نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

الإنسانيّة (١) ، وكالعلل الكونيّة المسخّرة للواجب تعالى (٢).

وفي عدّ الفاعل بالجبر والفاعل بالعناية نوعين بحيالهما مباينين للفاعل

__________________

(١) هذا مبنيّ على ما ذهب إليه جمهور الحكماء من تغاير النفس وكلّ من القوى. وأمّا على ما ذهب إليه صدر المتألّهين من كون النفس في وحدتها عين القوى فليس هناك إلّا فاعل واحد هو النفس. وعليه لا معنى للتسخير المتوقّف على تغاير المسخّر والمسخّر.

ولعلّه لم يعدّه المصنّف رحمه‌الله في تعليقة الأسفار من أقسام الفاعل ، بل أنهى أقسام العلّة الى خمسة ، فقال : «لا ريب أنّ الأفعال الّتي نشاهدها في الخارج على كثرتها تنقسم إلى ما لا دخل للعلم في صدورها كالأفعال الصادرة عن الطبائع والقوى الطبيعيّة ، وما للعلم دخل في صدورها كما في أفعال ذوات الشعور من الحيوان كالمشي. والقسم الأوّل ربما يكون ملائما لطبع الفاعل ، وهو الفاعل بالطبع ، وربما لم يكن كحركة الجسم والجسم الثقيل العلو مثلا ، وهو الفاعل بالقسر».

ثمّ ناقش في عدّ الفاعل بالجبر قسيما للفاعل بالقصد بما سيأتي في السطور الآتية.

ثمّ قال : «هذا كلّه في الفاعل الّذي لعلمه الحصوليّ التفصيليّ دخل في صدور فعله.

وهناك قسمان آخران للفاعل العلميّ ذكرهما المصنّف. وهما : الفاعل بالرضا ، والفاعل بالعناية. وستأتي المناقشة في الفاعل بالعناية. فالحقّ أنّ أقسام الفاعل أربعة بإسقاط الفاعل بالجبر والفاعل بالعناية عن الاعتبار.

نعم ، ما سيختاره المصنّف رحمه‌الله في علم الواجب بغيره ـ وهو العلم الإجماليّ في عين الكشف التفصيليّ ـ يستدعي زيادة قسم على الأقسام الأربعة. وظاهره رحمه‌الله أنّه يدخله في الفاعل بالعناية ، لأنّه فاعل يصدر فعله عن مجرّد العلم التفصيليّ السابق على الفاعل من غير داع زائد ، إلّا أنّ العلم حضوريّ لا حصوليّ ، كما في الفاعل بالعناية بالمعنى المعروف. وربما سمّي هذا النوع من الفاعل بالفاعل بالتجلّي». راجع تعليقته على الأسفار ٢ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

فأقسام الفاعل عند المصنّف رحمه‌الله خمسة : ١ ـ الفاعل بالطبع. ٢ ـ الفاعل بالقصد. ٣ ـ الفاعل بالقسر. ٤ ـ الفاعل بالرضا. ٥ ـ الفاعل بالتجلّي.

وهي عند صدر المتألّهين ستّة : ١ ـ الفاعل بالطبع. ٢ ـ الفاعل بالقسر. ٣ ـ الفاعل بالجبر. ٤ ـ الفاعل بالقصد. ٥ ـ الفاعل بالعناية. ٦ ـ الفاعل بالتجليّ.

وعند الحكيم السبزواريّ ثمانية كما مرّ.

(٢) وفيه : أنّه مرّ كرارا نفي العلّيّة الحقيقيّة ـ بمعنى التأثير ـ في غير الواجب. وأمّا المسميّات بالعلل الناقصة فليست علّة حقيقيّة. وعليه فلا فاعل هناك إلّا الواجب ، فلا معنى للتسخير المتوقّف على تعدّد الفاعل.

٤١

بالقصد نظر. توضيحه : أنّا ننسب الأعمال المكتنفة بكلّ نوع من الأنواع المشهودة ـ أعني كمالاتها الثانية ـ إلى نفس ذلك النوع ، فكلّ نوع علّة فاعليّة لكمالاته الثانية. والأنواع في ذلك على قسمين : منها ما يصدر عنه أفعاله لطبعه من غير أن يتوسّط فيه العلم كالعناصر ، ومنها ما للعلم دخل في صدور أفعاله عنه كالإنسان. والقسم الثاني مجهّز بالعلم ، ولا ريب أنّه إنّما جهّز به لتمييز ما هو كماله من الأفعال ممّا ليس بكمال له ليفعل ما فيه كماله ويترك ما ليس فيه ذلك ، كالصبيّ يلتقم ما أخذه ، فإن وجده صالحا للتغذّي ـ كالفاكهة ـ أكله ، وإن لم يجده كذلك تركه ورمى به ، فتوسيطه العلم لتشخيص الفعل الّذي فيه كمال له (١) وتمييزه من غيره ، والّذي يوسّطه من العلم والتصديق إن كان حاضرا عنده غير مفتقر في التصديق به إلى تروّ وفكر (٢) ـ كالعلوم الناشئة بالملكات ونحوها ـ لم يلبث دون أن يريد الفعل فيفعله ، وإن كان مشكوكا فيه مفتقرا إلى التصديق به أخذ في تطبيق العناوين والأوصاف الكماليّة على الفعل ، فإن انتهى إلى التصديق بكونه كمالا له (٣) فعله ، وإن انتهى إلى خلاف ذلك تركه. وهذا الميل والانعطاف إلى أحد الطرفين هو الّذي نسمّيه : «اختيارا» ونعدّ الفعل الصادر عنه فعلا اختياريّا.

فتبيّن أنّ فعل هذا النوع من الفاعل العلميّ يتوقّف على حضور التصديق بوجوب الفعل ، أي كونه كمالا وكون ما يقابله ـ أي الترك ـ خلاف ذلك ، فإن كان التصديق به حاضرا في النفس من دون حاجة إلى تعمّل فكريّ لم يلبث دون أن يأتي بالفعل ، وإن لم يكن حاضرا احتاج إلى تروّ وفكر حتّى يطبق على الفعل المأتيّ به صفة الوجوب والرجحان وعلى تركه صفة الاستحالة والمرجوحيّة ، من غير فرق بين أن يكون رجحان الفعل ومرجوحيّة الترك مستندين إلى طبع الأمر ،

__________________

(١) هذا هو الصحيح ، بخلاف ما في النسخ من قوله : «فيه كمال و...».

