نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

الفصل الثامن عشر

في الخير والشرّ

ودخول الشرّ في القضاء الإلهيّ

الخير ما يطلبه ويقصده ويحبّه كلّ شيء ويتوجّه إليه كلّ شيء بطبعه ، وإذا تردّد الأمر بين أشياء فالمختار خيرها ، فلا يكون إلّا كمالا وجوديّا يتوقّف عليه وجود الشيء كالعلّة بالنسبة إلى معلولها ، أو كمالا أوّلا هو وجود الشيء بنفسه ، أو كمالا ثانيا يستكمل الشيء به ويزول به عنه نقص. والشرّ يقابله ، فهو عدم ذات أو عدم كمال ذات.

والدليل على أنّ الشرّ عدم ذات أو عدم كمال ذات أنّ الشرّ لو كان أمرا وجوديّا لكان إمّا شرّا لنفسه أو شرّا لغيره. والأوّل محال ، إذ لو اقتضى الشيء عدم نفسه لم يوجد من رأس ، والشيء لا يقتضي عدم نفسه ولا عدم شيء من كمالاته الثانية ، لما بينه وبينها من الرابطة الوجوديّة ، والعناية الإلهيّة أيضا توجب إيصال كلّ شيء إلى كماله. والثاني أيضا محال ، لأنّ كون الشرّ ـ والمفروض أنّه وجوديّ ـ شرّا لغيره ، إمّا بكونه معدما لذات ذلك الغير ، أو معدما لشيء من كمالاته ، أو بعدم إعدامه لا لذاته ولا لشيء من كمالاته ؛ والأوّل والثاني غير جائزين ، فإنّ الشرّ حينئذ يكون هو عدم ذلك الشيء أو عدم شيء من كمالاته دون الشيء المعدم

٢٨١

المفروض ، وهذا خلف ؛ والثالث أيضا غير جائز ، فإنّه إذا لم يعدم شيئا ـ لا ذاتا ولا كمال ذات ـ فليس يجوز عدّه شرّا ، فالعلم الضروريّ حاصل بأنّ ما لا يوجب عدم شيء ولا عدم كماله فإنّه لا يكون شرّا له لعدم استضراره به ، فالشرّ كيفما فرض ليس بوجوديّ ، وهو المطلوب (١).

ويصدّق ذلك التأمّل الوافي في موارد الشرّ من الحوادث ، فإنّ الإمعان في أطرافها يهدي إلى أنّ الشرّ الواقع (٢) عدم ذات أو عدم كمال ذات ، كما إذا قتل رجل رجلا بالسيف صبرا ، فالضرب المؤثّر الّذي تصدّاه القاتل كمال له وليس بشرّ ، وحدّة السيف وكونه قطّاعا كمال له وليس بشرّ ، وانفعال عنق المقتول ولينته كمال لبدنه وليس بشرّ ، وهكذا ، فليس الشرّ إلّا زهاق الروح وبطلان الحياة ، وهو عدميّ.

وتبيّن بما مرّ أنّ ما يعدّ من الوجودات شرّا بسبب الاستضرار به هو شرّ بالعرض (٣) كالقاتل والسيف في المثال المذكور.

__________________

(١) هذا الدليل هو الّذي أقامه قطب الدين الشيرازيّ في شرح حكمة الإشراق : ٥٢٠. وتعرّض له أيضا صدر المتألّهين في الأسفار ٧ : ٥٩.

(٢) لا يخفى أنّ الشرّ لم يقع حقيقة ، فإنّه عدم ذات أو عدم كمال ذات. نعم ، زعمنا أنّه يقع في الخارج.

(٣) وقد يقال : «إنّ الشرّ مجعول بالعرض» أو يقال : «إنّ الشرّ مقضيّ بالعرض» أو يقال : «إنّ الشرّ مقدّر بالعرض». وفي معنى عرضيّة الشرّ وجوه :

الأوّل : أنّ الشرّ عدم ، فلا جعل له بالذات ، فإنّ العدم لا يحاذيه شيء حتّى يستدعي جعلا بالذات.

الثاني : أنّ الموجودات كلّها مجعولة بالذات ، أي : الجاعل جعلها بما هي خير ولأجل الانتفاع بها ، لكن لازم وجودها بما هي خير الاستضرار أحيانا ، فاللازم مستند إلى نفس الملزوم بالذات وإلى جاعل الملزوم بالعرض.

الثالث : أنّ الشرّ أمر إضافيّ ، وإلّا فلا حقيقة له. وهذا أقرب الوجوه. وذهب إليه السيّد المحقّق الداماد في القبسات : ٤٣٢ ـ ٤٣٥ ، فقال : «فإذن قد استتبّ أنّ الشرّ في ماهيّته عدم وجود أو عدم كمال مّا لموجود من حيث إنّ ذلك العدم غير لائق به في نفس الأمر أو ـ

٢٨٢

فإن قلت (١) : إنّ الألم من الإدراك غير تفرّق الاتّصال الحاصل بالقطع (٢) مثلا ، وهو أمر وجوديّ بالوجدان. وينتقض به قولهم : «إنّ الشر بالذات عدميّ». اللهمّ إلّا أن يراد به أنّ منشأ الشرّيّة عدميّ وإن كان بعض الشرّ وجوديّا.

