نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

الفصل الثاني عشر

في أنّ الجزاف والقصد الضروريّ والعادة وما يناظرها

من الأفعال لا تخلو عن غاية

قد يتوهّم أنّ من الأفعال الإراديّة ما لا غاية له (١) ، كملاعب الأطفال ، والتنفّس ، وانتقال المريض النائم من جانب إلى جانب ، واللعب باللحية ، وأمثال ذلك. فينتقض بذلك كلّيّة قولهم : «إنّ لكلّ فعل غاية».

ويندفع ذلك بالتأمّل في مبادئ أفعالنا الإراديّة وكيفيّة ترتّب غاياتها عليها. فنقول : قالوا (٢) : إنّ لأفعالنا الإراديّة وحركاتنا الاختياريّة مبدأ قريبا مباشرا للحركات المسمّاة أفعالا ، وهو القوّة العاملة المنبثّة في العضلات المحرّكة إيّاها ، وقبل القوّة العاملة مبدأ آخر ، هو الشوقيّة المنتهية إلى الإرادة والإجماع ؛ وقبل الشوقيّة مبدأ آخر هو الصورة العلميّة من تفكّر أو تخيّل (٣) يدعو إلى

__________________

(١) وإليه أشار الفارابيّ حيث قال في رسالة في فضيلة العلوم : ٩ : «لا تستنكر أن يحدث في العالم امور لها أسباب بعيدة جدّا ، فلا تضبط لبعدها ، فيظنّ بتلك الامور أنّها اتّفاقيّة».

(٢) كذا قال الشيخ الرئيس في الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهيّات الشفاء. وثمّ تبعه المتأخّرون منه ، فراجع المباحث المشرقيّة ١ : ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ، والأسفار ٢ : ٢٥١ ـ ٢٥٣ ، وكشف المراد : ١٣٠ ، وشوارق الإلهام : ٢٤٢ ـ ٢٤٤.

(٣) أي : من إدراك صورة الفعل على وجه كلّيّ أو إدراكها على وجه جزئيّ ، فالإدراك كلّيّا تفكّر والإدراك جزئيّا تخيّل.

٦١

الفعل (١) لغايته (٢). فهذه مباد ثلاثة غير الإرادة (٣).

أمّا القوّة العاملة فهي مبدأ طبيعيّ لا شعور له بالفعل ، فغايتها ما تنتهي إليه الحركة كما هو شأن الفواعل الطبيعيّة.

وأمّا المبدآن الآخران ـ أعني الشوقيّة والصورة العلميّة ـ فربّما كانت غايتهما غاية القوّة العاملة ، وهي ما تنتهي إليه الحركة ، وعندئذ تتّحد المبادئ الثلاثة في الغاية ، كمن تخيّل الاستقرار في مكان غير مكانه ، فاشتاق إليه ، فتحرّك نحوه واستقرّ عليه. وربّما كانت غايتهما غير غاية القوّة العاملة ، كمن تصوّر مكانا غير مكانه فانتقل إليه للقاء صديقه.

والمبدأ البعيد ـ أعني الصورة العلميّة ـ ربّما كانت تخيّليّة فقط ، بحضور صورة الفعل تخيّلا من غير فكر ، وربّما كانت فكريّة ولا محالة معها تخيّل جزئيّ للفعل. وأيضا ربّما كانت وحدها مبدأ للشوقيّة ، وربّما كانت مبدأ لها بإعانة من الطبيعة كما في التنفّس ، أو من المزاج كانتقال المريض النائم من جانب إلى جانب ، أو من الخلق والعادة كاللعب باللحية.

فإذا تطابقت المبادئ الثلاثة في الغاية ـ كالإنسان يتخيّل صورة مكان ، فيشتاق إليه ، فيتحرّك نحوه ، ويسمّى : «جزافا» ـ كان لفعله بما له من المبادئ غايته. وإذا عقّب المبدأ العلميّ الشوقيّة ـ بإعانة من الطبيعة كالتنفّس ، أو من المزاج كانتقال المريض من جانب أملّه الاستقرار عليه إلى جانب ، ويسمّى : «قصدا

__________________

(١) لا يخفى أنّ الإدراك على وجه كلّيّ لا يدعو الفاعل إلى الفعل ، بل إنّما ينبعث الفاعل إلى الفعل بعد إدراك الفعل جزئيّا ، فلا يدعوه إلى الفعل إلّا التخيّل. واعترف المصنّف رحمه‌الله بذلك بعد أسطر حيث قال : «وربما كانت فكريّة ولا محالة معها تخيّل جزئيّ للفعل».

(٢) قوله : «لغايته» يشعر بأنّ مجرّد إدراك صورة الفعل لا ينبعث الفاعل إلى الفعل ، بل انّما ينبعثه بعد تصوّر غايته والتصديق بفائدته.

(٣) وفي النسخ : «غير الإراديّة» والصحيح ما أثبتناه ، ويؤيّده قوله : «هو الشوقيّة المنتهية إلى الإرادة».