(٢) وفي النسخ «تروّي فكر» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) وفي النسخ : «بكونه كمالا فعله» والصحيح ما أثبتناه.

٤٢

كمن كان قاعدا تحت جدار يريد أن ينقضّ عليه ، فإنّه يقوم خوفا من انهدامه عليه ، أو كانا مستندين إلى إجبار مجبر ، كمن كان قاعدا مستظلّا بجدار ، فهدّده جبّار أنّه إن لم يقم هدم الجدار عليه ، فإنّه يقوم خوفا من انهدامه عليه. والفعل في الصورتين إراديّ ، والتصديق على نحو واحد.

ومن هنا يظهر أنّ الفعل الإجباريّ لا يباين الفعل الاختياريّ ، ولا يتميّز منه بحسب الوجود الخارجيّ ، بحيث يصير الفاعل بالجبر قسيما للفاعل بالقصد. فقصارى ما يضعه المجبر أنّه يجعل الفعل ذا طرف واحد ، فيواجه الفاعل المكره فعلا ذا طرف واحد ليس له إلّا أن يفعله ، كما لو كان الفعل بحسب طبعه كذلك.

نعم العقلاء في سننهم الاجتماعيّة فرّقوا بين الفعلين حفظا لمصلحة الاجتماع ، ورعاية لقوانينهم الجارية المستتبعة للمدح والذّم والثواب والعقاب. فانقسام الفعل إلى الاختياريّ والجبريّ انقسام اعتباريّ لا حقيقيّ.

ويظهر أيضا أنّ الفاعل بالعناية من نوع الفاعل بالقصد ، فإنّ تصوّر السقوط ممّن قام على جذع عال ـ مثلا ـ علم واحد موجود في الخائف الّذي أدهشه تصوّر السقوط فيسقط ، وفي من اعتاد القيام عليه بتكرار العمل فلا يخاف ولا يسقط ، كالبنّاء ـ مثلا ـ فوق الأبنية والجدران العالية جدّا.

فالصاعد فوق جدار عال القائم عليه يعلم أنّ من الممكن أن يثبت في مكانه فيسلم أو يسقط منه فيهلك ، غير أنّه إن استغرقه الخوف والدهشة الشديدة وجذبت نفسه إلى الاقتصار على تصوّر السقوط سقط ، بخلاف المعتاد بذلك ، فإنّ الصورتين موجودتان عنده من دون خوف ودهشة ، فيختار الثبات في مكانه فلا يسقط.

وفقدان هذا الفعل العنائيّ للغاية الصالحة العقلائيّة لا يوجب خلوّه من مطلق الداعي ، فالداعي أعمّ من ذلك ـ كما سيأتي في الكلام على اللعب والعبث (١) ـ.

__________________

(١) راجع الفصل الثاني عشر والثالث عشر من هذه المرحلة.

٤٣

الفصل الثامن

في أنّه لا مؤثّر في الوجود بحقيقة معنى الكلمة

إلّا الله سبحانه

قد تقدّم (١) أنّ العلّيّة والمعلوليّة سارية في الموجودات ، فما من موجود إلّا وهو علّة ليست بمعلولة أو معلول ليس بعلّة أو علّة لشيء ومعلول لشيء (٢). وتقدّم (٣) أنّ سلسلة العلل تنتهي إلى علّة ليست بمعلولة وهو الواجب تعالى. وتقدّم (٤) أنّه تعالى واحد وحدة حقّة ، لا يتثنّى ولا يتكرّر ، وغيره من كلّ موجود مفروض واجب به ممكن في نفسه. وتقدّم (٥) أن لا غنى للمعلول عن العلّة الفاعليّة ، كما أنّه لا غنى له عن العلّة التامّة ، فهو تعالى علّة تامّة للكلّ في عين أنّه علّة فاعليّة. وتقدّم (٦) أنّ العلّيّة في الوجود ، وهو (٧) أثر الجاعل ، وأنّ وجود

__________________

(١) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(٢) والأدقّ أن يقال : «وما موجود إلّا وهو مؤثّر ليس متأثّرا أو متأثّر ليس بمؤثّر» ، فإنّ الواجب تعالى هو المؤثّر بحقيقة معنى الكلمة ولا مؤثّر في الوجود إلّا هو. وأمّا غيره من المسمّيات بالعلل الناقصة فهي معدّات مقرّبة للمعاليل إلى فيض المبدأ الأوّل.

(٣) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

(٤) في الفصل الرابع من المرحلة الرابعة.

(٥) في الفصل السادس من هذه المرحلة.

(٦) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(٧) أي : الوجود.

٤٤

المعلول رابط بالنسبة إلى علّته قائم بها ، كما أنّ وجود العلّة مستقلّ بالنسبة إليه ، مقوّم له ، لا حكم للمعلول إلّا وهو لوجود العلّة وبه.

فهو تعالى الفاعل المستقلّ في مبدئيّته على الإطلاق ، والقائم بذاته في إيجاده وعلّيّته ، وهو المؤثّر بحقيقة معنى الكلمة ، لا مؤثّر في الوجود إلّا هو. ليس لغيره من الاستقلال الّذي هو ملاك العلّيّة والإيجاد إلّا الاستقلال النسبيّ. فالعلل الفاعليّة في الوجود معدّات مقرّبة للمعاليل إلى فيض المبدأ الأوّل وفاعل الكلّ تعالى (١).

هذا بالنظر إلى حقيقة الوجود الأصيلة المتحقّقة بمراتبها في الأعيان ، وأمّا بالنظر إلى ما يعتبره العقل من الماهيّات الجوهريّة والعرضيّة المتلبّسة بالوجود المستقلّة في ذلك فهو تعالى علّة تنتهي إليها العلل كلّها ، فما كان من الأشياء ينتهي إليه بلا واسطة فهو علّته ، وما كان منها ينتهي إليه بواسطة فهو علّة علّته ، وعلّة علّة الشيء علّة لذلك الشيء ، فهو تعالى فاعل كلّ شيء ، والعلل كلّها مسخّرة له (٢).

