نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

ففيه : أنّه دعوى من غير دليل ، وقد تقدّمت الحجّة (١) على أنّ الممكن المتساوي الجانبين يحتاج في ترجّح أحد الجانبين إلى مرجّح (٢).

فإن قيل (٣) : إنّ المرجّح هو الفاعل مثلا بإرادته ، كما مرّ في مثال الهارب من السّبع.

أجيب : بأنّ مرجعه إلى القول الآتي ، وسيأتي بطلانه (٤). وأمّا مثال الهارب من السّبع فممنوع ، بل الهارب المذكور على فرض التساوي من جميع الجهات يقف في موضعه ولا يتحرّك أصلا.

على أنّ جواز ترجّح الممكن من غير مرجّح ينسدّ به طريق إثبات الصانع تعالى (٥).

وأمّا قول القائل : «إنّ الإرادة مرجّحة بذاتها ، يتعيّن بها أحد الأفعال المتساوية من غير حاجة إلى مرجّح آخر».

__________________

(١) راجع الفصلين الخامس والسادس من المرحلة الرابعة.

(٢) هكذا أجابت عنه الفلاسفة. راجع المباحث المشرقيّة ١ : ٤٨٠ ، والأسفار ٢ : ١٣٤. وحاصل الجواب : أنّه تقدّمت الحجّة على عدم إمكان الترجّح بلا مرجّح. ولمّا كان الترجيح بلا مرجّح مستلزما للترجّح بلا مرجّح ألزم ما ألزم ، فإنّ الترجّح يلزم في الترجيحين.

ومن هنا يعلم أنّه ما لم يتحقّق هناك مرجّح استحال حصول أحد الجانبين ، ولو حصل أحد الجانبين أحيانا يكشف منه أنّ المرجّح موجود وإن لم نعلم به ، فإنّ الضروريّ هو وجود المرجّح لا العلم به.

(٣) والقائل صاحب المواقف ، حيث قال : «لا أقول : لا يكون للفعل مرجّح على عدمه ، فإنّ الهارب بإرادته مرجّح إيّاه على عدمه ، بل أقول : لا يكون إليه ـ أي إلى الفعل ـ داع باعث للفاعل عليه من اعتقاد النفع أو ميل تابع له».

(٤) في السطور الآتية.

(٥) هذا أوّل الوجهين اللذين ذكرهما الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٤٨٠ ، وصدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ١٣٤. وحاصله : أنّ جواز ترجّح الممكن من غير مرجّح يستلزم انسداد باب إثبات الصانع تعالى ، لأنّ الطريق إلى إثباته هو أنّ كلّ ممكن يحتاج الى المؤثّر المرجّح ، وإذا كان ترجّح الممكن من غير مرجّح جائزا لم يحتج وجود الممكن إلى مؤثّر ومرجّح ، بل يجوز كون جميع الممكنات غير محتاج إلى غيره ، فينسدّ طريق إثبات الصانع.

٢١

ففيه (١) : أنّ الإرادة لو رجّحت الفعل فإنّما ترجّحه بتعلّقها به ، لكن أصل تعلّقها بأحد الامور المتساوية الجهات محال. ودعوى أنّ من خاصّة الإرادة ترجيح أحد الأفعال المتساوية لا محصّل لها (٢) ، لأنّها صفة نفسانيّة علميّة لا تتحقّق إلّا مضافة إلى متعلّقها الّذي رجّحه العلم السابق لها. فما لم يرجّح العلم السابق متعلّق الإرادة لم تتحقّق الإرادة حتّى يترجّح بها فعل.

وأمّا قول من قال : «إنّه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فما علم منها أنّه سيقع يفعله ، وما علم منها أنّه لا يقع لا يفعله». وبعبارة اخرى : «ما علم أنّه ممكن فعله ، دون المحال».

ففيه : أنّ الإمكان لازم الماهيّة ، والماهيّة متوقّفة في انتزاعها على تحقّق الوجود ، ووجود الشيء متوقّف على ترجيح المرجّح ، فالعلم بالإمكان متأخّر عن المرجّح بمراتب ، فلا يكون مرجّحا.

وأمّا قول من قال : «إنّ أفعاله تعالى غير خالية عن المصالح وإن كنّا لا نعلم بها ، فما كان منها ذا مصلحة في وقت يفوت لو لم يفعله في ذلك الوقت أخّره إلى ذلك الوقت».

ففيه ـ مضافا إلى ورود ما اورد على القول السابق عليه (٣) ـ : أنّ المصلحة المفروضة المرتبطة بالوقت الخاصّ لأيّ فعل من أفعاله ـ كيفما فرضت ـ ذات ماهيّة ممكنة ، لا واجبة (٤) ولا ممتنعة (٥) ، فهي نظيرة الأفعال ذوات المصلحة من

__________________

(١) هكذا دفعه صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ١٣٤ ـ ١٣٥ و ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٢) خبر لقوله : «ودعوى».

(٣) حاصله : أنّ العلم بالمصلحة متأخّر عن المرجّح بمراتب ، فإنّ العلم بالمصلحة متأخّر عن وجود المصلحة ، وهو متأخّر عن وجود ذي المصلحة ـ أي الفعل ـ ، وهو متوقّف على ترجيحه بمرجّح ، فالعلم بالمصلحة متأخّر عن المرجّح بمراتب ، فلا يكون مرجّحا.

(٤) وإلّا يلزم منه تعدّد الواجب ، وهو منفيّ بأدلّة التوحيد.

(٥) فإنّ كلّ ممتنع معدوم ، والمعدوم لا شيئيّة له حتّى يكون العلم به مرجّحا ومنشأ للآثار.

٢٢

فعله تعالى. فمجموع ما سواه تعالى ـ من المصالح وذوات المصالح ـ فعل له تعالى ، لا يتعدّى طور الإمكان ، ولا يستغني عن علّة مرجّحة هي علّة تامّة ، وليس هناك وراء الممكن إلّا الواجب تعالى ، فهو العلّة التامّة الموجبة لمجموع فعله ، لا مرجّح له سواه.

نعم ، لمّا كان العالم مركّبا ذا أجزاء لبعضها نسب وجوديّة إلى بعض جاز أن يقف وجود بعض أجزائه في موقف الترجيح لوجود بعض ، لكنّ الجميع ينتهي إلى السبب الواحد الّذي لا سبب سواه ولا مرجّح غيره ، وهو الواجب عزّ اسمه (١).

فقد تحصّل من جميع ما تقدّم أنّ المعلول يجب وجوده عند وجود العلّه التامّة (٢).

