اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة مريم

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (كهيعص)(١)

اعلم أنّ حروف المعجم على نوعين : ثنائي ، وثلاثي ، وقد جرت العادة ـ عادة العرب ـ أن ينطقوا بالثنائيّات المقطوعة ممالة ، فيقولوا : با ، تا ، ثا ، وكذلك أمثالها ، وأن ينطقوا بالثلاثيّات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة ، فيقولون : دال ذال ، صاد ، ضاد ، وكذلك أشكالها.

أما الزّاي وحده من بين حروف المعجم ، فمعتاد فيه الأمران ؛ فإنّ من أظهر ياءه في النّطق حتّى يصير ثلاثيّا ، لم يمله ، ومن لم يظهر ياءه في النطق ؛ حتّى يشبه الثنائيّ ، أماله.

واعلم أنّ إشباع الفتحة في جميع المواضع أصل ، والإمالة فرع عليه ؛ ولذلك يجوز إشباع كلّ ممال ، ولا يجوز إمالة كلّ مشبع من المفتوحات.

والعامّة على تسكين أواخر هذه الأحرف المقطعة ، لذلك كان بعض القرّاء يقف على كلّ حرف منها وقفة يسيرة مبالغة في تمييز بعضها من بعض.

وقرأ (١) [الحسن] «كاف» بالضمّ ؛ كأنه جعلها معربة ، ومنعها من الصّرف ؛ للعلميّة والتأنيث ، وللقراء خلاف في إمالة «يا» [و«ها»] وتفخيمهما ، وبعضهم يعبّر عن التفخيم بالضمّ ، كما يعبّر عن الإمالة بالكسر ، وإنما ذكرته ؛ لأنّ عبارتهم في ذلك موهمة.

وأظهر دال «صاد» قبل ذال «ذكر» نافع ، وابن كثير ، وعاصم ؛ لأنه الأصل ، وأدغمها فيها الباقون.

والمشهور إخفاء نون «عين» قبل الصّاد ؛ لأنها تقاربها ، ويشتركان في الفم ، وبعضهم يظهرها ؛ لأنها حروف مقطعة يقصدون تمييز بعضها من بعض.

__________________

(١) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٣٢ ، والقرطبي ١١ / ٥١ ، والكشاف ٣ / ٣ ، والبحر ٦ / ١٧٦٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٩.

٣

قوله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦)

قوله : (ذِكْرُ) : فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم ذكر.

الثاني : أنه خبر محذوف المبتدأ ، تقديره : المتلوّ ذكر ، أو هذا ذكر.

الثالث : أنه خبر الحروف المقطّعة ، وهو قول يحيى بن زياد ، قال أبو البقاء (١) : «وفيه بعد ؛ لأنّ الخبر هو المبتدأ في المعنى ، وليس في الحروف المقطّعة ذكر الرحمة ، ولا في ذكر الرحمة معناها».

و«ذكر» مصدر مضاف ؛ قيل : إلى مفعوله ، وهو الرحمة ، والرحمة في نفسها مصدر أيضا مضاف إلى فاعله ، و«عبده» مفعول به ، والناصب له نفس الرحمة ، ويكون فاعل الذّكر غير مذكور لفظا ، والتقدير : أن ذكر الله رحمته عبده ، وقيل : بل «ذكر» مضاف إلى فاعله على الاتّساع ، ويكون «عبده» منصوبا بنفس الذّكر ، والتقدير : أن ذكرت الرحمة عبده ، فجعل الرحمة ذاكرة له مجازا.

و«زكريّا» بدل ، أو عطف بيان ، أو منصوب بإضمار «أعني».

وقرأ يحيى بن يعمر ـ ونقلها الزمخشريّ عن الحسن (٢) ـ «ذكّر» فعلا ماضيا مشددا ، و«رحمة» بالنصب على أنها مفعول ثان ، قدمت على الأول ، وهو «عبده» والفاعل : إمّا ضمير القرآن ، أو ضمير الباري تعالى ، والتقدير : أن ذكّر القرآن المتلوّ ـ أو ذكّر الله ـ عبده رحمته ، أي : جعل العبد يذكر رحمته ، ويجوز على المجاز المتقدّم أن تكون (رَحْمَةِ رَبِّكَ) هو المفعول الأول ، والمعنى : أنّ الله جعل الرحمة ذاكرة للعبد ، وقيل : الأصل : ذكّر برحمة ، فلمّا انتزع الجارّ نصب مجروره ، ولا حاجة إليه.

وقرأ الكلبيّ (٣) «ذكر» بالتخفيف ماضيا «رحمة» بالنصب على المفعول به ، «عبده» بالرفع فاعلا بالفعل قبله ، «زكريّا» بالرفع على البيان ، أو البدل ، أو على إضمار مبتدأ ، وهو نظير إضمار الناصب في القراءة الأولى.

وقرأ (٤) يحيى بن يعمر ـ فيما نقله عنه الدّاني ـ «ذكّر» فعل أمر ، «رحمة» و«عبده»

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١١٠.

(٢) ينظر : البحر ٦ / ٥٦٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٨٩ وينظر : القرطبي ١١ / ٥٢ وقد نسبها إلى الحسن.

(٣) ينظر : القرطبي ١١ / ٥٢ ، والبحر ٦ / ١٦٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٠.

(٤) ينظر : القرطبي ١١ / ٥٢ ، والبحر ٦ / ١٦٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٠ ، والكشاف ٣ / ٣.

٤

بالنصب فيهما على أنهما مفعولان ، وهما على ما تقدّم من كون كلّ واحد ، يجوز أن يكون المفعول الأول ، أو الثاني ، بالتأويل المتقدّم في جعل الرحمة ذاكرة مجازا.

فصل في تأويل هذه الحروف المقطعة

قال ابن عباس : هذه الحروف اسم من أسماء الله تعالى (١) ، وقال قتادة : اسم من أسماء القرآن (٢).

وقيل : اسم للسّورة.

وقيل : هو قسم أقسم الله به ويروى عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله (كهيعص) قال: الكاف من كريم وكبير ، والماء من هاد ، والياء من رحيم والعين من عليم ، وعظيم ، والصاد من صادق(٣).

