛ ألا ترى نحو : «سلب زيد ثوبه» ف «ثوبه» لا يصحّ جعله خبرا عن «زيد» ولا حالا منه ، ولا وصفا له ، ومع ذلك ، فهو بدل اشتمال.

السادس : أنّ «إذ» بمعنى «أن» المصدرية ؛ كقولك : «لا أكرمك إذ لم تكرمني» أي: لأنّك لا تكرمني ، فعلى هذا يحسن بدل الاشتمال ، أي : واذكر مريم انتباذها ، ذكره أبو البقاء (٤).

وهو في الضعف غاية. و«مكانا» : يجوز أن يكون ظرفا ، وهو الظاهر وأن يكون مفعولا به على معنى : إذ أتت مكانا. قوله : (انْتَبَذَتْ) الانتباذ : افتعال من النّبذ ، وهو الطّرح ، والإلقاء ، ونبذة : بضمّ النون ، وفتحها أي : ناحية ، وهذا إذا جلس قريبا منك ؛

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ١٤٣.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١١١.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١١١.

٣١

حتى لو نبذت إليه شيئا ، وصل إليه ، ونبذت الشيء : رميته ، ومنه النّبيذ ؛ لأنّه يطرح في الإناء.

ومنه المنبوذ ، وهو أصله ، فصرف إلى «فعيل» ، ومنه قيل للّقيط : منبوذ ؛ لأنّه رمي به.

ومنه النهي عن المنابذة في البيع ، وهو أن يقول : إذا نبذت إليك الثّوب ، أو الحصاة ، فقد وجب البيع فقوله : (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) : تباعدت واعتزلت عن أهلها مكانا في الدار ، ممّا يلي المشرق ، ثم إنّها مع ذلك اتّخذت من دون أهلها حجابا.

قال ابن عباس : سترا ، وقيل : جلست وراء جدار ، وقال مقاتل : وراء جبل.

فصل

اختلف المفسّرون في سبب احتجابها ، فقيل : إنها لمّا رأت الحيض ، تباعدت عن مكان عبادتها تنتظر الطّهر لتغتسل ، وتعود ، فلما طهرت ، جاءها جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

وقيل : طلبت الخلوة للعبادة.

وقيل : تباعدت لتغتسل من الحيض ، محتجبة بشيء يسترها.

وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريّا ، وفيه محراب تسكنه على حدة ، وكان زكريّا إذا خرج يغلق عليها ، فتمنّت أن تجد خلوة في الجبل ؛ لتفلّي رأسها ، فانفرج السّقف لها ، فخرجت في المشرقة وراء الجبل ، فأتاها الملك.

وقيل : عطشت ؛ فخرجت إلى المفازة لتستقي ، وكل هذه الوجوه محتملة.

واعلم أن المكان الشرقيّ هو الذي يلي شرقيّ بيت المقدس ، أو شرقيّ دارها.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : إنّي لأعلم خلق الله ، لأيّ شيء اتّخذت النصارى المشرق قبلة ؛ لقوله : (مَكاناً شَرْقِيًّا) فاتّخذوا ميلاد عيسى قبلة ، وهو قول الحسن ـ رحمه‌الله تعالى ـ.

قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا).

الجمهور على ضمّ الراء من «روحنا» وهو ما يحيون به ، وقرأ (١) أبو حيوة ، وسهل بفتحها ، أي : ما فيه راحة للعباد ، كقوله تعالى : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) [الواقعة : ٨٩] وحكى النقاش : أنه قرىء (٢) «روحنّا» بتشديد النّون ، وقال : هو اسم ملك من الملائكة.

قوله : (بَشَراً سَوِيًّا) حال من فاعل «تمثّل» وسوّغ وقوع الحال جامدة وصفها ، فلمّا وصفت النكرة وقعت حالا.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٩ ، والبحر ٦ / ١٧٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٦.

(٢) ينظر : البحر ٦ / ١٧٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٦.

٣٢

فصل في المراد بالروح

اختلفوا في هذا الرّوح (١) ، فالأكثرون على أنّه جبريل ـ صلوات الله عليه ـ لقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٩٣] وسمّي روحا ؛ لأنّ الدّين يحيى به.