٦٢

ضروريّا» ، أو بإعانة من الخلق كاللعب باللحية ، ويسمّى الفعل حينئذ : «عادة» ـ كان لكلّ من مبادئ الفعل غايته.

ولا ضير في غفلة الفاعل وعدم التفاته إلى ما عنده من الصورة الخياليّة للغاية في بعض هذه الصور أو جميعها ، فإنّ تخيّل الغاية غير العلم بتخيّل الغاية ، والعلم غير العلم بالعلم.

والغاية في جميع هذه الصور المسمّاة «عبثا» ليست غاية فكريّة. ولا ضير فيه ، لأنّ المبدأ العلميّ فيها صورة تخيّليّة غير فكريّة ، فلا مبدأ فكريّ فيها حتّى تكون لها غاية فكريّة. وإن شئت فقل : إنّ فيها مبدأ فكريّا ظنيّا ملحوظا على سبيل الإجمال ، يلمح إليه الشوق المنبعث من تخيّل صورة الفعل ، فالطفل مثلا يتصوّر الاستقرار على مكان غير مكانه ، فينبعث منه شوق مّا يلمح إلى أنّه راجح ينبغي أن يفعل ، فيقضي إجمالا برجحانه ، فيشتدّ شوقه ، فيريد ، فيفعل من دون أن يكون الفعل مسبوقا بعلم تفصيليّ يتمّ بالحكم بالرجحان ، نظير المتكلّم عن ملكة ، فيلفظ بالحرف بعد الحرف من غير تصوّر وتصديق تفصيلا ، والفعل علميّ اختياريّ.

وكذا لا ضير في انتفاء الغاية في بعض الحركات الطبيعيّة أو الإراديّة المنقطعة دون الوصول إلى الغاية ، ويسمّى الفعل حين ذاك : «باطلا». وذلك أنّ انتفاء الغاية في فعل أمر ، وانتفاء الغاية بانقطاع الحركة وبطلانها أمر آخر ، والمدّعى امتناع الأوّل دون الثاني ، وهو ظاهر.

وليعلم أنّ مبادئ الفعل الإراديّ منّا مترتّبة على ما تقدّم ، فهناك قوّة عاملة يترتّب عليها الفعل ، وهي مترتّبة على الإرادة ، وهي مترتّبة على الشوقيّة من غير إرادة متخلّلة بينهما ، والشوقيّة مترتّبة على الصورة العلميّة الفكريّة أو التخيّليّة من غير إرادة متعلّقة بها ، بل نفس العلم يفعل الشوق ، كذا قالوا (١). ولا ينافيه إسنادهم الشوق إلى بعض من الصفات النفسانيّة ، لأنّ الصفات النفسانيّة تلازم العلم.

__________________

(١) راجع ما تقدّم تحت الرقم (٢) من الصفحة :

٦٣

قال الشيخ في الشفاء : «لانبعاث هذا الشوق علّة ما لا محالة ، إمّا عادة ، أو ضجر عن هيئة وإرادة انتقال إلى هيئة اخرى ، وإمّا حرص من القوى المحرّكة والمحسّة على أن يتجدّد لها فعل تحريك أو إحساس. والعادة لذيذة ، والانتقال عن المملول لذيذ ، والحرص على الفعل الجديد لذيذ ـ أعني بحسب القوّة الحيوانيّة والتخيّليّة ـ. واللذّة هي الخير الحسّيّ والحيوانيّ والتخيّليّ بالحقيقة ، وهي المظنونة خيرا بحسب الخير الإنسانيّ. فإذا كان المبدأ تخيّليّا حيوانيّا فيكون خيره لا محالة تخيّليّا حيوانيّا ، فليس إذا هذا الفعل خاليا عن خير بحسبه وإن لم يكن خيرا حقيقيّا ـ أي بحسب العقل ـ» (١). انتهى.

ثمّ إنّ الشوق لمّا كان لا يتعلّق إلّا بكمال مفقود غير موجود كان مختصّا بالفاعل العلميّ المتعلّق بالمادّة نوعا من التعلّق فالفاعل المجرّد ليس فيه من مبادئ الفعل الإراديّ إلّا العلم والإرادة ، بخلاف الفاعل العلميّ الّذي له نوع تعلّق بالمادّة ، فإنّ له العلم والشوق والإرادة والقوّة المادّية المباشرة للفعل على ما تقدّم ، كذا قالوا.

__________________

(١) راجع الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهيّات الشفاء.

