نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

الشيء الممكن (١) ، لأنّه يتّصف بالشدّة والضعف والقرب والبعد. فالنطفة الّتي فيها إمكان أن يصير إنسانا ـ مثلا ـ أقرب إلى الإنسان الممكن من الغذاء الّذي يمكن أن يتبدّل نطفة ثمّ يصير إنسانا ، والإمكان في النطفة أيضا أشدّ منه في الغذاء مثلا.

ثمّ إنّ هذا الإمكان الموجود في الخارج ليس جوهرا قائما بذاته ، وهو ظاهر ، بل هو عرض قائم بموضوع يحمله ، فلنسمّه : «قوّة» ولنسمّ الموضوع الّذي يحمله : «مادّة» ؛ فإذن لكلّ حادث زمانيّ مادّة سابقة عليه تحمل قوّة وجوده.

ويجب أن تكون المادّة غير ممتنعة عن الاتّحاد بالفعليّة الّتي تحمل إمكانها ، وإلّا لم تحمل إمكانها ، فهي في ذاتها قوّة الفعليّة الّتي تحمل إمكانها ، إذ لو كانت ذات فعليّة في نفسها لامتنعت عن قبول فعليّة اخرى ، بل هي جوهر فعليّة وجوده أنّه قوّة الأشياء ، لكنّها لكونها جوهرا بالقوّة قائمة بفعليّة اخرى إذا حدث الممكن ـ وهو الفعليّة الّتي حملت المادّة إمكانها ـ بطلت الفعليّة السابقة وقامت الفعليّة اللاحقة مقامها ، كمادّة الماء ـ مثلا ـ تحمل قوّة الهواء وهي قائمة بعد بالصورة المائيّة حتّى إذا تبدّل هواء بطلت الصورة المائيّة وقامت الصورة الهوائيّة مقامها وتقوّمت المادّة بها.

ومادّة الفعليّة الجديدة الحادثة والفعليّة السابقة الزائلة واحدة ، وإلّا كانت المادّة حادثة بحدوث الفعليّة الحادثة ، فاستلزمت إمكانا آخر ومادّة اخرى وننقل الكلام إليهما ، فكانت لحادث واحد إمكانات وموادّ غير متناهية ، وهو محال.

__________________

(١) خلافا للشيخ الإشراقيّ ، فإنّه يعتقد أنّ الإمكان ـ مطلقا ـ من الأوصاف العقليّة الّتي لا صورة لها في الأعيان. راجع حكمة الإشراق : ٧١ ـ ٧٢.

وأمّا في خصوص الإمكان الاستعداديّ فلم أجد من صرّح من القدماء بأنّه اعتبار عقليّ. نعم ، نقل المحقّق الآملي في درر الفوائد ١ : ٢٥٠ قولا من الحاشية القديمة على شرح التجريد بأنّ الاستعداد أمر اعتباريّ. وذهب بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف رحمه‌الله إلى أنّ القوّة والإمكان الاستعداديّ مفهوم ينتزعه العقل عن حصول شرائط الشيء قبل تحقّقه نفسه ، فليس أمرا عينيّا. راجع تعليقة على نهاية الحكمة : ١٤١ و ٢٨٤.

٨١

ونظير الإشكال لازم لو فرض للمادّة حدوث زمانيّ.

وقد تبيّن بما تقدّم :

أوّلا : أنّ النسبة بين المادّة والقوّة الّتي تحملها نسبة الجسم الطبيعيّ والجسم التعليميّ ، فقوّة الشيء الخاصّ تعيّن المادّة المبهمة (١).

وثانيا : أنّ حدوث الحوادث الزمانيّة لا ينفكّ عن تغيّر في الصور إن كانت جواهر ، وفي الأحوال إن كانت أعراضا.

وثالثا : أنّ القوّة تقوم دائما بفعليّة (٢) ، والمادّة تقوم دائما بصورة تحفظها. فإذا حدثت صورة بعد صورة قامت الصورة الحديثة مقام القديمة وقوّمت المادّة.

__________________

(١) وفي النسخ : «تعيّن قوّة المادّة المبهمة» وهذا غير صحيح ، فإنّ المادّة ليس معناها إلّا القوّة المبهمة ولا معنى لقوّة القوّة المبهمة. بل الصحيح إمّا أن يقال : «تعيّن المادّة المبهمة» كما أثبتناه تبعا للمصنّف رحمه‌الله في تعليقته على الأسفار ٣ : ٥٥ حيث قال : «فإمكان صورة كذا تعيّن للمادّة المبهمة». وإمّا أن يقال : «تعيّن القوّة المبهمة». وإمّا أن يقال : «تعيّن للمادّة».

وعلى أيّ حال فالمراد أنّ قوّة الشيء الخاصّ تعيّن القوّة المبهمة ، وهي المادّة ، كما أنّ الجسم التعليميّ تعيّن الامتدادات الثلاثة المبهمة ـ من الطول والعرض والعمق ـ في الجسم الطبيعيّ.

(٢) أي : تقوم دائما بمادّة موجودة فعليّة ، فإنّ موضوعها المادّة الموجودة ، كما مرّ.

٨٢

الفصل الثاني

في استيناف القول في معنى وجود الشيء بالقوّة

ووجوده بالفعل (١) وانقسام الوجود إليهما

إنّ ما بين أيدينا من الأنواع الجوهريّة يقبل أن يتغيّر فيصير غير ما كان أوّلا ، كالجوهر غير النامي يمكن أن يتبدّل إلى الجوهر النامي ، والجوهر النامي يمكن أن يتبدّل فيصير حيوانا ، وذلك مع تعيّن القابل (٢) والمقبول (٣). ولازم ذلك أن تكون بينهما (٤) نسبة موجودة ثابتة.