قلت : أجاب عنه صدر المتألّهين (٣) قدس‌سره بأنّ الألم إدراك المنافي العدميّ ـ كتفرّق الاتّصال ونحوه ـ بالعلم الحضوريّ الّذي يحضر فيه المعلوم بوجوده الخارجيّ عند العالم ، لا بالعلم الحصوليّ الّذي يحضر فيه المعلوم عند العالم بصورة مأخوذة منه لا بوجوده الخارجيّ ، فليس عند الألم أمران : تفرّق الاتّصال ـ مثلا ـ والصورة الحاصلة منه. بل حضور ذلك الأمر المنافي هو الألم بعينه ، فهو وإن كان نحوا من الإدراك لكنّه من أفراد العدم ، وهو وإن كان نحوا من العدم لكن له ثبوت على حدّ ثبوت أعدام الملكات ، كالعمى والنقص وغير ذلك (٤).

__________________

ـ غير مؤثّر عنده ، وأنّ الموجودات ليست من حيث هي موجودات ولا من حيث هي أجزاء نظام الوجود بشرور أصلا. إنّما يصحّ أن يدخل في الشرّيّة بالعرض إذا قيست إلى خصوصيّات الأشياء العادمة لكمالاتها من حيث هي مؤديّة إلى تلك الأعدام. فإذا إنّما شرور العالم امور إضافيّة مقيسة إلى آحاد أشخاص معيّنة بحسب لحاظ خصوصيّاتها مفصولة عن النظام الوحدانيّ المتّسق المتلأم من الأشياء جميعها. وأمّا في حدّ أنفسها وبالقياس إلى الكلّ فلا شرّ أصلا. فلو أنّ أحدا أحاط بجملة نظام الوجود ولاحظ جميع الأسباب المتأدّية إلى المسبّبات على الترتيب النازل من مبدأ الكلّ طولا وعرضا رأى كلّ شيء على الوجه الّذي ينبغي للوجود والكمال الّذي يبتغيه النظام ، فلم ير في الوجود شرّا على الحقيقة بوجه من الوجوه أصلا».

(١) هذا الإشكال هو الّذي ذكره المحقّق الدوانيّ في حاشية شرح التجريد القوشجيّ : ١٤. وتعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ١٢٦ ، و ٧ : ٦٢ ـ ٦٣.

(٢) أي : قطع العضو.

(٣) راجع الأسفار ٧ : ٦٣ ـ ٦٨.

(٤) ولا يخفى أنّ المصنّف رحمه‌الله أورد على هذا الجواب ـ في تعليقته على الأسفار ٧ : ٦٣ ـ ثمّ أجاب عن الإشكال بوجه آخر ، فقال : «الظاهر أنّ الجواب لا يفي بدفع الإشكال :

أمّا أوّلا : فلأنّ الإشكال بما هو أعمّ من إدراك الحسّ ، وانّما ذكر قطع العضو من باب المثال. وما ذكر من دعوى العلم الحضوريّ لا يطّرد في مثل الألم الحاصل من إدراك موت الاحبّاء ـ مثلا ـ وغيره من العلوم التصديقيّة الخياليّة. ـ

٢٨٣

والحاصل : أنّ النفس ـ لكونها صورة الإنسان الأخيرة (١) الّتي بحذاء الفصل الأخير ـ جامعة لجميع كمالات النوع ، واجدة لعامّة القوى البدنيّة وغيرها. فتفرّق الاتّصال ـ الّذي هو آفة واردة على الحاسّة تدرك النفس عنده (٢) فقدها (٣) ـ كمال تلك القوّة الّتي وردت عليها الآفة في مرتبة النفس الجامعة ، لا في مرتبة البدن المادّيّة.

ثمّ إنّ الشرّ ـ لمّا كان هو عدم ذات أو عدم كمال ذات ـ كان من الواجب أن تكون الذات الّتي يصيبها العدم (٤) قابلة له (٥) ، كالجواهر المادّيّة الّتي تقبل العدم بزوال صورتها الّتي هي تمام فعليّتها النوعيّة ، وأن تكون الذات الّتي ينعدم كمالها بأصابة الشرّ قابلة لفقد الكمال ، أي أن يكون العدم عدما طاريا لها لا لازما لذاتها ، كالأعدام والنقائص اللازمة للماهيّات الإمكانيّة ، فإنّ هذا النوع من الأعدام منتزع من مرتبة الوجود وحدّه.

وبهذا تبيّن أنّ عالم التجرّد التامّ لا شرّ فيه ، إذ لا سبيل للعدم إلى ذواتها الثابتة

__________________

ـ وأمّا ثانيا : فلأنّ القول بكون الإدراك الحسّيّ علما حضوريّا غير مستقيم ، مع كثرة الأغلاط الحاصلة في الحسّ إذا قيس المحسوس إلى الخارج. وأمّا رجوع كلّ علم إلى الحضوريّ بوجه فليس ينفع في دفع دفع الإشكال ، فإنّه اعتبار للعلم في حدّ نفسه لا بالقياس إلى الخارج.

ويمكن دفع أصل الإشكال بأنّ الصورة العلميّة الّتي يتألّم بها من حيث إنّ الإنسان مثلا مستكمل بها ، ليست بشرّ ولا ألم ، وهو امر وجوديّ ، ومن حيث أنّها عين ما في الخارج ـ مثلا ـ من قطع العضو وزوال الاتّصال أمر عدميّ. والشرّ والألم هناك ، وكذا في غيره من الأمثلة».

وناقش في الجواب أيضا الحكيم السبزواريّ ثمّ أجاب عن الإشكال بوجه آخر ، حاصله : أنّ الألم أمر وجوديّ وليس شرّا بالذات ، وإنّما شرّيّته من جهة عدم ملاءمته للنفس ، ومجرّد عدم الملاءمة للنفس الناشىء من ضعف النفس لا يخرجه عن الخيريّة والوجود. راجع تعليقته على الأسفار ٧ : ٦٤ ـ ٦٥.

(١) قوله : «الأخيرة» صفة للصورة. أي : لكونها صورة أخيرة للإنسان.