__________________

(١) وهذا هو المشهور بمذهب العلل المعدّة» Occasional causes docsrine «.

(٢) ومرّ ما فيه من أنّه صحيح على مذهب جمهور الحكماء المشّائين ، وأمّا على ما هو الحقّ من مذهب صدر المتألّهين فلا معنى له. راجع ما مرّ منّا في الرقم (١) من التعليقة على الصفحة : ٤١.

٤٥

الفصل التاسع

في أنّ الفاعل التامّ الفاعليّة

أقوى من فعله وأقدم

أمّا أنّه أقوى وجودا وأشدّ فلأنّ الفعل ـ وهو معلوله ـ رابط بالنسبة إليه ، قائم الهويّة به ، وهو (١) المستقلّ الّذي يقوّمه ويحيط به. ولا نعني بأشدّيّة الوجود إلّا ذلك. وهذا يجري في العلّة التامّة أيضا كما يجري في الفاعل المؤثّر (٢).

وقد عدّ صدر المتألّهين رحمه‌الله المسألة بديهيّة ، إذ قال : «البداهة حاكمة بأنّ العلّة المؤثّرة هي أقوى لذاتها من معلولها فيما يقع به العلّيّة ، وفي غيرها لا يمكن الجزم بذلك ابتداء» (٣). انتهى.

وأمّا أنّه أقدم وجودا من فعله فهو من الفطريّات ، لمكان توقّف وجود الفعل على وجود فاعله (٤). وهذا أيضا كما يجري في الفاعل يجري في العلّة التامّة

__________________

(١) أي الفاعل التام الفاعليّة.

(٢) لا يخفى عليك أنّه ليس الفاعل المؤثّر إلّا نفس العلّة التامّة ، وليست العلّة التامّة إلّا الفاعل المؤثّر ، وهو الواجب تعالى.

(٣) راجع الأسفار ج ٢ ص ١٨٧.

(٤) أقول : إن كان المراد من تقدّم الفاعل التامّ الفاعليّة تقدّمه على الفعل من حيث إنّه فاعل تامّ بالفعل ـ أي حين صدور الفعل عنه وبوصف الفاعليّة ـ فهو ممنوع ، ضرورة أنّ الفاعل ـ

٤٦

وسائر العلل (١).

والقول (٢) ب «أنّ العلّة التامّة مع المعلول ، لأنّ من أجزائها المادّة والصورة اللتين هما مع المعلول بل عين المعلول ، فلا يتقدّم عليه لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه».

مدفوع بأنّ المادّة ـ كما تقدّم (٣) ـ علّة مادّيّة لمجموع المادّة والصورة الّذي هو الشيء المركّب ، وكذا الصورة علّة صوريّة للمجموع منهما. وأمّا المجموع الحاصل منهما فليس بعلّة لشيء. فكلّ واحد منهما علّة متقدّمة ، والمجموع معلول متأخّر ، فلا إشكال (٤).

وهذا معنى ما قيل (٥) : «إنّ المتقدّم هو الآحاد بالأسر ، والمتأخّر هو المجموع بشرط الاجتماع».

__________________

ـ التامّ الفاعليّة من حيث إنّه فاعل لا ينفكّ عن فعله ، فلا يقدّم عليه وجودا ، كما مرّ في الفصل الثالث من هذه المرحلة. وإن كان المراد من تقدّمه هو تقدّمه على الفعل من حيث إنّه نفسه وقبل أن يؤثّر في الفعل فهو وإن كان مقدّما على الفعل وجودا إلّا أنّه ليس فاعلا ، بل له أن يفعل ، وما لم يفعل لا يتّصف بالفاعليّة والمؤثّريّة والعلّيّة. فالأولى أن يقال : «إنّ ما له أن يفعل أقوى من فعله وأقدم».

(١) أقول : أمّا العلّة التامّة فهي نفس الفاعل المؤثّر ، وأمّا سائر العلل فهي ليست عللا حقيقيّة ، بل إنّما هي معدّات ، وكان الوجه في تقدّمها كونها مقرّبات للفعل ، لا توقّف وجود الفعل على وجود فاعله.

(٢) والقائل هو المحقّق الشريف على ما نقل عنه في شوارق الإلهام : ٩٨.

(٣) راجع خاتمة الفصل السابع من المرحلة السادسة.

(٤) بل التحقيق أنّ المادّة والصورة ليستا علّة حتّى يقال بأنّهما عين المعلول ولا تتقدّمان عليه.

(٥) والقائل هو المحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام : ٩٨ ـ ٩٩.

٤٧

الفصل العاشر

في أنّ البسيط يمتنع أن يكون فاعلا وقابلا (١)

المشهور من الحكماء عدم جواز كون الشيء الواحد من حيث هو واحد فاعلا وقابلا مطلقا (٢). واحترز بقيد «وحدة الحيثيّة» عن الأنواع المادّيّة الّتي تفعل بصورها وتقبل بموادّها ، كالنار تفعل الحرارة بصورتها وتقبلها بمادّتها. وذهب المتأخّرون (٣) إلى جوازه مطلقا.

والحقّ (٤) هو التفصيل بين ما كان القبول فيه بمعنى الانفعال والاستكمال الخارجيّ فلا يجامع القبول الفعل في شيء واحد بما هو واحد ، وما كان القبول فيه

__________________

(١) أي : يمتنع أن يكون فاعلا لفعل وقابلا له. وبتعبير آخر : يمتنع أن يكون مؤثّرا في أثر واحد وهو يكون متأثرا من ذلك الأثر بعينه.

(٢) وبتعبير آخر : أنّ الفاعل من حيث هو فاعل لا يمكن أن يكون قابلا مطلقا ، سواء كان مقبوله هو مفعوله أو غيره. وهذا مذهب الجمهور من الحكماء. وتبعهم المحقّق الطوسيّ في تجريد الاعتقاد : ١٣٥.