__________________

(١) والوجه في استيناف القول في معناهما أنّ ما ذكره في الفصل السابق هو البيان المشهور الموافق لما يذهب إليه القائلون بالكون والفساد من إنكار الحركة الجوهريّة. ولمّا كان المصنّف رحمه‌الله من القائلين بالحركة الجوهريّة فاستأنف القول في معناهما على وجه تثبت به الحركة الجوهريّة.

(٢) أي : المتبدّل.

(٣) أي : المتبدّل إليه.

(٤) أي : القابل والمقبول.

ولا يخفى عليك : أنّه يمكن أن يقال : إنّ منشأ تبدّل جوهر إلى جوهر آخر هو وجود الخصوصيّة في المتبدّل الّتي هو بها يصلح لأن يتبدّل إلى المتبدّل إليه ، فاتّصاف المتبدّل بتلك الخصوصيّة اتّصاف خارجيّ لازمه وجود تلك الخصوصيّة في المتبدّل قبل التبدّل.

وأمّا المتبدّل إليه قبل التبدّل فلا وجود له حتّى يتّصف بخصوصيّة خارجيّة ، وأمّا بعد وجوده فيتّصف بخصوصيّة اخرى بها يصلح أن يتبدّل إلى شيء آخر. فتلك الخصوصيّة قائمة ـ

٨٣

على أنّا نجد هذه النسبة مختلفة بالقرب والبعد ، والشدّة والضعف ، فالنطفة أقرب إلى الحيوان من الغذاء ، وإن كانا مشتركين في إمكان أن يصيرا حيوانا. والقرب والبعد والشدّة والضعف أوصاف وجوديّة لا يتّصف بها إلّا موجود ، فالنسبة المذكورة موجودة لا محالة (١).

وكلّ نسبة موجودة فإنّها تستدعي وجود طرفيها في ظرف وجودها ، لضرورة قيامها بهما وعدم خروج وجودها من وجودهما وكون أحد طرفي النسبة للآخر (٢). وقد تقدّم بيان ذلك كلّه في مرحلة انقسام الوجود إلى ما في نفسه وما في غيره (٣).

وإذا كان المقبول بوجوده الخارجيّ (٤) ـ الّذي هو منشأ لترتّب آثاره عليه ـ غير موجود عند القابل ، فهو موجود عنده بوجود ضعيف لا يترتّب عليه جميع آثاره.

وإذ كان كلّ من وجوديه الضعيف والشديد هو هو بعينه فهما واحد. فللمقبول

__________________

ـ بطرف واحد دائما ، بل بوجود واحد متّصل سيّال على الحركة الجوهريّة. فليس لازم تبدّل جوهر إلى جوهر آخر أن تكون بينهما نسبة موجودة ثابتة ، فإنّ النسبة قائمة بالطرفين وليس هناك إلّا وجود واحد سيّال.

(١) ويمكن منع ذلك ، بأنّ في كلّ ما بالفعل خصوصيّة بها يصلح أن يتبدّل إلى شيء آخر ما لم يكن مانعا من التبدّل. وبعبارة اخرى : أنّ لكلّ ما بالفعل خصوصيّة تهيّؤها للتبدّل إلى شيء آخر بعد ارتفاع الموانع. فللنطفة خصوصيّة بها يصلح أن يصير حيوانا كما أنّ للغذاء خصوصيّة بها يصلح أن يصير حيوانا ، غاية الأمر يختلف التبدّل قربا وبعدا باعتبار قلّة الموانع وكثرتها ، وهذا لا يدلّ على وجود النسبة العينيّة.

(٢) أورد عليه بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف رحمه‌الله من وجوه ، الأوّل : أنّ النسبة أمر اعتباريّ عقليّ. الثاني : ربما يعتبر النسبة بين موجود ومعدوم كنسبة الأمس إلى اليوم. الثالث : يمنع اقتضاء النسبة كون وجود أحد الطرفين للغير. راجع تعليقة على نهاية الحكمة : ٢٨٦.

(٣) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الثانية.

(٤) أي : بوجوده الفعليّ. فالمراد من الوجود الخارجيّ هو مقابل الوجود بالقوّة لا مقابل الوجود الذهنيّ.

٨٤

وجود واحد ذو مرتبتين : مرتبة ضعيفة لا يترتّب عليه جميع آثاره ، ومرتبة شديدة بخلافها. ولنسمّ المرتبة الضعيفة : «وجودا بالقوّة» ، والمرتبة القويّة : «وجودا بالفعل».

ثمّ إنّ المقبول بوجوده بالقوّة معه بوجوده بالفعل موجود متّصل واحد ، وإلّا بطلت النسبة ، وقد فرضت ثابتة موجودة ، وهذا خلف. وكذا المقبول بوجوده بالقوّة مع القابل موجودان بوجود واحد ، وإلّا لم يكن أحد الطرفين موجودا للآخر فبطلت النسبة ، وهذا خلف. فوجود القابل ووجود المقبول بالقوّة ووجوده بالفعل جميعا وجود واحد ذو مراتب مختلفة يرجع فيه ما به الاختلاف إلى ما به الاتّفاق ، وذاك من التشكيك.