وبعض من لم يجد بدّا من إيجاب العلّة التامّة لمعلولها (٣) قال ب : «أنّ علّة العالم هي إرادة الواجب دون ذاته تعالى». وهو أسخف ما قيل في هذا المقام ، فإنّ المراد بإرادته إن كانت هي الإرادة الذاتيّة كانت عين الذات ، وكان القول بعلّيّة الإرادة عين القول بعلّيّة الذات ، وهو يفرّق بينهما بقبول أحدهما وردّ الآخر. وإن كانت هي الإرادة الفعليّة ـ وهي من صفات الفعل الخارجة من الذات ـ كانت أحد الممكنات وراء العالم ، ونستنتج منها وجود أحد الممكنات ، هذا.

وأمّا مسألة وجوب وجود العلّة (٤) عند وجود المعلول فلأنّه لو لم تكن العلّة

__________________

(١) وإن شئت تفصيل الكلام فراجع ما ذكرنا في التعليقات من الفصل الثاني من هذه المرحلة ، الرقم (٣) في الصفحة : ٩.

(٢) والأولى أن يقول : «أنّ الوجود المعلول يجب عند وجود العلّة التامّة». وذلك لأنّ المعلول ليس إلّا الوجود المتأثّر عن العلّة ، كما مرّ.

(٣) والأولى ، بل الصحيح أن يقول : «بعض من لم يجد بدّا من وجوب الوجود المعلول عند وجود العلّة التامّة». وذلك لما مرّ في الرقم (٣) من التعليقات في الصفحة : ١٧.

(٤) أي : العلّة التامّة. وذلك لما مرّ من أنّ العلّة لا يطلق حقيقة إلّا على العلّة التامّة. ولعلّه أطلقها ولم يصرّح بالتامّة.

٢٣

واجبة الوجود عند وجود المعلول لكانت ممكنة ، إذ تقدير امتناعها يرتفع بأدنى توجّه ، وإذا كانت ممكنة كانت جائزة العدم ، والمعلول موجود قائم الوجود بها ، ولازمه وجود المعلول بلا علّة.

فإن قلت : المعلول محتاج إلى العلّة حدوثا لا بقاء فمن الجائز أن تنعدم العلّة بعد حدوث المعلول ، ويبقى المعلول على حاله.

قلت : هو مبنيّ على ما ذهب اليه قوم (١) ـ من أنّ حاجة المعلول إلى العلّة في الحدوث دون البقاء ، فإذا حدث المعلول بإيجاد العلّة إنقطعت الحاجة إليها ، ومثّلوا له بالبناء والبنّاء ، فإنّ البنّاء علّة للبناء ، فإذا بنى وقام البناء على ساق ارتفعت حاجته إلى البنّاء ، ولم يضرّه عدمه ـ. وهو مردود بأنّ الحاجة إلى العلّة خاصّة لازمة للماهيّة ، لإمكانها في تلبّسها بالوجود أو العدم ، والماهيّة بإمكانها محفوظة في حالة البقاء ، كما أنّها محفوظة في حالة الحدوث ، فيجب وجود العلّة في حالة البقاء كما يجب وجودها في حالة الحدوث. على أنّه قد تقدّم (٢) أنّ وجود المعلول بالنسبة إلى العلّة وجود رابط قائم بها غير مستقلّ عنها ، فلو استغنى عن العلّة بقاء كان مستقلّا عنها غير قائم بها ، وهذا خلف.

برهان آخر : قال في الأسفار : «وهذا ـ يعني كون علّة الحاجة إلى العلّة هي الحدوث ـ أيضا باطل ، لأنّا إذا حلّلنا الحدوث بالعدم السابق والوجود اللاحق وكون ذلك الوجود بعد العدم وتفحّصنا عن علّة الافتقار إلى الفاعل أهي أحد الامور الثلاثة أم أمر رابع مغاير لها؟ لم يبق من الأقسام شيء إلّا القسم الرابع. أمّا العدم السابق فلأنّه نفي محض لا يصلح للعلّيّة. وأمّا الوجود فلأنّه مفتقر إلى الإيجاد المسبوق بالاحتياج إلى الموجد المتوقّف على علّة الحاجة إليه ، فلو

__________________

(١) وهم جمهور المتكلّمين ، راجع شرحي الإشارات ١ : ٢١٥ ، وشرح الإشارات للمحقّق الطوسيّ ٣ : ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

٢٤

جعلنا العلّة هي الوجود لزم تقدّم (١) الشيء على نفسه بمراتب. وأمّا الحدوث فلافتقاره إلى الوجود ، لأنّه كيفيّة وصفة له ، وقد علمت افتقار الوجود إلى علّة الافتقار بمراتب. فلو كان الحدوث علّة الحاجة يتقدّم على نفسه بمراتب ، فعلّة الافتقار زائدة على ما ذكرت» (٢).

وقد اندفعت بما تقدّم مزعمة اخرى لبعضهم (٣) ، وهي قولهم : «إنّ من شرط صحّة الفعل سبق العدم» (٤). والمراد بالسبق السبق الزمانيّ ، ومحصّله أنّ المعلول بما أنّه فعل لعلّته يجب أن يكون حادثا زمانيّا. وعلّلوه بأنّ دوام وجود الشيء لا يجامع حاجته ، ولازم هذا القول أيضا عدم وجود المعلول عند وجود العلّة.

وجه الاندفاع (٥) : أنّ علّة الحاجة إلى العلّة هي الإمكان ، وهو لازم الماهيّة ، والماهيّة مع المعلول كيفما فرض وجودها ، من غير فرق بين الوجود الدائم وغيره.

على أنّ الوجود المعلول (٦) رابط بالنسبة إلى العلّة ، قائم بها ، غير مستقلّ عنها ، ومن الممتنع أن ينقلب مستغنيا عن المستقلّ الّذي يقوم به ، سواء كان دائما أو منقطعا.

على أنّ لازم هذا القول خروج الزمان من افق الممكنات ، وقد تقدّمت جهات فساده (٧).

__________________

(١) هكذا في الأسفار. وفي النسخ : «توقّف».

(٢) راجع الأسفار ٢ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٣) أي بعض المتكلّمين على ما نقل في رسالة الحدوث لصدر المتألّهين : ١٥. وفي الأسفار عبّر عنهم بطائفة من الجدليّين ، فراجع الأسفار ٢ : ٣٨٤.

(٤) وقال الفخر الرازيّ : «لا يشترط في الفعل تقدّم العدم عليه» ثمّ ذكر عشرة براهين عليه ، وبعد ذلك أجاب عن شبهات المخالفين. فراجع المباحث المشرقيّة ١ : ٤٨٥ ـ ٤٩٤.

(٥) كما في الأسفار ٣ : ١٨ ـ ١٩.

(٦) وفي النسخ : «وجود المعلول». وما أثبتناه أولى.

(٧) راجع الفصل السادس من المرحلة الرابعة.