٦٤

الفصل الثالث عشر

في نفي الاتّفاق

وهو انتفاء الرابطة بين الفاعل والغاية (١)

ربّما يتوهّم (٢) أنّ من الغايات (٣) المترتّبة على الأفعال ما هو غير مقصود لفاعلها ، فليس كلّ فاعل له في فعله غاية (٤). ومثّلوا له بمن يحفر بئرا ليصل إلى الماء فيعثر على كنز ، فالعثور على الكنز غاية مترتّبة على الفعل غير مرتبطة بالحافر (٥)

__________________

(١) إعلم أنّه قد يطلق الاتّفاق ويراد به ما لا فاعل ولا سبب له ، فهو فعل لا فاعل له. وقد يطلق ويراد به ما لا غاية له ، فهو فعل له فاعل من دون أن تكون له غاية. وقد يطلق ويراد به ما لا فاعل ولا غاية له ، فهو فعل ليس له سبب ولا يترتّب عليه غاية. وقد يطلق ويراد به ما ينتهي إليه فعل له فاعل ، غاية الأمر أنّه لا ربط ضروريّا بين الفاعل وما ينتهي إليه الفعل ، وانتفاء الرابطة بين الفعل والغاية يستلزم انتفاءها بين الفاعل والغاية ، ولذا قال المصنّف رحمه‌الله : «وهو انتفاء الرابطة بين الفاعل والغاية» أي لمّا لم يكن بين الفعل والغاية رابطة ضروريّة فلم يكن بين الفاعل والغاية رابطة ضروريّة فلم يقصدها الفاعل في فعله. وأمّا الاتّفاق ـ بمعنى نفي السبب والغاية لأمر ـ فهو باطل غير واقع ، لم يتوهّمه إلّا من أنكر أصل الفاعليّة الحقيقيّة.

(٢) كما توهّمه أرسطو على ما نقل عنه في تاريخ الفلسفة اليونانيّة : ٢٣٩.

(٣) بمعنى مطلق ما ينتهي إليه المحرّك بالحركة ، سواء كان مقصودا له أو غير مقصود.

(٤) بمعنى الفائدة المقصودة للفاعل في فعله.

(٥) أي : غير مرتبطة به ربطا ضروريّا ، وإلّا فيعثر على الكنز دائما.

٦٥

ولا مقصودة له. وبمن يدخل بيتا ليستظلّ فيه فينهدم عليه فيموت ، وليس الموت غاية مقصودة للداخل. ويسمّى النوع الأوّل من الاتّفاق : «بختا سعيدا» والنوع الثاني : «بختا شقيّا».

والحقّ أن لا اتّفاق في الوجود.

والبرهان عليه (١) : أنّ الامور الممكنة في وقوعها على أربعة أقسام : دائميّ الوقوع ، والأكثريّ الوقوع ، والمتساوي الوقوع واللاوقوع ، والأقليّ الوقوع.

أمّا الدائميّ الوقوع والأكثريّ الوقوع فلكلّ منهما علّة عند العقل بالضرورة ، والفرق بينهما أنّ الأكثريّ الوقوع يعارضه في بعض الأحيان معارض يمنعه من الوقوع ، بخلاف الدائميّ الوقوع حيث لا معارض له. وإذ كان تخلّف الأكثريّ في بعض الأحيان عن الوقوع مستندا إلى معارض مفروض فهو دائميّ الوقوع بشرط عدم المعارض بالضرورة ، مثاله الوليد الإنسانيّ يولد في الأغلب ذا أصابع خمس ، ويتخلّف في بعض الأحيان فيولد وله إصبع زائدة ، لوجود معارض يعارض القوّة المصوّرة فيما تقتضيه من الفعل ، فالقوّة المصوّرة بشرط عدم المعارض تأتي بخمس أصابع دائما.

ونظير الكلام يجري في الأقليّ الوقوع ، فإنّه مع اشتراط المعارض الخاصّ الّذي يعارض السبب الأكثريّ دائميّ الوقوع بالضرورة ، كما في مثال الإصبع الزائدة ، فالقوّة المصوّرة كلّما صادفت في المحلّ مادّة زائدة تصلح لصورة إصبع على شرائطها الخاصّة ، فإنّها تصوّر إصبعا دائما.

ونظير الكلام الجاري في الأكثريّ الوقوع والأقليّ الوقوع يجري في المتساوي الوقوع واللاوقوع كقيام زيد وقعوده.

فالأسباب الحقيقيّة دائمة التأثير ، من غير تخلّف في فعلها ولا في غايتها.

__________________

(١) كما برهن عليه الشيخ الرئيس في الفصل الثالث عشر من المقالة الاولى من الفن الأوّل من طبيعيّات الشفاء.

٦٦

والقول بالاتّفاق من الجهل بالأسباب الحقيقيّة ونسبة الغاية إلى غير ذي الغاية. فعثور الحافر للبئر على الكنز إذا نسب إلى سببها الذاتيّ ـ وهو حفر البئر بشرط محاذاته للكنز الدفين تحته ـ غاية ذاتيّة دائميّة ، وليس من الاتّفاق في شيء. وإذا نسب إلى مطلق حفر البئر من غير شرط آخر كان اتّفاقا وغاية عرضيّة منسوبة إلى غير سببه الذاتيّ الدائميّ. وكذا موت من انهدم عليه البيت وقد دخله للاستظلال إذا نسب إلى سببه الذاتيّ ـ وهو الدخول في بيت مشرف على الانهدام والمكث فيه حتّى ينهدم ـ غاية ذاتيّة دائميّة ، وإذا نسب إلى مطلق دخول البيت للاستظلال كان اتّفاقا وغاية عرضيّة منسوبة إلى غير سببه الذاتيّ. والكلام في سائر الأمثلة الجزئيّة للاتّفاق على قياس هذين المثالين.