(٣) ومنهم الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٥١٥ ـ ٥١٦. ونسب القول بالجواز أيضا إلى الأشاعرة القائلين بأنّ لله صفات حقيقيّة زائدة على ذاته ، راجع شرح المواقف : ١٧٤.

(٤) كما ذهب إليه صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ١٧٦ ـ ١٧٧ ، والفيض الكاشاني في أصول المعارف : ٦٩.

٤٨

بمعنى الاتّصاف والانتزاع من ذات الشيء من غير انفعال وتأثّر خارجيّ ـ كلوازم الماهيّات ـ فيجوز اجتماعهما.

والحجّة على ذلك أنّ القبول ـ بمعنى الانفعال والتأثّر ـ يلازم الفقدان ، والفعل يلازم الوجدان ، وهما جهتان متباينتان متدافعتنان ، لا تجتمعان في الواحد من حيث هو واحد. وأمّا لوازم الماهيّات مثلا ـ كزوجيّة الأربعة ـ فإنّ تمام الذات فيها لا يعقل خالية من لازمها حتّى يتصوّر فيها معنى الفقدان ، فالقبول فيها بمعنى مطلق الاتّصاف ، ولا ضير في ذلك.

واحتجّ للمشهور (١) من الامتناع مطلقا بوجهين (٢) :

أحدهما : أنّ الفعل والقبول أثران متغايران ، فلا يصدران عن الواحد من حيث هو واحد.

الثاني : أنّ نسبة القابل إلى مقبوله بالإمكان ، ونسبة الفاعل التامّ الفاعليّة إلى فعله بالوجوب. فلو كان شيء واحد فاعلا وقابلا لشيء كانت نسبته إلى ذلك بالإمكان والوجوب معا ، وهما متنافيان ، وتنافي اللوازم مستلزم لتنافي الملزومات (٣).

والحجّتان لو تمّتا لم تدلّا على أكثر من امتناع اجتماع الفعل والقبول ـ بمعنى

__________________

(١) هذا هو الصحيح ، بخلاف ما في النسخ : «واحتجّ المشهور».

(٢) وتعرّض لهما وللإجابة عليهما الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٥١٥.

(٣) قال المصنّف رحمه‌الله في تعليقته على الأسفار ٢ : ١٧٩ : «الأولى تبديل الوجوب والإمكان فعلا وقوّة ، وهما يلازمان الوجدان والفقدان ، وسوق البرهان هكذا : إنّ نسبة القابل إلى مقبوله بالقوّة ، وهي تستلزم فقدان القابل لمقبوله في نفسه ، ونسبة الفاعل إلى فعله بالفعل المستلزم لوجدانه حقيقة فعله وكمال وجوده ، ولو اتّحد الفاعل والقابل لكان الشيء في نفسه واجدا لأثره فاقدا له بعينه ، وهو محال.

وإنّما قلنا : «إنّ الأولى هو التبديل» لأنّ نسبة الوجوب انّما يتحقّق بين الشيء والعلّة التامّة ، وأمّا الفاعل الّذي هو إحدى العلل الأربع فلا نسلّم كون نسبة الفعل إليه وحده بالوجوب. اللهمّ إلّا في المعلولات الّتي ليس لها من العلل إلّا الفاعل ، كالمعلول المجرّد الّذي يكفي في صدوره إمكانه الذاتيّ ولا يحتاج من العلّة إلى أزيد من الفاعل الّذي هو بعينه غايته».

٤٩

الانفعال والتأثّر ـ في شيء واحد بما هو واحد. وأمّا القبول ـ بمعنى الاتّصاف كاتّصاف الماهيّات بلوازمها ـ فليس أثرا صادرا عن الذات يسبقه إمكان.

والحجّتان مع ذلك لا تخلوان من مناقشة.

أمّا الاولى ، فلأنّ جعل القبول أثرا صادرا عن القابل يوجب كون القابل علّة فاعليّة للقبول (١) ، فيرد الإشكال في قبول القابل البسيط للصورة حيث إنّه يفعل القبول ويصير جزءا من المركّب ، وهما أثران لا يصدران عن الواحد.

وأمّا الثانية ، فلأنّ نسبة العلّة الفاعليّة ـ بما أنّها إحدى العلل الأربع ـ إلى الفعل ليست نسبة الوجوب ، إذ مجرّد وجود العلّة الفاعليّة لا يستوجب وجود المعلول ما لم ينضمّ إليها سائر العلل. اللهمّ إلّا أن يكون الفاعل علّة تامّة وحده (٢). ومجرّد فرض الفاعل تامّ الفاعليّة ـ والمراد به كونه فاعلا بالفعل بانضمام بقيّة العلل إليه ـ لا يوجب تغيّر نسبته في نفسه إلى الفعل من الإمكان إلى الوجوب (٣).

واحتجّ المتأخّرون (٤) على جواز كون الشيء الواحد من حيث هو واحد فاعلا وقابلا بلوازم الماهيّات ، سيّما البسائط منها ، فما منها إلّا وله لازم أو لوازم ، كالإمكان وكونه ماهيّة ومفهوما ، وكذا المفاهيم المنتزعة من ذات الواجب تعالى ،

__________________

(١) لا علّة مادّيّة له ولا علّة صوريّة له ، لأنّ القبول ليس جسما مركّبا من المادّة والصورة كي يكون القابل علّة مادّيّة أو صوريّة له.

(٢) لا يخفى أنّه بناء على حصر الفاعل المؤثّر في العلّة التامّة الّتي لا مصداق لها إلّا الواجب تعالى كانت نسبة العلّة الفاعليّة ـ من حيث إنّها علّة فاعليّة ـ إلى الفعل نسبة الوجوب ، ضرورة أنّه لا يصدق على الشيء أنّه علّة فاعليّة إلّا إذا يفعل الفعل ، فلا ينفكّ الفعل عنه من حيث إنّه علّة فاعليّة ، فكانت نسبته إلى الفعل نسبة الوجوب ، وأمّا الشيء من حيث إنّه نفسه وقبل أن يصدر عنه الفعل فنسبته إلى الفعل نسبة الإمكان ، ولكنه خارج عن محلّ البحث.