(٢) أي : عند الاتّصال.

(٣) أي : الآفة الواردة.

(٤) وفي النسخ : «يصيبه العدم» والصحيح ما أثبتناه.

(٥) أي : للعدم.

٢٨٤

بإثبات مبدئها ، ولا سبيل لعرض الأعدام (١) المنافية لكمالاتها الّتي تقتضيها وهي موجودة لها في بدء وجودها.

فمجال الشرّ ومداره هو عالم المادّة الّتي تتنازع فيه الأضداد وتتمانع فيه مختلف الأسباب وتجري فيه الحركات الجوهريّة والعرضيّة الّتي يلازمها التغيّر من ذات إلى ذات ومن كمال إلى كمال.

والشرور من لوازم وجود المادّة القابلة للصور المختلفة والكمالات المتنوّعة المتخالفة ، غير أنّها ـ كيفما كانت ـ مغلوبة للخيرات ، حقيرة في جنبها إذا قيست إليها.

وذلك أنّ الأشياء ـ كما نقل عن المعلّم الأوّل (٢) ـ من حيث الخيرات والشرور المنتسبة إليها على خمسة أقسام : إمّا خير محض ، وإمّا شرّ محض ، وإمّا خيرها غالب ، وإمّا شرّها غالب ، وإمّا متساوية الخير والشرّ.

والموجود من الأقسام الخمسة قسمان ، هما : الأوّل الّذي هو خير محض ، وهو الواجب تعالى الّذي يجب وجوده وله كلّ كمال وجوديّ وهو كلّ الكمال ، ويلحق به المجرّدات التامّة. والثالث الّذي خيره غالب ، فإنّ العناية الإلهيّة توجب وجوده ، لأنّ في ترك الخير الكثير شرّا كثيرا.

وأمّا الأقسام الثلاثة الباقية ، فالشرّ المحض هو العدم المحض الّذي هو بطلان صرف لا سبيل إلى وجوده. وما شرّه غالب وما خيره وشرّه متساويان تأباهما العناية الإلهيّة الّتي نظمت نظام الوجود على أحسن ما يمكن وأتقنه.

وأنت إذا تأمّلت أيّ جزء من أجزاء الكون وجدته أنّه لو لم يقع على ما وقع عليه بطل بذلك النظام الكونيّ المرتبط بعض أطرافه ببعض من أصله ، وكفى بذلك شرّا غالبا في تركه خير غالب.

__________________

(١) وفي النسخ : «العروض» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) نقله عنه صدر المتألّهين في تعليقاته على شرح حكمة الإشراقّ : ٥٢١.

٢٨٥

وإذ تبيّن أنّ الشرور القليلة الّتي تلحق الأشياء من لوازم الخيرات الكثيرة الّتي لها فالقصد والإرادة تتعلّق بالخيرات بالأصالة وبالشرور اللازمة لها بالتبع وبالقصد الثاني.

ومن هنا يظهر أنّ الشرور داخلة في القضاء الإلهيّ بالقصد الثاني. وإن شئت قلت : «بالعرض» نظرا إلى أنّ الشرور أعدام ، لا يتعلّق بها قصد بالذات (١).

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ٣ : ٣٢٠ ـ ٣٢١ ، والمباحث المشرقيّة ٢ : ٥١٩ ـ ٥٢٢ ، والأسفار ٧ :

٧٢ ـ ٧٧ ، والنجاة : ٢٨٤ ـ ٢٩٠.

٢٨٦

الفصل التاسع عشر

في ترتيب أفعاله وهو نظام الخلقة

قد اتّضح بالأبحاث السابقة أنّ للوجود الإمكانيّ ـ وهو فعله تعالى ـ انقسامات. منها : انقسامه إلى مادّيّ ومجرّد ، وانقسام المجرّد إلى مجرّد عقليّ ومجرّد مثاليّ.

وأشرنا هناك (١) إلى أنّ عوالم الوجود الكلّيّة ثلاثة : عالم التجرّد التامّ العقليّ ، وعالم المثال ، وعالم المادّة والمادّيّات.

فالعالم العقليّ مجرّد تامّ ذاتا وفعلا عن المادّة وآثارها.

وعالم المثال مجرّد عن المادّة دون آثارها من الأشكال والأبعاد والأوضاع وغيرها. ففي هذا العالم (٢) أشباح متمثّلة في صفة الأجسام الّتي في عالم المادّة والطبيعة في نظام شبيه بنظامها الّذي في عالم المادّة. وإنّما الفرق بينه وبين النظام المادّيّ أنّ تعقّب بعض المثاليّات لبعض بالترتّب الوجوديّ ، لا بتغيّر صورة أو حال إلى صورة أو حال اخرى بالخروج من القوّة إلى الفعل بالحركة ، كما هو الحال في عالم المادّة. فحال الصور المثاليّة فيما ذكرناه من ترتّب بعضها على بعض حال صورة الحركة والتغيّر في الخيال ، والعلم مجرّد مطلقا ، فالمتخيّل من الحركة علم

__________________

(١) راجع الفصل السابع عشر من هذه المرحلة ، والفصل الثالث من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) أي : في عالم المثال.

٢٨٧

بالحركة لا حركة في العلم ، وعلم بالتغيّر لا تغيّر في العلم.

وعالم المادّة لا يخلو ما فيه (١) من الموجودات من تعلّق ما بالمادّة ، وتستوعبه الحركة والتغيّر ، جوهريّة كانت أو عرضيّة.