وقد تمسّك القائلون بالاتّفاق بأمثال هذه الأمثلة الجزئيّة الّتي عرفت حالها.

وقد نسب إلى ذيمقراطيس (١) أنّ كينونة العالم بالاتّفاق. وذلك أنّ الأجسام مؤلّفة من أجرام صغار صلبة منبثّة في خلاء غير متناه ، وهي متشاكلة الطبائع ، مختلفة الأشكال ، دائمة الحركة ، فاتّفق أن تصادفت منها جملة اجتمعت على هيئة خاصّة ، فكان هذا العالم ، ولكنّه زعم أنّ كينونة الحيوان والنبات ليست بالاتّفاق (٢).

ونسب إلى أنباذقلس (٣) أنّ تكوّن الأجرام الأسطقسيّة (٤) بالاتّفاق ، فما اتّفق منها أن اجتمعت على نحو صالح للبقاء والنسل بقى ، وما اتّفق أن لم يكن كذلك لم

__________________

(١) قد نسب إليه الشيخ الرئيس في الفصل الرابع عشر من المقالة الاولى من الفن الأوّل من طبيعيّات الشفاء.

(٢) وفي النسخ : «ليس باتّفاق» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) قد نسب إليه الشيخ الرئيس في الفصل الرابع عشر من المقالة الاولى من الفن الاوّل من طبيعيات الشفاء.

(٤) الأسطقس : الأصل والعنصر. والعناصر على زعم الأقدمين أربعة : الماء والأرض والهواء والنار. وعند المتأخّرين كثيرة.

وأمّا الأجرام الأسطقسيّة فهي الأجرام الحاصلة من تركيب العناصر.

٦٧

يبق وتلاشى. وقد احتجّ على ذلك بعدّة حجج (١) :

الحجّة الاولى : أنّ الطبيعة لا رويّة لها (٢) فكيف تفعل فعلها لأجل غاية؟

واجيب عنها (٣) : بأنّ الرويّة لا تجعل الفعل ذا غاية ، وإنّما تميّز الفعل من غيره وتعيّنه ، ثمّ الغاية تترتّب على الفعل لذاتها لا بجعل جاعل ، فاختلاف الدواعي والصوارف هو المحوج لإعمال الرويّة المعيّنة ، ولو لا ذلك لم يحتج إليها ، كما أنّ الأفعال الصادرة عن الملكات كذلك ، فالمتكلّم بكلام يأتي بالحرف بعد الحرف على هيئاتها المختلفة من غير رويّة يتروّى بها ، ولو تروّى لتبلّد وانقطع عن الكلام. وكذا أرباب الصناعات في صناعاتهم لو تروّى في ضمن العمل واحد منهم لتبلّد وانقطع.

الحجّة الثانية : أنّ في نظام الطبيعة أنواعا من الفساد والموت ، وأقساما من الشرّ والمساءة ، في نظام لا يتغيّر ، عن أسباب لا تتخلّف ، وهي غير مقصودة للطبيعة ، بل لضرورة المادّة ، فلنحكم أنّ أنواع الخير والمنافع المترتّبة على فعل الطبيعة أيضا على هذا النمط من غير قصد من الطبيعة ولا داع يدعوها إلى ذلك.

واجيب عنها (٤) : بأنّ ما كان من هذه الشرور من قبيل عدم بلوغ الفواعل الطبيعيّة غاياتها لانقطاع حركاتها ، فليس من شرط كون الطبيعة متوجّهة إلى غاية أن تبلغها ، وقد تقدّم الكلام في الباطل (٥). وما كان منها من قبيل الغايات الّتي هي شرور ـ وهي على نظام دائميّ ، فهي امور خيرها غالب على شرّها ـ فهي غايات بالقصد الثاني ، والغايات بالقصد الأوّل هي الخيرات الغالبة اللازمة لهذه الشرور ، وتفصيل الكلام في هذا المعنى في بحث القضاء (٦). فمثل الطبيعة في أفعالها الّتي

__________________

(١) وتعرّض لها الشيخ الرئيس في الفصل الرابع عشر من المقالة الاولى من طبيعيّات الشفاء.

(٢) الرويّة : النظر والتفكّر في الامور.

(٣ و ٤) المجيب هو صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ٢٥٧ و ٢٥٨ ، وشرح الهداية الأثيريّة : ٢٤٢ و ٢٤٣.