وقيل : سمّي روحا على المجاز ؛ لمحبته ، وتقريبه ، كما تقول لحبيبك : روحي.

وقيل : المراد من الرّوح (٢) : عيسى ـ صلوات الله عليه ـ جاء في صورة بشر ، فحملت به ، والأول أصحّ ، وهو أنّ جبريل عرض لها في صورة شابّ أمرد ، حسن الوجه ، جعد الشّعر ، سويّ الخلق وقيل : في صورة ترب لها ، اسمه يوسف ، من خدم بيت المقدس.

قيل : إنما تمثّل لها في صورة بشر ؛ لكي لا تنفر منه ، ولو ظهر في صورة الملائكة ، لنفرت عنه ، ولم تقدر على استماع كلامه ، وهاهنا إشكالات :

الأول : أنّه لو جاز أن يظهر الملك في صورة الإنسان المعيّن ، فحينئذ ؛ لا يمكننا القطع بأنّ هذا الشخص الذي نراه في الحال هو زيد الذي رأينا بالأمس ؛ لاحتمال أن الملك ، أو الجنّي تمثّل بصورته ، وفتح هذا الباب يؤدّي إلى السّفسطة ، ولا يقال : هذا إنّما يجوز في زمان [جواز](٣) البعثة ، فأما في زماننا فلا يجوز.

لنا أن نقول : هذا الفرق إنّما يعلم بالدليل ، فالجاهل (٤) بذلك الدّليل يجب ألا يقطع بأنّ هذا الشخص الذي رآه الآن هو الذي رآه بالأمس.

الثاني : أنه جاء في الأخبار أنّ جبريل ـ صلوات الله عليه ـ شخص عظيم جدّا ، فذلك الشخص ـ كيف صار بدنه في مقدار جثّة الإنسان ، وذلك يوجب تداخل الأجزاء ، وهو محال.

الثالث : أنّا لو جوّزنا أن يتمثّل جبريل ـ صلوات الله عليه ـ في صورة الآدمي ، فلم لا يجوز تمثّله في صورة أصغر من الآدميّ ؛ كالذّباب ، والبقّ ، والبعوض ، ومعلوم أن كلّ مذهب جرّ إلى هذا ، هو باطل.

الرابع : أن تجويزه يفضي إلى القدح في خبر التّواتر ، فلعلّ الشخص الذي حارب يوم بدر ، لم يكن محمّدا ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ بل كان شخصا يشبهه ، وكذا القول في الكلّ.

والجواب عن (٥) الأوّل : أن ذلك التجويز لازم على الكلّ ؛ لأنّ من اعترف بافتقار العالم إلى الصّانع المختار ، فقد قطع بكونه قادرا على أن يخلق شخصا آخر ؛ مثل زيد في خلقه وتخطيطه ، وإذا جوّزنا ذلك ، فقد لزم الشكّ في أنّ زيدا المشاهد الآن هو الذي

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٦٧.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٩١.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : فالحاصل.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٦٨.

٣٣

شاهدناه بالأمس ، أم لا ، ومن أنكر الصّانع المختار ، وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب ، وتشكّلات الفلك ، لزمه [تجويز](١) أن يحدث اتصال غريب في الأفلاك يقتضي حدوث شخص ، مثل زيد في كلّ الأمور ، وحينئذ يعود التجويز المذكور.

وعن الثاني : أنّه لا يمتنع أن يكون جبريل ـ عليه‌السلام ـ له أجزاء أصليّة ، وأجزاء فاضلة ، فالأجزاء الأصليّة قليلة جدّا ؛ فحينئذ : يكون متمكّنا من التشبّه بصورة الإنسان ، هذا إذا جعلناه جسمانيّا ، فإذا جعلناه روحانيّا ، فأيّ استبعاد في أن يتنوّع تارة بالهيكل العظيم ، وأخرى بالهيكل الصّغير.

وعن الثالث : أنّ أصل التجويز قائم في العقل ، وإنما عرف فساده بدلائل السّمع ، وهو الجواب عن السؤال الرابع.

قوله : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا).