وعن ابن عبّاس أيضا أنّه حمل الياء على الكريم مرّة ، وعلى الحكيم أخرى.

وعن ابن عباس في العين أنّه من عزيز من عدل (٤). قال ابن (٥) الخطيب : وهذه أقوال ليست قويّة ؛ لأنّه لا يجوز من الله تعالى أن يودع كتابه ما لا تدلّ عليه اللغة ، لا بالحقيقة ، ولا بالمجاز ؛ لأنّا إن جوّزنا ذلك ، فتح علينا باب قول من يزعم أنّ لكلّ ظاهر باطنا ، واللغة لا تدلّ على ما ذكروه ؛ لأنها ليست دلالة «الكاف» على الكافي أولى من دلالته على الكريم ، والكبير ، أو على اسم آخر من أسماء الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو الملائكة ، أو الجنّة ، أو النّار ، فيكون حملها على بعضها دون البعض تحكّما.

فصل في المراد بقوله تعالى : (رَحْمَتِ رَبِّكَ)

يحتمل أن يكون المراد من قوله (رَحْمَتِ رَبِّكَ) أنه عنى عبده زكريّا ، ثم في كونه رحمة وجهان :

أحدهما : أن يكون «رحمة» على أمّته ؛ لأنّه هداهم إلى الإيمان والطّاعة.

والثاني : أن يكون رحمة على نبيّنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعلى أمّته ؛ لأنّ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٦٦) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ٣٠٣) والحاكم (٢ / ٣٧١ ـ ٣٧٢) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٦٥) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وعثمان الدارمي في «التوحيد» وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٤) عن الضحاك.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٥٢.

٥

الله تعالى ، لمّا شرع لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طريقته في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى ، صار ذلك لطفا داعيا له ، ولأمّته إلى تلك الطريقة ، فكان زكريّا رحمة.

ويحتمل أن يكون المراد أنّ هذه السّورة فيها ذكر الرحمة التي يرحم بها عبده زكريّا.

قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا).

في ناصب إذ ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه «ذكر» ، ولم يذكر الحوفيّ غيره.

والثاني : أنّه «رحمة» وقد ذكر الوجهين أبو البقاء.

والثالث : أنّه بدل من «زكريّا» بدل اشتمال ؛ لأنّ الوقت مشتمل عليه ، وسيأتي مثل هذا عند قوله (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) [مريم : ١٦] ونحوه.

فصل في أدب زكريا في دعائه

راعى سنّة الله في إخفاء دعوته ؛ لأنّ الجهر والإخفاء عند الله سيّان ، وكان الإخفاء أولى ؛ لأنّه أبعد عن الرّياء ، وأدخل في الإخلاص.

وقيل : أخفاه ؛ لئلّا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة وقيل : أسرّه من مواليه الذين خافهم.

وقيل : خفت صوته ؛ لضعفه ، وهرمه ، كما جاء في صفة الشّيخ : صوته خفات ، وسمعه تارات.

فإن قيل : من شرط النّداء الجهر ، فكيف الجمع بين كونه نداء وخفيّا؟.

فالجواب من وجهين :

الأول : أنّه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصّوت ؛ إلا أنّ صوته كان ضعيفا ؛ لنهاية ضعفه بسبب الكبر ، فكان نداء ؛ نظرا إلى القصد ، خفيّا نظرا إلى الواقع.

الثاني : أنّه دعاه في الصّلاة ؛ لأنّ الله تعالى ، أجابه في الصّلاة ؛ لقوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) [آل عمران : ٣٩] فتكون الإجابة في الصّلاة تدلّ على كون الدّعاء في الصّلاة ؛ فوجب أن يكون النداء فيها خفيّا.

وفي التفسير : «إذ نادى» : دعا «ربّه» في محرابه.

قوله : (نِداءً خَفِيًّا) دعا سرّا من قومه في جوف الليل.

قوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) الآية.

قوله : (قالَ رَبِّ) : لا محلّ لهذه الجملة ؛ لأنها تفسير لقوله «نادى ربّه» وبيان ، ولذلك ترك العاطف بينهما ؛ لشدّة الوصل.

٦

قوله : «وهن» العامّة على فتح الهاء ، وقرأ (١) الأعمش بكسرها ، وقرىء بضمّها ، وهذه لغات في هذه اللفظة ، ووحّد العظم لإرادة الجنس ؛ يعني : أنّ هذا الجنس الذي هو عمود البدن ، وأشدّ ما فيه ، وأصلبه ، قد أصابه الوهن ، ولو جمع ، لكان قصدا آخر : وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ، ولكن كلّها ، قاله الزمخشريّ ، وقيل : أطلق المفرد ، والمراد به الجمع ؛ كقوله : [الطويل]

٣٥٧٧ ـ بها جيف الحسرى فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليب (٢)

أي : جلودها ، ومثله : [الوافر]

٣٥٧٨ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

فإنّ زمانكم زمن خميص (٣)

أي : بطونكم.

و«منّي» حال من «العظم» وفيه ردّ على من يقول : إنّ الألف واللام تكون عوضا من الضمير المضاف إليه ؛ لأنه قد جمع بينهما هنا ، وإن كان الأصل : وهن عظمي ، ومثله في الدّلالة على ذلك ما أنشد شاهدا على ما ذكرت : [الطويل]

٣٥٧٩ ـ رحيب قطاب الجيب منها رفيقة

بجسّ النّدامى بضّة المتجرّد (٤)

ومعنى (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) : ضعف ، ورقّ العظم من الكبر.

فصل

قال قتادة (٥) : اشتكى سقوط الأضراس.

قوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أي : ابيضّ شعر الرّأس شيبا.