(٥) تقدّم في الفصل السابق.

(٦) يأتي في الفصل الثامن عشر من المرحلة الثانية عشرة.

٦٨

تنتهي إلى هذه الشّرور مثل النجّار يريد أن يصنع بابا من خشبة ، فيأخذ بالنحت والنشر ، فيركب ويصنع ، ولازمه الضروريّ إضاعة مقدار من الخشبة بالنشر والنحت ، وهي مرادة له بالقصد الثاني بتبع إرادته لصنع الباب.

الحجّة الثالثة : أنّ الطبيعة الواحدة تفعل أفعالا مختلفة ، مثل الحرارة ، فإنّها تحلّ الشمع وتعقد الملح وتسوّد وجه القصّار وتبيّض وجه الثوب.

واجيب عنها (١) : بأنّ الطبيعة الواحدة لا تفعل إلّا فعلا واحدا له غاية واحدة ، وأمّا ترتّب آثار مختلفة على فعلها فمن التوابع الضروريّة لمقارنة عوامل وموانع متنوّعة ومتباينة.

فقد تحصّل من جميع ما تقدّم أنّ الغايات المترتّبة على أفعال الفواعل غايات ذاتيّة دائميّة لعللها وأسبابها الحقيقيّة. وأنّ الآثار النادرة الّتي تسمّى اتفاقيّات غايات بالعرض منسوبة إلى غير أسبابها الحقيقيّة ، وهي بعينها دائميّة بنسبتها إلى أسبابها الحقيقيّة. فلا مناص عن إثبات الرابطة الوجوديّة بينها وبين السبب الفاعليّ الحقيقيّ.

ولو جاز لنا أن نشكّ في ارتباط هذه الغايات بفواعلها مع ما ذكر من دوام الترتّب لجاز لنا أن نشكّ في ارتباط الفعل بالفاعل ، ولهذا أنكر كثير من القائلين بالاتّفاق العلّة الفاعليّة ، كالغائيّة ، وحصروا العلّة في العلّة المادّيّة ، وقد تقدّم الكلام في العلّة الفاعليّة (٢).

__________________

(١) والمجيب أيضا صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ ، وشرح الهداية الأثيريّة : ٢٤٤.

(٢) في الفصل السادس من هذه المرحلة.

٦٩

الفصل الرابع عشر

في العلّة المادّيّة والصوريّة

قد عرفت (١) أنّ الأنواع الّتي لها كمال بالقوّة (٢) لا تخلو في جوهر ذاتها من جوهر يقبل فعليّة كمالاتها الاولى والثانية من الصور والأعراض (٣). فإن كانت حيثيّته حيثيّة القوّة من جهة وحيثيّة الفعليّة من جهة ـ كالجسم الّذي هو بالفعل من جهة جسميّته ، وبالقوّة من جهة الصور والأعراض اللاحقة لجسميّته ـ سميّ : «مادّة ثانية». وإن كانت حيثيّته حيثية القوّة محضا ـ وهو الّذي تنتهي إليه المادّة الثانية بالتحليل ، وهو الّذي بالقوّة من كلّ جهة إلّا جهة كونه بالقوّة من كلّ جهة ـ سمّي : «هيولى» و «مادّة اولى».

وللمادّة علّيّة بالنسبة إلى النوع المادّيّ المركّب منها ومن الصورة ، لتوقّف وجوده عليها توقّفا ضروريّا. فهي بما أنّها جزء للمركّب علّة له. وبالنسبة إلى الجزء الآخر الّذي تقبله ـ أعني الصورة ـ مادّة لها ومعلولة لها ، لما تقدّم أنّ الصورة شريكة العلّة للمادّة (٤).

__________________

(١) في الفصل الخامس والسادس والسابع من المرحلة السادسة.

(٢) وهي الأجسام بأنواعها.

(٣) قوله : «من الصور» بيان للكمالات الاولى ، و «الأعراض» بيان للكمالات الثانية.

(٤) في الفصل السادس وخاتمة الفصل السابع من المرحلة السادسة.

٧٠

وقد حصر جمع من الطبيعيّين (١) العلّيّة في المادّة فقط ، منكرين للعلل الثلاث الاخر.

ويدفعه أوّلا : أنّ المادّة حيثيّة ذاتها القوّة والقبول ، ولازمها الفقدان ، ومن الضروريّ أنّه لا يكفي لإعطاء الفعليّة وإيجادها الملازم للوجدان ، فلا يبقي للفعليّة إلّا أن توجد من غير علّة ، وهو محال.

وثانيا : أنّه قد تقدّم أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد (٢) ، وإذا كانت المادّة شأنها الإمكان والقبول فهي لا تصلح لأن يستند إليها هذا الوجوب المنتزع من وجود المعلول ، وحقيقته الضرورة واللزوم وعدم الانفكاك ، فوراء المادّة أمر لا محالة يستند إليه وجوب المعلول ووجوده ، وهو العلّة الفاعليّة المفيضة لوجود المعلول.