(٣) وأورد عليه بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف رحمه‌الله فقال : «هذا الكلام منه لا يوافق ما مرّ منه في الفصل الثاني من المرحلة الرابعة من أنّ الإمكان بالقياس لا يتحقّق بين موجودين مطلقا». تعليقة على نهاية الحكمة : ٢٥٧.

(٤) هكذا احتجّ عليه الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٥١٦.

٥٠

كوجوب الوجود والوحدانيّة ، فإنّ الذات فاعل لها وقابل لها.

والحجّة ـ كما عرفت ـ لا تتمّ إلّا فيما كان القبول فيه بمعنى الاتّصاف ، فالقبول والفعل فيه واحد. وأمّا ما كان القبول فيه انفعالا وتأثّرا واستكمالا فالقبول فيه يلازم الفقدان ، والفعل يلازم الوجدان ، وهما متنافيان لا يجتمعان في واحد.

٥١

الفصل الحادي عشر

في العلّة الغائيّة وإثباتها

سيأتي ـ إن شاء الله (١) ـ بيان أنّ الحركة كمال أوّل لما بالقوّة من حيث إنّه بالقوّة (٢) فهناك كمال ثان يتوجّه إليه المتحرّك بحركته المنتهية إليه ، فهو الكمال الأخير الّذي يتوصّل إليه المتحرّك بحركته ، وهو المطلوب لنفسه ، والحركة مطلوبة لأجله ، ولذا قيل (٣) : «إنّ الحركة لا تكون مطلوبة لنفسها ، وإنّها لا تكون ممّا تقتضيه ذات الشيء».

وهذا الكمال الثاني هو المسمّى «غاية الحركة» ، يستكمل بها المتحرّك ، نسبتها إلى الحركة نسبة التمام إلى النقص ، ولا تخلو عنها حركة ، وإلّا انقلبت سكونا (٤).

ولما بين الغاية والحركة من الارتباط والنسبة الثابتة (٥) كان بينهما نوع من

__________________

(١) في الفصل الثالث من المرحلة التاسعة.

(٢) كذا رسّمها أرسطو على ما نقل عنه في المباحث المشرقيّة ١ : ٥٤٩.

(٣) كما قال الشيخ الرئيس في التعليقات : ١٠٨ : «الغرض في الحركة الفلكيّة ليس هو نفس الحركة بما هي هذه الحركة ...».

(٤) والوجه في ذلك أنّ الحركة ـ كما سيأتي ـ هو نحو وجود يخرج به الشيء من القوّة إلى الفعل ، وهو لا يخلو من تغيّر. ولا بدّ في التغيّر ممّا إليه التغيّر الّذي يسمّى : «غاية» ، وإلّا لم يتغيّر الشيء ، فلا يخرج من القوّة ولم تتحقّق حركة ، وما لم تتحقّق حركة يتحقّق السكون.

(٥) فإنّ الحركة متعلّقة الوجود بالمنتهى ، كما مرّ وسيأتي أيضا.

٥٢

الاتّحاد ، ترتبط به (١) الغاية بالمحرّك كمثل الحركة ، كما ترتبط بالمتحرّك كمثل الحركة.

ثمّ إنّ المحرّك إذا كان هو الطبيعة (٢) وحرّكت الجسم (٣) بشيء من الحركات العرضيّة ـ الوضعيّة والكيفيّة والكمّيّة والأينيّة ـ مستكملا بها الجسم كانت الغاية هو التمام الّذي يتوجّه إليه المتحرّك بحركته وتطلبه الطبيعة المحرّكة بتحريكها. ولو لا الغاية لم يكن من المحرّك تحريك ولا من المتحرّك حركة (٤). فالجسم المتحرّك مثلا من وضع إلى وضع إنّما يريد الوضع الثاني ، فيتوجّه إليه بالخروج من الوضع الأوّل إلى وضع سيّال يستبدل به فردا آنيّا إلى فرد مثله ، حتّى يستقرّ على وضع ثابت غير متغيّر فيثبت عليه ، وهو التمام المطلوب لنفسه ، والمحرّك أيضا يطلب ذلك.

وإذا كان المحرّك فاعلا علميّا لعلمه دخل في فعله (٥) كالنفوس الحيوانيّة

__________________

(١) أي : بالاتّحاد بينهما.

(٢) أي : طبيعة الشيء ، وهي الصورة النوعيّة للجسم.

(٣) الّذي هو مادّتها.

(٤) ضرورة أنّها من أركان تحقّق الحركة.

وأورد عليه بعض المحشّين من تلامذة المصنّف رحمه‌الله بأنّ في كلامه خلط بين الغاية والجهة ، فإنّ ما لا يتمّ بدونه حركة هي الجهة ، سواء انتهت إلى غاية أم لم ينته.

وأجاب عنه شيخنا الاستاذ الجواديّ الآمليّ بما حاصله : أنّ الحركة لم تنحصر في الحركة الأينيّة ، ولا يكون المراد من «الجهة» هاهنا الجهة الأينيّة ، بل المراد منه هو الجهة الفلسفيّة ، وهي المسافة الخاصّة الّتي بينها وبين الحركة ارتباط وجوديّ. «رحيق مختوم ، بخش چهارم از جلد دوم : ٤١١».

ولا يخفى أنّ الجهة الفلسفيّة بالمعنى المذكور نفس الغاية الّتي يتوجّه إليه المتحرّك بحركته. وهذا غير ما رامه المحشّيّ المعترض ، فإنّه فرّق بينهما بأنّ الغاية ما يتوجّه إليه المتحرّك ويقصده ، وأمّا الجهة فهي ما ينتهي إليه المتحرّك لا محالة وإن لم يتوجّه إليه ولم يقصده ، فما لا يتمّ بدونه الحركة هي الجهة لا الغاية.

(٥) وفي قوله : «لعلمه دخل في فعله» وجهان : (أحدهما) أن يكون وصفا بعد الوصف وتوضيحا لقوله : «علميّا» ؛ وعليه لا يكون الفاعل فاعلا علميّا إلّا إذا كان لعلمه دخل في فعله.