وفي نصب «شيبا» ثلاثة أوجه :

أحدها ـ وهو المهشور ـ : أنه تمييز منقول من الفاعلية ؛ إذ الأصل : اشتعل شيب الرّأس ، قال الزمخشريّ : «شبّه الشّيب بشواظ النّار في بياضه ، وانتشاره في الشّعر ، وفشوّه فيه ، وأخذه منه كلّ مأخذ باشتعال النّار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشّعر ، ومنبته ، وهو الرّأس ، وأخرج الشّيب مميّزا ، ولم يضف الرّأس ؛ اكتفاء بعلم المخاطب : أنه رأس زكريّا ، فمن ثمّ ، فصحت هذه الجملة ، وشهد لها بالبلاغة» انتهى ، وهذا من استعارة محسوس لمحسوس ، ووجه الجمع : الانبساط والانتشار.

والثاني : أنه مصدر على غير الصّدر ، فإنّ (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ) معناه «شاب».

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : الشواذ ٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ١٦٣ والدر المصون ٤ / ٤٩٠.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٨٨.

٧

الثالث : أنه مصدر واقع موقع الحال ، أي : شائبا ، أو ذا شيب.

وأدغم السّين في الشّين أبو عمرو.

وقوله : «بدعائك» فيه وجهان :

أحدهما : أنّ المصدر مضاف لمفعوله ، أي : بدعائي إيّاك.

والمعنى : عوّدتني الإجابة فيما مضى ، ولم تخيّبني.

والثاني : أنه مضاف لفاعله ، أي : لم أكن بدعائك لي إلى الإيمان شقيّا ، أي : لما دعوتني إلى الإيمان ، آمنت ، ولم أشق.

قوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) : العامّة على «خفت» بكسر الخاء ، وسكون الفاء ، وهو ماض مسند لتاء المتكلّم ، و«الموالي» مفعول به ؛ بمعنى : أنّ مواليه كانوا شرار بني إسرائيل ، فخافهم على الدّين ، قاله الزمخشريّ.

قال أبو البقاء (١) : «لا بدّ من حذف مضاف ، أي : عدم الموالي ، أو جور الموالي».

وقرأ الزهريّ كذلك ، إلا أنه سكّن ياء (٢) «الموالي» وقد تقدّم أنّه قد تقدّر الفتحة في الياء ، والواو ، وعليه قراءة زيد بن عليّ(تطعمون أهاليكم) [المائدة : ٨٩]. وتقدّم إيضاح هذا.

وقرأ عثمان بن عفّان ، وزيد بن ثابت ، وابن عبّاس ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن العاص ، ويحيى بن يعمر ، وعليّ بن الحسين في آخرين : «خفّت» بفتح الخاء ، والفاء مشددة ، وتاء تأنيث ، كسرت ؛ لالتقاء السّاكنين ، و«الموالي» فاعل به ؛ بمعنى : درجوا ، وانقرضوا بالموت.

قوله : (مِنْ وَرائِي) هذا متعلّق في قراءة الجمهور بما تضمّنه الموالي من معنى الفعل ، أي : الذين يلون الأمر بعدي ، ولا يتعلّق ب «خفت» لفساد المعنى ، وهذا على أن يراد ب «ورائي» معنى : خلفي ، وبعدي ، وأمّا في قراءة «خفّت» بالتشديد (٣) ، فيتعلّق الظّرف بنفس الفعل ، ويكون «ورائي» بمعنى قدّامي ، والمعنى : أنهم خفّوا قدّامه ، ودرجوا ، ولم يبق منهم من به تقوّ واعتضاد ، ذكر هذين المعنيين الزمخشريّ.

والموالي : بنو العمّ يدلّ على ذلك تفسير الشّاعر لهم بذلك في قوله : [البسيط]

٣٥٨٠ ـ مهلا ، بني عمّنا ؛ مهلا موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا (٤)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠١.

(٢) ينظر في قراءاتها : المحتسب ٢ / ٣٧ ، والقرطبي ١١ / ٥٣ والبحر ٦ / ١٦٥ ، والدر المصون ٤ / ٤٩١.

(٣) سقط من ب.

(٤) البيت للفضل بن العباس ، ينظر : المؤتلف والمختلف ٣٥ ، مجاز القرآن ١ / ١٢٥ ، الصاحبي ٣٤٢ ، الكامل ٤ / ٤٦ ، البحر ٦ / ١٦٤ ، القرطبي ١١ / ٥٣ ، الدر المصون ٤ / ٤٩١.

٨

وقال آخر : [الوافر]

٣٥٨١ ـ ومولى قد دفعت الضّيم عنه

وقد أمسى بمنزلة المضيم (١)

وهو قول الأصمّ.

وقال مجاهد : العصبة (٢).

وقال أبو صالح : الكلالة (٣).

وقال ابن عبّاس والحسن والكلبيّ (٤) : الورثة.

وعن أبي مسلم : المولى يراد به النّاصر ، وابن العمّ ، والمالك ، والصّاحب ، وهو هنا من يقوم بميراثه مقام الولد ، والمختار : أنّ المراد من الموالي الذين يخلفون بعده ، إما في السّياسة ، أو في المال ، أو في القيام بأمر الدّين ؛ وهو يدلّ على معنى القرب والدّنوّ ، ويقال : وليته أليه وليا ، أي : دنوت منه ، وأوليته إيّاه ، وكل ممّا يليك ، وجلست ممّا يليه ، ومنه الولي ، وهو المطر الذي يلي الوسميّ ، والوليّة : البرذعة [الّتي](٥) تلي ظهر الدّابّة ، ووليّ اليتيم ، والبلد ، ووليّ القتيل ؛ لأنّ من تولّى أمرا ، فقد قرب منه.

وقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] من قولهم : ولاه بركنه ، أي جعله ما يليه ، وأما ولّى عنّي ، إذا أدبر ، فهو من باب تثقيل الحشو للسلب ، وقولهم : فلان أولى من فلان ، أي : أحق ؛ أفعل التفضيل من الوالي أو الولي ، كالأدنى ، والأقرب من الدّاني ، والقريب ، وفيه معنى القرب أيضا ؛ لأنّ من كان أحقّ بالشيء ، كان أقرب إليه ، والمولى : اسم لموضع الولي ، كالمرمى والمبنى : اسم لموضع الرّمي والبناء.