أي : إنّ كان يرجى منك أن تتقي الله ، فإنّي عائذة به منك ؛ لأنّها علمت أن الاستعاذة لا تؤثّر في التّقى ، فهو كقول القائل : إن كنت مسلما ، فلا تظلمني ، أي : ينبغي أن تكون تقواك مانعا لك من الفجور.

كقوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٧٨].

أي : أنّ شرط الإيمان يوجب هذا ؛ لا أنّ الله تعالى يخشى في حال دون حال.

وقيل : كان في ذلك الزّمان إنسان فاجر يتبع النّساء ، اسمه تقيّ ، فظنّت مريم أنّ ذلك الشخص المشاهد هو ذاك ، والأول أصحّ. قوله : (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) جوابه محذوف ، أو متقدّم.

قوله تعالى : (لِأَهَبَ) : قرأ نافع ، وأبو عمرو (٢) «ليهب» بالياء والباقون «لأهب» بالهمزة ، فالأولى : الظاهر فيها أنّ الضمير للرّبّ ، أي : ليهب الرّبّ ، وقيل : الأصل : لأهب ، بالهمز ، وإنما قلبت الهمزة ياء تخفيفا ؛ لأنها مفتوحة بعد كسرة ، فتتفق القراءتان ، وفيه بعد ، وأمّا الثانية ، فالضمير للمتكلّم ، والمراد به الملك ، وأسنده لنفسه ؛ لأنه سبب فيه ويؤيده : أن في بعض المصاحف : «أمرني أن أهب لك» ؛ ويجوز أن يكون الضمير لله تعالى ، ويكون على الحكاية بقول محذوف.

قوله تعالى : (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).

فصل

لما علم جبريل ـ صلوات الله عليه ـ خوفها ، قال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ؛) ليزول

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : السبعة ٤٠٨ ؛ والنشر ٢ / ٣١٧ ، والتيسير ١٤٨ ، والإتحاف ٢ / ٢٣٤ والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٩٥ ، والحجة ٤٤٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ١٤ ، والبحر ٦ / ١٧٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٦.

٣٤

عنها ذلك الخوف ، ولكن الخوف لا يزول بمجرّد هذا القول ، بل لا بدّ من دلالة تدلّ على أنه كان جبريل ـ صلوات الله عليه ـ ، فيحتمل أن يكون قد ظهر معجز ، عرفت به أنّه جبريل ـ صلوات الله عليه ـ ، ويحتمل أنّها عرفت صفة الملائكة من جهة زكريّا ـ صلوات الله عليه ـ فلمّا قال لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أظهر لها من جسده ما عرفت به أنّه ملك ؛ فيكون ذلك هو العلم ، والذي يظهر أنّها كانت تعرف صفة الملك بالأمارات ، حين كان يأتيها بالرّزق في المحراب ، وقال لها زكريّا : (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ٣٧].

قوله : (غُلاماً زَكِيًّا) ولدا صالحا طاهرا من الذّنوب.

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) إنما تعجبت مما بشّرها جبريل ؛ لأنّها قد عرفت بالعادة أنّ الولادة لا تكون إلّا من رجل ، والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور ، وإن جوّزنا خلاف ذلك في القدرة ، فليس في قولها هذا دلالة على أنّها لم تعلم أنّه تعالى قادر على خلق الولد ابتداء ، وكيف ، وقد عرفت أنّه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدّ ؛ ولأنّها كانت منفردة بالعبادة ، ومن يكون كذلك ، لا بدّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك.

فإن قيل : قولها (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) كاف في المعنى ، فلم قالت : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا).

فالجواب (١) من وجهين :

أحدهما : أنها جعلت المسّ عبارة عن النّكاح الحلال ؛ لأنّه كناية عنه قال تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٧] والزّنا ، إنما يقال فيه : فجر بها ، أو ما أشبهه.

والثاني : أن إعادتها ؛ لتعظيم حالها ؛ كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨] وقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨]. فكذا هاهنا : إن من لم تعرف من النّساء بزوج ، فأغلظ أحوالها ، إذا أتت بولد : أن تكون زانية ، فأفردت ذكر البغي بعد دخوله في الكلام ؛ لأنّه أعظم ما في بابه.