و (ثانيهما) أن يكون قيدا لقوله : «علميّا» ؛ وعليه فمعناه أنّ الفاعل العلميّ فيما إذا كان لعلمه دخل في فعله كانت الحركة بما لها من الغاية مرادة له.

والظاهر هو الأوّل ، كما يشعر به كلامه في الفصل السابع من هذه المرحلة.

٥٣

والإنسانيّة كانت الحركة ـ بما لها من الغاية الّتي هو التمام ـ مرادة له ، لكنّ الغاية هي المرادة لنفسها ، والحركه تتبعها ، لأنّها لأجل الغاية كما تقدّم (١). غير أنّ الفاعل العلميّ ربّما يتخيّل ما يلزم الغاية أو يقارنها غاية للحركة ، فيأخذه منتهى إليه للحركة ، ويوجد بينهما اتّحادا تخيّلا (٢) ، فيحرّك نحوه ، كمن يتحرّك إلى مكان ليلقى صديقه أو يمشي إلى مشرعة لشرب الماء ، وكمن يحضر السوق ليبيع ويشتري.

هذا كلّه فيما كان الفعل حركة عرضيّة طبيعيّة أو إراديّة. وأمّا إذا كان فعلا جوهريّا ـ كالأنواع الجوهريّة ـ فإن كان من الجواهر الّتي لها تعلّق ما بالمادّة فسيأتي إن شاء الله (٣) أنّها جميعا متحرّكة بحركة جوهريّة ، لها وجودات سيّالة تنتهي إلى وجودات ثابتة غير سيّالة تستقرّ عليها ، فلها تمام هو وجهتها الّتي تولّيها (٤) ، وهو مراد عللها الفاعلة المحرّكة لنفسه (٥) ، وحركاتها الجوهريّة مرادة لأجله. وإن كان الفعل من الجواهر المجرّدة ذاتا وفعلا عن المادّة ، فهو لمكان فعليّة وجوده وتنزّهه عن القوّة لا ينقسم إلى تمام ونقص كغيره ، بل هو تمام في نفسه ، مراد لنفسه ، مقصود لأجله ، والفعل والغاية هناك واحد ، بمعنى أنّ الفعل بحقيقته الّتي في مرتبة وجود الفاعل غاية لنفسه الّتي هي الرقيقة ، لا أنّ الفعل علّة غائيّة لنفسه متقدّمة على نفسه ، لاستحالة علّيّة الشيء لنفسه.

فقد تبيّن أنّ لكلّ فاعل غاية في فعله ، وهي العلّة الغائيّة للفعل ، وهو المطلوب (٦).

__________________

(١) في أوّل الفصل.

(٢) وفي النسخ : «ويوجد بينهما تخيّلا» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) في الفصل الثامن من المرحلة التاسعة.

(٤) أي : هو موضعها الّذي تقصده. اقتباس من قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها). البقرة : ١٤٨.

(٥) أي : ذلك التمام هو مراد بالأصالة لعللها الفاعلة المحرّكة.

(٦) لا يخفى أنّ غاية الفعل ـ سواء كانت معناها الفائدة المقصودة من الفعل أو كانت معناها ـ

٥٤

وظهر ممّا تقدّم امور :

أحدها : أنّ غاية الفعل ـ وهي الّتي يتعلّق بها اقتضاء الفاعل بالأصالة ولنفسه ـ قد تتّحد مع فعله ـ بمعنى كون الغاية هي حقيقة الفعل المتقرّرة في مرتبة وجود الفاعل ـ ومرجعه إلى اتّحاد الفاعل والغاية ، كما إذا كان فعل الفاعل موجودا مجرّدا في ذاته وفعله تامّ الفعليّة في نفسه مرادا لنفسه ؛ وقد لا تتّحد مع الفعل ، بل يختلفان ، كما فيما إذا كان الفعل من قبيل الحركات العرضيّة ، أو من الجواهر الّتي لها نوع تعلّق بالمادّة كالنفوس (١) والصور المنطبعة في الموادّ (٢) ، فإنّ الفاعل يتوصّل إلى هذا القبيل من الغايات بالتحريك ، والحركة غير مطلوبة لنفسها ، فتتحقّق الحركة وتترتّب عليها الغاية ، سواء كانت الغاية راجعة إلى الفاعل كمن يحزنه ضرّ ضرير فيرفعه ابتغاء للفرح ، أو راجعة إلى المادّة كمن يتحرّك إلى وضع يصلح حاله ، أو راجعة إلى غيرهما كمن يكرم يتيما ليفرح.

وثانيها : أنّ الغاية معلومة للفواعل العلميّة قبل الفعل ، وإن كانت متحقّقة بعده مترتّبة عليه. وذلك أنّ هذا القبيل من الفواعل مريدة لفعلها ، والإرادة ـ كيفما كانت ـ مسبوقة بالعلم ، فإن كان هناك تحريك كانت الحركة مرادة لأجل الغاية ، فالغاية مرادة للفاعل قبل الفعل ، وإن لم يكن هناك تحريك ، وكان الفعل هو الغاية ، فإرادته والعلم به إرادة للغاية وعلم بها.

وأمّا قولهم (٣) : «إنّ الغاية قبل الفعل تصوّرا وبعده وجودا» فإنّما يتمّ في غير غاية الطبائع ، لفقدانها العلم (٤).

__________________

ـ نهاية الحركة ـ مترتّبة على الفعل ومتأخّرة عنه ، فلا يعقل أن تكون مؤثّرة في وجود الفعل المتقدّم عليه ، بل الفعل والحركة من مقدّمات حصولها ، والفاعل المتقدّم على الفعل والحركة مؤثّر فيها. ومن هنا يظهر أنّ علّيّة الغاية للفعل المتقدّم عليها غير معقول.

(١) الّتي تعلّقت بالمادّة ذاتا وفعلا.

(٢) الّتي تعلّقت بالمادّة ذاتا وفعلا.

(٣) والقائل الشيخ الرئيس. فراجع الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهيّات الشفاء ، والتعليقات : ١٢٨ ، والنجاة : ٢١٢.

(٤) هكذا اعترض عليه الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٥٤٠.