والجمهور على «ورائي» بالمدّ ، وقرأ ابن كثير (٦) ـ في رواية عنه ـ «وراي» بالقصر ، ولا يبعد ذلك عنه ، فإنه قد قصر شركاي [النحل : ٢٧] في النّحل ؛ كما تقدّم ، وسيأتي أنّه قرأ أن راه استغنى في العلق [الآية : ٧] ؛ كأنه كان يؤثر القصر على المدّ ؛ لخفّته ، ولكنّه عند البصريين لا يجوز سعة.

قوله : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي : لا تلد ، والعقر في البدن : الجرح ، وعقرت الفرس بالسّيف : ضربت قوائمه.

__________________

(١) البيت للبيد بن ربيعة. ينظر : ديوانه ١٨٤ ، البحر المحيط ٦ / ١٦٤ ، الدر المصون ٤ / ٤٩٢.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٧) عن مجاهد وأبي صالح وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٦٧) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٧) عن أبي صالح.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي (١١ / ٥٣).

(٥) في ب : لأنها.

(٦) ينظر : القرطبي ١١ / ٥٤ ، والبحر ٦ / ١٦٥ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٢.

٩

قوله «من لدنك» يجوز أن يتعلق ب «هب» ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من «وليّا» لأنه في الأصل صفة للنكرة ، فقدّم عليها.

(يَرِثُنِي وَيَرِثُ) : قرأ أبو عمرو (١) ، والكسائيّ بجزم الفعلين على أنّهما جواب للأمر ؛ إذ تقديره : إن يهب ، يرث ، والباقون برفعهما ؛ على أنّهما صفة ل «وليّا».

وقرأ عليّ ـ رضي الله عنه ـ وابن عبّاس ، والحسن (٢) ، ويحيى بن يعمر ، والجحدريّ ، وقتادة في آخرين : «يرثني» بياء الغيبة ، والرّفع ، وأرث مسندا لضمير المتكلّم.

فصل فيما قرىء به من قوله : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ)

قال صاحب «اللّوامح» : «في الكلام تقديم وتأخير ؛ والتقدير : يرث نبوّتي ، إن متّ قبله وأرث ماله ، إن مات قبلي». ونقل هذا عن الحسن.

وقرأ عليّ أيضا ، وابن عبّاس ، والجحدريّ (٣) «يرثني وارث» جعلوه اسم فاعل ، أي : يرثني به وارث ، ويسمّى هذا «التجريد» في علم البيان.

وقرأ (٤) مجاهد «أويرث» وهو تصغير «وارث» والأصل : «وويرث» بواوين ، وجب قلب أولاهما همزة ؛ لاجتماعهما متحركتين أول كلمة ، ونحو «أويصل» تصغير «واصل» والواو الثانية بدل عن ألف «فاعل» و«أويرث» مصروف ؛ لا يقال : ينبغي أن يكون غير مصروف ؛ لأنّ فيه علتين : الوصفيّة ، ووزن الفعل ، فإنه بزنة «أبيطر» مضارع «بيطر» وهذا ممّا يكون الاسم فيه منصرفا في التكبير ممتنعا في التصغير ، لا يقال ذلك لأنه غلط بيّن ؛ لأنّ «أويرثا» وزنه فويعل ، لا أفيعل ؛ بخلاف «أحيمر» تصغير «أحمر».

وقرأ الزهريّ (٥) «وارث» بكسر الواو ، ويعنون بها الإمالة.

قوله : «رضيّا» مفعول ثان ، وهو فعيل بمعنى فاعل ، وأصله «رضيو» لأنه من الرّضوان.

فصل

معنى قوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) أعطني من أبناء.

واعلم أنّ زكريّا ـ عليه‌السلام ـ قدّم السؤال ؛ لأمور ثلاثة :

الأول : كونه ضعيفا.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٤١٧ ، والنشر ٢ / ٣١٧ ، والحجة ٤٣٧ ، والتيسير ١٤٨ ، والمحتسب ٢ / ٦٣٨ والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٩١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٩ ، ١٠ ، والإتحاف ٢ / ٢٣٣ ، والبحر ٦ / ١٦٥.

(٢) ينظر : البحر ٦ / ٦٥ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٢ ، والكشاف ٣ / ٥.

(٣) ينظر : مصادر تخريج القراءة السابقة.

(٤) ينظر : البحر ٦ / ١٦٥ ، والدر المصون ٤ / ٤٩٢ ، وينظر : الكشاف ٣ / ٥ ونسبها إلى الجحدري.

(٥) ينظر : الدر المصون ٤ / ٤٩٢ ، والبحر ٦ / ١٦٥ وقد نسبها إلى الجحدري.

١٠

والثاني : أن الله تعالى ما ردّ دعاءه.

والثالث : كون المطلوب سببا للمنفعة في الدّين ، ثم بعد ذلك صرّح بالسّؤال.

أمّا كونه ضعيفا ، فالضّعيف : إمّا أن يكون في الباطن ، أو في الظّاهر ، والضّعف في الباطن أقوى من ضعف الظّاهر ، فلهذا ابتدأ ببيان ضعف الباطن ، فقال : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) وذلك لأنّ العظم أصلب أعضاء البدن ، وجعل كذلك لمنفعتين :

الأولى : ليكون أساسا وعمدا يعتمد عليها بقيّة الأعضاء ؛ لأنّها موضوعة على العظام ، والحامل يجب أن يكون أقوى من المحمول عليه.

الثاني : أنّها في بعض المواضع وقاية لغيرها.

واحتج أصحاب القول الأوّل أنّه إذا ... (١) أوّلا ، ثم ردّ بأنها تكون كغيرها من الأعضاء كعظام الصّلف وقحف الرأس ، وما كان كذلك ، فيجب أن يكون صلبا ؛ ليصبر على ملاقاة الآفات ، ومتى كان العظم صلبا ، فمتى وصل الضعف إليه ، كان ضعف ما عداه مع رخاوته أولى ؛ ولأنّ العظم حامل لسائر الأعضاء ، فوصول الضعف إلى الحامل موجب لوصوله إلى المحمول ، فلهذا خصّ العظم بالوهن من بين سائر الأعضاء.