قوله تعالى : «بغيّا» : في وزنه قولان :

أحدهما ـ وهو قول المبرّد ـ أنّ وزنه «فعول» والأصل «بغوي» فاجتمعت الياء ، والواو ، [ففعل فيه ما هو معروف](٢) ، قال أبو البقاء (٣) : «ولذلك لم تلحق تاء التأنيث ؛ كما لم تلحق في صبور وشكور» ونقل الزمخشريّ عن أبي الفتح في كتابه «التمام» أنها فعيل ، قال : «ولو كانت فعولا ، لقيل : بغوّ ، كما يقال : فلان نهوّ عن المنكر» ولم يعقبه بنكير ، ومن قال : إنها «فعيل» فهل هي بمعنى «فاعل» أو بمعنى «مفعول»؟ فإن كانت

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٧٠.

(٢) في أ : فأدغمت الواو في الياء.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١١٢.

٣٥

بمعنى «فاعل» فينبغي أن تكون بتاء التأنيث ؛ نحو : امرأة قديرة وبصيرة ، وقد أجيب عن ذلك : بأنها بمعنى النّسب ؛ كحائض وطالق ، أي ذات بغي ، وقال أبو البقاء (١) ، حين جعلها بمعنى «فاعل» : «ولم تلحق التّاء أيضا ؛ لأنها للمبالغة» فجعل العلة في عدم اللحاق كونه للمبالغة ؛ وليس بشيء ، وإن قيل بأنّها بمعنى «مفعول» فعدم الياء واضح.

وتقدم الكلام على قوله : (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) وهو كقوله في آل عمران (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٤٧] لا يمتنع عليه ما يريد خلقه ، ولا يحتاج في إنشائه إلى الآلات والموادّ.

قوله : «ولنجعله» يجوز أن يكون علّة ، ومعلّله محذوف ، تقديره : لنجعله آية للنّاس فعلنا ذلك ، ويجوز أن يكون نسقا على علة محذوفة ، تقديره : لنبيّن به قدرتنا ، ولنجعله آية ، والضمير عائد على الغلام ، واسم «كان» مضمر فيها ، أي : وكان الغلام ، أي : خلقه وإيجاده أمرا مقضيا : أي لا بدّ منه.

والمراد ب «الآية» العلامة ، أي : علامة للنّاس ، ودلالة على قدرتنا على أنواع الخلق ؛ فإنه تعالى خلق آدم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حوّاء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى ـ صلوات الله عليه ـ من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقيّة النّاس من ذكر وأنثى.

(وَرَحْمَةً مِنَّا) أي : ونعمة لمن تبعه على دينه ، (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) محكوما مفروغا منه ، لا يردّ ، ولا يبدّل.

قوله تعالى : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ).

قيل : إنّ جبريل ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ رفع درعها ، فنفخ في جيبه ، فحملت حين لبست.

وقيل : نفخ جبريل من بعيد ، فوصل الرّيح إليها ، فحملت بعيسى في الحال.

وقيل : إنّ النّفخة كانت في فيها ، فوصلت إلى بطنها.

وقيل : كان النّافخ هو الله تعالى ؛ لقوله عزوجل : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢].

وظاهره ؛ يفيد أنّ النافخ هو الله تعالى ؛ ولأنه تعالى قال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩].

ومقتضى التشبيه حصول المشابهة إلّا فيما أخرجه الدّليل ، وفي حقّ آدم النّافخ هو الله تعالى ؛ لقوله عزوجل : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] فكذا هاهنا ، وإذا عرفت هذا ، ظهر أن في الكلام حذفا ، تقديره : «فنفخ فيها ، فحملته».

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

٣٦

قيل : حملت ، وهي بنت [ثلاث عشرة سنة](١).

وقيل : بنت عشرين ، وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل ، وليس في القرآن ما يدلّ على شيء من هذه الأحوال.

قوله تعالى : (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) : الجارّ والمجرور في محلّ نصب على الحال ، أي : انتبذت ، وهو مصاحب لها ؛ كقوله : [الوافر]

٣٥٨٥ ـ ...........

تدوس بنا الجماجم والتّريبا (٢)

والمعنى : اعتزلت ، وهو في بطنها ؛ كقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] أي : تنبت ، والدّهن فيها.