٥٥

وأمّا قولهم (١) : «إنّ العلّة الغائيّة علّة فاعليّة لفاعليّة الفاعل» فكلام لا يخلو عن مسامحة (٢) ، لأنّ الفواعل الطبيعيّة لا علم لها حتّى تحضرها غاياتها حضورا علميّا يعطي الفاعليّة للفاعل ، وأمّا بحسب الوجود الخارجيّ فالغاية مترتّبة الوجود على وجود الفعل ، والفعل متأخّر وجودا عن الفاعل بما هو فاعل ، فمن المستحيل أن تكون الغاية علّة لفاعليّة الفاعل. والفواعل العلميّة غير الطبيعيّة إمّا غايتها عين فعلها والفعل معلول لفاعله ومن المستحيل أن يكون المعلول علّة لعلّته ، وإمّا غايتها مترتّبة الوجود على فعلها متأخّرة عنه ومن المستحيل أن تكون علّة لفاعل الفعل المتقدّم عليه ، وحضور الغاية حضورا علميّا للفاعل قبل الفعل وجود ذهنيّ هو أضعف من أن يكون علّة لأمر خارجيّ ، وهو الفاعل بما هو فاعل.

والحقّ ـ كما سيأتي تفصيله (٣) ـ أنّ الفواعل العلميّة بوجوداتها النوعيّة علل فاعليّة للأفعال المرتبطة بها ، الموجودة لها في ذيل نوعيّتها ، كما أنّ كلّ نوع من الأنواع الطبيعيّة مبدأ فاعليّ لما يوجد حوله ويصدر عنه من الأفعال (٤) ، وإذا كانت فواعل علميّة فحصول صورة الفعل العلميّة عندها شرط متمّم لفاعليّتها تتوقّف عليه فعليّة التأثير. وهذا هو المراد بكون العلّة الغائيّة علّة لفاعليّة العلّة الفاعليّة ، وإلّا فالفاعل بنوعيّته علّة فاعليّة للأفعال الصادرة عنه القائمة به الّتي هي كمالات ثانية له يستكمل بها (٥).

وثالثها : أنّ الغاية وإن كانت بحسب النظر البدويّ تارة راجعة إلى الفاعل

__________________

(١) والقائل هو الشيخ الرئيس ، فراجع النجاة : ٢١٣ ، وشرح الإشارات ٣ : ١٥ ـ ١٦ ، والتعليقات : ١٢٨ ، والفصل الحادي عشر من المقالة الاولى من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء.

(٢) لأنّ الفاعل الحقيقيّ فاعل بذاته ، وإلّا لزم التسلسل.

(٣) في الفصل الآتي.

(٤) وفي النسخ : «لما يوجد حولها ويصدر عنها من الأفعال» والصحيح ما أثبتناه.

(٥) لا يخفى عليك : أنّ الاستكمال إنّما يتمّ في الفاعل المتعلّق بالمادّة كالنفوس والأجسام بأنواعها ، وأمّا الفاعل المجرّد التامّ فليس الفعل ولا غايته كمالا ثانيا ، فلا يستكمل بفعله ، كما ستأتي الإشارة إليه.

٥٦

وتارة إلى المادّة وتارة إلى غيرهما ، لكنّها بحسب النظر الدقيق راجعة إلى الفاعل دائما (١) ، فإنّ من يحسن إلى مسكين ليسرّ المسكين بذلك يتألّم من مشاهدة ما يراه عليه من رثاثة الحال ، فهو يريد بإحسانه إزاحة الألم عن نفسه ؛ وكذلك من يسير إلى مكان ليستريح فيه يريد بالحقيقة إراحة نفسه من إدراك ما يجده ببدنه من التعب.

وبالجملة : الفعل دائما مسانخ لفاعله ملائم له مرضيّ عنده ، وكذا ما يترتّب عليه من الغاية فهو خير للفاعل كمال له.

وأمّا ما قيل (٢) : «إنّ العالي لا يستكمل بالسافل ولا يريده لكونه علّة ، والعلّة أقوى وجودا وأعلى منزلة من معلولها».

فمندفع ـ كما قيل (٣) ـ بأنّ الفاعل إنّما يريده بما أنّه أثر من آثاره ، فالإرادة بالحقيقة متعلّقة بنفس الفاعل بالذات وبغاية الفعل المترتّبة عليه بتبعه.

فالفاعل حينما يتصوّر الغاية الكماليّة يشاهد نفسه بما لها من الاقتضاء والسببيّة للغاية. فالجائع الّذي يريد الأكل ليشبع به ـ مثلا ـ يشاهد نفسه بما لها من الاقتضاء لهذا الفعل المترتّب عليه الغاية ، أي يشاهد نفسه ذات شبع بحسب الاقتضاء ، فيريد أن يصير كذلك بحسب الوجود الفعليّ الخارجيّ.

فإن كان للفاعل نوع تعلّق بالمادّة كان مستكملا بفعليّة الغاية الّتي هي ذاته بما أنّه فاعل ، وأمّا الغاية الخارجة من ذاته المترتّبة وجودا على الفعل فهو مستكمل بها بالتبع. وإن كان مجرّدا عن المادّة ذاتا وفعلا فهو كامل في نفسه ، غير مستكمل بغايته الّتي هي في الحقيقة ذاته التامّة (٤).

__________________

(١) كذا قال صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ٢٧٠ ـ ٢٧٩.

(٢) والقائل هو الشيخ الرئيس في الإشارات ، راجع شرح الإشارات ٣ : ١٤٩.

(٣) والقائل هو صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ٢٦٤.

(٤) وفي النسخ : «غير مستكمل بغايته الّتي هي ذاته التامّة الفعليّة الّتي هي في الحقيقة ذاته التامّة» والصحيح ما أثبتناه.

٥٧

فظهر ممّا تقدّم :

أوّلا : أنّ غاية الفاعل في فعله إنّما هي ذاته الفاعلة بما أنّها فاعلة ، وأمّا غاية الفعل المترتّبة عليه فإنّما هي غاية مرادة بالتبع.