وأما ضعف الظاهر ، فلاستيلاء ضعف الباطن عليه ، وذلك ممّا يزيد الدّعاء تأكيدا ؛ لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته.

وأما كونه غير مردود الدّعاء ، فوجه توسله به من وجهين :

الأول : أنّه إذا قبله أوّلا ، فلو ردّه ثانيا ، لكان الردّ محبطا للإنعام الأول ، والمنعم لا يسعى في إحباط إنعامه.

والثاني : أنّ مخالفة العادة تشقّ على النّفس ، فإذا تعوّد الإنسان إجابة الدّعاء ، فلو ردّ بعد ذلك ، لكان ذلك في غاية المشقّة ، والجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشقّ ، فكأنّ زكريّا ـ عليه‌السلام ـ قال : إنك إن رددتّني بعدما عودتّني القبول مع نهاية ضعفي ، كان ذلك بالغا إلى النّهاية القصوى في [ألم](٢) القلب ، فقال : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا).

تقول العرب : سعد فلان بحاجته : إذا ظفر بها ، وشقي بها : إذا خاب ، ولم [يبلغها](٣).

وأمّا كون المطلوب منتفعا به في الدّين ، فهو قوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي).

فصل في اختلافهم في المراد من قوله : (خِفْتُ الْمَوالِيَ)

قال ابن عباس والحسن : الموالي : الورثة (٤) وقد تقدم.

__________________

(١) موضع النقط بياض في الأصل.

(٢) في أ : ضعف.

(٣) في ب : يذلها.

(٤) تقدم.

١١

واختلفوا في خوفه من الموالي (١) ، فقيل : خافهم على إفساد الدّين.

وقيل : خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في مال ، وغيره ، مع أنّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه.

وقيل : يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنّه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبيّ له أب إلّا نبيّ واحد ، فخاف أن يكون ذلك الواحد من بني عمّه ، إذا لم يكن له ولد ، فسأل الله أن يهب له ولدا ، يكون هو ذلك النبيّ ، والظاهر يقتضي أن يكون خائفا في أمر يهتمّ بمثله الأنبياء ، ولا يمتنع أن يكون زكريّا كان إليه مع النبوة الربانيّة من جهة الملك ؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما.

وقوله : «خفت» خرج على لفظ أصل الماضي ، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضا ؛ كقول الرجل : قد خفت أن يكون كذا ، أي : «أنا خائف» لا يريد أنه قد زال الخوف عنه.

قوله : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي : أنّها عاقر في الحال ؛ لأنّ العاقر لا يجوز [أن تحبل في العادة](٢) ، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلام بتقادم العهد في ذلك ، والغرض من هذا بيان استبعاد حصول الولد ، فكان إيراده بلفظ الماضي أقوى ، وأيضا : فقد يوضع الماضي ، أي : مكان المستقبل ، وبالعكس ؛ قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة : ١١٦].

وقوله : (مِنْ وَرائِي) قال أبو عبيدة : من قدّامي ، وبين يديّ.

وقال آخرون : بعد موتي.

فإن قيل : كيف علم حالهم من بعده ، وكيف علم أنّهم يبقون بعده ، فضلا عن أن يخاف شرّهم؟.

فالجواب (٣) : أنه قد يعرف ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف ، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد.

وقوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) الأكثر على أنه طلب الولد ، وقيل : بل طلب من يقوم مقامه ، ولدا كان ، أو غيره.

والأول أقرب ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران ؛ حكاية عنه (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨].

وأيضا : فقوله هاهنا «يرثني» يؤيّده.

وأيضا : يؤيّده قوله تعالى في سورة الأنبياء : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) [الأنبياء : ٨٩] فدلّ على أنّه سأل الولد ؛ لأنّه أخبر هاهنا أنّ له موالي ، وأنّه غير

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٥٥.

(٢) في أ : أن تكون وسودا.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٥٦.

١٢

منفرد عن الورثة ، وهذا وإن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه ، لكنّ حمله على الولد أظهر.

واحتجّ أصحاب القول [الثالث](١) بأنّه لما بشّر بالولد ، استعظمه على سبيل التعجّب ؛ وقال (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ولو كان دعاؤه لطلب الولد ، ما استعظم ذلك.

وأجيب بأنّه ـ عليه‌السلام ـ سأل عمّا يوهب له ، أيوهب له وهو وامرأته على هيئتهما؟ أو يوهب له بأن يحوّلا شابّين ، يولد لمثلهما؟! وهذا يحكى عن الحسن.

وقيل : إنّ قول زكريّا ـ عليه‌السلام ـ في الدّعاء (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) إنما سأل ولدا من غيرها أو منها ؛ بأن يصلحها الله تعالى للولد ، فكأنّه ـ عليه‌السلام ـ قال : أيست أن يكون لي منها ولد ، فهب لي من لدنك وليّا ، كيف شئت : إمّا بأن تصلحها للولادة ، وإمّا أن تهبه لي من غيرها ، فلمّا بشّر بالغلام ، سأل أن يرزق منها ، أو من غيرها ، فأخبر بأنه يرزقه منها.

فصل في المراد بالميراث في الآية

واختلفوا ما المراد بالميراث ، فقال ابن عبّاس ، والحسن ، والضحاك : وراثة المال في الموضعين (٢).

وقال أبو صالح : وراثة النبوّة (٣).

وقال السديّ ، ومجاهد ، والشعبيّ : يرثني المال ، ويرث من آل يعقوب النبوّة (٤).

وهو مرويّ أيضا عن ابن عباس ، والحسن ، والضحاك.

وقال مجاهد : يرثني العلم ، ويرث من آل يعقوب النبوّة (٥). واعلم أنّ لفظ الإرث يستعمل في جميعها : أمّا في المال فلقوله تعالى : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [الأحزاب : ٢٧] وأمّا في العلم ، فلقوله تعالى : (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) [غافر : ٥٣].

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «العلماء ورثة الأنبياء ، وإنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما ، وإنّما ورّثوا العلم» (٦).