هذا فيما إذا فرضنا قابلا واحدا مع مقبول واحد. وأمّا لو فرضنا سلسلة من القوابل والمقبولات ذاهبة من الطرفين متناهية أو غير متناهية في كلّ حلقة من حلقاتها إمكان الفعليّة التالية لها وفعليّة الإمكان السابق عليها على ما عليه سلسلة الحوادث في الخارج كان لجميع الحدود وجود واحد مستمرّ باستمرار السلسلة ذو مراتب مختلفة. وكان إذا قسّم هذا الوجود الواحد على قسمين كان في القسم السابق قوّة القسم اللاحق ، وفي القسم اللاحق فعليّة القسم السابق. ثمّ إذا قسّم القسم السابق مثلا على قسمين كان في سابقهما قوّة اللاحق وفي لاحقهما فعليّة السابق. وكلّما أمعن في التقسيم وجزّئ ذلك الوجود الواحد المستمرّ كان الأمر على هذه الوتيرة ، فالقوّة والفعل فيه ممزوجان مختلطان.

فكلّ حدّ من حدود هذا الوجود الواحد المستمرّ كمال بالنسبة إلى الحدّ السابق ، ونقص وقوّة بالنسبة إلى الحدّ اللاحق ، حتّى ينتهي إلى كمال لا نقص معه ـ أي فعليّة لا قوّة معها ـ كما ابتدئ من قوّة لا فعليّة معها. فينطبق عليه حدّ الحركة ، وهو : أنّها كمال أوّل لما بالقوّة من حيث إنّه بالقوّة.

فهذا الوجود الواحد المستمرّ وجود تدريجيّ سيّال يجري على المادّة الحاملة للقوّة ، والمختلفات هي حدود الحركة وصور المادّة.

٨٥

هذا كلّه في الجواهر النوعيّة. والكلام في الأعراض نظير ما تقدّم في الجواهر ، وسيجيء تفصيل الكلام فيها (١).

فقد تبيّن ممّا تقدّم أنّ قوّة الشيء هي ثبوت مّا له لا يترتّب عليه بحسبه جميع آثار وجوده الفعليّ ، وأنّ الوجود ينقسم إلى ما بالفعل وما بالقوّة ، وأنّه ينقسم إلى ثابت وسيّال.

وتبيّن أنّ ما لوجوده قوّة فوجوده سيّال تدريجيّ وهناك حركة ، وأنّ ما ليس وجوده سيّالا تدريجيّا ـ أي كان ثابتا ـ فليس لوجوده قوّة ـ أي لا مادّة له ـ وأنّ ما له حركة فله مادّة وأنّ ما لا مادّة له فلا حركة له ، وأنّ للأعراض ـ بما أنّ وجوداتها لموضوعاتها ـ حركة بتبع حركة موضوعاتها ، على ما سيأتي من التفصيل (٢).

__________________

(١) في الفصل السابع والفصل الثامن من هذه المرحلة.

(٢) في الأمر الثاني من الامور المذكورة في الفصل الثامن من هذه المرحلة.

٨٦

الفصل الثالث

في زيادة توضيح لحدّ الحركة (١) وما تتوقّف عليه

قد تقدّم (٢) أنّ الحركة نحو وجود يخرج به الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجا ، أي بحيث لا تجتمع الأجزاء المفروضة لوجوده. وبعبارة اخرى : يكون كلّ حدّ من حدود وجوده فعليّة للجزء السابق المفروض وقوّة للجزء اللاحق المفروض ، فالحركة خروج الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجا (٣).

وحدّها المعلّم الأوّل ب «أنّها كمال أوّل لما بالقوّة من حيث إنّه بالقوّة» (٤).

__________________

(١) لا يخفى عليك : أنّه ليس المراد من حدّ الحركة هو الحدّ المنطقيّ ، فإنّ الحركة ـ على ما ذهب إليه صدر المتألّهين ـ نحو من الوجود ، فلا ماهيّة لها ، وما لا ماهيّة له لا جنس ولا فصل له ، وقوام الحدّ المنطقيّ بالجنس والفصل. بل المراد منه مطلق التعريف.

(٢) في الفصل السابق.

(٣) والتدريج معنى بديهيّ بإعانة الحسّ عليه. والتعريف ليس بحدّ حقيقيّ ، لأنّ الحدّ للماهيّة ، والحركة نحو وجود ، والوجود لا ماهيّة له. (منه رحمه‌الله).

قوله «والتدريج معنى بديهي ...» هذا دفع دخل مقدّر. وهو أنّ تعريف الحركة بخروج الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجا تعريف دوريّ ، لأنّ التدريج ممّا تؤخذ الحركة في تعريفه ، فتعريف الحركة به دوريّ.

دفعه المصنّف رحمه‌الله ـ تبعا لصاحب المطارحات ـ بأنّ التدريج معنى بديهيّ ، فلا يحتاج إلى التعريف ، فلا يلزم الدور.

(٤) نسبه إليه الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ، وصدر المتألّهين في الأسفار. ونسبه ـ

٨٧

وتوضيحه : أنّ الجسم المتمكّن في مكان ـ مثلا ـ إذا قصد التمكّن في مكان آخر ترك المكان الأوّل بالشروع في السلوك إلى المكان الثاني حتّى يتمكّن فيه ، فللجسم ـ وهو في المكان الأوّل ـ كمالان هو (١) بالنسبة إليهما بالقوّة ، وهما : السلوك الّذي هو كمال أوّل ، والتمكّن في المكان الثاني الّذي هو كمال ثان ، فالحركة ـ وهي السلوك ـ كمال أوّل للجسم الّذي هو بالقوّة بالنسبة إلى الكمالين ، لكن لا مطلقا ، بل من حيث إنّه بالقوّة بالنسبة إلى الكمال الثاني ، لأنّ السلوك متعلّق الوجود به.