(مَكاناً قَصِيًّا) : بعيدا من أهلها.

قال ابن عبّاس (٣) ـ رضي الله عنهما ـ : أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم ؛ فرارا من قومها أن يعيّروها بولادتها من غير زوج (٤).

واختلفوا في علّة الانتباذ (٥)(٦) ؛ فروى الثعلبيّ في «العرائس» عن وهب قال : إنّ مريم لمّا حملت بعيسى ـ صلوات الله عليه ـ كان معها ابن عمّ لها يسمّى «يوسف النّجّار» ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند «جبل صهيون» ، وكانت مريم ويوسف يخدمان ذلك المسجد ، ولا يعلم من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادا منهما ، وأوّل من عرف حمل مريم يوسف ، فتحير في أمرها ، فكلّما أراد أن يتّهمها ، ذكر صلاحها ، وعبادتها ، وأنّها لم تغب عنه ساعة قطّ ؛ فقال : إنّه قد وقع في نفسي من أمرك شيء ، وقد حرصت على كتمانه ، فغلبني ذلك ، فرأيت أنّ الكلام فيه أشفى لصدري فقالت : قل قولا جميلا.

قال : أخبريني يا مريم ، هل ينبت زرع بغير بذر؟ وهل تنبت شجرة من غير غيث؟ وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أنّ الله تعالى أنبت الزّرع يوم خلقه من غير بذر ، وهذا البذر إنّما حصل من الزّرع الذي أنبته من غير بذر.

ألم تعلم أنّ الله أنبت الشّجرة بغير غيث ، وبالقدرة جعل الغيث حياة الشّجرة ، بعدما خلق الله كلّ واحد منها على حدة؟ أو تقول : إنّ الله لا يقدر على أن ينبت الشّجرة حتّى استعان بالماء ، ولو لا ذلك ، لم يقدر على إنباتها؟!.

قال يوسف : لا أقول هذا ، ولكنّي أقول : إنّ الله تعالى قادر على ما يشاء ، فيقول : كن فيكون ، فقالت له مريم : أو لم تعلم أنّ الله خلق آدم وامرأته حوّاء من غير ذكر ، ولا

__________________

(١) في ب : عشر.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٩٢.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٢) عن ابن عباس.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٧٢.

(٦) ينظر : تفسير الرازي (٢١ / ١٧٢).

٣٧

أنثى ، فعنده زالت التّهمة عن قلبه ، وكان ينوب عنها في خدمة المسجد ؛ لاستيلاء الضّعف عليها ؛ بسبب الحمل ، وضيق القلب ، فلمّا قرب نفاسها ، أوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك ؛ لئلّا يقتلوا ولدك ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ، فلمّا بلغت تلك البلاد ، وأدركها النّفاس ، فألجأها إلى أصل نخلة ، وذلك في زمان برد ، فاحتضنتها ، [فوضعت](١) عندها.

وقيل : إنّها استحيت من زكريّا ، فذهبت إلى مكان بعيد ، لئلّا يعلم بها زكريّا ـ صلوات الله عليه ـ.

وقيل : لأنّها كانت مشهورة في بني إسرائيل بالزّهد ؛ لنذر أمّها ، وتشاحّ الأنبياء في تربيتها ، وتكفّل زكريّا بها ، وكان الرّزق يأتيها من عند الله تعالى ، فلمّا كانت في نهاية الشّهرة استحيت من هذه الواقعة ، فذهبت إلى مكان بعيد.

وقيل : خافت على ولدها من القتل ، لو ولدته بين أظهرهم. وكلّ هذه الوجوه محتملة ، وليس في القرآن ما يدلّ على شيء منها.

فصل في بيان مدة حمل مريم

اختلفوا في مدّة حملها ، فروي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنّها تسعة أشهر ؛ كسائر النّساء(٢) في الغالب.

وقيل : ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى ؛ لأنّه لم يعش ولد يولد لثمانية أشهر إلّا عيسى ـ صلوات الله عليه ـ.

وقال عطاء ، وأبو العالية ، والضحاك : سبعة أشهر (٣) وقيل : ستّة أشهر.