٢٥

الفصل الرابع

في أنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد (١)

والمراد بالواحد الأمر البسيط الّذي ليس في ذاته جهة تركيبيّة مكثّرة (٢).

__________________

(١) هذا مذهب الحكماء والمعتزلة من المتكلّمين على ما نقل في نقد المحصّل : ٢٣٧ ، وشوارق الإلهام : ٢٠٦.

وأمّا الأشاعرة فذهبوا إلى خلاف ذلك. قال العلّامة الإيجيّ في المواقف : «يجوز عندنا ـ يعني الأشاعرة ـ استناد آثار متعدّدة إلى مؤثّر واحد بسيط ، وكيف لا ونحن نقول بأنّ جميع الممكنات مستندة إلى الله تعالى». راجع كلام الماتن في شرح المواقف : ١٧٢. وتبعهم الفخر الرازيّ ، فإنّه نقل أربعة براهين على رأي الحكماء ثمّ ناقش في الجميع ، فراجع المباحث المشرقيّة ١ : ٤٦٠ ـ ٤٦٨.

وقال صدر المتألّهين في شرح الهداية الأثيريّة : ٢٥٤ ـ بعد التعرّض لشبهات الرازيّ ـ : «والاشتغال بجواب أمثال هذه الشبهات تضييع للأوقات من دون فائدة ، فإنّ قائلها إمّا أن لا يقدر على إدراك ...». وإن شئت تفصيل ما قاله أساطين الحكمة في الردّ على شبهات الرازيّ فراجع الأسفار ٢ : ٢٠٤ ـ ٢١٢ و ٧ : ١٩٢ ـ ٢٤٤ ، والقبسات : ٣٥١ ـ ٣٦٧ ، وشوارق الإلهام : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ، وشرح الإشارات ٣ : ١٢٢ ـ ١٢٧.

(٢) لا يخفى أنّ لفظ «التركيب» يطلق بالاشتراك على معان :

١ ـ التركيب من المادّة والصورة.

٢ ـ التركيب من الجنس والفصل.

٣ ـ التركيب من العرض والموضوع.

٤ ـ التركيب من الأجزاء المقداريّة. ـ

٢٦

__________________

ـ ٥ ـ التركيب من العناصر المختلفة.

٦ ـ التركيب من الماهيّة والوجود.

فإن كان المراد من الأمر البسيط ما ليس له أجزاء أصلا وما لا يتصوّر فيه أيّ نحو من أنحاء التركيب اختصّ جريان القاعدة بالواجب تعالى ، وكان المراد من الواحد الواقع في المستثنى منه هو العلّة الفاعليّة الحقيقيّة الّتي يصدر عنها الوجود المعلول ، وهي الواجب تعالى ، وكان المراد من الواحد المستثنى هو الوجود المعلول ، وهو العقل الأوّل أو النظام الجمليّ أو الوجود المنبسط ، على خلاف بينهم.

وهذا ما ذهب إليه صدر المتألّهين كما يظهر من بعض عباراته في الأسفار ٢ : ٢١٢ ـ ٢٢٠ و ٢٢٩ ـ ٣٠١ ، بل صرّح بذلك في الأسفار ٨ : ٦٠ حيث قال : «وهذا ليس كما زعموه ، إذ تلك الحجّة غير جارية إلّا في الواحد الحقيقيّ الّذي هو واحد من كلّ الوجوه».

وتبعه الشيخ محمّد تقيّ الآمليّ في درر الفوائد ١ : ٣٧٥ ـ ٣٧٦ حيث قال : «اعلم أنّ محلّ البحث في مسألة الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد ، هو الفاعل المستقلّ الواحد من جميع الجهات بحيث لا يكون فيه كثرة الأجزاء ولا كثرة الوجود والماهيّة ... بل كلّما فرضت من الكثرة والتعدّد والتجزّي مسلوب عنه ، فمثل هذا الفاعل لو كان فاعلا لمتعدّد في عرض واحد يجب أن تكون منشئيّته للمتعدّد إمّا بأن يكون من حيث ذاته منشأ لشيء وبخصوصيّة الطارئة عليه منشأ لشيء آخر ، أو يكون بخصوصيّة منشأ لشيء وبخصوصيّة اخرى منشأ للآخر ، وكيف كان فيتركّب ذلك البسيط وهو خلاف الفرض».

وإن كان المراد من البسيط هو الحيثيّة الواحدة الّتي يصدر عنها المعلول ولو كانت مقترنة بحيثيّات اخرى فلم يختصّ جريان القاعدة بالواجب تعالى ، بل يجري أيضا في المركّبات الّتي يتركّب من بسائط ، فإنّ أجزاءها البسيطة لا يصدر عنها إلّا معلول واحد.

وهذا ما يظهر من كلمات كثير من الحكماء ، منهم الحكيم السبزواريّ في تعليقته على الأسفار ٨ : ٦٠ ، حيث ناقش في مذهب صدر المتألّهين وقال : «فيه نظر : أمّا أوّلا : فلأنّه نفسه يجري في الطبائع تبعا للقوم بأنّ مقتضاها الكرويّة ، فإنّ الطبيعة واحدة ، والفاعل الواحد في القابل الواحد لا يفعل إلّا فعلا واحدا. وأمّا ثانيا : فلأنّه قد أشار إلى الإجزاء في الإلهيّات في فصل معقود لهذه القاعدة بقوله : «إنّ الحقّ الواحد الصرف وكذا الواحد بما هو واحد لا يصدر عنه بتلك الحيثيّة إلّا واحد». وأمّا ثالثا : فلأنّ الواحد الغير الحقيقيّ وإن جاز فيه كثرة الحيثيّات إلّا أنّه لا يناسب أيّة حيثيّة كانت لأيّ معلول كان ، مثل أن تفعل الطبيعة الواحدة شكلا مضلّعا سطحه بجنسها وخطّه بفصلها ونحو ذلك ، وإلّا فلم لا يجوز أن تفعل النار الإضاءة والإظلام ـ

٢٧

فالعلّة الواحدة هي العلّة البسيطة الّتي هي بذاتها البسيطة علّة ، والمعلول الواحد هو المعلول البسيط الّذي هو بذاته البسيطة معلول. فالمراد بالواحد ما يقابل الكثير الّذي له أجزاء أو آحاد متباينة لا ترجع إلى جهة واحدة.