وقد تبيّن بذلك أنّ الحركة متعلّقة الوجود بامور ستّة : (الأوّل) المبدأ ، وهو الّذي منه الحركة. و (الثاني) المنتهى ، وهو الّذي إليه الحركة ، فالحركة تنتهي من جانب إلى قوّة لا فعل معها تحقيقا أو اعتبارا ، ومن جانب إلى فعل لا قوّة معها تحقيقا أو اعتبارا ، على ما سيتبيّن إن شاء الله (٢). و (الثالث) المسافة الّتي فيها الحركة ، وهي المقولة. و (الرابع) الموضوع الّذي له الحركة ، وهو المتحرّك.

و (الخامس) الفاعل الّذي به الحركة ، وهو المحرّك. و (السادس) المقدار الّذي تتقدّر به الحركة ، وهو الزمان.

__________________

ـ العلّامة إلى الحكماء ، ثمّ نسب القول ب «أنّ الحركة هي حصول الجسم في مكان بعد آخر» إلى المتكلّمين ، فراجع كشف المراد : ٢٦١ ـ ٢٦٢. وفي المقام أقوال اخر مذكورة في المطوّلات ، فراجع الأسفار ٣ : ٢٤ ـ ٣١ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٥٤٩ ، والفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء ، وشرح المنظومة : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

(١) أي : الجسم.

(٢) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

٨٨

الفصل الرابع

في انقسام التغيّر (١)

قد عرفت (٢) أنّ خروج الشيء من القوّة إلى الفعل لا يخلو من تغيّر ، إمّا في ذاته (٣) أو في أحوال ذاته (٤). وإن شئت فقل : إمّا في ذاتيّه كما في تحوّل نوع جوهريّ إلى نوع آخر جوهريّ ، أو في عرضيّه كتغيّر الشيء في أحواله العرضيّة.

ثمّ التغيّر إمّا تدريجيّ وإمّا دفعيّ بخلافه (٥). والتغيّر التدريجيّ ـ ولازمه

__________________

(١) وهو أعمّ من الحركة ، كما سيأتي. فالأولى أن يقدّم البحث عنه على البحث عن الحركة.

(٢) في الفصل الثاني من هذه المرحلة.

(٣) كتغيّر الصور النوعيّة ، نحو تبدّل التراب إلى النبات بزوال الصورة الترابيّة وحدوث الصورة النباتيّة ، أو تبدّل النبات إلى الحيوان بزوال الصورة النباتيّة وحدوث الصورة الحيوانيّة.

(٤) كتغيّر الشيء في كمّه ، كما في ازدياده كمّا بالنموّ وانتقاصه كذلك بالذبول ، وكما في اشتداد الكيف وتضعّفه.

(٥) أمّا التغيّر التدريجيّ في ذاتيّه فمصداقه هو تبدّل الصور النوعيّة ، بناء على أنّ الصور الجسمانيّة صورة الواحدة سيّالة.

وأمّا التغيّر التدريجيّ في عرضيّه فمصداقه ازدياد الكمّ بالنموّ وانتقاصه بالذبول.

وأمّا التغيّر الدفعيّ في ذاتيّه فمصداقه تبدّل الصور ، بناء على أنّ الصورة الاولى تفسد دفعة وتحدث مكانها صورة اخرى.

وأمّا التغيّر الدفعيّ في عرضيّه فمصداقه تعاقب الأعراض المضادّة.

٨٩

إمكان الانقسام إلى أجزاء لا قرار لها ولا اجتماع في الوجود ـ هي الحركة. والتغيّر الدفعيّ ـ بما أنّه يحتاج إلى موضوع يقبل التغيّر وقوّة سابقة على حدوث التغيّر ـ لا يتحقّق إلّا بحركة ، لما عرفت (١) أنّ الخروج من القوّة إلى الفعل كيفما فرض لا يتمّ إلّا بحركة غير أنّه لمّا كان تغيّرا دفعيّا كان من المعاني المنطبقة على أجزاء الحركة الآنيّة كالوصول والترك والاتّصال والانفصال. فالتغيّر كيفما فرض لا يتمّ إلّا بحركة.

ثمّ الحركة تعتبر تارة بمعنى كون الشيء المتحرّك بين المبدأ والمنتهى بحيث كلّ حدّ من حدود المسافة فرض فهو ليس قبله وبعده فيه ، وهي حالة بسيطة ثابتة غير منقسمة ، وتسمّى : «الحركة التوسّطيّة» (٢).

وتعتبر تارة بمعنى كون الشيء بين المبدأ والمنتهى بحيث له نسبة إلى حدود المسافة المفروضة الّتي كلّ واحد منها فعليّة للقوّة السابقة وقوّة للفعليّة اللاحقة ، من حدّ يتركه ومن حدّ يستقبله ، ولازم ذلك الانقسام إلى الأجزاء والانصرام والتقضّي تدريجا وعدم اجتماع الأجزاء في الوجود ، وتسمّى : «الحركة القطعيّة».

والاعتباران جميعا موجودان في الخارج لانطباقهما عليه ، بمعنى أنّ للحركة نسبة إلى المبدأ والمنتهى لا يقتضي ذلك (٣) انقساما ولا سيلانا ، ونسبة إلى المبدأ والمنتهى وحدود المسافة تقتضي سيلان الوجود (٤) والانقسام.

__________________

(١) في الفصل السابق.