وقال مقاتل بن سليمان : ثلاث ساعات ، حملت به في ساعة ، وصوّر في ساعة ، ووضعته حين زالت الشّمس من يومها (٤).

وقال ابن عبّاس : كان الحمل والولادة في ساعة واحدة (٥) ، ويدلّ عليه وجهان :

الأول : قوله : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ فَناداها مِنْ تَحْتِها) ، والفاء : للتعقيب ؛ فدلّت هذه الفاءات على أنّ كلّ واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل ؛ وذلك يوجب كون مدّة الحمل ساعة واحدة لا يقال : انتباذها مكانا قصيّا كيف يحصل في ساعة واحدة ؛ لأنّا نقول : السّدي فسّر بأنّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها.

الثاني : أنّ الله تعالى قال في وصفه (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ

__________________

(١) في ب : فولدت.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٢).

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٧٢).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٢).

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٣٨

ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] ، فثبت أن عيسى ـ صلوات الله عليه ـ كما قال الله تعالى : «كن» فكان ، وهذا مما لا يتصوّر فيه مدّة الحمل ، إنّما يتصوّر مدّة الحمل في المتولّد عن النّطفة.

والقصيّ : البعيد.

يقال : مكان قاص ، وقصيّ بمعنى واحد ؛ مثل : عاص وعصيّ.

قوله تعالى : (فَأَجاءَهَا) : الأصل في «جاء» : أن يتعدّى لواحد بنفسه ، فإذا دلت عليه الهمزة ، كان القياس يقتضي تعدّيه لاثنين ، قال الزمخشريّ : «إلّا أنّ استعماله قد تغيّر بعد النّقل إلى معنى الإلجاء ، ألا تراك لا تقول : جئت المكان ، وأجاءنيه زيد ؛ كما تقول : بلغته وأبلغنيه ، ونظيره «آتى» حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ، ولم تقل : أتيت المكان وآتانيه فلان».

وقال أبو البقاء (١) : الأصل «جاءها» ثم عدّي بالهمزة إلى مفعول ثان ، واستعمل بمعنى «ألجأها».

قال أبو حيّان : قوله : إنّ «أجاءها» [استعمل](٢) بمعنى «ألجأها» يحتاج إلى نقل أئمة اللغة المستقرئين لذلك من لسان العرب ، والإجاءة تدلّ على المطلق ، فتصلح لما هو بمعنى «الإلجاء» ولما هو بمعنى «الاختيار» كما تقول : «أقمت زيدا» فإنه يصلح أن تكون إقامتك له قسرا أو اختيارا ، وأمّا قوله : «ألا تراك لا تقول» إلى آخره ، فمن رأى أنّ التعدية ، بالهمزة قياس ، أجاز ذلك ، وإن لم يسمع ، ومن منع ، فقد سمع ذلك في «جاء» فيجيز ذلك ، وأمّا تنظيره ذلك ب «آتى» فليس تنظيرا صحيحا ؛ لأنّه بناه على أنّ همزته للتعدية ، وأنّ أصله «آتى» بل «آتى» ممّا بني على «أفعل» ولو كان منقولا من «أتى» المتعدّي لواحد ، لكان ذلك الواحد هو المفعول الثاني ، والفاعل هو الأوّل ، إذا عدّيته بالهمزة ، تقول : «أتى المال زيدا» و«آتى عمرو زيدا المال» فيختلف التركيب بالتعدية ؛ لأنّ «زيدا» عند النحويّين هو المفعول الأول ، و«المال» هو المفعول الثاني ، وعلى ما ذكره الزمخشريّ ، كان يكون العكس ، فدلّ على أنّه ليس على ما قاله ، وأيضا ، ف «أتى» مرادف ل «أعطى» ، فهو مخالف من حيث الدلالة في المعنى ، وقوله : «ولم تقل : أتيت المكان ، وآتانيه» هذا غير مسلم ، بل تقول : «أتيت المكان» كما تقول : «جئت المكان» وقال الشاعر : [الوافر]

٣٥٨٦ ـ أتوا ناري فقلت منون أنتم

فقالوا : الجنّ قلت عموا ظلاما (٣)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١١٢.

(٢) سقط من أ.