وقال تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] وهذا يحتمل وراثة الملك ، ووراثة النبوّة ، وقد يقال : أورثني هذا غمّا وحزنا.

__________________

(١) في ب : الثاني.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٨).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٦٧ وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (٨ / ٣٠٨) عن الحسن وأبي صالح.

(٥) أخرجه الطبري (٨ / ٣٠٨) عن مجاهد وينظر : تفسير الماوردي (٣ / ٣٥٦).

(٦) تقدم تخريجه.

١٣

فصل في أولى ما تحمل عليه الآية

قال الزّجاج : الأولى أن يحمل على ميراث غير المال ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «نحن معاشر الأنبياء ـ لا نورث ، ما تركنا صدقة» (١) ولأنه يبعد أن يشفق زكريّا ـ وهو نبيّ من الأنبياء ـ أن يرث بنو عمّه ماله.

والمعنى : أنه خاف تضييع بني عمّه دين الله ، وتغيير أحكامه على ما كان شاهده من بني إسرائيل من تبديل الدّين ، وقتل من قتل من الأنبياء ، فسأل ربّه وليّا صالحا يأمنه على أمّته ، ويرث نبوّته وعلمه ؛ لئلّا يضيع الدّين.

قوله : (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)؛ الآل : خاصّة الرجل الذي يئول أمرهم إليه ، ثم قد يئول أمرهم إليه لقرابة المقربين تارة ؛ وبالصحابة أخرى ؛ كآل فرعون ، وللموافقة في الدّين ؛ كآل النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وأكثر المفسّرين على أنّ يعقوب هنا : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لأنّ زوجة زكريّا ـ عليه‌السلام ـ هي أخت مريم ، وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب ، وأمّا زكريا ـ عليه‌السلام ـ فهو من ولد هارون أخي موسى ، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحاق ، وكانت النبوة في سبط يعقوب ؛ لأنّه هو إسرائيل ـ عليه‌السلام ـ.

وقال بعض المفسّرين : ليس المراد من يعقوب هاهنا ولد إسحاق بن إبراهيم ، بل يعقوب بن ماثان ، [أخو عمران بن ماثان](٢) ، وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكريّا ، وهذا قول الكلبيّ ومقاتل (٣).

وقال الكلبيّ : كان بنو ماثان رءوس بني إسرائيل وملوكهم ، وكان زكريّا رئيس الأحبار يومئذ ، فأراد أن يرثه ولده حبورته ، ويرث بنو ماثان ملكهم (٤).

فصل في تفسير «رضيّا»

اختلفوا في تفسير «رضيّا» فقيل : برّا تقيّا مرضيّا.

وقيل : مرضيّا من الأنبياء ، ولذلك استجاب الله له ؛ فوهب له يحيى سيّدا ، وحصورا ، ونبيّا من الصّالحين ، لم يعص ، ولم يهم بمعصية.

وقيل : «رضيّا» في أمّته لا يتلقّى بالتّكذيب ، ولا يواجه بالرّدّ.

فصل في الاحتجاج على خلق الأفعال

احتجوا بهذه الآية على مسألة خلق الأفعال ؛ لأنّ زكريّا ـ عليه‌السلام ـ سأل الله

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي (١١ / ٥٦) والماوردي (٣ / ٣٥٦).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

١٤

تعالى أن يجعله رضيّا ؛ فدلّ على أنّ فعل العبد مخلوق لله تعالى.

فإن قيل : المراد : أن يلطف به بضروب الألطاف فيختار ما يصير به رضيّا عنده ، فنسب ذلك إلى الله تعالى.

فالجواب من وجهين :

الأول : لو حملناه على جعل الألطاف ، وعندها يصير إليه المرء باختياره رضيّا ؛ لكان ذلك مجازا ، وهو خلاف الأصل.

الثاني : أنّ جعل تلك الألطاف واجبة على الله تعالى ، لا يجوز الإخلال به ، وما كان واجبا لا يجوز طلبه بالدّعاء والتضرّع.

قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(١٥)

قوله : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ).

اختلفوا في المنادي ، فالأكثرون على أنّه هو الله تعالى ؛ لأنّ زكريّا إنّما كان يخاطب الله تعالى ، ويسأله بقوله : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ، وبقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) وبقوله : (فَهَبْ لِي) ، وبقوله بعده : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ، فوجب أن يكون هذا النداء من الله تعالى ، وإلّا لفسد [المعنى و](١) النّظم ، وقيل : هذا النداء من الملك ؛ لقوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) [آل عمران : ٣٩].

وأيضا : فإنه لمّا قال : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم :٩].

وهذا لا يجوز أن يكون كلام الله ؛ فوجب أن يكون كلام الملك.

ويمكن أن يجاب بأنه يحتمل أنّه يحصل النداءان : نداء الله تعالى ، ونداء الملائكة.

ويمكن أن يكون قوله : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ) من كلام الله تعالى ، كما سيأتي بيانه ـ إن شاء الله تعالى ـ.

__________________

(١) زيادة من أ.

١٥

فصل

[في] الكلام اختصار ، تقديره : استجاب الله دعاءه ، فقال : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) : بولد ، ويقال : زكريّاء «بالمد والقصر» ، ويقال : زكرى أيضا ، نقله ابن كثير.

فإن قيل : كان دعاؤه بإذن ، فما معنى البشارة؟ وإن كان بغير إذن ؛ فلماذا أقدم عليه؟.

فالجواب (١) : يجوز أن يسأل بغير إذن ، ويحتمل أنّه أذن له فيه ، ولم يعلم وقته ، فبشّر به.

قوله : «يحيى» : فيه قولان :

أحدهما : أنه اسم أعجميّ ، لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهر ، ومنعه من الصّرف ؛ للعلميّة والعجمة ، وقيل : بل هو منقول من الفعل المضارع ، كما سمّوا ب «يعمر» و«يعيش» و«يموت» وهو يموت بن المزرّع.

والجملة من قوله : (اسْمُهُ يَحْيى) في محلّ جرّ صفة ل «غلام» وكذلك (لَمْ نَجْعَلْ) و«سميّا» كقوله : «رضيّا» إعرابا وتصريفا ؛ لأنّه من السّموّ ، وفيه دلالة لقول البصريين : أن الاسم من السموّ ، ولو كان من الوسم ، لقيل : وسيما.