(٢) قال السيّد الداماد : «الحركة التوسّطيّة حالة بسيطة شخصيّة هي كون المتحرّك متوسّطا بين المبدأ والمنتهى غير مستقرّ النسبة إلى حدود ما فيه الحركة ، فلا محالة أيّ آن يفرض في زمان الحركة تكون فيه للمتحرّك موافاة حدّ من الحدود ، لا تكون له تلك الموافاة قبل ذلك الآن ولا بعده ، فلا يكون له ذلك الحدّ في آنين. وهذه الحالة البسيطة بحسب ذاتها السيّالة الغير القارّة بحسب نسبتها اللازمة لها إلى حدود المسافة بالموافاة يقال له : الحركة التوسّطيّة». القبسات : ٢٠٤.

(٣) أي : وجود تلك النسبة. والأولى أن يقول : «لا تقتضي انقساما ...».

(٤) أي : باعتبار نسبتها إلى المبدأ والمنتهى وحدود المسافة سيّالة في الخارج ، فلا تجتمع ـ

٩٠

وأمّا ما يأخذه الخيال من صورة الحركة بأخذ الحدّ بعد الحدّ منها وجمعها صورة متّصلة مجتمعة الأجزاء (١) فهو أمر ذهنيّ غير موجود في الخارج ، لعدم جواز اجتماع أجزاء الحركة ـ لو فرضت لها أجزاء ـ وإلّا كانت ثابتة لا سيّالة ، هذا خلف.

__________________

ـ نسبتها إلى الحدّ المتقدّم مع نسبتها إلى الحدّ المتأخّر عنه بحسب الزمان ، بل تقع كلّ نسبة في زمان غير زمان وقوع نسبة اخرى.

(١) فالخيال لمّا ارتسم نسبة المتحرّك إلى الحدّ الثاني قبل أن تزول عنه نسبته إلى الحدّ الأوّل يتخيّل أنّه أمر ممتدّ ينطبق على المسافة الّتي بين الحدّين.

٩١

الفصل الخامس

في مبدأ الحركة ومنتهاها

قد تقدّم (١) أنّ للحركة (٢) انقساما بذاتها ، فليعلم أنّ انقسامها انقسام بالقوّة لا بالفعل ، كما في الكمّ المتّصل القارّ من الخطّ والسطح والجسم التعليميّ ، إذ لو كانت منقسمة بالفعل ـ فانفصلت الأجزاء بعضها من بعض ـ انتهت القسمة إلى أجزاء دفعيّة الوقوع ، وبطلت الحركة.

وأيضا لا يقف ما فيها من الانقسام على حدّ لا يتجاوزه ، ولو وقف على حدّ لا تتعدّاه القسمة كانت مؤلّفة من أجزاء لا تتجزّى ، وقد تقدّم بطلانها (٣).

ومن هنا يظهر أن لا مبدأ ولا منتهى للحركة بمعنى الجزء الأوّل الّذي لا ينقسم من جهة الحركة والجزء الآخر الّذي لا ينقسم كذلك ، لما تبيّن أنّ الجزء بهذا المعنى دفعيّ الوقوع ، فلا ينطبق عليه حدّ الحركة الّتي هي سيلان الوجود وتدرّجه. وأمّا ما تقدّم (٤) من أنّ الحركة تنتهي من الجانبين إلى مبدأ ومنتهى (٥) فهو

__________________

(١) في الفصل السابق.

(٢) أي : الحركة القطعيّة.

(٣) في الفصل الرابع من المرحلة السادسة.

(٤) راجع الفصل الثالث من هذه المرحلة.

(٥) أورد عليه بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف رحمه‌الله بأنّه يمكن أن يقال : «إنّ المبدأ والمنتهى إنّما يلزمان الحركة المحدودة بما أنّها محدودة ، لا بما أنّها حركة ، فلو وجدت حركة أزليّة وأبديّة لم تحتج إلى مبدأ ومنتهى». تعليقة على نهاية الحكمة : ٣٠٠.

٩٢

تحديد لها بالخارج من نفسها.

فتنتهي حركة الجوهر من جانب البدء إلى قوّة لا فعل معها إلّا فعليّة أنّها قوّة لا فعل معها ، وهو «المادّة الاولى». ومن جانب الختم إلى فعل لا قوّة معه (١) وهو «التجرّد». وسنزيد هذا توضيحا إن شاء الله (٢).

وتنتهي الحركات العرضيّة من جانب البدء إلى مادّة الموضوع وهي الّتي تقبل الحركة ، ومن جانب الختم في الحركة الطبيعيّة إلى ما تقتضيه الطبيعة من السكون ، وفي الحركة القسريّة إلى هيئة ينفد عندها أثر القسر ، وفي الحركة الإراديّة إلى ما يراه المتحرّك كمالا لنفسه يجب أن يستقرّ فيه.

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «لا قوّة معها» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في الفصل التاسع من هذه المرحلة ، والفصل الثاني والعشرين من المرحلة الثانية عشرة.

٩٣

الفصل السادس

في المسافة

وهي المقولة الّتي تقع فيها الحركة ، كحركة الجسم في كمّه بالنموّ ، وفي كيفه بالاستحالة (١).

__________________

(١) اعلم أنّ في معنى الحركة في المقولة وجوه :

الأوّل : أنّ المقولة موضوع حقيقيّ للحركة ، أي تكون الحركة عارضة على المقولة.

فيكون معنى الحركة في المقولة أنّ الحركة عارضة عليها ، فمعنى الحركة في الأين مثلا كون الأين متحرّكا.

الثاني : أنّ المقولة واسطة في عرض الحركة لمعروضها وإن لم تكن بنفسها معروضة لها ، نحو وساطة السفينة في عرض الحركة لجالسها.

الثالث : أنّ المقولة جنس للحركة ، والحركة نوع لها.

الرابع : أنّ الحركة إحدى المقولات ، كما صرّح بذلك الشيخ الإشراقيّ في التلويحات : ١١.