بيانه (١) : أنّ المبدأ الّذي يصدر عنه وجود المعلول هو وجود العلّة ، الّذي هو نفس ذات العلّة ، فالعلّة هي نفس الوجود الّذي يصدر عنه وجود المعلول وإن قطع النظر عن كلّ شيء. ومن الواجب أن تكون بين المعلول وعلّته سنخيّة ذاتيّة هي المخصّصة لصدوره عنها ، وإلّا كان كلّ شيء علّة لكلّ شيء ، وكل شيء معلولا لكلّ شيء. فلو صدر عن العلّة الواحدة ـ الّتي ليس لها في ذاتها إلّا جهة واحدة ـ معاليل كثيرة بما هي كثيرة متباينة لا ترجع إلى جهة واحدة تقرّرت في ذات العلّة جهات كثيرة متباينة متدافعة ، وقد فرضت بسيطة ذات جهة واحدة ، وهذا خلف. فالواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد ، وهو المطلوب.

وقد اعترض عليه بالمعارضة (٢) : أنّ لازمه عدم قدرة الواجب تعالى على إيجاد أكثر من واحد ، وفيه تقييد قدرته ، وقد برهن على إطلاق قدرته وأنّها عين ذاته المتعالية.

ويردّه : أنّه (٣) مستحيل بالبرهان ، والقدرة لا تتعلّق بالمحال ، لأنّه بطلان

__________________

ـ وتفعل الطبيعة التحريك والتسكين من غير اشتراط بوجدان الحالة الملائمة وفقدانها».

(١) هذا بيان جامع لأكثر البراهين. وادّعى بعض المحقّقين بداهة المسألة ، كما قال المحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام : ٢١٠ : «فالحقّ ما ذكره الشارح القديم من أنّ الحكم بأنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد بديهيّ لا يتوقّف إلّا على تصوّر طرفيه». وقال المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات ٣ : ١٢٢ : «وكان هذا الحكم قريبا من الوضوح».

(٢) والمعترض هم الأشاعرة كالعلّامة الإيجيّ والسيّد الشريف في المواقف وشرحه : ١٧٢ و ٤٨٥. واعترض عليه الغزاليّ أيضا ، حيث قال : «إنّهم قالوا : لا يصدر من الواحد إلّا شيء واحد ، والمبدأ الواحد من كلّ وجه. والعالم مركّب من مختلفات ، فلا يتصوّر أن يكون فعلا لله تعالى بموجب أصلهم». راجع كلام الماتن في تهافت التهافت : ٢٩٢.

(٣) أي : إيجاد أكثر من واحد.

٢٨

محض لا شيئيّة له. فالقدرة المطلقة على إطلاقها ، وكلّ موجود معلول له تعالى بلا واسطة أو معلول معلوله ، ومعلول المعلول معلول حقيقة (١).

ويتفرّع عليه :

أوّلا : أنّ الكثير لا يصدر عنه الواحد ، فلو صدر واحد عن الكثير فإمّا أن يكون الواحد واحدا نوعيّا ذا أفراد كثيرة يستند كلّ فرد منها إلى علّة خاصّة ، كالحرارة الصادرة عن النار والنور والحركة وغيرها ، أو تكون وحدته عدديّة ضعيفة ـ كالوحدة النوعيّة ـ فيستند وجوده إلى كثير ، كالهيولى الواحدة بالعدد المستند وجودها إلى مفارق يقيم وجودها بالصور المتواردة عليها واحدة بعد واحدة ، على ما قالته الحكماء (٢) وقد تقدّم الكلام فيه (٣) ، وإمّا أن تكون للكثير جهة وحدة يستند إليها المعلول ، وإمّا أن يكون الكثير مركّبا ذا أجزاء يفعل الواحد بواحد منها فينسب إلى نفس المركّب.

وثانيا : أنّ المعلول الواحد لا يفعل فيه علل كثيرة ، سواء كان على سبيل الاجتماع في عرض واحد لأنّه يؤدّي إلى التناقض في ذات الواحد المؤدّي إلى الكثرة ، أو كان على سبيل التوارد بقيام علّة عليه بعد علّة (٤) للزوم ما تقدّم من المحذور (٥).

وثالثا : أنّه لو صدر عن الواحد كثير وجب أن تكون فيه جهة كثرة وتركيب يستند إليها الكثير ، غير جهة الوحدة المفروضة ، كالإنسان الواحد الّذي يفعل أفعالا كثيرة من مقولات كثيرة متباينة بتمام الذات.

__________________

(١) بل الكلّ معلول له تعالى بلا واسطة ، فإنّ الواجب تعالى هو العلّة الحقيقيّة ، فكلّ معلول معلول له حقيقة بلا واسطة ، كما مرّ ، وسيأتي في الفصل الرابع عشر من المرحلة الثانية عشرة.

(٢) من الكون والفساد. ولا يخفى أنّ مراده من الحكماء هو الحكماء السابقون على صدر المتألّهين رحمه‌الله. وأمّا صدر المتألّهين فقال : «إنّ تقويم الصورة الطبيعيّة للجسميّة ليس على سبيل البدل». الأسفار ٥ : ١٥٤ ـ ١٥٦.

(٣) في الفصلين السادس والسابع من المرحلة السادسة.

(٤) قال المحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام : ٢١٣ : «وأمّا إذا لم يفرض اجتماعهما بل فرض تبادلهما ابتداء أو تعاقبهما فالمشهور هو الجواز».

(٥) حيث قال : «بيانه ...».

٢٩

الفصل الخامس

في استحالة الدور والتسلسل في العلل

أمّا الدور فهو توقّف وجود الشيء على ما يتوقّف وجوده عليه ، إمّا بلا واسطة كتوقّف (أ) على (ب) وتوقّف (ب) على (أ) ويسمّي : «دورا مصرّحا» ، وإمّا مع الواسطة كتوقّف (أ) على (ب) و (ب) على (ج) و (ج) على (أ) ويسمّى : «دورا مضمرا».

واستحالته قريبة من البداهة ، فإنّه يستلزم تقدّم الشيء على نفسه بالوجود ، وهو ضروريّ الاستحالة (١).

وأمّا التسلسل فهو ترتّب شيء موجود على شيء آخر موجود معه بالفعل ، وترتّب الثاني على ثالث كذلك ، والثالث على رابع ، وهكذا إلى غير النهاية. سواء كان ذهاب السلسلة كذلك من الجانبين بأن يكون قبل كلّ قبل قبل وبعد كلّ بعد بعد ؛ أو من جانب واحد. لكنّ الشرط على أيّ حال أن يكون لأجزاء السلسلة وجود بالفعل وأن تكون مجتمعة في الوجود وأن يكون بينها ترتّب. والتسلسل في العلل ترتّب معلول على علّة وترتّب علّته على علّة وعلّة علّته على علّة ، وهكذا

__________________

(١) فإنّ تقدّم الشيء على نفسه مستلزم لتخلّل العدم بين الشيء ونفسه ، وهو ضروريّ الاستحالة.

٣٠

إلى غير النهاية. والتسلسل في العلل محال.