وثانيا : أنّ الغاية كمال للفاعل دائما ، فإن كان الفاعل متعلّقا بالمادّة نوعا من التعلّق كان مستكملا بالغاية الّتي هي ذاته الفاعلة بما أنّها فاعلة ، وإن كان مجرّدا عن المادّة مطلقا كانت الغاية عين ذاته الّتي هي كمال ذاته من غير أن يكون كمالا بعد النقص وفعليّة بعد القوّة.

ومن هنا يتبيّن أنّ قولهم (١) : «إنّ كلّ فاعل له في فعله غاية ، فإنّه يستكمل بغايته وينتفع به» لا يخلو من مسامحة ، فإنّه غير مطّرد إلّا في الفواعل المتعلّقة بالمادّة نوع تعلّق.

تنبيه :

ذهب قوم من المتكلّمين (٢) إلى أنّ الواجب تعالى لا غاية له في أفعاله ، لغناه بالذات عن غيره ، وهو معنى قولهم : «إنّ أفعال الله لا تعلّل بالأغراض» (٣).

وذهب آخرون منهم (٤) إلى أنّ له تعالى في أفعاله غايات ومصالح عائدة إلى غيره وينتفع بها خلقه.

ويردّ الأوّل ما تقدّم (٥) أنّ فعل الفاعل لا يخلو من أن يكون خيرا مطلوبا له

__________________

(١) راجع الأسفار ٢ : ٢٧٩ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٥٤٢ ـ ٥٤٣.

(٢) وهم الأشاعرة على ما نقل في كشف المراد : ٣٠٦ ، ومفتاح الباب : ١٦٠ ـ ١٦١ ، والنافع يوم الحشر : ٢٩ ، وشرح المواقف : ٥٣٨ ، وشرح المقاصد ٢ : ١٥٦. وذهب إليه الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٥٤٢ ـ ٥٤٣ ، والمحصّل (تلخيص المحصّل) : ٣٤٣. وذهب إليه أيضا بعض الفلاسفة كالشيخ الإشراقيّ في المطارحات : ٤٢٧.

(٣) راجع شرح المواقف : ٥٣٨ ، وشرح المقاصد ٢ : ١٥٦.

(٤) أي من المتكلّمين ، وهم المعتزلة. وتبعهم المحقّق الطوسيّ والعلّامة الحلّيّ والفاضل المقداد. راجع كشف المراد : ٣٠٦ ، والنافع يوم الحشر : ٢٩.

(٥) في ابتداء هذا الفصل.

٥٨

بالذات أو منتهيا إلى خير مطلوب بالذات. وليس من لوازم وجود الغاية حاجة الفاعل إليها ، لجواز كونها عين الفاعل ـ كما تقدّم (١) ـ.

ويردّ الثاني أنّه وإن لم يستلزم حاجته تعالى إلى غيره واستكماله بالغايات المترتّبة على أفعاله وانتفاعه بها ، لكن يبقى عليه لزوم إرادة العالي للسافل وطلب الأشرف للأخسّ. فلو كانت غايته ـ الّتي دعته إلى الفعل وتوقّف عليها فعله بل فاعليّته ـ هي الّتي تترتّب على الفعل من الخير والمصلحة لكان لغيره شيء من التأثير فيه ، وهو فاعل أوّل تامّ الفاعليّة لا يتوقّف في فاعليّته على شيء.

بل الحقّ ـ كما تقدّم (٢) ـ أنّ الفاعل بما هو فاعل لا غاية لفعله بالحقيقة إلّا ذاته الفاعلة بما هي فاعلة ، لا يبعثه نحو الفعل إلّا نفسه ، وما يترتّب على الفعل من الغاية غاية بالتبع. وهو تعالى فاعل تامّ الفاعليّة وعلّة اولى ، إليها تنتهي كلّ علّة ، فذاته تعالى بما أنّه عين العلم بنظام الخير غاية لذاته الفاعلة لكلّ خير سواه ، والمبدأ لكلّ كمال غيره.

ولا يناقض قولنا : «إنّ فاعليّة الفاعل تتوقّف على العلّة الغائيّة» الظاهر في المغايرة بين المتوقّف والمتوقّف عليه ، قولنا : «إن غاية الذات الواجبة هي عين الذات المتعالية». فالمراد بالتوقّف والاقتضاء في هذا المقام المعنى الأعمّ الّذي هو عدم الانفكاك. فهو ـ كما أشار إليه صدر المتألّهين (٣) ـ من المسامحات الكلاميّة الّتي يعتمد فيها على فهم المتدرّب في العلوم ، كقولهم في تفسير الواجب بالذات : «إنّه الأمر الّذي يقتضي لذاته الوجود ، وإنّه موجود واجب لذاته» الظاهر في كون الذات علّة لوجوده ، ووجوده عينه.

وبالجملة : فعلمه تعالى في ذاته بنظام الخير غاية لفاعليّته الّتي هي عين الذات ، بل الإمعان في البحث يعطي أنّه تعالى غاية الغايات. فقد عرفت (٤) أنّ وجود كلّ معلول ـ بما أنّه معلول ـ رابط بالنسبة إلى علّته لا يستقلّ دونها. ومن

__________________

(١) في ابتداء هذا الفصل.

(٢) حيث قال : «فظهر ممّا تقدّم أوّلا ...».

(٣) راجع الأسفار ٢ : ٢٧٢.

(٤) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

٥٩

المعلوم أنّ التوقّف لا يتمّ معناه دون أن يتعلّق بمتوقّف عليه لنفسه ، وإلّا لتسلسل. وكذا الطلب والقصد والإرادة والتوجّه وأمثالها لا تتحقّق بمعناها إلّا بالانتهاء إلى مطلوب لنفسه ، ومقصود لنفسه ، ومراد لنفسه ، ومتوجّه إليه لنفسه. وإذ كان تعالى هو العلّة الاولى الّتي إليها ينتهي وجود ما سواه فهو استقلال كلّ مستقلّ وعماد كلّ معتمد ، فلا يطلب طالب ولا يريد مريد إلّا إيّاه ، ولا يتوجّه متوجّه إلّا إليه ، بلا واسطة أو معها ، فهو تعالى غاية كلّ ذي غاية.

٦٠