وإذ كان الوجود بحقيقته الأصيلة حقيقة مشكّكة ذات مراتب مختلفة في الشدّة والضعف والشرف والخسّة ، تتقوّم كلّ مرتبة منها بما فوقها ، وتتوقّف عليه (٢) بهويّتها ، يستنتج من ذلك :

أوّلا : أنّ العوالم الثلاثة مترتّبة وجودا بالسبق واللحوق ، فعالم العقل قبل عالم المثال ، وعالم المثال قبل عالم المادّة وجودا ، وذلك لأنّ الفعليّة المحضة ـ الّتي لا تشوبها قوّه ولا يخالطها استعداد ـ أقوى وأشدّ وجودا ممّا هو بالقوّة محضا ، كالهيولى الاولى ، أو تشوبه القوّة ويخالطه الاستعداد ، كالطبائع المادّيّة ، فعالما العقل والمثال يسبقان عالم المادّة.

ثمّ العقل المفارق أقلّ حدودا وأوسع وجودا وأبسط ذاتا من المثال الّذي تصاحبه آثار المادّة وإن خلا عن المادّة. ومن المعلوم أنّ الوجود كلّما كان أقلّ حدودا وأوسع وأبسط كانت مرتبته من حقيقة الوجود المشكّكة أقدم وأسبق وجودا من عالم المثال.

وثانيا : أنّ الترتيب المذكور بين العوالم الثلاثة ترتيب علّيّ ، لمكان السبق والتوقّف الّذي بينها ، فعالم العقل علّة لعالم المثال ، وعالم المثال علّة مفيضة لعالم المادّة.

وثالثا : أنّ العوالم الثلاثة متطابقة متوافقة نظاما بما يليق بكلّ منها وجودا.

وذلك لما تقدّم (٣) أنّ كلّ علّة مشتملة على كمال معلولها بنحو أعلى وأشرف. ففي

__________________

(١) وفي النسخ : «ما فيها» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) وفي النسخ : «عليها» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) في الفصل السادس والفصل التاسع من هذه المرحلة.

٢٨٨

عالم المثال نظام مثاليّ يضاهي نظام عالم المادّة وهو أشرف منه ، وفي عالم العقل ما يطابق نظام المثال لكنّه موجود بنحو أبسط وأشرف وأجمل منه ويطابقه النظام الربّانيّ الّذي في العلم الربوبيّ.

ورابعا : أنّه ما من موجود ممكن مادّيّ أو مجرّد علويّ أو سفليّ إلّا هو آية للواجب تعالى من جميع الوجوه ، يحكي بما عنده من الكمال الوجوديّ كمال الواجب تعالى.

٢٨٩

الفصل العشرون

في العالم العقليّ ونظامه

وكيفيّة حصول الكثرة فيه

قد تحقّق في مباحث العلّة والمعلول أنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد (١). ولمّا كان الواجب تعالى واحدا بسيطا من كلّ وجه ـ لا تتسرّب إليه جهة كثرة ، لا عقليّة ولا خارجيّة ـ واجدا لكلّ كمال وجوديّ وجدانا تفصيليّا في عين الإجمال ، لا يفيض إلّا وجودا واحدا بسيطا ، له كلّ كمال وجوديّ ، لمكان المسانخة بين العلّة والمعلول ، له (٢) الفعليّة التامّة من كلّ جهة والتنزّه عن القوّة والاستعداد.

غير أنّه وجود ظلّيّ للوجود الواجبيّ ، فقير إليه ، متقوّم به ، غير مستقلّ دونه ، فيلزمه النقص الذاتيّ والمحدوديّة الإمكانيّة الّتي تتعيّن بها مرتبته في الوجود ، ويلزمه الماهيّة الإمكانيّة (٣). والموجود ـ الّذي هذه صفته (٤) ـ عقل مجرّد ذاتا

__________________

(١) راجع الفصل الرابع من المرحلة الثامنة.

(٢) أي : للوجود المفاض الواحد البسيط.

(٣) قوله : «ويلزمه الماهيّة الإمكانيّة» مستدرك ، فإنّ المحدوديّة الإمكانيّة ليست إلّا الماهيّة الإمكانيّة. ثمّ إنّ «الإمكانيّة» قيد توضيحيّ ، فإنّ الماهيّة تساوق الإمكان.

(٤) وفي النسخ : «الّذي هذه صفتها» والصحيح ما أثبتناه.

٢٩٠

وفعلا متأخّر الوجود عن الواجب تعالى من غير واسطة ، متقدّم في مرتبة الوجود على سائر المراتب الوجوديّة.

ثمّ إنّ الماهيّة لا تتكثّر أفرادها إلّا بمقارنة المادّة. والوجه فيه أنّ الكثرة إمّا أن تكون عين الماهيّة أو جزئها أو خارجة منها لازمة لها أو خارجة منها مفارقة لها ، وعلى التقادير الثلاثة الاول لا يوجد للماهيّة فرد ، إذ كلّما وجد فرد لها كان من الواجب أن يكون كثيرا ، وكلّ كثير مؤلّف من آحاد ، والواحد منها وجب أن يكون كثيرا ، لكونه مصداقا للماهيّة ، وهذا الكثير أيضا مؤلّف من آحاد ، وهلمّ جرا ، فيتسلسل ولا ينتهي إلى واحد ، فلا يتحقّق كثير ، فلا يوجد للماهيّة فرد. فمن الواجب أن تكون الكثرة الأفراديّة أمرا خارجا من الماهيّة مفارقا لها ، ولحوق المفارق يحتاج إلى مادّة ، فكلّ ماهيّة كثير الأفراد فهي مادّيّة ، وينعكس عكس النقيض إلى أنّ كلّ ماهيّة غير مادّيّة ـ وهي المجرّدة وجودا ـ لا تتكثّر تكثّرا أفراديّا ـ أي أنّ كلّ مجرّد فنوعه منحصر في فرد ـ وهو المطلوب. نعم ، يمكن الكثرة الأفراديّة في العقل المجرّد فيما لو استكملت أفراد من نوع مادّيّ ، كالإنسان بالسلوك الذاتيّ والحركة الجوهريّة من نشأة المادّة والإمكان إلى نشأة التجرّد والفعليّة الصرفة ، فيستصحب التميّز الفرديّ الّذي كان لها عند كونها في أوّل وجودها في نشأة المادّة والقوّة.