والبرهان عليه : أنّ وجود المعلول رابط بالنسبة إلى علّته لا يقوم إلّا بعلّته ، والعلّة هو المستقّل الّذي يقوّمه (١) كما تقدّم (٢). وإذا كانت علّته معلولة لثالث وهكذا ، كانت غير مستقلّة بالنسبة إلى ما فوقها ، فلو ذهبت السلسلة إلى غير النهاية ولم تنته إلى علّة غير معلولة تكون مستقلّة غير رابطة ، لم يتحقّق شيء من أجزاء السلسلة ، لاستحالة وجود الرابط إلّا مع مستقلّ.

برهان آخر : ـ وهو المعروف ببرهان الوسط والطرف ـ أقامه الشيخ في الشفاء ، حيث قال : «إذا فرضنا معلولا وفرضنا له علّة ولعلّته علّة فليس يمكن أن يكون لكلّ علّة علّة بغير نهاية ، لأنّ المعلول وعلّته وعلّة علّته إذا اعتبرت جملتها في القياس الّذي لبعضها إلى بعض ، كانت علّة العلّة علّة اولى مطلقة للآخرين ، وكان للآخرين نسبة المعلوليّة إليها ، وإن اختلفا في أنّ أحدهما معلول بالواسطة والآخر معلول بلا واسطة ، ولم يكونا كذلك ، لا الأخير ولا المتوسّط ، لأنّ المتوسّط الّذي هو العلّة المماسّة للمعلول علّة لشيء واحد فقط والمعلول ليس علّة لشيء.

ولكلّ واحد من الثلاثة خاصّيّة. فكانت خاصّيّة الطرف المعلول أنّه ليس علّة لشيء ، وخاصّيّة الطرف الآخر أنّه علّة للكلّ غيره ، وخاصّيّة الوسط أنّه علّة لطرف ومعلول لطرف ، سواء كان الوسط واحدا أو فوق واحد ، وإن كان فوق واحد فسواء ترتّب ترتيبا متناهيا أو غير متناه ، فإنّه إن ترتّب في كثرة متناهية كانت جملة عدد ما بين الطرفين كواسطة واحدة تشترك في خاصّيّة الواسطة بالقياس إلى الطرفين ، فيكون لكلّ من الطرفين خاصّيّته. وكذلك إن ترتّب في كثرة غير متناهية فلم يحصل الطرف كان جميع غير المتناهي مشتركا في خاصّيّة الواسطة ، لأنّك أيّ جملة أخذت كانت علّة لوجود المعلول الأخير وكانت معلولة ، إذ كلّ واحد منها معلول ، والجملة متعلّق الوجود به ، ومتعلّق الوجود بالمعلول معلول ، إلّا أنّ تلك

__________________

(١) أي : يقوّم المعلول.

(٢) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

٣١

الجملة شرط في وجود المعلول الأخير وعلّة له ، وكلّما زدت في الحصر والأخذ كان الحكم إلى غير النهاية باقيا.

فليس يجوز أن تكون جملة علل موجودة وليس فيها علّة غير معلولة وعلّة اولى ، فإنّ جميع غير المتناهي واسطة بلا طرف ، وهذا محال» (١).

برهان آخر : ـ وهو المعروف بالأسدّ الأخصر ـ للفارابيّ (٢) ، أنّه إذ كان ما من واحد من آحاد السلسلة الذاهبة بالترتيب بالفعل لا إلى نهاية إلّا وهو كالواحد الآخر في أنّه ليس يوجد إلّا ويوجد آخر وراءه من قبل ، كانت الآحاد اللامتناهية بأسرها يصدق عليها أنّها لا تدخل في الوجود ما لم يكن شيء من ورائها موجودا من قبل. فإذا بداهة العقل قاضية بأنّه من أين يوجد في تلك السلسة شيء حتّى يوجد شيء ما بعده؟ (٣).

وهناك حجج اخرى اقيمت على استحالة التسلسل لا يخلو أكثرها من مناقشة (٤).

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء.

(٢) نسب إليه في الأسفار ٢ : ١٦٦ ، وشرح المنظومة : ١٣٦.

(٣) راجع الأسفار ٢ : ١٦٦.

(٤) وإن شئت تفصيل ما أقاموا على استحالة التسلسل فراجع الأسفار ٢ : ١٤١ ـ ١٦٩ ، وشوارق الإلهام : ٢١٥ ـ ٢٢٦ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٤٧٠ ـ ٤٧٧ ، وشرح المنظومة : ١٣٤ ـ ١٣٦ ، وغيرها من المطوّلات. وصنّف محمّد عبد الحيّ اللكهنويّ الأنصاريّ كتابا موسوما ب «الكلام المتين في تحرير البراهين» ، وهو مشتمل على اثنين وخمسين برهانا على إبطال التسلسل ، وهاهنا نكتفي بذكر بعضها اجمالا : ١ ـ برهان العروة الوثقى. ٢ ـ برهان المنصف والتضعيف. ٣ ـ برهان العرشي. ٤ ـ برهان الزوج والفرد. ٥ ـ برهان الزيادة. ٦ ـ برهان النسبة. ٧ ـ برهان اختلاف النصفين. ٨ ـ برهان التحرّك. ٩ ـ برهان خلوّ الحيّز. ١٠ ـ برهان الطفرة. ١١ ـ برهان المقاطعة. ١٢ ـ برهان الوصل. ١٣ ـ برهان السلّمي. ١٤ ـ برهان عروض العدد. ١٥ ـ برهان حصر ما لا ينحصر. ١٦ ـ برهان الوسط والطرف. ١٧ ـ برهان تلاقي المتوازيين. ١٨ ـ برهان كثرة الأنصاف. ١٩ ـ برهان تحرّك الكرتين. وغيرها من البراهين المذكورة فيه ، فراجع الكتاب المذكور.

٣٢

تنبيه :

قال بعضهم (١) : «إنّ معيار الحكم بالاستحالة في كلّ من البراهين الّتي اقيمت على استحالة التسلسل هو استجماع شرطي الترتّب والاجتماع في الوجود بالفعل في جهة اللانهاية ، ومقتضاها استحالة التسلسل في العلل في جهة التصاعد بأن تترتّب العلل إلى ما لا نهاية له ، لا في جهة التنازل بأن يترتّب معلول على علّته ، ثمّ معلول المعلول على المعلول ، وهكذا إلى غير النهاية.

والفرق بين الأمرين أنّ العلل مجتمعة في مرتبة وجود المعلول ومحيطة به. وتقدّمها عليه إنّما هو بضرب من التحليل ، بخلاف المعلولات فإنّها ليست في مرتبة عللها ، فذهاب السلسلة متصاعدة يستلزم اجتماع العلل المترتّبة بوجوداتها بالفعل في مرتبة المعلول الّذي تبتدئ منه السلسلة مثلا ، بخلاف ذهاب السلسلة متنازلة فإنّ المعلولات المترتّبة المتنازلة لا تجتمع على العلّة الاولى الّتي تبدأ منها السلسلة مثلا» (٢). انتهى كلامه ملخّصا.