(٣) البيت لشمر بن الحارث وقيل لغيره ينظر : شواهد الكتاب ٢ / ٤١١ ، الخصائص ١ / ١٢٩ ، المقتضب ٢ / ٣٠٦ ، شرح المفصل لابن يعيش ٢ / ٢٥٧ ، الأشموني ٤ / ٩١ ، المقرب ١ / ٣٠٠ ، الهمع ٢ / ٢٥٧ ، التصريح ٢ / ٢٨٣ ، البحر ٦ / ١٧٢ ، الدر المصون ٤ / ٤٩٨.

٣٩

ومن رأى التعدية بالهمزة قياسا ، قال : «آتانيه» قال شهاب الدين : وهذه الأبحاث التي ذكرها الشيخ ـ رحمه‌الله ـ معه ظاهرة الأجوبة ، فلا نطوّل بذكرها.

وقرأ الجمهور «فأجاءها» أي : ألجأها وساقها ، ومنه قوله : [الوافر]

٣٥٨٧ ـ وجار سار معتمدا إليكم

أجاءته المخافة والرّجاء (١)

وقرأ (٢) حمّاد بن سلمة «فاجأها» بألف بعد الفاء ، وهمزة بعد الجيم ، من المفاجأة ، بزنة «قابلها» ويقرأ (٣) بألفين صريحتين ؛ كأنهم خفّفوا الهمزة بعد الجيم ، وبذلك رويت بين بين.

والجمهور على فتح الميم من «المخاض» وهو وجع الولادة ، وروي عن ابن كثير (٤) بكسر الميم ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : المفتوح : اسم مصدر ؛ كالعطاء والسلام ، والمكسور مصدر ؛ كالقتال واللّقاء ، والفعال : قد جاء من واحد ؛ كالعقاب والطّراق ، قاله أبو البقاء (٥) ، والميم أصلية ؛ لأنه من «تمخّضت الحامل تتمخّض».

و (إِلى جِذْعِ) يتعلق في قراءة العامّة ب «أجاءها» أي : ساقها إليه.

وفي قراءة حمّاد بمحذوف ؛ لأنه حال من المفعول ، أي : فاجأها مستندة إلى جذع النّخلة.

فصل في معنى الآية

المعنى : ألجأها المخاض ، وهو وجع الولادة إلى جذع النّخلة ؛ لتستند إليها ، وتتمسّك بها عند وجع الولادة ، وكانت نخلة يابسة في الصحراء في شدّة الشّتاء ، ولم يكن لها سعف ، ولا خضرة ، والتعريف فيها : إمّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة ؛ كتعريف النّجم [والصّعق](٦) أو كانت تلك الصّحراء كان فيها جذع نخلة مشهور عند النّاس.

فإن قيل : جذع النّخلة فهم منه ذلك دون سائره ، وإمّا أن يكون تعريف الجنس ، أي : إلى جذع هذه الشّجرة خاصّة ؛ كأنّ الله تعالى أرشدها إلى النّخلة ؛ ليطعمها منها الرّطب الذي هو أشبه الأشياء موافقة للنّفساء ، ولأنّ النخلة أشدّ الأشياء صبرا على البرد ، ولا تثمر إلّا عند اللّقاح ، وإذا قطع رأسها ، لم تثمر ، فكأنّ الله تعالى قال : كما أنّ الأنثى لا تلد إلّا مع الذّكر ،

__________________

(١) البيت لزهير. ينظر : ديوانه (٢٩) شرح ديوان الحماسة ١ / ٣٠٢ ، البحر ٦ / ١٧٢ ، القرطبي ١١ / ٦٣ ، مجاز القرآن ٢ / ٤ ، روح المعاني ١٦ / ٨١ ، الدر المصون ٤ / ٤٩٨.

(٢) ينظر في قراءاتها : المحتسب ٢ / ٣٩ ، والشواذ ٨٤ ، والقرطبي ١١ / ٦٣ ، والبحر ٦ / ١٧٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٧.

(٣) نسبها ابن خالويه في الشواذ إلى حماد بن سليمان عن عاصم.

(٤) ينظر : القرطبي ١١ / ٦٣ ، والبحر ٦ / ١٧٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٨.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ١١٢.

(٦) في ب : وابن الصعق.

٤٠