فصل

قال ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة : إنّه لم يسمّ أحد قبله بهذا الاسم(٢).

وقال سعيد بن جبير ، وعطاء : لم نجعل له شبها ومثلا ؛ لقوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: ٦٥] أي : مثلا (٣).

والمعنى : أنه لم يكن له مثل ؛ لأنّه لم يعص ، ولم يهمّ بمعصية قط ؛ كأنّه جواب لقوله (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) فقيل له : إنّا نبشّرك بغلام ، لم نجعل له شبيها في الدّين ، ومن كان كذلك ، كان في غاية الرضا.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٥٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣١٠) عن قتادة وابن جريج وابن زيد والسدي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٦٨) عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وأحمد في «الزهد» وعبد بن حميد.

وأخرجه الحاكم (٢ / ٣٧٢) عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٦٨) وزاد نسبته إلى الفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ٣١٠) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٦٨) وعزاه إلى أحمد في «الزهد» وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٦

وفي هذا نظر ؛ لأنّه يقتضي تفضيله على الأنبياء قبله ؛ كآدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، [وعيسى](١) ؛ وذلك باطل.

وقيل : لم يكن له مثل في أمر النّساء ؛ لأنّه كان سيّدا وحصورا.

وقال عليّ بن أبي (٢) طلحة ، عن ابن عبّاس : لم تلد العواقر مثله (٣) ولدا. وقيل : لأنّ كلّ الناس ، إنما يسمّونهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود ، وأما يحيى فإنّ الله سمّاه قبل دخوله في الوجود ، فكان ذلك من خواصّه.

وقيل : لأنّه ولد شيخ ، وعجوز عاقر.

فصل في سبب تسميته بيحيى

واختلفوا في سبب تسميته بيحيى (٤) ، فعن ابن عبّاس : لأنّ الله أحيا به عقر أمه ، ويرد على هذا قصّة إبراهيم ، وزوجته ، قالت : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] فينبغي أن يكون اسم ولدهم يحيى.

وعن قتادة : لأنّ الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطّاعة ، والله تعالى سمّى المطيع حيّا ، والعاصي ميّتا ؛ بقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢].

وقال : (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤].

وقيل : لأنّ الله تعالى أحياه بالطّاعة ؛ حتى لم يعص ، ولم يهمّ بمعصية.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من أحد إلّا وقد عصى ، أو همّ إلّا يحيى بن زكريّا ، فإنّه لم يهمّ ولم يعملها»(٥) وفي هذا نظر ؛ لأنه كان ينبغي أن تسمى الأنبياء كلهم والأولياء ب «يحيى».

وقال ابن القاسم بن حبيب : لأنه استشهد ، والشهداء أحياء عند ربهم ، قال تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [آل عمران : ١٦٩] وفي ذلك نظر ؛ لأنه كان يلزم منه أن يسمّى الشهداء كلّهم بيحيى.

وقال عمرو بن المقدسيّ (٦) : أوحى الله تعالى ، إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنه قل

__________________

(١) زيادة من أ.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٨٩.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣٠٩) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٦٨) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٥٩.

(٥) أخرجه أحمد (١ / ٢٥٤ ، ٢٩٢) من حديث ابن عباس وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨ / ٢١٢) وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني وفيه علي بن زيد وضعفه الجمهور وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٥٩.

١٧

لسارّة بأنّي مخرج منها عبدا ، لا يهمّ بمعصية اسمه حيى ، فقال : هبي له من اسمك حرفا ، فوهبته حرفا من اسمها ، فصار يحيى ، وكان اسمها يسارة ، فصار اسمها سارة.

وقيل : لأنّ يحيى أوّل من آمن بعيسى ، فصار قلبه حبّا بذلك الإيمان.

وقيل : إنّ أمّ يحيى كانت حاملا به ، فاستقبلتها مريم ، وقد حملت بعيسى ، فقالت لها أمّ يحيى : يا مريم ، أحامل أنت؟ فقالت : لم تقولين؟ فقالت : أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك.

قوله : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي : من أين يكون لي غلام ، والغلام : هو الإنسان الذكر في ابتداء شهوته في الجماع ، ويكون في التلميذ ، يقال : غلام ثعلب.

(وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً). أي : وامرأتي عاقر ، ولم يقل : عاقرة ؛ لأنّ من كان على «فاعل» من صفة المؤنّث ممّا لم يكن للمذكّر ، فإنّه لا تدخل فيه الهاء ، كامرأة عاقر وحائض.

قال الخليل : هذه صفات المذكّر ، وصف بها المؤنّث ، كما وصف المذكّر بالمؤنّث ؛ حيث قال : رجل نكحة ، وربعة ، وغلام نفعة.

قوله : «عتيّا» : فيه أربعة أوجه :

أظهرها : أنه مفعول به ، أي : بلغت عتيّا من الكبر ، فعلى هذا «من الكبر» يجوز أن يتعلّق ب «بلغت» ويجوز أن يتعلق بمحذوف ؛ على أنه حال من «عتيّا» لأنه في الأصل صفة له ؛ كما قدرته لك.

الثاني : أن يكون مصدرا مؤكّدا من معنى الفعل ؛ لأنّ بلوغ الكبر في معناه.

الثالث : أنّه مصدر واقع موقع الحال من فاعل «بلغت» أي : عاتيا ، ذا عتيّ.

الرابع : أنه تمييز ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة «من» مزيدة ، ذكره أبو البقاء (١) ، والأول هو الوجه.

والعتوّ : بزنة فعول ، وهو مصدر «عتا ، يعتو» أي : يبس ، وصلب ، قال الزمخشريّ : «وهو اليبس والجساوة في المفاصل ، والعظام ؛ كالعود القاحل ؛ يقال : عتا العود وجسا ، أو بلغت من مدارج الكبر ، ومراتبه ما يسمّى عتيّا» يريد بقوله : «أو بلغت» أنه يجوز أن يكون من «عتا يعتو» أي : فسد.