فتبيّن أنّ الصادر الأوّل الّذي يصدر من الواجب تعالى عقل واحد هو أشرف موجود ممكن ، وأنّه نوع منحصر في فرد. وإذ كان أشرف وأقدم في الوجود فهو علّة لما دونه وواسطة في الإيجاد. وأنّ فيه أكثر من جهة واحدة ، تصحّح صدور الكثير منه (١) ، لكنّ الجهات الكثيرة الّتي فيه لا تبلغ حدّا يصحّ به صدور ما

دون النشأة العقليّة بما فيه من الكثرة البالغة ، فمن الواجب أن يترتّب صدور العقول نزولا إلى حدّ يحصل فيه من الجهات عدد يكافئ الكثرة الّتي في النشأة الّتي بعد العقل.

__________________

(١) وفي النسخ : «تصحّ صدور الكثير عنه» والصحيح ما أثبتناه.

٢٩١

وتتصوّر هذه الكثرة على أحد وجهين : إمّا طولا وإمّا عرضا.

فالأوّل ـ وهو حصول الكثرة طولا ـ : أن يوجد عقل ثمّ عقل وهكذا. وكلّما وجد عقل زادت جهة أو جهات ، حتّى ينتهي إلى عقل تتحقّق به جهات من الكثرة تفي بصدور النشأة الّتي بعد نشأة العقل ، فهناك أنواع متباينة من العقول ، كلّ منها منحصر في فرد ، وهي مترتّبة نزولا ، كلّ عال أشدّ وأشرف ممّا هو بعده وعلّة فاعلة تامّ الفاعليّة له ، لما أنّ إمكانه الذاتيّ كاف في صدوره ، وآخر هذه العقول علّة فاعلة للنشأة الّتي بعد نشأة العقل. وهذا الوجه هو الّذي يميل إليه المشّاؤون (١) فيما صوّروه من العقول العشرة ونسبوا إلى آخرها المسمّى عندهم ب «العقل الفعّال» إيجاد عالم الطبيعة.

والثاني ـ وهو حصول الكثرة عرضا ـ : بأن تنتهي العقول الطوليّة إلى عقول عرضيّة ، لا علّيّة ولا معلوليّة بينها ، هي بحذاء الأنواع المادّيّة ، يدبرّ كلّ منها ما بحذائه من النوع المادّيّ ، وبها توجد الأنواع الّتي في عالم الطبيعة وينتظم نظامه ، وتسمّى هذه العقول : «أرباب الأنواع» و «المثل الأفلاطونيّة» (٢).

وهذا الوجه هو الّذي يميل إليه الإشراقيّون ، وذهب إليه شيخ الإشراق (٣) ، واختاره صدر المتألّهين قدس‌سره (٤). واستدلّ عليه بوجوه :

__________________

(١) راجع الفصل الرابع والفصل الخامس من المقالة التاسعة من إلهيّات الشفاء ، والنجاة : ٢٧٣ ـ ٢٧٨ ؛ والمبدأ والمعاد للشيخ الرئيس : ٧٥ ـ ٨٢ ، ورسائل ابن سينا : ٨٩.

(٢) قال صدر المتألّهين : «قد نسب إلى أفلاطون الإلهيّ أنّه قال في كثير من أقاويله موافقا لاستاذه سقراط : إنّ للموجودات صورا مجرّدة في عالم الإله ، وربّما يسمّيها المثل الإلهيّة ، وإنّها لا تدثر ولا تفسد ولكنها باقية ، وإنّ الّذي يدثر ويفسد إنّما هي الموجودات الّتي هي كائنة». راجع الأسفار ٢ : ٤٦.

(٣) راجع حكمة الإشراق : ١٤ ـ ١٤٤ ، وشرح حكمة الإشراق : ٣٤٢ ـ ٣٥٦ و ٢٥١ ـ ٢٥٤ ، والمطارحات : ٤٥٥ ـ ٤٥٩.

(٤) راجع الأسفار ٢ : ٤٦ ـ ٨١ ، وج ٧ : ١٦٩ ـ ١٧١ و ٢٥٨ ـ ٢٨١.

٢٩٢

أحدها (١) : أنّ القوى النباتيّة ـ من الغاذية والنامية والمولّدة ـ أعراض حالّة في جسم هو موضوعها (٢) متغيّرة بتغيّره ، متحلّلة بتحلّله ، فاقدة للعلم والإدراك ، فمن المحال أن تكون هي المبادئ الموجدة لهذه التراكيب العجيبة الّتي لموضوعاتها والأفعال المختلفة والأشكال والتخاطيط الحسنة الجميلة الّتي فيها مع ما فيها من النظام الدقيق المتقن المحيّر للعقول ، فليس إلّا أنّ هناك جوهرا عقليّا مجرّدا يعتني بها ويدبّر أمرها ويهديها إلى غاياتها في الوجود.