الخامس : أنّ الحركة من حيث التحريك من مقولة أن يفعل ومن حيث التحرّك من مقولة أن ينفعل.

السادس : أنّ الحركة عرض وراء المقولات ، كالوحدة والنقطة.

السابع : أنّ الحركة ليست من المقولات ، بل هي نحو وجود السيّالات بحيث أنّ الحركة ووجود الأمر السيّال مساوقان. وهذا مذهب صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ٤ حيث قال : «الحركة عبارة عن نحو وجود الشيء التدريجيّ الوجود ، ولا ماهيّة لها إلّا الكون المذكور ، والوجود خارج عن الماهيّات الجوهريّة والعرضيّة ، والطبيعة الّتي يلحقها الجنسيّة لا يجوز أن تكون خارجة عن ماهيّة الأنواع ، فالحركة ليست بجنس فضلا عن أن تكون مقولة».

وحاصل كلامه : أنّ الحركة من عوارض الماهيّة لا الوجود. وبعبارة اخرى : أنّ الحركة ـ

٩٤

من الضروريّ أنّ الذاتيّ لا يتغيّر ، والمقولات الّتي هي أجناس عالية لما دونها من الماهيّات ذاتيّات لها ، والحركة تغيّر المتحرّك في المعنى الّذي يتحرّك فيه فلو كانت الحركة الواقعة في الكيف ـ مثلا ـ تغيّرا من المتحرّك في ماهيّة الكيف

__________________

ـ عبارة عن تجدّد المقولة ، وهذا ليس إلّا نفس وجودها المتجدّد ، فهو نفس المقولة من حيث الوجود ، لا أمر ينضمّ إلى الوجود ، كما أنّ وجود الماهيّة ليس إلّا كون الماهيّة وتحقّقها لا أمر ينضمّ إليها.

وتبعه في ذلك الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ٢٤٥.

الثامن : أنّ الحركة عبارة عن الوجود الناعت للمقولة بمعنى أنّه يرد على المتحرّك في كلّ آن من آنات حركته نوع من أنواع تلك المقولة من دون أن يلبث نوع من أنواعها عليه أكثر من آن واحد ، وإلّا كان تغيّرا في الماهيّة ، والتغيّر في الماهيّة تغيّر في الذاتيّ وهو محال.

والتحقيق ما ذهب إليه صدر المتألّهين. وأمّا غيره من الأقوال فالكلّ مخدوش :

أمّا القول الأوّل : فأورد عليه الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٢٤٥ بأنّه إذا كان معنى الحركة في المقولة عرض الحركة عليها يلزم منه أن يكون في التسوّد ـ الّذي هو الحركة في السواد ـ سوادا يعرضه الحركة الحركة في السواد ، فيكون هاهنا سواد مستمرّ محفوظ ينضمّ إليه سوادات متّصلة ، وهذا محال ، للزوم اجتماع المثلين في كلّ حدّ ، ولزوم تركّب السواد في كلّ حدّ من سواد مستمرّ وسواد انضمّ إليه.

وأمّا القول الثاني : فأورد عليه صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٧٤ ، بأنّ الواسطة في العروض يجب أن يكون معروضا للعرض حقيقة ، وإذا لم تكن المقولة بنفسها معروضة للحركة فلا يعقل أن تكون واسطة لعروضها للجسم المتحرّك.

وأمّا القول الثالث : فأورد عليه الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٢٤٤ بأنّ الحركة تجدّد المقولة لا نفس المقولة ، والجنس لا بدّ أن يحمل على نوعه ويتّحد به ذاتا.

وأمّا القول الرابع : فيرد عليه أنّه لو كانت الحركة مقولة مستقلّة كانت ماهيّة ، والحركة لا يخلو من التغيّر ، فيلزم التغيّر في الماهيّة ، وهو محال.

وأمّا الخامس : فأورد عليه المصنّف رحمه‌الله في تعليقته على الأسفار ٣ : ٧٧ بأنّ الأجناس العالية لا تختلف بالاعتبار.

وأمّا السادس : فأورد عليه في الأسفار ٤ : ٧ بأنّ الأعدام بما هي أعدام خارجة من مقسم المقولات ، فإنّ المقسم هو ما يكون من الامور الوجوديّة بالذات ، وليس كلامنا إلّا فيها.

وأمّا الثامن : فأورد عليه بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف رحمه‌الله في تعليقته على نهاية الحكمة : ٣٠٣. وحاصله : أنّ التغيّر في الوجود الناعت ـ وهو مفهوم انتزاعيّ ـ لا يعقل إلّا بتغيّر منشأ انتزاعه ، وهو المادّة باعتبار وجودها في نفسها.

٩٥

كان ذلك تغيّرا في الذاتيّ ، وهو محال.

فلا حركة في مقولة بمعنى التغيّر في وجودها الّذي في نفسها الّذي يطرد العدم عنها ، لأنّ وجود الماهيّة في نفسها هو نفسها.

فإن كانت في مقولة من المقولات حركة وتغيّر فهو في وجودها الناعت من حيث إنّه ناعت ، فإنّ الشيء له ماهيّة باعتبار وجوده في نفسه ، وأمّا باعتبار وجوده الناعت لغيره (١) كما في الأعراض أو لنفسه (٢) كما في الجوهر ، فلا ماهيّة له ، فلا محذور في وقوع الحركة في مقولة.

فالجسم الّذي يتحرّك في كمّه أو كيفه ـ مثلا ـ لا تغيّر في ماهيّته ، ولا تغيّر في ماهيّة الكمّ أو الكيف اللذين يتحرّك فيهما. وإنّما التغيّر في المتكمّم أو المتكيّف اللذين يجريان عليه.