والأصل : «عتوو» بواوين ، فاستثقل واوان بعد ضمتين ، فكسرت التاء ؛ تخفيفا ، فانقلبت الواو الأولى ياء ؛ لسكونها وانكسار ما قبلها ، فاجتمع ياء وواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت فيها الأولى ، وهذا الإعلال جار في المفرد هكذا ، والجمع: نحو : «عصيّ» إلا أنّ الكثير في المفرد التصحيح ؛ كقوله : (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١١١.

١٨

[الفرقان : ٢١] وقد يعلّ كهذه الآية ، والكثير في الجمع الإعلال ، وقد يصحّح ؛ نحو : «إنّكم لتنظرون في نحو كثيرة» وقالوا : فتيّ وفتوّ.

وقرأ الأخوان (١) «عتيّا» و (صِلِيًّا) [مريم : ٧٠] و«بكيّا» [مريم : ٥٨] و (جِثِيًّا) [مريم : ٧٢] بكسر الفاء للإتباع ، والباقون بالضمّ على الأصل.

وقرأ عبد الله بن مسعود بفتح الأوّل من «عتيّا» و«صليّا» جعلهما مصدرين على زنة «فعيل» كالعجيج والرّحيل.

وقرأ عبد الله وأبي بن كعب «عسيّا» بضم العين ، وكسر السين المهملة ، وتقدم اشتقاق هذه اللفظة في الأعراف ، وتصريفها.

والعتيّ والعسيّ : واحد.

يقال : عتا يعتو عتوّا ، وعتيّا ، فهو عات ، وعسا يعسو عسوّا وعسيّا فهو عاس ، والعاسي : هو الذي غيره طول الزمان إلى حال البؤس. وليل عات : طويل ، وقيل : شديد الظلمة.

فصل

في هذه الآية سؤالان (٢) :

أحدهما : لم تعجب زكريّا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) مع أنّه هو الذي طلب الغلام؟.

والسؤال الثاني : قوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) هذا التعجّب يدل على الشك في قدرة الله تعالى على ذلك ، وذلك كفر ، وهو غير جائز على الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ؟.

فالجواب عن الأول : أمّا على قول من قال : ما طلب الولد ، فالإشكال زائل ، وأمّا على قول من قال : إنّه طلب الولد ، فالجواب : أن المقصود من قوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) هو البحث على أنه تعالى يجعلهما شابين ، ثم يرزقهما ، أو يتركهما شيخين ، ويرزقهما الولد ، مع الشيخوخة؟ ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء : ٨٩ ، ٩٠].

وما هذا الإصلاح إلّا أنّه تعالى أعاد قوّة الولادة.

وذكر السديّ في الجواب وجها آخر ، فقال : إنّه لمّا سمع النداء بالبشارة جاءه

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : السبعة ٤٠٧ ، والنشر ٢ / ٣١٧ ، والحجة ٤٣٩ ، والإتحاف ٢ / ٢٣٤ ، والمحتسب ٢ / ٣٩ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٩١ ، ١٩٢ ، وإعراب القراءات ٢ / ١١.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٦٠.

١٩

الشيطان ، فقال : إنّ هذا الصّوت ليس (١) من الله تعالى ، بل من الشيطان يسخر منك ، فلمّا شكّ زكريّا قال : (رَبِّ ، أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ، وغرض السدي من هذا أن زكريا ـ عليه‌السلام ـ لو علم أن المبشّر بذلك هو الله تعالى ، لما جاز له أن يقول ذلك ، فارتكب هذا.

وقال بعض المتكلّمين : هذا باطل باتّفاق ؛ إذ لو جوّز الأنبياء في بعض ما يرد عن الله تعالى أنّه من الشيطان ، لجوّزوا في سائره ، ولزالت الثقة (٢) عنهم في الوحي ، وعنّا فيما يوردونه إلينا.

ويمكن أن يجاب عنه : بأنّ هذا الاحتمال قائم في أوّل الأمر ، وإنّما يزول بالمعجزة ، فلعلّ المعجزة لم تكن حاصلة في هذه الصور (٣) ، فحصل الشّك هنا فيها دون ما عداها.

والجواب عن السؤال الثاني من وجوه :

الأول : أن قوله : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى).

ليس نصّا في كون ذلك الغلام ولدا له ، بل يحتمل أن يكون زكريّا ـ عليه الصلاة والسلام ـ راعى الأدب ، ولم يقل : هذا الغلام ، هل يكون ولدا لي ، أم لا ، بل ذكر أسباب حصول الولد في العادة ؛ حتى أنّ تلك البشارة ، إن كانت بالولد ، فإن الله تعالى يزيل الإبهام ، ويجعل الكلام صريحا ، فلمّا ذكر ذلك ، صرّح الله تعالى بكون الولد منه ، فكان الغرض من كلام زكريّا هذا ، لا أنه كان شاكّا في قدرة الله تعالى عليه.

الثاني : أنه ما ذكر ذلك للشك ، لكن على وجه التعظيم لقدرته ، وهذا كالرجل الذي يرى صاحبه قد وهب الكثير الخطير ، فيقول : أنّى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك! تعظيما وتعجّبا.

الثالث : أن من شأن من بشّر بما يتمناه ؛ أن يتولد له فرط السرور به عند أوّل ما يرد عليه استثبات ذلك الكلام ؛ إما لأن شدة فرحه به توجب ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر ، وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه‌السلام بعد أن بشرت بإسحاق قالت (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) [هود : ٧٢] فأزيل تعجبها بقوله : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٧٣] ، وإما طلبا للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى ، وإما مبالغة في تأكيد التفسير.

قوله : «كذلك» : في محل هذه الكاف وجهان :

أحدهما : أنه رفع على خبر ابتداء مضمر ، أي : الأمر كذلك ، ويكون الوقف على : «كذلك» ، ثم يبتدأ بجملة أخرى.

__________________

(١) في أ : السورة ليس.

(٢) في أ : المشقة.

(٣) في أ : السورة.

٢٠