وفيه : أنّ هذا الدليل لو تمّ دلّ على أنّ هذه الأعمال العجيبة والنظام الجاري فيها تنتهي إلى جوهر عقليّ ذي علم. وأمّا قيامها (٣) بجوهر عقليّ مباشر لا واسطة بينه وبين الجسم النباتيّ فلا ؛ فمن الجائز أن ينسب ما نسبوه إلى هذا الجوهر العقليّ إلى الصورة الجوهريّة الّتي بها تتحقّق نوعيّة النوع ، وفوقها العقل الفعّال الّذي هو آخر سلسلة العقول الطوليّة.

الثاني (٤) : أنّ الأنواع الطبيعيّة المادّيّة ـ بما لها من النظام الجاري فيها دائما ـ ليست موجودة عن اتّفاق ، فالأمر الاتفاقيّ لا يكون دائميّا ولا أكثريّا ، فلهذه الأنواع علل حقيقيّة ، وليست هي الّتي يزعمونها من الأمزجة ونحوها ، إذ لا دليل يدلّ على ذلك ، بل العلّة الحقيقيّة الّتي يستند إليها كلّ منها جوهر عقليّ مجرّد ومثال كلّيّ يعتني بها ويوجدها ويدبّر أمرها (٥). والمراد بكلّيّته استواء نسبته إلى جميع الأفراد المادّيّة الّتي تسوقها من القوّة إلى الفعل ، لا جواز صدقه على كثيرين.

__________________

(١) هذا الدليل هو الّذي أقامه الشيخ الإشراقيّ في المطارحات ص ٤٥٥ ـ ٤٥٩. وتعرّض له أيضا صدر المتألّهين في الأسفار ج ٢ ص ٥٣ ـ ٥٥.

(٢) وفي النسخ : «جسم موضوعها» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) وفي النسخ : «قيامه» والصحيح ما أثبتناه.

(٤) هذا الدليل أيضا أقامه الشيخ الإشراقيّ في حكمة الإشراق : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، وراجع شرح حكمة الإشراق : ٣٤٩ ـ ٣٥١.

(٥) وفي النسخ : «يعتني به ويوجده ويدبّر أمره» والصحيح ما أثبتناه ، فإنّ الضمير يعود إلى «الأنواع الطبيعيّة». اللهمّ إلّا أن يقال برجوع الضمائر إلى «كلّ منها».

٢٩٣

وفيه : أنّ أفعال كلّ نوع وآثاره مستندة إلى صورته النوعيّة ، ولو لا ذلك لم يتميّز نوع جوهريّ من نوع آخر مثله. والدليل على الصورة النوعيّة الآثار المختصّة بكلّ نوع الّتي تحتاج إلى ما تقوم به وتستند إليه ، فتكون مبدأ قريبا لها.

الثالث (١) : أنّ ذلك ممّا تقتضيه قاعدة إمكان الأشرف ، وهي قاعدة مبرهن عليها ، فإذا وجد ممكن هو أخسّ وجودا من ممكن آخر وجب أن يكون الممكن الّذي هو أشرف منه موجودا قبله ، ولا ريب أنّ الإنسان الّذي هو بالفعل في جميع الكمالات الإنسانيّة مثلا أشرف وجودا من الإنسان المادّيّ الّذي هو بالقوّة بالنسبة إلى أكثر الكمالات الإنسانيّة ، فوجود الإنسان المادّيّ دليل على وجود مثاله العقليّ قبله. وكذلك الأفراد المادّيّة لكلّ نوع مادّيّ وجودها دليل على وجود ربّ نوعها قبلها ، وهو فرد من النوع مجرّد في أوّل وجوده ، له فعليّة في جميع كمالات النوع ، مخرج لسائر الأفراد من القوّة إلى الفعل ، مدبّر لها.

وفيه : أنّ جريان قاعدة إمكان الأشرف مشروط بكون الأخسّ والأشرف داخلين تحت ماهيّة نوعيّة واحدة حتّى يدلّ وجود الأخسّ في الخارج على إمكان الأشرف بحسب ماهيّته ، ومجرّد صدق مفهوم على شيء لا يدلّ على كون ذلك الشيء فردا لذلك المفهوم حقيقة ، كما أنّ كلّ علّة موجدة واجدة لجميع كمالات المعلول الّتي بها ذلك المعلول هو هو ، ولا يجب مع ذلك أن تكون علّة كلّ شيء متّحدة الماهيّة مع معلولها (٢) فكون الكمال الّذي به الإنسان إنسان ـ مثلا ـ موجودا لشيء ، وانطباقه عليه ، لا يكشف عن كونه فردا لماهيّة الإنسان لمجرّد كونه واجدا لذلك. وبعبارة اخرى : صدق مفهوم الإنسان على الإنسان الكلّيّ الّذي نعقله لا يدلّ على كون معقولنا فردا للماهيّة النوعيّة الإنسانيّة ، لم لا يجوز أن

__________________

(١) هذا الدليل أيضا أقامه الشيخ الإشراقيّ في حكمة الإشراق : ١٤٣ ، وراجع شرح حكمة الإشراق : ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

(٢) أو كما أنّ العقول العالية تشتمل على كمالات الأنواع المادّيّة ، مع أنّها تغايرها ماهيّة ، أو كما أنّ الواجب تعالى يتحقّق فيه كمال الجميع بنحو أعلى وأتمّ ولا ماهيّة له.

٢٩٤

يكون [معقولنا] (١) واحدا من العقول الطوليّة الّتي هي في سلسلة علل الإنسان القريبة أو البعيدة لوجدانه كمال الإنسان وغيره من الأنواع؟ والحمل على هذا حمل الحقيقة والرقيقة (٢) دون الشائع.

وأمّا لو لم يشترط في جريان القاعدة كون الأخسّ والأشرف داخلين تحت ماهيّة واحدة نوعيّة فالإشكال أوقع.