__________________

(١) وهو السيّد المحقّق الداماد.

(٢) راجع القبسات : ٣٣٣ ـ ٣٣٤. قال الحكيم السبزواريّ ـ تعليقا عليه ـ : «واعلم أنّ غرض السيّد رحمه‌الله من هذا التحقيق إمّا أنّ التسلسل إلى جانب المعلول ممتنع بالذات بالبراهين الدالّة على انتهاء الفيض النازل طولا وإن لم يتناه عرضا ولكن لا تجري براهين امتناع التسلسل إلى جانب العلّة ـ من التطبيق والتضايف والحيثيّات وغيرها ـ فيه ، وإمّا أنّه ممكن ذاتا فقط ، وإمّا أنّه ممكن وقوعا.

والثالث ليس بمقصود قطعا ، كيف؟ ولو وقع ذلك لما انتهت سلسلة البسائط إلى الهيولى ولا العوالم الطوليّة إلى عالم الملك ، أما تسمع قول الإشراقيّ حيث قال : «يتنزّل الأنوار القاهرة الأعلون إلى قاهر لا ينشأ منه نور قاهر في الطبقة الطوليّة ، كالأنوار الحسّيّة حيث تصل في الإفاضة إلى نور لا ينشأ منه نور لأجل التنزّلات والإصطكاكات» وقول المشّائيّ بانتهاء العقول إلى العقل العاشر؟

والظاهر أنّ الأوّل أيضا ليس بمقصود ، إذ الدليل إنّما دلّ على انتهاء سلسلة الجواهر البسيطة ، لا على أنّه لا يمكن أن يكون لشيء لازم وللازمة لازم وهكذا إلى غير النهاية ، غايته أنّه لم يقع. فبقي الشقّ الثاني». ـ

٣٣

وأنت خبير بأنّ البرهانين المتقدّمين المنقولين عن الشيخ والفارابيّ جاريان في صورتي التصاعد والتنازل جميعا فيما كانت السلسلة مؤلّفة من علل تامّة (١). وأمّا العلل الناقصة فيجري البرهانان فيها إذا كانت السلسلة متصاعدة ، لوجوب وجود العلّة الناقصة عند وجود المعلول ومعه ، بخلاف ما إذا كانت السلسلة متنازلة ، لعدم وجوب وجود المعلول عند وجود العلّة الناقصة.

فما ذكره (٢) ـ من أنّ معيار الاستحالة هو اجتماع اللامتناهي في جزء من أجزاء السلسلة ، وهو متأتّ في صورة التصاعد دون التنازل ـ ممنوع.

تنبيه آخر :

تقدّم (٣) أنّ التسلسل إنّما يستحيل فيما إذا كانت أجزاء السلسلة موجودة بالفعل ، وأن تكون مجتمعة في الوجود ، وأن يترتّب بعضها على بعض. فلو كان بعض الأجزاء موجودا بالقوّة ـ كبعض مراتب العدد ـ فليس بمستحيل ، لأنّ الموجود منه متناه دائما ؛ وكذا لو كانت موجودة بالفعل ، لكنّها غير مجتمعة في الوجود ـ كالحوادث الزمانيّة (٤) بعضها معدومة عند وجود بعض ـ لتناهي ما هو

__________________

ـ ثمّ قال : «أقول : هذا الفرق حقّ ، لكن ليس مؤثّرا في عدم إجراء البراهين في التنازل المعلوليّ ، فإنّ الكلام في العلل الحقيقيّة لا المعدّة ، فإذا كانت العلّة المقتضية موجودة فالمعاليل كلّها موجودة في زمان واحد وشبهه ، إذ تخلّف المعلول عن العلّة الحقيقيّة لا يجوز وإن كان وجود كلّ في مرتبة ، وإن ترتّب لها وجود ارتفع به التكثّر الرتبيّ لم تكن سلسلة ، لا في التنازل ولا في التصاعد ، وحينئذ فيجري التطبيق وغيره ، لكون الآحاد موجودة عند وجود علّتها في زمان واحد وشبهه. وليت شعري لم سكت المصنّف رحمه‌الله عن النفي والإثبات؟ ولعلّه سكت تأدّبا ، والله تعالى أعلم بمراد عباده». راجع تعليقته على الأسفار ٢ : ١٦٦ ـ ١٦٨.

(١) ولا يخفى عليك : أنّ تأليف السلسلة من العلل التامّة غير متصوّر ، فإنّ العلّة التامّة علّة واحدة بسيطة ، هي الواجب تعالى. وأمّا العلل الناقصة : فهي معدّات تهيّئ المادّة لفيضان الفيّاض ، وهو الواجب تعالى ، كما مرّ.

(٢) أي : السيّد الداماد.

(٣) في ابتداء هذا الفصل.

(٤) على مبنى المشّائين القائلين بالكون والفساد ، المنكرين للحركة الجوهريّة.

٣٤

الموجود منها دائما ؛ وكذا لو كانت موجودة بالفعل مجتمعة في الوجود ، لكن لا ترتّب بينها ، وهو توقّف البعض على البعض وجودا ، كعدد غير متناه من موجودات لا علّية ولا معلوليّة بينها.

والوجه في ذلك أنّه ليس هناك مع فقد شيء من الشرائط الثلاث سلسلة واحدة موجودة غير متناهية حتّى يجري فيها براهين الاستحالة.

تنبيه آخر :

مقتضى ما تقدّم من البرهان (١) استحالة التسلسل في أقسام العلل كلّها ، من العلل الفاعليّة والغائيّة والمادّيّة والصوريّة ، كما أنّ مقتضاه (٢) استحالته في العلل التامّة ، لأنّ الملاك في الاستحالة ذهاب التوقّف الوجوديّ إلى غير النهاية ، وهو موجود في جميع أقسام العلل.

ويتبيّن بذلك أيضا استحالة التسلسل في أجزاء الماهيّة ، كأن يكون مثلا للجنس جنس إلى غير النهاية أو للفصل فصل إلى غير النهاية ، لأنّ الجنس والفصل هما المادّة والصورة مأخوذتين لا بشرط (٣) ؛ على أنّ الماهيّة الواحدة لو تركّبت من أجزاء غير متناهية استحال تعقّلها ، وهو باطل.