وهذا معنى قولهم : «التشكيك في العرضيّات دون الأعراض» (٣).

ثمّ إنّ الوجود الناعت وإن كان لا ماهيّة له ، لكنّه لاتّحاده مع الوجود في نفسه ينسب إليه ما للوجود في نفسه من الماهيّة ، ولازم ذلك أن يكون معنى الحركة في مقولة أن يرد على المتحرّك في كلّ آن من آنات حركته نوع من أنواع تلك المقولة من دون أن يلبث نوع من أنواعها عليه أكثر من آن واحد ، وإلّا كان تغيّرا في الماهيّة ، وهو محال.

__________________

(١) لا يخفى عليك : أنّ الوجود لغيره مساوق للوجود الناعت. فالأصحّ أن يقول : «وجوده الناعت» أو يقول : «وجوده لغيره».

(٢) أي : وجوده لنفسه.

(٣) هذا القول منسوب إلى المشّائين ، راجع الأسفار ١ : ٤٢٧ ـ ٤٣٢ ، وتعليقات المصنّف قدس‌سره والحكيم السبزواريّ عليه. وحاصله : أنّه ليس التفاوت في نفس ذات طبيعة مبهمة بذاتها ـ جوهرا كانت أو عرضا ـ ، بل التفاوت في العرضيّ المحمول عليها ، فالتفاوت في العرضيّ كالأسود لا في نفس ذات العرض كالسواد.

وقال المصنّف قدس‌سره في تعليقته على الأسفار ١ : ٤٢٧ : «والحقّ أنّ الفرق بين العرض والعرضيّ في ذلك ـ مع اشتمالهما جميعا على مفهوم غير مختلف في حدّ مفهوميّته ـ مستصعب جدّا».

٩٦

الفصل السابع

في المقولات الّتي تقع فيها الحركة

المشهور بين قدماء الحكماء (١) أنّ المقولات الّتي تقع فيها الحركة أربع : الكيف والكمّ والأين والوضع.

أمّا الكيف ، فوقوع الحركة فيه في الجملة ـ وخاصّة في الكيفيّات المختصّة بالكميّات نظير الاستقامة والاستواء والاعوجاج ـ ظاهر ، فإنّ الجسم المتحرّك في كمّه يتحرّك في الكيفيّات القائمة بكمّه البتّة.

وأمّا الكمّ ، فالحركة فيه تغيّر الجسم في كمّه تغيّرا متّصلا منتظما متدرّجا ، كالنموّ الّذي هو زيادة الجسم في حجمه (٢) زيادة متّصلة بنسبة منتظمة تدريجا.

وقد اعترض عليه (٣) : أنّ النموّ إنّما يتحقّق بانضمام أجزاء من خارج إلى

__________________

(١) راجع الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء ، والنجاة : ١٠٧ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٥٦٩ ـ ٥٨٢ ، وشرح المقاصد ١ : ٢٦١ ـ ٢٦٤ ، وكشف المراد : ٢٦٥ ، وشرح المواقف : ٣٢٨.

(٢) وكالذبول الّذي هو نقصان الجسم في حجمه.

(٣) أي : على كون النموّ حركة في الكمّ. وأمّا الحركة الكمّيّة بإطلاقها فلا ينكره المعترض. وهو الشيخ الإشراقيّ على ما في الأسفار ٣ : ٨٩.

وحاصل الاعتراض : أنّه لا حركة كمّيّة في النموّ والذبول ، لأنّ النموّ يحصل بانضمام ـ

٩٧

أجزاء الجسم. فالحجم الكبير اللاحق كمّ عارض لمجموع الأجزاء الأصليّة والمنضمّة ، والحجم الصغير السابق هو الكمّ العارض لنفس الأجزاء الأصليّة ، والكمّان متباينان غير متّصلين ، لتباين موضوعيهما ، فالنموّ زوال لكمّ وحدوث لكمّ آخر ، لا حركة.

واجيب عنه : بأنّ انضمام الضمائم لا شكّ فيه ، لكنّ الطبيعة تبدّل الأجزاء المنضمّة إلى صورة الأجزاء الأصليّة ، وتزيد به (١) كمّيّة الأجزاء الأصليّة زيادة متّصلة منتظمة متدرّجة ، وهي الحركة كما هو ظاهر (٢).

وأمّا الأين ، فوقوع الحركة فيه ظاهر ، كما في انتقالات الأجسام من مكان إلى مكان ، لكنّ كون الأين مقولة مستقلّة في نفسها لا يخلو من شكّ.

وأمّا الوضع ، فوقوع الحركة فيه أيضا ظاهر ، كحركة الكرة على محورها ، فإنّ

__________________

ـ بعض الأجزاء من الخارج إلى الأجزاء السابقة للجسم ، والأجزاء الأوّليّة باق على مقدارها ، وإنّما انضمّ إليه مقدار الأجزاء الواردة ، فليس هنا زيادة في مقدار الجسم الواحد ، بل إنّما انضمّ جسم ذو مقدار خاصّ إلى جسم ذي مقدار مثله. والذبول يحصل بانفصال بعض الأجزاء عن الجسم ، فليس فيه انتقاص مقدار جسم واحد ، بل انفصل عن الأجزاء الباقية جسم آخر له مقدار خاصّ. فالنموّ زوال لكمّ وحدوث لكمّ آخر ، لا أنّه حركة. وكذلك الذبول حدوث لكمّ وزوال لكمّ آخر ، لا أنّه حركة. والحاصل : أنّه يعتبر في الحركة بقاء الموضوع المتحرّك من أوّلها إلى آخرها ، ولا بقاء للجسم في النموّ والذبول ، فلا حركة فيهما.