وثالثا : أنّ المادّة ذات طبيعة واحدة لا تؤثّر إن أثّرت إلّا أثرا واحدا متشابها ، وقد سلّموا ذلك ، ولازمه رجوع ما للأشياء من الاختلاف إلى ما للمادّة من صفة الوحدة ذاتا وصفة ، وهو كون كلّ شيء عين كلّ شيء ، وضرورة العقل تبطله.

وأمّا العلّة الصوريّة فهي : الصورة ـ بمعنى ما به الشيء هو ما هو بالفعل ـ بالنسبة إلى الشيء المركّب منها ومن المادّة ، لضرورة أنّ للمركّب توقّفا عليها. وأمّا الصورة بالنسبة إلى المادّة فليست علّة صوريّة لها ، لعدم كون المادّة مركّبة منها ومن غيرها ، مفتقرة إليها في ذاتها ، بل هي محتاجة إليها في تحصّلها الخارج من ذاتها ، ولذا كانت الصورة شريكة العلّة بالنسبة إليها ومحصّلة لها كما تقدّم بيانه (٣).

واعلم أنّ الصورة المحصّلة للمادّة ربّما كانت جزءا من المادّة بالنسبة إلى صورة لاحقة ، ولذا ينتسب ما كان لها من الأفعال والآثار ـ نظرا إلى كونها صورة محصّلة للمادّة ـ إلى الصورة الّتي صارت جزءا من المادّة بالنسبة إليها ، كالنبات

__________________

(١) وهم المادّيّون المنكرون لما وراء الطبيعة ووجود الغاية ، فإنّهم يعتقدون أنّه ليس للحوادث الواقعة في العالم فاعل ولا غاية. ويعبّر عنهم ب «نيچراليسم Naturalism».

(٢) راجع الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.

(٣) في الفصل السادس وخاتمة الفصل السابع من المرحلة السادسة.

٧١

مثلا ، فإنّ الصورة النباتيّة صورة محصّلة للمادّة الثانية الّتي هي الجسم ، لها آثار فعليّة هي آثار الجسميّة والنباتيّة. ثم إذا لحقت به صورة الحيوان كانت الصورة النباتيّة جزءا من مادّتها وملكت الصورة الحيوانيّة ما كان لها من الأفعال والآثار الخاصّة. وهكذا كلّما لحقت بالمركّب صورة جديدة عادت الصور السابقة عليها أجزاء من المادّة الثانية وملكت الصورة الجديدة ما كان للصور السابقة من الأفعال والآثار ، وقد تقدّم أنّ الصورة الأخيرة تمام حقيقة النوع (١).

واعلم أيضا أنّ التركيب بين المادّة والصورة ليس بانضماميّ كما ينسب إلى الجمهور (٢) ، بل تركيب اتحاديّ كما يقضي به اجتماع المبهم والمحصّل ، والقوّة والفعل ، ولو لا ذلك لم يكن التركيب حقيقيّا ولا يحصل نوع جديد له آثار خاصّة.

__________________

(١) راجع الفصل السادس من المرحلة الخامسة.

(٢) نسب إليهم في الأسفار ٥ : ٢٨٢ ، وشرح المنظومة : ١٠٥.

٧٢

الفصل الخامس عشر

في العلّة الجسمانيّة

العلل الجسمانيّة (١) متناهية أثرا عدّة ومدّة وشدّة ، لأنّ الأنواع الجسمانيّة متحرّكة بجواهرها وأعراضها. فما لها من الطبائع والقوى الفعّالة منحلّة منقسمة إلى أبعاض ، كلّ منها محفوف بالعدمين السابق واللاحق ، محدود ذاتا وأثرا.

وأيضا العلل الجسمانيّة لا تفعل إلّا مع وضع خاصّ بينها وبين المادّة المنفعلة (٢). قالوا (٣) : «لأنّها لمّا احتاجت إلى المادّة في وجودها احتاجت إليها في إيجادها الّذي هو فرع وجودها ، وحاجتها إلى المادّة في إيجادها هي (٤) أن يحصل لها بسبب المادّة وضع خاصّ مع معلولها. ولذا كان للقرب والبعد والأوضاع الخاصّة دخل في كيفيّة تأثير العلل الجسمانيّة».

__________________

(١) وهي الصور النوعيّة الحالّة في الجسم.

(٢) لا يخفى أنّه لا يتّصف غير الواجب تعالى بالعلّيّة الحقيقيّة ، فالعلل الجسمانيّة علل إعداديّة لا علل حقيقيّة كي تفعل فتصير علّة فاعليّة.