__________________

(١) والأولى أن يقول : «مقتضى ما تقدّم من البرهانين الأخيرين» ، فإنّ البرهان الأوّل لا يجري إلّا في العلّة الفاعليّة ، وهي العلّة التامّة ، بل هي العلّة حقيقة ، كما مرّ. والوجه في ذلك أنّ الوجود المعلول إنّما هو عين الربط بالعلّة الفاعليّة الفيّاضة ، كما مرّ سابقا ، وأمّا غيرها من العلّة المادّيّة والغائيّة والصوريّة وغيرها من المسمّيات بالعلّة الناقصة ليست إلّا معدّات تقرّب المّادة إلى إفاضة الفاعل وتهيّئها للخروج من العدم إلى الوجود بعد إفاضة الفاعل.

(٢) وفي النسخ : «مقتضاها» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) فكما يستحيل التسلسل في المادّة والصورة كذلك يستحيل في الجنس والصورة.

٣٥

الفصل السادس

في العلّة الفاعليّة

قد تقدّم (١) أنّ الماهيّة الممكنة (٢) في تلبّسها بالوجود تحتاج إلى مرجّح لوجودها. ولا يرتاب العقل أنّ لمرجّح الوجود شأنا بالنسبة إلى الوجود غير ما للماهيّة من الشأن بالنسبة إليه. فللمرجّح بالنسبة إليه شأن شبيه بالإعطاء (٣) ، نسمّيه : «فعلا» أو ما يفيد معناه ؛ وللماهيّة شأن شبيه بالأخذ (٤) نسمّيه : «قبولا» أو

__________________

(١) في ابتداء الفصل الأوّل من هذه المرحلة ، والفصلين الخامس والسادس من المرحلة الرابعة ، والفصل الأوّل من المرحلة الخامسة.

(٢) ولا يخفى أنّ قيد «الممكنة» توضيحيّ ، فإنّ الواجب تعالى لا ماهيّة له ، كما مرّ.

(٣) وفي النسخ : «فللمرجّح أو بعض أجزائه بالنسبة إليه شأن شبيه بالإعطاء» ، ولكنّ الصحيح ما أثبتناه. وذلك لأنّ المرجّح ليس إلّا العلّة الفاعليّة التامّة الّتي تتعلّق مشيئته بوجود الشيء ، والعلّة التامّة الفاعليّة علّة واحدة بسيطة ، ليس لها أجزاء ، وهي الواجب تعالى ، فلأ عطاء إلّا للمرجّح الّذي هو العلّة التامّة البسيطة.

وأمّا قوله : «شأن شبيه بالإعطاء» إشارة إلى أنّ شأن المرجّح ـ وهو الواجب ـ بالنسبة الى الوجود المعلول شأن الإيجاد ، فإنّه موجد الأشياء حقيقة. وأمّا الإعطاء فيستعمل حقيقة فيما ينتقل الشخص ما له إلى غيره الّذي هو موجود قبل الانتقال ، وليس هناك شيء قبل الإيجاد ، بل الشيء إنّما يوجد بعد الإيجاد.

(٤) قال : «شأن شبيه بالأخذ» ولم يقل : «شأن الأخذ» ، لأنّ الماهيّة قبل إفاضة الفاعل وإيجادها ليست بشيء حتّى يأخذ الوجود من الفاعل.

٣٦

ما يفيد معناه. ومن المحال أن تتّصف الماهيّة بشأن المرجّح ، وإلّا لم تحتج إلى مرجّح ، أو يتّصف المرجّح بشأن الماهيّة ، وإلّا لزم الخلف (١). ومن المحال أيضا أن يتّحد الشأنان ، فالشأن الّذي هو القبول يلازم الفقدان ، والشأن الّذي هو الفعل يلازم الوجدان.

وهذا المعنى واضح في الحوادث الواقعة الّتي نشاهدها في نشأة المادّة ، فإنّ فيها عللا تحرّك المادّة نحو صور هي فاقدة لها ، فتقبلها وتتصوّر بها ، ولو كانت واجدة لها لم تكن لتقبلها وهي واجدة ، فالقبول يلازم الفقدان ، والّذي للعلل هو الفعل المناسب لذاتها الملازم للوجدان (٢).

فالحادث المادّيّ يحتاج في وجوده (٣) إلى علّة تفعله ، نسمّيها : «علّة فاعليّة» ، وإلى علّة تقبله ، ونسمّيها : «العلّة المادّيّة» (٤). وسيأتي (٥) إثبات أنّ في الوجود ماهيّات ممكنة مجرّدة عن المادّة ، وهي لإمكانها تحتاج إلى علّة مرجّحة ، ولتجرّدها مستغنية عن العلّة المادّيّة ، فلها أيضا علّة فاعليّة.

فلا غنى لوجود ممكن (٦) ـ سواء كان مادّيا أو مجرّدا ـ عن العلّة الفاعليّة. فمن رام قصر العلل في العلّة المادّيّة ونفي العلّة الفاعليّة فقد رام إثبات فعل لا فاعل له ، فاستسمن ذا ورم.

__________________

(١) فإنّ المرجّح لو اتّصف بالماهيّة يصير محدودا كسائر الماهيّات الموجودة ، وإذا صار كسائرها فلم يكن مرجّحا لها ، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح ، وعدم كونه مرجّحا خلف.

(٢) فإنّ معطي الشيء لا يكون فاقدا له.

(٣) وفي النسخ : «يتوقّف في وجوده إلى». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) وفي إطلاق العلّة عليها نظر ، كما مرّ.

(٥) في الفصل الثالث من المرحلة الحادية عشرة.

(٦) قوله : «ممكن» وصف لوجود.

٣٧

الفصل السابع

في أقسام العلّة الفاعليّة

ذكروا للفاعل أقساما (١) أنهاها بعضهم (٢) إلى ثمانية. ووجه ضبطها على ما ذكروا (٣) أنّ الفاعل إمّا أن يكون له علم بفعله ذو دخل في الفعل أو لا. والثاني إمّا أن يلائم فعله طبعه وهو «الفاعل بالطبع» ، أو لا يلائم فعله طبعه وهو «الفاعل بالقسر». والأوّل ـ أعني الّذي له علم بفعله ذو دخل فيه ـ إمّا أن لا يكون فعله بإرادته وهو «الفاعل بالجبر» ، أو يكون فعله بإرادته ، وحينئذ إمّا أن يكون علمه بفعله في مرتبة فعله بل عين فعله وهو «الفاعل بالرضا» ، وإمّا أن يكون علمه بفعله قبل فعله ، وحينئذ إمّا أن يكون علمه بفعله مقرونا بداع زائد على ذاته وهو «الفاعل بالقصد». وإمّا أن لا يكون مقرونا بداع زائد بل يكون نفس العلم منشأ لصدور المعلول ، وحينئذ فإمّا أن يكون علمه زائدا على ذاته وهو «الفاعل بالعناية» ، أو غير زائد وهو «الفاعل بالتجلّي». والفاعل ـ كيف فرض ـ إن كان هو

__________________

(١) وقد ذكر صدر المتألّهين للفاعل ستّة أقسام. فراجع الأسفار ٢ : ٢٢٠ ـ ٢٢٥ ، والمبدأ والمعاد : ١٣٣ ـ ١٣٥. والمصنّف رحمه‌الله أنهاها إلى ستّة أقسام هنا. وأنهاها إلى خمسة في تعليقته على الأسفار ٢ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٢) هو الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١١٨ ، وتعليقته على الأسفار ٢ : ٢٢٢.