(١) أي : بتبدّل الأجزاء المنضمّة إلى صورة الأجزاء الأصليّة.

(٢) والمحقّق الآمليّ قرّر الجواب عن الاعتراض بأنّ الموضوع في الحركة الكمّيّة في النموّ والذبول هو الهيولى المتكمّمة بكمّ مّا ـ أي طبيعة الكمّ الجامع بين خصوصيّاتها ومقاديرها المعيّنة ـ. وما فيه الحركة هو خصوصيّات المقادير.

والفرق بين الطبيعيّ والأفراد واضح ، ففي كلّ مقدار يكون الطبيعيّ موجودا كما أنّ الخصوصيّة موجودة ، وإن كانا موجودين بوجود واحد. وذلك الوجود الواحد من حيث كونه وجود الطبيعيّ واحد ثابت مستمرّ من أوّل الحركة إلى آخرها ويكون التغيّر في أحواله فيكون كالحركة بمعنى التوسّط ، ومن حيث كونه وجود الخصوصيّة أمر تدريجيّ غير مستقرّ كالحركة بمعنى القطع ، فهو من حيث وجود الطبيعيّ موضوع للحركة ، ومن حيث الخصوصيّة يكون ما فيه الحركة ، فالموضوع باق مستمرّ من أوّل الحركة إلى آخرها. راجع درر الفوائد ٢ : ٢١٢.

٩٨

وضعها يتبدّل بتبدّل نسب النقاط المفروضة على سطحها إلى الخارج عنها تبدّلا متّصلا تدريجيّا.

قالوا (١) : «ولا تقع في سائر المقولات ـ وهي الفعل والانفعال والمتى والإضافة والجدة والجوهر ـ حركة.

أمّا الفعل والانفعال ، فقد اخذ في مفهوميهما التدريج ، فلا فرد آنيّ الوجود لهما ، ووقوع الحركة فيهما يستدعي الانقسام إلى أجزاء آنيّة الوجود (٢) ، وليس لهما ذلك. على أنّه يستلزم الحركة في الحركة (٣).

وكذا الكلام في المتى ، فإنّه لمّا كان هيئة حاصلة من نسبة الشيء إلى الزمان وهي تدريجيّة بتدرّج الزمان ، فلا فرد آنيّ الوجود له حتّى تقع فيه الحركة المنقسمة إلى الآنيّات.

وأمّا الإضافة ، فإنّها انتزاعيّة تابعة لطرفيها ، لا تستقلّ بشيء كالحركة.

وكذا الجدة ، فإنّ التغيّر فيها تابع لتغيّر موضوعها ، كتغيّر النعل أو القدم في التنعّل ـ مثلا ـ عمّا كانتا عليه.

وأمّا الجوهر ، فوقوع الحركة فيه يستلزم تحقّق الحركة من غير موضوع ثابت

__________________

(١) والقائل أكثر من تقدّم على صدر المتألّهين ، فراجع الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٥٩٣ ـ ٥٩٤ ، وشرح المقاصد ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، والنجاة : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، وكشف المراد : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٢) وفيه : أنّ الحركة أمر تدريجيّ ، والتدريجيّ لا يقع نفسه ولا أجزاؤه إلّا في الزمان ، ضرورة أنّ معنى التدريجيّ هو أن تتحقّق أجزاؤه الفرضيّة على سبيل التدرّج الاتّصالي ، فلا محالة يتحقّق نفسه وأجزاؤه في الزمان. فيتبيّن أنّ وقوع الحركة في الشيء يستدعي الانقسام إلى أجزاء تدريجيّ قابل للانقسام إلى غير النهاية ، لا أنّه يستدعي الانقسام إلى أجزاء آنيّة ، كما سيأتي في الفصل الآتي.

(٣) أي : لمّا كان التدريج مأخوذا في ماهيّة مقولة الفعل والانفعال وكانت الحركة أمرا تدريجيّا فلا يعقل أن تقع فيهما الحركة ، وإلّا يلزم وقوع تدريج في التدريج ، وهو محال. وسيأتي الجواب عنه في الفصل الآتي.

٩٩

باق ما دامت الحركة ، ولازم ذلك تحقّق حركة من غير متحرّك».

ويمكن المناقشة فيما أوردوه من الوجوه :

أمّا فيما ذكروه في الفعل والانفعال والمتى فبجواز وقوع الحركة في الحركة على ما سنبيّنه إن شاء الله (١).

وأمّا الإضافة والجدة فإنّهما مقولتان نسبيّتان كالوضع ، وكونهما تابعين لأطرافهما في الحركة لا ينافي وقوعها فيهما حقيقة ، والاتّصاف بالتبع غير الاتّصاف بالعرض (٢).

وأمّا ما ذكروه في الجوهر فانتفاء الموضوع في الحركة الجوهريّة ممنوع ، بل الموضوع هو المادّة (٣) على ما تقدّم بيانه (٤) وسيجيء توضيحه إن شاء الله (٥).

__________________

(١) في الفصل الآتي.

(٢) فإنّ الاتّصاف بالتبع اتّصاف حقيقيّ ، والاتّصاف بالعرض اتّصاف مجازيّ.

(٣) قال بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف رحمه‌الله : «بل لزوم الموضوع في كلّ حركة ممنوع». راجع تعليقته على نهاية الحكمة : ٣٠٥ و ٣١٥ ـ ٣١٦.

(٤) راجع الفصل الثاني من هذه المرحلة.

(٥) في الفصل التاسع من هذه المرحلة.

١٠٠