(٣) فيه إشعار بضعف الاستدلال. ولعلّ وجه الضعف ما ذكره المحقّق الآمليّ في درر الفوائد ١ : ٣٧٢ حيث قال : «الإيجاد من حيث إنّه إيجاد لا يحتاج إلى المادّة ، بل احتياجه إلى المادّة من حيث كونه متفرّعا على الوجود والوجود محتاج إليها ؛ بل يمكن أن يقال : إنّ وجود المادّي أيضا غير مفتقر إلى الوضع ، لأنّه مفتقر إلى المادّة والمادّة ملزومة للوضع ، والافتقار إلى الملزوم لا يستلزم الافتقار إلى لازمه ، وإلّا يلزم أن يكون اللازم مفتقرا إلى نفسه ، وهو كما ترى».

(٤) وفي النسخ : «هو» والصحيح ما أثبتناه.

٧٣
٧٤

المرحلة التاسعة

في القوّة والفعل

وفيها أربعة عشر فصلا

٧٥
٧٦

[مقدّمة] (١)

وجود الشيء في الأعيان بحيث تترتّب عليه آثاره المطلوبة منه يسمّى : «فعلا» ويقال : «إنّ وجوده بالفعل». وإمكانه الّذي قبل تحقّقه يسمّى : «قوّة» ويقال : «إنّ وجوده بالقوّة». مثال ذلك : النطفة ، فإنّها ما دامت نطفة هي إنسان مثلا (٢) بالقوّة ، فإذا تبدّلت إنسانا صارت إنسانا بالفعل ، له آثار الإنسانيّة المطلوبة (٣) من الإنسان (٤).

والأشبه أن تكون القوّة في أصل الوضع بمعنى مبدأ الأفعال الشاقّة الشديدة ـ أعني كون الشيء بحيث تصدر عنه أفعال شديدة ـ. ثمّ توسّع في معناها فاطلقت على مبدأ الانفعالات الصعبة ـ أعني كون الشيء بحيث يصعب انفعاله ـ بتوهّم أنّ الانفعال أثر موجود في مبدئه ، كما أنّ الفعل والتأثير أثر موجود في الفاعل. ثمّ توسّعوا فأطلقوا القوّة على مبدأ الانفعال ولو لم يكن صعبا ، لما زعموا أنّ صعوبة

__________________

(١) وهي في معاني القوّة والفعل ، وكيفية انتقالها من بعض إلى بعض. ولمزيد التوضيح راجع الفصل الثاني من المقالة الرابعة من إلهيّات الشفاء ، والتحصيل : ٤٧١ ـ ٤٧٤ ، والأسفار ٣ : ٢ ـ ٥.

(٢) أو علقة أو مضغة أو جماد أو غيرها ممّا لها قوّة أن تصيره.

(٣) قوله : «المطلوبة» صفة للآثار.

(٤) فله النطق والضحك والتعجّب وغيرها من آثار الإنسانيّة.

٧٧

الانفعال وسهولته سنخ واحد تشكيكيّ ، فقالوا : «إنّ في قوّة الشيء الفلانيّ أن يصير كذا» و «أنّ الأمر الفلانيّ فيه بالقوّة». هذا ما عند العامّة.

ولمّا رأى الحكماء أنّ للحوادث الزمانيّة من الصور والأعراض إمكانا قبل وجودها منطبقا على حيثيّة القبول الّتي تسمّيها (١) العامّة قوّة ، سمّوا الوجود الّذي للشيء في الإمكان «قوّة» ، كما سمّوا مبدأ الفعل «قوّة» ، فأطلقوا القوّة على العلل الفاعليّة وقالوا : «القوى الطبيعيّة والقوى النفسانيّة». وسمّوا الوجود الّذي يقابله ـ وهو الوجود المترتّب عليه الآثار المطلوبة منه ـ «وجودا بالفعل». فقسّموا الموجود المطلق إلى ما وجوده بالفعل وما وجوده بالقوّة. والقسمان هما المبحوث عنهما في هذه المرحلة ، وفيها أربعة عشر فصلا.

__________________

(١) وفي النسخ : «تسمّيه» والصحيح ما أثبتناه.

٧٨

الفصل الأوّل

كلّ حادث زمانيّ فإنّه مسبوق بقوّة الوجود

وذلك لأنّه (١) قبل تحقّق وجوده يجب أن يكون ممكن الوجود جائزا أن يتّصف بالوجود وأن لا يتّصف ، إذ لو لم يكن ممكنا قبل حدوثه لكان إمّا ممتنعا فاستحال تحقّقه وقد فرض حادثا زمانيّا ، وهذا خلف ، وإمّا واجبا فكان موجودا واستحال عدمه لكنّه ربّما تخلّف ولم يوجد (٢).

__________________

(١) أي : الشيء الحادث.

(٢) هذا البرهان أوّل من أقامه ـ لا بهذا التقرير ـ هو الشيخ الرئيس في الفصل الثاني من المقالة الاولى من إلهيّات الشفاء ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في تعليقته على الأسفار ٣ : ٤٩ بقوله : «البرهان مأخوذ من كلام الشيخ مع تغيير يسير في التقرير».