(٣) راجع شرح المنظومة : ١١٧ ـ ١١٩ ، وتعليقة الأسفار ٢ : ٢٢٢.

٣٨

وفعله المنسوب إليه فعلا لفاعل آخر كان «فاعلا بالتسخير».

فللعلّة الفاعليّة ثمانية أقسام :

الأوّل : الفاعل بالطبع ، وهو الّذي لا علم له بفعله مع كون الفعل ملائما لطبعه ، كالنفس في مرتبة القوى الطبيعيّة البدنيّة (١) فهي تفعل أفعالها بالطبع (٢).

الثاني : الفاعل بالقسر ، وهو الّذي لا علم له بفعله ، ولا فعله ملائم لطبعه ، كالنفس في مرتبة القوى الطبيعيّة البدنيّة عند انحرافها لمرض ، فإنّ الأفعال عندئذ تنحرف عن مجرى الصحّة لعوامل قاسرة (٣).

الثالث : الفاعل بالجبر ، وهو الّذي له علم بفعله وليس بإرادته ، كالإنسان يكره على فعل ما لا يريده.

الرابع : الفاعل بالرضا ، وهو الّذي له إرادة لفعله عن علم ، وعلمه التفصيليّ بفعله عين فعله ، وليس له قبل الفعل إلّا علم إجماليّ به بعلمه بذاته المستتبع لعلمه الإجماليّ بمعلوله ، كالإنسان يفعل الصور الخياليّة ، وعلمه التفصيليّ بها عين تلك الصور ، وله قبلها علم إجماليّ بها ، لعلمه بذاته الفعّالة لها ، وكفا عليّة الواجب تعالى للأشياء عند الإشراقيّين (٤).

الخامس : الفاعل بالقصد ، وهو الّذي له علم وإرادة ، وعلمه بفعله تفصيليّ قبل الفعل بداع زائد ، كالإنسان في أفعاله الاختياريّة ، وكالواجب عند جمهور المتكلّمين (٥).

__________________

(١) وكالنار بالنسبة إلى الإحراق.

(٢) أي : تفعل النفس أفعالها ، كالجذب والإمساك والهضم وغيرها على مجرى الطبيعيّ.

(٣) كالحرارة الحمائيّة والمرض والسمن المفرط والهزال بالنسبة إلى النفس.

(٤) نسب إليهم في شرح المنظومة : ١٢١ ، وشوارق الإلهام : ٥٥٢ ، والأسفار ٢ : ٢٢٤ ، والشواهد الربوبيّة : ٥٥.

(٥) نسب إليهم في الأسفار ٢ : ٢٢٤ ، والشواهد الربوبيّة : ٥٥ ، وشرح المنظومة : ١٢١. وقال المحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام : ٥٥٢ : «فاعلم أنّ الأشبه أنّ مراد محقّقي المعتزلة من كون الإرادة عين الداعي الّذي هو العلم بالأصلح إنّما هو الّذي ذهب إليه الفلاسفة على ما ذكرنا ، فيكون الواجب تعالى عندهم أيضا فاعلا بالعناية».

٣٩

السادس : الفاعل بالعناية ، وهو الّذي له علم سابق على الفعل ، زائد على ذاته ، نفس الصورة العلميّة منشأ لصدور الفعل من غير داع زائد ، كالإنسان الواقع على جذع عال ، فإنّه بمجرّد توهّم السقوط يسقط على الأرض ، وكالواجب تعالى في إيجاده الأشياء عند المشّائين (١).

السابع : الفاعل بالتجلّي ، وهو الّذي يفعل الفعل ، وله علم تفصيليّ به هو عين علمه الإجماليّ بذاته ، كالنفس الإنسانيّة المجرّدة ، فإنّها لمّا كانت صورة أخيرة لنوعها كانت على بساطتها مبدأ لجميع كمالاتها الثانية الّتي هي لعلّيّتها واجدة لها في ذاتها ، وعلمها الحضوريّ بذاتها علم بتفاصيل كمالاتها وإن لم يتميّز بعضها من بعض ، وكالواجب تعالى بناء على ما سيأتي إن شاء الله (٢) أنّ له تعالى علما إجماليّا بالأشياء في عين الكشف التفصيليّ (٣).

الثامن : الفاعل بالتسخير ، وهو الفاعل الّذي هو وفعله لفاعل ، فهو فاعل مسخّر في فعله ، كالقوى الطبيعيّة والنباتيّة والحيوانيّة المسخّرة في أفعالها للنفس

__________________

(١) راجع التعليقات للشيخ الرئيس : ١٨ ـ ١٩ ، وشرح الإشارات ٣ : ١٥١. ونسب إليهم في الأسفار ٢ : ٢٢٤ ، وشرح المنظومة : ١٢٠ ، وشوارق الإلهام : ٥٥٠.

(٢) راجع الفصل الحادي عشر من المرحلة الثانية عشرة.

(٣) والمراد من علمه الإجماليّ هو قسيم العلم بالقوّة والعلم التفصيلي ، وهو علم بسيط فيه كلّ التفاصيل. قال المحقّق الآمليّ : «إنّه إجماليّ في عين الكشف التفصيليّ. وإنّما ينشأ ذلك من كون الفاعل بسيط الحقيقة وأنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء. فكما أنّ وجوده تعالى وتقدّس مع وحدته كلّ الوجودات بحيث لا يشذّ عن سعة وجوده وجود فكذلك من علمه بذاته ـ الّذي يكون عين ذاته ، لا أمرا زائدا على ذاته ـ يعلم كلّ الأشياء حيث لا يكون شيء خارجا عنه.

وإذا كان كلّ الأشياء حاضرا لدى ذاته فكلّ الأشياء معلوم لذاته بنفس علمه بذاته الّذي هو عين ذاته لا بعلم آخر. وهذا معنى كون علمه السابق على الفعل إجماليّا في عين الكشف التفصيليّ. أمّا أنّه إجماليّ فبمعنى أنّه علم واحد متعلّق بذاته الّذي هو عين ذاته. وأمّا أنّه تفصيليّ فلأنّه علم بجميع ما عداه الّذي لا يشذّ عن حيطة ذاته وسعة وجوده». راجع درر الفوائد ١ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

٤٠