تنبيه :

قاعدة إمكان الأشرف ـ ومفادها أنّ الممكن الأشرف يجب أن يكون أقدم في مراتب الوجود من الممكن الأخسّ ، فلا بدّ أن يكون الممكن الّذي هو أشرف منه قد وجد قبله (٣) ـ قد اعتنى بأمرها جمع من الحكماء وبنوا عليها عدّة من المسائل (٤).

__________________

(١) وما بين المعقوفين ليس في النسخ ، والأصحّ إثباته.

(٢) وهو في الواقع حمل بعض مراتب الوجود المشكّك بالتشكيك الخاصّيّ على بعض مراتب اخرى منه ، حيث كانت المرتبة العالية منها مقوّمة للمرتبة الدانية ، والدانية متقوّمة بها ، وكانت العالية واجدة لكمال الدانية ، والدانية فاقدة لكمال العالية.

(٣) كذا قال في الأسفار ٧ : ٢٤٤.

(٤) قال صدر المتألّهين ـ بعد التعرّض لمفادها ـ : «وهذا أصل شريف برهانيّ ، عظيم جدواه ، كريم مؤدّاه ، كثير فوائده ، متوفّر منافعه ، جليل خيراته وبركاته. وقد نفعنا الله سبحانه به نفعا كثيرا بحمد الله وحسن توفيقه. وقد استعمله معلّم المشّائين ومفيدهم صناعة الفلسفة في «آثولوجيا» كثيرا وفي كتاب «السماء والعالم» حيث قال ـ كما هو المنقول عنه ـ : يجب أن يعتقد في العلويّات ما هو أكرم. وكذا الشيخ الرئيس في الشفاء والتعليقات ، وعليه بنى في سائر كتبه ورسائله ترتيب نظام الوجود وبيان سلسلة البدو والعود. وأمعن في تأسيسه الشيخ الإشراقيّ إمعانا شديدا في جميع كتبه ، كالمطارحات والتلويحات ، وكتابه المسمّى بحكمة الإشراق حتّى في مختصراته كالألواح العمادية والهياكل النورية ، والفارسي المسمّى بپرتونامه ، والآخر المسمّى بيزدان شناخت». راجع الأسفار ٧ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥. وراجع آثولوجيا : ٧٣ ـ ٧٥ ، والتعليقات للشيخ الرئيس : ٢١ ، والمطارحات : ٤٣٤ ـ ٤٣٥ ، وحكمة الإشراق : ١٥٤ ، وشرح حكمة الإشراق : ٣٦٧ ـ ٣٨٠ ، والتلويحات : ٣١ ـ ٣٢ ، ـ

٢٩٥

وقد قرّر الاستدلال عليها صدر المتألّهين قدس‌سره (١) بأنّ الممكن الأخسّ إذا وجد عن البارئ جلّ ذكره وجب أن يكون الممكن الأشرف قد وجد قبله ، وإلّا فإن جاز أن يوجد معه (٢) وجب أن يصدر (٣) عن الواجب لذاته في مرتبة واحدة لذات واحدة من جهة واحدة شيئان (٤) وهو محال (٥) وإن جاز أن يوجد بعد الأخسّ وبواسطته (٦) لزم كون المعلول أشرف من علّته وأقدم ، وهو محال وإن لم يجز أن يوجد لا قبل الأخسّ ولا معه ولا بعده مع أنّه ممكن بالإمكان الوقوعيّ الّذي هو كون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ، فلو فرض وجوده وليس بصادر عن الواجب لذاته ولا عن شيء من معلولاته وهو على إمكانه ، فبالضرورة وجوده يستدعي جهة مقتضية له أشرف ممّا عليه الواجب لذاته ، فيلزم أن يكون الممكن المفروض يستدعي بإمكانه علّة موجدة أعلى وأشرف من الواجب لذاته ، وهو محال ، لأنّ الواجب لذاته فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى شدّة ، فالمطلوب ثابت (٧).

ويمكن الاستدلال بما هو أوضح من ذلك ، فإنّ الشرافة والخسّة المذكورتين

__________________

ـ والألواح العمادية : ١٤٩ ، والهياكل النوريّة : ١٠١ ـ ١٠٤ ، وپرتونامه : ٤٥ ـ ٤٦ ، ويزدان شناخت : ٤١٣ ـ ٤١٨.

وهذه القاعدة حقّقها أيضا السيّد الداماد في القبسات : ٣٧٢ ـ ٣٨٠ ، وصدر المتألّهين في الأسفار ٧ : ٢٤٤ ـ ٤٥٨.

(١) في الأسفار ٧ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٢) أي : مع الممكن الأخسّ.

(٣) كذا في الأسفار ، وهو الصحيح ، بخلاف ما في النسخ : «أن يوجد».

(٤) أحدهما الأخسّ والآخر الأشرف.

(٥) لقاعدة الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد.

(٦) وفي النسخ : «بواسطة» والصحيح ما أثبتناه.

(٧) هذا الدليل أقامه الشيخ الإشراقيّ في حكمة الإشراق : ١٥٤. وقرّره العلّامة الشيرازيّ في شرح حكمة الإشراق : ٣٦٧ ـ ٣٦٨. واعترض عليه المحقّق الدوانيّ في شرح الهياكل النوريّة : ٢١٤. ثمّ تصدّى صدر المتألّهين لدفعه في الأسفار ٧ : ٢٥١ ـ ٢٥٣ ، وحاشية شرح حكمه الإشراق : ٣٦٧.