وأوّل من أقامه بهذا التقرير هو صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٤٩ ، حيث استدلّ به على أنّ كلّ حادث مسبوق بقوّة الوجود ومادّة تحملها.

ولا يخفى أنّ الاستدلال بهذا البرهان لا يتمّ إلّا على القول بأنّ الإمكان الاستعداديّ نوع من الإمكان الذاتيّ ، ويطلق الإمكان عليهما على نحو الاشتراك المعنويّ. وأمّا على القول بأنّ إطلاق الإمكان عليهما إنّما هو على نحو الاشتراك اللفظيّ فلا يتمّ الاستدلال به.

بيان ذلك : أنّه ذهب بعضهم إلى أنّ الإمكان الاستعداديّ نوع من الإمكان الذاتيّ. ومنهم صدر المتألّهين في موضع من الأسفار ٦ : ٣٩٣ حيث قال : «الإمكان ذاتيّا كان أو استعداديّا معناه لا ضرورة الطرفين المساوق لتساويهما إمّا بحسب نفس مرتبة الماهيّة السابقة على ـ

٧٩

وهذا الإمكان أمر موجود في الخارج وليس اعتبارا عقليّا لاحقا بماهيّة

__________________

ـ وجودها سبقا ذاتيّا من جهة الماهيّة كما في الإمكان الذاتي ، أو بواسطة وجود أمر في مادّة الشيء سابقا عليه بحسب الزمان». وقال ـ تعليقا على إلهيّات الشفاء : ١٦٢ ـ : «واعلم أنّ هذا الإمكان يشارك الإمكان الذاتيّ الحاصل في المبدع والكائن والمفارق والمادّي في أنّ كلّا منهما عبارة عن لا ضرورة الوجود والعدم ... ولا يلزم أن يكون إطلاق الإمكان على الذاتيّ والاستعداديّ بمجرّد الاشتراك ـ كما ظنّ ـ حتّى يلزم أن لا يتمّ البرهان الدالّ على أنّ كلّ حادث له مادّة حاملة لإمكان وجوده على ما زعمه صاحب الإشراق ومتابعوه».

وتبعه بعض من تأخّر عنه ، كالمحقّق اللاهيجيّ في المسألة الخامسة والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق حيث قال : «الإمكان الاستعداديّ إمكان ذاتيّ مأخوذ مع تحقّق بعض الشرائط وارتفاع بعض الموانع فيغايره لا محالة مغايرة الكلّ للجزء». والحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٧٨ حيث قال : «إنّ الاستعداديّ كأنّه الذاتيّ مع زيادة اعتبار».

لا شكّ أنّه بناء على هذا المذهب يتمّ الاستدلال بالبرهان المذكور لما كانت النسبة بينهما العموم والخصوص.

وذهب بعض آخر إلى أنّ الإمكان الاستعداديّ يباين الإمكان الذاتيّ ، وإنّما يطلق الإمكان عليهما على نحو الاشتراك اللفظيّ. ومنهم المحقّق الآمليّ في درر الفوائد ١ : ٢٤٦ حيث قال : «يقال الإمكان الاستعداديّ في مقابل الإمكان الذاتيّ. وإطلاق الإمكان عليه يكون على نحو الاشتراك اللفظيّ». وقال في موضع آخر ـ إيرادا على صاحب الشوارق ـ : «ولا يخفى أنّه على هذا يلزم أن يكون الإمكان الاستعداديّ أمرا غير موجود في الخارج ، لأنّه حينئذ مركّب من الإمكان الذاتيّ الّذي غير موجود في الخارج وغيره من تحقّق بعض الشرائط وارتفاع بعض الموانع. ومن المعلوم أنّ هذا المركّب اعتباريّ باعتباريّة جزئه الّذي هو الإمكان الذاتيّ». درر الفوائد ١ : ٢٥٠.

ومنهم المصنّف رحمه‌الله حيث اعترف في التنبيه الثاني من التنبيهات من الفصل الأوّل من المرحلة الرابعة بأنّ الإمكان الاستعداديّ وصف وجوديّ من الكيفيّات القائمة بالمادّة ، تقبل الشدّة والضعف والقرب والبعد من الفعليّة ، وموضوعه المادّة الموجودة ، بخلاف الإمكان الذاتيّ الّذي هو معنى عقليّ لا يتّصف بشدّة وضعف ولا قرب وبعد ، وموضوعه الماهيّة من حيث هي ، فكلّ منهما يباين الآخر.

لا ريب أنّه بناء على هذا المذهب لا يتمّ الاستدلال بالبرهان المذكور على أنّ الحادث الزمانيّ مسبوق بالإمكان الاستعداديّ ، بل في الاستدلال به مغالطة ناشئة من اشتراك اللفظ.

والحاصل : أنّ هذا البرهان لا يدلّ إلّا على أنّ الشيء قبل وجوده مسبوق بالإمكان الذاتيّ.

٨٠