٢٩٦

وصفان للوجود ، مرجعهما إلى الشدّة والضعف بحسب مرتبة الوجود ، فترجعان إلى العلّيّة والمعلوليّة ، مآلهما إلى كون الشيء مستقلّا موجودا في نفسه وكونه رابطا قائما بغيره موجودا في غيره (١) ، فكلّ مرتبة من مراتب الوجود متقوّمة بما فوقها قائمة به وأخسّ منه ومقوّمة لما دونها مستقلّة بالنسبة إليه وأشرف منه. فلو فرض ممكنان أشرف وأخسّ وجودا كان من الواجب أن يوجد الأشرف قبل الأخسّ قبليّة وجوديّة ، وإلّا كان الأخسّ مستقلّا غير رابط ولا متقوّم بالأشرف ، وقد فرض رابطا متقوّما به ، وهذا خلف.

والمستفاد من الحجّتين أوّلا : أنّ كلّ كمال وجوديّ هو أخسّ من كمال آخر وجوديّ ، فالأشرف منهما موجود قبل الأخسّ ، والأشدّ منهما قبل الأضعف ، كالمرتبتين من الوجود المختلفتين شدّة وضعفا وإن اختلفتا ماهيّة ، نظير العقلين الأوّل والثاني.

وأمّا إذا كان الأخسّ فردا مادّيا لماهيّة فإنّما تفيد القاعدة أنّ الكمال الّذي هو مسانخ له وأشدّ منه موجود قبله ، من غير أن تفيد أنّ ذلك الكمال الأشدّ فرد لماهيّة الأخسّ ، لجواز أن يكون جهة من جهات الكمال الكثيرة في علّة كثيرة الجهات ، كالإنسان ـ مثلا ـ له فرد مادّي ذو كمال أخسّ ، وفوقه كمال إنسانيّ مجرّد من جميع الجهات أشرف منه ، لكن لا يلزم منه أن يكون إنسانا بالحمل الشائع ، لجواز أن يكون جهة من جهات الكمال الّذي في علّته الفاعلة ، فينتج حمل الحقيقة والرقيقة.

نعم ، تجري القاعدة في الغايات العالية المجرّدة الّتي لبعض الأنواع المتعلّقة بالمادّة ، كالإنسان ، لقيام البرهان على ثبوتها لذويها بالحمل الشائع إذا لم تصادف شيئا من الموانع الطبيعيّة.

وثانيا : أنّ القاعدة إنّما تجري فيما وراء المادّيّات وعالم الحركات من المجرّدات الّتي لا يزاحم مقتضياتها مزاحم ولا يمانعها ممانع. وأمّا المادّيّات

__________________

(١) وفي النسخ : «موجدا في غيره» والصحيح ما أثبتناه.

٢٩٧

فمجرّد اقتضاء المقتضي فيها وإمكان الماهيّة لا يكفي في إمكان وقوعها ، بل ربّما يعوقها عائق.

فلا يرد (١) أنّ القاعدة لو كانت حقّة استلزمت بلوغ كلّ فرد مادّيّ ـ كالفرد من الإنسان ـ غاية كماله العقليّ والخياليّ (٢) ، لكونه أشرف (٣) من الوجود الّذي هو بالقوّة ، مع أنّ أكثر الأفراد محرومون عن الكمال الغائيّ ممنوعون عن الوجود النهائيّ.

__________________

(١) هذا الإيراد تعرّض له وللإجابة عليه العلّامة الشيرازيّ في شرح حكمة الإشراق : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

(٢) وفي النسخ : «غاية كمالها العقليّ والخياليّ» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) هذا هو الصحيح بخلاف ما في النسخ من قوله : «لكونها أشرف».

٢٩٨

الفصل الحادي والعشرون

في عالم المثال

ويسمّى أيضا «البرزخ» لتوسّطه بين العالم العقليّ وعالم المادّة والطبيعة. وهو ـ كما ظهر ممّا تقدّم (١) ـ مرتبة من الوجود مجرّدة عن المادّة دون آثارها من الكمّ والكيف والوضع ونحوها من الأعراض ، والعلّة الموجدة له هو آخر العقول الطوليّة المسمّى «عقلا فعّالا» عند المشّائين (٢) و «بعض العقول العرضيّة» عند الإشراقيّين (٣).

وفيه أمثلة الصور الجوهريّة الّتي هي جهات الكثرة في العقل المفيض لهذا العالم المتمثّل بعضها لبعض بهيئات مختلفة ، من غير أن يفسد اختلاف الهيئات الوحدة الشخصيّة الّتي لجوهره. مثال ذلك : أنّ جمعا كثيرا من أفراد الإنسان ـ مثلا ـ يتصوّرون بعض من لم يروه من الماضين ، وإنّما سمعوا اسمه وشيئا من

__________________

(١) راجع الفصل الثالث من المرحلة الحادية عشرة ، والفصل السابع عشر والتاسع عشر من هذه المرحلة.

(٢) راجع إلهيّات الشفاء : الفصل الرابع والخامس من المقالة التاسعة ، والنجاة : ٢٧٣ ـ ٢٧٨ ، والمبدأ والمعاد للشيخ الرئيس : ٧٥ ـ ٨٢.

(٣) راجع حكمة الإشراق : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، والمطارحات : ٤٥٥ ـ ٤٥٩.

٢٩٩

سيرته ، كلّ منهم يمثّله في نفسه بهيئة مناسبة لما يقدّره عليه بما عنده من صفته ، وإن غايرت الهيئة الّتي له عند غيره.

ولهذه النكتة قسّموا المثال إلى خيال منفصل قائم بنفسه مستقلّ عن النفوس الجزئيّة المتخيّلة ، وخيال متّصل قائم بالنفوس الجزئيّة المتخيّلة.

على أنّ في متخيّلات النفوس صورا جزافيّة لا تناسب فعل الحكيم ، وفيها نسبة إلى دعابات المتخيّلة.

٣٠٠